صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة

كمال ابن السيد سالم

صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة أعده أبو مالك كمال بن السيد سالم مع تعليقات فقهية معاصرة فضيلة الشيخ/ ناصر الدين الألباني فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين الجزء الأول

مقدمات

قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: 122] وقال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» [متفق عليه].

مقدمة فضيلة الشيخ/ فؤاد سراج عبد الغفار - حفظه الله-

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة فضيلة الشيخ/ فؤاد سراج عبد الغفار - حفظه الله- الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، ومعلمًا ومرشدًا للخلق أجمعين. وبعد: لقد تصفحت كتاب [صحيح فقه السنة] لأخي الفاضل/ أبى مالك كمال بن السيد، حفظه الله تعالى ورعاه، ورزقه العلم النافع والعمل الصالح، فوجدته جمع فيه من الأدلة الصحيحة ما لا يوجد في غيره من كتب الفقه التي حوت الضعيف والصحيح، فهو كتاب يستحق شد الرحال إليه لكل من أراد التفقه في الدين، وأنصح كل مسلم ومسلمة أن يقتني هذا الكتاب لما فيه من علم جم أخذ من المؤلف جهدًا ذهنيًا وجسديًا وسهر الليالي لتتبع الأدلة الصحيحة في مسائل الخلاف ويخرجها لك سهلة ميسرة، والأخ كمال قد تربى بيننا صغيرًا ومنذ نعومة أظفاره كان يسأل أسئلة فقهية سابقة لسنه، فتوقعت له خيرًا كثيرًا بالتفقه في الدين، وأصبح توقعي حقيقة فقد رزقه الله الفقه في الدين، وهذا الكتاب الذي بين يديك أكبر شاهد على ذلك. والمؤلف يستحق التقدير والشكر والدعاء على هذا التأليف النافع والجمع النفيس القيِّم في الثقة. و «من يرد الله بن خيرًا يفقهه في الدين» [متفق عليه]. فهنيئًا لك هذا الخير الذي يستحق الشكر لله حتى يأتيك اليقين، وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه وقارئه، إنه سميع مجيب. والحمد لله أولاً وأخيرًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه وسلم. وكتبه أبو عبد الرحمن/ فؤاد بن سراج عبد الغفار

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف الحمد لله على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وعلى وآله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد تتابعت كلمة عامة علماء الإسلام في فواتح مؤلفاتهم، وكريم مدوناتهم لجملة من علوم الشريعة الموقرة، وفنونها المشرَّفة، على أن شرف العلم تابع لشرف معلومه، وكرامة عرقه مؤثرة على مولوده. وقد حصل بالتتبع والاستقراء اتفاق كلمتهم على أن من أشرف العلوم جميعًا، وأعظمها خيرًا ونفعًا: علم أحكام أفعال العبيد، المشتهر بعد باسم «الفقه الإسلامي» المشمول في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه بالدين» (¬1). وقد خص بالدعوة بالفقه في الدين: ربيب بيت النبوة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل». فصار ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ترجمان القرآن وحبر الأمة وبحرها الذي لا ينزف. وعظمة هذا العلم وشرفه تَجل عن الوصف والإحاطة؛ ذلك أنها أحكام تساير المسلم وتلازمه في عموم مسالك حياته فيما بينه وبين ربه؛ وفيما بينه وبين عباده. فيها يشد حبل الاتصال بعبادة ربه في علانيته وسره؛ من طهارة وصلاة، وزكاة وصيام وحج ونسائك. وبها ينشر راية الإسلام، ويرفع منار القرآن وذلك في فقه الجهاد، والمغازي، والسير، والأمان، والعهد ونحو ذلك. وبها يتطلب الرِّزق المباح، ويبتعد عن مواطن الإثم والجناح، وذلك في فقه ¬

(¬1) متفق عليه. من حديث معاوية رضي الله عنه.

المعاملات من بيع وشراء، وخيار، وربا، وصرف، وما جرى مجرى ذلك لا يرتبط بمعاملات الخلق المالية لبعضهم مع بعض. وبها يُجرى الأموال في وظائفها الشرعية من وقف ووصية ونحوهما من أحكام التصرفات المالية. وبها يقف على فقه الفرائض المحكمة فيسعد بنصف العلم، وتستقر أموال في يد أربابها على أعدل قسمة وأتم نظام. وبفقهها ينعم بالحياة الزوجية الشرعية، وما يلحق بها من الأحكام، وما يتعلق بها من طلاق ونحوه. ويحيط بمدى محافظة الإسلام على ضروريات الحياة المشمولة باسم: الجنايات والدِّيات والحدود والتعزيزات؛ فيعيش في أمن وأمان، وراحة بال واستقرار. وهكذا في أحكام الأطعمة والنحائر والأيمان، وفى مباحث التقاضي وقواعده وطرقه وأحكامه موطن تحقق العدالة وفصل الخصام؛ فتقر الحقوق في أنصبائها وتعاد الظلامات إلى أهلها. ولجلائل هذه النعم تسابق العلماء في تدوين الفقه الإسلامي، فقعدوا القواعد، وأصلوا الأصول، واستنبطوا الأُلوف المؤلفة من الفروع في آلاف المجلدات. وهؤلاء الأجلة من العلماء على تنوع مؤلفاتهم الفقهية وتزاحم هممهم العليَّة تختلف مدوناتهم باختلاف مشاربهم واتجاه فقههم. فمنهم من ألف في دائرة مذهبه وما زاد. ومنهم من ألف في دائرة المذاهب الفقهية المنتشرة في الأمصار. ومنهم من كان كذلك مبينًا أدلة الخلاف ووجوه الاستدلال. ومنهم رعيلٌ ألف على سبيل الاجتهاد والتحقيق، والنظر العميق؛ فحرر الوقائع وبين النوازل، وساق لها صنوف الأدلة من مشكاة النبوة، سائرًا مع السنن حيث سارت ركائبها، متجها معها حيث كانت مضاربها، فأخرجوا بذلك للناس علمًا جمًا، وفكرًا خصبًا جاريًا على أسعد القواعد وأرشدها.

وهذا النوع من الفقه هو أصلاً حظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألقوه إلى التابعين لهم بإحسان، وهكذا تلقفه من تبعهم بالحسنى فدونوه على هذا النمط الكريم والمنهج السليم (¬1). وهدا النوع من الفقه في الدين هو ما عناه ابن القيم- رحمه الله تعالى- في فاتحة «تهذيب السنن» بقوله (¬2): «فإن أولى ما صرفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية تتنافس فيه المتنافسون، وشمَّر إليه العاملون: العلم الموروث عن خاتم المرسلين، ورسول رب العالمين، الذي لا نجاة لأحد إلا به، ولا فلاح له في داريه إلا بالتعلق بسببه، الذي من ظفر به فقد فاز وغنم، ومن صرف عنه فقد خسر وحُرم؛ لأنه قطب السعادة الذي مدارها عليه، وآخيَّة الإيمان الذي مرجعه إليه، فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غير هو عين الضلال، وكيف يوصل إلى الله من غير الطريق التي جعلها هو سبحانه موصلة إليه، ودالة لمن سلك فيها عليه، بعث رسوله بها مناديًا، وأقامه على أعلامها داعيًا، وإليها هاديًا؛ فالباب عن السالك في غيرها مسدود، وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحًا واجتهادًا، ازداد من الله طردًا وإبعادًا، ذلك بأنه صدف عن الصراط المستقيم، وأعرض عن المنهج القويم، ووقف مع آراء الرجال، ورضى لنفسه بكثرة القيل والقال، وأخلد إلى الأرض التقليد، وقنع أن يكون عيالاً على أمثاله من العبيد، لم يسلك من سبل العلوم مناهجها، ولم يرتق في درجاته معارجها، ولا تألقت في خلده أنوار بوارقه، ولا بات قلبه يتقلب بين رياضه وحدائقه، لكنه ارتضع من ثدي من لم تطهر بالعصمة لبانه، وورد مشربًا آجنًا طالما كدره قلب الوارد ولسانه، تضح منه الفروج والدماء والأموال، إلى من حلَّل الحلال وحرم الحرام، وتعج منه الحقوق، إلى منزِّل الشرائع والأحكام، فحق ¬

(¬1) في كشف هذا الطور الفقهى البناء انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 5 - 6 وما بعدها). وكتاب «الفكر السامي في تاريخه الفقه الإسلامى» للحجوى. (¬2) انظر: «تهذيب سنن أبى داود» (1/ 5 - 7) طبع سنة 1367 هـ بمطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر، بتحقيق الشيخين أحمد شاكر، ومحمد الفقهى. وانظر في هذا المعنى: كتاب «الأحكام» لابن حزم: (6/ 103، 125).

على من كان في سعادة نفسه ساعيًا، وكان قلبه حيًا واعيًا بنفسه عن أن يجعل كده وسعيه في نصرة من لا يملك له ضرًا ولا نفعًا، وأن ينزلها في منازل الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فإن لله يومًا يخسر فيه المبطلون، ويربح فيه المحققون {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} (¬1)، {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (¬2)، فما ظن من اتخذ غير الرسول إمامه، ونبذ سنته وراء ظهره، جعل خواطر الرجال وآراءها بين عينه وأمامه، فسيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع، وعند الوزن ماذا أحضر من الجواهر أو خرثى المتاع» اهـ (¬3). ومن هنا اشتدت العزيمة، ويممت قبلة القصد إلى جمع كتاب في أبواب الفقه على نسق استحسنته (¬4)، رجاء أن أنال الخيرية من الفقه في الدين. وقد دفعني إلى جمعه على هذا النسق وتلك الطريقة ثلاثة أمور: الأول: بعض السلبيات في الكتب الفقهية القديمة، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون والمحتوى (¬5): (أ) فمن حيث الشكل وطريقة الترتيب والتبويب، فإن الموضوعات في بعض هذه الكتب تتداخل تداخلاً يصعب معه -أحيانًا- العثور على المسألة المطلوبة حتى على بعض المختصين، لا سيما مع عدم وجود الفهارس الموضوعية التي تُيسِّر على الباحث مهمته، في أكثرها. ومن حيث الأسلوب، فأسلوبها -وإن ناسب العصر الذي كتبت فيه- إلا أنه مما يعسر فهمه على المعاصرين وما يلحظ فيه: ضغط العبارة وحصر المعنى الواسع في لفظ قليل موجز، يصل إلى التعقيد والركاكة، وهذا يوجد في المتون والمختصرات التي كثرت في المتأخرين وصارت عمدة الدارسين والمتفقهين. ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 27. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 71 .. (¬3) مقتبس من مقدمة العلامة بكر أبي زيد -حفظه الله- في «تقريب علوم ابن القيم» ص 10 - 14. (¬4) سأبين مسلكي في هذا الكتاب قريبًا إن شاء الله. (¬5) «ضوابط للدراسات الفقهية» للشيخ سلمان حفظه الله (ص: 33 - 38) بتصرف يسير.

وكثرة استعمال العبارات الاصطلاحية ذات الدلالة التاريخية التي لا يفهمها إلا من عاصر مدلولها. (ب) ومن حيث المضمون والمحتوى: فمن هذه الكتب ما ألف في عصر له ظروف خاصَّة، فكانت تعنى بدراسة مشكلات ذلك العصر، وتأتى العصور التالية لها بمشكلات جديدة. كما أن من هذه الكتب- وخاصة المتأخرة- ما يكون تركيزه على تحرير المذهب الذي ألفت فيه، دون أن يُعطى الاستدلال حقه، ودون مقارنة أو ترجيح. هذا فضلاً عن أن عددًا كبيرًا من الكتب المذهبية غلب عليها داء التعصب المذهبي المقيت، والالتزام المطلق بالمذهب، سواء ما كان منه من نص الإمام ذاته، أو من زيادات أصحابه وتلاميذه، أو من اختيارات البارزين فيه، أو ما كان مخرَّجًا على أحد هذه المصادر!! هذا فضلاً عما يكثر في هذه الكتب من إيراد الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ودون الإشارة إلى ضعفها. الثاني: وجود كثير من السلبيات في كتب الفقه المعاصرة، فهذه الكتب وإن تميزت بجودة الترتيب والتبويب وملاءمة روح العصر، وقرب تناولها من الباحث وأحيانًا من القارئ العادي، وإن كان بعضها لم تسيطر عليها روح العصبية المذهبية؛ فإنها يشوبها سلبيات كثيرة- بل وخطيرة أحيانًا- فيما يتعلق بالمضمون والمحتوى والنتائج التي يتوصل إليها البحث خاصة وأنها قد تطرق مسائل جديدة وقضايا نازلة، ومن ذلك: 1 - الضعف العلمي وعدم هضم التراث الفقهي والحديثي الذي يعتبر قاعدة للانطلاق في الدراسة والفتوى والتأليف، فنرى من يخالف ما أجمع عليه المسلمون خلفًا عن سلف، أو يؤيد رأيًا شاذًا منبوذًا تجاوزه الزمن، أو يُنقِّب في فقه الرافضة أو من شاكلهم على بعض الآراء تروق له، ويقدمها للمسلمين على أنها فقه الإسلام، ورأي علماء المسلمين!! (¬1). 2 - أن بعضها مشحون بأقوال العلماء دون العناية بالاستدلال لهذه الأقوال وترجيح الراجح منها، فيظل الباحث والقارئ في حيرة من أمره، وربما نوَّه إليه ¬

(¬1) «ضوابط للدراسات الفقهية» (ص: 45).

المؤلف بأن يختار من هذه الأقوال ما شاء، بحجة أن الكل مما قال به بعض العلماء (¬1). 3 - عدم اهتمام أكثر مؤلفيها بصحة الدليل، ولا بالترجيح- إن رجَّح- على مقتضى أصول أهل العلم في ذلك. 4 - افتقار بعضها إلى الأسلوب العلمي الفقهي، حتى أن بعضها قد كتب بطريقة خطابية لا ترى عليها مسحة العلم!!. 5 - تأثر هذه الكتب- أحيانا- بالأقاويل والشبهات التي يطلقها أعداء الإسلام، وأصبحت بعض القضايا كالسلم والحرب والجزية والعلاقات الدولية ومعاملة الذميين والمشركين، وقضايا الحكم والرق وتعدد الزوجات وغيرها لا تطرق إلا من خلال منطق ضعيف، لأنه في موقف «الدفاع» الذي يجرُّه الحرص على تبرئة ساحة الإسلام إلى نفس بعض الحقائق الثابتة، أو نسبة بعض الآراء الغريبة إلى الإسلام (¬2). 6 - كما تتأثر هذه الكتب بواقع الأمة الشاردة- في الجملة- عن هدى ربنا وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فتلتمس للناس المعاذير والمسوِّغات التي تهوِّن شأن المنكرات والمحرمات، وتستجيب لضغط الواقع وثقله على النفس البشرية، فتؤول النصوص الصريحة، وتضعِّف الآثار الصحيحة!! (¬3). 7 - وحين تدرس الكتب المعاصرة القضايا الجديدة النازلة، يبلغ بها الشطط مبلغه باعتبار أن هذه القضايا لم يسبق أن تحدث فيها العلماء، وأنها مما يمس الواقع، وقد يلتبس في هذه القضايا الحق بالباطل، مع كون حاجة الناس إليها قائمة في غيبة المنهج الإسلامي الصحيح، وإذا نظرنا إلى ما كتب في موضوع التأمين أو المعاملات المصرفية الجديدة، أو طفل الأنبوب، أو سواه، لوجدنا العجب العجاب (¬4). هذا على معظم الكتب المعاصرة إنما هي دراسات متخصصة تتناول ¬

(¬1) سيأتي قريبًا التنبيه على هذه المسألة. (¬2) «ضوابط للدراسات الفقهية» (ص: 41، 42). (¬3) «السابق» (ص: 42). (¬4) «السابق» (ص: 47).

أغبلها موضوعًا واحدًا، وأما العمل الفقهي المتكامل فهو وإن وجد فلا يخلو من معظم السلبيات المتقدمة. الأمر الثالث: المعركة المشتعلة، والنفرة المصطنعة بين المحدثين والفقهاء: فقد رأيت كثيرًا من إخواننا من طلاب الحدث ينصرفون عن تلقي علم الفقه، مقبلين على علم السنة المطَّهرة رواية دون دراية، ورأيت جُلَّ طلاب الفقه معرضين عن تلقي علم الحديث ومعرفة أسانيده، وحفظ متونه، مع انكبابهم على كتب المذاهب الفقهية وحفظ مختصراتها، وهذه النفرة كانت واقعة منذ قدم العهد يثيرها كتبةُ الحديث وصغار المتفقهة، لقصر نظرهم، فيتبادلون الغمز واللمز، قال الخطابي (¬1) -رحمه الله- المتوفى سنة (388 هـ): «ورأيت أهل زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا من بناء وعمارة فهو قفر وخراب، ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني من المحلين، والتقارب في المنزلين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه - إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين، فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما كدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يفقهون المعاني، ولا يستنبطون سيرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون. وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقلِّه، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيِّده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق ¬

(¬1) «معالم السنن» (1/ 75).

مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك زلة من الراوي أو عيًّا فيه ...» اهـ. والحق أن الحديث والفقه أخوا صفاء، وقرينا وفاء، ولذلك قال ابن المديني -رحمه الله-: «التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم» (¬1) فهما للعالم كالجناحين للطائر. قال الشوكاني (¬2): «والمتصدر للتصنيف في كتب الفقه -وإن بلغ في إتقانه وإتقان علم الأصول وسائر الفنون الآلية إلى حدٍّ يتقاصر عنه الوصف- إذا لم يتقن علم السنة، ويعرف صحيحه من سقيمه، ويُعوِّل على أهله في إصداره وإيراده، كانت مصنفاته مبنية على غير أساس، لأن علم الفقه هو مأخوذ من علم السنة إلا القليل منه، وهو ما صرَّح بحكمه القرآن الكريم، فما يصنع ذو الفنون بفنونه إذا لم يكن عالمًا بعلم الحديث، متقنًا له، معولاً على المصنفات فيه؟!» اهـ. ولهذا كان أعدل المذاهب وأقواها في دقائق الفقه ومسائله مذهب المحدثين، لأنهم نهلوا من معين النبوة، واقتبسوا من مشكاة الرسالة، فعليها وردوا، وعنها صدروا (¬3). «وأقبح بمحدِّث يُسأل عن حادثة فلا يدري، وقد شغله عنها جمع طرق الأحاديث، وقبيح بالفقيه أن يقال: ما معنى قول رسول الله كذا، فلا يدري صحة الحديث ولا معناه» (¬4). وقد كان دأب السلف وطريقتهم أن يضموا إلى الرواية الدراية، وإلى الدراية الرواية، وبهذا أوصوا، فعن مصعب الزبيري قال: سمعت مالك بن أنس قال لابني أخته، أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس: «أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه ¬

(¬1) «الجامع لأخلاق الراوي والسامع» للخطيب (2/ 211). (¬2) «أدب الطلب» (ص 45 - 46). (¬3) «تذكرة الحديثي والمتفقِّه» لصالح العصيمي (ص: 6). (¬4) «صيد الخاطر» لابن الجوزي (ص: 399 - 400).

[المسلك في هذا الكتاب]

-يعني: سماع الحديث- قالا: نعم، قال: «إن أجبتما أن تنتفعا به، وينفع الله بكما، فأقلا منه وتفقَّها» (¬1). قلت: فما أحوجنا إلى فقه مأخوذ من صحيح السنة والأثر، بفهم سلف الأمة وفقهائها، جاريًا على أصول أهل العلم. [المسلك في هذا الكتاب] وبعد: فكانت هذه الأمور الثلاثة مما دفعني إلى الإقدام على تأليف هذا الكتاب الذي أسأل الله أن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يجعله خطوة على طريق الفقه في دينه، وأن يجنبني فيه ما انتقدتُ من سلبيات رأيتها في غيره، والتي لا أدعي لنفسي العصمة من نظائرها. وقد سلكتُ في هذا الكتاب ما يلي: 1 - رتَّبتُ كتبه وأبوابه على نمط قريب من معظم كتب الفقه، مع شيء يسير من الاختلاف، حيث بدأتُ بقسم العبادات والذي يحتوي على كتاب الطهارة، والصلاة والجنائز والزكاة والصيام والحج، وألحقت بها ما يتصل بالعبادات: ككتاب الأيمان والنذور، والأطعمة والأشربة، والصيد والذبائح ونحوها. ثم أتبعتُه بقسم أحكام الأسرة (الأحوال الشخصية) وما يتعلق بها، ككتاب اللباس والزينة وأحكام النظر، والمواريث. ثم كتاب الحدود، والجنايات والديات، ثم البيوع ... وهكذا. 2 - وقد مهَّدت لهذه الكتب بمقدمة في نشأة المذاهب وأسباب اختلاف العلماء ومسائل تتعلق بالتقليد ونحو ذلك، مما ينبغي لطالب العلم معرفته قبل الشروع في دراسة الفقه. 3 - وقد اجتهدت في ترتيب مواضيعه، وصياغتها بأسلوب سهل واضح، يناسب الباحث والقارئ العادي، ومع هذا راعيت قدر الإمكان أن تكون عباراته ¬

(¬1) «المحدث الفاضل» للرامهرمزي (ص 241)، و «نصيحة أهل الحديث» للخطيب (ص 37) عن «تذكرة الحديثي والمتفقه» (ص: 28).

قريبة من عبارات الفقهاء في دقتها ودلالتها على المقصود وربما أختار العبارة المُثلى مما أقف عليه في المراجع الفقهية المختلفة. 4 - وقد رتبتُ مسائله ترتيبًا مستلسلاً منطقيًّا، حسب تواردها على ذهن القارئ، لتكون أقرب متناولاً، وأيسر مأخذًا. 5 - وقد عنيت بوضع العناوين التفصيلية التي تدل على المراد بوضوح، إضافة إلى العناوين الكلية التي تحدد موضوع الأبحاث، وتفرز الموضوعات بعضها عن بعض، وترتب الأفكار داخل الموضوع الواحد. 6 - وقد بذلت وسعى في الاستدلال لكل مسألة بكتاب الله -إن أمكن- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، بعد جمع الأدلة فيها وتنقيحها والحكم على أحاديثها بما تستحقه صحة وضعفًا، مع إثبات ذلك في الحاشية مختصرًا بقدر الإمكان، وإن كان في المسألة إجماع ذكرته معزوًّا إلى ناقله. 7 - وإن كانت المسألة خلافية -وهو الغالب على مسائل الفقه- فإنني أورد الخلاف ولا أهمله، وكيف لا أفعل، وقد قال قتادة: «من لم يعرف الاختلاف، لم يشم الفقه بأنفه» (¬1). وذلك أن الجهل بالخلاف قد يؤدي إلى رد بعض الحق الذي لا يعلمه، إذ الحق غير منحصر في قول فرد من العلماء كائنًا من كان، ولذا روى عثمان بن عطاء عن أبيه قوله: «لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه» (¬2). فإن كان الخلاف في المسألة معتبرًا قويًا، كانت طريقتي في عرضه: أن أذكر كل قول، والقائلين به من أهل العلم معتمدًا في نقل آرائهم على كتب الإمام نفسه -إن أمكن- وإلا فعلى كتب المذهب المعتمدة لدى علمائه، مع إثبات توثيق هذه الآراء في الحاشية. ثم أسوق ما وقفتُ عليه من حُجج لهذا القول، مع إبداء وجه الدلالة من الدليل -إن لم يكن ظاهرًا- وأحيانًا أُتبع كل دليل بما اعترض عليه وأُجيبَ عنه به من الفريق الآخر إتمامًا للفائدة. ¬

(¬1) «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 46). (¬2) «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 46).

ثم أفعل هذا مع كل قول من أقوال العلماء في المسألة. 8 - ولا أكتفي بمجرد نقل هذه الأقوال وسرد أدلتها، لأن مجرد عرضها دون ترجيح يوقع القارئ في الحيرة واضطراب، من جهة أن الباحث الذي جمع الأقوال ونقَّب عنها لم يُرجِّح، فالغالب أن غيره لا يملك ذلك من باب أولى، بل أحرص على تفهُّم الأقوال وتمحيصها سندًا ومتنًا، ودلالة وأقارن بعضها ببعض، وإجراء ذلك على أصول أهل العلم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، بغرض الوصول للقول الناجح مع غير تعصُّب لأحد كائنًا من كان، فالباحث المنصف، إنما يبحث عن الحق، وعن مراد الله تعالى، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعنيه بعد ذلك إن وافق قول فلان أو فلان، خاصة وأنه إنما يخرج من قول إمام إلى قول إمام آخر. وقد التزمت في ذلك أن أكون وراء نصوص الشريعة، أسمع منها وأصغى إليها وأفهم مرادها، فلا أسبقها بالقول، ولا أقوِّلها ما لم تقل، ولا أحملها ما لا تحتمل، ولا أطوِّعا على ما تشتهي النفس أو يشتهي ألناس. والمقصود أنني أحاول الترجيح بمقدار ما بلغت إليه الملكة إن ظهر لي وجه معتبر في الترجيح، فإذا لم يتبين لي وجه الصواب توقفتُ، إذ لا يجوز الترجيح بغير دليل ود برهان. قال ابن عبد البر- رحمه الله-: «والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول منها وذلك لا يعدم، فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف، ولم يجز القطع إلا بيقين» (¬1). وربما أختار قولين قويين من بين مجموع الأقوال، أو أضعِّف ما ظهر لي تضعيفه من الأقوال، فهدا ترجيح جزئي، وهو يقرب المسألة. أما إذا كانت كفة أحد القوال راجحة بجلاء على غيرها، فإنني أذكر القول القوى بألته الدامغة، مع ذكر القائلين به، على النحو الذي تقدم، ثم أشير إلى الخلاف باختصار، وربما أهمله إذا كان قولاً ساقطًا متهالكًا لا ينبغي الاشتغال بنقله وحكايته إلا لفائدة. ¬

(¬1) «جامع بيان العلم» (1/ 80).

وقد حرصت في اختياراتى ألا أخرج عن مجموع أقوال السلف، فلم آت بقول مبتكر مبتدع لم أسبق إليه، إذ أن اختصار السلف على هذه الأقوال يعتبر إجماعًا منهم على أن الحق محصور فيها لا يخرج عن جملتها، وإن اختلفوا في أيها وافق الحق، فلا يظن أن يخفى الحق على جميع الأمة في عصر من العصور. ولا يفوتني أن أُنَبِّه على أن هذه الاختيارات لا تلزم أحداً غيري، وإن كان ربما يستفيد منها من لا ملكة له على الترجيح، وأما طالب العلم القادر على الترجيح فإنه يكفيه أنى جمعتُ له شتات المسألة، فله أن يرجِّح ما تبين له صوابه من غير حجر عليه، فإن وقف على كلامي ذكى لا يستقويه، فالأولى به أن ىخفض لي جناح الذل من الرحمة، وأن يشكر الله على ما فضَّله به عليَّ من الحكمة، وكلما ازداد فقه المرء في دين الله عز وجل، زاد رفقُه على المخالفين الذين ثم يكونوا يريدون غير الحق. وقد درجت على هذا النسق وذلك المنوال في جل الكتاب، حتى إذا كنت في أوائل كتاب البيوع اضطررت للسفر، في حين يُلحُّ الناشر- جزاه الله خيرًا- على نشر الكتاب، فاستخرت الله تعالى أن أرفق بالكتاب بحثًا مختصرًا في «البيوع المحرمة» كان أعدَّه أخونا وحبيبنا الشيخ فؤاد سراج- حفظه الله- وليس هو جاريًا على شرطي في الكتاب من إيراد الخلاف والترجيح بين الأقوال؛ وما لا يدرك كلُّه لا يترك جُلُّه، وأما بحث هذه المسائل على شرطي فإنه يحتاج إلى جهد وفير ووقت طويل وعناية خاصة، لا سيما وفى مباحث هذا الكتاب كثير من المسائل الجديدة النازلة، وقد كنت شرعت في هذا فعلاً، لولا ما قدَّره الله من الاضطرار إلى السفر، فأرجو أن يقبل القارئ عذري، على أنى ماضٍ بمشيئة الله في إتمام ذلك، وإضافة أبواب أخرى في طبعة قادمة أن شاء الله تعالى. هذا ولا يفوتني أن أقدم شكري وخالص دعائي لكل من أعاننى بشيء في إتمام هذا العمل وخروجه على هذه الهيئة، من إعداد مسألة أو إعارة كتاب، أو كتابة أو نسخ، أو جمع أو طباعة، أو مراجعة تجارب وأخصُّ منهم أخانا وشيخنا فؤاد سراج، بارك الله في علمه وعمله وذريته، وأخانا وحبيبنا الشيخ هاني الحاج رفع الله قدره، وأخويَّ المباركين: مصطفى الشامي وفيصل عبد الواحد، حفظهما الله،

والأخ الفاضل سيد فتحي، سائلاً الله تعالى أن يجزل لهم المثوبة والعطاء، وأن يجمعنا بهم في الجنة دار البقاء. وقد سميت هذا الكتاب «صحيح فقه السنة وتوضيح مذاهب الأئمة» وليس يضرني وقوف أهل المعرفة على ما لي من التقصير، ومعرفتهم أن باعي في هذا الميدان قصير، فلئن أخطئ فمن الذي عُصِم؟! ولئن أُخَطَّا فمن الذي وُصِمَ؟! وأعلمُ أن الخطأ والزلل، هما الغالبان على من خلق الله من عجل، فإن أصبتُ فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأتمثل قول الشاعر: لقد مضيت وراء الركب ذا عَرَجِ ... مؤمِّلاً جبر ما لاقيتُ من عَرَج فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا ... فكم لرب الورى في الناس من فرِجِ وإن ضللتُ بقفر الأرض منقطعًا ... فما على أعرج في الناس من حَرَجِ وأسأل أل الله تعالى أن ينفعني وإخواني من طلاب العلم بهذا العمل، وأن يخلص نيتي فيه لوجهه، فإن القلوب بيده وأن لا يجعل لأحد من خلقه فيه نصيبًا وأن ينفعني به يوم ألقاه {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين. وكتبه الفقير إلى عفو ربه المالك كمال بن السيد سالم ... أبو مالك ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89.

تمهيد نشأة علم الفقه

تمهيد نشأة علم الفقه (¬1) [الفقه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم] اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدونًّا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل بحث هؤلاء الفقهاء، حيث يبينون بأقصى جهدهم الأركان والشروط والآداب، كل شيء ممتازًا عن الأخر بدليله، ويفرضون الصور من صنائعهم، ويتكلمون على تلك الصور المفروضة، ويحدون ما يقبل الحد، ويحرصون ما يقبل الحصر، إلى غير ذلك وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين: هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون صلاته، فيصلون كما رأوه يصلى، وحج فرمق الناس حجَّه، ففعلوا كما فعل. وهذا كان غالب حاله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد، إلا ما شاء الله، وقلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء. وكان صلى الله عليه وسلم يستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضى فيها، ويرى الناس يفعلون معروفًا فيمدحه، أو منكرًا فينكر عليهم، وما كل ما أفتى به مستفتيًا عنه وقضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات، فرأى كل صحابي ما يسَّره الله له من عباداته وفتاواه وأقضيته، فحفظها وعقلها، وعرف لكل شيء وجهًا من قبل حفوف القرائن به، فحمل بعضها على الإباحة، وبعضها على الاستحباب، وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده. ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج، من غير التفات إلى طرق الاستدلال، فانقضى عصره صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك. ¬

(¬1) هذا المبحث اختصرته من كتاب «الإنصاف» للدهلوى، مع شيء يسير.

[عهد الصحابة رضي الله عنهم]

[عهد الصحابة رضي الله عنهم] ثم إنهم تفرقوا في البلاد، وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع، ودارت المسائل، فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب، اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار سول الله صلى الله عليه وسلم عليها الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهدًا في موافقة غرضه صلى الله عليه وسلم. [أسباب اختلاف الصحابة وصوره] فعندئذ وقع الاختلاف بينهم على ضروب منها: 1 - أن يسمع صحابي حكمًا في قضية أو فتوى، ولم يسمعه الآخر، فيجتهد برأيه في ذلك، ويكون هذا على وجوه: (أ) أن يقع اجتهاده موافقًا للحديث، ومثاله: ما جاء عن ابن مسعود أنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها، فقال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضى في ذلك، فاختلفوا عليه شهرًا وألحوا، فاجتهد برأيه، وقضي بأن لها مهر نسائها: لا وَكَسَ ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام. (ب) أن يقع بينهما المناظرة، ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع، ومثاله: أن أبا هريرة كان من مذهبه أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له، حتى أخبرته بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم بخلاف مذهبه فرجع. (جـ) أن يبلغه الحديث لكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده بل طعن في الحديث، ومثاله: أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، فردَّ شهادتها وقال: لا نترك كتاب الله بقول امرأة ندري أصدقت أم كذبت.

وقالت عائشة: يا فاطمة اتقي الله! تعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة. (ر) أن لا يصل إليه الحديث أصلاً، ومثاله: أن ابن عَمْرو وكان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فسمعت عائشة رضي الله عنها بذلك فقالت: يا عجبًا لابن عمرو هذا، يأمر النساء أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! فقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات. 2 - أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً، فيحمله بعضهم على القربة وبعضهم على الإباحة: ومثاله: أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يرمل في الطواف، فذهب جمهورهم إلى أن الرمل في الطواف سنة، وحمله ابن عباس على أنه إنما فعله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق لعارض عرض- وهو قول المشركين: حطمتهم حمى يثرب- وليس سنة. 3 - اختلاف الوهم: ومثاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّ فرآه الناس، فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعًا، وبعضهم إلى أنه كان قارنًا، وبعضهم إلى أنه كان مفردًا. 4 - اختلاف السهو والنسيان: ومثاله ما رُوي: أن ابن عمر كان يقول: أعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة في رجب، فسمعت عائشة بذلك فقضت عليه بالسهو. 5 - اختلاف الضبط: ومثاله أن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» فقضت عائشة عليه بأنه وهم بأخذ الحديث على وجه: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها أهلها فقال: إنهم يبكون عليها وإنها تعذب في قبرها، فظن أن العذاب معلول للبكاء، وظن الحكم عامًا على كل ميت. 6 - الاختلاف في علة الحكم: مثاله: القيام للجنازة فقال قائل: لتعظيم الملائكة فيعم المؤمن والكافر، وقال قائل: لهول الموت فيعمهما، وقال قائل: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة يهودي فقام لها كراهة أن تعلو فوق رأسه، فيخص بالكافر. 7 - الاختلاف في الجمع بين المختلفين: ومثاله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

استقبال القبلة في قضاء الحاجة فذهب قوم إلى عموم هذا الحكم وأنه غير منسوخ، ورآه جابر يبول قبل أن يتوفى بعام مستقبل القبلة فذهب إلى أنه نسخ للنهى المتقدم، ورآه ابن عمر قضى حاجته مستدبر القبلة فرَّد به قولهم إلى غير ذلك. [الفقه في عهد التابعين] وبالجملة فاختلفت مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنهم التابعون كل واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها، وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثورًا عن كبار الصحابة، كما استفاض عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه. فصار لكل عالم من التابعين مذهب على حياله، فانتصب في كل بلد إمام، مثل: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة، وبعدها: الزهري ويحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها. وعطاء بن أبى رباح بمكة، وإبراهيم النخعي والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، وطاووس بن كيسان باليمن ومكحول بالشام، فأظمأ الله أكبادًا إلى علومهم فرغبوا فيها، وأخذوا عنهم الحيث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم، ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم، واستفتى منهم المفتون، ودارت المسائل بينهم ورفعت إليهم الأقضية. وكان ابن المسيب وإبراهيم النخعي وأمثالهما قد جمعوا أبواب الفقه أجمعها، وكان سعيد بن المسيب وأصحابه يذهبون إلى أن أهم الحرمين أثبت الناس في الفقه، وأصل مذهبهم فتاوى عمر وعثمان وقضاياهما، وابن عمر وعائشة وابن عباس وقضايا قضاة المدينة. وكاد النخعي وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقه، فأصل مذهبهم فتاوى ابن مسعود وقضايا علي رضي الله عنه وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة. ونظر كل فريق فيما اجتمع لديه نظر اعتبار وتفتيش، فما كان منها مجتمعًا عليه بين العلماء فإنهم يأخذون عليه بنواجذهم، وما كان فيه أن اختلاف عندهم

فإنهم يأخذون بأقواها وأرجحها، وإذا لم يجدوا فيما حفظوه جواب المسألة خرجوا من كلامهم وتتبعوا الإيماء والاقتضاء، فحصل لهم مسائل كثيرة في كل باب. [الفقه بعد عهد التابعين] ثم أنشأ الله تعالى بعد عصر التابعين نشأً من حملة العلم، فأخذوا العلم عنهم، ونسجوا على منوال شيوخهم، فتمسكوا بالمسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدلوا بأقوال الصحابة والتابعين، علمًا منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختصروها فجعلوها موقوفة، أو يكون استنباطًا منهم من المنصوص واجتهادًا منهم بآرائهم، وهم أحسن صنيعًا في كل ذلك ممن يجيء بعدهم، وأكثر إصابة، وأقدم زمانًا وأوعى علمًا، فتعين العمل بها إلا إذا اختلفوا وكان حديث رسول الله يخالف قولهم مخالفة ظاهرة. وقد أُلهموا في هذه الطبقة التدوين، فدون مالك، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ذئب بالمدينة، وابن جرير وابن عيينة بمكة، والثوري بالكوفة، والربيع بن صبيح بالبصرة. وكان مالك أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسناداً، وأعلمهم بقضايا عمر، وأقاويل عبد الله في عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، ولما وسد إليه الأمر حدَّث وأفتى وأفاد وأجاد. وكان أبو حنيفة- رحمه الله- ألزمهم بمذهب إبراهيم النخعى وأقرانه، لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتمَّ إقبال. وكان أشهر أصحابه ذكرًا أبو يوسف- رحمه الله- وكان أحسنهم تصنيفًا وألزمهم درسًا محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقَّه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ «الموطأ» على مالك، ثم رجع إلى بلده فطبق مذهب أصحابه على «الموطأ» مسألة مسألة، فإن وافق منها وإلا فإن طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفًا أو تخريجًا يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء ويخالفه عمل أكثر العلماء تركه

إلى مذهب السلف مما يراه أرجح ما هناك، وهما لا يزالان على محجة النخعي ما أمكن لهما كما كان أبو حنيفة- رحمه الله- يفعل، ولذا عُدَّ مذهبًا مع مذهب أبى حنيفة واحدًا- مع أنهما مجتهدان مطلقان مخالفتهما له غير قليلة في الأصول والفروع- لتوافقهم في هذا الأصل. ونشأ الشافعي- رحمه الله- في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما، فنظر في صنيع الأوائل فوجد فيه أموراً كَبَحت عنانه عن الجريان في طريقهم، منها: أنه وجدهم يأخذون بالمرسل والمنقطع فيدخل فيهما الخلل، ومنها أنه لم تكن قواعد الجمع بين المختلفات مضبوطة عندهم فتطرَّق بذلك خلل في مجتهداتهم، فوضع لها أصولاً ودوَّنها في كتاب، وهذا أول تدوين كان في أصول الفقه، ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعي فكثرت واختلفت وتشعبت، ورأى كثيرًا منها يخالف الحديث الصحيح حيث لم يبلغهم، ورأى السلف لم يزالوا يرجعون في مثل ذالك إلى الحديث، فترك التمسك بأقوالهم ما لم يتفقوا، وقال: هم رجال ونحن رجال. ومنها أنه رأى قومًا من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منها عن الآخر. وبالجملة فإنه - رحمه الله- لما رأى هذه الأمور أخذ الفقه من الرأس فأسس الأصول وفرع الفروع ونف الكتب فأجاد وأفاد، واجتمع عليه الفقهاء، ثم تفرقوا في البلدان فكان هذا مذهب الشافعي. [أسباب الاختلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي] واعلم أنه كان من العلماء من عصر التابعين فما بعدهم قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بُدًا، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام، وكتابة الصحف والنسخ، فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان وجمعوا الكتب وتتبعوا النسخ حتى اجتمع لهم من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحد قبلهم، واجتمع عندهم ما كان خافيًا على أهل الفتوى من آثار فقهاء كل بلد من الصحابة والتابعين، بعد أن

كان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديث بلده وأصحابه، كما انكشف لهم بهذا التدوين والبحث والمناظرة ما كان خافيًا من حال أسانيد هذه الأحاديث. فرجع المحققون منهم- بعد إحكام فن الرواية ومعرفة الأحاديث- إلى الفقه، فلم يكن عندهم من الرأي أن يُجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يروون من الأحاديث والآثار المناهضة لكل مذهب من تلك المذاهب، ولم تكن مسالة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم والتي وقت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثًا مرفوعًا متصلاً أو مرسلاً أو موقوفًا، أو وجدوا أثرًا من آثار الشيخين أو سائر الخلفاء وقضاة الأمصار وفقهاء البلدان، فيسَّر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأنًا وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة وأعمقهم فقهًا، أحمد بن حنبل ثم إسحاق ابن راهويه- رحمهما الله تعالى- قال الشافعي لأحمد: «أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمونى حتى أذهب إليه، كوفيًا كان أو بصريًا أو شاميًا» اهـ. وقد خلف هؤلاء قوم رأوا أن أصحابهم قد كفوهم مؤنة جمع الأحاديث، وتمهيد الفقه على هذا الأصل، فتفرغوا لفنون أخرى، كتمييز الحديث الصحيح المجمع عليه من كبراء أهل الحديث كيزيد بن هارون ويحيى القطان وأحمد وإسحاق وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم، وكالحكم على كل حديث بما يستحقه، وكالشاذَّة والفاذَّة من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم تخرج من جهتها الأوائل، وغير ذلك، ومن هؤلاء: البخاري ومسلم وأبو داود وعبد بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي وغيرهم. وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان وبعدهم قوة لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، وإنما يهابون رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم والرفع إليه، حتى قال الشعبي: «على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان؛ كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم». فوقع تدوين الحديث والفقه والمسائل من حاجتهم بموقع من وجه آخر، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقوال علماء

البلدان وجمعها والبحث عنها، واتهموا أنفسهم في ذلك، وكانوا اعتقدوا في أئمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق، وكانت قلوبهم أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال أبو حنيفة: «إبراهيم - يعني: النخعي- أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة أفقه من ابن عمر!!». وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسألة على أقوال أصحابهم، فمهدوا الفقه على قاعدة التخريج، فوقع التخريج في كل مذهب فكثر، وأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسُدِّ إليهم القضاء والإفتاء، فاشتهرت تصانيفهم في الناس، وانتشرت في أقطار الأرض. ومن هنا نشأت مدرستا الحديث والفقه، وقد صدَّر الإمام الخطابي -رحمه الله- كتاب «معالم السنن» (¬1) بالكلام عليهما فقال: رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا أمرين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما نحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة أساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه، إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر غير متظاهرين. فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر فإن الأكثرين إنما كدهم الروايات، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون سرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون، وأما الطبقة الأخرى -وهم أهل الفقه والنظر- فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما ¬

(¬1) «معالم السنن» للخطابي (1/ 75 - 76).

بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك زلة من الراوي أو عيًّا فيه، وهؤلاء- وفقنا الله وإياهم- لو حكى لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاده من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة، واستبرءوا له العهدة: فنجد أصحاب مالك لا يعتمدون في مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم وأشهب وأضرابهما من نبلاء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم يكن عندهم طائلاً، وترى أصحاب أبي حنيفة- رحمه الله تعالى- لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذوي روايته قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه. وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية خزيمة والجرمى وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدُّوا بها في أقاويله، وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأساتذتهم. فإذا كان هذا دأبهم، وكانوا لا يقتنعون في أمر هذه الفروع والرواية عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والتثبت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم، وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة، الواجب حكمه، اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضاه، ولا في صدورنا غلاً من شيء أبرمه وأمضاه، أرأيتكم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرماءه في حقه، فأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبًا عنه، كولي الضعيف ووصى اليتيم ووكيل الغائب؟ وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارًا للذمة؟ فهذا هو ذلك إما عيان خمس وإما عيان مثل، ولكن أقوامًا عساهم استوعروا طريق الحق، واسطابوا الدعة في ذلك الحظ، وأحبوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة من معاني أصول الفقه سموها عللاً، وجعلوها شعارًا لأنفسهم في الترسم برسم العلم، وأخذوها جنة عند لقاء

[أحوال الناس في المائة الأولى والثانية]

خصومهم، ونصبوها ذريعة للخوض والجدال يتناظرون بها، ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم الغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور في عصره، والرئيس المعظم في بلده ومصره. هذا وقد وسوس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة فإن تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلوه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين يتسع للمرء مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم إبليس ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه، إلا فريقًا من المؤمنين، فيا للرجال والعقول أين يذهب بهم، وأنى يخدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم، والله المستعان، انتهى كلام الخطابي. [أحوال الناس في المائة الأولى والثانية] اعلم أن الناس كانوا في المائة الأولى والثانية غير مجمعين على التقليد لمذهب واحد بعينه، قال أبو طالب المكي في «قوت القلوب»: «إن الكتب والمجموعات محدثة، والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله، والحكاية له في كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس على ذلك في القرنين الأول والثاني» اهـ. وقال ابن الهمام في «التحرير»: «وكانوا يستفتون مرة واحدًا، ومرة غيره، غير ملتزمين بفتيا واحد» اهـ. وأما العلماء فكانوا على مرتبتين: منهم من أمعن في تتبع الكتاب والسنة والآثار حتى حصل له ملكة إفتاء الناس وإجابتهم في غالب الوقائع بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه، ويُخص باسم «المجتهد». ومنهم من حصل له من معرفة القرآن والسنن ما يتمكن به من معرفة رءوس الفقه وأمهات مسائله بأدلتها التفصيلية، وحصل له غالب الرأي ببعض المسائل الأخرى من أدلتها، وتوقف في بعضها، واحتاج في ذلك إلى مشاورة العلماء لأنه لم تتكامل له الأدوات كما تتكامل للمجتهد المطلق، فهو مجتهد في العبض غير متجهد في البعض، وقد تواتر عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا إذا بلغهم الحديث يعلمون به من غير أن يلاحظوا شرطًا.

[ظهور التمذهب للمجتهدين بعد المائة الثانية] وبعد المائتين ظهر فيهم التمذهب للمجتهدين بأعيانهم، وقلَّ من كان لا يعتمد على مذهب مجتهد بعينه، وقد كان المشتغل بالفقه لا يخلو عن حالتين: 1 - إما أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي أجاب فيها المجتهدون من قبل من أدلتها التفصيلية ونقدها وتنقيحها وترجيح بعضها على بعض، ولابد له من أن يستحسن شيئًا مما سبق إليه إمامه ويستدرك عليه شيئًا، فإن كان استدراكه أقل من موافقته عُدَّ من أصحاب الوجوه في المذهب، وإن كان أكثر لم يُعدَّ تفرُّده وجهًا في المذهب، وكان مع ذلك منتسبًا إلى صاحب المذهب في الجملة، ممتازًا عمن يأسى بإمام آخر في كثير من أصول مذهبه وفروعه، ويوجد لمثل هذا بعض مجتهدات لم يسبق بالجواب فيها، إذ الوقائع متتالية، والباب مفتوح، فيأخذها من الكتاب والسنة وآثار السلف من غير اعتماد على إمامه، ولكنها قليلة بالنسبة إلى ما سبق بالجواب فيه، وهذا هو المجتهد المطلق المنتسب. 2 - وإما أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي يستفته فيها المستفتون مما لم يتكلم فيه المتقدمون، وهذا حاجته إلى إمام يتأسى به في الأصول الممهدة في كل باب أشد من حاجة الأول، لأن مسائل الفقه متعانقة متشابكة، فروعها تتعلق بإمامتها، فلو ابتدأ هذا بنقد مذاهبهم وتنقيح أقوالهم لكان ملتزمًا لما لا يطيقه، ولا يتفرغ منه طول عمره، فلا سبيل إلا أن يحمل النظر فيما سبق فيه ويتفرغ للتفاريع، وقد يوجد لمثل هذا استدراكات على إمامه بالكتاب والسنة وآثار السلف والقياس لكنها قليلة بالنسبة إلى موافقاته، وهذا هو «المجتهد في المذهب». [ما حدث في الناس بعد المائة الرابعة] ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يمينًا وشمالاً، وحدث فيهم أمور منها: - الجدل والخلاف في علم الفقه وتفصيله على ما ذكره الغزالي: أنه لما انقرض عهد الخُلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطر إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صف الدين، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى

أهل تلك الأعصار غير العلماء وإقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم، فانبروا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز ودرك الجاه. وقد كان من قبلهم قد صنَّف ناس في علم الكلام وأكثر القيل والقال، والإيراد والجواب، وتمهيد طريق الجدال، ووقع منهم ذلك بموقع. - ومنها أنهم اطمأنوا بالتقليد، ودب في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، فقد كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليه، فلم ينقطع الكلام إلا بالمصير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة، وأيضًا فإنه لما جاء أكثر القضاة ولم يكونوا أُمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يرتب العامة فيه، ويكون شيئًا قد قيل من قبل. وقد اختصر هؤلاء كلام أئمتهم في الدعوة إلى نبذ التقليد والعمل بالكتاب والسنة وتأوَّلوا الخلاف، وثبتوا على مختار أئمتهم، فنشأ بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدل من الاستنباط، وشاع فيهم التعصُّب للمذاهب والتي نشأ عنها افتراق الكلمة، وتضليل بعضهم البعض حتى كان بعضهم ليرى خروج الإنسان من مذهب من قلَّده- ولو في مسألة- كالخروج من الملة، كأنه نبي بُعث إليه، وافترضت طاعته عليه!!، فظهر من يُفتي بعدم جواز اقتداء الحنفي بإمام شافعي!! بل وبعدم تزوُّج الحنفي من الشافعية!! ويجوز ذلك آخرون قياسًا على الكتابية!!. فحدثت من هذه البدع هذه المقامات الأربعة في المسجد الحرام (¬1)، فتعددت الجماعة وانتصر كل متمذهب لجماعة مذهبه، فبأمثال هذه البدع حصل إبليس مقصدًا من مقاصده، ألا وهو تقرير المسلمين وتشتيت شملهم، نعوذ بالله من ذلك. ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدًا وأشد انتزاعًا للأمانة من صدور الناس، حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأ، يقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (¬2) وإلى الله المشتكى وهو المستعان، وبه الثقة وعليه التكلان. ¬

(¬1) هذا ذكره المعصومي في «هدية السلطان» ص (48). (¬2) سورة الزخرف، الآية: 23.

ومع ذلك فإن لله طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم، وهم حجة الله في أرضه وإن قلُّوا، نسأل الله أن يجعلنا منهم. وبعد هذا العرض لنشأة المذاهب الفقهية واختلافها، أُنَبِّه تنبيهات لعله أن ينفع الله بها من شاء من عباده. [الأول: وجوب العمل بالكتاب والسنة] (¬1) اعلم أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى قد تضافرت بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (¬2) والمراد بما أنزل إليكم هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (¬3). فدلت هذه الآية الكريمة أن من دُعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك، أنه من جملة المنافقين، لأن العبرة بعموم الألفاظ فإن بخصوص الأسباب. وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬4) الآية، والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته وتعليقه الإيمان في قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬5) على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله. وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (¬6). ¬

(¬1) «أضواء البيان» (7/ 479 - 485). (¬2) سورة الأعراف، الآية: 3. (¬3) سورة النساء، الآية: 61. (¬4) سورة النساء، الآية: 59. (¬5) سورة النساء، الآية: 59. (¬6) سورة الزمر، الآية: 55.

ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والسنة مبينة له، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (¬1). وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬2) ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬3) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬4) فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (¬5)، والأسوة: الاقتداء. فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك باتباع سنته. وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬6)، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما اختلفوا فيه. وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬7). والاستجابة له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وهي مبينة لكتاب الله. وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتبع شيئًا إلا الوحي. وأن من أطاعه صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 55. (¬2) سورة الزمر، الآية: 18. (¬3) سورة الحشر، الآية: 7. (¬4) سورة الحشر، الآية: 7. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬6) سورة النساء، الآية: 65. (¬7) سورة القصص، الآية: 50.

قال تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (¬1). وقال تعالى في الأنعام: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (¬2). وقال تعالى في الأحقاف: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (¬3). وقال تعالى في الأنبياء: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} (¬4) الآية، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره. وقال تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} (¬5) فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي، والآيات بمثل هذا كثيرة. وإذا علمت منها أن طريقه صلى الله عليه وسلم هي اتباع الوحي، فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم فهو مطيع لله. كما قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬6) وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬7) الآية. ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالاً في الدنيا ولا شقيًّا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده. قال تعالى في طه: {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (¬8)، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي. ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه، وذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬9). ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 15. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 50. (¬3) سورة الأحقاف، الآية: 9. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 45. (¬5) سورة سبأ، الآية: 50. (¬6) سورة النساء، الآية: 80. (¬7) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬8) سورة طه، الآية: 123. (¬9) سورة البقرة، الآية: 38.

ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي، المصرح به في القرآن، لا يتحقق فيمن يقلد عالمًا ليس بمعصوم، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ، في حال كونه معرضًا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده كافية مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي والعمل به، لا تكاد تحصى، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تكاد تحصى، لأن طاعة الرسول طاعة لله. وقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1)، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2). وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (¬3). وقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} (¬4) الآية. وقال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬5). وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (¬6). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬7) الآية. وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬8). ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 7. (¬2) سورة آل عمرن، الآية: 132. (¬3) سورة آل عمرن، الآية: 132. (¬4) سورة النساء، الآية: 69. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 71. (¬6) سورة النساء، الآية: 80. (¬7) سورة النساء، الآيتان: 59. (¬8) سورة النساء، الآية: 13، 14.

وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} (¬1). وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬2). وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (¬3). وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬4). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬5). وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬6). وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬7) الآية. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (¬8) الآية. ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل به. فتخصيص تلك النصوص كلها، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 92. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 1. (¬3) سورة النور، الآية: 54. (¬4) سورة النور، الآية: 56. (¬5) سورة محمد، الآية: 33. (¬6) سورة النور، الآيتان: 51، 52. (¬7) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬8) سورة التوبة، الآية: 71.

لا يصح شيء منه لخصوص المجتهدين، الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه. ولا دليل على ذلك البتة. بل أدلة الكتاب والسنة دالة على وجوب تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه، علمًا صحيحًا قليلاً كان أو كثيرًا. اهـ. وكذلك كان الصحابة رضي الله عنه لا يدعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد كائنًا من كان، وكان ابن عباس يقول: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!». وكان الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألان الناس عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر رضي الله عنه: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها شيئًا- يعنى الجدة-وسأل الناس، فلما صلى الظهر قال: أيكم سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة شيئًا؟ فقال المغيرة بن شعبة: أنا، قال: ماذا قال؟ قال: أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسًا، قال: أيعلم ذلك أحد غيرك؟ فقال محمد بن مسلمة: صدق، فأعطاها أبو بكر السدس، وقصة سؤال عمر الناس في الغُرة ثم رجوعه إلى خبر المغيرة، وسؤاله إياهم في الوباء، ورجوعه إلى خبر عبد الرحمن ابن عوف، وغير ذلك ما هو كثير معلوم مروى في كتب السنة. [التنبيه الثاني: الموقف من الأئمة المتبوعين] أعلم أن مواقفنا من الأئمة- رحمهم الله- الأربعة وغيرهم، هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم، وهو موالاتهم ومحبتهم وتعظيمهم وإجلالهم والثناء عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة، وتقديمها على رأيهم، وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق وترك ما خالف الكتاب والسنة منها، وأما المسائل التي لا نص فيها، فالصواب النظر في اجتهادهم فيها، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا، لأنهم أكثر علمًا وتقوى منا، ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضا الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه (¬1). ¬

(¬1) «أضواء البيان» (7/ 555).

ولتقريب هذا الموقف أحب أن ألقى الضوء على بعض الأمور: (1) اعلم أن الأئمة- رحمهم الله- ليسوا معصومين وكل من الأئمة أُخذت عليه مسائل، قال العلماء: إنه خالف فيها السنة. فهذا أبو حنيفة- رحمه الله وهو أكثرهم في ذلك لأنه أكثرهم رأيًا- يترك العمل بحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال، وبحديث تغريب الزاني البكر وغير ذلك. وأخذ على مالك إنكاره صيام الست من شوال، واستحسانه صيام الجمعة ولو مفردًا، لأنه لم يبلغه السنة فيهما، وترك مالك العمل بحديث خيار المجلس، وهو متفق عليه!! إلى غير ذلك. وأخذ علي الشافعي قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة بدون حائل، مع ورود ما يخالفه في السنة، على أن له أجوبة عليها. وأخذ على أحمد: صوم يوم الشك احتياطًا لرمضان مع ورود النص بالنهى عن صومه، وغير ذلك. وليس المقصود هنا انتقاص الأئمة وعيبهم فيما أخذ عليهم، لأنهم- رحمهم الله- بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته، والمخطئ منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطأه، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب تقديمها على أقوالهم، لأنهم غير معصومين من الخطأ (¬1). (2) ليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر في تركه (¬2). ¬

(¬1) انظر «أضواء البيان» (7/ 556 - 576). (¬2) «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» من «مجموع الفتاوى» (20/ 232).

(3) أن أعذار الأئمة- رحمهم الله- في مخالفة السنة، ثلاثة أصناف (¬1): الأول: عدم اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله: وهذا له أسباب: 1 - أن لا يكون الحديث قد بلغه أصلاً، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالمًا بموجبه، وإذا لم يكن بلغه وقال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو استصحاب، فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى، وهذا هو السبب الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأمة (¬2). 2 - أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده. 3 - أن يعتقد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره. 4 - أن يشترط في خبر الواحد العدل الضابط شروطًا يخالفه فيها غيره، كاشتراط أن يكون فقيهًا إذا خالف قياس الأصول وغير ذلك. 5 - أن يكون الحديث قد بلغه، وثبت عنده، لكن نسيه. الصنف الثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، ولهذا أسباب منها: 1 - عدم معرفة بدلالة الحديث: تارة لكون اللفظ في الحديث غريبًا عنده ومما يختلف العلماء في تفسيره، وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة لكون اللفظ مشتركًا مجملاً، أو متردداً بين حقيقة ومجاز، فيحمله على الأقرب عنده، وإن كان المراد هو الآخر، كما حمل جماعة من الصحابة في أول الأمر: الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل وغير ذلك. وتارة لكون الدلالة من النص خفية، فإن دلالات الأقوال متسعة جدًّا، وإدراك وفهم وجوه الكلام متفاوت. 2 - اعتقاده أنه لا دلالة في الحديث أصلاً، والفرق ببن هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، وهذا عرفها لكنه لم يعتقد أنها دلالة صحيحة. ¬

(¬1) انظر «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» مع «مجموع الفتاوى» (20/ 231 - 290). (¬2) انظر أمثلة وقوع ذلك في الصحابة وغيرهم في المصدر السابق (20/ 234 - 238).

3 - اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة: مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفى الوجوب، أو غير ذلك عن المعارضات. الصنف الثالث: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على نسخه أو تأويله مما لا يعتقده غيره، أو لا يكون في الحقيقة معارضًا راجحًا. فهذه الأسباب وغيرها أكثر ما قد يُعذر الإمام مخالفته الحديث من أجله، وهي في الحقيقة أسباب اختلافهم، رحمهم الله. (4) وإذا تقرر هذا، فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم؛ إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم، إذ تطرُّق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم، والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر، ورأى العالم ليس كذلك، والغرض أن العالم قد يكون في نفسه معذورًا في تركه للحديث، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك، وقد قال سبحانه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) وقال سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬2). وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب (المتقدمة) فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم، فلا يجور أن نعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم- يُعاقب، لكونه حلل الحرام أو حرَّم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله، وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقال: إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد، وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافًا إلا شيئًا يحكى عن بعض معتزلة بغداد ... فمن لم يبلغه الحديث المحرِّم واستند في الإباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورًا، ولهذا كان هذا مأجورًا محمودًا لأجل اجتهاده، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 134. (¬2) سورة النساء، الآية: 59.

قال الله سبحانه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ....} (¬1) {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (¬2) فاختص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم. وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (¬3) فتبَّين أن المجتهد مع خطئه له أجر، وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له، لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬4) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬5). 5 - الأئمة متفقون على منع تقليدهم، التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدَّعون أنهم أتباعهم، ويتمسكون بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء، والله عز وجل يقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (¬6) (¬7). وإليك بعض ما وقفنا عليه من أقوالهم رحمهم الله- في ذلك (¬8): 1 - أبو حنيفة رحمه الله: فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روى عنه أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة؛ كلها تؤدى إلى شيء واحد وهو: وجوب الأخذ بالحديث، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له: 1 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». 2 - «لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه». وفى رواية: «حرام على مَن لم يعرف دليلي أن يفتى بكلامي». ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 78. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 79. (¬3) صحيح. أخرجه البخاري، ومسلم. (¬4) سورة الحج، الآية: 78. (¬5) سورة البقرة، الآية: 185. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 3. (¬7) «رفع الملام» من «الفتاوى» (20/ 250 - 252) بتصرف يسير. (¬8) من مقدمة «صفة صلاة النبي» للعلامة الألباني -رحمه الله- (ص 46 - 57).

زاد في رواية: «فإننا بشر، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا». وفى أخرى: «ويحك يا يعقوب! (هو أبو يوسف)، لا تكتب كل ما تسمع منى، فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدًا، وأرى الرأي غدًا وأتركه بعد غد». 3 - «إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فاتركوا قولي». 2 - مالك بن أنس رحمه الله: وأما الإمام مالك بن أنس- رحمه الله- فقال: 1 - «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». 2 - «ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم». 3 - قال ابن وهب: سمعت مالكًا سئل تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خفَّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبى عبد الرحمن الحبلى عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلُك بخنصره ما بين أصابع رجليه- فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يُسأل، فيأمر بتخليل الأصابع». 3 - الشافعي، رحمه الله: وأما الإمام الشافعي - رحمه الله- فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب، وأتباعه أكثر عملاً بها وأسعد، فمنها: 1 - «ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أصلَّتُ من أصل في عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي». 2 - «أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد».

3 - «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلت». وفى رواية: «فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد». 4 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». 5 - «أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح؛ فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيًّا أو بصريًّا أو شاميًّا؛ حتى أذهب إليه إذا كان صحيحًا». 6 - «كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي». 7 - «إذا رأيتموني أقول قولاً، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه؛ فاعلموا أن عقلي قد ذهب». 8 - «كل ما قلت؛ فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي أولى، فلا تقلدوني». 9 - «كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه منى». 4 - أحمد بن حنبل، رحمه الله: وأما الإمام أحمد؛ فهو أكثر الأئمة جمعًا للسنة وتمسكًا بها، حتى «كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي»، ولذلك قال: 1 - «لا تقلدني، ولا تقليد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا». وفى رواية: «لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيه مخير». وقال مرة: «الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد التابعين مخير». 2 - «رأى الأوزاعي، ورأى مالك، ورأى أبى حنيفة كله رأى، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار». 3 - «من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو على شفا هلكة». تلك هي أقوال الأئمة- رضي الله تعالى عنهم- في الأمر بالتمسك بالحديث، والنهى عن تقليدهم دون بصيرة، وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً، وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال

الأئمة؛ لا يكون مباينًا لمذهبهم، ولا خارجًا عن طريقتهم، بل هو متاع لهم جميعًا، ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم، بل هو بذلك عاصٍ لهم، ومخالف لأقوالهم المتقدمة، والله تعالى يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬1) وقال {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: «فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأى عظيم من الأمة؛ فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدي به من رأى أي معظَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم معظَّم في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره؛ فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورًا له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه». قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر، وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل أن الشافعي- رحمه الله- أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها، أو أخذ بخلافها، ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد- رحمه الله- المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفرادًا واجتماعًا في مجلد ضخم؛ قال في أوله: «إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام، وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها؛ لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم». ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 65. (¬2) سورة النساء، الآية: 63.

ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعًا للسنة ولذلك كله كان أتباع الأئمة {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (¬1) لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها، بل قد تركوا كثيرًا منها لمَّا ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين: محمد بن الحسن وأبا يوسف- رحمهما الله- قد خالفا شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب، وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك، ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي وغيره، ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال بنا الكلام، ولخرجنا به عما قصدنا إله في هذا البحث من الإيجاز، فلنقتصر على مثالين اثنين: 1 - قال الإمام محمد في «موطئه» (ص 158): «قال محمد: أما أبو حنيفة رحمه الله فكان يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا، فإن الإمام يصلى بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه» إلخ. 2 - وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبى يوسف «كان يفتى بخلاف قول الإمام أبى حنيفة كثيرًا، لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره فيفتى به»، ولذلك «كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه»؛ كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم، فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الأربعة وغيرهم كما تقدم. (6) هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين؟ لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ألزم الناس أن يلتزموا مذهب واحد من الأئمة بعينه، وإنما أوجب اتباعه صلى الله عليه وسلم، فإن الحق محصور فيما جاء به فإذا تأمل المنصف يظهر له أن التقليد لمذهب إمام معين من غير نظر إلى دليل جهل عظيم وبلاء جسيم، بل إنه مجرد هوى وعصبية، والأئمة المجتهدون قاطبة على خلافه، كما رأيت كلامهم، فمن اتبع الدليل فقد اتبع إمامه وسائر الأئمة ويكون متبعًا لكتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون خارجًا عن مذهبهم إذا صمم وجمد على التقليد على خلاف الدليل، لأن إمامه لو بلغه الحديث السالم عن المعارض، لترك ¬

(¬1) سورة الواقعة، الآيتان: 13، 14.

رأيه واتبع الحديث، فالمصمم على التقليد في هذه الحالة عاصٍ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم متبع لهواه (¬1) {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (¬2) وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً} (¬3). قال ابن حزم رحمه الله (¬4). «التقليد حرام ولا يحل لأحد أن يأخذ بقول أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا برهان لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (¬5)، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}. (¬6) وقال مادحًا لمن لم يقلد: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬7) وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬8) فلم يبح الله تعالى رد التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة، وقد صح إجماع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم وإجماع التابعين أولهم عن آخرهم وإجماع تابعي التابعين أولهم عن آخره - على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو ممن قبلهم فيأخده كله. فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبى حنيفة أو جميع أقوال مالك أو جميع أقوال الشافعي أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم ولم يترك قول من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة وغير صارف ذلك إلى قول إنسان بعينه - أنه قد خالف إجماع الأمة كلها أولها عن آخرها بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفًا ولا إنسانًا في جميع الأعصار المحمودة ¬

(¬1) «هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان» للمعصومي، تحقيق سليم الهلالي (ص 76). (¬2) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬3) سورة النساء، الآية: 59. (¬4) نقله عنه الدهلوي في «حجة الله البالغة» (1/ 154 - 155) ولم أظفر به عاليًا في مظانه من «المحلى» أو «الإحكام»!!. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 3. (¬6) سورة البقرة، الآية: 170. (¬7) سورة الزمر، الآيتان: 17، 18. (¬8) سورة النساء، الآية: 59.

الثلاثة، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين من هذه المنزلة، وأيضًا فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهوا عن تقليد غيرهم فقد خالفهم من قلدهم» اهـ. قال المعصومي (¬1): والعجب من هؤلاء المقلدين لهذه المذاهب المبتدعة الشائعة والمتعصبين لها، فإن أحدهم يتبع ما نُسب إلى مذهبه مع بُعده عن الدليل، ويعتقده كأنه نبي مرسل، وهذا ناى عن الحق، وبُعد عن الصواب، وقد شاهدنا وجربنا أن هؤلاء المقلدين يعتقدون أن إمامهم يمتنع على مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه أنه لا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه، وهذا هو طبق ما رواه الترمذي وغيره عن عدى بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (¬2)، فقلت: يا رسول الله، إنهم ما كانوا يعبدونهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنهم إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه، فذلك عبادتهم» (¬3) اهـ. ونقل عن الشافعي قوله (¬4): «من قلَّد معيَّنًا في تحريم شيء أو تحليله، وقد ثبت الحديث على خلافه، ومنعه التقليد عن العمل بالسنة؛ فقد اتخذ من قلَّده ربًّا من دون الله تعالى يحل له ما حرم الله، ويحرم عليه ما أحل الله» اهـ. ونقل المرداوى (¬5) عن شيخ الإسلام قوله: «من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب وإلا قُتل، لأن هذا الإيجاب إشراك بالله في التشريع الذي هو من خصائص الربوبية» اهـ. وقد ذكر الكمال بن الهمام الحنفي: أن التزام مذهب معين غير لازم على الصحيح، لأن التزامه غير ملزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة ¬

(¬1) «هدية السلطان» (ص: 52 - 53). (¬2) سورة التوبة، الآية: 31. (¬3) حسنه الألباني. أخرجه الترمذي والبيهقي (10/ 116) بسند ضعيف وله شاهد موقوف على حذيفة وآخر مرسل، وبهما حسنه الألباني في تخريجه للمصطلحات الأربعة ص (18 - 20). (¬4) «هدية السلطان» (ص 69). (¬5) «الإنصاف» للمرداوي (11/ 170).

فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بلزوم التمذهب بمذهب معين. اهـ (¬1). وقال القرافي- رحمه الله-: «وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكل وعمر، وقلدهما، فله أن يستفتى آبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم بغير نكير» اهـ (¬2). «فلم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يُسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئًا. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين، ولا تابعي التابعين، فليُكذِّبنا المقلِّدون برجل واحد، سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم اهـ (¬3). ورحم الله الإمام مالك إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلاله، لما أراد المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمع في «الموطأ» لم يقبل ذلك منه، ورده عليه!! (7) قضيتان اغترَّ بهما المقلِّدون (¬4): اعلم أن المقلدين، اغتروا بقضيتين ظنوهما صادقتين، وهما بعيدتان من الصدق. وظن صدقهما يدخل أوليًّا في عموم قوله تعالى: {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (¬5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». أما الأولى منهما فهي ظنهم أن الإمام الذي قلدوه لابد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله، ولم يفته منها شيء وعلى جميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفته منها شيء. ¬

(¬1) «هدية السلطان» (ص 56). (¬2) «أضواء البيان» (7/ 488). (¬3) «أضواء البيان» (7/ 509). (¬4) «أضواء البيان» للشنقيطي (7/ 533 - 539). (¬5) سورة يونس، الآية: 36.

ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه. وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح. ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيئًا من الوحي الموجود بين أيديهم. وهذا الظن كذلك باطل بلا شك. والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله. ومِن أصرح ذلك أن الإمام مالكًا- رحمه الله- إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبى جعفر ورده عليه. وأخبره أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في أقطار الدنيا، كلهم عنده علم ليس عند الآخر. ولم يُجمع الحديث جمعًا تامًا بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة. لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روى عنهم كثير من ألأحاديث لم يكن عند غيرهم، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان. وكثرة علم العالم لا تستلزم اطلاعه على جميع النصوص. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه. وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها كثيرًا فبينها له ولم يفهم. فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال: ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: «يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء». فهذا من أوضح البيان، لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بآية الصيف {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ

يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} (¬1)، والآية تبين معنى الكلالة بيانًا شافيًا، لأنها أوضحت أنها: ما دون الولد والوالد. فبينت نفى الولد بدلالة المطابقة في قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (¬2) وبينت نفى الوالد بدلالة الالتزام في قوله تعالى: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (¬3)، لأن ميراث الأخت يستلزم نفى الولد. ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم. وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه. وقد خفي معنى هذا أيضًا على أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة: أقول فيها برأيي. فإن كان صوابًا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، هو ما دون الولد والوالد. فوافق رأيه معنى الآية. والظاهر أنه لو كان فاهمًا للآية لكفته عن الرأي. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «تكفيك آية الصيف». وهو تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسئول عنه. ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الآية. وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم. فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفى ويكفى. وقد خفي على أبى بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أعطى الجدة السدس حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس» فرجع إلى قولهما. ولم يعلم عمر صلى الله عليه وسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 176. (¬2) سورة النساء، الآية: 176. (¬3) سورة النساء، الآية: 176.

ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. ولم يعلم أيضًا بأخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثًا حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما. ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى أخبرته قريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها في حتى تنقضي عدتها. وأمثال هذا أكثر من أن تحصر. فهؤلاء الخلفاء الراشدون- وهم هم، خفي عليهم قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه مع ملازمتهم له، وشدة حرصهم على الأخذ منه. فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم. فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذين نشأوا وتعلموا بعد تفوق الصحابة في أقطار الدنيا؟ وروى عنهم الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها؟ والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغنى من الحق شيئًا، وليس بصحيح قطعًا. لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها، ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره. وهو معذور في ترك العمل به، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث. ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ. وقد يكون الإمام اطلع على الحديث، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعف السند. ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى.

وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه؛ لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها. إلى أسباب أخر كثيرة، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص. وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها ظن باطل. وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله. فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم- رحمهم الله- من أنهم قد يخطئون ونهوا عن اتباعهم في كل شيء يخالف نصًا من كتاب أو سنة. فالمتبع لهم حقيقة، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئًا. أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة، فهو مخالف لهم لا متبع لهم. وذعواه اتباعهم كذب محض. وأما القضية الثانية: فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ. وإيضاحه: أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ يكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لدلك الإمام الذي قلدوه. لأنهم متبعون له فيجرى عليهم ما جرى عليه. وهذا ظن كاذب باطل بلا شك. لأن الإمام الذي قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاويهم. فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل. ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده. وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله وأعرضوا عن تعليمهما إعراضًا كليًا مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلو الوحي المنزل من الله.

فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم؟ وهذا الفرق العظيم بينهم وبينهم، يدل دلالة واضحة على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق. وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل. والذي يجب عليهم من تعلم ذلك، هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم. وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة، سهلة التناول من الكتاب والسنة. والحاصل أن المعرض عن كتاب الله، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه، مما أنزل الله، وما سنه رسوله، المقدم كلام الناس على كتاب الله وسنة رسوله - لا يكون له البتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله، ولم يقدم عليهما شيئًا ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة. فأين هذا من هذا؟ سارت مشرقة وسرت مغربًا شتان بين مشرق ومغرب (8) شبهة: منع العمل بالكتاب والسنة مطلقًا إلا للمجتهد (¬1): اعلم أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقًا إلا للمجتهدين، يقولون: إن شروط الاجتهاد هي: كون المجتهد بالغًا عاقلاً شديد الفهم طبعًا، عارفًا بالدليل العقلي، الذي هو استصحاب العدم الأصلي حتى يرد نقل صارف عنه. عارفًا باللغة العربية وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية. وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود، والرسول، وشرائط البرهان. عارفًا بالأصول، عارفًا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة. ¬

(¬1) «أضواء البيان» (7/ 477 - 479).

ولا يشترط عندهم حفظ النصوص، بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث. عارفًا بمواقع الإجماع والخلاف. عارفًا بشروط المتواتر والآحاد والصحيح والضعيف. عارفًا بالناسخ والمنسوخ. عارفًا بأسباب النزول. عارفًا بأحوال الصحابة وأحوال رواة الحديث، اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس. اهـ. ولا يخفى أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصًا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة، ولا إجماعًا دالاً على ذلك. وإنما مستندهم فيذلك هو تحقيق المناط في ظنهم. وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يشترط له إلا شرط واحد، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما. ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة. وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد. ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها في تحقيق المناط. لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط، أي بينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل. فاشترطوا جميع الشروط المذكورة، ظنًّا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها. وهذا الظن فيه نظر. لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا يمتنع عليه، ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به.

وسؤال أهل العلم: هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلًا. وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد، بل هو من نوع الاتباع. وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية. والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة. (9) شبهة: الامتثال لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}: اعلم أن من حجج المقلدين ادعاءهم الامتثال لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1) قالوا: فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه، وهذا نصُّ قولنا!!. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال- في حد صاحب الشجة-: «ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العيى السؤال» (¬2). قال الشنقيطي رحمه الله (¬3): أما استدلالهم بآية: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فهو استدلال في غير محله. فإن الآية لا تدل على هذا النوع من التقليد الأعمى الذي هم عليه من التزام جميع أقوال رجل واحد وترك جميع ما سواها. ولاشك أن المراد بأهل الذكر أهل الوحي الذي يعلمون ما جاء من عند الله كعلماء الكتاب والسنة. فقد أُمروا أن يسألوا أهل الذكر ليُفتوهم بمقتضى ذلك الذكر الذي هو الوحي. ومن سأل عن الوحي وأعلم به وبُين له كان عمله به اتباعًا للوحي لا تقليدًا، واتباع الوحي لا نزاع في صحته. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 43. (¬2) سيأتي الحديث في «المسح على الجبيرة» من هذا الكتاب إن شاء الله. (¬3) «أضوان البيان» (7/ 510، 511).

وإن كانت الآية تدل على نوع تقليد في الجملة، فهي لا تدل على التقليد الذي قدمنا أنه لا خلاف فيه بين المسلمين، وهو تقليد العامي الذي تنزل به النازلة عالمًا من العلماء، وعمله بما أفتاه به من غير التزام منه لجميع ما يقوله ذلك العالم، ولا تركه لجميع ما يقوله غيره. وأما استدلالهم بالحديث الوارد في الرجل الذي أصابته شجة في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه: هل يعلمون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نرى لك رخصة وأنت قادر على أداء، فاغتسل فمات. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «قتلتوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيى السؤال». فهو استدلال أيضًا في غير محله، وهو حجة أيضًا على المقلدين لا لهم. قال في إعلام الموقعين في بيان وجه ذلك ما نصه: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عق حُكمه، وسنته فقال: قتلوه قتلهم الله، فدعا عليهم حين أفتوا بغير علم. وفى هذا تحريم الإفتاء. فإنه ليس علمًا باتفاق الناس. فإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله، فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم. فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم. اهـ. (10) مناظرة مقلد: ذكر الإمام ابن عبد البر- رحمه الله- في كلامه في ذم التقليد ومنعه، بعد ما بين ذلك بالآثار، أن جماعة من الفقهاء وأهل النظر احتجوا على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية، فقال (¬1): «فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني- رحمه الله-: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فأن قال: نعم، أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال: حكمت به بغير حجة. ¬

(¬1) «جامع بيان العلم وفضله».

قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحث الفروج، وأتلفت الأموال، قد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ قال الله عز وجل: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} (¬1) أي من حجة بهذا؟ فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة، لأني قلدت كبيرًا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت على. قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك، فتقليد معلم معلمك أولى. لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك: كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك. فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه. وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علمًا؟ ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علمًا، وهذا تناقض؟ فإن قال: لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك. قيل له: كذلك من تعلم من معلمك، فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فلزمك تقليده وترك تقليد معلمك. وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك. لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك. فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء، أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه في قياس قوله والأعلى للأدنى أبدًا. وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضًا وفسادًا. اهـ. ثم قال أبو عمر - رحمه الله - بعد هذا ما نصه: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 68.

فإن قال: قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم أُحصها، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم منى. قيل له: أما العلماء، إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه. ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض. فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض؟. وكلهم عالم، والعالم الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه. فإن قال: قلدته لأني أعلم أنه صواب. قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع؟ فإن قال: نعم. أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل. وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني. قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك. فإنك تجد من ذلك خلقًا كثيرًا ولا تخُصَّ من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك. فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس. قيل له: فإنه إذًا أعلم من الصحابة، وكفى بقول مثل هذا قبحًا. فإن قيل: أنا أقلد بعض الصحابة. قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم، ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟ على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار، عن ابن القاسم عن مالك، قال: ليس كل ما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬1). فإن قال: قصري وقلة علمي يحملني على التقليد. قيل له: أما من قلد فيما ينزل من أحكام شريعته عالمًا يتفق له على علمه، ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 18.

فيصدر في ذلك عما يخبره - فمعذور لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولابد له من تقليد عالم، فيما جهله، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك. ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه؟. وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب، فيما خالفه فيه. فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة. وكفى بهذا جهلاً وردًّا للقرآن، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬1). وقال: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2). وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ويتيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا. اهـ. كله من جامع ابن عبد البر، رحمه الله. (11) التقليد والاتباع: قال الشنقيطي، رحمه الله (¬3): اعلم أن مما لا بد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن محل الاتباع لا يجوز التقليد فيه بحال. وإيضاح ذلك: أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، لا يجوز فيه التقليد بحال. لأن كل اجتهاد يخالف النص فهو اجتهاد باطل، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد. لأن نصوص الكتاب والسنة حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنًا من كان. ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬2) سورة البقرة، الآية: 80. (¬3) «أضواء البيان» (7/ 547 - 550).

ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا إذ لا أسوة في غير الحق. فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط. ولا اجتهاد، ولا تقليد فيما دل عليه نص من كتاب أو سنة، سالم من المعارض. والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم. وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه. وهو قوله: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح. وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع. اهـ. وقال ابن القيم -رحمه الله - في إعلام الموقعين: وقد فرق الإمام أحمد -رحمه الله - بين التقليد والاتباع. فقال أبو داود: سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخير. انتهى محل الغرض منه. قال مقيده -عفا الله عنه، وغفر له-: أما كون العمل بالوحي اتباعًا لا تقليدًا فهو أمر قطعي. والآيات الدالة على تسميته اتباعًا كثيرة جدًّا: كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1). وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (¬2) الآية. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 203. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 3.

وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} (¬1). وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (¬2). وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬3). وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬4). وقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (¬5). والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة. فالعمل بالوحي هو الاتباع كما دلت عليه الآيات. ومن المعلوم الذي لا شك فيه، أن اتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه بوجه من الوجوه، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه. فاتضح من هذا الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن مواضع الاتباع ليست محلاًّ أصلاً للاجتهاد ولا للتقليد. فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة. لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنًا من كان كما لا يخفى. وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد. وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد. فجعل شرط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط، كما ترى. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 55. (¬2) سورة يونس، الآية: 15. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 155. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 106. (¬5) سورة الأحقاف، الآية: 9.

والتحقيق أن اتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه. وأنه يصح علم حديث والعمل به، وعلم آية والعمل بها. ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد. فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة، ويعمل بكل ما علم من ذلك، كما كان عليه أول هذه الأمة من القرون المشهود لها بالخير. (12) تنبيه لمقلَّدي الأمة: اعلم أن كل من يرى أنه لابد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد غير ذلك الإمام: يجب عليه أن بتنبَّه تنبُّهًا تامًّا للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقًّا، وبين ما أُلحق بعده على قواعد مذهبه، وما زاده المتأخرون وقتًا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه لتبرأ منها وأنكر على ملحقها، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح. ويزيده بطلانًا نسبته إلى الله ورسوله، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم (¬1). (13) اتباع الدليل لا يعني هجر أقوال الأئمة: يزعم بعض مقلدة المذاهب أن الدعوة إلى اتباع الدليل من الكتاب والسنة وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها؛ ترك للأخذ بأقوالهم مطلقًا والاستفادة من اجتهاداتهم!!. قال العلامة الألباني رحمه الله (¬2): إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب، بل هو باطل ظاهر البطلان، كما ¬

(¬1) «أضواء البيان» للشنقيطي (7/ 576) وما بعدها، وهناك أمثلة على ذلك فراجعها إن شئت. (¬2) مقدمة «صفة صلاة النبي» (ص 69 - 70).

يبدو ذلك جليًّا من الكلمات السابقات، فإنها كلها تدل على خلافه، وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب دينًا، ونصبها مكان الكتاب والسنة؛ بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع، أو عند إرادة استنباط أحكام جديدة لحوادث طارئة؛ كما يفعل متفقهة هذا الزمان، وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية، والنكاح والطلاق، وغيرها دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة ليعرفوا الصواب منها من الخطأ، والحق من الباطل، وإنما على طريقة «اختلافهم رحمة»! وتتبع الرخص والتيسير أو المصلحة- زعموا- وما أحسن قول سليمان التيمى، رحمه الله تعالى: «إن أخذت برخصة كل عالم؛ اجتمع فيك الشر كله». رواه ابن عبد البر (2/ 91 - 92) وقال عقبه: «هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا». فهذا الذي ننكره، هو الإجماع كما ترى. وأما الرجوع إلى أقوالهم والاستفادة منها، والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح- فأمر لا ننكره، بل نأمر به ونحض عليه؛ لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة. قال العلامة ابن عبد البر - رحمه الله تعالى- (2/ 172): «فعليك يا أخي! بحفظ الأصول والعناية بها، واعلم أن من عنى بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن، ونظر في أقاويل الفقهاء- فجعلها عونًا له على اجتهاده، ومفتاحًا لطرائق النظر، وتفسيرًا لجمل السنن المحتملة للمعاني- ولم يقلد أحدًا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها، واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم، ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرءوا أنفسهم منه؛ فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه، والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم.

ومن أعفَّ نفسه من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره؛ فهو ضال مضل، ومن جهل ذلك كله أيضًا وتقحم في الفتوى بلا علم، فهو أشد عمى، وأضل سبيلاً». فهذا هو الحق ما به خفاء فدعني عن بنيات الطريق ا. هـ. أقول: في هذه التنبيهات ما يكفي المنصف في رجوعه إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ونبذ ما يخالفهما، وفي ردِّه عن التقليد على غير هدى، فإن أبى أحدهم إلا التقليد، فنقول: قد نقل ابن عبد البر وغيره من العلماء «الإجماع على أن المقلِّد ليس معدودًا من أهل العلم» ولا يجوز للمقلِّد الاعتراض على المجتهد، فإن قال: لست بمجتهد، قلنا: إن الاجتهاد يتجزأ كما ذكر أهل العلم، وليس من شرط المجتهد أن يجتهد في كل مسألة، فلا يُقبل اعتراضك، «فما للأعمى ونقد الدراهم»!!. (14) وأخيرًا: هل في الاختلاف توسعة ورحمة؟ وهل الحق يتعدد؟ كثير ممن ينتسبون إلى المذاهب الفقهية - خصوصًا هذه الأيام- هم على النقيض من أولئك المتشبثين بمذهب بعينه لا يحيدون عنه؛ فهم يرون صحة الأخذ بأي مذهب كان مهما كان مستنده، فأجازوا اختيار ما راق لهم ووافق هواهم وحقق مصالحهم من هذه المذاهب، ولو كان الدليل على خلافه، بحجة أنه قال به بعض العلماء، وأن هذا من التوسعة على الأمة مستدلين بحديث «اختلاف أمتي رحمة»!!. وقد أجاب عن هذه الشبهة العلامة الألباني -رحمه الله- فقال (¬1): والجواب من وجهين: الأول: أن الحديث لا يصح، بل هو باطل لا أصل له؛ قال العلامة السبكي: «لم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع». قلت: وإنما روى بلفظ: «... اختلاف أصحابي لكم رحمة». ¬

(¬1) «صفة الصلاة» (ص: 59 - 66).

و «أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم». وكلاهما لا يصح: الأول واه جدًّا، والآخر موضوع، وقد حققت القول في ذلك كله في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (رقم 58 و59 و61). الثاني: أن الحديث -مع ضعفه- مخالف للقرآن الكريم، فإن الآيات الواردة فيه -في النهي عن الاختلاف في الدين، والأمر بالاتفاق فيه- أشهر من أن تذكر، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال، قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬1). وقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬2). وقال: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (¬3)، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون، وإنما يختلف أهل الباطل؛ فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة؟! فثبت أن هذا الحديث لا يصح، لا سندًا ولا متنًا، وحينئذ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة. 2 - وقال آخرون: إذا كان الاختلاف في الدين منهيًّا عنه؛ فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين؟ فالجواب: نعم؛ هناك فرق كبير بين الاختلافين، ويظهر ذلك من شيئين: الأول: سببه. والآخر: أثره. فأما اختلاف الصحابة؛ فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم؛ لا اختيارًا منهم للخلاف، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم، استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليًّا، ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها؛ لعدم تحقق شرط المؤاخذة، وهو القصد أو الإصرار عليه. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 46. (¬2) سورة الروم، الآيتان: 31، 32. (¬3) سورة هود، الآيتان: 118، 119.

وأما الاختلاف القائم بين المقلدة؛ فلا عذر لهم فيه غالبًا، فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة، فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه، فكأن المذهب عنده هو الأصل، أو هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ!. وآخرون منهم على النقيض من ذلك، فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع- كشرائع متعددة، كما صرح بذلك بعض متأخريهم: لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء، ويدع ما شاء، إذ الكل شرع! وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل: «اختلاف أمتي رحمة»، وكثيرًا ما سمعناهم يستدلون به على ذلك!. ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم: إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة! ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده. قال ابن القاسم: «سمعت مالكًا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس: «فيه توسعة»؛ ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب». وقال أشهب: «سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أتراه من ذلك في سعة؟. فقال: لا والله حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟! ما الحق والصواب إلا واحد». وقال المزني صاحب الإمام الشافعي: «وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطَّأ بعضهم بعضًا، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها، ولو كان قولهم كله صوابًا عندهم؛ لما فعلوا ذلك، وغضب عمر بن الخطاب من اختلاف أُبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في الثوب الواحد؛ إذ قال أُبي: إن الصلاة في الثوب الواحد حسن جميل وقال ابن

مسعود: إنما كان ذلك والثياب قليلة. فخرج عمر مغضبًا، فقال: اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن ينظر إليه ويؤخذ عنه! وقد صدق أُبي، ولم يأل ابن مسعود، ولكني لا أسمع أحدًا يختلف فيه بعد مقامي هذا إلا فعلت به كذا وكذا». وقال الإمام المزني أيضًا: «يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة، فقال أحدهما: حلال، والآخر: حرام؛ أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق: أبأصل قلت هذا أم بقياس؟ فإن قال: بأصل؛ قيل له: كيف يكون أصلاً والكتاب ينفي الاختلاف؟! وإن قلت: بقياس؛ قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل، فضلاً عن عالم». فإن قال قائل: يخالف ما ذكرته عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد ما جاء في كتاب «المدخل الفقهي» للأستاذ الزرقا (1/ 89): «ولقد همَّ أبو جعفر المنصور ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه «الموطأ» قانونًا قضائيًّا للدولة العباسية، فنهاهما مالك عن ذلك وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب». وأقول: إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك -رحمه الله- لكن قوله في آخرها: «وكل مصيب» مما لا أعلم له أصلاً في شيء من الروايات والمصادر التي وقفت عليها، اللهم! إلا رواية واحدة أخرجها أبو نُعيم في «الحلية» (6/ 332) بإسناد فيه المقدام بن داود، وهو ممن أوردهم الذهبي في «الضعفاء»، ومع ذلك فإن لفظها: «وكل عند نفسه مصيب»، فقوله: «عند نفسه» يدل على أن رواية «المدخل» مدخولة، وكيف لا تكون كذلك وهي مخالفة لما رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد كما سبق بيانه؟! وعلى هذا كل الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة المجتهدين وغيرهم. قال ابن عبد البر (2/ 88).

«ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطَّأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابًا كله، ولقد أحسن من قال: إثبات ضدين معًا في حال أقبح ما يأتي من المحال فإن قيل: إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام؛ فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه «الموطأ» ولم يجبه إلى ذلك؟ فأقول: أحسن ما وقفت عليه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في «شرح اختصار علوم الحديث» (ص 31) وهو أن الإمام مالك قال: «إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها». وذلك من تمام علمه وإنصافه، كما قال ابن كثير، رحمه الله تعالى. فثبت أن الخلاف شرٌّ كلُّه، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم، ووفقنا لاتباعهم. فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة. وخلاصته: أن الصحابة اختلفوا اضطرارًا، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وأما المقلدة - فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منه- فلا يتفقون ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه، فشتان إذن بين الاختلافين. ذلك هو الفرق من جهة السبب. وأما الفرق من جهة الأثر فهو أوضح؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم -مع اختلافهم المعروف في الفروع - كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة، ويصدع الصفوف، فقد كان فيهم مثلًا من يرى مشروعية الجهر بالبسملة، ومن يرى عدم مشروعيته، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين، ومن لا يراه، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة، ومن لا يراه،

ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعًا وراء إمام واحد، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلاف مذهبي. وأما المقلدون فاختلافهم على النقيض من ذلك تمامًا؛ فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة، فهم يأبون أن يصلوا جميعًا وراء إمام واحد؛ بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه، وقد سمعنا ذلك، ورأيناه كما رآه غيرنا، كيف لا وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة اليوم على الكراهة أو البطلان؟! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع، يصلى فيها أئمة أربعة متعاقبين، وتجد أناسًا ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي! بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين؛ مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعية، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية -وهو الملقب بـ «مفتي الثقلين» - فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية، وعلل ذلك بقوله: «تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب»! ومفهوم ذلك -ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم- أنه لا يجوز العكس، وهو تزوج الشافعي بالحنفية، كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة؟! هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السيء الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف اختلاف السلف، فلم يكن له أي أثر سيء في الأمة، ولذلك فهم في منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين -بخلاف المتأخرين- هدانا الله جميعًا إلى صراطه المستقيم.

1 - كتاب الطهارة

1 - كتاب الطهارة

تعريف الطهارة وأهميتها

تعريف الطهارة وأهميتها الطهارة لغة: النظافة والخلوص من الأوساخ أو الأدناس الحسية، كالأنجاس من بول وغيره، والمعنوية: كالعيوب والمعاصي. والتطهير: التنظيف، وهو إثبات النظافة في المحل (¬1). والطهارة شرعًا: رفع ما يمنع الصلاة من حديث أو نجاسة بالماء [أو غيره] أو رفع حكمه بالتراب (¬2). وأما حكم الطهارة: فإن طهارة النجس وإزالته واجبة مع الذكر والقدرة، قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬3). وقال سبحانه: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬4). وأما الطهارة من الحدث فتجب لاستباحة الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور» (¬5). وأما أهميتها: فإن الطهارة: 1 - شرط لصحة صلاة العبد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ» (¬6). فإن أداء الصلاة بالطهارة تعظيم لله، والحدث والجنابة -وإن لم يكونا نجاسة مرئية- فهي نجاسة معنوية توجب استقذار ما حلَّ بها، فوجودها يخل بالتعظيم، وينافي مبدأ النظافة. 2 - وقد امتدح الله تعالى المتطهرين، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬7) وأثنى عز وجل على أهل مسجد قباء بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬8). ¬

(¬1) اللباب شرح الكتاب (1/ 10) والدر المختار (1/ 79). (¬2) المغنى لابن قدامة (1/ 12) ط. هجر. (¬3) سورة المدثر، الآية: 4. (¬4) سورة البقرة، الآية: 125. (¬5) صحيح مسلم (224). (¬6) متفق عليه: البخاري (135)، ومسلم (225). (¬7) سورة البقرة، الآية: 22. (¬8) سورة التوبة، الآية: 108.

أنواع الطهارة

3 - أن التقصير في الاستبراء من النجاسة، سبب من أسباب التعذيب في القبر: فعن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: «إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستنزه من بوله ....» الحديث (¬1). أنواع الطهارة يقسم العلماء الطهارة الشرعية إلى قسمين: 1 - طهارة حقيقية: وهي الطهارة عن الخبث أي: النجس، وتكون في البدن والثوب والمكان. 2 - طهارة حُكمية: وهي الطهارة من الحدث، وهي تختص بالبدن، وهذا النوع من الطهارة ثلاثة أنواع: طهارة كبرى: وهي الغُسل، وصغرى: وهي الوضوء، وبدل عنهما عند تعذرهما: وهو التيمم. أولاً الطهارة الحقيقية المقصود بالنجاسة: النجاسة: ضد الطهارة، والنجس: اسم لعين مستقذرة شرعًا، ويجب على المسلم التنزه عنها وغسل ما يصيبه منها. أنواع النجاسات الأعيان التي دلَّ الدليل الشرعي على نجاستها هي: 1، 2 - غائط الإنسان وبوله: وهما نجسان باتفاق العلماء: أما الغائط فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور» (¬2) ويدل على نجاسته كذلك عموم الأحاديث الآمرة بالاستنجاء وستأتي قريبًا. وأما البول فلحديث أنس: أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه لا تزرموه» قال: فرغ دعا بدلو من ماء فصبَّه عليه (¬3). ¬

(¬1) أبو داود (20)، والنسائي (31 - 2069)، وابن ماجه (347) بسند صحيح. (¬2) أبو داود (385) بسند صحيح. (¬3) متفق عليه. البخاري (6025)، ومسلم (284).

3، 4 - المَذْىُ والوَدْىُ: المذي: ماء دقيق لزج يخرج عند شهوة كالملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته، ولا يكون دافقًا ولا يعقبه فتور، وربما لا يُحس بخروجه، ويكون للرجل والمرأة وهو في النساء أكثر (¬1)، وهو نجس باتفاق العلماء (¬2) ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الفرج منه. ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» (¬3). أما الودي: فهو ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول. وهو نجس إجماعًا. وعن ابن عباس قال: «المني والودي والمدي، أما المني فهو الذي منه الغسل، وأما الودي والمذي فقال: اغسل ذكرك -أو مذاكيرك- وتوضأ وضوءك للصلاة» (¬4). 5 - دم الحيض: لحديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع؟ فقال: «تحته ثم تقرصه (¬5) بالماء ثم تنضحه، ثم تصلي فيه» (¬6). 6 - روث ما لا يؤكل لحمه: فعن عبد الله بن مسعود قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرز فقال: «ائتني بثلاثة أحجار» فوجدت له حجزين وروثة [حمار] فأمسك الحجرين وطرح الروثة، وقال: «هي رجس» (¬7). ومعنى رجس أي: نجس. فدل هذا على أن روثة ما لا يؤكل لحمه نجسة. 7 - لعاب الكلب: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» (¬8). ¬

(¬1) انظر فتح الباري (1/ 379)، وشرح مسلم للنووي (1/ 599). (¬2) انظر «المجموع» للنووي (2/ 6)، والمغني لابن قدامة (1/ 168). (¬3) متفق عليه. البخاري (269)، ومسلم (303). (¬4) سنن البيهقي (1/ 115). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (190). (¬5) تقرصه أي: تدلكه بأطراف أصابعها ليتحلل ويخرج. (¬6) متفق عليه: البخاري (227)، ومسلم (291). (¬7) صحيح: البخاري (156)، والترمذي (17)، والنسائي (42)، وابن خزيمة وزيادة [حمار] له. (¬8) صحيح: مسلم (279).

وقد دل على أن لعاب الكلب نجس. 8 - لحم الخنزير: وهو نجس باتفاق أهل العلم لصريح قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (¬1). 9 - الميتة: وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة شرعية، وهي نجسة بالإجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» (¬2). والإهاب: جلد الميتة. ويستثنى من ذلك: 1 - ميتة السمك والجراد: فإنهما طاهرتان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحل لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» (¬3). 2 - ميتة ما لا دم له سائل: كالذباب والنحل والنمل والبق ونحوها. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله أو ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» (¬4). 3 - عظم الميتة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها، كل هذا طاهر على الأصل وقد علق البخاري في صحيحه (1/ 342): قال الزهري -في عظام الميتة نحو الفيل وغيره- أدركت ناسًا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها، لا يرون به بأسًا. وقال حماد: لا بأس بريش الميتة. 10 - ما قطع من الحيوان وهو حي: وما قطع من الحيوان وهو حي له حكم الميتة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 145. (¬2) صحيح: مسلم (366). (¬3) أخرجه ابن ماجه (3218، 3314)، وأحمد (2/ 97) بسند صحيح. (¬4) صحيح: البخاري (3320). (¬5) أخرجه الترمذي (1480)، وأبو داود (2858)، وابن ماجه (3216).

هل يعد المني طاهرا أم نجسا؟

11 - سؤر السباع والدواب التي لا يؤكل لحمها: السؤر: هو ما بقي في الإناء بعد الشرب. ويدل على نجاسته قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» (¬1). أما الهرة فما دونها فسؤره طاهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (¬2). 12 - لحم ما لا يؤكل لحمه من الحيوان: وذلك لحديث أنس رضي الله عنه قال: أصبنا من لحم الحمر -يعني يوم خيبر- فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر فإنها رجس، أو: نجس» (¬3). ولحديث سلمة بن الأكوع قال: لما أمسى اليوم الذي فتحت عليهم فيه خيبر أوقدوا نيرانًا كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذه النار على أي شيء توقدون»؟ قالوا: على لحم، قال: «على أي لحم؟» قالوا: على لحم الحمر الإنسية، فقال: «أهريقوها واكسروها». فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها؟ قال: «أو ذاك» (¬4). ففي الحديثين دلالة على نجاسة لحوم الحمر الأهلية لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: «فإنها رجس، أو: نجس» ولأمره صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني بكسر الآنية أولاً، ثم إباحته للغسل ثانيًا. هل يُعَدُّ المني طاهرًا أم نجسًا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: يقول بنجاسة المني وبه قال أبو حنيفة ومالك وهو رواية عن أحمد واستدلوا على ذلك بحديث عائشة لما سئلت عن المني يصيب الثوب فقالت: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (63)، والنسائي (1/ 46)، والترمذي (67) وهو صحيح كما في صحيح الجامع [758]. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 303)، وأصحاب السنن وانظر الإرواء (173). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1940)، وأحمد (3/ 121) وهو في البخاري بدون لفظ «فإنه رجس». (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1802).

هل تعد الخمر من النجاسات؟

كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء» (¬1). والغسل لا يكون إلا لشيء نجس. القول الثاني: قال أصحابه بطهارة المني وممن قال بذلك الشافعي وداود وهو أصح الروايتين عن أحمد واستدلوا على ذلك بحديث عائشة في المني قال: «كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). وبحديثها أيضًا أن ضيفًا نزل بعائشة فأصبح يغسل ثوبه فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركًا فيصلى فيه» (¬3). والاكتفاء بالفرك يدل على طهارته. وقد أجاب القائلون بالنجاسة بأن الفرك لا يدل على الطهارة وإنما يدل على كيفية التطهير كما أن تطهير النعل يكون بمسحها في التراب. ويجاب عن هذا (¬4) بأن فرك عائشة للمني تارة وغسله تارة أخرى لا يقتضي تنجيسه، فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ، وهكذا قال غير واحد من الصحابة: كسعد بن أبي وقاص، وابن عباس وغيرهما: «إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، أمطه عنك ولو بإذخرة». فظهر بهذا أن فعل عائشة رضي الله عنها، إنما هو من باب اختيار النظافة (¬5). ويتأيد الحكم بطهارة المني أن الصحابة كانوا يحتلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المني يصيب بدن أحدهم وثيابه، وهذا مما تعم به البلوى، فلو كان نجسًا لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإزالته كما أمرهم بالاستنجاء ... ، ولم ينقل أحد هذا، فعلم يقينًا أن إزالته لم تكن واجبة، والله أعلم (¬6). هل تُعَدُّ الخمر من النجاسات؟ اختلف العلماء في حكم الخمر على قولين: الأول: أنها نجسة: وهو مذهب جمهور العلماء، منهم الأئمة الأربعة واختاره شيخ الإسلام، وحجتهم: ¬

(¬1) متفق عليه. البخاري (230)، ومسلم (289). (¬2) صحيح: مسلم (288). (¬3) صحيح: مسلم (288). (¬4) «مجموع الفتاوى» (21/ 605). (¬5) شرح مسلم. (¬6) «مجموع الفتاوى» (21/ 604).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). قالوا: الرجس هو النجس، فحكموا بنجاسة عين الخمر نجاسة حسية. القول الثاني: أنها طاهرة: وبه قال ربيعة والليث والمزني وغيرهم من السلف، ورجَّحه الشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني -رحمهم الله- وهو الراجح، لما يأتي: [1] أنه ليس في الآية دلالة على نجاسة الخمر، وذلك من أوجه: (أ) أن لفظة (رجس) من المشتركات اللفظية، فهي تحتمل معان كثيرة (¬2)، منها: القذر، المحرم، القبيح، العذاب، اللعنة، الكفر، الشر، الإثم، والنجس وغيرها. (ب) أننا لم نقف على قول لأحد من السلف فسَّر الرجس في هذه الآية بالنجس بل قال ابن عباس: (الرجس: السخط) وقال ابن زيد: (الرجس: الشر). (جـ) أن لفظة (رجس) قد وردت في كتاب الله -في غير هذه الآية- في ثلاثة مواضع وليس في واحد منها (الرجس) بمعنى النجس: فالرجس في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬3). معناه: العذاب وفي قوله في شأن المنافقين: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ} (¬4). المراد: علمهم رجس أي قبيح. وفي قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (¬5). سمى الأوثان رجسًا لأنها سبب الرجز والعذاب، وليس المراد بها النجاسة الحسية، فإن عين الحجارة والأوثان ليست بنجسة، وفي قوله {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ .... فَإِنَّهُ رِجْسٌ} محتمل ... (د) لما وقع الخمر في الآية مقترنًا بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرجسية إلى غير النجاسة الشرعية، وهكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬6). لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 90. (¬2) انظر «النهاية» لابن الأثير، و «لسان العرب»، و «مختار الصحاح»، والتفاسير. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬4) سورة التوبة، الآية: 95. (¬5) سورة الحج، الآية: 30. (¬6) سورة التوبة، الآية: 28.

هل يعتبر الدم من النجاسات؟

(و) أن تحريم الخمر لا يستلزم نجاستها، أما النجاسة فإنه يلازمها التحريم فإنه يحرُم لبس الحرير والذهب وهما طاهران ضرورة شرعًا وإجماعًا. (هـ) أن (الرجس) في الآية مقيد بكونه (من عمل الشيطان) فهو رجس عملي بمعنى قبيح أو محرم أو إثم، وليس رجسًا عينيًا تكون به هذه الأشياء نجسة. [2] ومما يستدل به على طهارة الخمر: حديث أنس في قصة تحريم الخمر، وفيه «... فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، .... قال: فخرجت فأهرقتها فجرت في سكك المدينة» (¬1). [3] وفي حديث الرجل الذي كان معه مزادتان فيهما خمر: «... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله الذي حرم شربها حرم بيعها، ففتح [الرجل] المزادتين حتى ذهب ما فيهما ...» (¬2). فلو كانت الخمر نجسة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء على الأرض لتطهيرها كما أمر بالصب على بول الأعرابي، ولأمرهم بالاحتراز منها. ولو كانت نجسة لأمر صاحب المزادتين بغسلهما. [4] أن الأصل الطهارة، ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، ولم يقم الدليل على النجاسة فتبقى على الأصل. والله أعلم. هل يعتبر الدم من النجاسات؟ الدم على أقسام: 1 - دم الحيض: وهو نجس باتفاق العلماء، وقد تقدم الدليل على نجاسته. 2 - دم الإنسان (¬3): وهو مختلف فيه، فالمشهور عند أصحاب المذاهب الفقهية أن الدم نجس، وليس عندهم حجة، إلا أنه محرم بنص القرآن في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (¬4). فاستلزموا من التحريم النجاسة - كما فعلوا في الخمر - ولا ¬

(¬1) صحيح: البخاري (2332)، ومسلم (1980). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1206)، ومالك (1543). (¬3) تفسير القرطبي (2/ 221)، والمجموع (2/ 511)، والمحلى (1/ 102)، والكافي (1/ 110)، وبداية المجتهد، والسيل الجرار (1/ 31)، والشرح الممتع (1/ 376)، والسلسلة الصحيحة، وتمام المنة (ص 50). (¬4) سورة الأنعام، الآية: 145.

يخفى ما فيه، لكن نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على نجاسته، وسيأتي الكلام في ذلك. بينما ذهب جماعة من المتأخرين منهم الشوكاني وصديق خان والألباني وابن عثيمين -رحمهم الله- إلى القول بطهارته لعدم ثبوت الإجماع عندهم، واستدلوا كذلك بما يأتي: 1 - أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم الليل على النجاسة، ولا نعمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل دمْ غير دم الحيض، مع كثرة ما يصيب الإنسان من جروح ونحوها، فلو كان الدم نجسًا لبينه صلى الله عليه وسلم لدعاء الحاجة إلى ذلك. 2 - أن المسلمين ما زالوا يصلون في جراحاتهم، وقد يسيل منهم الدم الكثير، الذي ليس محلاًّ للعفو، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بغسله، ولم يرد أنهم كانوا يتحرزون عنه تحرزًا شديدًا: - قال الحسن: «ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم» (¬1). وفي حديث الصحابي الأنصاري «الذي قام يصلي في الليل، فرماه المشرك بسهم، فوضعه، فنزعه، حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ومضى في صلاته وهو يموج دمًا» (¬2). قال الألباني (¬3) -رحمه الله -: وهو في حكم المرفوع، لأنه يُستبعد عادة أن لا يطَّلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فلو كان الدم الكثير ناقضًا لبينه صلى الله عليه وسلم، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم من علم الأصول، وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم خفى ذلك عليه، فما هو بخاف على الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فلو كان ناقضًا أو نجسًا لأوحى بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر لا يخفى على أحد. اهـ. وفي حديث مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «صلى عمر وجُرحه يثعب دمًا» (¬4). أي: يجري دمًا. ¬

(¬1) إسناده صحيح: رواه البخاري معلقًا (1/ 336) ووصله ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في الفتح (1/ 337). (¬2) صحيح: علقه البخاري (1/ 336) ووصله أحمد وغيره وهو صحيح. (¬3) «تمام المنة» (51، 52). (¬4) صحيح: أخرجه مالك (82) وعنه البيهقي (1/ 357) وغيره بسند صحيح.

3 - لحديث عائشة -في قصة موت سعد بن معاذ- قالت: «لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل في الأكحل، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب .... فبينما هو ذات ليلة إذ تفجر كَلْمُه فسال الدم من جرحه حتى دخل خباء إلى جنبه، فقالوا: يا أهل الخباء ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فنظروا، فإذا سعد قد انفجر كَلْمُه والدم له هدير فمات» (¬1). قلت: ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء عليه لا سيما وهو في المسجد كما أمر بالصب على بول الأعرابي. 4 - أن ابن رشد لما ذكر اختلاف العلماء في دم السمك، ذكر أن السبب في اختلافهم هو اختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم جعل دمه كذلك ومن أخرج ميتته أخرج دمه قياسًا على الميتة. ونقول: هم يقولون بطهارة ميتة الآدمي، فكذلك دمه على قاعدتهم. ولذا قال ابن رشد عقبه: «والنص إنما دلَّ على نجاسة دم الحيض، وما سوى ذلك فهو على الأصل المتفق عليه بين المتنازعين، وهو الطهارة، فلا يخرج منه إلا بنص تقوم به الحجة» اهـ. فإن قيل: ألا يقاس على دم الحيض، ودم الحيض نجس؟ قلنا: هذا قياس مع الفارق: فإن دم الحيض دم طبيعة وجبلة النساء، قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» (¬2) وقال في الاستحاضة: «إنه دم عرق» (¬3). ثم إن دم الحيض دم غليظ منتن له رائحة مستكرهة، فأشبه البول والغائط، لا الدم الخارج من غير السبيلين. 3 - دم الحيوان مأكول اللحم: والقول فيه كالقول في دم الآدمي من جهة عدم الدليل على النجاسة، فتستصحب البراءة الأصلية. ويؤيد القول بطهارته أيضًا: حديث ابن مسعود قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3100) مختصرًا، والطبراني في «الكبير» (6/ 7). (¬2) صحيح: البخاري (294)، ومسلم (1211). (¬3) صحيح: البخاري (327)، ومسلم (333).

وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد، فيضعه على كتفيه، فانبعث أشقاهم، فملا سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا فضحكوا .... الحديث» (¬1). فلو كان دم الجزور نجسًا لألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه، أو خرج من صلاته. وقد صح «أن ابن مسعود صلى وعلى بطنه فرث ودم جزور نحرها ولم يتوضأ» (¬2). وإن كان هذا الأثر قد يُنازع في الاستدلال على طهارة دم الحيوان، لأن ابن مسعود لم يكن يرى طهارة البدن والثوب شرطًا لصحة الصلاة، ويرى أنها مستحبة. قلت: لو ثبت الإجماع على نجاسة الدم لم نلتفت إلى أدلة المتأخرين، وإن لم يثبت فالأصل الطهارة ولسنا بحاجة إلى هذه الأدلة، والذي ظهر لي -بعد اختياري للقول بالطهارة على مدى عشر سنوات- أن الإجماع في المسألة ثابت، قد نقله غير واحد من أهل العلم ولم يثبت ما ينقضه، وأعلى هذه النقولات ما نقل عن الإمام أحمد ثم ما نقله ابن حزم - خلافًا لمن ظن أن مذهبه القول بالطهارة!! - ومما وقفته من ذلك: قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 240): سئل أحمد: الدم والقيح عندك سواء؟ قال: لا، الدم لم يختلف الناس فيه. وقال مرة: القيح والصديد والمدة عندي أسهل من الدم. اهـ. وقد نقل ابن حزم في مراتب الإجماع: اتفاق العلماء على نجاسة الدم. وكذا نقل -هذا الاتفاق - الحافظ في «الفتح» (1/ 420). وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/ 230): وحكم كل دم كدم الحيض إلا أن قليل الدم متجاوز عنه لشرط الله عز وجل في نجاسة الدم أن يكون مسفوحًا فحينئذ هو رجس والرجس نجاسة وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس. اهـ. وقال ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 79): ¬

(¬1) صحيح: البخاري (240)، وسملم (1794). (¬2) إسناده صحيح: مصنف عبد الرزاق (1/ 25)، وابن أبي شيبة (1/ 392).

هل «قيء الآدمي» نجس؟

اتفق العلماء عل أن الدم حرام نجس لما يؤكل ولا ينتفع به، وقد عينه الله تعالى هاهنا مطلقًا، وعينه في سورة الأنعام مقيدًا بالمسفوح، وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعًا. اهـ. وقال النووي في المجموع (2/ 576): والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافًا عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف. اهـ. قلت (أبو مالك): الذي يترجح لدى أن الدم نجس لثبوت الإجماع حتى ينقل عن إمام يتقدم على أحمد -رحمه الله- القول بالطهارة، والله أعلم. هل «قيء الآدمي» نجس؟ قد تقدم مرارًا أن الأصل في جميع الأشياء: الطهارة، وأنه لا ينقل عن ذلك الأصل إلا بناقل صحيح للاحتجاج به، غير معارض بما يرجح عليه أو يساويه، فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت، وإن لم نجد ذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع لمدعي النجاسة، لأن هذه الدعوى تفيد أن الله تعالى قد أوجب على عباده غسل هذه الأعيان، التي يزعم أنها نجسة وأن وجودها يمنع الصلاة بها، فما الدليل على ذلك؟! والقيء ونحوه من هذا القبيل فلم يصح فيه ما ينقله عن الطهارة الأصلية، وقد ورد فيه حديث عمار: «إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني» لكنه ضعيف لا يحتج به. والله أعلم. وقد ثبت عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ» (¬1). وليس في هذا الحديث دلالة على نجاسة القيء، وليس فيه دليل على وجوب الوضوء منه، ولا يدل على نقض الوضوء به، وإنما غايته مشروعية الوضوء من القيء، لأن مجرد فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2381)، والترمذي (87)، وأحمد (6/ 443) وغيرهم.

هذا على أنه ليس كل ما ينقض الوضوء يُعدَّ نجسًا، وإلى هذا ذهب ابن حزم واختاره شيخ الإسلام في الفتاوى. ما حكم الإفرازات التي تخرج من فرج المرأة وما يسمى برطوبة فرج المرأة؟ للعلماء في رطوبة فرج المرأة مذهبان (¬1): الأول: أنه نجس: لأنه في الفرج لا يخلق منه الولد، أشبه المذي، واستدلوا، بحديث زيد بن خالد أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمْنِ؟ قال عثمان: «يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره» قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .... الحديث (¬2). وحديث أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم يُنزل؟ قال: «يغسل ما مسَّ المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي» (¬3). قالوا: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل ما أصيب من فرج المرأة دليل على نجاسة رطوبة الفرج. واعترض: بأن الحديثين منسوخان (¬4) بأحاديث الأمر بالغُسل كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. وبأنه يحتمل أن يكون الأمر بالغسل من أجل المذي الذي يخرج منه أو منها. واستدلوا كذلك على نجاسته بكونه خارجًا من أحد السبيلين، والقاعدة: «أن ما خرج من السبيلين فهو نجس عدا المني». القول الثاني: أن إفرازات الفرج طاهرة (¬5): ويستدل لهذا المذهب بما يلي: 1 - أن عائشة رضي الله عنها كانت تفرك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من جماع فإنه ¬

(¬1) المغنى (2/ 88)، والمجموع (1/ 570). (¬2) صحيح الإسناد: أخرجه البخاري (292)، ومسلم (347) وهو منسوخ. (¬3) صحيح الإسناد: أخرجه البخاري (293)، ومسلم (346) وهو منسوخ. (¬4) انظر «فتح الباري» (1/ 473). (¬5) انظر «جامع أحكام النساء» (1/ 68) لشيخنا مصطفى بن العدوي حفظه الله.

ما احتلم نبي قط (¬1)، وهو يلاقي رطوبة الفرج، ولأننا لو حكمنا بنجاسة فرج المرأة لحكمنا بنجاسة منيها، لأنه يخرج من فرجها فيتنجس برطوبته. 2 - أن هذه الإفرازات أمر لا يخفى، وهي كثيرة في النساء، ولا شك أنه كان موجودًا في النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كنساء زماننا، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن بالغسل منه أو الوضوء منه. 3 - أن مخرج هذه الإفرازات غير مخرج البول النجس. 4 - أن قول الفقهاء (كل ما خرج من السبيلين نجس، عدا المني) فهذا ليس قولاً عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ولم ينعقد عليه إجماع الأمة، بل قد ورد أن بعض ما يخرج من السبيلين لا ينقض الوضوء كدم الاستحاضة على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله. قلت: والذي يترجح عندي التفصيل: فإن كانت هذه الإفرازات تخرج من المرأة عند ملاعبة الزوج أو إرادة الجماع ونحوه خاصة، فهذا هو المذي، وقد عرفت أنه نجس يجب غسله، وأنه ناقض للوضوء. وأما إذا كانت هذه الإفرازات تخرج من فرج المرأة في غالب الأوقات، وتزداد أثناء الحمل، وعند بذل المجهود أو المشي الكثير، فهذه طاهرة على الأصل لعدم الدليل على نجاستها، والله أعلم. ما يعفى عنه من النجاسات: تعدد أقوال الفقهاء في نوع وقدر النجاسة التي قد تصيب الثوب أو المكان أو البدن ويكون معفوًّا عنها (¬2). إلا أن الضابط لما يُعفى عنه من النجاسات هو الضرورة أو عموم البلوى مع تعذُّر الاحتراك منها، وحصول الحرج والمشقة في إزالتها. كيفيات التطهير لأنواع النجاسات التي ورد النص ببيانها: أ- تطهير الثوب من دم الحيض: يكون بفرجه وقشره، ثم دلكه بأطراف الأصابع ليتحلل ويخرج، ثم تغسله بالماء، لحديث أسماء بنت أبي بكر قالت: ¬

(¬1) كذا قال في «المغنى» (2/ 88) وقال شيخنا: هذا يحتاج إلى نص من الكتاب أو السنة، ولم نقف على نص في مثل هذا. (¬2) «الفقه الإسلامي وأدلته» (169 - 177).

جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اله، إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع؟ فقال: «تَحُتُّهُ، ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه، ثم تصلي فيه» (¬1). ولحديث عائشة قالت: «كانت إحدانا تحيض، ثم تقترص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه» (¬2). وإذا أرادت المرأة أن تستخدم عودًا أو غيره لتزيل الدم به، أو أن تغسله بالماء والصابون ونحوه من المنظفات فهو أحسن: لحديث أم قيس بنت محصن قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب، قال: «حُكِّيه بِضِلَع، واغسليه بماء وسدر» (¬3). 2 - تطهير الثوب من بول الرضيع: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُغسل من بول الجارية، ويُرَشُّ من بول الغلام» (¬4). 3 - تطهير الثوب من المذي: لما كان المذي مما يكثر حدوثه، وتعم به البلوى، جاء التخفيف في تطهيره من الشارع، فيكفي أن يرش الثوب بالماء في مكان المذي، لحديث سهل بن حنيف أنه كان يلقى من المذي شدة وعناءً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: «يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه» (¬5). 4 - تطهير ذيل ثوب المرأة: إذا تنجَّس ذيل ثوب المرأة، فإنه يطهر بملامسته للأرض الطاهرة، فقد سألت امرأة أمَّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ فقالت أم سلمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يطهره ما بعده» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (291). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (308)، وابن ماجه (630). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (363)، والنسائي (1/ 195)، وابن ماجه (628). (¬4) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (376)، والنسائي (1/ 158)، وابن ماجه (526) وله شواهد. (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (210)، والترمذي، وابن ماجه (506). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (383)، والترمذي (143)، وابن ماجه (531).

5 - تطهير أسفل النعل: عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثًا فلمسحه بالأرض، ثم ليصلِّ فيهما» (¬1). 6 - تطهير الإناء إذا ولغ فيه الكلب: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» (¬2). 7 - تطهير جلد الميتة بالدباغ: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دُبغ الإهاب فقد طَهُر» (¬3). 8 - تطهير الأرض من البول ونحوه: يكون بالصب عليه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الماء على بول الأعرابي في المسجد (¬4)، وإنما أمر بذلك استعجالاً للنظافة، وإلا فلو ترك حتى جف وذهب أثر النجاسة طهرت. 9 - تطهير البئر أو السمن إذا وقعت فيها نجاسة: ويكون بنزح وإزالة النجس وما حوله ويبقى سائره طاهرًا، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن؟ فقال: «ألقوها، وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم» (¬5). هل يتعيَّن الماء لإزالة النجاسة؟ أم يجوز إزالتها بغيره من المائعات وغيرها؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين: الأول: يشترط الماء لإزالة النجاسة، ولا تصح بغيره إلا بدليل: وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد، وهو مذهب الشافعي في الجديد، وانتصر له الشوكاني ومن تبعه (¬6)، وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} (¬7). وغيره من الأدلة الدالة على طهورية الماء. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (646). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (279)، وأبو داود (71). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم وغيره. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (219)، ومسلم (284). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (الذبائح - باب 34). (¬6) بداية المجتهد (1/ 99)، والأم (1/ 49)، والسيل الجرار (1/ 49). (¬7) سورة الأنفال، الآية: 11.

2 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي (¬1). قالوا: والأمر للوجوب فلا يجزئ في إزالة النجاسة غير الماء!! 3 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي ثعلبة - بغسل آنية أهل الكتاب بالماء (¬2). 4 - قال الشوكاني: «الماء هو الأصل في تطهير النجاسات لوصف الشارع له [بكونه] طهورًا، فلا يعدل إلى غيره إلا إذا ثبت ذلك عن الشارع، وإلا فلا، لأنه عدول عن المعلوم كونه طهورًا إلى ما لا يعلم كونه طهورًا، وذلك خروج عما تقتضيه المسالك الشرعية» اهـ. الثاني: يجزئ التطهير بكل ما يزيل النجاسة ولا يشترط الماء: وهذا مذهب أبي حنيفة، والرواية الأخرى عن مالك وأحمد، والقول القديم للشافعي، وابن حزم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا العلامة ابن عثيمين (¬3)، وهو الراجح لما يأتي: 1 - أن كون الماء طهور (طاهرًا ومطهرًا) لا يمنع من كون غيره مطهرًا كذلك، فإن القاعدة (أن عدم السبب المعين لا يقتضي انتفاء المسبب المعين، سواء كان دليلاً أو غير دليل) لأن المؤثر قد يكون شيئًا آخر، وهذا هو الواقع في النجاسة (¬4). قلت: بل بعض المائعات كالخل والمطهرات الصناعية تزيل النجاسة كالماء وأبلغ منه. 2 - أن الشارع أمر بإزالة النجاسة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال كل نجاسة بالماء. 3 - أن الشرع قد أذن في إزالة بعض النجاسات بغير الماء: كالاستجمار بالحجارة، ودلك النعلين بالتراب، وتطهير ذيل الثوب بالأرض، وغير ذلك مما تقدم. 4 - أن إزالة النجاسة ليست من باب المأمور، بل من باب اجتناب المحظور، فإذا حصل بأي سبب ثبت الحكم، ولذلك لا يشترط لإزالة النجاسة نية، ولكن إن ¬

(¬1) متفق عليه: وقد تقدم قريبًا. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (5170)، ومسلم (1930). (¬3) البدائع (1/ 83)، وفتح القدير (1/ 200)، ومجموع الفتاوى (21/ 475)، والمحلى (1/ 92 - 94)، والشرح الممتع (1/ 361 - 363). (¬4) الشرح الممتع (1/ 362).

الاستنجاء

زالت بفعل العبد ونيته أثيب على ذلك، وإلا إذا عدمت بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة، ولم يكن له ثواب ولم يكن عليه عقاب. ويؤيد هذا أن الخمر المنقلبة خلاًّ بنفسها تطهر -عند القائلين بالنجاسة- باتفاق المسلمين. قلت: فالراجح أن النجاسة إذا زالت بأي شيء زال بذلك حكمها وصارت طاهرة. وهنا فوائد: 1 - فائدة هذه المسألة أن من كان على ثوبه أو بدنه نجاسة فاستعمل شيئًا من المنظفات الطاهرة -غير الماء- لإزالتها، فإنه يجزئه ولا يلزم أن يغسله بالماء. 2 - لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة، لما في ذلك من فساد الأموال (¬1). 3 - أن ما يحصل به الطهارة بغير الماء من المائعات وغيرها إنما هو في النجاسات الحقيقية التي تكون على الثوب أو البدن أو المكان، أما التطهير الحكمي (طهارة الحدث) كالوضوء والغسل ونحوه فلا يجزئ فيه غير الماء. الاستنجاء معنى الاستنجاء وحكمه: الاستنجاء: استفعال من (نجوت الشجرة) أي: قطعتها، فكأنه قطع الأذى عنه. وفي الاصطلاح: إزالة ما خرج من السبيلين (القُبُل والدُّبر) بماء أو حجر أو ورق ونحوها. ويطلق عليه أيضًا: (الاستجمار): لأنه يستعمل الجمار (وهي الحجارة الصغيرة) في استجماره، ويطلق عليه كذلك: (الاستطابة) لأنه يُطيِّب جسده بإزالة الخبث عنه (¬2). وأما حكمه: فالاستنجاء واجب من كل خارج معتاد من السبيلين كالبول والمذي والغائط -عند جمهور العلماء خلافًا لأبي حنيفة (¬3) - لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 475). (¬2) المغني (1/ 205) ط. هجر بتصرف يسير. (¬3) قال الحنفية: الاستنجاء سنة مؤكدة ما لم تتجاوز النجاسة المخرج، واستدلوا بحديث: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» وهو حديث ضعيف، انظر: ضعيف الجامع (5468).

بم يكون الاستنجاء؟

ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه» (¬1) وهذا أمر، وهو للوجوب، ثم قوله (فإنها تجزئ) والإجزاء إنما يستعمل في الواجب، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» (¬2). والنهي عن الاقتصار على أقل من ثلاثة يقتضي التحريم، وإذا حرم ترك بعض النجاسة فترك جميعها أولى. بم يكون الاستنجاء؟ يجزئ الاستنجاء بأحد شيئين: 1 - الحجارة ونحوها من كل جامد مزيل للنجاسة غير محترم: كالورق والخرق والخشب وما يحصل به الإنقاء من النجاسة. فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» (¬3). ولا يجوز الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، على الراجح: (أ) لحديث سلمان قال: «لقد نهانا [أي النبي صلى الله عليه وسلم] أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم» (¬4). (ب) وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثًا» (¬5). (جـ) عن خلال بن السائب عن أبيه مرفوعًا: «إذا دخل أحدكم الخلاء فليتمسح بثلاثة أحجار» (¬6). ¬

(¬1) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (40)، والنسائي (1/ 18)، وأحمد (6/ 108 - 133) بسند ضعيف وله شواهد تقويه. وانظر «الإرواء» (44). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (262)، والنسائي (1/ 16)، والترمذي (16)، وأبو داود. (¬3) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (40)، والنسائي (1/ 18)، وأحمد (6/ 108 - 133) بسند ضعيف وله شواهد تقويه. وانظر «الإرواء» (44). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (262)، والنسائي (1/ 16)، والترمذي (16)، وأبو داود. (¬5) صحيح: أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن خزيمة، وقال الحويني -حفظه الله- في «بذل الإحسان» (1/ 351): سنده صحيح. (¬6) حسن بما تقدم: أخرجه الطبراني في «الكبير» (7/ 6623) وانظر «البذل» (1/ 352).

قلت: فإن حصل الإنقاء بثلاثة الأحجار فبها ونعمت، وإلا وجب الزيادة على الثلاثة حتى ينقى. ولا يجوز الاستجمار بالعظم أو الروث: لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم [من الجن]» (¬1). وعن ابن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أَجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: «هذا ركس» (¬2). 2 - الاستنجاء بالماء: فعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء، وعنزة، فيستنجي بالماء» (¬3). والاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار، فقد امتدح الله تعالى أهل قباء لاستنجائهم بالماء: فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} (¬4). قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية» (¬5). قال الترمذي (1/ 31): وعليه العمل عند أهل العلم، يختارون الاستنجاء بالماء وإن كان الاستنجاء بالحجارة يجزئ عندهم، فإنهم استحبوا الاستنجاء بالماء، ورأوه أفضل، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. اهـ. لا يُستنجى من خروج الريح ولا يلزم الاستنجاء قبل الوضوء: من خرجت منه ريح أو قام من نومه فليس عليه الاستنجاء، قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافًا، قال أبو عبد الله: ليس في الريح استنجاء في كتاب الله، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (682)، والترمذي (18)، وأحمد (1/ 436). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (156)، وغيره، وقد تقدم. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (151)، ومسلم (270، 271) وغيرهما. (¬4) سورة التوبة، الآية: 108. (¬5) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (44)، والترمذي (3100)، وابن ماجه (357) بسند ضعيف وله شواهد يتقوى بها، انظر الإرواء (45).

بعض الآداب في الاستنجاء

ولا في سنة رسوله، إنما عليه الوضوء .... وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1): إذا قمتم من النوم، ولم يأمر بغيره، فدلَّ على أنه لا يجب، ولأن الوجوب من الشرع، ولم يرد بالاستنجاء هنا نص، ولا هو في معنى المنصوص عليه، لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة هاهنا. اهـ (¬2). وليس الاستنجاء مما يجب أن يُوصل بالوضوء، ولا يسن ولا يستحب، كما يظنه كثير من الناس، بل هو عبادة مفردة، والمقصود منه إنقاء المحل من النجاسة. ولم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما توضأ استنجى أو أمر بذلك. بعض الآداب في الاستنجاء من الآداب التي ينبغي التأدب بها عند الاستنجاء: 1 - ألا يستنجي بيمينه: لحديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء» (¬3). وعن سلمان قال: قال لي رجل: إن صاحبكم ليعلمكم حتى الخراءة؟ قال: «أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي بأيماننا، أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار» (¬4). 2 - أن لا يمس الفرج بيمينه: لحديث أبي قتادة السابق. 3 - أن يدلك يده بالأرض - بعد الاستنجاء- أو يغسلها بالصابون ونحوه: فعن أبي هريرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة، فاستنجى ثم مسح يده على الأرض» (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) المغنى لابن قدامة (1/ 206) ط هجر. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (153)، ومسلم (267) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (262)، وأبو داود (7)، والترمذي (16)، والنسائي (1/ 16). (¬5) حسن لغيره: أخرجه (45)، وابن ماجه (678)، والنسائي (1/ 45)، وانظر المشكاة (360).

ويؤيده ما في حديث ميمونة: «... ثم صب (أي النبي) على فرجه فغسل فرجه بشماله ثم ضرب بيده على الأرض فغسلها» (¬1). 4 - أن ينضح فرجه وسراويله بالماء بعد البول لدفع الوسواس: فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضأ مرة فنضح فرجه» (¬2). كيف يستنجي من به مرض سلس البول ونحوه؟ من ابتلي بسلس البول ونحوه: فإنه يستنجي ويتوضأ لكل صلاة، ثم لا يضره ما نزل منه ما لم يدخل وقت الصلاة الأخرى، وهذا أصح قولي العلماء، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم. والمبتلى بسلس البول له حكم المستحاضة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأنها: «إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها، فاغسلي عنك الدم وصلي» (¬3) وعند البخاري: قال: وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» (¬4). قلت: وإنما كان هذا هو حكم المعذور، رفعًا للحرج عنه، وقد جاءت الشريعة برفع الحرج عن الأمة، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (266)، ومسلم (317). (¬2) صحيح: أخرجه الدارمي (711)، والبيهقي (1/ 161)، وقال الألباني في «تمام المنة» (ص 66): وسنده صحيح على شرط الشيخين. اهـ. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (228)، ومسلم (333) وغيرهما وقد رواه النسائي (1/ 185) بلفظ «فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي» بزيادة «وتوضئي» وهي شاذة كما أعلها النسائي والبيهقي (1/ 327) وأشار مسلم إلى تعليلها ولم يخرجها البخاري وانظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا مصطفى العدوي -رفع الله قدره- (1/ 223 - 226). (¬4) هذا يحتمل أن يكون مرفوعًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون من قول عروة بن الزبير راوي الحديث عن عائشة، أفتى به النسوة اللاتي سألنه عن ذلك كما عند الدارمي (1/ 199)، وإلى الاحتمال الأول مال الحافظ في «الفتح» (1/ 332) وإلى الاحتمال الثاني ذهب البيهقي في «السنن» (1/ 344) ورجحه شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (1/ 227). (¬5) سورة البقرة، الآية: 185.

وذهب مالك وغيره إلى أنه لا يلزمه الاستنجاء ولا الوضوء من ذلك إلا إذا أحدث حدثًا آخر. قلت: أما عدم الإلزام بالوضوء لكل صلاة ما لم يحدث فلعله أن يكون له وجه عند من يُضعِّف زيادة «وتوضئي لكل صلاة» في الحديث المتقدم على أن الأرجح الوضوء لكل صلاة كما سيأتي في «الحيض» أما عدم الإلزام بالاستنجاء، فلا وجه له، فإنه قد خرج منه ما يوجب الاستنجاء، وكان بوسعه أن يفعله قبل الصلاة بلا مشقة فوجب عليه، وإنما يعفى له عما نزل أثناء صلاته رفعًا للمشقة، والله أعلم. من آداب قضاء الحاجة: من أراد أن يقضي حاجته من بول أو غائط، فينبغي له التأدب بما يأتي: 1 - التستر والبعد عن الناس لا سيما في الخلاء: فعن جابر رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي البراز [يعني الفضاء] حتى يغيب فلا يرى» (¬1). 2 - عدم اصطحاب ما فيه ذكر الله تعالى (¬2): كالخاتم المنقوش عليه اسم الله، ونحو ذلك، لأن تعظيم اسم الله تعالى مما يعلم من الدين بالضرورة، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬3). على أنه قد ورد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه» (¬4) لكنه حديث منكر أعله الحفاظ. ومن المعلوم أن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان نقشه فيه «محمد رسول الله» (¬5). قلت: وإذا كان هذا الخاتم أو نحوه مستورًا بساتر - كأن يوضع في الجيب ونحوه - جاز الدخول به، قال أحمد بن حنبل: «إن شاء جعله في باطن كفه». وإن خاف ضياعه إن تركه خارجًا، جاز الدخول به للضرورة، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2)، وابن ماجه (335) واللفظ له. (¬2) انظر المجموع (2/ 87)، والمغنى (1/ 227)، والأوسط (1/ 342). (¬3) سورة الحج، الآية: 32. (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وضعفه الألباني. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5872)، ومسلم (2092) وغيرهما.

3 - التسمية والاستعاذة عند الدخول: وهذا إذا كان سيدخل البنيان (دورة المياه) ويقولها عند تشمير الثياب إذا كان في الفضاء: لقوله صلى الله عليه وسلم: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء، أن يقول: بسم الله» (¬1). وعن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» (¬2). 4 - تقديم الرجل اليسرى في الدخول، واليمنى في الخروج: ولم أقف في هذا على نص خاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 64): وأما تقديم اليسرى دخولاً واليمنى خروجًا، فله وجه، لكون التيامن فيما هو شريف، والتياسر فيما هو غير شريف، وقد ورد ما يدل عليه في الجملة. اهـ. 5 - عدم استقبال القبلة أو استدبارها عند القعود لقضاء الحاجة: لحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا». قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى (¬3). لكن، قد صح عن ابن عمر أنه قال: «لقد رقيت يومًا على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته» (¬4). وإذا كان مستقبلاً بيت المقدس -وهو بالمدينة- فهو مستدبر للكعبة!! قلت: وفي فهم هذين الحديثين أربعة أقوال مشهورة لأهل العلم (¬5). ¬

(¬1) صححه الألباني. أخرجه الترمذي وابن ماجه، وانظر «صحيح الجامع» (3611). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (142)، ومسلم (375). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (145)، ومسلم (266) وغيرهما. (¬5) ذكرها النووي في المجموع (2/ 82) وزاد عليها الحافظ في «الفتح» (1/ 296) ثلاثة أخرى.

الأول: أن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها مطلق سواء في البنيان أو الصحراء. وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وابن حزم، واختاره شيخ الإسلام، ونقله ابن حزم عن أبي هريرة وأبي أيوب وابن مسعود وسراقة بن مالك، وعن عطاء والنخعي والثوري والأوزاعي وأبي ثور (¬1)، واحتجوا بحديث أبي أيوب المتقدم. وأجابوا عن حديث ابن عمر بأمور: (أ) أن الحاظر مقدم على المبيح. (ب) أنه ليس فيه أن ذلك كان بعد النهي عن الاستقبال والاستدبار. (جـ) أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة إلا ما يدل دليل على أنه أراد الاقتداء به في ذلك وإلا كان فعله خاصًّا به. قلت: وربما تأيد هذا الأخير بأن رؤية ابن عمر للنبي صلى الله عليه وسلم اتفقت له من غير قصد، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذا بيان حكم شرعي جديد. الثاني: أن النهي خاص بالصحراء دون البنيان: وبه قال مالك والشافعي وأصح الروايتين عن أحمد وإسحاق، وقد سلكوا بهذا مسلك الجمع بين الدليلين، وقالوا: إن قاعدة (القول مقدم على الفعل) إنما يعمل بها في حالة ثبوت الخصوصية ولا دليل عليها. الثالث: أنه يجوز الاستدبار فقط دون الاستدبار: وقد حكى عن أبي حنيفة وأحمد، عملاً بظاهر حديث ابن عمر مع حديث أبي أيوب. الرابع: جواز الاستقبال والاستدبار مطلقًا: وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود، وحجتهم أن الأحاديث تعارضت فيرجع إلى أصل الإباحة. قلت: ولعل القول الأول -وهو التحريم مطلقًا- هو الأقوى دليلاً والأحوط عملاً، والله أعلم. 6 - اجتناب الكلام مطلقًا إلا للحاجة: فعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يبول- فسلَّم عليه فلم يرد عليه» (¬2). ¬

(¬1) المحلى (1/ 194)، والفتح (1/ 296)، والأوسط (1/ 334) وما بعدها، والسيل الجرار (1/ 69)، والاختيارات الفقهية (8). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (370)، وأبو داود (16)، والترمذي، والنسائي (1/ 15)، وابن ماجه (353).

هل يجوز للرجل أن يبول قائما؟

ورد السلام واجب، فتركه يدل على تحريم الكلام -لا سيما- إذا كان بذكر الله تعالى. لكن إذا تكلم للحاجة التي لابد منها كإرشاد أحد، أو طلب ماء أو نحوه فإنه يباح للضرورة والله أعلم. 7 - اجتناب قضاء الحاجة في طريق الناس ومستظلهم ونحو ذلك: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا اللاعنين» قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم» (¬1). 8 - اجتناب التبول في المستحم (مكان الاغتسال): وخصوصًا إذا كان يتجمع الماء فيه مثل «البانيو» ونحوه، فقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل في مغتسله» (¬2). 9 - اجتناب التبول في الماء الراكد الذي لا يجري: لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يبال في الماء الراكد» (¬3). 10 - ارتياد المكان الرخو اللين عند التبول، واجتناب المكان الصلب، احترازًا من ارتداد النجاسة عليه. 11 - التزام آداب الاستنجاء التي تقدم ذكرها. 12 - أن يقول إذا خرج: «غفرانك»: فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك» (¬4). هل يجوز للرجل أن يبول قائمًا؟ في هذا الباب خمسة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة صحاح، في أحدها إنكار عائشة لبوله صلى الله عليه وسلم قائمًا، وفي الثاني حكاية بوله قائمًا وفي الثالث حكاية بوله جالسًا. وحديثان ضعيفان، في أحدهما نهيه عن البول قائمًا، وفي الآخر: وصف البول قائمًا بأنه من الجفاء، وإليك هذه الأحاديث: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (68)، وأبو داود (25). (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 130)، وأبو داود (28). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (281)، والنسائي (1/ 34). (¬4) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (7)، وأبو داود (30)، وأحمد (6/ 155).

1 - حديث عائشة قالت: «من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا» (¬1). 2 - حديث حذيفة «أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سباطة قوم، فبال قائمًا، فتنحيت فقال: «ادنه» فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ ومسح على خفيه» (¬2). 3 - حديث عبد الرحمن بن حسنة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كهيئة الدَّرقة، فوضعها ثم جلس خلفها فبال إليها ...» (¬3). 4 - عن ابن عمر قال: قال عمر: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبول قائمًا، فقال: «يا عمر، لا تبل قائمًا» قال: فما بلت قائمًا بعد (¬4). 5 - عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائمًا، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده» (¬5). قلت: ولأجل هذه الأحاديث، اختلف أهل العلم في حكم البول قائمًا على ثلاث أقوال (¬6): الأول: أنه يكره من غير عذر: وبه قالت عائشة وابن مسعود وعمر في إحدى الروايتين وأبي موسى والشعبي وابن عيينة والحنفية والشافعية. الثاني: أنه جائز مطلقًا: وبه قال عمر - في الرواية الأخرى - وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد وأنس وأبو هريرة وحذيفة وهو قول الحنابلة. الثالث: أنه إذا كان في موضع رخو لا يرد البول عليه جاز وإلا منع: وهو مذهب مالك ورجحه ابن المنذر. ¬

(¬1) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (12)، والنسائي (1/ 26)، وابن ماجه (307)، وأحمد (6/ 136). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (226)، ومسلم (273) وغيرهما. (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (»)، والنسائي (1/ 27)، وابن ماجه (346)، وأحمد (4/ 196). (¬4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (308)، والبيهقي (1/ 202)، والحاكم (1/ 185) وعلقه الترمذي وضعفَّه (1/ 67 - أحوذي). (¬5) منكر: أخرجه البخاري في «التاريخ» (496) والبزار (1/ 547) وأنكره البخاري والترمذي وإنما ثبت من قول ابن مسعود. (¬6) المجموع (2/ 98)، والأوسط (1/ 333).

سنن الفطرة

قلت: والراجح أنه لا كراهة في البول قائمًا ما دام يأمن ارتداد البول عليه، لأمور: 1 - أنه لم يصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ذلك. 2 - أن ما ورد في بوله صلى الله عليه وسلم جالسًا لا ينافي جواز البول قائمًا بل يفيد جواز الأمرين. 3 - لثبوت البول قائمًا عن النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - أن نفي عائشة لبول النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا مبني على علمها بفعله في بيته فلا ينفي ما وقع منه من البول قائمًا خارجه، ولا شك أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، وأن من علم -كحذيفة وغيره- حجة على من لم يعلم، وأن المثبت مقدم على النافي. والله أعلم. سنن الفطرة ما المقصود بسنن الفطرة؟ وما هي؟ «سنن الفطرة» هي: الخصال التي إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها، وحشرهم عليها، واستحبها لهم، ليكونوا على أكمال الصفات، وأشرف صورة. وهي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه (¬1). ويتعلق بخصال الفطرة مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبُّع، منها: تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلاً (¬2). أما بعض هذه الخصال فقد ورد في: 1 - حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط» (¬3). 2 - حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل ¬

(¬1) نيل الأوطار (1/ 109)، وعمدة القاري للعيني (» / 45). (¬2) فيض القدير للمناوي (1/ 38). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5891)، ومسلم (257).

الختان

البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، قال مصعب - أحد رواة الحديث-: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» (¬1). والحاصل من الحديثين أن خصال الفطرة ليست منحصرة في هذه العشر، ولكن منها: 1 - الختان. 2 - انتقاص الماء، أي: الاستنجاء. 3 - السواك. 4 - تقليم الأظفار. 5 - قص الشارب. 6 - إعفاء اللحية. 7 - الاستحداد، وهو حلق الشعر حول الفرج (شعر العانة). 8 - نتف شعر الإبط. 9 - غسل البراجم وهي: المواضع التي تتجمع فيها الأوساخ كعقد الأصابع ومعاطف الأذن ونحوها. 10 - المضمضة والاستنشاق. الختان معناه وحكمه: الختان: مصدر (ختن) أي: قطع، والختن: قطع الجلدة التي تغطي الحشفة من الذكر، وقطع الجلدة التي في أعلى فرج الأنثى (¬2). وأما حكمه: فللعلماء فيه ثلاثة أوجه: 1 - أنه واجب على الذكر والأنثى. 2 - أنه مستحب لهما. 3 - أنه واجب على الذكر مستحب للأنثى. قال ابن قدامة في «المغنى» (1/ 85): فأما الختان فواجب على الرجال، ومكرمة في حق النساء وليس بواجب عليهن، هذا قول كثير أهل العلم. اهـ. وقال النووي في «المجموع» (1/ 301): والمذهب الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور أنه واجب على الرجال والنساء ... اهـ. ¬

(¬1) حسن: أخرجه مسلم (261)، وأبو داود (52)، والترمذي (2906)، والنسائي (8/ 126)، وابن ماجه (293). (¬2) انظر «تحفة المودود» لابن القيم (ص: 106، 132)، و «المجموع» (1/ 301).

قلت: أما ختان الذكر، فالظاهر انه واجب لما يأتي: 1 - لأنه ملة إبراهيم عليه السلام: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعد ما أتت عليه ثمانون سنة» (¬1). وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (¬2). 2 - ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أسلم: «ألق عنك شعر الكفر واختتن» (¬3). 3 - أن الختان من شعار المسلمين وميزة لهم عن اليهود والنصارى، فكان واجبًا كسائر الشعائر. 4 - أنه قطع شيء من البدن -وهو حرام- والحرام لا يستباح إلا بواجب. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، وشدد فيه مالك حتى قال: من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته، ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة، لكن السنة عنده تركها إثم (¬4). أما الأنثى: فإنه يُشرع ختانها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» (¬5) والختانان: هما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الجارية، ففيه بيان أن البنات كُنَّ يختتنَّ. وقد ورد في إيجاب الختان على الأنثى أحاديث لا يخلو أحدها من مقال، منها حديث أم عطية: أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6298)، ومسلم (370). (¬2) سورة النحل، الآية: 123. (¬3) حسنه الألباني بشواهده: أخرجه أبو داود (356)، والبيهقي (1/ 172) وفي سنده مجهولان وانقطاع، لكن حسنه الألباني بشواهده التي عزاها إلى صحيح أبي داود (383)، في «الإرواء» (79) ولم أقف عليها، وقد ضعفه النووي والشوكاني. (¬4) «تحفة المودود» (ص: 113). (¬5) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه (611) وهو في الصحيحين بلفظ «ومس الختان الختان فقد وجب الغسل». (¬6) ضعيف: أخرجه أبو داود (5271) وضعَّفه.

السواك

وفي رواية: «إذا خفضت فأشمِّي ولا تنهكي، فإنه أنضر للوجه، وأحظى عند الزوج» (¬1). وهذه أحاديث ضعيفة الإسناد، وإن كان صححها العلامة الألباني في «السلسلة الصحيحة (722). وإذا كان كذلك، فلقائل أن يقول: الختان واجب على النساء - وإن كانت هذه الأحاديث ضعيفة - كالرجال لأن الأصل تساويهما في الأحكام إلا ما دلَّ الدليل على التفريق، ولا دليل. ولآخر أن يقول: بل هو مستحب ومكرمة للنساء وليس بواجب، ووجه التفريق (¬2) بين الرجال والنساء، أن الختان في حق الرجال فيه مصلحة تعود إلى شرط من شروط الصلاة وهي الطهارة، لأنه إذا بقيت هذه الجلدة، فإن البول يبقى ويتجمع بها. أما في حق المرأة فغاية فائدته: أنه يقلل من شهوتها، وهذا طلب كمال وليس من باب إزالة الأذى. قلت: فختان الإناث دائر بين الاستحباب والوجوب، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء» (¬3) لكنه ضعيف ولو صح لكان حاسمًا للنزاع، والله أعلم. السواك معناه ومشروعيته: السواك: مأخوذ من (ساكَ) إذا دلَكَ، وهو في الاصطلاح: استعمال عود أو نحوه في الأسنان، ليذهب الصفرة وغيرها عنها (¬4). والسواك يستحب في جميع الأوقات لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب» (¬5). ¬

(¬1) منكر: أخرجه الخطب في «التاريخ» (5/ 327)، وانظر «جامع أحكام النساء» (1/ 19). (¬2) هذا الوجه أفاده العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- كما في «الممتع» (1/ 134). (¬3) ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 75). (¬4) نيل الأوطار (1/ 102). (¬5) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 50)، وأحمد (6/ 47، 62) وغيرهما.

ويتأكد استحباب السواك في الأوقات الآتية: 1 - عند الوضوء: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي، أمرتهم بالسواك مع الوضوء» (¬1). 2 - عند الصلاة: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (¬2). 3 - عند قراءة القرآن: لحديث عليٍّ قال: أُمرنا بالسواك، وقال: «إن العبد إذا قام يصلى أتاه ملك فقام خلفه يستمع القرآن ويدنو، فلا يزال يستمع ويدنو حتى يضع فاه على فيه، فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك» (¬3). 4 - عند دخول البيت: لحديث المقدام بن شريح عن أبيه قال: سألت عائشة، قلت: بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك. 5 - عند القيام لصلاة الليل: لحديث حذيفة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك» (¬4) يعني: يدلك أسنانه بالسواك. ويستحب في السواك استعمال عود «الأراك» فإن لم يجد فيجزئ غيره مما تحصل به تنقية الفم وتنظيف الأسنان، كاستعمال «فرشاة الأسنان» مع المعجون الخاص بذلك، والله أعلم. هل في تقليم الأظفار وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة توقيت معين؟ هذه الخصال لا تتوقَّت بوقت معين، وإنما الضابط فيها الحاجة، فأي وقت احتيج إلى الأخذ منها كان ذلك وقته. لكي ينبغي أن لا يُترك شيء من هذا أكثر من أربعين يومًا: لحديث أنس بن مالك قال: «وُقِّتَ لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة» (¬5). ¬

(¬1) أخرجه أحمد، وهو في «صحيح الجامع» (5316). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6813)، ومسلم (252). (¬3) صحيح الألباني: أخرجه البيهقي (1/ 38)، وانظر «الصحيحة» (1213). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (246)، ومسلم (255). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (257) وغيره.

إعفاء اللحية

إعفاء اللِّحية حكم إعفاء اللحية: إعفاء اللحية واجب على الرجال، لما يأتي: 1 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها، والأمر للوجوب، وليس هناك قرينة تصرفه إلى الندب، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين: وفرِّوا اللِّحى، وأحفوا الشوارب» (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: «جُزُّوا الشوارب، وأرخوا اللِّحى، خالفوا المجوس» (¬2). 2 - أن في حلقها تشبُّهًا بالكفار، كما في الحديثين السابقين. 3 - أن حلقها من تغيير خلق الله، وطاعة للشيطان القائل {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬3). 4 - أن في حلقها تشبُّهًا بالنساء وقد: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء» (¬4). ولذا قال شيخ الإسلام: «ويحرم حلق لحيته» (¬5) ونقل ابن حزم وغيره الإجماع على حرمة حلق اللحية (¬6). هل يجوز قصُّ ما زاد عن القبضة من اللحية؟ ذهب بعض العلماء إلى جواز أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية، وتعلقوا بحديث ابن عمر «أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل أخذه» (¬7). قالوا: وهو راوي حديث الأمر بتوفير اللحية، فهو أعرف بمرويهِّ! وليس لهم في هذا الأثر حجة لأمور (¬8): ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (260). (¬3) سورة النساء، الآية: 119. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5885)، والترمذي (2935). (¬5) «الاختيارات الفقهية» لعلاء الدين البعلي (ص 10)، وانظر «الفورع» لابن مفلح (1/ 291). (¬6) «مراتب الإجماع»، و «رد المحتار» (2/ 116). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259). (¬8) أفاده الشيخ الحبيب وحيد عبد السلام بالي -رفع الله قدره- في «الإكليل» (1/ 96).

ثانيا الطهارة الحكمية

1 - أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفعله إذا حلَّ من إحرامه في الحج والعمرة، وهم يجيزونه في كل حال. 2 - أن فعل ابن عمر هذا مخرَّج على تأوُّله لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (¬1). في النسك أن الحلق للرأس، والتقصير من اللحية (¬2). 3 - أن الصحابي إذا قال أو فعل خلاف ما رواه، فإن العبرة بما رواه لا بفهمه وفعله، فالعبرة بالمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى ما تقدم فالصواب وجوب ترك اللحية وعدم الأخذ منها عملاً بعموم الأوامر الواردة في الأحاديث الصحاح (أعفوا .. أرخوا .. أرجوا .. وفروا .. أوفروا) كما ذهب إليه الجماهير من العلماء، والله أعلم. ثانيًا الطهارة الحكمية: أنواع المياه: المياه على اختلاف أصنافها، لا تخرج عن نوعين: 1 - الماء المطلق (الماء الطهور): هو الباقي على أصل خلقته، وهو كل ما نبع من الأرض أو نزل من السماء، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} (¬3). ويدخل في هذا: مياه الأنهار والثلوج والبَرَد والآبار، حتى وإن تغير بطول مكثه أو بمخالطة طاهر لا يمكن صونه عنه. وكذلك مياه البحار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -لما سئل عن ماء البحر-: «هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتتُه» (¬4). وهذا يجوز الوضوء والغسل به بلا خلاف بين أهل العلم، وإن خالطه طاهر يسير ما دام داخلاً تحت اسم الماء، ففي حديث أم هانئ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد من قصعة فيها أثر العجين» (¬5). ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية: 27. (¬2) انظر «شرح الكرماني على البخاري» (21/ 111) عن السابق. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 11. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 176)، وابن ماجه (386). (¬5) صحيح: أخرجه النسائي (240)، وابن ماجه (378).

ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن غسَّلن ابنته زينب بقوله: «اغسلنها ثلاثًا بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا» (¬1). أما إذا خالطه طاهر فأخرجه عن مسمى الماء إلى مسمى آخر كالشاي مثلًا فلا يجوز التطهر به وكذلك لا يجوز التطهر من الحدث بما اعتصر من الطاهرات كماء الورد ونحوه لأنه ليس ماءً على الحقيقة، قال ابن المنذر (¬2): «أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم أن الوضوء غير جائز بماء الورد، وماء الشجر، وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه اسم الماء» اهـ. 2 - الماء النجس: وهو الذي خالطته نجاسة وأثرت في أحد أوصافه: فغيرت ريحه أو لونه أو طعمه، بحيث يظن مستعمله أنه يستعمل النجاسة. وهذا لا يجوز الوضوء به، لأنه نجس في نفسه. الوضوء بالماء المتساقط من أعضاء الوضوء: الماء المتساقط من أعضاء المتوضئ ونحوه يسمى «الماء المستعمل» وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم فيه: هل يخرج بذلك عن كونه مطهرًا أم لا؟ والراجح أنه يبقى مطهرًا ما دام لم يخرج عن اسم الماء المطلق، ولم تخالطه نجاسة فأثرت في أحد أوصافه. وهذا مذهب علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي أمامة، وجماعة من السلف، والمشهور من مذهب مالك، وهو إحدى الروايتين عن الشافعي وأحمد، ومذهب ابن حزم، وابن المنذر، واختاره شيخ الإسلام (¬3) ويؤيد هذا القول ما يأتي: 1 - أن الأصل أن الماء طهور ولا ينجسه شيء، قال صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء» (¬4) إلا إذا تغير أحد أوصافه، أو خرج عن اسم الماء المطلق بملاقاة طاهر. 2 - أنه قد ثبت أن الصحابة كانوا يستعملون فضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939). (¬2) المغني (1/ 11)، والمحلى (1/ 199). (¬3) المغنى (1/ 31)، والمجموع (1/ 205)، والمحلى (1/ 183)، ومجموع الفتاوى (20/ 519)، والأوسط (1/ 285). (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (266)، والترمذي (66)، والنسائي (1/ 174).

(أ) فعن أبي جحيفة قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به» (¬1). قال الحافظ في الفتح (1/ 353): ويحتمل أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل. اهـ. (ب) وفي حديث المسور بن مخرمة: «... وإذا توضأ النبي صلى الله عليه وسلم كادوا يقتتلون على وضوئه» (¬2). (جـ) عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه، ثم قال له ولبلال: «اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما» (¬3). 3 - عن ابن عمر قال: «كان الرجال والنساء يتوضئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا» (¬4). وفي رواية: «كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ندلي فيه أيدينا». 4 - عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يغتسل بفضل ميمونة» (¬5). 5 - عن الرُّبيّع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم: «مسح برأسه من فضل ماء كان في يده» (¬6). 6 - قال ابن المنذر في الأوسط (1/ 288): وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقي على أعضاء المتوضئ والمغتسل وما قطر منه على ثيابهما طاهر، دليل على طهارة الماء المستعمل، وإذا كان طاهرًا فلا معنى لمنع الوضوء به بغير حجة يرجع إليها من خالف القول. اهـ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (187). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (189). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (188). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (193)، وأبو داود (79)، والنسائي (1/ 57)، وابن ماجه (381)، والرواية بعده لأبي داود بسند صحيح. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (323) وهو في الصحيحين بلفظ «كانا يغتسلان من إناء واحد». (¬6) حسن: أخرجه أبو داود (130)، والدارقطني (1/ 87).

هذا، وقد قالت طائفة من العلماء: لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل، وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي -في إحدى الروايتين- وأصحاب الرأي (¬1). ولم يسلم لهم من الأدلة ما يُطمأن إليه، فليراجعها من شاء في المراجع المشار إليها. يجوز للرجل أن يغتسل بفضل المرأة: لأهل العلم في حكم تطهر الرجل بالماء المتبقي من وضوء المرأة أو غسلها مذهبان: الأول: لا يجوز للرجل التطهر بفضل المرأة: وهو مذهب ابن عمر وعبد الله بن سرجس رضي الله عنهما وأم المؤمنين جويرية بنت الحارث والحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق والشعبي وداود الظاهري (¬2) وحجتهم: 1 - ما رُوي عن الحكم بن عمرو -وهو الأقرع- أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» (¬3). 2 - وعن حميد الحميري قال: لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة [وليغترفا جميعًا]» (¬4). 3 - ما رُوي عن علي بن أبي طالب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناء واحد، ولا يغتسل أحدهما بفضل صاحبه» (¬5). الثاني: أنه يجوز للرجل التطهر بفضل المرأة: وبه قال عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجماعة من السلف، وأبو عبيد وابن المنذر، وهو مذهب الحنفية، ومالك والشافعي ورواية أحمد (¬6) واحتجوا بما يأتي: ¬

(¬1) الاستذكار (1/ 253)، والتمهيد (4/ 43)، والمغنى (1/ 19)، والأوسط (1/ 285). (¬2) الأوسط (1/ 292)، والمغنى (1/ 282). (¬3) أعلَّه الأئمة. أخرجه أبو داود (82)، والترمذي (64)، والنسائي (1/ 179)، وابن ماجه (373)، وأحمد (5/ 66) وأعله البخاري والدارقطني والنووي، وصححه ابن حجر والألباني في الإرواء (1/ 43). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (81)، والنسائي (1/ 130)، والبيهقي (1/ 190). (¬5) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1/ 133). (¬6) مصنف عبد الرزاق (1/ 110)، وابن أبي شيبة (1/ 38)، والأوسط (1/ 297)، والطهور لأبي عبيد (236)، والمبسوط (1/ 61)، والأم (1/ 8)، والمغنى (1/ 283).

الوضوء

1 - عن عبد الله بن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة» (¬1). 2 - عن ابن عباس قال: «اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إني كنت جنبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الماء لا يجنب» (¬2). 3 - عن عائشة قالت: «كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، كلانا جنب» (¬3) وفي رواية: «... نغترف منه جميعًا». الراجح: الذي يسلم من أدلة المذهب الأول حديث الرجل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين -على أنه قد غمز فيه البيهقي- مع أدلة المذهب الثاني، ويمكن الجمع بين الأدلة بأحد أمرين (¬4): 1 - أن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، وأحاديث الجواز على الماء المتبقي في الإناء، وبهذا جمع الخطابي. 2 - أن يحمل النهي على التنزيه مع جواز الأمرين. قلت: ولعل هذا الثاني أولى والله أعلم. الوضوء تعريفه، ودليل مشروعيَّته: الوضوء لغة: من الوضاءه، وهي النظافة والنضارة، والوُضوء (بالضم): الفعل، و (بالفتح): ماؤه، ومصدر أيضًا أو لغتان (¬5). ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أبو داود (68)، والترمذي (65)، والنسائي (1/ 173)، وابن ماجه (370) وقد أعله بعض العلماء برواية سماك عن عكرمة، فهي مضطربة، لكن رد عليهم الحافظ في «الفتح» بأن شعبة قد رواه عنه، وهو لا يحمل عن شيوخه إلا صحيح حديثهم، والله أعلم. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321). (¬4) «فتح الباري» (1/ 300 - المعرفة)، و «سبل السلام» (1/ 28)، و «نيل الأوطار» (1/ 26). (¬5) «القاموس» (1/ 33)، و «مختار الصحاح» (575)، و «المجموع» (1/ 355).

وفي الاصطلاح: استعمال الماء على أعضاء مخصوصة (الوجه واليدين والرأس والرجلين) يرفع به ما يمنع الصلاة ونحوها. وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع: (أ) فأما الكتاب، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (¬1). (ب) وأما السنة، فمن ذلك: 1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُقبَلُ صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬2). 2 - وعن ابن عمر قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلول» (¬3). 3 - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أُمرتُ بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» (¬4). 4 - وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (¬5). (جـ) وأما الإجماع، فقد اتفق علماء الأمة على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة إذا وجد السبيل إليها (¬6). من فضائل الوُضوء: (أ) أنه يعتبر نصف الإيمان: كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان ....» (¬7). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225) وغيرهما. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (224). (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (1848)، وأبو داود (3760)، والنسائي (1/ 73)، وانظر «صحيح الجامع» (2333). (¬5) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (3)، وأبو داود (60)، وابن ماجه (275)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (5761). (¬6) «الأوسط» لابن المنذر (1/ 107). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (223) وغيره.

(ب) أنه يكفِّر صغائر الذنوب: 1 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضَّأَ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إلهيا مع قطر الماء - أو مع آخر قطر الماء-، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيًّا من الذنوب» (¬1). 2 - وعن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ هكذا غفر له ما تقدَّم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة» (¬2). ويتأكد هذا الفضل والثواب لمن صلى عقب هذا الوضوء فريضة أو نافلة: 3 - ففي حديث عثمان -في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ مثل وضوئي هذا ثم قام فصلى ركعتين لا يحث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه» (¬3). (جـ) أنه يرفع درجات العبد: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدراجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (¬4). (د) أنه سبيل إلى الجنة: 1 - فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، إني سمعت دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة». قال: «ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (244) وغيره. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (229) وغيره. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6433)، مسلم (226) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (251) وغيره. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1148)، ومسلم (2458).

2 - وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين، يُقبِل عليهما بقلبه ووجهه، وجبت له الجنة» (¬1). (هـ) أنه علامة تميِّز هذه الأمة عند ورود الحوض: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا -إن شاء الله- بكم عن قريب لاحقون، وددت لو أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد» فقالوا: كيف تعرف من لم يأت من أمتك يا رسول الله؟ قال: «أرأيت لو أن رجلاً له خيل غُرٌّ محجَّلة بين ظَهْري خيل دُهْم بهم ألا يعرف خيله؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فإنهم يأتون غُرًّا مُحجَّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليَادَنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضال أناديهم ألا هَلُمَّ فيقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا» (¬2). والغرة: اللمعة البيضاء تكون في جبهة الفرس، والمراد هنا: النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والتحجيل: بياض يكون في ثلاثة قوائم من قوائم الفرس، والمراد به أيضًا: النور (¬3). (و) أنه نور للعبد يوم القيامة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمنين حيث يبلغ الوضوء» (¬4) والحلية هي: النور يوم القيامة. (ز) أنه حلٌّ لعقدة الشيطان: فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّتْ عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلى انحلَّت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (235)، والنسائي (1/ 80) وغيرهما. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (235)، والنسائي (1/ 80). (¬3) «شرح مسلم» للنووي (3/ 100). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (250)، والنسائي (1/ 80). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1142)، ومسلم (776).

صفة الوضوء الكامل (إجمالاً): عن حُمران مولى عثمان أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفَّيه ثلاث مرارٍ، فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق [واستنثر] ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬1). ومن هذا الحديث وغيره -مما سيأتي تفصيله- يمكن أن نلخص صفة الوضوء فيما يأتي: 1 - ينوي الوضوء لرفع الحدث. 2 - يذكر اسم الله تعالى. 3 - يغسل كفيه ثلاث مرات. 4 - يأخذ الماء بيمينه فيجعله في فمه وأنفه -من غرفة واحدة- فيتمضمض ويستنشق. 5 - ثم يستنثر بشماله، يفعل هذا ثلاث مرات. 6 - يغسل وجهه كله ثلاث مرات مع تخليل لحيته. 7 - بغسل يديه - اليمنى ثم اليسرى- إلى ما فوق المرفقين مع تخليل أصابع اليدين. 8 - يمسح رأسه كله مدبرًا ومقبلاً مرة واحدة. 9 - يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما. 10 - يغسل قدميه مع الكعبين -اليمنى ثم اليسرى- مع تخليل أصابع القدمين. النية شرط (¬2) لصحة الوضوء: يشترط لصحة الوضوء: النية، وهي عزم القلب على فعل الوضوء امتثالاً ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (158)، ومسلم (226). (¬2) الشرط: هو ما يلزم من عدم العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، ويكون الشرط سابقًا على الفعل خارجًا عن ماهيته.

لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما هو الشأن في سائر العبادات المحضة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ...» (¬2) وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود (¬3). بينما ذهب أبو حنيفة إلى أن الوضوء لا يشترط له النية (¬4) بناء على أنه عبادة معقولة وليست مقصودة لذاتها فأشبهت طهارة الخبث، وقول الجمهور هو الصواب، «لأن النص قد دلَّ على الثواب في كل وضوء، ولا ثواب لغير مَنْوى إجماعًا، ولأنه عبادة لا تعلم إلا بالشرع فكانت النية شرطًا فيها» (¬5). النية محلها القلب: قال شيخ الإسلام (¬6) -رحمه الله-: محل النية القلب دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين في جميع العبادات: الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والعتق والجهاد وغير ذلك ... اهـ. فلا يشرع الجهر بها ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه وتعزيره بعد تعريفه لا سيما إذا آذى به وكرره، والجاهر بالنية مسيء، ولو اعتقده دينًا وتعبد الله بالنطق بها فقد ابتدع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا ينطقون بالنية مطلقًا، ولم يحفظ عنهم ذلك، ولو كان مشروعًا لبينه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم إنه ليس هناك حاجة إلى التلفظ بالنية لأن الله يعلم بها (¬7). فوائد: 1 - قال شيخ الإسلام: «.. ولو تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه كان الاعتبار بما نوى لا بما لفظ، ولو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه لم يجز ذلك باتفاق أئمة المسلمين، فإن النية هي جنس القصد والعزم ...» اهـ. ¬

(¬1) سورة البينة، الآية: 5. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907). (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 6)، و «المجموع» (1/ 347)، و «التمهيد» (22/ 100، 101). (¬4) «بدائع الصنائع» (1/ 19 - 20) وانظر السابق. (¬5) نحوه في «الفروع» لابن مفلح (1/ 111). (¬6) «مجموعة الرسائل الكبرى» (1/ 243). (¬7) انظر: زاد المعاد (1/ 196)، وإغاثة اللهفان (1/ 134)، وبدائع الفوائد (3/ 186)، و «الفروع» (1/ 111)، و «الشرح الممتع» (1/ 159).

أركان الوضوء

2 - إذا اجتمعت أحداث توجب الوضوء (كما لو بال ثم تغوط ثم نام ...) فإن نوى رفع الحدث عن واحد منها ارتفع عن الجميع -على الصحيح- لأن الحدث وصف واحد وإن تعددت أسبابه (¬1). 3 - الأَوْلى أن ينوي المتوضئ رفع الحدث مطلقًا خروجًا من خلاف العلماء في إجزاء بعض صور النية عن سائرها، وهذه الصور هي: أن ينوي رفع الحدث، أو أن ينوي الطهارة لما تجب له، أو أن ينوي الطهارة لما تسن له، أو أن ينوي تجديد الوضوء المسنون (¬2). أركان الوضوء أركان الوضوء هي ما يتركب منه حقيقته، بحيث إذا تخلف ركن منها، بطل الوضوء، ولا يعتد به شرعًا، وهي: 1 - غسل الوجه كله: والوجه: ما تحصل به المواجهة، وحدُّه: من منحنى الجبهة من الرأس (أو من منابت الشرع المعتاد) إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا. وغسل الوجه ركن من أركان الوضوء لا يصح بدونه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬3). وقد أثبت كل من روى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم غسل الوجه، وأجمع على هذا أهل العلم. وتجب المضمضة والاستنشاق: المضمضة هي: غسل الفم وتحريك الماء فيه. والاستنشاق هو: إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه. والاستنثار هو: إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق. وهما واجبان -في الوضوء- في أصح أقوال العلماء، وذلك لما يأتي: 1 - أن الله تعالى قد أمر بغسل الوجه -كما تقدم- والفم والأنف منه، ولا موجب لتخصيصه بظاهره دون باطنه فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجهًا، فإن ¬

(¬1) انظر «المجموع» (1/ 385)، و «الشرح الممتع» (1/ 165). (¬2) انظر خلاف العلماء في هذه المسائل في «المجموع» (1/ 385) وما بعدها. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6.

قلت: قد أُطلق على خرم الفم والأنف اسمٌ خاص فليسا في لغة العرب وجهًا؟! قلنا: وكذلك أطلق على الخدين والجبهة وظاهر الأنف والحاجبين وسائر أجزاء الوجه أسماء خاصة، فلا تسمى وجهًا! وهذا في غاية السقوط لاستلزامه عدم وجوب غسل الوجه (¬1). 2 - أن الله تعالى أمر بغسل الوجه مطلقًا وفسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وتعليمه، فمضمض واستنشق في كل وضوء توضأه، ولم ينقل عنه أنه أخل به أبدًا مع اقتصاره على أقل ما يجزئ، وفعله صلى الله عليه وسلم إذا خرج امتثالاً لأمر كان حكمه حكم ذلك الأمر في اقتضاء الوجوب (¬2). 3 - أنه ثبت الأمر بالاستنشاق والاستنثار من قوله صلى الله عليه وسلم: (أ) «من توضأ فليستنثر» وفي رواية: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم ليستنثر» (¬3). (ب) «إذا توضأ أحدكم فليستنشق ...» (¬4). (جـ) «... وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (¬5). قال شيخ الإسلام (¬6): «.. وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الاستنشاق بالأمر، لا لأنه أولى بالتطهير من الفم، كيف والفم أشرف لأنه محل الذكر والقراءة، وتغيُّره بالخلوف أكثر؟ لكن يشبه -والله أعلم- أن الفم لما شرع له التطهير بالسواك وأوكد أمره، وكان غسله بعد الطعام مشروعًا، وقبل الطعام على قول، علم اعتناء الشارع بتطهيره بخلاف الأنف فإنه ذُكر لبيان حُكْمه خشية أن يُهمل» اهـ. 4 - أنه قد جاء الأمر بالمضمضة كذلك في أحاديث، أحسنها حالاً: حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأت فمضمض» (¬7). ¬

(¬1) انظر «نيل الأوطار» (1/ 174) ط. الجيل، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 563). (¬2) «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 178)، و «التمهيد» لابن عبد البر (4/ 36). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (161)، ومسلم (237). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (237). (¬5) صحيح: وسيأتي مرارًا. (¬6) «شرح العمدة» (1/ 179 - 180). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (140)، والترمذي (38)، والنسائي (1/ 66)، وابن ماجه (448).

قلت: ولو قال قائل بأن أدلة إيجاب المضمضة والاستنشاق مصروفة إلى الندب بحديث رفاعة بن رافع في قصة المسيء صلاته أنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء: «إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ...» الحديث (¬1). فلم يذكر المضمضة أو الاستنشاق فيما أمر الله به، فوافق الآية الكريمة، وذكر الوجه فيهما ليس مجملاً حتى يقال إنه مبين بالسنة. فهذا أيضًا قول قوي ومتجه والله أعلم. فائدة: اعلم أن العلماء اختلفوا في حكم المضمضة والاستنشاق في الطهارتين (الوضوء والغسل) على أربعة أقوال (¬2). الأول: أنهما واجبان في الغسل دون الوضوء، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحاب الرأي. الثاني: أنهما سنة في الغسل والوضوء، وبه قال مالك والشافعي والليث والأوزاعي وجماعة. الثالث: أنهما واجبان في كل من الغسل والوضوء، وبه قال عطاء وابن جريج وابن المبارك وإسحاق ورواية عن أحمد، وهو مشهور مذهب الحنابلة. الرابع: أن الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة سنة فيهما، وبه قال: أحمد -في رواية- وأبو عبيد وأبو ثور وطائفة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر. غسل اللحية وسائر شعر الوجه (¬3): إذا كانت الشعور النابتة على الوجه (اللحية والشارب والعنفقة (¬4) والحاجبان وأهداب العينين) كثيفة لا تصف البشرة أجزأه غسل ظاهرها، وإن كانت تصف البشرة وجب غسلها معه، وإن كان بعضها خفيفًا والبعض الآخر كثيفًا وجب غسل بشرة الخفيف معه وظاهر الكثيف. وأما ما استرسل من اللحية: فعند أبي حنيفة ورواية عن أحمد أنه لا يجب ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (859)، والترمذي (302)، والنسائي (2/ 20، 193)، وابن ماجه (460) وغيرهم. (¬2) «اختلاف العلماء» للمروزي (ص 23 - 24)، و «التمهيد» (4/ 34)، و «الأوسط» (1/ 379)، و «التحقيق» لابن الجوزي (1/ 143)، و «المحلى» (2/ 50). (¬3) «شرح فتح القدير» (1/ 12)، و «المغنى» (1/ 87)، و «المجموع» (1/ 380). (¬4) العنفقة: الشعر النابت بين الشفة السفلى والذقن.

غسل المسترسل منها، وإنما يكفيه غسل ما كان على حد الوجه، لأن المراد بالوجه البشرة فقط. وعند الشافعي وظاهر مذهب أحمد أنه يجب غسل المسترسل مهما كان، لأنه نابت في محل الفرض فيدخل في مسمَّاه ظاهرًا، وهو الأظهر والله أعلم. 2 - غسل اليدين إلى المرفقين: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬1). وقد أجمع العلماء على وجوب غسل اليدين في الوضوء. واعلم أن «إلى» في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. بمعنى «مع» كقوله سبحانه: {وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬2). وكقوله: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (¬3). أي: مع قوتكم، وقال المبِّرد: إذا كان الحد من الجنس المحدود دخل فيه. وعلى هذا فيجب إدخال المرفقين في الغَسل، وهذا مذهب الجمهور خلافًا لبعض المالكية (¬4). ويؤيده فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة: «أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ» (¬5). ثم إن القاعدة: «أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» ولا يتم معرفة غسل اليد كاملة إلا إذا أدار الماء على المرفقين (¬6). 3 - مسح الرأس: قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} (¬7) وقد أجمع العلماء على أن مسح الرأس فرض، واختلفوا في القدر المجزئ منه على ثلاثة أقوال: ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) سورة النساء، الآية: 2. (¬3) سورة هود، الآية: 52. (¬4) المبسوط (1/ 6)، وبداية المجتهد (1/ 11)، والمجموع (1/ 389)، والمغنى (1/ 90). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (246). (¬6) «اختيارات ابن قدامة» للغامدي (1/ 164). (¬7) سورة المائدة، الآية: 6.

الأول: وجوب مسح الرأس كاملاً في حق الرجل والمرأة سواء: وهو مذهب مالك وظاهر مذهب أحمد وجماهير أصحابه وأبي عبيد وابن المنذر واختاره ابن تيمية (¬1) واستدلوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}. والباء للإلصاق، فيكون التقدير: (وَامْسَحُوا رُؤُوسِكُمْ) كما أنه يمسح الوجه للتيمم، لأنهما في التنزيل بلفظ واحد، قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} (¬2) أي جميعها. 2 - أن هذا الأمر فسَّرته السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما توضأ مسح رأسه كله، ومن ذلك: حديث عبد الله بن زيد قال: «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر (¬3)، فتوضأ فغسل وجهه ثلاثًا، ويديه مرتين إلى المرفقين، ومسح برأسه فأقبل به وأدبر، وغسل رجليه» (¬4) وفي لفظ «ومسح رأسه كله». 3 - حديث المغيرة بن شعبة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح على خفيه، ومقدم رأسه وعلى عمامته» (¬5) فلو أجزأ مسح مقدم الرأس لما مسح على العمامة فدلَّ على وجوب الاستيعاب. الثاني: يجزئ مسح بعض الرأس: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي (¬6)، واختلفوا في القدر المجزئ فقيل ثلاث شعرات وقيل ربع الرأس وقيل النصف!! وحجتهم: 1 - أن الباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} للتبعيض وليست للإلصاق. 2 - ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسحه على الناصية (مقدم الرأس). الثالث: وجوب مسح الرأس كله للرجل دون المرأة: وهو رواية عن أحمد أنه قال: أرجو أن تكون المرأة في مسح الرأس أسهل، كانت عائشة رضي الله عنها تمسح مقدم ¬

(¬1) «المدونة» (1/ 16)، و «المغنى» (1/ 92)، و «الطهور» (ص: 358)، و «الأوسط» (1/ 399)، ومجموع الفتاوى (21/ 123). (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) التور: إناء أو قدح، والصُّفر: جيِّد النحاس. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (185)، ومسلم (235). (¬5) أخرجه مسلم (275)، وأبو داود (150)، والترمذي (100) وقد تُكلِّم فيه وصححه الألباني، رحمه الله. (¬6) «المبسوط» (1/ 8)، و «المجموع» (1/ 399)، و «المغنى» (1/ 92).

رأسها قال ابن قدامة: «وأحمد من أهل الحديث، ولا يستدل بحادثة عين إلا إذا ثبتت عنده إن شاء الله» (¬1). قلت (أبو مالك): الذي يترجح مما تقدم أنه يجب مسح الرأس كله في الوضوء لقوة أدلته وأما من قال بأن الباء في الآية للتبعيض، فقد أنكره سيبويه في خمسة عشر موضعًا من كتابه، وقال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. اهـ (¬2). ثم إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة (¬3). وأما المرأة فلا أعلم دليلاً على التفريق بينها وبين الرجل في ذلك، لكن يجوز لها أن تمسح على خمارها، ولو مسحت مقدم رأسها مع الخمار فهو أولى خروجًا من الخلاف. والله أعلم. فائدة: إذا كان الرأس ملبدًا بحناء ونحوها جاز المسح عليه: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في إحرامه ملبِّدًا رأسه -كما سيأتي في الحج- فلا يُتكلف نقضه لأجل الوضوء، فإن ما وضع على الرأس من ذلك تابع له، والله أعلم. 4 - مسح الأذنين: يجب مسح الأذنين مع الرأس، لأنهما منه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأذنان من الرأس» (¬4) والحديث ضعيف مرفوعًا على الراجح، لكنه ثابت عن جمع من السلف منهم ابن عمر (¬5). ويشهد لذلك الأحاديث التي فيها «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه مرة ¬

(¬1) «المغنى (1/ 93). (¬2) «نيل الأوطار» (1/ 155)، و «المغنى» (1/ 87). (¬3) «مجموع الفتاوى» (21/ 122)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 571)، و «سبل السلام» (1/ 107). (¬4) ضعيف: وله طرق كثيرة كلها معلولة وقد اختلف في تحسينه بمجموعها، بل ذهب العلامة الألباني -رحمه الله- في «الصحيحة» (1/ 55) إلى أنه ربما يرتقى إلى درجة المتواتر عند بعض العلماء (!!) وقد تعقبه شيخنا -حفظه الله- في «النظرات» ورجح ضعفه وهو الصواب، وقد ضعفه الشيخ مشهور حسن -حفظه الله- بعد بحث رائق في حاشيته على «الخلافيات» للبيهقي (1/ 448). (¬5) إسناده حسن: أخرجه الدارقطني (1/ 98)، وابن أبي شيبة (1/ 28) وغيرهما.

واحدة» (¬1). وهي كثيرة عن عليٍّ وابن عباس والربيِّع وعثمان، قال الصنعاني: «كلهم متفقون على أن مسحهما مع الرأس مرة واحدة، أي: بماء واحد، كما هو ظاهر لفظة «مرة» إذ لو كان يؤخذ للأذنين ماء جديد ما صدق أنه «مسح على رأسه وأذنيه مرة واحدة» وإن احتمل أن المراد أنه لم يكرر مسحهما وأنه أخذ لهما ماء جديدًا فهو احتمال بعيد» اهـ (¬2). قلت: وإن أخذ لأذنيه ماءً جديدًا فلا بأس كذلك، لثبوته عن ابن عمر (¬3). تنبيه: لا يشرع مسح الرقبة في الوضوء، لأنه لم يصح فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4). 6 - غسل الرجلين مع الكعبين (¬5): وغسل الرجلين واجب عند جماهير أهل السنة، لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (¬6). بنصب «أرجلكم» عطفًا على المغسولات. وكل من روى صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أثبت غسل الرجلين إلى الكعبين، ومن ذلك حديث عثمان الذي فيه: «... ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ..» (¬7). والكعبان داخلان في الغسل، لأن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه -كما تقدم- ويدل على هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركنا وقد أرهَقْنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثًا (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (133)، والترمذي (36)، والنسائي (1/ 74)، وابن ماجه (439) وغيرهم وله طرق يصح بها عن ابن عباس، وأصله عند البخاري (157) مختصرًا، وله شاهد من حديث الربيع بنت معوِّذ، أخرجه أبو داود (126)، والترمذي (33)، وابن ماجه (418) وكذا من حديث المقدام بن معد يكرب. (¬2) «سبل السلام» (1/ 49). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (29)، والبيهقي (1/ 65). (¬4) «مجموع الفتاوى» (1/ 56)، و «زاد المعاد» (1/ 49)، وانظر «السلسلة الضعيفة» (69 - 744). (¬5) الكعبان: هما العظمتان الناتئتان على جانبي القدم. (¬6) سورة المائدة، الآية: 6. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (158)، ومسلم (226). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (161)، ومسلم (241).

وأما ما ورد من مسحه صلى الله عليه وسلم في وضوئه فمحمول على مسح الخفين وهو رخصة كما سيأتي، وقد خالف في هذه المسألة الرافضة وأكثر الشيعة فقالوا بوجوب مسح القدمين دون غسلهما، والصحيح المعمول به الأول، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين» (¬1). تخليل أصابع اليدين والرجلين: الأصابع وما بينهما جزء من محل الفرض فيجب غسلها فإذا لم يتم غسلها إلا بتخليلها وجب تخليلها وإلا فهو مستحب كما سيأتي. 7 - الترتيب: وهو تطهير أعضاء الوضوء عضوًا عضوًا بالترتيب الذي أمر الله به في الآية الكريمة فيغسل الوجه ثم اليدين ثم يمسح الرأس ثم يغسل القدمين، والترتيب واجب في أصح قولي العلماء، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وأبي ثور وأبي عبيد والظاهرية (¬2). واستدلوا على الوجوب بما يلي: 1 - أن الله تعالى قد ذكر في الآية فرائض الوضوء مرتبة مع فصل الرجلين عن اليدين - وصرفهما الغسل- بالرأس الذي فرضه المسح، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة وهي هنا إيجاب الترتيب (¬3). 2 - أن كل من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاه مرتبًا (¬4)، وفِعله مفسر لكتاب الله تعالى. 3 - لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتبًا ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» (¬5). لكنه حديث ضعيف. وقد ذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي (¬6) إلى أن الترتيب مستحب وليس بواجب، وحجتهم: ¬

(¬1) «فتح الباري» (1/ 266)، و «المغنى» (1/ 120). (¬2) «المجموع» (1/ 433)، و «المغنى (1/ 100)، و «المحلى» (2/ 66). (¬3) نحوه في «المغنى» (1/ 100). (¬4) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة وضوئه عشرون صحابيًّا كلهم مرتبًا ما عدا حديثين ضعيفين وقد صححهما الألباني -رحمه الله- في «تمام المنة» (ص 85) بما لا يسلم له. (¬5) ضعيف: انظر «الإرواء» (85). (¬6) «المدونة» (1/ 14)، و «المبسوط» (1/ 55)، و «شرح فتح القدير» (1/ 30).

1 - أن العطف في الآية لا يقتضي الترتيب، وفيما تقدم رد على هذا. 2 - ما رُوي عن عليٍّ وابن مسعود أنهما قالا: «ما أبالي بأي أعضائي بدأت» (¬1). ويجاب عن هذا بما قاله الإمام أحمد، كما في «مسائل ابنه عبد الله» (27 - 28): «إنما يعني: اليسرى قبل اليمنى، ولا بأس أن يبدأ بيساره قبل يمينه، لأن مخرجها من الكتاب واحد، قال تعالى: {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (¬2). فلا بأس أن يبدأ باليسار قبل اليمين» اهـ. قلت: وإن كان الأولى البدء باليمين ابتاعًا للسنة والله أعلم. 8 - الموالاة: وهي المتابعة بين أعضاء الوضوء في الغسل بحيث لا يجف العضو قبل غسل ما يليه في الزمان المعتد. وقد ذهب الشافعي في قوله القديم، وأحمد في المشهور، إلى وجوب الموالاة، وكذلك مالك إلا أنه فرق بين من تعمد التفريق وبين المعذور وهو الذي اختاره شيخ الإسلام (¬3). ويدل على الوجوب حديث عمر بن الخطاب أن رجلاً توضأ فترك موضع ظُفُر على قدميه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» فرجع ثم صلى (¬4). وفي رواية عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي في ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة» (¬5). ¬

(¬1) أثر علي أخرجه أحمد في «العلل» (1/ 205)، وابن أبي شيبة (1/ 55)، والدارقطني (1/ 88) وسنده ضعيف، وأثر ابن مسعود أخرجه البخاري في «التاريخ» (1650)، وأبو عبيد في الطهور (325) بسند حسن بلفظ: «إن شاء بدأ في الوضوء بيساره» كما قال الإمام أحمد. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) «الأم» (1/ 30)، و «المجموع» (1/ 451)، و «كشاف القناع» (1/ 93)، و «المدونة» (1/ 15)، و «الاستذكار» (1/ 267)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 135). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (232)، وابن ماجه (666)، وأحمد (1/ 21)، وقد تُكلم فيه، إلا أن له شواهد يصح بها بلا ريب، وانظر «التلخيص» (1/ 95)، و «الإرواء» (86). (¬5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود 0175)، وأحمد (3/ 424) من طريق بقية بن الوليد عن بحير عن خالد به، وقد صرَّح بقية بسماعه من بحير عند أحمد، وجوَّد أحمد إسناده، ولذا صححه الألباني في الإرواء (86)، قلت: وهو حسن لولا ما يخشى من تسوية بقيَّة ولم يصرح بسماع بحير من خالد!!.

وذهب أبو حنيفة والشافعي في الجديد إلى أن الموالاة ليست واجبة وهو رواية عن أحمد وهو مذهب ابن حزم (¬1)، قالوا: 1 - لأن الله تعالى أوجب غسل الأعضاء، فمن أتى بغسلها فقد أتى بالذي عليه، فرَّقها أو أتى بها نسقًا متتابعًا. 2 - ولما رواه نافع «أن ابن عمر توضأ في السوق فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ثم دُعيِ إلى جنازة فدخل المسجد ثم مسح على خفيه وصلى» (¬2). 3 - ضعَّفوا الحديث الذي فيه الأمر بإعادة الوضوء والصلاة. 4 - أوَّلوا قوله صلى الله عليه وسلم: «ارجع فأحسن وضوءك» بأن المراد الإتمام بغسل ما لم يصبه الماء من القدم. قلت: الفاصل في النزاع -مما تقدم- حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه الأمر بإعادة الوضوء والصلاة، فمن صححه قال بالوجوب، وإلا فباقي الأدلة محتملة، والذي يظهر لي وجوب الموالاة لهذا الحديث، ولأن الوضوء عبادة واحدة فلا تفرُّق، وأما أثر ابن عمر فظاهر أنه في حال عذر واضطرار فلا يقاس عليها حال الاختيار، والله أعلم. لكن إذا حصل تفريق يسير بين غسل الأعضاء فلا يضر، والله أعلم. سنن الوضوء: 1 - السواك: وقد تقدم استحبابه في «سنن الفطرة». 2 - التسمية في أوله: التسمية في ذاتها أمر حسن مشروع في الجملة، وقد ورد في التسمية عند الوضوء أحاديث ضعيفة -وإن صححها بعض العلماء- ومن ذلك حديث «ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬3). وثمة أحاديث أخرى ضعيفة جدًّا لا تصلح للاحتجاج، ولذا قال الإمام أحمد: لا أعلم في هذا الباب حديثًا له إسناد جيد. اهـ. ¬

(¬1) «المبسوط» (1/ 56)، و «الأم» (1/ 30)، و «المجموع» (1/ 451)، و «المحلى» (2/ 70). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مالك (48)، وعنه الشافعي (16)، والبيهقي في «المعرفة» (99). (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (101)، والترمذي (25)، وأحمد (2/ 418) وغيرهم والراجح ضعفه، وقد حسنه الألباني -رحمه الله- في «الإرواء» (1/ 122) وللشيخ الفاضل أبي إسحاق الحويني -حفظه الله- جزء في تصحيحه، والأمر فيه قريب والله أعلم.

قلت: ويؤيد عدم إيجاب التسمية أن من حكوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التسمية، وهذا مذهب الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وهو رواية عن أحمد (¬1). 3 - غسل الكفين في أوله: لما في حديث عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: «... فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلها ...» (¬2). 4 - المضمضة والاستنشاق من كفٍّ واحدة ثلاثًا: لما في حديث عبد الله بن زيد في تعليمه وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه تمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثًا» (¬3). 5 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم: لحديث لقيط بن صبرة مرفوعًا: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (¬4). 6 - تقديم اليمنى على اليسرى: ففي حديث ابن عباس في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: «... ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرشَّ على رجله اليمنى، حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى ...» (¬5). وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يحب التيامن في تنعله وترجُّله وطهوره وفي شأنه كله» (¬6). 7 - غسل الأعضاء ثلاثًا: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «توضأ مرة مرة» (¬7). وأنه «توضأ مرتين مرتين» (¬8) وأكمل الوضوء وأتمُّه أن تغسل الأعضاء ثلاثًا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديثي عثمان وعبد الله بن زيد، وقد تقدما. ¬

(¬1) «فتح القدير» (1/ 22)، و «مواهب الجليل» (1/ 266)، و «مجموع» (1/ 385)، و «الإنصاف» (1/ 128). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (159)، ومسلم (226). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (235)، والترمذي (28)، وابن ماجه (405). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (142)، والنسائي (1/ 66)، وابن ماجه (407)، وأحمد (4/ 33). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (140). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (168)، ومسلم (268). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (156)، عن ابن عباس. (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (157)، عن عبد الله بن زيد.

تنبيهان: (أ) مسح الرأس يكون مرة واحدة: فلا يتناوله التثنية والتثليث التي وردت مجملة في أحاديث صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم، وأما الروايات التي فيها تثليث مسح الرأس فلا يصح منها شيء، وأما الروايات التي فيها أنه مسح مرتين فهي تأويل لقوله «فأقبل بهما وأدبر» -كما قال ابن عبد البر (¬1) - ولا يقال في رد اليدين على الرأس في مسحه أنه تكرار لأن التكرار إنما يكون باستئناف أخذ الماء، ثم إن استحباب التكرار مقصور على المغسول دون الممسوح (¬2)، ومن أقوى ما يدل على عدم تكرار مسح الرأس حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي فسأله عن الوضوء فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: «هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم» (¬3). قال الحافظ في الفتح (1/ 298): «فإن رواية سعيد بن منصور فيها التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدلَّ على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحب، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح -إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس جميعًا بين الأدلة» اهـ. قلت: وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد -في الصحيح عنه- خلافًا للشافعي -رحمهم الله- (¬4). (ب) يكره الزيادة على الثلاث لمن أسبغ: الثلاث في أعضاء الوضوء أكمل الوضوء وأتمُّه، ويكره الزيادة عليها، لحديث: «فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم» ومحل هذا ما لم تكن هذه الزيادة لتمام نقصان، وأما إن أسبغ وضوءه بالثلاث أو بما دونها فيكره الزيادة على الثلاث وهذا مما لا خلاف فيه (¬5). ¬

(¬1) «الخلافيات» للبيهقي (1/ 336) تعليق الشيخ مشهور آل سلمان - أثابه الله- وانظر «الطهور» لأبي عبيد (ص 359). (¬2) «مقدمات ابن رشد على المدونة» (ص 16). (¬3) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 88)، وابن ماجه (422)، وأحمد (2/ 180). (¬4) «المبسوط» (1/ 5)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 98)، و «المغنى» (1/ 127)، و «الأم» (1/ 26). (¬5) «التمهيد» لابن عبد البر (20/ 117) بنحوه مختصرًا.

8 - تخليل اللحية الكثيفة: تقدم أن اللحية إذا كانت كثيفة لا تصف البشرة فإنه يجزئ غسل ظاهرها، ونزيد هنا أنه يستحب تخليلها بالماء، لحديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته، وقال: «هكذا أمرني ربي عز وجل» (¬1)، وهذا الأمر مصروف إلى الاستحباب بحديث رفاعة بن رافع -المتقدم- في قصة المسيء صلاته. 9 - دلك الأعضاء: لحديث عبد الله بن زيد قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ فجعل يَدْلُك ذراعيه» (¬2). 10 - تخليل أصابع اليدين والرجلين: لقوله صلى الله عليه وسلم: «أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (¬3). وإذا كانت الأصابع وما بينها لا تغسل إلا بالتخليل فهو حينئذٍ واجب كما قدمنا. 11 - الزيادة في الغسل على محل الفرض: يستحب إسباغ الوضوء وزيادة غسل الوجه إلى مقدم الرأس (ويسمى إطالة الغرة) وغسل ما فوق المرفقين والكعبين (ويسمى إطالة التحجيل) ففي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء» قال أبو هريرة: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (¬4). وعن أبي هريرة «أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ» (¬5). وعنه قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» (¬6). ¬

(¬1) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (145)، والبيهقي (1/ 54)، والحاكم (1/ 149)، وانظر «الإرواء» (92). (¬2) صحيح: أخرجه ابن حبان (1082)، والبيهقي (1/ 196). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (36)، ومسلم (246). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (246). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (250).

12 - الاقتصاد في استعمال الماء: لحديث أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمُدِّ» (¬1) والصاع: أربعة أمداد، والمُدُّ: قرابة نصف اللتر المعروف. 13 - الدعاء بعد الوضوء: عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ ثم يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» (¬2). وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رقٍّ ثم طبع بطابع فلا يكسر إلى يوم القيامة» (¬3). 14 - صلاة ركعتين بعد الوضوء: لحديث عثمان قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬4). وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الصبح: «يا بلال، أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دُفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة؟» قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طُهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي (¬5). يجوز تنشيف الأعضاء بعد الوضوء: لعدم ورود المانع من ذلك، والأصل الإباحة، فإن قيل: قد ثبت أن ميمونة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم -بعد اغتساله- بمنديل فلم ينفض بها وانطلق وهو ينفض يديه» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (198)، ومسلم (325). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (234). (¬3) صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (9909)، والحاكم (1/ 564) وله شواهد. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6433)، ومسلم (226). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1149)، ومسلم (2458). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (270).

نواقض الوضوء

فنقول: هذه واقعة عين تحتمل عدة أمور: فإنه إما أن يكون رد المنديل لسبب فيه كعدم نظافته أو أنه يخشى أن يبله بالماء أو غير ذلك، ثم إن إتيانها رضي الله عنها بالمنديل فيه إشعار أن التنشيف كان من عادته (¬1)، ويتأيد الجواز بما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: «توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح بها» (¬2). قال الترمذي (54): «وقد رخَّص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كرهه إنما كرهه من قِبَل أنه قيل: إن الوضوء يوزن» اهـ. لا يصح الوضوء مع وضع «المانيكير» على الأظفار (¬3): لأنه يمنع نفاذ الماء إلى محل الفرض، أما اللون وحده كالخضاب بالحناء ونحوه فلا يؤثر، وإن كان الأفضل إزالته -كذلك- قبل الوضوء والصلاة، لقول ابن عباس: «نساؤنا يختضبن أحسن خضاب: يختضبن بعد العشاء، وينزعن قبل الفجر» (¬4). وعن إبراهيم النخعي -في المرأة تخضب يديها على غير وضوء ثم تحضُرها الصلاة - قال: «تنزع ما على يديها إذا أرادت أن تصلي» (¬5). نواقض الوضوء وهي ما يبطل بها الوضوء، وهي: 1 - خروج البول أو الغائط أو الريح من السبيلين: فأما البول والغائط فلقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} (¬6) والغائط كناية عن قضاء الحاجة من بول أو غائط، وقد أجمع العلماء على انتقاض الوضوء بخروجهما من السبيلين «القُبُل والدُّبُر» (¬7). وأما خروجهما من غير القبل والدبر -كالخروج من جرح في المثانة أو البطن- ¬

(¬1) أفاده في «الشرح الممتع» (1/ 181)، وانظر «زاد المعاد» (1/ 197). (¬2) إسناده قريب من الحسن: أخرجه ابن ماجه (468، 3564). (¬3) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 39). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 120). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (1/ 77، 78). (¬6) سورة المائدة، الآية: 6. (¬7) «الإجماع» (ص 17)، و «الأوسط» (1/ 147) لابن المنذر.

فتنازع فيه العلماء، فمن اعتبر الخارج وحده - كأبي حنيفة والثوري وأحمد وابن حزم - قالوا: ينقض الوضوء بكل نجاسة تسيل من الجسد من أي موضع خرجت. ومن اعتبر المخرجين -كالشافعي- قال: ينقض إذا خرج منهما ولو لم يكن نجسًا كالحصاة ونحوها (¬1). وأما الريح فإن خرجت من الدبر -بصوت أو بدونه- فناقضة للوضوء كذلك إجماعًا ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» فقال رجل من حضرموت: ما الحديث يا أبا هريرة؟ قال: فُساء أو ضراط (¬2). وإن خرجت الريح من القُبُل، فقال الجمهور (¬3): تنقض، وقال أبو حنيفة ووافقه ابن حزم: لا تنقض الوضوء، لأن «الفساء والضراط» اسمان لا يقعان على الريح إلا إن خرجت من الدبر (¬4). قلت: إن وجد الريح التي تُعرف فهي ناقضة سواء خرجت من القبل أو الدبر، وإلا فمن الدبر وحده. تنبيه: قد تحس المرأة بشيء يشبه الريح ينبعث من الفرج، فهذا اختلاج -أي: انجذاب وتحرك- وليس بريح خارجة، فلا تنقض وضوءها إذ هي بمنزلة الجشاء ونحوه، لكن إن كانت المرأة مفضاه -وهي التي اختلط مسلك بولها وغائطها- فإنها تتوضأ احتياطًا لاحتمال أن يكون خروج الريح من الدبر. والله أعلم. 2 - خروج المني والودي والمذي: خروج المني ناقض إجماعًا ويوجب الغُسل -كما سيأتي- وكل ما يوجب الغسل يبطل الوضوء إجماعًا (¬5)، والمذي ناقض لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذَّاءً، فأمرت رجلاً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فسأل فقال: «توضأ واغسل ذكرك» (¬6) ونحوه الودي، فالواجب فيهما أن يغسل فرجه ويتوضأ، ¬

(¬1) «المحلى» (1/ 232)، و «بداية المجتهد» (1/ 40)، و «الأوسط» (1/ 137). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225) لكن عنده بدون قول أبي هريرة. (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 40)، و «الأم» (1/ 17). (¬4) «المحلى» (1/ 232)، و «المبسوط» (1/ 83). (¬5) «الإفصاح» (1/ 78)، و «الإجماع» (ص 31). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (269)، ومسلم (303).

وقال ابن عباس: «المني والودي والمذي: أما المني فهو الذي منه الغسل، وأما الودي والمذي فقال: اغسل ذكرك -أو مذاكيرك- وتوضأ وضوءك للصلاة» (¬1). فائدة: من كان مُبتلىً بسلس بول أو سلس مذي أو كان يتكرر عنده خروج شيء مما تقدم حتى يشق عليه -لعلة في جسده- فإنه يغسل ما أصاب ثوبه وبدنه ويتوضأ لكل صلاة -كالمستحاضة كما سيأتي- ثم لا يضره ما خرج من صلاته أو فيما بين وضوئه وصلاته. 3 - النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك: اختلفت الآثار الواردة في الوضوء من النوم وتعارضت ظواهرها، فهناك أحاديث يدل ظاهرها على أنه ليس في النوم وضوء أصلاً، وأخرى يوجب ظاهرها أن النوم حدث، فذهب العلماء فيها مذهبين: مذهب الجمع ومذهب الترجيح، فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط الوضوء من النوم مطلقًا وقال: ليس بحدث، وإما أوجبه مطلقًا وقال: النوم حدث. ومن ذهب مذهب الجمع قال: النوم ليس حدثًا وإنما هو مظنة للحدث، وهؤلاء اختلفوا في صفة النوم الذي يجب منه الوضوء، فهذه ثلاثة مسالك للعلماء، تفرع منها ثمانية أقوال (¬2) وهي: الأول: النوم لا ينقض الوضوء مطلقًا: وهو محكي عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وأبو موسى الأشعري، وهو قول سعيد بن جبير ومكحول وعبيدة السلماني والأوزاعي وغيرهم، وحجتهم: 1 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أقيمت الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلاً، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى بهم» (¬3). 2 - وعن قتادة قال: سمعت أنسًا يقول: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يصلُّون ولا يتوضَّأون» قال: قلت: سمعته من إنس؟ قال: إي والله (¬4). وفي لفظ «ينتظرون الصلاة فينعسون حتى تخفق رؤوسهم، ثم يقومون إلى الصلاة». ¬

(¬1) إسناده صحيح: البيهقي (1/ 115). (¬2) انظرها في «المحلى» (1/ 222 - 231)، و «الاستذكار» (1/ 191)، و «الأوسط» (1/ 142)، وفتح الباري (1/ 376)، و «شرح مسلم» للنووي (2/ 370 - قلعجي)، وعنه «نيل الأوطار» (1/ 241). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6192)، ومسلم (376) واللفظ له. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (376)، والترمذي (78).

3 - حديث ابن عباس قال: بتُّ عند خالتي ميمونة «فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني قال: فصلى إحدى عشرة ركعة» (¬1). 4 - حديث ابن عباس في مبيته عند ميمونة وفيه: «.. ثم نام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ثم خرج إلى الصلاة» (¬2) وفي لفظ «ثم قام فصلى ولم يتوضأ». الثاني: النوم ينقض الوضوء مطلقًا: لا فرق بين قليله وكثيره، وهو مذهب أبي هريرة وأبي رافع وعروة بن الزبير وعطاء والحسن البصري وابن المسيب والزهري والمزني وابن المنذر وابن حزم، وهو اختيار الألباني: 1 - لحديث صفوان بن عسال قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلا من جنابة» (¬3) قالوا: فعمَّ صلى الله عليه وسلم كلَّ نوم ولم يخص قليله من كثيره، ولا حالاً من حال، وسوَّى بينه وبين الغائط والبول. 2 - ولما رُوى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «العينان وكاء السَّه (¬4)، فمن نام فليتوضأ» (¬5) وهو ضعيف. 3 - حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه» (¬6). وقد استدل به البخاري في «صحيحه» على إيجاب الوضوء من النوم، والذي يظهر لي أن في الاستدلال به على ذلك نظرًا، فإن جعل العلة من الانصراف من الصلاة لأجل النوم هي خشية أن يدعو على نفسه أو ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763) واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (117)، ومسلم (184)، وأحمد (1/ 341). (¬3) حسن: أخرجه النسائي (1/ 32)، والترمذي (3535)، وابن ماجه (478)، وانظر «الإرواء» (104). (¬4) «السَّه»: حلقة الدبر، و «الوكاء» الخيط الذي يربط به فم القربة، فجعل اليقظة للعين مثل الوكاء للقربة، فإذا نامت العين استطلق ذلك الوكاء وكان منه الحدث. (¬5) ضعيف: أخرجه أبو داود (203)، وابن ماجه (477) وغيرهما وهو ضعيف على الأرجح، وقد حسنه الألباني. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (212)، ومسلم (222).

يتكلم بما لا يعلم وأن لا يحضر قلبه فينتفي الخشوع، وهذا لا تعلق له بالوضوء من النوم، بل ربما استدل به القائلون بعدم النقض بالنوم، فلينظر. 4 - قالوا: أهل العلم مجمعون على إيجاب الوضوء على من زال عقله بجنون أو أغمى عليه على أي حال كان ذلك منه، فكذلك النائم. الثالث: كثير النوم ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض: وهذا قول مالك ورواية عن أحمد وبه قال الزهري وربيعة والأوزاعي (!!)، وقد حملوا حديث أنس في نوم الصحابة على النوم القليل، واستدلوا بحديث أبي هريرة: «من استحق النوم فقد وجب عليه الوضوء» (¬1). والصحيح أنه موقوف عليه، وحديث ابن عباس: «وجب النوم على كل نائم إلا من خفق رأسه خفقة أو خفقتين» (¬2). الرابع: لا ينقض النوم إلا إذا نام مضطجعًا أو متكئًا: وأما من نام على هيئة من هيئات الصلاة كالراكع والساجد والقائم والقاعد فلا ينتقض وضوؤه سواء كان في الصلاة أو لم يكن. وهو قول حماد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وداود وقول للشافعي، وحجتهم: 1 - ما رُوى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على من نام جالسًا وضوء حتى يضع جنبه» (¬3) وهو ضعيف لا يصح. 2 - حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به الملائكة يقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي» (¬4) وقاسوا سائر هيئات المصلي على السجود، قلت: وهو ضعيف الإسناد، قال البيهقي: ثم ليس فيه أنه لا يخرج من صلاته، والقصد منه -إن صح- الثناء على العبد المواظب على الصلاة حتى يغلبه النوم ... اهـ. ¬

(¬1) صحيح موقوفًا: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 158)، وعبد الرزاق (481) موقوفًا بسند صحيح وقد ورد مرفوعًا ولا يصح كما قال الدارقطني في «العلل» (8/ 328)، وانظر «الضعيفة» (954). (¬2) ضعيف موقوفًا ومرفوعًا: أخرجه عبد الرزاق (479)، والبيهقي (1/ 119)، وانظر «علل الدارقطني» (8/ 310). (¬3) منكر: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 2459)، والدارقطني (1/ 160)، والطبراني في «الأوسط». (¬4) ضعيف: وانظر «السلسلة الضعيفة» (953).

الخامس: لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد: وعزاه النووي إلى أحمد، ولعل وجهه أن هيئة الركوع والسجود مظنة للانتقاض. السادس: لا ينقض إلا نوم الساجد وهو مروي عن أحمد كذلك. السابع: لا ينقض النوم في الصلاة بحال وينقض خارجها: وهو مروي عن أبي حنيفة للحديث الذي تقدم في القول الرابع. الثامن: لا ينقض إذا نام جالسًا ممكِّنًا مقعدته من الأرض سواء في الصلاة أو خارجها، قل أو كثر: وهو مذهب الشافعي، لأن النوم عنده ليس حدثًا في نفسه وإنما هو مظنة الحدث، قال الشافعي: «لأن النائم جالسًا يكل للأرض فلا يكاد يخرج منه شيء إلا انتبه له» اهـ. فاختاره الشوكاني، قلت: والقائلون بهذا القول حملوا حديث أنس في نوم الصحابة على أنهم كانوا جلوسًا، وقد ردَّه الحافظ في «الفتح» (1/ 251) بقوله: «لكن في مسند البزار بإسناد صحيح في هذا الحديث: فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة» (¬1) اهـ. الراجح: أن النوم المستغرق الذي ليس معه إدراك، بحيث لا يشعر صاحبه بالأصوات، أو بسقوط شيء من يديه، أو سيلان ريقه ونحو ذلك، فغنه ناقض للوضوء، لأنه مظنة للحدث، سواء كان قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا أو راكعًا أو ساجدًا، لا فرق بين شيء من هذا، فإن كان أصحاب القول الأول يعنون بالنوم هذا النوع فنحن معهم، وإلا فالنوم اليسير وهو النعاس الذي يشعر الإنسان بما تقدم، لا ينقض على أي حال كان، لحديث نوم الصحابة حتى تخفق رءوسهم وحديث ابن عباس في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا تجتمع الأدلة كلها الواردة في الباب، ولله الحمد والمنة. فائدة: لما كان النوم مظنة الحدث الموجب للوضوء، وكُلَ انتقاضه إلى المتوضئ بحسب حالته في النوم، وما يغلب على ظنِّه، فإذا شَك: هل نومه مما ينقض أو ليس ينقض؟ فالأظهر أن لا يحكم بنقض الوضوء، لأن الطهارة ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك وهذا اختيار شيخ الإسلام في «الفتاوى» (21/ 230). ¬

(¬1) إسناد صحيح: أخرجه البزار ونحوه أخرجه أبو داود في «مسائل أحمد» (ص 318)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين وانظر «تمام المنة» (ص 100).

24 - زوال العقل، بالسُّكْر أو الإغماء أو الجنون: وهذا ناقض إجماعًا (¬1)، والذهول عند هذه الأمور أبلغ من النوم. 5 - مَسُّ الفَرْج بلا حائل سواء بشهوة أو بدونها: لأهل العلم في الوضوء من مس الذكر أربعة أقوال، قولان بالترجيح وقولان بالجمع: الأول: مس الذكر لا ينقض الوضوء مطلقًا: وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايات عن مالك، وهو مروي عن طائفة من الصحابة (¬2)، واستدلوا بما يلي: (أ) حديث طلق بن عليٍّ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل هو إلا بضعة منك» (¬3) وفي لفظ أن الرجل السائل قال: «بينا أنا في الصلاة إذْ ذهبتُ أحكُّ فخذي، فأصابت يدي ذكري» فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما هو منك» (¬4). (ب) قالوا: لا خلاف في أن الذكر إذا مسَّ الفخذ لا يوجب وضوءًا، ولا فرق بين اليد والفخذ، وتكلموا في حديث بسرة (¬5) -الآتي- الذي فيه الأمر بالوضوء من مسِّ الذكر. الثاني: مس الذكر ينقض الوضوء مطلقًا: وهو مذهب مالك -في المشهور عنه- والشافعي وأحمد وابن حزم وهو مروي عن أكثر الصحابة رضي الله عنهم (¬6) وحجتهم: (أ) حديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مس ذكره فليتوضأ» (¬7). ¬

(¬1) «الأوسط» لابن المنذر (1/ 155). (¬2) «البدائع» (1/ 30)، و «شرح فتح القدير» (1/ 37)، و «المدونة» (1/ 8 - 9)، و «الاستذكار» (1/ 308 وما بعدها). (¬3) إسناده لين: أخرجه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (1/ 101) واختلف في صحته والأظهر ضعفه لأجل قيس بن طلق. وقد صححه الألباني ولكلٍّ وجهه ولا نحجر الواسع، والله أعلم. (¬4) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (183)، وأحمد (4/ 23)، والبيهقي (1/ 135) وغيرهم. (¬5) «الأوسط» (1/ 203)، وانظر «شرح معاني الآثار» (1/ 71 - 79). (¬6) «الاستذكار» (1/ 308)، و «المدونة» (1/ 8 - 9)، و «الأم» (1/ 19)، و «المجموع» (1/ 24)، و «المغنى» (1/ 178)، و «الإنصاف» (1/ 202)، و «المحلى» (1/ 235). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (181)، والنسائي (1/ 100)، وابن حبان (1112).

(ب) حديث أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مسَّ فرجه فليتوضأ» (¬1). وقد ورد نحوهما من حديث أبي هريرة وأروى بنت أنيس وعائشة وجابر وزيد بن خالد وعبد الله بن عمرو. قالوا: وحديث بسرة يرجَّح على حديث طلق، وذلك لأمور منها: 1 - أن حديث طلق معلول وقد أعلَّه أبو زرعة وأبو حاتم، وبالغ النووي في المجموع (2/ 42) فحكى اتفاق الحفاظ على تضعيفه! 2 - أنه لو صح لكان حديث أبي هريرة -الذي في معنى حديث بسرة- مقدمًا عليه لأن طلقًا قدم المدينة وهم يبنون المسجد، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد ذلك بست سنين فيكون ناسخًا لحديث طلق (¬2). 3 - أن حديث طلق مُبقٍ على الأصل، وحديث بسرة ناقل، والناقل مقدم لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوًا عليه. 4 - أن رواة النقض بالمس أكثر وأحاديث أشهر. 5 - أنه قول أكثر الصحابة. 6 - أن حديث طلق محمول على أنه حكَّ فخذه فأصاب ذكره وراء الثوب كما تدل عليه رواية أنه كان في الصلاة. الثالث: ينقض إذا كان مس الذكر بشهوة ولا ينقض إذا مسَّ بدونها: وهو رواية عن مالك، واختاره العلامة الألباني (¬3)، والقائلون بهذا حملوا حديث بسرة على ما إذا كان لشهوة وحديث طلق على ما إذا كان لغير شهوة، قالوا: دل عليه قوله: «إنما هو بضعة منك» فإذا مس ذكره بغير شهوة صار كأنما مس سائر أعضائه. الرابع: الوضوء من مسِّ الذكر مستحب مطلقًا وليس بواجب: وهو مذهب ¬

(¬1) صحيح لشواهده: أخرجه ابن ماجه (481)، وأبو يعلى (7144)، والبيهقي (1/ 130)، وانظر «الإرواء» (117). (¬2) وممن قال بالنسخ: الطبراني في «الكبير» (8/ 402)، وابن حبان (3/ 405 - إحسان)، وابن حزم في «المحلى» (1/ 239)، والحازمي في «الاعتبار» (77)، وابن العربي في «العارضة» (1/ 117)، والبيهقي في «الخلافيات» (2/ 289). (¬3) انظر مراجع المالكية التي تقدمت، و «تمام المنة» (ص 103) وهناك عزا هذا القول إلى أنه اختيار ابن تيمية قال: «على ما أذكر» قلت: بل مذهب ابن تيمية الرابع كما سترى فجلَّ من لا يسهو.

أحمد في إحدى الروايتين وشيخ الإسلام ابن تيمية، وكأنه الذي مال إليه العلامة ابن عثيمين -رحمهما الله تعالى- إلا أنه استحبه إذا مس بغير شهوة، وقوى إيجابه إذا كان لشهوة احتياطًا (¬1)، فحملوا حديث بسرة على الاستحباب وحديث طلق على أن السؤال فيه كان عن الوجوب. ويُستدل للقولين الأخيرين القائمين على مسلك الجمع بما يلي: 1 - أن دعوى النسخ بتقدم إسلام طلق وتأخر إسلام بسرة فيها نظر، لأن هذا ليس دليلاً على النسخ عند المحققين من أئمة الأصول، لأنه ربما يكون المتقدم حدث به عن غيره. 2 - أن في حديث طلق علة لا يمكن أن تزول وهي كون الذكر بضعة منه وإذا ربط الحكم بعلة لا يمكن أن تزول فلا يزول الحكم، فلا يمكن النسخ. 3 - ثم إنه لا يصار إلى النسخ إلا بعد تعذُّر الجمع لا سيما ولا يصح النسخ كما تقدم. قلت: «أبو مالك»: القول الأخير من القوة بمكان، لكن إذا صح حديث طلق ابن علي، وهذا غير مسلَّم بل القول بضعفه متجه، فيتألَّق القول بأن مسَّ الذكر ناقض للوضوء مطلقًا سواء مسَّه بشهوة أو بدونها، لأن الشهوة لا حد لها ولا دليل على اعتبارها، والله أعلم. فوائد تتعلق بما سبق: 1 - المرأة إذا مست فرجها تتوضأ: لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مسَّ ذكره فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» (¬2) ويؤيد هذا قول عائشة رضي الله عنها: «إذا مست المرأة فرجها توضأت» (¬3) والأصل أن النساء شقائق الرجال في الأحكام، وهذا مذهب الشافعي وأحمد، خلافًا لأبي حنيفة ومالك!! 2 - مسُّ فَرْج الغير: إذا مسَّ الرجل فرج امرأته أو مست ذكره فلا دليل على انتقاض وضوء أحدهما إلا إذا أمذى أو أمنى فينتقض لذلك لا لمجرد المسِّ، وقال ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (21/ 241)، و «الشرح الممتع» (1/ 233). (¬2) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (2/ 223)، والبيهقي (1/ 132). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «مسنده» (90)، والبيهقي (1/ 133)، وصحح الحاكم وقفه (1/ 138).

مالك والشافعي يجب الوضوء (¬1)، وهذا مبنى على مذهبهما في نقض الوضوء بلمس المرأة، وسيأتي أن الراجح خلافه. وكذلك مسُّ المرأة أو الرجل لذكر الصبي ونحوه لا ينقض الوضوء وقد وافق في هذا مالك وهو قول الزهري والأوزاعي (¬2). 3 - مسُّ الفجر يستوي فيه الخطأ والعمد (¬3): وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وإسحاق وأحمد. وذهب طائفة إلى أن الناقض إنما هو تعمد المسِّ وقصده منهم مكحول وجابر ابن زيد وسعيد بن جبير وهو مذهب ابن حزم واستدل بقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬4). والأظهر الأول، قال ابن المنذر: واللازم لمن جعل مس الذكر بمعنى الحدث الذي يوجب الوضوء أن يجعل خطأه وعمده سواء كسائر الأحداث. اهـ. قلت: الخطأ والنسيان -فيما يتعلق بالشروط والأركان- يرفعان الإثم لا الحكم والله أعلم. 4 - المسُّ من فوق الثوب لا ينقض: لأنه لا يسمى مسًّا كما هو واضح ويؤيده حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ» (¬5). 5 - مسُّ الدُّبُر لا ينقض (¬6): لأن الدبر لا يسمى فرجًا، ولا يصح أن يقاس على الذكر لعدم العلة الجامعة بين مس الدبر والذكر، فإن قيل: كلاهما مخرج للنجاسة، فيقال: ليس هذا علة انتقاض الوضوء من مسهِّ، ثم إن مس النجاسة لا ينقض الوضوء، فكيف بمس مخرجها؟!! وهذا قول مالك والثوري وأصحاب الرأي خلافًا للشافعي. 6 - من النواقض أكل لحم الإبل: يجب على من أكل لحوم الإبل نيئة أو مطبوخة أو مشوية أن يتوضأ، لحديث ¬

(¬1) «مواهب الجليل» (1/ 296)، و «الأم» (1/ 20). (¬2) «الكافي» لابن عبد البر (1/ 149)، و «الأوسط» (1/ 210). (¬3) «المحلى» (1/ 241)، و «الأوسط» (1/ 205 - 207). (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 5. (¬5) حسن: أخرجه الدارقطني (1/ 147)، والبيهقي (1/ 133)، وانظر «الصحيحة» (1235). (¬6) «المحلى» (1/ 238)، و «الأوسط» (1/ 212).

جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم، توضأ من لحوم الإبل» (¬1). وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «توضأوا من لحوم الإبل، ولا توضأوا من لحوم الغنم» (¬2). وهذا مذهب أحمد وإسحاق وأبي خيثمة وابن المنذر وابن حزم وهو أحد قولي الشافعي واختاره شيخ الإسلام وهو مروي عن ابن عمر وجابر بن سمرة، بينما ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري وطائفة من السلف إلى أنه لا يجب الوضوء من أكل لحوم الإبل وإنما يستحب (¬3)، لحديث جابر قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» (¬4) قالوا: فقوله: «مما مست النار» تشمل لحوم الإبل كذلك وقد ثبت نسخه. ويجاب عن هذا بأمرين (¬5): الأول: أن حديث جابر عام، وما ورد في نقض الوضوء بلحم الإبل خاص، والعام يحمل على الخاص، فيخرج منه ما قام الدليل على تخصيصه، ولا يقال بالنسخ لإمكان الجمع. الثاني: أن الأمر الوارد بالوضوء من لحوم الإبل إنما هو حكم فيها خاصة سواء مستها النار أو لم تمسها، فليس مس النار إياها -إن طبخت- بموجب للوضوء فحكمها خارج عن الأخبار الواردة بالوضوء مما مست النار وبنسخ الوضوء منه. وقال بعضهم: المراد بالوضوء في الحديث: (غسل اليد)!! وهذا باطل (¬6)، فإن الوضوء لم يرد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إلا وضوء الصلاة، ثم إنه في رواية مسلم لحديث جابر بن سمرة قرن الأمر بالوضوء من لحم الإبل بالصلاة في مباركها مفرقًا بين ذلك وبين الصلاة في مرابض الغنم، وهذا مما يفهم منه وضوء الصلاة قطعًا. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (360)، وابن ماجه (495). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494). (¬3) «المبسوط» (1/ 80)، و «مواهب الجليل» (1/ 302)، و «المجموع» (1/ 57)، و «المغنى» (1/ 138)، و «المحلى» (1/ 241)، و «الأوسط» (1/ 138). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (192)، الترمذي (8)، والنسائي (1/ 108). (¬5) «المحلى» (1/ 244)، و «الممتع» (1/ 249). (¬6) «مجموع الفتاوى» (21/ 260 - وما بعدها).

فالراجح: أنه يجب الوضوء من أكل لحم الإبل على كل حال، ولذا قال النووي في «شرح مسلم» (1/ 328 - قلعجي): وهذا المذهب أقوى دليلاً وإن كان الجمهور على خلافه .. اهـ. تنبيهان: الأول: عزا النووي في «شرح مسلم» (1/ 328) القول بعدم الوضوء من لحوم الإبل إلى الخلفاء الراشدين الأربعة (!!) وهذه دعوى لا دليل عليها ولا يعرف السند إليهم بذلك، وقد نبه على خطأ هذه الدعوى ابن تيمية -رحمه الله- فقال: «وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة أنهم لم يكونوا يتوضأون من لحوم الإبل، فقد غلط عليهم، وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم لم يكونوا يتوضأون مما مست النار ......» اهـ (¬1). الثاني: قصة مشهورة لا أصل لها (¬2). اشتهرت بين العوام قصة يرددونها إذا سمعوا بعض طلاب العلم يذكر وجوب الوضوء من لحم الإبل وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه فوجد ريحًا من أحدهم، فاستحيا أن يقوم من بين الناس، وكان قد أكل لحم جزور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل لحم جزور فليتوضأ» فقام جماعة كانوا أكلوا من لحمه، فتوضأوا!! وهذه القصة ضعيفة من جهة السند ومنكرة من جهة المتن. أمور لا تنقض الوضوء: هذه أمور اختلف أهل العلم في انتقاض الوضوء بها، والتحقيق أنها لا تنقضه، فمن ذلك: [1] لمس الرجل المرأة بدون حائل: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للعلماء: الأول: أن لمس الرجل المرأة ناقض للوضوء مطلقًا، وهو مذهب الشافعي ووافقه ابن حزم، وهو قول ابن مسعود وابن عمر (¬3). الثاني: أنه لا ينقض مطلقًا، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن ¬

(¬1) «القواعد النورانية» (ص 9) عن «تمام المنة» (ص 105). (¬2) انظر «الضعيفة» للألباني (1132) و «قصص لا تثبت» لمشهور حسن (ص: 59). (¬3) «الأم» (1/ 15)، و «المجموع» (2/ 23 وما بعدها)، و «المحلى» (1/ 244).

الشيباني، وهو قول ابن عباس وطاوس والحسن وعطاء، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، وهو الراجح. الثالث: أن المس ينقض إذا كان بشهوة، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه (¬2). قلت: عمدة ما استدل به القائلون بنقض الوضوء من مس المرأة، قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (¬3) وصح عن ابن مسعود وابن عمر «أن المس ما دون الجماع» (¬4). لكن خالفهما حبر الأمة ابن عباس فقال: «المسُّ واللمس والمباشرة: الجماع ولكن الله يكني ما شاء بما شاء» (¬5) ولا شك أن تفسيره مقدم على غيره، ثم إن في الآية نفسها دليلاً عليه، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا} (¬6). هذه طهارة بالماء عن الحدث الأصغر، ثم قال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وهذه طهارة بالماء عن الحدث الأكبر، ثم قال: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. فقوله {فَتَيَمَّمُوا} هذا بدل عن الطهارتين، فكان قوله {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} بيان سبب الصغرى، وقوله {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} بيان سبب الكبرى (¬7). ولْيُعلم أن تأويل الشافعي نفسه لمعنى المسِّ في الآية الكريمة لم يكن من منه على سبيل الجزم والقطع، بل الظاهر عن عبارته أنه ذكره على شيء من الحذر (¬8) فقال في «الأم» (1/ 12) بعد ذكر الآية: «فأشبه أن يكون أوجب الوضوء من الغائط وأوجبه من الملامسة وإنما ذكرها ¬

(¬1) «المبسوط» (1/ 68)، و «البدائع» (1/ 30)، و «الأوسط» (1/ 126)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 410). (¬2) «المدونة» (1/ 13)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 119)، و «المغنى» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 145). (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) صحيح: «تفسير الطبري» (1/ 502) بأسانيد صحيحة. (¬5) إسناده صحيح: أخرجه الطبري (9581)، وابن أبي شيبة (1/ 166). (¬6) سورة المائدة، الآية: 6. (¬7) «الشرح الممتع» (1/ 239)، ونحوه في «الأوسط» (1/ 128). (¬8) أفاده الشيخ مشهور -حفظه الله- في تحقيقه «للخلافيات» (2/ 217).

موصولة بالغائط بعد ذكر الجنابة، فأشبهت الملامسة أن تكون باليد، والقبلة غير الجنابة» اهـ. ويؤيد هذا أن ابن عبد البر نقل عن الشافعي أنه قال: «إن ثبت حديث معبد بن نباتة (¬1) في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوء» اهـ ونقل الحافظ في «التلخيص» (ص: 44) نحوه!! قلت: ومما يؤيد أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء ما يلي: 1 - حديث عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ....» (¬2). 2 - وعنها قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليَّ، فإذا قام بسطتهما» قالت: «والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح» (¬3) وفي لفظ: «حتى إذا أراد أن يوتر مسَّني برجله» (¬4). 3 - قد كان المسلمون دائمًا يمسون نساءهم، وما نقل أحد عنه أنه كان يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك، ولا نقل عن الصحابة على حياته أنه توضأ من ذلك، ولا نقل عنه أنه توضأ من ذلك، بل قد نُقل عنه في «السنن»: «أنه كان يقبل بعض نسائه، ولا يتوضأ» (¬5) وقد اختلف في صحة هذا الحديث، لكن لا خلاف أنه لم ينقل عنه الوضوء من المسِّ» (¬6) اهـ. وأما القول بالنقض بشهوة وعدمه بدونها فلا برهان عليه، لكن قد يقال: إن توضأ من المسِّ بشهوة -دون الجماع- فهو حسن لإطفاء الشهوة كما يستحب الوضوء من الغضب لإطفائه، وأما وجوبه فلا، والله أعلم. ¬

(¬1) وهو حديث عائشة في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه قبل الخروج للصلاة وسيأتي، فلما علَّق الحكم على ثبوته دلَّ على تردده في تأويل الآية. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (222)، وأبو داود (865)، والترمذي (3819). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (382)، ومسلم (272) وغيرهما. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه النسائي (1/ 101). (¬5) أعلَّه الأئمة: أخرجه أبو داود (178)، والنسائي (1/ 104)، وأعلَّه المتقدمون وانظر «سنن الدارقطني» (1/ 135 - 142). (¬6) «مجموع الفتاوى» (21/ 410، 20/ 222) ومواضع أخرى.

[2] خروج الدم من غير المخرج المعتاد، سواء كان بجرح أو حجامة، قليلاً أو كثيرًا: فهذا غير ناقض في أصح قولي العلماء، وهو مذهب الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: ينقض، وهو مذهب الحنابلة إذا كان الدم كثيرًا (¬1)، والأول أرجح لأمور: 1 - أن الأحاديث التي توجب الوضوء منه لا يصح منها شيء. 2 - أن الأصل البراءة، والمتوضئ وضوءًا صحيحًا لا ينتقض إلا بنص أو إجماع. 3 - حديث جابر بن عبد الله في قصة غزوة ذات الرقاع وفيه: «... اضطجع المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، فرماه [رجل] بسهم فوضعه فيه فنزعه، حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ثم انتبه صاحبه، فلما عرف أنهم قد قدروا به هرب، فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله ألا أنبهتني أوَّل ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها» (¬2). «ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك ولم ينكر عليه الاستمرار في الصلاة بعد خروج الدم، ولو كان الدم ناقضًا لبيَّن ذلك له ولمن معه في تلك الغزوة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز» (¬3). 4 - وقد ثبت «أن عمر بن الخطاب -لما طعن- صلى وجرحه يثعب دمًا». 5 - وقد تواترت الأخبار -في أن المجاهدين في سبيل الله كانوا يذوقون آلام الجراحات ولا يستطيع أحد أن ينكر سيلان الدماء من جراحاتهم وتلويث ثيابهم، ومع هذا يصلون على حالهم ولم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بالخروج من الصلاة أو منعهم منها، ولذا قال الحسن البصري: «ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم» (¬4). ¬

(¬1) «الأم» (1/ 180)، و «المجموع» (2/ 55)، و «الاستذكار» (2/ 269)، و «المبسوط» (1/ 74)، و «المغنى» (1/ 184). (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 280)، ووصله أبو داود (195)، وأحمد (3/ 343)، وابن حبان (1096)، والحاكم (1/ 156)، والدارقطني (1/ 223) وسنده ضعيف لأجل عقيل بن جابر، ورأى الألباني في «صحيح أبي داود» (193) تصحيحه!!. (¬3) «السيل الجرار» (1/ 99). (¬4) أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 280)، ووصله ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في «الفتح» (1/ 281).

[3] القيء ونحوه: ومذاهب العلماء في هذه المسألة كمذاهبهم في خروج الدم تمامًا، والصواب أنه لا ينقض الوضوء، لعدم صحة شيء من الأدلة في إيجابه، ولأن الأصل البراءة. وأما حديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء، فأفطر فتوضأ» (¬1). فلا ريب في أنه لا يفيد وجوب الوضوء من القيء لأنه مجرد فعل، فغايته أن يدل على الاستحباب. والله أعلم. [4] القهقهة في الصلاة أو خارجها: أجمع أهل العلم على أن الضحك في غير الصلاة لا ينقض طهارة ولا يوجب وضوءًا، وأجمعوا على أن الضحك في الصلاة يبطل الصلاة، واختلفوا في نقض الوضوء من الضحك في الصلاة، فذهب أبو حنيفة وأصحاب الرأي والثوري والحسن والنخعي إلى أنه ينقض الوضوء، واحتجوا بحديث منقطع لا يثبت وهو حديث أبي العالية «أن رجلاً ضرير البصر جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فتردَّى في حفرة في المسجد فضحك طوائف من القوم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة» (¬2). وإنما الثابت حديث جابر موقوفًا: أنه سئل عن الرجل يضحك في الصلاة؟ فقال: «يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء» (¬3). وهذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور (¬4). [5] تغسيلُ الميت وحَمْلُه: من غسَّل ميتًا أو حمله فلا ينتقض وضوؤه -على الراجح- لكن استحب بعض أهل العلم لمن غسَّل ميتًا أن يغتسل ولمن حمله أن يتوضأ لحديث أبي هريرة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (87)، وأبو داود (2381)، وانظر «الإرواء» (111). (¬2) إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه الدارقطني (1/ 162)، وابن عدي (2/ 716). (¬3) صحيح موقوفًا: أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 280)، ووصله البيهقي (1/ 144)، والدارقطني (1/ 172). (¬4) «المجموع» (2/ 61)، و «الكافي» (1/ 151)، و «المغنى» (1/ 117)، و «الأوسط» (1/ 227).

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (¬1) إن صحَّ الحديث. [6] شكُّ المتوضئ في الحَدَث: من توضأ وضوءًا صحيحًا ثم شك هل أحدث أم لا، فهو باقٍ على أصل ما أيقن به من الطهارة حتى يوقن بالحدث وإن شك في الحدث وهو في الصلاة، لم ينصرف حتى يستيقن الحدث، لحديث عبد الله بن زيد قال: «شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يُخيَّل إليه الشيء في الصلاة؟ قال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» (¬2). قال البغوي في «شرح السنة» (1/ 353): «معناه: حتى يتيقَّن الحدث، لأن سماع الصوت أو وجود الريح شرط» اهـ. وجوب الوضوء لأجل الصلاة لا غير: يجب الوضوء لمن أراد الصلاة -وهو مُحدث- سواء كانت فرضًا أو نفلاً أو جنازة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا ...} (¬3) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» (¬4). ولا يجب الوضوء لغير الصلاة، ولا يحرم على المحدث شيء غير الصلاة، وإنما يستحب عند أمور تأتي. وأما الطواف بالكعبة: فلم نقف على دليل صحيح صريح يُلزم الطائفين بالوضوء، وقد كانت أعداد من المسلمين لا يحصيهم إلا الله عز وجل يطوفون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد لنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا منهم بالوضوء لطوافه مع احتمال انتقاض وضوء كثير منهم أثناء الطواف، ودخول كثير منهم الطواف بلا وضوء، وخاصة في تلك الأيام ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (3162)، والترمذي (993)، وابن ماجه (1463)، وأحمد (2/ 433)، وحسنه الترمذي وابن حجر والألباني في «الإرواء» (1/ 174) لكن الظاهر أنه يحتاج إلى تتبع!! فقد أعِلَّ. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (224) وغيره. (¬4) «جامع أحكام النساء» لشيخنا، حفظه الله (2/ 515).

التي يشتد فيها الزحام كطواف القدوم والإفاضة، فلما لم يرد دليل على إيجاب الوضوء للطواف، وليس هناك إجماع من أهل العلم على الوجوب مع الاحتياج إلى ذلك، دلَّ على عدم الوجوب» اهـ (¬1). وقد استدل العلماء على إيجاب الوضوء للطواف بحديث ابن عباس مرفوعًا: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ...» (¬2) قالوا: إذا كان الطواف صلاة فيجب له الوضوء كالصلاة، لكن هذا مردود بأمرين: الأول: أن الحديث لا يصح مرفوعًا، والصواب أنه موقوف من كلام ابن عباس كما رجَّحه الترمذي والبيهقي وابن تيمية وابن حجر وغيرهم. الثاني: على فرض صحته، فلا يلزم منه أن الطواف يشبه الصلاة في كل شيء حتى يشترط له ما يشترط للصلاة (¬3)، ثم إن الصلاة الشرعية التي يشترط لها الطهارة ونحوها ما كان تحريمها التكبير وتحليلها التسليم. ولذا قال شيخ الإسلام: «وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب، ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى [أي: الوضوء] فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه ...» اهـ (¬4) وإلى هذا ذهب أبو محمد بن حزم (¬5). وأما مس المصحف: فقد ذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء إلى أنه لا يجوز للمُحدِث أن يمسَّ المصحف (¬6)، وغاية ما استدلوا به أمران: 1 - قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (¬7). ¬

(¬1) موقوف: أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم، ولا يصح مرفوعًا، وإنما الصواب وقفه كما بينه شيخنا -رفع الله قدره- في «جامع أحكام النساء» (2/ 515 - 521) خلافًا للعلامة الألباني -رحمه الله- الذي صحح رفعه في «الإرواء» (1/ 156). (¬2) انظر «مجموع الفتاوى» (26/ 198)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 522) ففيه أحد عشر فرقًا بين الصلاة والطواف. (¬3) «مجموع الفتاوى» (26/ 298). (¬4) «المحلى» (7/ 179). (¬5) «المجموع» (1/ 17)، و «الاستذكار» (8/ 10)، و «المغنى» (1/ 147)، و «الأوسط» (2/ 102). (¬6) سورة الواقعة، الآية: 79. (¬7) ضعيف: له أسانيد ضعيفة وبعضها صحيفة لا سند لها، وقد اختلف في ترقيتها بمجموعها إلى الحسن، فصححه الألباني في «الإرواء» (1/ 158) والأظهر أنه لا يرتقى فالله أعلم.

2 - حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا وفيه: «لا يمسُّ القرآن إلا طاهر» (¬1). قلت: ويُجاب عما استدلوا به بما يلي: 1 - أما الآية الكريمة فلا يتم الاستدلال بها إلا بعد جعل الضمير في (يمسهُّ) راجعًا إلى القرآن، والظاهر الذي عليه أكثر المفسِّرين أنه عائد على الكتاب المكنون الذي في السماء وهو اللوح المحفوظ، والمطهرون: هم الملائكة، ويُشعر بهذا سياق الآيات الكريمة: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (¬2). ويتأيد هذا بقوله تعالى {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (¬3). 2 - وأما الحديث فضعيف لا يصلح للاحتجاج، لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد. وعلى فرض صحته، وأن الضمير في الآية عائد على القرآن، فنقول: «الطاهر» من المشتركات اللفظية، فيطلق على المؤمن، وعلى الطاهر من الحدث الأكبر، وعلى الطاهر من الحدث الأصغر، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، فرجعت المسألة إلى المقرر في الأصول: فمن أجاز حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه، حمله عليها هنا، لن لما كان إطلاق اسم النجس على المؤمن المُحدِث أو الجنب لا يصح لا حقيقة ولا مجازًا ولا لغة لقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس» (¬4) وثبت أن المؤمن طاهر دائمًا، امتنع أن يتناوله الآية والحديث، فيتعين حمل اللفظ على من ليس بمشترك، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬5). ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو. ¬

(¬1) سورة الواقعة، الآيات: 77 - 79. (¬2) سورة عبس، الآيات: 13 - 16. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (279)، ومسلم (371). (¬4) سورة التوبة، الآية: 28. (¬5) مستفاد من «نيل الأوطار» (1/ 260 - دار الحديث).

ومن قال: المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يُبيَّن، قال: لا حجة في الآية أو الحديث حتى ولو صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثًا أكبر أو أصغر (¬1). فعلم أنه لا دليل على إيجاب الوضوء لمسِّ المصحف، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وابن حزم وبه قال ابن عباس وجماعة من السلف واختاره ابن المنذر (¬2)، والله أعلم. فائدة: قراءة القرآن -من غير مسٍّ- للمحدث: سواء الحدث الأصغر أو الأكبر فلا بأس بها -في أظهر أقوال العلماء- والأمر فيها أيسر من الأمر في مسِّ المصحف لأمور: 1 - لا يصح شيء مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من القراءة، وكل ما ورد ضعيف لا تقوم به حجة، كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن»، وحديث ابن رواحة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحد منا القرآن وهو جنب»، وحديث عبد الله بن مالك: «إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل» فكلها لا تصح (¬3). 2 - ثبت عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه» (¬4). 3 - أنه صلى الله عليه وسلم أمر الحُيَّض بالخروج يوم العيد «فيكُنَّ خلف الناس فيكبرون بتكبيرهم ويدعون بدعائهم ...» (¬5) ففيه أن الحائض تكبر وتذكر الله تعالى. 4 - وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة وهي حائض: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (¬6) ومعلوم أن الحاج يذكر الله ويقرأ القرآن. ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 33)، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 173)، و «المحلى» (1/ 81)، و «الأوسط» (2/ 103). (¬2) انظرها في «الإرواء» (192، 485) للعلامة الألباني وتعليق الشيخ مشهور على «الخلافيات» للبيهقي (2/ 11) فليراجع. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (373)، وعلقه البخاري قبل الحديث (608). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (971)، ومسلم (890). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1650). (¬6) «مجموع الفتاوى» (21/ 459)، و «الأوسط» (2/ 97).

فعلم أنه لا يُمنع المحدث من قراءة القرآن، قال شيخ الإسلام: وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. اهـ (¬1). ما يستحب له الوضوء: 1 - عند ذكر الله عز وجل: ويدخل فيه مطلق الذكر وقراءة القرآن والطواف بالكعبة وغيرها. ويستحب الوضوء لذلك، لحديث المهاجر بن قنفذ: «أنه سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى توضأ، فرد عليه، وقال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة» (¬2). وإن كان هذا ليس بلازم لحديث عائشة عند مسلم (4/ 68): «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه». 2 - عند النوم: فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك ...» الحديث (¬3). 3 - للجنب إذا أراد الأكل أو الشرب أو النوم أو معاودة الجماع: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبًا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة» (¬4). وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (17)، والنسائي (1/ 16)، وابن ماجه (350)، والدارمي (2/ 287)، وأحمد 05/ 80)، وهو صحيح كما في «السلسلة الصحيحة» (834). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710) وغيرهما. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (288)، ومسلم (305) واللفظ له، وأبو داود (222)، والترمذي (118)، والنسائي (1/ 138) وغيرهم. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (3/ 217)، وأبو داود (217)، والترمذي (141)، والنسائي (1/ 42). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (248)، ومسلم (316) وغيرهما.

4 - الوضوء قبل الاغتسال: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة» (¬1). 5 - الوضوء بعد الأكل مما مسته النار (المطبوخ على النار): لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «توضأوا مما مست النار» (¬2) والأمر هنا للاستحباب لحديث عمرو بن أمية الضمري قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة، فأكل منها، فدعى إلى الصلاة، فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ» (¬3). 6 - تجديد الوضوء لكل صلاة: لحديث بريدة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد ....» الحديث (¬4). 7 - الوضوء كلما حدث ناقض: لما تقدم من حديث بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع خشخشته [صوت نعليه] أمامه في الجنة، فقال: «بم سبقتني إليها؟» قال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: «لهذا» (¬5). 8 - الوضوء من القيء: لحديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ»، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (351)، وأبو داود (192)، والترمذي (79)، والنسائي (1/ 105)، وابن ماجه (485). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1/ 50)، ومسلم (4/ 45 نووي)، وابن ماجه (490). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (277)، وأبو داود (171)، والترمذي (61)، والنسائي (1/ 89)، وابن ماجه (510). (¬4) إسناده صحيح. أخرجه بذكر الوضوء عند الحدث: الترمذي (3689)، وأبو داو (3055)، وأحمد (21962) واللفظ له، وأصله في الصحيحين دون موضع الشاهد. (¬5) صحيح: أخرجه الترمذي (87)، وأبو داود (2381) بسند صحيح. (¬6) «نيل الأوطار» (1/ 241).

المسح على الحوائل

المسح على الحوائل أولاً: المسح على الخفين: تعريف: الخُف: نعل من أدم (جلد) يغطي الكعبين (¬1) (والكعبان: العظمتان الناتئتان في القدم). والمسح لغة: مصدر مسح، وهو إمرار اليد على الشيء بسطًا (¬2)، والمسح على الخفين: إصابة البلية لخف مخصوص في محل مخصوص وزمن مخصوص (¬3) بدل غسل الرجلين في الوضوء. مشروعية المسح على الخفين: أجمع أهل العلم على أن من أكمل طهارته ثم لبس خفيه، وأحدث، أن له أن يمسح عليهما (¬4)، قال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز، وذلك أن كل من روى عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كره المسح على الخفين، فقد روى عنه غير ذلك (¬5) وقد ثبتت مشروعيته بالسنة الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسن ما يدل على مشروعيته حديث همام قال: «بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه» قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة (¬6). حُكم المسح على الخفين: المسح على الخفين جائز والغَسل أفضل منه عند الجمهور، وعند الحنابلة: الأفضل المسح على الخفين أخذًا بالرخصة (¬7). والصواب: أن الأفضل في حق كل أحد بحسب قدمه، فللابس الخف أن ¬

(¬1) «القاموس المحيط»، و «مقاييس اللغة». (¬2) «الدر المختار» (1/ 174). (¬3) «الإجماع» لابن المنذر (20)، و «الأوسط» (1/ 434). (¬4) «الأوسط» (1/ 434)، و «سنن البيهقي» (1/ 272)، و «الفتح» (1/ 305). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (387)، ومسلم (1568) واللفظ له. (¬6) «فتح القدير» (1/ 126)، و «الشرح الصغير» (1/ 227)، و «المجموع» (1/ 502)، و «منتهى الإرادات» (1/ 32). (¬7) وهذا اختيار شيخ الإسلام كما في «الاختيارات» (ص 13).

يمسح عليه، ولا ينزع خفيه اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولمن قدماه مكشوفتان الغَسل، ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه (¬1) ولا يتحرى نزعه -في المدة- ليغسل رجليه، والله أعلم. مدة المسح على الخفين: حدد الشرع مدة المسح على الخفين بثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وعلى هذا جماهير العلماء: الأحناف والحنابلة وظاهر مذهب الشافعي في الجديد والظاهرية (¬2). ويدل على ذلك ما يلي: 1 - حديث عليٍّ رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم» (¬3). 2 - حديث عوف بن مالك الأشجعي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم» (¬4). 3 - حديث صفوان بن عسال قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم» (¬5). وخالف في هذا مالك -وهو القول القديم للشافعي- فرأى عدم التوقيت وأن له أن يمسح على خفيه ما لم ينزعهما أو تصبه جنابة!! وبه قال الليث (¬6)، واستدلوا بأحاديث ضعيفة منها: 1 - ما يُروى عن أُبيِّ بن عمارة قال: قلت: يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: «نعم» قلت: يومًا؟ قال: «يومًا»، قلت: ويومين؟ قال: «ويومين» قلت: وثلاثة؟ قال: «وما شئت» (¬7). ¬

(¬1) «المبسوط» (1/ 98)، و «الأم» (1/ 34)، و «المغنى» (1/ 209)، و «المحلى» (2/ 80). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (276)، والنسائي (1/ 84). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 27) بسند صحيح وله شاهد من حديث أبي بكرة عند ابن ماجه (556) وغيره. (¬4) حسن: تقدم قريبًا. (¬5) «المدونة» (1/ 41)، و «بداية المجتهد» (1/ 24). (¬6) ضعيف: أخرجه أبو داود (158) وقال ابن عبد البر: هو حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم. (¬7) ضعيف: أخرجه أبو داود (157)، والترمذي، وابن ماجه (553).

2 - ما يُروى عن خزيمة بن ثابت قال: «جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، ولو استزدناه لزادنا» (¬1) يعني المسح على الخفين للمسافر، وهذا لو صح لم تقم به حجة لأنه ظن الصحابي ولم نتعبد به. 3 - ما يُروى عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصلِّ فيهما، وليمسح عليهما، ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة» (¬2). وهذه كلها أحاديث ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها. 4 - أثر عقبة بن عامر أنه قال: خرجت من الشام إلى المدينة، فخرجت يوم الجمعة، ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب فقال: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: وهل نزعتهما؟ قلت: لا، قال: أصبت (¬3). وهو ضعيف كذلك، قال البيهقي: قد روينا عن عمر التوقيت، فإما أن يكون رجع إليه حين بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون قوله الموافق للسنة الصحيحة المشهورة أولى. اهـ. ولذا قال ابن حزم في «المحلى» (2/ 93): ولا يصح خلاف التوقيت عن أحد من الصحابة إلا ابن عمر فقط. اهـ. بداية مدة المسح: تقرر أن مدة المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، فمتى يبدأ حساب هذه المدة؟ لأهل العلم في هذا أقوال: الأول: يبدأ من أول حدث بعد اللبس، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وظاهر مذهب الحنابلة (¬4)، قالوا: لأن ما بعد الحدث زمن يستباح فيه المسح، فكان من وقته كبعد المسح. الثاني: يبدأ من وقت اللبس، وهو قول الحسن البصري (¬5). الثالث: أنه يمسح خمس صلوات (أو خمس عشرة للمسافر) لا يمسح أكثر من ذلك، وهو مذهب الشعبي وإسحاق وأبي ثور وغيرهم (¬6). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 280). (¬2) ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 280)، والطحاوي (1/ 48)، والدارقطني (72). (¬3) «المبسوط» (1/ 99)، و «المجموع» (1/ 470)، و «المغنى» (1/ 291)، و «الأوسط» (1/ 443). (¬4) «الإكليل شرح منار السبيل» للشيخ وحيد عبد السلام، نفع الله به (1/ 136). (¬5) «المغنى» (1/ 291)، و «المجموع» (1/ 466)، و «الأوسط» (1/ 444). (¬6) «المحلى» لابن حزم (2/ 95 - وما بعدها).

الرابع: يبدأ من حين يجوز له المسح بعد الحدث سواء مسح أو لم يمسح ولم يتوضأ، بحيث لو مسح بعد ما مضى بعض المدة كان له أن يمسح باقيها فقط، وهو مذهب ابن حزم وقد ناقش أكثر المذاهب، فليراجع (¬1). الخامس: يبدأ من حين أول مسح بعد الحدث (¬2): وهو قول أحمد بن حنبل والأوزاعي، واختاره النووي وابن المنذر وابن عثيمين، وهو أرجح الأقوال، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يمسح المسافر» ولا يمكن أن يصدق عليه أنه ماسح إلا بفعل المسح، ولا يجوز العدول عن هذا الظاهر بغير برها. والله أعلم. وعلى هذا، لو أن رجلاً توضأ عند صلاة الظهر، ولبس خفيه الساعة الثانية عشرة مثلًا وبقي على طهارة حتى الساعة الثالثة عصرًا، ثم أحدث ولم يتوضأ إلا الساعة الرابعة -بعد العصر- ومسح على خفيه، فله أن يمسح عليهما حتى الساعة الرابعة عصرًا من اليوم التالي -إن كان مقيمًا- ومن اليوم الرابع إذا كان مسافرًا. إذا مسح المقيم ثم سافر: من مسح على خفيه -وهو مقيم- أقل من يوم وليلة، ثم سافر، فللعلماء فيه قولان: الأول: له أن يمسح حتى يتم ثلاثة أيام بلياليهن (بما في ذلك ما مسحه وهو مقيم): وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد وبه قال ابن حزم (¬3). الثاني: له أن يمسح حتى يتم يومًا وليلة ثم يلزمه غسل رجليه إذا توضأ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق (¬4). والأرجح أنه له المسح حتى تمام ثلاث الأيام ولياليهن، لأن هذا الرجل إذا انتهى يوم وليلة وهو مسافر فله أن يتم المدة لظاهر حديث «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن» والله أعلم. ¬

(¬1) «مسائل أحمد» لأبي داود (10)، و «المحلى» (2/ 95). (¬2) «اختلاف العلماء» للمروزي (ص 31)، و «المغنى» (1/ 299)، و «المحلى» (2/ 109). (¬3) «الأم» (1/ 35)، و «اختلاف العلماء» (ص 31)، و «الأوسط» (1/ 446). (¬4) «الأوسط» (1/ 446).

إذا مسح -وهو مسافر- ثم أقام: من مسح على خفيه وهو مسافر يومًا وليلة أو أكثر ثم قدم الحضر، فلابد أن يخلع خفيه، ويغسل رجليه إذا توضأ، ثم يكون له ما للمقيم. وإن كان مسح -وهو مسافر- أقل من يوم وليلة، جاز له إذا قدم الحضر أن يكمل ما تبقى من اليوم والليلة ثم عليه أن يخلعه. وقد نقل ابن المنذر إجماع كل من يقول بالتحديد في المسح من أهل العلم على هذا (¬1). شرط المسح على الخفين: يشترط لجواز المسح على الخفين أن يلبسهما على طهارة، فعن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير، فأفرغت عليه من الإداوة، فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: «دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين» فمسح عليهما (¬2). والحديث قد جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطًا لجواز المسح، والمعلَّق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط، وقد حمل الجمهور الطهارة على الشرعية في الوضوء (¬3). فائدة: من توضأ فغسل إحدى رجليه وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، فقال مالك والشافعي وأحمد (¬4): لا يجوز له إن أحدث أن يمسح عليهما، لأنه لبس الخف قبل تمام الطهارة، فإن نزع الأول ثم لبسه جاز له المسح عندهم وقال أبو حنيفة وأحمد -في إحدى الروايتين- وابن حزم واختاره ابن المنذر وشيخ الإسلام (¬5) أنه يجوز له المسح عليهما لصدق أنه أدخل كلاًّ من رجليه وهي طاهرة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (206)، ومسلم (232). (¬2) «فتح الباري» (1/ 370) بتصرف. (¬3) «الموطأ» (1/ 46)، و «الأم» (1/ 33)، و «المغنى» (1/ 282). (¬4) «المبسوط» (1/ 99)، و «الأوسط» (1/ 442)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 209)، و «المحلى» (2/ 100). (¬5) «الأم» (1/ 28)، و «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 18)، و «المغنى» (1/ 287).

قلت: القول بالجواز لا غبار عليه، إلا أن يدلَّ دليل على أن الطهارة لا تتبعَّض فيتَّجه المنع، وعلى كلٍّ الأحوط إدخالهما في الخفين بعد تمام الوضوء، والله أعلم. هل يمسح على الخف المُخرَّق؟ اشترط أكثر الفقهاء لجواز المسح على الخف أن يكون ساترًا للمحل المفروض غسله في الوضوء، فمنعوا المسح على الخف المخرق لأنه يرى منه مواضع الوضوء التي فرضها الغسل، ولا يجتمع غسل ومسح، فغلب حكم الغسل، وهذا مذهب الشافعي وأحمد (¬1). وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز المسح على الخف المخرق ما دام المشي فيه ممكنًا واسمه باقيًا، وهو قول الثوري وإسحاق وأبي ثور وابن حزم واختاره ابن المنذر وابن تيمية (¬2) وهو الصواب لأن الإذن بالمسح على الخفين عام يدخل فيه كل ما وقع عليه اسم الخف على ظاهر الأخبار ولا يستثنى خف دون خف إلا بدليل، ولو كان الخرق يمنع من المسح لبينه صلى الله عليه وسلم لا سيما مع كثرة فقراء الصحابة في عهده، والغالب أن لا تخلو خفافهم من الخروق. محل المسح وصفته: المشروع في المسح على الخفين أن يمسح ظاهرهما لا باطنهما مرة واحدة لحديث علي بن أبي طالب قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه» (¬3). وهذا مذهب الثوري والأوزاعي وأحمد وأبي حنيفة وأصحابه (¬4) وهو الصواب. وقال مالك والشافعي (¬5): يمسح ظاهرهما وباطنهما، وإن اقتصر على أعلاه ¬

(¬1) «المدونة» (1/ 44)، و «المبسوط» (1/ 100)، و «الأوسط» (1/ 449)، و «المحلى» (2/ 100)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 173). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (162)، والدارقطني (73)، والبيهقي (2/ 111)، وانظر «الإرواء» (103). (¬3) «اختلاف العلماء» (ص 30)، و «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 21)، و «الأوسط» (1/ 453)، و «المحلى» (2/ 111). (¬4) «نهاية المحتاج» (1/ 191)، و «المدونة» (1/ 39)، و «الخرشى» (1/ 177). (¬5) ضعيف أخرجه أبو داود (165)، والترمذي (97)، وابن ماجه (550)، وأحمد (4/ 251) وأعلَّه أحمد والبخاري وأبو حاتم والدارقطني وابن حجر.

أجزأ، واستُدل له بحديث المغيرة بن شعبة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح أسفل الخف وأعلاه» (¬1) وهو ضعيف بل الثابت عن المغيرة قوله: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظهر الخفين» (¬2) فلا يكون المسح إلا على أعلى الخف فقط. فإن اقتصر على باطن الخف دون أعلاه لم يجزئه المسح، والله أعلم. ما يبطل به المسح على الخفين: تقدم في حديث صفوان بن عسَّال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم» فعلم أن المسح على الخفين لا يصح إذا حدث أحد الأمور الآتية: 1 - الجنابة: وغيرها مما يوجب الغُسل، كالطهر من الحيض والنفاس. 2 - انقضاء مدة المسح. 3 - نزع الخف والإحداث قبل لبسه: فإذا نزع خفَّه -ولو قبل انقضاء المدة- ثم أحدث، فلا يجوز أن يلبسه ويمسح عليه، لأنه حينئذ لم يدخل رجله على طهارة. فإن حدث شيء من هذه الأمور الثلاثة لم يحل له أن يمسح على خفيه، وإنما يجب عليه إذا أحدث أن يتوضأ ويغسل رجليه ولابد، ثم يكون له أن يلبس خفيه ويمسح كما تقدم. تنبيه: بطلان المسح لا يعني انتقاض الوضوء: من كان يمسح على خفيه، ثم خلعهما، ولم يُحدث، فللعلماء في حكمه أربعة أقوال: الأول: عليه أن يعيد الوضوء، وهو مذهب النخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق (¬3) والشافعي في القديم قالوا: لأن المسح أقيم مقام الغسل فإذا أزال الممسوح بطلب الطهارة في القدمين فتبطل جميعها لأنها لا تتجزأ. الثاني: عليه أن يغسل قدميه فقط، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور والقول الجديد للشافعي (¬4). ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (161)، والترمذي (98) وغيرهما. (¬2) «اختلاف العلماء» (ص 31)، و «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 19)، «المجموع» (1/ 557). (¬3) «اختلاف العلماء» (ص 31)، و «الأوسط» (1/ 458). (¬4) «المدونة» (1/ 41).

ثانيا: المسح على الجوربين والنعلين

الثالث: عليه أن يغسل قدميه فور خلعه، فإن تأخر أعاد الوضوء: وهو مذهب مالك والليث (¬1). الرابع: ليس عليه وضوء ولا غسل لقدميه، وهو رواية عن النخعي وبه قال الحسن البصري وعطاء وابن حزم واختاره النووي وابن المنذر وابن تيمية (¬2)، وهو الصواب: لأنه -والخف عليه- طاهر كامل الطهارة بالسنة الثابتة، ولا يجوز نقض ذلك إذا خلع خفه إلا بحجة من سنة أو إجماع، وليس عند القائلين بإعادة الوضوء أو غسل الرجلين حجة، ويقوي هذا القول ما ثبت عن أبي ظبيان «أنه رأى عليًّا رضي الله عنه بال قائمًا، ثم دعا بماء، فتوضأ ومسح على نعليه، ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى» (¬3). ثم يقاس على من مسح الشعر ثم حلقه فإنهم لا يقولون بإعادة مسح الرأس أو إعادة الوضوء!! وهذا هو الحق في المسألة، فإذا خلع خفيه ولم يُحدث فإن له أن يصلي ما شاء حتى ينتقض وضوؤه والله أعلم. ثانيًا: المسح على الجوربين والنعلين [1] المسح على الجوربين: الجورب: هو ما يلبسه الإنسان في قدميه سواء كان مصنوعًا من الصوف أو القطن أو الكتاب أو نحو ذلك، وهو ما يُعرف «بالشراب». وللعلماء في حكم المسح على الجوربين ثلاثة أقوال: الأول: أنه لا يجوز المسح عليهما إلا أن يكون عليهما نعل جلد: وهو مذهب أبي حنيفة (ثم رجع عنه) ومالك والشافعي (¬4)، قالوا: لأن الجورب لا يسمى خفًّا فلا يأخذ حكمه، ولا يثبت في المسح على الجوربين حديث (!!). الثاني: يجوز المسح عليهما بشرط أن يكونا صفيقين ساترين محل الفرض: وهو مذهب الحسن وابن المسيب وأحمد، وفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة (¬5). ¬

(¬1) «المحلى» (2/ 105)، و «الأوسط» (1/ 460)، و «المجموع» (1/ 558)، و «الاختيارات» 0ص 15). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (1/ 288)، والطحاوي (1/ 58)، وانظر «تمام المنة» (ص 115). (¬3) «المبسوط» (1/ 102)، و «المدونة» (1/ 40)، و «الأم» (1/ 33)، و «الأوسط» (1/ 465). (¬4) «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 21)، و «الأوسط» (1/ 464)، و «المجموع» (1/ 540)، و «فتح القدير» (1/ 157). (¬5) «المحلى» (2/ 86)، و «المسائل الماردينية» (ص 58)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 184)، و «الممتع» (1/ 190)، و «أضواء البيان» (2/ 18، 19) وفيه بحث نفيس.

الثالث: يجوز المسح على الجوربين مطلقًا ولو كانا رقيقين: وهو ظاهر مذهب ابن حزم وابن تيمية، واختاره ابن عثيمين والعلامة الشنقيطي (¬1)، وهو الراجح. واستدل أصحاب القولين الأخيرين على جواز المسح على الجوربين بما يلي: 1 - حديث المغيرة بن شعبة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» (¬2). 2 - عن الأزرق بن قيس قال: «رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما؟ قال: إنهما خفان، ولكن من صوف» (¬3). فصرَّح أنس رضي الله عنه بأن الخف أعم من أن يكون من جلد، وهو صحابي من أهل اللغة. 3 - أنه قد قال بالمسح على الجوربين من الصحابة أحد عشر صحابيًا منهم عمر وابنه عبد الله وعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم، وليس لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعًا، ثم منع الجمهور المسح على الجوربين الرقيقين لأنهما غير ساترين لمحل الفرض، وقد تقدم أن هذا ليس بشرط -على التحقيق- قياسًا على الخف المخرق، ولأن غالب ما يلبس اليوم من الجوارب الرقيقة نسبيًّا، فاشتراط هذه الشروط يناقض مقصود الشارع من التوسعة بالتضييق والجرح، والله أعلم. فائدة: يدخل في معنى الجورب: اللفائف التي تُلف على القدمين لعذر، فهذه يشق حلُّها، فله أن يمسح عليها كما اختاره شيخ الإسلام. وأحكام المسح على الجوربين هي نفس أحكام المسح على الخفين. إذا لبس جوربًا فوق جورب: هذا له حالات: 1 - إذا توضأ ثم لبس جوربين، فإن له -إذا أحدث- أن يمسح على الأعلى منهما، وهذا مذهب الحنفية والراجح عند المالكية والحنابلة والقول القديم للشافعي وخالفهم في الجديد (¬4). ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (159)، والترمذي (99)، وأحمد (4/ 252) وهو متكلم فيه، وانظر «الإرواء» (101). (¬2) صححه أحمد شاكر: أخرجه الدولابي في «الكنى» (1/ 181). (¬3) «حاشية ابن عابدين» (1/ 179)، و «جواهر الإكليل» (1/ 24)، و «روضة الطالبين» (1/ 127)، وكلامهم هناك على الخفاف والحكم واحد. (¬4) وصرح بهذا الحنابلة كما في «كشاف القناع» (1/ 117 - 118).

2 - إذا توضأ ولبس جوربين، ثم مسح عليهما، ونزع الأعلى بعد المسح، جاز له إتمام المدة بالمسح على الأسفل، لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين. 3 - إذا توضأ ولبس جوربًا، ولم يُحدث حتى لبس عليه آخر، مسح على أيهما شاء (¬1). 4 - إذا توضأ ولبس جوربًا واحدًا ومسح عليه ثم لبس عليه آخر -فإن كان على طهارة- صح أن يمسح على الأعلى، لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين (¬2)، وإن كان أحدث ثم لبس الآخر لم يجز له المسح على الأعلى بل يجوز على الأسفل. [2] المسح على النعلين: وقد تقدم حديث المغيرة بن شعبة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» (¬3) وهو -على القول بصحته- يحتمل أمرين: 1 - أن يكون لَبِس النعلين فوق الجوربين، ومسح عليهما، فيكون حكمهما معًا كما تقدم في لبس جورب فوق جورب أو خف فوق خف. 2 - أن يكون المغيرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح مرة على الجوربين وأخرى على النعلين، فيكون دليلاً على جواز المسح على النعلين ولو بدون جوربين، وهذا وإن كان بعيدًا بعض الشيء إلا أنه يستدل على جواز ذلك بما تقدم في حديث أبي ظبيان «أن علي بن أبي طالب توضأ ومسح على نعليه ثم دخل المسجد، فخلع نعليه، ثم صلى ...» (¬4) وليس فيه ذكر الجوربين. وربما يتأيد جواز المسح على النعلين -كذلك- بأن لا يشترط أن يكون الممسوح عليه ساترًا لمحل الفرض على التحقيق، والله أعلم. ¬

(¬1) صرح بهذا الحنابلة كما في «كشاف القناع» (1/ 117 - 118) بأنه لا يمسح، قال: «لأن الخف الممسوح بدل عن غسل ما تحته، والبدل لا يجوز له بدل آخر، بل يمسح على الأسفل لأن الرخصة تعلقت به»!! قلت: في هذا نظر، لأن للمسألة ضابطًا واحدًا هو أن يدخل رجليه طاهرتين، وهذا حاصل ولو بالمسح على الأسفل قبل لبس الأعلى ويستباح به الصلاة. (¬2) تقدما قريبًا. (¬3) تقدما قريبًا. (¬4) «مسائل أبي داود» (8)، و «المغنى» (1/ 300)، و «المجموع» (1/ 406)، و «الأوسط» (1/ 468)، و «المحلى» (2/ 58)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 184).

ثالثا: المسح على غطاء الرأس

ثالثًا: المسح على غطاء الرأس: 1 - المسح على العمامة في الوضوء: يجوز المسح على العمامة -بدل مسح الرأس- في الوضوء مطلقًا وهو مذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور والأوزاعي وابن حزم وابن تيمية، وهو قول أبي بكر وعمر وأنس وغيرهم من الصحابة (¬1)، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: فعن عمرو بن أمية الضمري قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة». ومثله عن المغيرة بن شعبة (¬2)، وعن بلال قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار» (¬3) والخمار: غطاء الرأس، والمراد: العمامة. بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي (¬4) إلى أنه لا يمسح على العمامة وحدها، بل يمسح عليها مع الناصية، فتكون الناصية هي الفرض والعمامة فضلاً، بناء على تجويزهم مسح بعض الرأس!! لكن قال الشافعي: إن صح حديث المسح على العمامة فبه أقول، وقد صح بلا ريب فهو قوله. واحتج المانعون من المسح على العمامة بحديث جابر بن عبد الله قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حسر العمامة عن رأسه ومسح على ناصيته» (¬5) ولم أجده مسندًا!! وبحديث المغيرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وعلى الناصية والخفين» (¬6). قلت: والراجح أنه يجوز مطلقًا المسح على العمامة لثبوت الأخبار به عن النبي صلى الله عليه وسلم ولعمل الخليفتين من بعده به، ولأنه ليس عند المانعين حجة معتبرة (¬7)، وإن كان الأولى أن يمسح جزءًا من الناصية مع العمامة خروجًا من الخلاف، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (205). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (275). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (285). (¬4) «حاشية ابن عابدين» (1/ 181)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 164)، و «المجموع» (1/ 407). (¬5) لم أهتد إليه: ولا يوجد في شيء مما لدى من كتب الحديث، وقد ذكره ابن المنذر (1/ 469) بدون إسناد. (¬6) صحيح: تقدم في «الوضوء». (¬7) انظر حججهم والرد عليها في «المحلى» (2/ 61).

2 - مسح المرأة على الخمار: قال شيخ الإسلام: «إن خافت المرأة من البرد ونحوه، مسحت على خمارها، فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها، وينبغي أن تمسح مع هذا بعض شعرها، وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك، ففيه نزاع بين العلماء» اهـ (¬1). قلت: فذهب الحنفية ومالك والشافعي والحنابلة -في رواية (¬2) - إلى أنه لا يجوز، لما يُروى عن عائشة أنها أدخلت يدها تحت الخمار، ومسحت برأسها، وقالت: «بهذا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3). قالوا: ولأنه ملبوس لرأس المرأة ولا مشقة في نزعه فلم يجز المسح عليه. وذهب الحسن البصري إلى جواز المسح على الخمار، وهو قول عند الحنابلة -لكنهم اشترطوا أن تكون خُمر النساء مدارة تحت الحلوق!! - قياسًا على العمامة إذ الخمار ملبوس للرأس معتاد. قلت: لو صح حديث عائشة لكان حاسمًا في المنع، وإلا فالقياس على العمامة متجه، والأحوط أن تمسح مع الخمار مقدَّم رأسها والله أعلم. 3 - المسح على القلنسوة (الطاقية) في الوضوء: ذهب جمهور العلماء إلى أ، هـ لا يجوز المسح -في الوضوء- على القلنسوة بدلاً من الرأس، لأن الفرض مسح الرأس، وعُدل عنه في العمامة لمشقة نزعها عند الجمهور أو للنص عند أحمد. وذهب ابن حزم وابن تيمية (¬4) والمحققون من أهل العلم إلى جواز المسح على القلنسوة، لأنه لما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على العمامة أو الخمار، علمنا أن مباشرة الرأس بالماء ليس فرضًا، فأي شيء لبس على الرأس جاز المسح عليه، وإن لم يكن ساترًا لمحل الفرض، ولو لم يشق نزعه، وهو الصواب والله أعلم. فائدة لا يشترط لبس أغطية الرأس على طهارة لجواز المسح عليها: فلا تقاس على الخفين، لعدم العلة الجامعة بينهما، وإنما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبس ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (21/ 218). (¬2) «المدونة» (1/ 42)، و «الأم» (1/ 26)، و «البدائع» (1/ 5)، و «المغنى» (1/ 305). (¬3) لم أقف عليه: وإنما ذكره الكاساني في «البدائع» (1/ 5) ولم أره في شيء من كتب الحديث!!. (¬4) «المحلى» (2/ 58)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 184 - 187، 214).

رابعا: المسح على الجبيرة

الخفين على الطهارة، ولم ينص على ذلك في العمامة والخمار، ولو وجب لبيَّنه صلى الله عليه وسلم (¬1). قلت: هذا، على أن الخفين بدل عما فرضه الغَسل، وأما الرأس ففرضه المسح، وما كان على الرأس فآخذ حكمه، فافترقا، والله أعلم. ولا توقيت ولا تحديد لمدة المسح على أغطية الرأس: لعدم صحة القياس على مسح الخفين، وقد مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على العمامة والخمار ولم يوقت في ذلك وقتًا وهذا مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬2). رابعًا: المسح على الجَبيرَة الجبيرة: عيدان تجبر بها العظام المكسورة لتتماسك، وقد استعيض عنها في هذه الأيام بالجبس. ومن كان على أحد أعضاء الوضوء -كالذراعين أو الرجلين- جبيرة، فإنه يجوز له أن يمسح عليها عند جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم (¬3)، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث جابر في الذي أصابته الشجة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يكفيه أن يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها» (¬4) وهو ضعيف. 2 - قول ابن عمر: «من كان له جرح معصوب عليه، توضأ ومسح على العصائب، ويغسل ما حول العصائب» (¬5) ولا يُعلم لابن عمر مخالف من الصحابة. 3 - القياس على المسح على الخفين، فإن المسح عليهما لغير ضرورة جائز، فكيف بالجبيرة وهي ضرورة فهي أولى. وذهب ابن حزم إلى أن من كانت عليه جبيرة فليس عليه أن يمسح عليها، وأنه يسقط حكم ذلك المكان (¬6). ¬

(¬1) «المحلى» (2/ 64). (¬2) «المحلى» (2/ 65). (¬3) «شرح فتح القدير» (1/ 140)، و «المدونة» (1/ 23)، و «المغنى» (1/ 203)، و «المجموع» (2/ 327). (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (236) وغيره، وانظر «الإرواء» (105). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 126)، والبيهقي (1/ 228). (¬6) «المحلى» (2/ 74).

قلت: هذا لأنه يضعِّف أحاديث المسح على العصائب، ولا يرى القياس حجة!! وهذه الأحاديث لا تصح كما قال، وأما القياس فلا شك أنه حجة إذا تحققت أركانه وشروطه، لكن قد يقال إن القياس هنا فاسد لاختلاف حكم الفرع عن الأصل، فهو قياس واجب (المسح على الجبيرة عند الجمهور) على مباح (المسح على الخفين فيتألق حينئذٍ مذهب ابن حزم والله أعلم. فوائد: 1 - المسح على الجبيرة -يجزئ في الوضوء والغُسل على سواء: لأن الجبيرة ضرورة فلا يفرق فيها بين الحدث الأصغر والأكبر، بخلاف المسح على الخفين فإنه رخصة. 2 - لا يشترط وضع الجبيرة على طهارة ولا التوقيت: لا يشترط أن توضع الجبيرة على طهارة لأن هذا ينافي مقصد الشرع في إباحة المسح من رفع الحرج والمشقة، ولأن حال الجبيرة اضطرار يأتي مفاجأة بخلاف الخفين، ثم لعدم النص أو الإجماع. وكذلك لا توقيت للمسح عل الجبيرة بل متى نزعت أو برئ العضو لم يجز المسح. 3 - اللفائف الطبية على أعضاء الوضوء لها حكم الجبيرة: كما حققه شيخ الإسلام (¬1). الغُسْل تعريفه: المراد بالغُسل: فعل الاغتسال، وهو لغة: سيلان الماء على الشيء، والغُسل شرعًا: إفاضة الماء الطهور على جميع البدن على وجه مخصوص (¬2). مُوجبِات الغُسل: وهي الأمور التي توجب الغُسل على الصفة الشرعية التي تأتي فيما بعد: [1] خروج المَنيِّ -على وجه الصحة- في اليقظة أو النوم: لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} (¬3). وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا} (¬4). ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (21/ 185). (¬2) «كشاف القناع» (1/ 158). (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) سورة النساء، الآية: 43.

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الماء من الماء» (¬1) والمراد: أن الاغتسال (بالماء) يكون إذا أنزل (الماء) وهو المني. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: «إذا فَضَخْتَ الماء فاغتسل» (¬2) وفي لفظ: «إذا حذفت» ولا يكون بهذه الصفة إلا إذا خرج بشهوة كما قال الله تعالى: {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} (¬3). وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «جاءت أم سليم -امرأة أبي طلحة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غُسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، إذا رأت الماء» (¬4) وهو دالٌّ على أنه لا يشترط للغسل من الاحتلام أن يخرج بشهوة ودفق، بل إذا رأى المني في ثوبه وجب الغسل وإلا فلا غسل عليه وإن ذكر أنه احتلم، لحديث عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلامًا؟ فقال: «يغتسل» وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل؟ فقال: «لا غُسل عليه» (¬5). تنبيهان: 1 - المرأة في كل ما تقدم كالرجل سواء بسواء. 2 - من سال منه المني بلا شهوة: لمرض أو برد أو نحوه، فلا غسل عليه في أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور، خلافًا للشافعي وابن حزم. وقد أجمع العلماء (¬6) على إيجاب الغسل بخروج المني بشهوة -في اليقظة- وبالاحتلام مع خروج المني، إلا ما يُروى عن إبراهيم النخعي أنه كان لا يرى على المرأة الغسل من الاحتلام، قال الشوكاني: ما أظنها تصح الرواية عنه، ولو صحت لكان قوله مخالفًا لإجماع من قبله من المسلمين، ومن بعده. اهـ. [2] التقاء الختانين ولو من غير إنزال: فإذا غابت حشفة ذكر الرجل في فرج المرأة فقد وجب عليهما الغسل أنزلا أو لم ينزلا، لحديث أبي هريرة عن النبي ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (343)، وأبو داود (214). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (206)، والنسائي (193)، وأحمد (1/ 247) وأصله في «الصحيحين». (¬3) سورة الطارق، الآية: 6. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (282)، ومسلم (313). (¬5) صحيح: أخرجه الترمذي (113)، وأبو داود (233). (¬6) «المجموع» (1/ 139)، و «بداية المجتهد» (1/ 58)، و «السيل الجرار» (1/ 104).

صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس بين شُعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل [وإن لم ينزل]» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يَكْسَل: هل عليهما غسل؟ -وعائشة جالسة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» (¬2). قال النووي: «وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان فيه خلاف لبعض الصحابة، ومن بعدهم، ثم انعقد الإجماع على ما ذكرناه» اهـ. قلت: أما خلاف الصحابة في هذه المسألة فمنه حديث زيد بن خالد «أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمْن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عند ذلك عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك» (¬3). وذهب داود الظاهري إلى عدم وجوب الغسل إن لم ينزل لحديث: «إنما الماء من الماء» (¬4). وحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «إذا أُعجلت -أو: قحطت- فعليك الوضوء» (¬5). فأما هؤلاء الصحابة فقد ثبت عنهم الرجوع عن القول بعدم إيجاب الغسل (¬6). وأما قول داود فقد خالف فيه الجماهير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والفقهاء من التابعين ومن بعدهم فرأوا أن حديث «الماء من الماء» وما في معناه كان في أول الإسلام ثم نسخ، قال الترمذي (1/ 185): «وهكذا روى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبي بن كعب (¬7) ورافع بن خديج والعمل على هذا عند أكثر ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (291)، ومسلم (348) والزيادة له. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (350). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (292)، ومسلم (347). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (343) وقد تقدم. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (180)، ومسلم (345). (¬6) انظر الآثار عنهم في «جامع أحكام النساء» لشيخنا، حفظه الله (1/ 89، 90). (¬7) حديث أبي صحيح بطرقه كما بيَّنه شيخنا أبو عمير الأثري -أمتع الله بحياته- في «شفاء العيي بتحقيق مسند الشافعي» (100).

أهل العلم، وعلى أنه إذا جامع امرأته في الفرج وجب عليهما الغسل وإن لم ينزل» اهـ. فوائد (¬1): 1 - إذا مس ذكره الرجل فرج المرأة دون إيلاج فيه، فليس عليهما غسل بالاتفاق (¬2) وعن إبراهيم النخعي أنه سئل عن الرجل يجامع امرأته في غير الفرج فينزل الماء؟ قال: «يغتسل هو ولا تغتسل هي، ولكن تغسل ما أصاب منها» (¬3). 2 - إذا باشر الرجل زوجته، وأدخل ما دون الحشفة، فنزل منيُّه في فرجها، ولم تُمنِ هي، لم يلزمها الغسل. قال النووي: «إذا استدخلت المرأة المني في فرجها أو دُبرها، ثم خرج منها لم يلزمها الغُسل، هذا هو الصواب الذي قطع به الجمهور» اهـ (¬4). 3 - إذا جامع الرجل زوجته ثم اغتسلت، وبعد ذلك خرج من فرجها ماء الرجل، فلا يلزمها الغسل، أما هل يلزمها الوضوء؟ يلزمها الوضوء على قول الجمهور (¬5) لأنه خارج من أحد السبيلين -وإن كان طاهرًا- وقال ابن حزم (¬6): الوضوء إنما يجب عليها من حدثها لا من حدث غيرها، وخروج ماء الرجل من فرجها ليس إنزالاً منها ولا حدثًا منها فلا غسل عليها ولا وضوء. اهـ. قلت: أما قاعدة الوضوء من كل خارج من السبيلين فهي غير مسلَّمة كما تقدم، على أن مجرى المني من المرأة غير مجرى البول، فيظهر مذهب ابن حزم، إلا أنه يُحترز من أن يخالط هذا المني مذي المرأة، فالأحوط أن تتوضأ والله أعلم. 4 - إذا جامع زوجته الصغيرة -التي لم تحض- أو كان الواطئ للمرأة صغيرًا ¬

(¬1) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 46). (¬2) «المغنى» لابن قدامة (1/ 204). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (971)، وانظر آثارًا نحوه عن بعض السلف في «جامع أحكام النساء» (1/ 95). (¬4) «المجموع (2/ 151)، وانظر «المحلى» (2/ 7). (¬5) «المجموع (2/ 151). (¬6) «المحلى (2/ 6).

لم يبلغ فإنه يلزمها أيضًا الغسل، كما قال الإمام أحمد: «تُرى عائشة حين كان يطؤها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تغتسل؟!!» اهـ (¬1). 5 - إذا دعا الرجل زوجته إلى الجماع، فليس لها أن تمنعه من هذا بحجة عدم وجود الماء للاغتسال، قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (21/ 454): «وليس للمرأة أن تمنع زوجها الجماع، بل يجامعها، فإن قدرت على الاغتسال وإلا تيممت وصلت» اهـ. [3]، [4] الحيض والنفاس: وهما سببان موجبان للغُسل، لكن لما كان الاغتسال من السبب لا يتم إلا بعد انقطاعه والفراغ منه، وجب الغسل بعد انقطاع الحيض والنفاس. فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلِّي» (¬2). والنفاس كالحيض بالإجماع، ثم إنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التعبير بالنفاس عن الحيض والعكس. وستأتي أحكام الحيض والنفاس مفصلة، إن شاء الله. [5] إسلام الكافر: للعلماء في حكم اغتسال الكافر إذا أسلم ثلاثة أقوال: الأول: يجب الغُسل على الكافر مطلقًا: وهو مذهب مالك وأحمد وأبي ثور وابن حزم واختاره ابن المنذر والخطابي (¬3) واستدلوا بما يلي: 1 - حديث قيس بن عاصم «أنه لما أسلم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر» (¬4) والأصل في الأمر الوجوب. 2 - ما في حديث أبي هريرة في إسلام ثمامة بن أثال من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل» (¬5). ¬

(¬1) «المغنى» (1/ 206). (¬2) صحيح: وسيأتي تخريجه في «الحيض». (¬3) «مواهب الجليل» (1/ 311)، و «المغنى» (1/ 152)، و «المجموع» (2/ 175)، و «المحلى» (2/ 4). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (355)، والترمذي (605)، والنسائي (1/ 109) وانظر «المشكاة» (543). (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (2/ 304)، وابن خزيمة (252)، وأصله في الصحيحين بدون الأمر بالغسل وانظر «الإرواء» (128).

3 - قصة إسلام أسيد بن حضير وفيها أنه سأل مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة: كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فقالا: «تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ....» الحديث (¬1). الثاني: يستحب الغسل للكافر، إلا إذا كان على جنابة قبل إسلامه فيجب الغُسل: وهو مذهب الشافعي وقول عند الحنفية (¬2). الثالث: لا يجب عليه الغُسل مطلقًا: وهو مذهب أبي حنيفة (¬3). واستدل الفريقان بما يلي: 1 - قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (¬4). 2 - حديث عمرو بن العاص مرفوعًا: «الإسلام يهدم ما قبله» (¬5). وفي الاستدلال بالآية والحديث نظر: فالمراد بهما غفران الذنوب، فقد أجمعوا على أن الذي أسلم لو كان عليه دين أو قصاص لا يسقط بإسلامه، ولأن إيجاب الغسل ليس مؤاخذة وتكليفًا بما وجب في الكفر، بل هو إلزام شرط من شروط الصلاة في الإسلام فإنه جنب، والصلاة لا تصح من الجنب، ولا يخرج بإسلامه عن كونه جنبًا (¬6). 3 - قالوا: أسلم خلق كثير لهم الزوجات والأولاد، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وجوبًا، ولو وجب لأمرهم به. وفيه نظر: «فالظاهر الوجوب لأن أمر البعض قد وقع به التبليغ، ودعوى عدم الأمر لمن عداهم لا يصلح متمسكًا لأن غاية ما فيها عدم العلم بذلك، وهو ليس علمًا بالعدم» (¬7). فالأرجح أنه يجب على الكافر -سواء كان أصليًّا أو مرتدًّا- إذا أسلم أن يغتسل مطلقًا، ومما يشعر بأن الاغتسال عند الدخول في الإسلام كان ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه الطبري في «التاريخ» (1/ 560)، وابن هشام في «السيرة» (2/ 285). (¬2) «المجموع» (1/ 174)، و «الأم» (1/ 38) و «ابن عابدين» (1/ 167). (¬3) «المبسوط» و «شرح فتح القدير» (1/ 59). (¬4) سورة الأنفال، الآية: 38. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (121) من حديث عمرو بن العاص. (¬6) «المجموع» (2/ 174). (¬7) «نيل الأوطار» (1/ 281).

مشهورًا عند الصحابة ما في قصة إسلام أمَّ أبي هريرة: «أنها اغتسلت ولبست درعها ...» (¬1) وقصة إسلام أسيد بن حضير التي تقدمت. والله أعلم. [6] صلاة الجمعة: فإن غُسل الجمعة واجب يأثم تاركه في أصح قولي العلماء، وبه قال أبو هريرة وعمار بن ياسر وأبو سعيد الخدري، والحسن، وهو رواية عن مالك وأحمد وهو مذهب ابن حزم (¬2). لما يأتي: 1 - حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» (¬3). 2 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل» (¬4). 3 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا، يغسل رأسه وجسده» (¬5). 4 - حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق على كل مسلم السواك، وغسل يوم الجمعة، وأن يمس من طيب أهله إن كان» (¬6). 5 - حديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى من راح الجمعة أن يغتسل» (¬7). 6 - وعن ابن عمر قال: «أُمرنا بالاغتسال يوم الجمعة، وأن لا نتوضأ من موطأ» (¬8). قالوا: وجعل ما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حق لله على كل مسلم وأنه واجب على كل محتلم، ليس واجبًا ولا هو حق بمثل هذه الأدلة الآتية، فهذا أمر تقشعر منه الجلود!! (¬9). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2491)، وأحمد (7911). (¬2) «المحلى» (2/ 12)، و «الأوسط» (4/ 43). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (879)، ومسلم (846). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2/ 6)، ومسلم (844). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2/ 318)، ومسلم (849). (¬6) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 34)، وانظر «الصحيحة» (1796). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (338)، والنسائي (3/ 89)، وأحمد (3/ 65). (¬8) إسناده حسن: أخرجه أبو بكر المروزي في «الجمعة وفضلها». (¬9) نحوه في «المحلى» (2/ 12).

بينما ذهب جمهور العلماء ومعهم ابن مسعود وابن عباس من الصحابة إلى أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب، ومن أهم ما استدلوا به: 1 - حديث سمرة بن جندب مرفوعًا: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» (¬1) وهذا أصرح ما استدلوا به لكنه ضعيف على الراجح. 2 - حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ...» (¬2) قالوا: لو كان الغسل للجمعة واجبًا لما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر الوضوء. وقد أجاب عنه الحافظ في «الفتح» (2/ 422) فقال: «ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيح بلفظ: «من اغتسل» فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء» اهـ. قلت: ولهم أدلة أخرى استقصيتها وناقشتها دليلاً دليلاً في كتابي «اللمعة في آداب وأحكام الجمعة» وخلاصة المسألة أن أدلة الموجبين أصح سندًا وأقوى دلالة وأحوط عملاً، والله أعلم. [7] الموت: وهو من أسباب وجوب الغُسل لكن ليس على الميت وإنما على من حضره من المسلمين، وسيأتي تفصيله في موضعه من «كتاب الجنائز» إن شاء الله. الأغسال المُسْتَحَبَّة: 1 - الاغتسال للعيدين: وقد ورد عن الفاكه بن سعد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى» (¬3) لكنه ضعيف. لكن ربما يستدل على استحباب ذلك بأنه ثابت عن علي بن أبي طالب وابن عمر: فعن زادذان أن رجلاً سأل عليًّا رضي الله عنه عن الغسل؟ فقال: «اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: لا، الغسل الذي هو الغسل؟ قال: «يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر» (¬4). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود 354)، والنسائي (3/ 94)، والترمذي (497)، وغيرهم وله طرق استقصيتها وتكلمت عليها في «اللمعة في آداب وأحكام الجمعة» وقد حسنَّه العلامة الألباني. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مسل (857)، والترمذي (498) وغيرهما. (¬3) ضعيف جدًّا: أخرجه ابن ماجه (1316). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «مسنده» (114)، ومن طريقه البيهقي (3/ 278).

وعن نافع: «أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى» (¬1). 2 - الاغتسال بعد الإفاقة من الإغماء: لأن النبي صلى الله عليه وسلم «اغتسل من الإغماء» (¬2) وذلك كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم وقد نُقل الإجماع على استحبابه، وقاس العلماء الإفاقة من الجنون على الإغماء. 3 - الاغتسال للإحرام بالحج أو العمرة: لحديث زيد بن ثابت أنه: «رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرَّدَ لإهلاله واغتسل» (¬3). وتغتسل المرأة ولو كانت حائضًا أو نفساء، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس -حينما ولدت في الحج- بالغُسل (¬4)، وسيأتي في «الحج». 4 - الغسل لدخول مكة: لحديث ابن عمر: «أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارًا، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله» (¬5). 5 - الاغتسال عند كل جماع إذا تعدد: لحديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات ليلة على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله ألا تجعله واحدًا؟ قال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر» (¬6). 6 - الاغتسال بعد تغسيل الميت (إن صَحَّ الحديث): فقد ورد من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من غسَّل ميتًا فليغتسل» (¬7). 7 - اغتسال المستحاضة لكل صلاة: وقد ورد أمر المستحاضة بالغسل عند كل صلاة في جملة من الأحاديث الضعيفة (¬8). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (426)، وعنه الشافعي في «الأم» (1/ 231). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (687)، ومسلم (418) في حديث طويل عن عائشة. (¬3) حسن: أخرجه الترمذي (831)، وانظر «الإرواء» (149). (¬4) صحيح: وسيأتي في «الحج». (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1573)، ومسلم (1259). (¬6) حسن: أخرجه أبو داود (216)، وابن ماجه (560). (¬7) أخرجه أبو داود (3162)، والترمذي (993)، وابن ماجه (1461)، وقد حسنه الترمذي وابن حجر والألباني وانظر «الإرواء» (1/ 174) لكن يبدو أنه يحتاج إلى شيء من التتبع، فقد أُعل الحديث. (¬8) راجعه في «جامع أحكام النساء» (1/ 230 - 237).

لكن ثبت عن عائشة: أن أم حبيبة استُحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمرها أن تغتسل فقال: «هذا عرق» فكانت تغتسل لكل صلاة (¬1). قال الشافعي -رحمه الله-: إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي (¬2) وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولا شك -إن شاء الله- أن غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به وذلك واسع لها. اهـ (¬3). قلت: وهذا قول جمهور العلماء من السلف والخلف: أن المستحاضة لا يجب عليها الغسل لكل صلاة. النية شرط لصحة الغُسل: لأن الغسل عبادة لا تعلم إلا بالشرع فكانت النية شرطًا فيها، وهي عزم القلب على فعل الغسل امتثالاً لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (¬4) والإخلاص: النية في التقرب إلى الله تعالى، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (¬5) وهذا عمل (¬6). ركن الغسل: تعميم جميع البدن بالماء: فحقيقة الغسل: إفاضة الماء على جميع الجسد، ووصوله إلى كل الشعر والبشرة، وهذا ثابت في جميع الأحاديث الواصفة لغسل النبي صلى الله عليه وسلم -وسأذكرها قريبًا- ومن ذلك ما في حديث عائشة رضي الله عنها: «... ثم يفيض على جسده كله» (¬7) قال الحافظ في «الفتح» (1/ 361): هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل. اهـ. وفي حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما أنا فآخذ ملء كفي ثلاثًا فأصبُّ على رأسي، ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي» (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (327)، ومسلم (334). (¬2) وهذا الأمر بالاغتسال مطلق فلا يدل على التكرار، فلعلها فهمت طلب ذلك منها بقرينة فلهذا كانت تغتسل لكل صلاة. (فتح الباري 1/ 509). (¬3) «سنن البيهقي» (1/ 349). (¬4) سورة البينة، الآية: 5. (¬5) صحيح: وقد تقدم. (¬6) وانظر مبحث «النية شرط لصحة الوضوء» (ص 40). (¬7) صحيح: يأتي نصُّه وتخريجه قريبًا. (¬8) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ أحمد (4/ 81) وهو في البخاري (254)، ومسلم (327) مختصرًا.

ويدلُّ على أن تعميم البدن بالماء هو فرض الغسل لا غيره، حديث أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضُفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: «لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» (¬1). وأما دلك الأعضاء والمضمضة والاستنشاق في الغسل، فالراجح في كل هذا الاستحباب كما يأتي تحريره، وهو مذهب الجمهور. المستحبَّات في الغسل (صفة الغسل الكامل): العمدة في هذا الباب حديثان: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا اغتسل من الجنابة: بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يُدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب [وفي رواية: حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض] على رأسه ثلاث غُرَف بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله» (¬2). 2 - حديث ميمونة رضي الله عنها قالت: «وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل [وسترته] فغسل يديه مرتين أو ثلاثًا، ثم أفرغ [بيمينه] على شماله، فغسل مذاكيره (وفي رواية: فرجه وما أصابه من الأذى) ثم دلك يده بالأرض أو بالحائط [ثم غسلها] ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه وغسل رأسه، ثم صب على جسده ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته خرقة فقال بيده هكذا ولم يرُدْها» (¬3). قلت: من هذين الحديثين وغيرهما نخلص إلى أن المستحب أن يكون غسل الجنابة على الصفة الآتية: (بعد أن ينوي رفع الحدث الأكبر): 1 - يغسل يديه ثلاثًا قبل إدخالها في الإناء أو بدء الغسل: لما في حديث عائشة: «بدأ فغسل يديه ...» وفي لفظ مسلم (317) لحديث ميمونة: «فغسل كفيه مرتين أو ثلاثًا ثم أدخل يده في الإناء ...». قال الحافظ في الفتح (1/ 429): يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم. اهـ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (330)، وأبو داود (251)، والنسائي (1/ 131)، والترمذي (105)، وابن ماجه (603). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (248)، ومسلم (316). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (266)، ومسلم (317).

2 - يغسل فرجه وما أصابه من الأذى بشماله: لما في حديث ميمونة، وأما إمساك الفرج باليمين فمكروه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في الإناء» (¬1). 3 - يغسل يده -بعد غسل فرجه- وينقيها بالصابون ونحوه كالتراب: ففي حديث ميمونة: «ثم قال بيده الأرض فمسحها بالتراب ثم غسلها ...» وفي لفظ «ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكًا شديدًا» (¬2). قال النووي في «شرح مسلم» (3/ 231): «فيه أنه يستحب للمستنجي بالماء إذا فرغ أن يغسل يده بالتراب أو أشنان [نحو الصابون] أو يدلكها بالتراب أو بالحائط ليذهب الاستقذار منها» اهـ. 4 - يتوضأ وضوءًا كاملاً كالوضوء للصلاة: وهو ثابت في حديثي عائشة وميمونة. قال الحافظ في «الفتح» (1/ 429): «يحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغُسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، ويحتمل أن يكتفي بغسلهما في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدَّم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبر» اهـ. قلت: والوضوء قبل الاغتسال سنة عند جماهير العلماء خلافً لأبي ثور وداود الظاهري (¬3). فائدتان: الأولى: حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل: قد تقدم في «الوضوء» أن للعلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل أربعة أقوال، فأما الوضوء فقد رجحنا هناك أنه يجب فيه المضمضة والاستنشاق، وأما الغسل: فذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ومشهور مذهب أحمد وعطاء وابن المبارك إلى أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل (¬4)، ومما استدلوا به: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (154)، ومسلم (267). (¬2) هذا لفظ مسلم (317). (¬3) «فتح الباري» (1/ 426)، و «المجموع» (2/ 186)، و «الاستذكار» (3/ 59). (¬4) انظر مراجع المسألة في «أركان الوضوء».

1 - ما رُوى مرفوعًا: «المضمضة والاستنشاق ثلاثًا للجنب فريضة» (¬1). 2 - ما رُوى مرفوعًا: «من ترك موضع شعرة من جسده لم يغسلها فعل به كذا وكذا في النار» (¬2). 3 - ما رُوى مرفوعًا: «أداء الأمانة غسل الجنابة، وتحت كل شعرة جنابة» (¬3). وكل هذه أحاديث ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها. 4 - فعل النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في حديث ميمونة (بدلالة الظاهر9 وفي حديث عائشة (ضمن الوضوء) فهو بيان لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} (¬4). 5 - أن غسل جميع البدن واجب والوجه منه، فوجب المضمضة والاستنشاق، لأنهما من الوجه كما قلنا في الوضوء. بينما ذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وهم الجمهور، إلى أنهما سنة في الغسل واستدلوا بما يأتي: 1 - أن الوضوء في الغسل غير واجب [كما تقدم] والمضمضة والاستنشاق من توابع الوضوء، فإذا سقط الوضوء، سقطت توابعه (¬5). 2 - أن فعله صلى الله عليه وسلم لهما في الغسل لا يدل بمجرده على الوجوب لكن على الندب والاستحباب، ولا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانًا لمجمل تعلَّق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك (¬6). 3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر -لما سأله عن الجنابة تصيبه ولا يجد الماء-: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» (¬7). ¬

(¬1) موضوع: أخرجه الدارقطني (1/ 115) وروى مرسلاً، وانظر «نصب الراية» (1/ 78). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (249)، وابن ماجه (599)، وأحمد (1/ 94)، وانظر «الضعيفة» (930). (¬3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (598) بسند ضعيف، وانظر التلخيص (1/ 142)، والظاهر أن الصواب وقفه على أبي أيوب والله أعلم. (¬4) سورة المائدة، الآية: 6. (¬5) «فتح الباري» (1/ 443). (¬6) «فتح الباري» (1/ 432). (¬7) ضعيف: أخرجه الترمذي (124)، وأبو داود (233)، والنسائي (1/ 171) وغيرهم من طرق أرجحها: أبو قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر مرفوعًا كما في «العلل» للدارقطني (1113)، وابن أبي حاتم (1/ 11) وعمرو لا يُعرف، وله شاهد عن أبي هريرة اختلف في تحسينه به وقد صححه الألباني في «الإرواء» (153).

قالوا: والبشرة ظاهر الجلد، فلا يدخله المضمضة والاستنشاق. 4 - حديث جبير بن مطعم قال: تذاكرنا غسل الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما أنا فآخذ ملء كفِّي ثلاثًا فأصب على رأسي، ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي» (¬1). وفي لفظ: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت» (¬2) ولا يصح هذا اللفظ. 5 - قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضين عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت» (¬3). قلت: لولا حديث أم سلمة الأخير لكان لإيجاب المضمضة والاستنشاق وجه قوي، لكن حديث أم سلمة يدل دلالة أكيدة على أن القدر المجزئ في الغسل هو المذكور وليس فيه ذكر المضمضة والاستنشاق، ولا يقال: إنهما داخلان في قوله (ثم تفيضين عليك الماء) فإن معنى الإفاضة لا يتناولهما كما هو واضح، فيترجَّح لي مذهب الجمهور من استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوجوب، والله أعلم. الثانية: متى يكون غسل الرجلين؟ الظاهر من حديث ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم أخَّر قدميه حتى أتمَّ غسله، ففي لفظ البخاري (260): «... فلما فرغ من غسله غسل رجليه». وأما حديث عائشة فليس فيه إلا أنه كان يتوضأ قبل الغسل (¬4)، فكان للعلماء في هذين الحديثين أربعة اتجاهات (¬5): ¬

(¬1) صحيح: وتقدم قريبًا. (¬2) نقل الشوكاني عن الحافظ قوله: قوله (فإذا أنا قد طهرت) لا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف ... اهـ. (¬3) صحيح: وتقدم قريبًا. (¬4) في رواية لمسلم (316) عن عائشة في آخر هذا الحديث: «... ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه» وهي زيادة غير محفوظة، وانظر «علل مسلم» للهروي (69)، و «التمهيد» (22/ 93)، و «فتح الباري» لابن رجب (1/ 234). (¬5) «فتح الباري» لابن حجر (1/ 362)، و «المغنى» (1/ 288)، و «شرح العمدة» (1/ 371)، و «الخلافيات» للبيهقي (2/ 425).

الأول: أنه يستحب تأخير غسل الرجلين في الغسل، لحديث ميمونة وهو مذهب الجمهور. الثاني: أنه يتوضأ وضوءًا كاملاً قبل الغسل، لحديث عائشة لأنه إخبار بغالب فعله صلى الله عليه وسلم بخلاف حديث ميمونة فإنها أخبرت عن غسل واحد، وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك وأحمد. الثالث: أنه مخيَّر بين تقديم غسل الرجلين مع الوضوء أو تأخيره، وهو رواية عن أحمد. الرابع: إذا كان يغتسل في مكان غير نظيف أخر رجليه، وإلا قدَّمه مع الوضوء، وهو مذهب مالك. قلت: وهذا الأخير أرجح، وعلى كلٍّ فالأمر فيه واسع والله أعلم. 5 - يفيض الماء على رأسه ثلاثًا حتى يبلغ أصول الشعر. 6 - ويبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر. 7 - مع تخليل الشعر. ففي حديث عائشة: «ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ....». وعنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب (¬1)، فأخذ بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بهما على رأسه» (¬2). وعنها قالت: «كنا إذا أصاب إحدانا جنابة، أخذت بيدها ثلاثًا فوق رأسها، ثم تأخذه بيدها على شقِّها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر» (¬3). فائدة: هل يخلل لحيته في الغسل؟ قال جمهور العلماء: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حزم (¬4)، لا يلزمه تخليلها وإنما يستحب، قلت: هذا محلُّه إذا كان الماء يصل إلى البشرة وإلا فيجب ¬

(¬1) الحلاب: إناء يسع قدر حلبة ناقة (معالم السنن للخطابي 1/ 69). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (258)، ومسلم (318). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (277). (¬4) «المحلى» (2/ 33)، و «الأوسط» (2/ 127)، و «التمهيد» (22/ 95).

تخليلها لإيصال الماء إليها، والأحوط على كل حال أن يخلل لحيته لعموم قول عائشة: «فيخلل بها أصول شعره». 8، 9 - يفيض الماء على سائر جسده، بادئًا بشقه الأيمن ثم الأيسر. وإفاضة الماء على الجسد ثابتة في جميع الأحاديث الواصفة لغسله صلى الله عليه وسلم. وأما التيامن، فلحديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره وفي شأنه كله» (¬1). فائدتان: الأولى: الإفاضة على سائر الجسد تكون مرة واحدة: وهذا واضح من سياق حديثي عائشة وميمونة، ففيهما التثليث في غسل اليدين والرأس وأما سائر الجسد فقالت عائشة: «ثم يفيض على جسده كله» وقالت ميمونة: «ثم أفاض على جسده» قال ابن بطال (¬2): لأنه لم يقيد بعدد، فحمل على أقل ما يسمى، وهو المرة الواحدة لأن الأصل عدم الزيادة عليها» اهـ. قلت: وهذا ظاهر مذهب أحمد وأصحاب مالك واختاره شيخ الإسلام، والجمهور على استحباب التثليث. الثانية: حكم دلك أعضاء الغسل (¬3): اختلف العلماء: هل يشترط في الغسل إمرار اليد على جميع الجسد، أم يكفي فيها إفاضة الماء على جميع الجسد وإن لم يمرر يديه على بدنه؟ وهي مسألة لغوية: هل يتحقق الغسل بإفاضة الماء أم لا يتحقق إلا بالدلك على الشيء؟ فذهب جمهور العلماء -خلافًا لمالك والمزني من الشافعية- إلى أن الدلك لا يجب، بل يستحب في الغسل، فلو صب الإنسان على نفسه الماء على جميع جسده فقد أدى ما أوجب الله عليه، وكذلك لو غطس في الماء فأصاب الماء جميع جسده. وأدلة الفريقين في هذه المسألة هي عين الأدلة التي تقدمت في حكم المضمضة والاستنشاق. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (168)، ومسلم (268). (¬2) «فتح الباري» (1/ 439). (¬3) «المحلى» (2/ 30)، و «الاستذكار» (3/ 63)، و «المغنى» (1/ 290)، و «بداية المجتهد» (1/ 55)، و «السيل الجرار» (1/ 113).

والظاهر أن الدلك مستحب وليس واجبًا. ويقوي هذا المذهب -مع حديث أم سلمة- حديث عمران بن حصين في قصة المزادتين وفيه: (... وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء، قال: «اذهب فأفرغه عليك») (¬1). وعلى هذا فلو وقف الإنسان تحت «الدش» ووصل الماء إلى جميع البدن فقد صح غُسله مع النية. غسل المرأة من الجنابة: صفة غسل المرأة من الجنابة كغسل الرجل تمامًا. ولا يلزم المرأة -إذا كان لها ضفيرة- أن تنقض شعرها (تحل ضفائرها) لكن عليها أن توصل الماء إلى أصول شعرها. لحديث ميمونة قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: «لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين» (¬2). وعن عائشة قالت: «كنا نغتسل وعلينا الضماد (¬3) ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحلاَّت ومُحرمات» (¬4). وقد أنكرت عائشة على عبد الله بن عمرو أَمْرَه للنساء بنقض رؤوسهن عند الغسل (¬5). غُسل المرأة من الحيض والنفاس (¬6): 1 - استعمال الصابون ونحوه من المنظفات مع الماء: لحديث عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض، فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (344). (¬2) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬3) الضماد: ما يلطخ به الشعر مما يلبده ويسكنه كالصمغ فيكون كالضفيرة. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (254)، والبيهقي (2/ 182). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (331)، والنسائي (1/ 203)، وابن ماجه (604). (¬6) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 49)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا (1/ 116 وما بعدها) مع شيء من الزيادة.

فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسَّكة فتطهر بها» فقالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ فقال: «سبحان الله تطهرين بها» فقالت عائشة -كأنها تخفي ذلك-: تتبعين بها أثر الدم (¬1). 2 - أن تحلَّ ضفائرها حتى يصل الماء إلى أصول الشعر: لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق «ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها ...» وهو دليل على أنه لا يكتفي فيه بمجرد إفاضة الماء كغسل الجنابة، لا سيما وفي الحديث نفسه أنها سألته عن غسل الجنابة فقال: «ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها» ولم يذكر الدلك الشديد ففرَّق بين غسل الجنابة والحيض. وقد اختلف العلماء في حكم نقض الضفائر في غسل المحيض: فذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب (¬2) وحجتهم: 1 - أن الحديث ليس صريحًا في إيجاب نقض الضفيرة. 2 - أن حديث عائشة الذي في قصة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «فأدركني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «دعي عُمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ...» (¬3) قالوا: هذا غسل للإحرام وليس غسلاً للحيض فلا يصلح دليلاً. 3 - وأما حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها -وكانت حائضًا-: «انقضي شعرك واغتسلي» (¬4) قالوا: هذا الحديث يُرَدُّ إلى الحديث السابق فهو حديث واحد، ومن ثم أعلوا لفظة «واغتسلي» وحملوه على غسل الإحرام. 4 - إنكار عائشة على عبد الله بن عمرو أمره للنساء بنقض رؤوسهن في الغسل. بينما ذهب الإمام أحمد والحسن وطاووس إلى أن نقض المرأة ضفائرها في غسل المحيض واجب للأحاديث السابقة، وكأنه الأرجح في المسألة كما حققه العلامة ابن القيم -رحمه الله- (¬5) وردَّ على اعتراض الجمهور بما يأتي: 1 - أما قولهم في حديث عائشة في حجِّها: إنه كان في الإحرام فصحيح، لكن غسل الحيض آكد الأغسال وقد أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يأمر به في سواه من زيادة التطهر والمبالغة فيه فأمرها بنقضه -وهو غير رافع لحدث الحيض- تنبيهًا على وجوب نقضه إذا كان رافعًا للحدث بطريق الأولى. 2 - وأما حديثها أنه قال لها وهي حائض: «انقضي شعرك واغتسلي». فكونه غير حديث الحج وارد جدًّا لا سيما ورجال السند من المكثرين. 3 - وأما إنكار عائشة على عبد الله بن عمرو، إنما كان لأمره للنساء بنقض رؤوسهن في غسل الجنابة بلا شك، فقد قالت: «يا عجبًا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقض رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ...» (¬6). وإنما كانت تغتسل معه صلى الله عليه وسلم من الجنابة التي يشتركان فيها لا من الحيض!! وعلى هذا فيجب على المرأة أن تحل ضفائرها في ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (314)، ومسلم (332) واللفظ له. (¬2) «المغنى» (1/ 227)، و «المحلى» (2/ 38)، و «نيل الأوطار» (1/ 311)، و «تهذيب السنن» (1/ 293) مع العون. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (317)، ومسلم (1211). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن ماجه (641)، وانظر «الإرواء» (1/ 167). (¬5) «تهذيب السنن» (1/ 293 - وما بعدها) مع عون المعبود. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (331)، والنسائي (1/ 203)، وابن ماجه (604).

غسل المحيض والنفاس خاصة، وهو الأحوط والله أعلم. 3 - أن تتبع أثر الدم بقطعة عليها مسك أو نحوه: فيستحب أن تستعمل قطعة قماش أو قطن عليها شيء من المسك وتدخلها في فرجها بعد الاغتسال، وكذلك تطيب جميع المواضع التي أصابها الدم من بدنها، وذلك لتطييب المحل من الرائحة الكريهة، وهذا ثابت في حديث عائشة المتقدم. ويرخص للمرأة أن تفعل هذا حتى وهي في فترة الإحداد على زوجها أو ميتها لحديث أم عطية فيما تمنع منه الحادَّة: «... ولا نتطيب ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، وقد رخصَّ لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كُسْثِ أظفار ...» (¬1). وسيأتي هذا في موضعه من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (313).

مسائل تتعلق بالغسل

تنشيف الأعضاء بعد الغسل: تقدم في حديث ميمونة في صفة غُسل النبي صلى الله عليه وسلم: «فناولته ثوبًا (وفي رواية: المنديل) فلم يأخذه وهو ينفض يديه» (¬1) وقد استُدل بهذا على كراهة التنشيف بعد الغسل ولا حجة فيه لأمور (¬2): 1 - أنها واقعة حالة يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة أو لكونه كان مستعجلاً أو غير ذلك. 2 - أن في الحديث دليلاً على أنه صلى الله عليه وسلم كان من عادته التنشيف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. 3 - نفض الماء بيده يدل على عدم الكراهة في التنشيف لأن كلاًّ منهما إزالة. فالحاصل: أنه لا بأس بالتنشيف بعد الغسل، والله أعلم. مسائل تتعلق بالغسل لا يلزم الوضوء بعد الغسل: من اغتسل غسلاً شرعيًا وأراد أن يصلي فلا يلزمه أن يتوضأ، حتى وإن لم يكن توضأ في اغتساله، فإن طهارة الجنابة تقضي على طهارة الحدث، لأن موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث، فدخل الأقل في الأكثر. فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة» (¬3) وفي رواية: «يغتسل ويصلي ركعتين، ولا أراه يُحدث وضوءًا بعد الغسل» (¬4). وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا لم تمسَّ فرجك بعد أن تقضي غُسلك، فأي وضوء أسبغ من الغسل» (¬5). قلت: ويتفرَّع على هذا انه لا يجب على المغتسل من الجنابة أن ينوي رفع ¬

(¬1) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬2) «الفتح» (1/ 432)، وانظر «المجموع» (1/ 459). (¬3) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (107)، والنسائي (1/ 137)، وابن ماجه (579). (¬4) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (250)، وأحمد (6/ 119). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (1039).

الحدث الأصغر، وهو مذهب الجمهور واختاره ابن تيمية (¬1). وعند الحنابلة أنه إذا نوى الطهارتين أجزأ منهما، وإن نوى الغسل وحده فليس له إلا ما نوى (¬2). إذا اجتمع موُجِبان للغسل: كحيض وجنابة، أو جنابة وجمعة، فإنه يجزئ عنهما غسل واحد إذا نواهما معًا، وهو قول أكثر أهل العلم (¬3). إذا أجنبت المرأة ثم حاضت قبل أن تغتسل: فأصلح أقوال العلماء أنه لا يلزمها أن تغتسل للجنابة وإنما يلزمها إذا طهرت أن تغتسل للجنابة والحيض معًا وتنويهما جميعًا، وهذا مذهب أحمد (¬4) وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يلزمها الغسل للجنابة ثم إذا زالت الحيضة اغتسلت للحيض، وهو مذهب عطاء والنخعي والحسن، وقال بعضهم: يلزمها غسل فرجها ثم إذا طهرت تغتسل، ولا حجة لأحد هذين القولين، والصواب الأول. ولا ينفي هذا أنها إذا أرادت أن تغتسل للجنابة أو أن تغسل فرجها ثم تغتسل إذا طهرت - فعلت ولا حرج عليها، وإنما لا يلزمها. يجوز غُسل الرجل بفضل ماء المرأة: وقد تقدم تحريره في «أحكام المياه». يجوز للرجل الاغتسال مع زوجته: ويجوز لكل منهما أن ينظر لعورة الآخر من غير كراهة، فعن عائشة قالت: «وكنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد [فيبادرني حتى أقول: دع لي دع] كلانا جنب» (¬5). لا يجوز الاغتسال عريانًا أمام الناس: فإن استتر عن نظر الناس فلا بأس، وقد تقدم في حديث ميمونة «وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل [وسترته] فغسل يديه .... الحديث». ¬

(¬1) «المبسوط» (1/ 44)، و «الشرح الصغير» (1/ 65)، و «الأم» (1/ 36)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 397)، و «المحلى» (2/ 44). (¬2) «العدة شرح العمدة» (ص 48). (¬3) «المغنى» (1/ 292) بل نقل في «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» (ص 51) الإجماع عليه، وهذا منقوض بخلاف ابن حزم في «المحلى» (ص/ 42 - 47). ووافقه العلامة الألباني في «تمام المنة» (ص 126). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (299)، ومسلم (321).

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام اغتسل عريانًا (¬1) وكذلك أيوب عليه السلام (¬2) وهذا في الخلوة. من أَحْدَثَ أثناء الغُسل: الجنب إذا أحدث قبل أن يتم غُسله فإنه يتمُّه ولا يعيده، لأن الحدث لا ينافي الغسل، فلا يؤثر وجوده فيه كغير الحدث، وإنما عليه أن يتوضأ، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم: عطاء والثوري ويشبه مذهب الشافعي واختاره ابن قدامة وابن المنذر (¬3). مسائل تتعلق بالجُنُبِ: يجوز للجُنب تأخير الغُسل: ولا يجب عليه أن يغتسل فور حصول الجنابة، وإن كان الأفضل والأزكى المبادرة بالغسل. فعن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة، وهو جنب، فانخنس منه، فذهب فاغتسل، ثم جاء فقال: «أين كنت يا أبا هريرة؟» قال: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: «سبحان الله، إن المسلم لا ينجس» (¬4). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة» (¬5). ثم إن التعجيل بغسل الجنابة إنما هو للصلاة بالدرجة الأولى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما نام قبل أن يغتسل كما سيأتي. يجوز للجنب أن ينام قبل أن يغتسل، إذا توضأ: فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ وضوءه للصلاة» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (278)، ومسلم (339). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (279). (¬3) «المغنى» (1/ 290)، و «الأوسط» (2/ 112). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (283)، ومسلم (371). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (284)، ومسلم (309). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (288)، ومسلم (305).

وسألها عبد الله بن قيس قال: «كيف كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ فقالت: «كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام» فقال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة» (¬1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب -لما سأله عن الجنابة تصيبه من الليل-: «توضأ، واغسل ذكرك، ثم نَمْ» (¬2). لا حرج على الجنب في قراءة القرآن ومس المصحف: وقد تقدم تحريره في «الوضوء» فليراجع. هل يجوز للحائض والجنب دخول المسجد والمكث فيه؟ ذهب جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم -خلافًا للظاهرية- إلى تحريم مكث الحائض والنفساء والجنب في المسجد، وهو مروي عن ابن عباس وابن مسعود من الصحابة (¬3). واستدل المانعون بما يأتي: 1 - قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا ...} (¬4). قالوا: المراد بالصلاة: مواضع الصلاة وهي المساجد، ففي الآية منع الجنب من دخولها إلا في حالة كونه مسافرًا، ثم قاسوا الحائض والنفساء على الجنب!! وأجاب المبيحون: بأن هذا أحد تأويلي السلف لمعنى الآية، والتأويل الآخر أن المراد الصلاة ذاتها لا المسجد فيكون المعنى: ولا تقربوا الصلاة جنبًا إلا بعد أن تغتسلوا إلا في حال السفر فصلُّوا بالتيمم ولذا قال بعدها: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. ثم في قياس الحائض على الجنب نظر، لأن الحائض معذورة ولا يمكن أن تغتسل قبل أن تطهر ولا تملك رفع حيضتها، بخلاف الجنب فيمكنه الاغتسال. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (307). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (209)، ومسلم (306). (¬3) «المجموع» (2/ 184) وما بعدها، و «المغنى» (1/ 145)، و «اللباب شرح الكتاب» (1/ 43) وأجاز الشافعي وأحمد المرور في المسجد دون المكث، و «المحلى» (2/ 184) وما بعدها). (¬4) سورة النساء، الآية: 43.

2 - حديث جسرة بنت دجاجة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لا أُحِلُّ المسجد لحائض ولا جنب» (¬1). وأجاب المبيحون: بأن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به، فإن مداره على جسرة وهي لا تحتمل التفرد. 3 - حديث أم عطية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج العواتق وذوات الخدور، والحيض في صلاة العيد ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصُلَّى» (¬2). قالوا: فإذا كان هذا في شأن مصلى العيد فالمسجد أولى بالمنع. وأجاب المبيحون: بأن المراد بالمصلى في الحديث: الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون العيد في الفضاء لا في المسجد، والأرض كلها مسجد ولا يجوز أن يخص المنع بعض المساجد دون البعض. ثم قد رُوى الحديث نفسه بلفظ «فأما الحيض فيعتزلن الصلاة» وهي في صحيح مسلم وغيره. 4 - حديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغى إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجِّله وأنا حائض» (¬3) قالوا: فامتنعت من ترجيله في المسجد لأنها حائض. وأجاب المبيحون: بأنه ليس صريحًا فيما استدلوا به، فقد يكون عدم دخولها لعلة أخرى غير الحيض كأن يكون بالمسجد رجال ونحو ذلك. ثم استدل المبيحون لدخول الحائض والجنب المسجد بما يأتي: 1 - البراءة الأصلية، فحيث لم يصح النهي فالأصل الإباحة وقد أبيح للمسلم أن يصلي في أي مكان أدركته فيه الصلاة. 2 - أنه قد ثبت أن المشركين دخلوا المسجد وقد حبسهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬4). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2332)، والبيهقي (2/ 442)، وابن خزيمة (2/ 284)، وانظر «الإرواء» (193). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (324)، ومسلم (890). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2029)، وسيأتي في «الاعتكاف». (¬4) سورة التوبة، الآية: 28.

وأما المسلم فهو طاهر على كل حال لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم لا ينجس» (¬1) فكيف يمنع المسلم دخوله ويباح للكافر؟! وأجاب المانعون: بأن الشرع فرَّق بين المسلم والكافر، فقام الدليل على تحريم مكث الجنب والحائض (!!) وثبت حبس الكفار فيه، فإذا فرَّق الشرع لم يجز التسوية، فهذا قياس مع النص وهو فاسد (!!) قلت: هذا إذا ثبت النص كما لا يخفى! 3 - حديث عائشة: «أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد» (¬2). قالوا: فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعهود من النساء الحيض، فلم يمنعها صلى الله عليه وسلم من ذلك ولا أمرها أن تعتزله في حيضتها. وأجاب المانعون: الظاهر أن هذه المرأة لم يكن لها أهل ولا مأوى سوى المسجد فكان مقامها فيه اضطرارًا، فلا يقاس عليها غيرها وهذه واقعة حالة خاصة فلا يعارض بها الدليل الصريح (!!) في المنع. 4 - حديث أبي هريرة «في المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد وماتت فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ....» (¬3). فهذه امرأة غير مضطرة تقم المسجد في كل وقت ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتزال المسجد في الحيض. 5 - حديث أبي هريرة في مبيت أهل الصفة في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4). وأجاب المانعون: بأن أهل الصفة لم يكن لهم أهل ولا مال كما هو واضح في نص الحديث. 6 - ثبت في الصحيح «أن ابن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: وقد تقدم قريبًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (439). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (458)، ومسلم (956) وفيهما على الشك هل هي امرأة أو رجل لكن يتأيد أنها امرأة بلفظ الحديث عند ابن خزيمة والبيهقي (4/ 48) بسند حسن. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6452)، والترمذي (479). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3530)، ومسلم (2479).

والشاب يعتريه الاحتلام كثيرًا ولم يُنه عن المكث في المسجد حال الجنابة. وأجاب المانعون: بأنه لم يُذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على هذا منه وأقره!! وردَّ المبيحون: بأنه لو خفى هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى على الله تعالى فكان ينبغي أن يخبره الوحي بذلك فينهاه، وأجيب: بأنه لا يلزم أن ينزل الوحي معلمًا بكل خطأ من حصابي، فكم وقع الصحابة في مخالفات لعدم علمهم بالدليل الوارد في المسألة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. 7 - أن عائشة رضي الله عنها لما حاضت في الحج فأجاز لها ما يفعل الحاج ولم ينهها إلا عن الطواف بالبيت (¬1)، فدلَّ على جواز دخولها المسجد، لأن الحاج له ذلك. وأجاب المانعون: أنه إنما أراد أن يعلمها أنه يجوز للحائض أن تقوم بكل مناسك الحج إلا الطواف، وأما حكم دخولها المسجد فمعلوم عندها أنه ممنوع إذ هي رواية الحديث، ثم إنه لم ينهها عن الصلاة وهي حائض -والحجاج يصلون- فهل يقال: إن لها أن تصلي وهي حائض؟!! قلت: وهذا جواب متجه لكن إذا ثبت حديث النهي وهو ضعيف. 8 - حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناوليني الخمرة من المسجد» فقلت: إني حائض، قال: «إن حيضتك ليست في يدك» (¬2) وهذا مشعر أن الخمرة كانت في المسجد فأصرَّ على دخولها المسجد لمناولته الخمرة. وأجاب المانعون: بأن الحديث ورد بلفظ آخر: «بينما رسول الله في المسجد فقال: «يا عائشة ناوليني الثوب» فقالت: إني حائض، فقال: «إن حيضتك ليست في يدك» (¬3). وهو صريح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد وكانت عائشة والخمرة خارجه. فأمرها بإدخال يدها لا بأن تدخل بنفسها. قلت: هذا الحديث محتمل فينبغي إسقاطه من أدلة الفريقين. 9 - أثر عطاء بن يسار قال: «رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد، وهم مجنبون، إذا توضأوا وضوء الصلاة» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1650)، وسيأتي في «الحج». (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (298)، وأبو داود (261)، والترمذي (134)، والنسائي (2/ 192). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (299)، والنسائي (1/ 192). (¬4) إسناده حسن: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (4/ 1275).

التيمم

قلت: بعد هذا العرض لحجج المانعين والمبيحين لمكث الجنب والحائض والنفساء في المسجد، فالذي يظهر أن أدلة المانعين لا ترقى للقطع بالحُرمة، وإن كنت أتوقف في هذه المسألة، والله أعلم بالصواب. التيمُّم (¬1) التيمم لغة وشرعًا (¬2): التيمم لغة: القصد، يقال: (تيممت فلانًا ويممته وتأممته وأممته، أي: قصدته). قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (¬3). وشرعًا: القصد إلى الصعيد (وجه الأرض) للتطهير لاستباحة ما يبيحه الوضوء والغسل. مشروعية التيمم: ثبتت مشروعية التيمم بالكتاب والسنة والإجماع: 1 - فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (¬4). 2 - ومن السنة: -قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وعنده طهوره» (¬5). -وحديث عمران بن حصين قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ مع القوم، فقال: «يا فلان، ما منعك ألا تصلي مع القوم؟» فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» فلما حضر الماء أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل إناء من ماء فقال: «اغتسل به» (¬6). 3 - وأما الإجماع: فقال: ابن قدامة في «المغنى (1/ 148): ¬

(¬1) استفدت كثيرًا في هذا الباب من بحث كان أعدَّه شقيقي طارق سالم -أثابه الله- تمهيدًا للحصول على «الماجستير» في الشريعة. (¬2) المجموع (2/ 238)، والمغنى (1/ 148)، والمبسوط (1/ 106). (¬3) سورة البقرة، الآية: 267. (¬4) سورة المائدة، الآية: 6. (¬5) حسن: أخرجه أحمد (2/ 222) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (348)، ومسلم (1535).

«وأما الإجماع، فأجمعت الأمة على جواز التيمم في الجملة» اهـ. عَمَّ يجزئ التيمم؟ التيمم بدل عن الوضوء والغسل عند انعدام الماء أو تعذُّر استعماله، قال النووي: هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود (¬1) وإبراهيم النخعي التابعي، فإنهم منعوه [يعني: منعوا التيمم عن الحدث الأكبر] قال ابن الصباغ وغيره: وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا. واحتج أصحابنا والجمهور بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}. ثم قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهو عائد إلى المحدث والجنب جميعًا .... اهـ (¬2). قلت: وثمة دليل آخر على مشروعية التيمم من الحدث الأكبر، وهو قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (¬3). فالمراد بالملامسة في الآية: الجماع، على قول فريق من أهل العلم منهم ابن عباس رضي الله عنهما (¬4). ثم قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على إجزاء التيمم عن الجنابة ومن ذلك: 1 - حديث عمران بن حصين المتقدم وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أصابته جنابة: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» (¬5). 2 - حديث عمار بن ياسر قال: أجنبت فتمعَّكْت في التراب، فأخبرت ¬

(¬1) جاء في صحيح البخاري (345)، ومسلم (796) منع ابن مسعود التيمم من الجنابة، واحتجاج أبي موسى عليه بالآية، قلت: لعل منع ابن مسعود ذلك مُخَرَّج على ما صح عنه عند الطبري (9606) في تفسيره لقوله تعالى {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} بأن «الملامسة ما دون الجماع» فليُحرر. (¬2) المجموع (2/ 240). (¬3) سورة النساء، الآية: 43. (¬4) «تفسير الطبري» (9583) بسند صحيح عنه. (¬5) متفق عليه: وتقدم قريبًا.

النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «إنما كان يكفيك هكذا: وضرب يديه على الأرض، ومسح وجهه وكفيه» (¬1). هل يُيَّمَّم الميت إذا عُدم الماء؟ يُيمم الميت كالحي إذا عدَم الماء، لأن غسله فرض، وقد تقدم أن التراب طهور إذا لم يوجد الماء، وهذا عام لكل طهور واجب ولا خلاف في أن كل غسل طهور (¬2). الأحوال التي يباح فيها التيمم يُباح التيمم في حالتين: 1 - عند انعدام الماء سواء في السفر أو الحضر. 2 - عند تعذُّر استعماله، ولهذا صور تأتي، إن شاء الله. قال الله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬3). لا يشترط أن يكون السفر طويلاً حتى يشرع للمسافر التيمم. للمسافر -إذا عدم الماء- أن يتيمم سواء كان سفره طويلاً أو قصيرًا في أصح قولي العلماء (¬4)، لإطلاق السفر في الآية الكريمة. ويشهد لذلك: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء .... فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ...» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (338)، ومسلم (798). (¬2) انظر المحلى (2/ 158). (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) المحلى (2/ 116)، والمغنى (1/ 148). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (334)، ومسلم (764).

2 - وعن ابن عمر: «أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم فمسح وجهه ويديه، وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة» (¬1). قال الشافعي: (الجرف) قريب من المدينة. الصحيح أن المسافر يتيمم في سفره -إذا عدم الماء- سواء سافر لطاعة أو لمعصية، لأن التيمم عزيمة فلا يجوز تركه بخلاف بقية الرخص، ولأنه حكم لا يختص بالسفر فأبيح في سفر المعصية كمسح يوم وليلة (¬2). قلت: ولأنه لا يسقط عنه فرض فلزمه أن يحقق شرط صحتها (التيمم) ويبقى في حقه الإثم لأجل سفر المعصية. والله أعلم. من كان معه ماء لا يكفي إلا لبعض أعضائه: فلأهل العلم في هذه المسألة مذهبان: الأول: أنه يغسل ما استطاع من أعضاء ويتيمم عن الباقي: وهو مذهب أحمد، وأحد القولين للشافعي، وبه قال ابن حزم (¬3) وحجتهم: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» (¬5). قال ابن حزم: وهذا مستطيع لأن يأتي ببعض وضوئه أو ببعض غسله، غير مستطيع على باقيه، ففرض عليه أن يأتي من الغسل بما يستطيع في الأول من أعضاء الوضوء وأعضاء الغسل حيث بلغ، فإذا نفد لزمه التيمم لباقي أعضائه ولابد، لأنه غير واجد للماء في تطهيرها، فالواجب عليه تعويض التراب كما أمره الله تعالى ... اهـ. الثاني: أنه يتيمم ابتداء: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين عند الشافعية، وبه قال جماعة من السلف (¬6). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (الطهارة - ص 73)، والبيهقي (1/ 224). (¬2) المحلى (2/ 116)، والمغنى (1/ 148). (¬3) المحلى (2/ 137)، والمغنى (1/ 150)، والأوسط (2/ 32). (¬4) سورة التغابن، الآية: 16. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (3199). (¬6) المجموع (2/ 312)، ومجموع الفتاوى (21/ 453).

قالوا: لأنه لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم، إما هذا وإما هذا، واحتج ابن المنذر لهذا المذهب فقال (¬1): «قال الله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} الآية، فأوجب على الجنب الاغتسال بالماء، فإن لم يجد تيمَّمَ، وأوجب على المُظاهر رقبة، فإن لم يجد صام شهرين، فلما كان الواجد بعض رقبة في معنى من لا يجد، وفرضه الصوم، كان الواجد من الماء ما يغسل به بعض بدنه في معنى من لا يجد، وفرضه الصوم، كان الواجد من الماء ما يغسل به بعض بدنه في معنى من لا يجد وفرضه التيمم، والجواب في المتمتع يجد بعض ثمن الهدى، والحانث في يمينه يجد ما يطعم أقل من عشرة مساكين، حكم من ذكرنا، فأما أن يفرض على بعض من ذكرنا فرضين فغير جائز» اهـ. قلت: ولعل الأظهر أنه يتيمم ابتداءً، لعدم الجمع بين الأصل والبدل، ولأنه لو لم يكن معه ما يكفي جميع أعضاء الوضوء أو الغسل، فاستعمل البدل (التيمم) فإنه يكون أتى ما استطاع من أمر الله ورسوله كذلك، على أن الذي يظهر لي أن هذا الذي يتيمم بعد غسل بعض الأعضاء إنما حصلت له الطهارة بالتيمم وحده لا بمجموع الغسل والتيمم، فلم يكن لغسل بعض الأعضاء -مع تيقن عدم كفاية الماء - معنى والله أعلم. من كان معه ماء، إلا أنه يخاف على نفسه أو رفيقه أو دابته العطش إن استعمله: قال ابن المنذر (¬2): «أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا خشي على نفسه العطش ومعه مقدار يتطهر به من الماء، أنه يُبقى ماءه للشرب ويتيمم» اهـ. وقال ابن قدامة (¬3): «والخائف على بهائمه خائف من ضياع ماله فأشبه ما لو وجد ماء بينه وبينه لص أو سبع يخافه على بهيمته أو شيء من ماله، وإن وجد عطشان يخاف تلفه لزمه سقيه وتيمم» اهـ. ¬

(¬1) الأوسط لابن المنذر (2/ 34). (¬2) الأوسط (2/ 28). (¬3) المغنى (1/ 165)، وانظر المجموع (2/ 281).

[مسألة]: إذا اجتمع ميِّتٌ، وجنبٌ، وحائضٌ، ومن على بدنِه نجاسةٌ، والماءُ لا يكفي إلا أحدَهم فمن أحق به؟ 1 - إذا كان الماء ملكًا لأحدهم فهو أحق به، وبهذا قطع الجمهور (¬1). 2 - وإذا كان الماء مباحًا لهم، فعلى ما يأتي: (أ) الميت أحق به من أصحاب الأحداث، كما قال الشافعي وأحمد (¬2) وذلك لعلتين، إحداهما: أنه خاتمة أمره فخُصَّ بأكمل الطهارتين، والأحياء سيجدون الماء، والثانية: أن القصد من غسل الميت تنظيفه ولا يحصل بالتراب، والقصد من طهارة الأحياء استباحة الصلاة، وهي حاصلة بالتيمم. (ب) صاحب النجاسة أحق بالماء من أصحاب الأحداث، وبه قال الشافعية والحنابلة (¬3)، قال النووي: لأنه لا بدل لطهارته. اهـ. (جـ) الحائض أحق بالماء من الجنب، لغلظ حدثها، ولأنها تقضي حق الله تعالى وحق زوجها في إباحة وطئها. وفي المسألة خلاف: فعند الحنابلة والشافعية وجهان وعند الشافعية وجه ثالث وهو أنهما يستويان ويقرع بينهما (¬4). (ء) إذا اجتمع الجنب والمحدث: فالعبرة بالماء الموجود فإن كان يكفي للاغتسال فالجنب أحق به وإلا فالمحدث (¬5). (هـ) إذا اجتمع الميت ومن على بدنه نجاسة، ففيه خلاف (¬6)، فمن اعتبر العلة التي ذكرناها في تقديم الميت على المحدث قال: الماء من حق الميت. ومن اعتبر أن من على بدنه نجاسة لا بدل لطهارته، قال: هو الأحق. تيمم المريض الذي يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء: ذهب جمهور العلماء (أبو حنيفة والشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم) إلى أن ¬

(¬1) المجموع (2/ 316)، والمغنى (1/ 170). (¬2) المجموع (2/ 318)، والمغنى (1/ 170). (¬3) المغنى (1/ 171)، والمجموع (2/ 319). (¬4) المغنى (1/ 171)، والمجموع (2/ 319). (¬5) السابق. (¬6) المغنى (1/ 170)، والمجموع (2/ 318).

المريض إذا خشي على نفسه الهلاك من استعمال الماء، فيجوز له أن يتيمم، لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ..... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). قال مجاهد: «وهي للمريض تصيبه الجنابة إذا خاف على نفسه فله الرخصة في التيمم مثل المسافر إذا لم يجد الماء» (¬2). ولقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (¬3). بينما منع عطاء (¬4) والحسن تيمم المريض إلا عند فقد الماء، لظاهر الآية. والجواب عن هذا: أن الآية حجة لنا وتقديرها: (وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء، أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماءً، فتيمموا) (¬5). إذا خاف المريض -باستعماله الماء- زيادة المرض أو تأخر البرؤ فهل يتيمم؟ ذهب الجمهور (¬6) (أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين وابن حزم) إلى أنه لا يشترط خوف الهلاك حتى يتيمم المريض، بل من كان الوضوء يزيد مرضه أو يؤخر برؤه، فإنه يتيمم، لعموم آية المائدة. ولعموم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬7). قال ابن حزم: فالحرج والعسر ساقطان -ولله الحمد- سواء زادت علته أو لم تزد، وكذلك إن خشي زيادة علته فهو أيضًا عسر وحرج. اهـ. ورُوى عن أحمد والشافعي في أحد قوليه: أنه يشترط خوف الهلاك لإباحة التيمم، ومذهب الجمهور أصح والله أعلم. من كانت به جراح، فماذا يفعل؟ هذه المسألة تتفرع على أصل وهو: (هل يُجمع بين الأصل والبديل أي الوضوء -أو الغسل- والتيمم أم لا؟) وقد تقدم تحريره (¬8). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح. (¬3) سورة النساء، الآية: 29. (¬4) روى هذا عبد الرزاق في «المصنف» (861) بسند صحيح. (¬5) المجموع (2/ 330). (¬6) المبسوط (1/ 121)، والمجموع (2/ 331)، والمحلى (2/ 116)، والأوسط (2/ 26)، ومجموع الفتاوى (21/ 399). (¬7) سورة البقرة، الآية: 185. (¬8) راجع ص (192).

فمن منع الجمع بينهما -كأبي حنيفة ومالك وهو ما رجَّحناه قريبًا- ذهب إلى اتباع الأقل للأكثر، بحيث إذا كان أكثر جسده جريحًا تيمم دون غسل باقي الأعضاء الصحيحة، وإن كان أكثر صحيحًا غسل جسده وترك موضع الجرح (¬1). ومن أجاز الجمع بين الغسل والتيمم قال: يغسل الصحيح من الجسد ويتيمم عن المجروح، وهو قول الشافعي وأحمد، وكأنه اختيار شيخ الإسلام (¬2). قلت: والظاهر أن الأول أصح -كما تقدم- ولا يصح في هذا الباب شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن يُروى حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، قال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم [ويعصر -أو يعصب- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده]» (¬3). وهو حديث ضعيف ضعَّفه البيهقي وابن حزم وغيرهما وهو كذلك، وإن كان قد حسنه -بدون ما بين المعكوفتين- الألباني بما لا يُسَلَّم. وقد رُوى عن ابن عمر قال: «إذا لم تكن على الجرح عصائب، غسل ما حوله، ولم يغسله» (¬4). وقد صح عن عبيد بن عمير في رجل أصابته جنابة وبه جراحة: «ليغسل ما حوله ولا يقرب جراحته الماء» (¬5). وهذا موافق لمذهب أبي حنيفة ومالك، وهو الراجح والله أعلم. ¬

(¬1) المبسوط (1/ 112)، والمجموع (2/ 333). (¬2) المغنى (1/ 162)، والمجموع (1/ 162)، ومجموع الفتاوى (21/ 466). (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (336)، والدارقطني (1/ 190)، والبيهقي (1/ 237) وسنده ضعيف، وقد حسنه الألباني بحديث ابن عباس عند أبي داود (337)، وابن ماجه (572) لكنه منقطع لا يصلح للاستشهاد. (¬4) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 228). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (865).

هل يجوز لمن خشي على نفسه برودة الماء أن يتيمم للجنابة؟ يجوز لمن خشي على نفسه الموت بسبب برودة الماء أن يتيمم، لأنه بمنزلة المريض، وهذا مذهب جماهير العلماء (¬1)، وحجتهم في هذا: 1 - قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (¬2). 2 - ما رُوى عن عمرو بن العاص أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرودة فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنب؟» فقلت: ذكرت قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}. فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا» (¬3). وهذا حديث مختلف فيه، والراجح ضعفه، إلا أن قواعد الشرع تشهد له، ويؤيد هذا المذهب كذلك قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (¬4). وذلك بعد ذكر التيمم، فكأنه أشار إلى أن التيمم يشرع عند وجود الحرج في استعمال الماء، ولا شك أن شدة البرودة من هذا الحرج، لكن ينبغي أن ينبه على أن التيمم لا يُشرع -في هذه الحالة- إلا بعد العجز عن تسخين الماء، والله أعلم. من ضاق عليه الوقت بحيث لو استعمل الماء فات وقت الصلاة، فهل له أن يتيمم؟ في هذه المسألة قولان للعلماء: الأول: لا يجوز له التيمم وإن فات الوقت: وبه قال الشافعية والحنابلة وأبو يوسف (¬5)، وحجتهم ما يلي: ¬

(¬1) المبسوط (1/ 122)، والمجموع (2/ 330)، والاستذكار (3/ 173)، والمغنى (1/ 163)، والمحلى (2/ 134)، ومجموع الفتاوى (21/ 399). (¬2) سورة النساء، الآية: 29. (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (334)، وأحمد (4/ 203)، والدارقطني (1/ 178)، والحاكم (1/ 177)، والبيهقي (1/ 225) وقد أعل سنده ومتنه، وقد صححه الألباني في الإرواء (1/ 182) بما لا يسلم. (¬4) سورة المائدة، الآية: 6. (¬5) المغنى (1/ 166)، والمجموع (2/ 280)، والاستذكار (3/ 171)، وتمام المنة (ص 132).

1 - قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). قالوا: فجعل فقدان الماء شرطًا لإباحة التيمم. 2 - حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬2). 3 - حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» (¬3). فهو مأمور باستعمال الماء فإن أدرك الصلاة فبها، وإن فاتت -بكسبه وتكاسله- فهو الذي سعى إلى هذه النتيجة. الثاني: يشرع له التيمم والصلاة قبل خروج الوقت: وبه قال أهل الرأي والأوزاعي ومالك وابن حزم واختاره شيخ الإسلام (¬4)، وقيده الأحناف بأنه يجوز إذا كانت الصلاة التي تفوت لا بدل لها كالجنازة (¬5). وحجة القائلين بهذا القول: 1 - حديث أبي جهيم الأنصاري قال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلَّم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام» (¬6). قالوا: فهذا أصل في جواز التيمم لخوف فوات الواجب. 2 - قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (3/ 171): فكل من لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة كان له أن يتيمم إن كان مريضًا أو مسافرًا بالنص، وإن كان حاضرًا صحيحًا فبالمعنى، والله تعالى أعلم. اهـ. 3 - قال شيخ الإسلام: وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6954)، ومسلم (526). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (524)، والترمذي (1)، وابن ماجه (272). (¬4) المغنى (1/ 166)، والمحلى (2/ 117)، ومجموع الفتاوى (21/ 439، 456)، والأوسط (2/ 30). (¬5) المبسوط (1/ 118، 119). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (337)، ومسلم (800).

كالجنازة وصلاة العيد وغيرهما مما يخاف فوته، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة ... اهـ. وقال وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجماعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم. اهـ. قلت: ولعل الأظهر أنه يتيمم حتى يدرك الصلاة، لأن التيمم إنما شرع لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته، محافظة على الوقت، والله أعلم. من استيقظ من نومه وقد ضاق وقت الصلاة، فهل يتيمم لإدراك الوقت؟ في هذه المسألة مذهبان (¬1) كالذين في المسألة التي قبلها: الأول: يتيمم ويصلي في الوقت: وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وابن حزم. الثاني: يغتسل ويصلي ولو بعد خروج الوقت: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأحد القولين عن مالك، واختاره شيخ الإسلام. وهو الراجح، لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أما إنه ليس في نوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه بها» (¬2) قال ابن تيمية (» / 35): وإذا كان كذلك فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها، فقد صلى الصلاة في وقتها ولم يفوتها، بخلاف من استيقظ في أول الوقت فإن الوقت في حقه قبل طلوع الشمس فليس له أن يفوت الصلاة ... اهـ. ما الصعيد الذي يجوز التيمم به؟ لأهل العلم في «الصعيد» الذي يجوز التيمم به رأيان: الأول: وجه الأرض مطلقًا سواء الحصباء والجبل والرمل والتراب: وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك واختاره شيخ الإسلام، وكذا ابن حزم لكنه اشترط فيما إذا كان وجه الأرض -من غير التراب- أن يكون متصلاً بها (¬3). ¬

(¬1) الأوسط (2/ 30)، والمحلى (2/ 117)، ومجموع الفتاوى (22/ 35 - 36). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1532)، وأبو داود (437)، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك»، وفي لفظ لمسلم من حديث أنس: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها». (¬3) الاستذكار (3/ 157)، والمبسوط (1/ 108)، ومجموع الفتاوى (21/ 364)، والمحلى (2/ 158).

ومما احتج به هؤلاء: 1 - قوله تعالى: {صَعِيداً زَلَقاً} (¬1). وقوله: {صَعِيداً جُرُزاً} (¬2). قال في الاستذكار (3/ 158): و (الجرز) الأرض الغليظة التي لا تنبت شيئًا. اهـ. 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «... وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» (¬3). 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على صعيد واحد» (¬4) أي: أرض واحدة. 4 - قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره» (¬5). 5 - حديث أبي الجهيم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الجدار فتيمم على الرجل السلام» (¬6). 6 - ما رُوى عن ابن عباس أنه قال: «أطيب الصعيد الحرث وأرض الحرث» (¬7). الثاني: أن الصعيد هو التراب ولا يجزئ غيره: وهذا مذهب الشافعي والحنابلة وأبي ثور وإليه جنح ابن المنذر (¬8) ومما احتجوا به: 1 - زيادة وردت في حديث «جعلت لي الأرض مسجدًا، [وجعلت تربتها لي طهورًا]» (¬9). قالوا: فهذه الرواية مخصصة لرواية: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا». 2 - ما رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء: ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 40. (¬2) سورة الكهف، الآية: 8. (¬3) صحيح: وتقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (472). (¬5) حسن: وتقدم قريبًا. (¬6) صحيح: تقدم قريبًا. (¬7) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 161). (¬8) المغنى (1/ 155)، والمجموع (2/ 246)، والاستذكار (3/ 159)، والأوسط (2/ 43). (¬9) صحيح أخرجه مسلم (522)، وابن حبان (1697)، والدارقطني (1/ 175)، والبيهقي (1/ 213 - 230) وقد تكلم في الزيادة، والصواب ثبوتها.

نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم» (¬1). قلت: والذي يترجح -عندي- هو القول الأول بأنه يجوز التيمم بكل ما يطلق عليه اسم الأرض، أو حمل شيئًا من الأرض كالغبار ونحوه. وأما القول الثاني ففيه نظر من وجهين: الأول: أنه لا يثبت شيء مما استدلوا به كما رأيت. الثاني: أنهم حملوا معنى التربة في الحديث على التراب، وفيه نظر، ففي حديث أبي هريرة -عند مسلم- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله -عز وجل- التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين ....» الحديث قال في «لسان العرب»: (خلق الله التربة يوم السبت): يعني الأرض. اهـ. قلت: وهذا المعنى واضح من الحديث ولله الحمد. فاقد الطهورين: أصح قولي العلماء فيمن فقد الطهورين (الماء والصعيد) أنه يصلي على حاله في الوقت ولا إعادة عليه. وهو مذهب الشافعي وأحمد وأصحابهما وابن حزم واختاره ابن تيمية (¬2) واحتجوا بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3). وقوله سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» (¬5). قالوا: فهذا قد فعل ما في استطاعته من الصلاة، وسقط عنه ما لم يطقه من التطهر، فهو بذلك مؤدٍّ ما أمر به، ومن أدى ما أمر به فلا قضاء عليه. قلت: ولعله أن يتأيد هذا المذهب بحديث عائشة قالت: «بعث رسول الله ¬

(¬1) منكر أخرجه أحمد (1/ 98)، والبيهقي (1/ 213). (¬2) المغنى (1/ 157)، والمجموع (2/ 321)، والمحلى (2/ 138)، والفتاوى (21/ 467). (¬3) سورة التغابن، الآية: 16. (¬4) سورة البقرة، الآية: 286. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (3199).

أسيد بن الحضير -وأنا سامعة- في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم» (¬1). والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم -عند فقد الماء- على الصلاة بغير وضوء ولم يأمرهم بالإعادة، فإذا فقدوا الصعيد كذلك فالحكم هو هو. والله أعلم. هذا، وقد ذهب أبو حنيفة وأصحاب الرأي ومالك والأوزاعي إلى أنه لا يصلى حتى يقدر على الوضوء أو التيمم وإن خرج الوقت (¬2). مسائل تتعلق بالنية في التيمم: تجزئ نية رفع الحدث عن استباحة الصلاة: أصح أقوال العلماء أن التيمم يقوم مقام الماء مطلقًا، يستباح به ما يستباح بالماء، ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده، وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة، والعكس، وهذا قول أكثر أهل العلم خلافًا لمالك، رحمه الله (¬3). قال شيخ الإسلام (¬4): وهذا القول هو الصحيح، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار، فإن الله جعل التيمم مطهرًا كما جعل الماء مطهرًا، فقال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} (¬5) ..... فمن قال: إن التراب لا يطهر من الحدث، فقد خالف الكتاب والسنة، وإذا كان مطهرًا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيًا مع أن الله طهر المسلمين بالتيمم من الحدث، فالتيمم رافع للحدث، مطهر لصاحبه، لكنه رفع مؤقت إلى أن يقدر على استعمال الماء، فإنه بدل عن الماء، فهو مطهر ما دام الماء متعذرًا ... اهـ. قلت: فالتيمم يشرع لأجل الصلاة والطواف وقراءة القرآن ومس المصحف وغير ذلك مما يشرع له الوضوء والغسل ما دام الماء متعذرًا. ومن نوى بالتيمم رفع الحدث، أبيح له كل ما يستباح بالوضوء والغسل، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5882)، ومسلم (795). (¬2) الأوسط (2/ 45)، والاستذكار (3/ 150)، والمحلى (2/ 139). (¬3) المجموع (2/ 255)، والمغنى (1/ 158)، ومجموع الفتاوى (12/ 436)، والمبسوط (1/ 117). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 436). (¬5) سورة المائدة، الآية: 6.

من تيمم بنية رفع الجنابة فهل يجزئه عن الحدث؟ من تيمم بنية رفع الجنابة أجزأه ذلك عن الحدث في أصح قولي العلماء كأبي حنيفة والشافعي (¬1)، وهذا لأمرين: 1 - أن طهارتهما واحدة فسقطت إحداهما بفعل الأخرى كالبول والغائط. 2 - أن التيمم بدل عن استعمال الماء، فيأخذ حكمه، والراجح أن الغسل يغني عن الوضوء للحدث، فكذلك التيمم. وأما إجزاء من نوى التيمم للحدث الأصغر عن الجنابة فمحل نظر، فمن نظر إلى العلة الأولى قال بالإجزاء، ومن نظر إلى أنه بدل عن الماء منعه. وذهب مالك وأبو ثور والحنابلة وابن حزم (¬2) إلى أنه لا يجزئ نية أحدهما عن الآخر لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬3). الكيفية الصحيحة للتيمم: الكيفية الصحيحة للتيمم التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: (يضرب على الصعيد باليدين ضربة واحدة، ثم ينفخهما فيمسح بهما وجهه وكفَّيه) وهذا مذهب الحنابلة وابن حزم، وبه قال جماعة من السلف، واختاره ابن تيمية (¬4) ويدل على هذا: 12 - حديث عمار بن ياسر وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيك» هكذا وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬5). 2 - ويشهد له حديث أبي هريرة قال: «لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجده فانطلقت أطلبه فاستقبلت فلما رآني عرف الذي جئت له، فبال، ثم ضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه» (¬6). ¬

(¬1) المغنى (1/ 166). (¬2) المغنى (1/ 166)، والمحلى (2/ 138). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (رقم 1). (¬4) المغنى (1/ 159)، والمحلى (2/ 146)، والفتاوى (21/ 422). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (338)، ومسلم (798). (¬6) إسناده لين: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 159) ويشهد له ما قبله.

هذا، وقد ذهب فريق من العلماء إلى أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وبه قال الثوري والليث، وهو مروي عن ابن عمر، والشعبي والحسن البصري وغيرهم (¬1) وحجتهم: 1 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» (¬2). 2 - حديث ابن عمر في قصة رجل مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حاجته فسلم عليه وفيه: «ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام ....» (¬3). 3 - ما في رواية لحديث أبي جهيم وفيه: «... حتى قام إلى جدار فحتَّه بعصا كانت معه ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد عليَّ السلام» (¬4). 4 - حديث عمار «أنه كان يحدث أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم» (¬5). قلت: والراجح أن التيمم ضربة واحدة للوجه واليدين إلى الرسغين كما تقدم، وذلك لأمرين: 1 - أن أدلة المخالفين كلها ضعيفة لا يثبت منها حديث مرفوع. 2 - أن حكم التيمم معلق على مطلق اليدين، فلم يدخل فيه الذراع، كقطع يد السارق، ويدل على هذا احتجاج ابن عباس على تحديد مكان القطع في السرقة المنصوص عليه، بقوله تعالى في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} (¬6). وكانت السنة في القطع من الكفين. ¬

(¬1) المبسوط (1/ 106)، والاستذكار (3/ 162)، والمجموع (2/ 242). (¬2) ضعيف: أخرجه الحاكم (1/ 179)، والبيهقي (1/ 207) ورجَّح وقفه. (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1/ 88)، والبيهقي (1/ 206) وأنكره الإمام أحمد. (¬4) منكر: أخرجه الشافعي في مسنده (130) والبيهقي (1/ 205) وقد خالفت رواية الصحيحين التي تقدمت. (¬5) مضطرب: أخرجه أبو داود (1/ 84)، وابن ماجه (571)، والنسائي (1/ 168)، والبيهقي (1/ 208). (¬6) سورة المائدة، الآية: 6.

نواقض التيمم

نواقض التيمم كل حدث ينقض الوضوء، فإنه ينقض التيمم، هذا ما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإسلام (¬1). مسائل تتعلق بالتيمم: هل تصح الصلاة بالتيمم إذا وجد الماء قبل الشروع في الصلاة؟ قال ابن عبد البر (¬2): وأجمع العلماء على أن من تيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة - أن تيممه باطل لا يجزيه أن يصلى به، وأنه عاد بحاله قبل التيمم. اهـ. من تيمم وصلى، ثم حضر الماء وهو في الصلاة فهل يتم صلاته أو يقطعها؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: الأول: يقطع الصلاة ويلزمه استعمال الماء ثم يستأنف الصلاة من أولها: وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وبه قال الثوري وابن حزم (¬3) وحجتهم: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» (¬4). قالوا: وهذا واجد للماء. 2 - قالوا: ولأنه قدر على استعمال الماء، فبطل تيممه كالخارج من الصلاة. 3 - قالوا: ولأن التيمم طهارة ضرورة، فبطلت بزوال الضرورة، كطهارة المستحاضة إذا انقطع دمها. الثاني: يمضي في صلاته ولا يقطعها: وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية ثانية عن احمد، وقيل: إنه رجع عنها، وبه قال أبو ثور، وداود، وابن المنذر (¬5)، وحجتهم: ¬

(¬1) المحلى لابن حزم (2/ 122). (¬2) الاستذكار (3/ 167). (¬3) المبسوط (1/ 120)، والمغنى (1/ 167)، والاستذكار (3/ 170)، والمحلى (2/ 126). (¬4) ضعيف واختلف في تحسينه: أخرجه الترمذي (124)، وأبو داود (329)، والنسائي (1/ 171) وقد تقدم في «الغسل». (¬5) الاستذكار (3/ 169)، والمجموع (2/ 357)، والأوسط (2/ 65).

1 - قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬1) قالوا: قالوا: فلا يجوز له أن يخرج من الصلاة لذلك. 2 - أن للطهارة وقتًا، وللصلاة وقتًا، وهو حينئذ غير متعبد بفرض الطهارة -بعد التلبس بالصلاة- فقد تيمم كما أُمر وخرج من فرض الطهارة بالتكبير، ولا يجوز نقض طهارة قد مضى وقتها، وإبطال ما صلى من الصلاة كما فرض عليه فأمر به إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع. قلت: والأظهر -عندي- أنه يمضي في صلاته، لعدم ثبوت ما يوجب قطع الصلاة بعد الدخول فيها، كما أن الصائم -صيام كفارة- إذا شرع في صومه ثم وجد رقبة، فإنه لا يلغي صومه، والله أعلم. من صلى بالتيمم، ثم حضر الماء وهو في الوقت فهل يعيد الصلاة؟ من صلى بالتيمم ثم حضر الماء وهو في الوقت فليس عليه إعادة الصلاة -في أصح قولي العلماء- كما ذهب إليه مالك والثوري والأوزاعي والمزني والطحاوي، وأحمد في إحدى الروايتين، وبه قال ابن حزم (¬2). بينما قال أبو حنيفة والشافعي (¬3): عليه الإعادة عند القدرة على الماء. وردَّ عليهما ابن حزم فقال: «أما قول أبي حنيفة والشافعي فظاهر الفساد، لأنه لا يخلو أمرهما له بالتيمم والصلاة من أن يكونا أمراه بصلاة هي فرض الله تعالى عليه، أو بصلاة لم يفرضها الله تعالى عليه، ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن قال مقلدهما: أمراه بصلاة هي فرض عليه، قلنا: فلم يعيدها بعد الوقت إن كان قد أدى فرضه؟ وإن قالوا: بل أمراه بصلاة ليست فرضًا عليه، أقر بأنهما ألزماه ما لا يلزمه، وهذا خطأ». اهـ. قلت: نعم، لا يجب عليه الإعادة، لكن يستحب أن يعيدها ما دام في الوقت -وحضر الماء- دون إيجاب: لحديث أبي سعيد الخدري، قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 33. (¬2) انظر المجموع (2/ 353)، والمحلى (2/ 139). (¬3) المجموع (2/ 353).

الحيض والنفاس

أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد: «لك الأجر مرتين» (¬1). الحيض والنفاس (¬2) الدماء الطبيعية الخارجة من المرأة، تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - دم الحيض. 2 - دم النفاس. 3 - دم الاستحاضة. دم الحيض (¬3): ودم الحيض: هو الدم الأسود الخاثر [يعني: الغليظ] الكريه الرائحة الذي يجري من المرأة من موضع مخصوص في أوقات معلومة. والحيض شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم جميعًا، كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة -كما في الصحيحين-: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ...» الحديث. بل إن ابتداء الحيض كان مع حواء -عليها السلام- أيضًا، فقد عزاه الحافظ في الفتح (1/ 400) إلى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال: «إن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة». ولا حدَّ لأقل الحيض ولا لأكثره، وإنما مرد ذلك إلى العادة: لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم دليل صحيح يوضح أقل الحيض ولا أكثره. قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (21/ 623): وأما الذين يقولون: أكثر الحيض خمسة عشر كما يقوله الشافعي وأحمد ويقولون أقله يوم -كما يقوله الشافعي وأحمد- أو لا حد له كما يقوله مالك، فهم يقولون: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في هذا شيء، والمرجع في ذلك إلى العادة كما قلنا والله أعلم (¬4). ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (334)، والنسائي (1/ 213). (¬2) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 55 - 69) ولم أزد عليه إلا شيئًا يسيرًا خشية التطويل، وإلا فالباب من أوسع أبواب الفقه. (¬3) ومن أسماء الحيض أيضًا: الطمث - العراك - الضحك - الإكبار - الإعصار (المهذب 1/ 341). (¬4) جامع أحكام النساء (1/ 179)، وانظر: المحلى (2/ 191)، والمغنى (1/ 308).

إقبال المحيض وإدباره (¬1): 1 - يُعَرف «إقبال المحيض» بالدفعة من الدم في وقت إمكان الحيض وهو دم أسود ثخين منتن. 2 - أما إدبار المحيض: أي انتهاء الحيض، فيعرف بانقطاع الدم والصفرة والكدرة، وهذا يتحقق بأحد شيئين: (أ) الجفوف: وهو أن يخرج ما يُحتشى به الرحم جافًّا، بمعنى أن المرأة تضع في فرجها شيئًا (قماشة أو قطنة) فيخرج جافًا. (ب) القَصَّة البيضاء: وهي ماء أبيض يخرج من الرحم عند انقطاع دم الحيض. وقد ورد عن مولاة عائشة أنها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة [أي: الخرقة] فيها الكُرسف [أي: القطن] فيه الصفرة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة (¬2). ما حكم الصُّفرة والكُدرة بعد الطهر عن المحيض؟ الصفرة والكدرة هو الماء الذي تراه المرأة كالصديد ويعلوه اصفرار. وهذا إذا رأته المرأة بعد انقطاع الدم أو بعد الجفوف، فلا يعد حيضًا وهي طاهرة فتصلي وتصوم ويأتيها زوجها. وذلك لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: «كنا لا نعد الكدرة والصفرة [بعد الطهر] شيئًا» (¬3). ¬

(¬1) جامع أحكام النساء (1/ 200) وما بعدها. (¬2) حسن لغيره: أخرجه مالك (ص 59)، والبخاري تعليقًا (1/ 420 - فتح) وعبد الرزاق (1/ 302) بسند فيه ضعف لكن له شاهد عند الدارمي (1/ 214)، والبيهقي (1/ 337) فيصح به، والله أعلم. (¬3) أخرجه أبو داود (307)، والنسائي (1/ 186)، وابن ماجه (647) وغيرهم والزيادة لا تثبت إلا أن معناها هو مقتضى الحديث كما بوبه البخاري -رحمه الله- وقد أخرجه بدون الزيادة (326).

فوائد: 1 - إذا رأت المرأة الطهر ولم تجد ماءً للغُسل، فإنها تتيمم ويأتيها زوجها، وبهذا قال عدد كبير من أهل العلم (¬1). 2 - إذا استمر الدم بالمرأة أكثر من عادتها، ماذا تفعل؟ فمثلاً إذا كانت امرأة تحيض عادة ستة أيام كل شهر، فزادت في شهر وأصبح سبعة أو ثمانية أو عشرة، ماذا تصنع؟ فنقول: هذه المرأة لا يخلو حالها من أمرين: أن تكون ممن تستطيع تمييز دم الحيض عن غيره. فهذه تنظر إلى هذا الدم فإن كان لونه ورائحته وطبيعته كحال دم الحيض، فإنها تبقى ممتنعة من الصلاة والصيام والجماع كما كانت، لأنه لا يوجد حد معين لتوقيت الحيض كما تقدم، وإن وجدته مخالفًا لدم الحيض فإنها تغتسل وتصلي. أما إذا كانت ممن لا يستطيع تمييز الدم -وهذا موجود في بعض النساء- فإنها تبقى لا تصلي ولا تصوم ولا يأتيها زوجها حتى تتطهر لأنه ليس هناك حد لأكثر الحيض (¬2). 3 - إذا كان الدم في أيام العادة الشهرية يأتي يومين -مثلًا- ثم ينقطع في الثالث ثم يأتي في الرابع وهكذا. فالصواب أن انقطاع الدم في أيام الحيض المعروفة يعد حيضًا لا عبرة بانقطاع الدم، وإنما العبرة برؤية علامة الطهر وهي: القصة البيضاء التي تعرفها النساء (¬3). 4 - هل تحيض الحامل؟ (¬4) للعلماء في هذا وجهان: فذهب أكثر العلماء إلى أن الحامل لا تحيض، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «لا توضأ حامل [حتى تضع] ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» (¬5). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 625)، والمحلى (2/ 171)، وشرح مسلم (1/ 593)، وجامع أحكام النساء (1/ 152). (¬2) جامع أحكام النساء (1/ 215) وفتاوى المرأة لابن عثيمين. (¬3) فتاوى المرأة، جمع محمد المسند (ص 26). (¬4) جامع أحكام النساء (1/ 208) وما بعدها. (¬5) حسن لغيره: أخرجه أبو داود (2157)، وأحمد (3/ 62)، وله شاهد عند الدارقطني (3/ 257).

فقالوا: إن استبراء الأمة اعتبر بالمحيض لتحقق براءة الرحم، فلو كانت الحامل تحيض لم تتم البراءة بالحيض. وذهب بعضهم -منهم الشافعي- إلى أن الحامل تحيض. والصواب في هذا أن يقال: إن الأصل والقاعدة العامة الغالبة أن الحامل لا تحيض، لكن قد تشذ امرأة فينزل بها دم وهي حامل فينظر في هذا الدم، فإن كان كدم الحيض لونًا ورائحة وطبيعة وفي وقت الحيض فإنه يُعدُّ حيضًا تترك له الصلاة والصوم ويعتزلها زوجها، لكن هذا الحيض، لا يعتد به في مسألة العدة لأن الله تعالى قال: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1) أما إذا كان الدم النازل على الحامل يخالف طبيعة دم الحيض وفي غير أوانه فلا يكون دم حيض وليس له اعتبار، كدم الاستحاضة. ما يحرم على الحائض والنفساء: 1 - الصلاة: أجمع العلماء على أنه يحرم على الحائض والنفساء الصلاة: فرضها ونفلها، وأجمعوا على أنه يسقط عنها فرض الصلاة فلا تقضيه إذا طهرت (¬2). عن أبي سعيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ فذلك نقصان دينها» (¬3). وعن معاذة أن امرأة قالت لعائشة: «أتجزئ إحدانا صلاتها إذا طهرت؟». فقالت: أحرورية (¬4) أنت؟ كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله» (¬5). فوائد: 1 - إذا حاضت المرأة قبيل العصر -مثلًا- ولم تكن صلت الظهر، فهل يلزمها قضاء الظهر إذا طهرت؟ إذا أتى المرأة الحيض قبيل العصر مثلًا ولم تصل الظهر، فإذا طهرت فإنها ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 4. (¬2) المجموع للنووي (2/ 351)، والمحلى (2/ 175) لابن حزم. (¬3) صحيح أخرجه البخاري (1951)، ومسلم (80) وغيرهما. (¬4) صفة لمن يعتقد مذهب الخوارج، وكان بعضهم يوجب قضاء الصلاة على الحائض؟!!. (¬5) صحيح أخرجه البخاري (321)، ومسلم (ص 265).

تقضي تلك الصلاة التي وجبت عليها قبل العادة (وهي الظهر) عند الجمهور، فقد ثبتت الصلاة في حقها ولزمها أن تقضيها، ما دام قد دخل وقتها وهي طاهرة بمقدار الركعة، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (¬1) وهناك قول آخر أنه لا يلزمها قضاء الظهر، ويستدل القائلون به، بأن النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنَّ يحضن في كل الأوقات ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة بعد طهرها أن تصلي صلاة فاتتها قبل نزول الحيض عليها، قال شيخ الإسلام في الفتاوى (23/ 235): «والأظهر في الدليل مذهب أبي حنيفة ومالك أنها لا يلزمها شيء لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء، ولأنها أخرت تأخيرًا جائزًا غير مفرطة، وأما النائم أو الناسي وإن كان غير مفرط أيضًا فإن ما يفعله ليس قضاء بل ذلك وقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ويذكر ...» اهـ. 2 - إذا طهرت الحائض قبيل العصر -مثلًا- فلما اغتسلت دخل وقت العصر، فهل يلزمها أن تصلي الظهر؟ والجواب أنه يلزمها إذا طهرت -من حيض أو نفاس- قبل غروب الشمس أن تصلي الظهر والعصر من هذا اليوم، وكذلك إذا طهرت قبل طلوع الفجر لزمها أن تصلي المغرب والعشاء من هذه الليلة لأن وقت الصلاة الثانية وقت للصلاة الأولى في حالة العذر. قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (2/ 334): «ولهذا كان مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد إذا طهرت الحائض في آخر النهار صلت الظهر والعصر جميعًا، وإذا طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء جميعًا، كما نقل ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة وابن عباس، لأن الوقت مشترك بين الصلاتين في حال العذر، فإذا طهرت في آخر النهار فوقت الظهر باق فتصليها قبل العصر، وإذا طهرت في آخر الليل فوقت المغرب باقٍ في حال العذر فتصليها قبل العشاء ...» اهـ. والله أعلم. 2 - الصيام: وقد انعقد الإجماع على أن الحائض والنفساء تدع الصيام، ولكنها تقضي صيام رمضان. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «كان يصيبنا ذلك [تعني: الحيض] فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (¬2). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 103. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (265)، وأبو داود (263).

فوائد: 1 - إذا طهرت الحائض قبل الفجر ولم تغتسل فهل تصوم؟ والجواب: أن الحائض إذا طهرت قبل الفجر ونوت الصيام صح صومها ولا يتوقف صحة الصيام على الغُسل بخلاف الصلاة وهو قول الجمهور (¬1). 2 - إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس فهل تصوم باقي النهار؟ والجواب: لا يلزمها أن تمسك بقية النهار فهي قد أفطرت في أوله وستقضي يومًا عنه فلا داعي للإمساك باقي اليوم. فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: المرأة تصبح حائضًا ثم تطهر في بعض النهار أتتمه؟ قال: لا، هي قاضية (¬2). 3 - الجماع: (الوطء في الفرج) وطء الحائض في الفرج [الجماع] لا يجوز باتفاق الأئمة (¬3)، كما حرم الله تعالى ذلك بقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (¬5). قال شيخ الإسلام في الفتاوى (21/ 624): ووطء النفساء كوطء الحائض حرام باتفاق الأئمة. اهـ. فوائد: 1 - «لو اعتقد مسلم حِلَّ جماع الحائض في فرجها -صار كافرًا مرتدًّا-، ولو فعله إنسان غير معتقد حله: فإن كان ناسيًا أو جاهلاً بوجود الحيض أو جاهلاً بتحريمه أو مكرهًا فلا إثم عليه ولا كفارة. وإن وطئها عامدًا عالمًا بالحيض والتحريم مختارًا فقد ارتكب معصية كبيرة وتجب عليه التوبة» (¬6). ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 192). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (1292) بسند صحيح. (¬3) المحلى (2/ 162)، ومجموع الفتاوى (21/ 624)، وتفسير الطبري (4/ 378). (¬4) سورة البقرة، الآية: 222. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (302)، وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه. (¬6) النووي في شرح مسلم (3/ 204).

وهل عليه حينئذ كفارة؛ قال الجمهور -خلافًا لأحمد- ليس عليه كفارة، قلت: وهو الصواب، وأما حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض أنه قال: «يتصدق بدينار أو نصف دينار» (¬1) فالراجح ضعفه، والأصل في أموال المسلمين الحرمة فلا يحل مال المسلم إلا بنص. 2 - الذي يمنع من الاستمتاع بالحائض هو الفرج فقط (¬2)، فللزوج أن يتلذذ من امرأته الحائض بكل شيء ما عدا الإيلاج في الفرج، والدليل على هذا حديث أنس أنه لما نزل قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬3). قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (¬4). وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقى على فرجها ثوبًا» (¬5). قلت: وأقوى ما يتأيد به هذا القول حديث مسروق أنه قال لعائشة: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت: إنما أنا أمُّك وأنت ابني، فقال: ما للرجل ما امرأته وهي حائض؟ قالت: «له كل شيء إلا فرجها» (¬6). ولا شك أن عائشة من أعلم الناس بحكم هذه المسألة لأنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. تنبيه: هناك قول آخر للعلماء: أن ما يجوز للرجل الاستمتاع به من امرأته الحائض هو كل شيء ما عدا ما بين السرة إلى الركبة ولهذا القول أدلته (¬7) لكن القول الأول أرجح والله أعلم. 3 - إذا طهرت المرأة من الحيض فلا يحل لزوجها أن يجامعها إلا إذا اغتسلت. فقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬8). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (264)، والنسائي (1/ 153)، وابن ماجه (640). (¬2) وهو مذهب الثوري وأحمد وإسحاق، ومحمد بن الحسن والطحاوي من الحنفية وأصبغ في المالكية وأحد القولين للشافعية واختاره ابن المنذر والنووي (فتح الباري 1/ 404) وهو مذهب ابن حزم. (¬3) سورة البقرة، الآية: 222. (¬4) تقدم قبله. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (272) بسند صحيح. (¬6) إسناده صحيح: أخرجه الطبري في «التفسير» (4/ 378) بسند صحيح وله عدة طرق. (¬7) وهذا مذهب أكثر العلماء، انظر «جامع أحكام النساء» (1/ 140) وما بعدها إن شئت. (¬8) سورة البقرة، الآية: 222.

قال مجاهد: للنساء طهران: طهر قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: إذا اغتسلن ولا تحل لزوجها حتى تغتسل، يقول: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} من حيث يخرج الدم فإن لم يأتها من حيث أمر الله فليس من التوابين ولا من المتطهرين» (¬1). وقد أطبق أهل العلم على أن المرأة لا يأتيها زوجها -وإن رأت الطهر- حتى تغتسل، خلافًا لابن حزم. وهنا سؤال: إذا كانت زوجة المسلم كتابية فهل تجبر على الاغتسال أم لا؟ والجواب: أنها تجبر على الاغتسال ولا يجوز لزوجها أن يقربها إلا بعد أن تغتسل لأن الآية لم تخص مسلمة من غيرها (¬2). 4 - على الحائض أن تمتنع من زوجها إذا أراد جماعها، لكن إذا غلبت على أمرها فلا شيء عليها، وتستغفر الله (¬3). 5 - الطواف: وهو حرام على الحائض بالإجماع، لحديث عائشة أنها لما حاضت في الحج قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (¬4). وسيأتي مزيد بيان لهذا في أبواب الحج، إن شاء الله تعالى. أمور لا بأس بها للحائض: 1 - ذكر الله وقراءة القرآن: تقدم أنه يجوز للحائض والجنب -على الراجح- وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد (¬5). قال ابن حزم في المحلى (1/ 77، 78): قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى أفعالُ خير، مندوب إليها مأجور فاعلها، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كُلِّف أن يأتي بالبرهان. اهـ. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (1272)، والبيهقي (1/ 310) بسند صحيح إلى مجاهد. (¬2) تفسير القرطبي (3/ 90). (¬3) جامع أحكام النساء (1/ 180). (¬4) أخرجه البخاري (1650). (¬5) نقل هذا شيخ الإسلام في «الفتاوى» (21، 459).

2 - السجود إذا سَمِعَتْ أية سجدة: فليس هناك مانع من سجود المرأة الحائض إذا سمعت السجدة، فليست السجدة بصلاة، ولا يشترط لها الطهارة. فقد ثبت في صحيح البخاري (4862) أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا سورة النجم فسجد فيها وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. ومن البعيد أن يقال إن الجميع كانوا على وضوء، ثم إن سجدة التلاوة ليست بصلاة، وبنحو هذا قال الزهري وقتادة كما في مصنف عبد الرزاق (1/ 321) (¬1). 3 - مس المصحف: ولا نعلم دليلاً صريحًا يمنع الحائض من مس المصحف، وإن كان أكثر أهل العلم قد ذهبوا إلى أن الحائض لا يجوز لها أن تمس المصحف، وقد تقدم تحريره. 4 - قراءة الرجل القرآن وهو في حجر امرأته الحائض: لحديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ورأسه في حِجري وأنا حائض» (¬2). 5 - شهود العيدين: وهذا لا بأس به، بل إنه يستحب للحُّيض أن يخرجن لشهود العيد لكن يعتزلن الصلاة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج العواتق وذوات الخدور والحُيَّض وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحُيَّض المصلى» (¬3). 6 - دخول المسجد: وفي هذا الأمر خلاف واسع بين العلماء قد تقدم مفصلاً (¬4) والحاصل أننا لم نقف على دليل صحيح صريح يمنع الحائض من دخول المسجد، والأصل الإباحة حتى يوجد المانع ومع هذا فإن المرء لا يزال يستخير الله في هذه المسألة. 7 - مؤاكلة ومشاربة الزوج للحائض: فعن عائشة قالت: «كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه ¬

(¬1) جامع أحكام النساء (1/ 174) بمعناه. (¬2) أخرجه البخاري (7549) ومسلم (ص 246) وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري في مواضع، منها رقم (324). (¬4) في آخر باب «الغُسل».

دم النفاس

على موضع فيَّ» (¬1). 8 - خدمة المرأة الحائض لزوجها: كأن تغسل رأسه أو تُرجِّله وتُسرِّحه، فعن عائشة قالت: «كنت أُرجِّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض» (¬2). 9 - نوم الحائض مع زوجها في لحاف واحد: فعن أم سلمة قالت: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي. قال: أنفست؟ قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة (¬3). قال النووي في شرح مسلم (1/ 954): فيه جواز النوم مع الحائض والاضطجاع معه في لحاف واحد ... اهـ. دم النفاس النفاس: هو الدم الخارج بسبب الولادة. 1 - توقيت النفاس: ليس لأقل مدة للنفاس حَدٌّ: وقد أجمع العلماء (¬4) على أنها متى رأت الطهر -ولو قبل الأربعين- أنها تغتسل وتصلى ويأتيها زوجها. أما أقصى مدة تنتظرها المرأة إذا استمر بها الدم، فذهب الجمهور إلى أن أقصى مدة النفاس أربعون يومًا ثم تغتسل وتصلي، واستدلوا بحديث أم سلمة قالت: «كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يومًا أو أربعين ليلة» (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (300)، وأبو داود (259)، والنسائي (1/ 56)، وابن ماجه (643)، ومعنى (أتعرق العرق): آخذ اللحم بأسناني. (¬2) أخرجه البخاري (295)، ومسلم (297). (¬3) أخرجه البخاري (298)، ومسلم (296) وغيرهما. (¬4) نقله الترمذي في السنن (1/ 429). (¬5) أخرجه أبو داود (307)، والترمذي (139)، وابن ماجه (648) وقد اختلف في تحسينه والراجح ضعفه والله أعلم، إلا أن العلم عليه.

دم الاستحاضة

2 - أجمع العلماء على أن النفاس كالحيض في جميع ما يحل ويحرم ويكره ويندب (¬1). 3 - يختلف النفاس عن الحيض في أن العدة لا تحصل به، لأن العدة تنقضي بوضع الحمل قبله (¬2). دم الاستحاضة الاستحاضة: جريان الدم في غير أوقات الحيض والنفاس، أو متصلاً بهما، وهو دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة، إنما هو عرق انقطع، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرؤ منه (¬3). وحكمه: تكون المراة طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع العلماء. توقيت الاستحاضة: إذا خرج هذا الدم في غير وقت الحيض والنفاس غير متصل بهما، فلا إشكال في هذا. أما إذا كان جريان هذا الدم متصلاً، فكيف تصنع؟ فنقول: هذه المرأة لا تخلو من أربع حالات: 1 - إما أن تكون ذات عادة معروفة، تعرف قدر حيضتها، فهذه تنتظر قدر حيضتها ثم تغتسل وتصلي وما زاد على حيضتها فهو دم استحاضة ليس بحيض. فعن عائشة قالت: إن أم حبيبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دمًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي» (¬4). 2 - وإما أن تكون المرأة لا تعرف حيضتها، لكن تستطيع تمييز دم الحيض من الاستحاضة فتنظر إلى دم حيضها فتترك الصلاة ثم تغتسل وتصلي بعد إدباره. فعن عائشة قالت: جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أُستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: «لا، إنما ذلك ¬

(¬1) نيل الأوطار للشوكاني (1/ 286). (¬2) المغنى لابن قدامة (1/ 350). (¬3) وهو ما يسمى بالنزيف. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (ص 264 - عبد الباقي)، وأبو داود (279)، والنسائي (1/ 119).

عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي» (¬1). 3 - وإما أن تكون المرأة مبتدأة، بمعنى أنها لم يسبق لها الحيض، فهي غير مميزة لدم الحيض عن غيره من الدماء، فهذه تبنى على حال أغلب النساء، فإن كان الغالب من حال النساء حولها أن يحضن مثلًا في الشهر ستة أو سبعة أيام، فإنها تنتظر من ابتداء حيضتها ستة أو سبعة أيام وتعتبرها أيام حيض، وبعدها تغتسل ولا عبرة بالدم بعد ذلك فإنه استحاضة. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش: «إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيَّضي ستة أيام أو سبعة في علم الله ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعًا وعشرين ليلة أو ثلاثًا وعشرين وأيامهن، وصومي، فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطُهرن» (¬2). 4 - وأما أن تكون المرأة ناسية لعادتها قدرًا ووقتًا ولا تستطيع تمييز الحيض من الاستحاضة (¬3): فللعلماء في هذه أقوال: أظهرها أنها كالمبتدأة غير المميزة التي تقدم حكمها والله أعلم. أحكام المستحاضة: 1 - المستحاضة في حكم الطاهرة فلا يحرم عليها شيء مما يحرم بالحيض. 2 - المستحاضة تصوم وتصلي وتقرأ القرآن وتمس المصحف وتسجد للتلاوة وللشكر وغيرها كالطاهرة بالإجماع. 3 - لا يلزم للمستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة ما لم تُحدث لأن الراجح ضعف الأخبار الواردة في ذلك (¬4)، والأفضل أن تتوضأ أو تغتسل لكل صلاة لحديث عائشة أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمرها أن تغتسل فقال: «هذا عرق» فكانت تغتسل لكل صلاة (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (228)، ومسلم (ص 262) وغيرهما. (¬2) أخرجه أبو داود 0287)، والشافعي في الأم (1/ 51)، وابن ماجه (622)، والترمذي في الطهارة (باب 95) وسنده لين، وقد حسنه الألباني في الإرواء (205). (¬3) وهذه يسميها العلماء: المتحيرة. (¬4) راجعها في «جامع أحكام النساء» (1/ 230) وما بعدها. (¬5) أخرجه البخاري (327)، ومسلم (262) وغيرهما.

4 - يجوز للمستحاضة أن يجامعها زوجها ما دام في غير وقت الحيض وإن كان الدم جاريًا، وهو قول أكثر العلماء (¬1). 5 - يجوز للمستحاضة أن تعتكف في المسجد، فعن عائشة قالت: «اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي» (¬2). وقد نقل النووي في شرح مسلم (1/ 631) الإجماع على أن المستحاضة في الاعتكاف كالطاهرة. ¬

(¬1) المجموع (2/ 372)، والمغنى (1/ 339). (¬2) البخاري.

2 - كتاب الصلاة

2 - كتاب الصلاة

تعريف الصلاة

تعريف الصلاة (¬1): الصلاة لغةً: الدعاء، وسميت الصلاة الشرعية صلاة لاشتمالها عليه، وبهذا قال الجمهور من أهل اللغة وغيرهم من أهل التحقيق. قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬2). أي: ادع لهم. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دعى أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليصلِّ ...» (¬3) أي: ليدعُ لصاحب الطعام. والصلاة في الاصطلاح: التعبدُّ لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة مُفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، مع النية، بشرائط مخصوصة. منزلتها من الدين: 1 - الصلاة آكد الفروض بعد الشهادتين وأفضلها، وأحد أركان الإسلام، فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان والحج» (¬4). 2 - وشدد الشارع النكير على تاركها حتى نسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفر، فقال: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة» (¬5). وقال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (¬6). وقال عبد الله بن شقي (تابعي): «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركُه كفر غير الصلاة» (¬7). 3 - والصلاة عمود الدين لا يقوم إلا به، كما قال صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» (¬8). ¬

(¬1) «مواهب الجليل» (1/ 277) و «المجموع» (3/ 3) و «كشاف القناع» (1/ 221). (¬2) سورة التوبة، الآية: 103. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1431) وسيأتي. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (987)، وأبو داود (1658)، والنسائي (1/ 231) وغيرهم. (¬6) صحيح: أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (1/ 231)، وابن ماجه (1079)، وانظر طرقه في «تعظيم قدر الصلاة» (894 - بتحقيقي). (¬7) إسناد صحيح: أخرجه الترمذي (2622)، وابن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (948 - بتحقيقي). (¬8) أخرجه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973).

الصلوات الخمس

4 - وهي أول ما يحاسب عليه العبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر». 5 - كانت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة». 6 - وقد كانت الصلاة آخر وصية وصىَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عند مفارقته الدنيا، إذ قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة وما ملكت أيمانكم». 7 - وهي العبادة الوحيدة التي لا تنفكُ عن المكلَّف، وتبقى ملازمة له طول حياته لا تسقط عنه في أية حال. 8 - وللصلاة من المزايا ما ليس لغيرها من سائر العبادات ومن ذلك: (أ) أن الله سبحانه وتعالى تولىَّ فرضيتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخاطبته له ليلة المعراج. (ب) أنها أكثر الفرائض ذكرًا في القرآن الكريم. (جـ) أنها أول ما أوجب الله على عباده من العبادات. (د) أنها فرضت في اليوم والليلة خمس مرات بخلاف بقية العبادات والأركان. الصلاة قسمان: فرض وتطوُّع: 1 - فالفرض: هو الذي من تركه عامدًا كان عاصيًا لله عز وجل، وهو نوعان: (أ) فرض عين: متعين على كل بالغ عاقل، ذكر أو أنثى، حر وعبد، كالصلوات الخمس. (ب) فرض كفاية: إذا قام به بعض الناس سقط عن سائرهم، كالصلاة على الجنازة. 2 - والتطوع: هو ما لا يكون تاركه عمدًا عاصيًا لله تعالى، كالسنن الراتبة والوتر وغيرها مما سيأتي، لكن يستحب أداء صلاة التطوع، ويكره تركها. أولاً: الصلوات الخمس حكم تارك الصلاة: تارك الصلاة له حالتان: إما تركها جاحدًا لفرضيَّتها منكرًا لوجوبها، وإما أن يتركها تهاونًا وكسلاً وهو مُقرٌّ بوجوبها عليه:

[1] تارك الصلاة جحودًا (¬1): من ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها، أو جحد وجوبها ولم يترك فعلها في الصورة، فهو كافر مرتدٌّ بإجماع المسلمين. ويستتيبه الإمام، فإن تاب وإلا قتله بالردَّة، ويترتب عليه جميع أحكام المرتدين، هذا إذا كان قد نشأ بين المسلمين، فأما إن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة من المسلمين بحيث يجوز أن يخفى عليه وجوبها، فلا يُكفَّر بمجرد الجحد، بل نعرفه بوجوبها، فإن جحد بعد ذلك كان مرتدًّا. [2] تارك الصلاة تكاسلاً وتهاونًا من غير جحدها: لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا [من غير عذر شرعي] من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة (¬2). ثم اختلف أهل العلم في حكمه على قولين: الأول: أنه فاسق عاصٍ مرتكب لكبيرة، وليس بكافر: وبه قال الأكثرون، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي -في المشهور عنه- وأحمد في إحدى الروايتين (¬3). الثاني: أنه كافر خارج عن ملة الإسلام: وهو مذهب سعيد بن جبير والشعبي والنخعي والأوزاعي وابن المبارك وإسحاق وأصح الروايتين عن أحمد، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، وحكاه ابن حزم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة (¬4). ¬

(¬1) «المجموع» (3/ 16) بتصرف يسير، وانظر المراجع المشار إليها في المسألة الآتية. (¬2) «الصلاة وحكم تاركها» لابن القيم (ص: 6) والزيادة بين القوسين مني ولا يخفى أهميتها. (¬3) «حاشية ابن عابدين» (1/ 235)، و «الفتاوى الهندية» (1/ 50)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 189)، و «مواهب الجليل» (1/ 420)، و «مغنى المحتاج» (1/ 327)، و «المجموع» (3/ 16 وما بعدها)، وانظر «إعلام الأمة» للشيخ عطاء بن عبد اللطيف حفظه الله. (¬4) «مقدمات ابن رشد» (1/ 64)، «والمقنع» (1/ 307)، و «الإنصاف» (1/ 402)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 48)، و «الصلاة» لابن القيم، و «حكم تارك الصلاة» للشيخ ممدوح جابر حفظه الله.

من أدلة الفريقين: [1] المانعون من تكفيره: قالوا: قد ثبت له حكم الإسلام بالدخول فيه، فلا نخرجه عنه إلا بيقين، ثم استدلوا على عدم خروجه بما يلي: (1) الأدلة التي تفيد أن الله تعالى يغفر جميع الذنوب عدا الشرك: 1 - كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (¬1). قالوا: فتارك الصلاة داخل تحت المشيئة فليس بكافر. وأجاب المكفِّرون: بأن الآية لا تنافي كفر تارك الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (¬2) فيكون تارك الصلاة داخلاً في عموم الآية من جهة الدلالة على أن ذلك مما لا يغفره الله تعالى، لأنه مشرك بنص الحديث. ولو فرض أن الثابت له وصف الكفر دون الشرك وأن الآية إنما أفادت مغفرة ما دون الشرك، فإنه ليس فيها دلالة على أن الله لا يغفر الكفر الذي ليس من الشرك، بل يكون غاية ما فيها أن الله يغفر ما دون الشرك، وأما ما سوى الشرك مما هو كفر (كتكذيب الله ورسوله أو سبِّهما) فليس في الآية نص على غفرانه، بل ذلك مناقض لصريح الكتاب والسنة، فعلى كلا التقديرين لا وجه للاستدلال بالآية (¬3). (ب) الأدلة التي تفيد أن من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة ولم يشترط الصلاة، ومن ذلك: 2 - حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله إلا حرَّمه الله على النار» (¬4). 3 - حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (¬5). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 48. (¬2) صحيح: سبق تخريجه قريبًا. (¬3) «ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة» للقرني (ص: 158) بتصرف يسير. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (128)، ومسلم (32) واللفظ له وعند البخاري «.. صدقًا من قلبه ..». (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28).

4 - حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة» (¬1). 5 - حديث عتبان بن مالك وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله» (¬2) قالوا: فلم يشترط الصلاة لنجاته من النار ودخوله الجنة. وأجاب المكفرِّون: بأن هذه النصوص وما في معناها على قسمين: إما عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة، وإما مطلق مقيدة بما لا يمكن معه ترك الصلاة كما هو واضح في قوله صلى الله عليه وسلم: «... يبتغي بذلك وجه الله»، «صدقًا من قلبه» ونحوها، فتقيد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب، يمنعه من ترك الصلاة، لأن إخلاصه وصدقه يحملانه على الصلاة ولابد (¬3). (جـ) أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط (¬4): 6 - ففي حديث أبي سعيد في الشفاعة، وبعد ذكر شفاعة المؤمنين لإخوانهم إخراجهم من النار: «... فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير!! قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين، قال: فيقبض قبضة من النار ناسًا لم يعملوا الله خيرًا قط، قد احترقوا حتى صاروا حممًا، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال لها (الحياة) فُيصب عليهم، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ...» الحديث (¬5). وأجاب المكفِّرون: بأن الصلاة ليست داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لم يعملوا خيرًا قط» وكيف يتصور دخول تارك الصلاة في زمرة هؤلاء، وقد هلك مع الهالكين {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (¬6). ثم إن الأخبار الصحيحة قد دلت على أن كل من يخرج من النار من الموحدين إنما يُستدل عليه بعلامة آثار ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3116). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33). (¬3) «حكم تارك الصلاة» للعلامة بن عثيمين، رحمه الله. (¬4) «حكم تارك الصلاة» للعلامة الألباني، رحمه الله (ص: 36). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (6560)، ومسلم (183). (¬6) سورة القلم، الآيتان: 42، 43.

السجود، ففي حديث أبي هريرة مرفوعًا «... حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يخرج [برحمته] من النار من أراد أن يُخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرَّم الله على الناس أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا فيُصيب عليهم ماء يقال له ماء الحياة ... ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ... فيصرف وجهه عن النار» قال أبو هريرة: وذلك آخر أهل الجنة دخولاً (¬1). قالوا: والحديث ظاهر في أن من يخرجهم الله تعالى برحمته، إنما يعرفهم الملائكة بآثار السجود فهم مصلُّون بلا شك، وأما قول المؤمنين -في حديث أبي سعيد- «فلم يبق في النار أحد» فهذا باعتبار علمهم بالدليل أن الله قال لهم -كما في حديث أبي سعيد-: «فأخرجوا من عرفتم منهم» وإلا ففي النار من المصلين من هذه الأمة ومن الأمم السابقة -وقد كانوا مطالبين بالصلاة- من لم يعلمهم إلا الله، فأخرجهم برحمته، وأما غير المصلين فلا يخرجون منها (¬2). (د) أدلة مفهومها أن ترك الصلاة لا يخرج من الملة، ومنها: 7 - حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات افترضهن الله على عباده، فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئًا لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة، ومن لقيه بهن وقد انتقص منهن شيئًا استخفافًا بحقهن لقيه ولا عهد له إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» (¬3). قالوا: فهو يدل على أن تارك بعض الصلوات ليس بكافر لدخوله تحت المشيئة. وأجاب المكفِّرون: بأن الحديث لا يصح حمله على ترك بعض الصلوات، فإنه أثبت الإتيان بالصلوات الخمس مع الانتقاص من واجباتها، ففيه «ومن لقيه بهنَّ وقد انتقص منهن شيئًا ...». 8 - حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يحاسب به الناس من أعمالهم الصلاة، فيقول ربنا للملائكة -وهو أعلم-: انظروا عبدي أتمها ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6573 - 7437)، ومسلم (182). (¬2) من مقدمة الشيخ محمد عبد المقصود -أمتع الله بحياته- على رسالة ممدوح (ص: 38 وما بعدها) بتصرف. (¬3) ضعيف على الراجح: انظر «تعظيم قدر الصلاة» (1029 بتحقيقي) فقد استقصيت طرقه ورجَّحت ضعفه، وقد صححه الألباني رحمه الله تعالى.

أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان قد انتقص منها شيئًا، قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم» (¬1) قالوا: نقص الفرائض يكمل من التطوع، وهذا النقص يشمل النقص في الفريضة نفسها ويشمل النقص في عدد الفرائض. وأجاب المكفِّرون: بأن الحديث لا يصح مرفوعًا، وله طرق ضعيفة وفي أقواها: «فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر» وقوله (صلحت) يعني أنها مكتملة الأركان صحيحة، فلا يصح حمل قوله «وإن كان قد انتقص منها شيئًا» على ترك الأركان والشروط، فوجب حمل الانتقاص على ترك ما دون ذلك، فلا يَسْلم الاستدلال به. 9 - حديث عائشة مرفوعًا: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله تعالى يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء ... الحديث» (¬2). وأجاب المكفِّرون: بأن الحديث بزيادة (من صوم يوم تركه أو صلاة) ضعيف (!!). 10 - حديث نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم «أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه» (¬3) قالوا: قد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من الرجل الإسلام مع علمه بأنه لن يصلي إلا صلاتين فقط من الخمس؟! وأجاب المكفِّرون: بأنه ليس في الحديث أن الصلوات كانت إذ ذاك خمسًا (!!). والظاهر أن هذا كان في الوقت الذي كان الفرض فيه صلاتين وقبل فرض الخمس، أو أن يكون هذا من باب قبول إسلام الرجل مع الشرط الفاسد -وهذا مذهب أحمد- وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فليس ذلك لأحد بعده. ¬

(¬1) ضعيف مرفوعًا: وله طرق استقصيتها في «تعظيم قدر الصلاة» (182 - بتحقيقي) وقد صح موقوفًا على تميم الداري. (¬2) ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 240)، وانظر «ضعيف الجامع» (3022) وقد حسن الألباني نحوه لكن ليس فيه ذكر الصلاة، فلا فائدة، وانظر «الصحيحة» (1927). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 363).

(هـ) حملوا الأحاديث المصرِّحة بكفر تارك الصلاة على الأصغر: 11 - قالوا: كما حملنا الكفر في كثير من النصوص على الكفر الذي لا يخرج من الملة كحديث: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» و «اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت» والأحاديث التي فيها «ليس منا من فعل كذا ...» فكذلك هنا. وأجاب المكفِّرون: هذا لا يصح هنا لأمور (¬1): الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة حدًّا فاصلاً بين الكفر والإيمان وبين المؤمنين والكفار، والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره، فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر. الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام فوصف تاركها بالكفر يقتضي الخروج من الملة، لأنه هدم ركنًا، بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلاً من أفعال الكفر. الثالث: أن هناك نصوصًا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرًا مخرجًا من الملة فيجب حمل الكفر على ما دلت لتتلائم النصوص وتتفق. الرابع: أن الكفر في الأحاديث التي ساقوها جاء (نكرة) أو بلفظ الفعل فيدل على أنه من الكفر أو أنه كفر في هذه الفعلة، فلا يخرج من الملة بخلاف التعبير في ترك الصلاة فإنه عبَّر بـ (ال) الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر. (و) 12 - حملوا أحاديث كفر تارك الصلاة على من تركها جحودًا: وأجاب المكفرِّون: أن في هذا الحمل محذورين: الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به وهو الترك لا الجحود، والثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطًا للحكم، فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه، سواء صلى أم ترك، فتبين أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها غير صحيح (¬2). (ز) (13) قالوا: إننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدًا من تاركي الصلاة ¬

(¬1) «حكم تارك الصلاة» لابن عثيمين (ص: 14 - مع رسالة الشيخ ممدوح) بتصرف يسير. (¬2) «رسالة ابن عثيمين» (ص: 12 - مع السابق).

ترك تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ولا منع ميراثه ولا فرق بين زوجين لترك الصلاة ولو كان كافرًا لثبتت هذه الأحكام (¬1). [2] القائلون بكفر تارك الصلاة، ومنها: 1 - حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (¬2). 2 - حديث بريدة بن الحصيب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (¬3). وأجاب المانعون من تكفيره: بما تقدم من حملها على من جحد فرضيتها أو حملها على أن المراد الكفر الذي لا يخرج من الملة. 3 - ما رُوي عن أنس مرفوعًا: «من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر جهارًا» (¬4). وأجاب المانعون: بأنه ضعيف لا يحتج به، ولو صح فالقول فيه كالقول فيما قبله. 4 - حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام، من ترك واحدة منها فهو كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان» (¬5) وأجاب المانعون بأنه ضعيف مرفوعًا، فلا يكون فيه حجة، ولو صح فيحمل الكفر فيه على غير المخرج من الملة، ويحمل قوله (حلال الدم) على أنه يقتل حدًّ لا كفرًا. (ب) أدلة دلَّ مفهومها على كفر تارك الصلاة، ومن ذلك: 5 - قول الله تعالى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬6). قالوا: فاشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين: أن يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا انتفى أحد هذه الشروط انتفت الأخوة، والأخوة لا تنتفي بالفسوق ولا بالكفر الذي هو دون الكفر وإنما بالخروج من الملة. ¬

(¬1) «المغنى» (2/ 446) وقد رجَّح في المذهب عدم تكفيره. (¬2) صحيح: سبق تخريجه. (¬3) صحيح: سبق تخريجه. (¬4) ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط»، وانظر «ضعيف الجامع» (5530). (¬5) ضعيف: أخرجه أبو يعلى، وانظر «الضعيفة» (94). (¬6) سورة التوبة، الآية: 11.

وأجاب المانعون: بأن الأدلة التي ساقوها في إثبات أن تارك الصلاة ليس بكافر مقدمة على الآية فتحمل على كمال الأخوة لا على أصل الأخوة، كما أخرجنا مانع الزكاة من الكفر بحديث «... ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (¬1) وهذا بعد ذكر عقوبة مانع الزكاة. 6 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ... إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} (¬2). قالوا: فقوله (إلا من تاب وآمن) دليل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات لم يكونوا مؤمنين. وأجاب المانعون: بأن قوله تعالى (وآمن) إما المراد به: داوم على إيمانه، أو المراد: دخل في الإيمان الكامل بشروعه في الصلاة. 7 - قوله تعالى في أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ... الْيَقِينُ} (¬3). قالوا: فإما أن يكون كل واحد من هذه الخصال هو الذي سلكهم في سقر وجعلهم من المجرمين، فالدلالة ظاهرة، وإما أن يكون مجموعها، فهذا إنما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم وإلا فكل واحد منها مقتضٍ لعقوبة إذ لا يجوز أن يُضم ما لا تأثير له في العقوبة إلى ما هو مستقل بها. وأجاب المانعون: بأن الآية فيها أنهم دخلوا النار وليس فيها مدة إقامتهم أو خلودهم فيها فلا تكون حجة، لكن تبقى الحجة في جعل تارك الصلاة من المجرمين، والمجرمون في كتاب الله الكفار، فنحمله على الإجرام غير المخرج من الملة (!!) ويعكِّر على هذا الحمل أن الله تعالى قد جعل المسلمين مقابلين للمجرمين {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (¬4). فلا يصح أن يكون المعنى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» وهذا واضح. 8 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: يأتي بتمامه في أول «الزكاة». (¬2) سورة مريم، الآيتان: 59، 60. (¬3) سورة المدثر، الآيات: 42 - 47. (¬4) سورة القلم، الآية: 35. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (391)، والترمذي (2608)، والنسائي (3966) بنحوه.

9 - حديث محجن بن الأدرع الأسلمي: أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، ومحجن في مجلسه، فقال له: «ما يمنعك أن تصلي، ألست برجل مسلم؟» قال: بلى، ولكني صليت في أهلي، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جئت فصلِّ مع الناس وإن كنت قد صليت» (¬1). 10 - حديث معاذ مرفوعًا: «من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا، فقد برئت منه ذمة الله» (¬2). قالوا: ولو كان باقيًا على إسلامه لكانت له ذمة الإسلام. وأجاب المانعون عن هذه الأحاديث وما في معناها: بأنه بعد ثبوت ما دلَّ على أنه غير خارج من الملة تكون محمولة على كمال الإسلام لا أصله، جمعًا بين الأدلة (!!). (جـ) الأدلة التي تفيد إباحة دم من لا يصلي، ومنها: 11 - حديث أبي سعيد -في قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله- وفيه: «فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: «لا، لعله أن يكون يصلي ...» (¬3) قالوا: فجعل الصلاة مانعًا من قتله لما هَمَّ الصحابة بقتله لما رأوا فيه من احتمال كفره. وأجاب المانعون: بأنه يحتمل أن يكون إباحة قتل تارك الصلاة حدًّا لا لأجل الكفر!! وأجيبوا بأن من يقتل حدًّا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬4) وليس تارك الصلاة بزان ولا قاتل لنفس فبقي أنه تارك لدينه، ولهذا ليس كل من قال إن تارك الصلاة لا يَكفر، قال إنه يقتل، كما سيأتي. (د) الأدلة التي تفيد المنع من منابذة ولاة الأمر إلا إذا لم يقيموا الصلاة، ومنها: 12 - حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه النسائي (857)، وأحمد (15800)، والبيهقي (2/ 300) وفيه بُسر بن محجن: مجهول على الأرجح. (¬2) ضعيف: وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (921) بتحقيقي، ط. العلم. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).

وتابع» فقالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا» (¬1) قالوا: وقد ثبت أنه لا يباح قتالهم إلا إذا كفروا كفرًا ظاهرًا بواحًا، كما في حديث عبادة في ذكر مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان» (¬2) فعُلم أن ترك الصلاة من الكفر الأكبر البواح. (هـ) أن كفر تارك الصلاة هو قول جمهور الصحابة بل حكى غير واحد إجماعهم عليه: 13 - قال عبد الله بن شقيق: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة» (¬3). وقال عمر بن الخطاب: «نعم، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة» (¬4). وقال ابن مسعود: «من لم يصلِّ فلا دين له» (¬5). وقال أبو الدرداء: «لا إيمان لمن لا صلاة له» (¬6). وأجاب المانعون: بأن قول جمهور الصحابة ليس بحجة ما لم ينعقد إجماعهم عليه والإجماع غير مسلَّم، لأن ابن حزم إنما نقل هذا القول عن عمر بن الخطاب ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم، وقوله بعد ذلك: لا نعلم لهؤلاء مخالفًا من الصحابة لا يدل على عدم وجود المخال!! الترجيح: بعد ذكر طرف من أدلة كل فريق، وشيء من مناقشتهم، فإن الناظر فيما تقدم، يرى أن كلا القولين مما تحتمله الأدلة الواردة في المسألة، وليس يسهل هنا القطع بصواب أحدهما وخطأ الآخر - على أن ترجيح مثلي لن يعطى قولاً زيادة قوة- لكن الأرجح في نظري من جهة الأصول: القول بكفره، لا سيما إذا استتابه الإمام، لأن من كان مقرًّ بالصلاة في الباطن، معتقدًا وجوبها، يمتنع أن يصرَّ على تركها حتى يقتل، إذ لا يعقل أن يُدعى تارك الصلاة على رءوس الملأ، وهو ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1854)، والترمذي (2266)، وأبو داود (4760). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (7055)، ومسلم (1709). (¬3) إسناده صحيح: وقد تقدم. (¬4) إسناده صحيح: وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (923 - 931) بتحقيقي. (¬5) في سنده لين: وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (935 - 937) بتحقيقي. (¬6) إسناده حسن: وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (945) بتحقيقي.

الأحكام الدنيوية لتارك الصلاة

يرى بارقة السيف على رأسه ويشد للقتل وتعصب عيناه، ويقال له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول اقتلوني ولا أصلي أبدًا، ثم يكون بعد ذلك مسلمًا (؟!!) (¬1). تنبيه: المقصود بتارك الصلاة المحكوم بكفره، من كان مُصرًّا على تركها لا يصلي قط مع ادعائه الإيمان بأنها واجبة، وأما أكثر الناس الذين يصلون تارة ويتركونها تارة، فهؤلاء غير محافظين عليها، وهم تحت الوعيد لكن لا يحكم بكفرهم (¬2). فليس مناط التكفير في ترك الصلاة هو مطلق الترك، وإنما مناطه الترك المطلق، الذي هو بمعنى ترك الصلاة من حيث الجملة، الذي يتحقق بترك الصلاة بالكلية أو بالإصرار على عدم إقامتها، أو بتركها في الأعم الأغلب بحيث يصدق على من تركها أن يقال: إنه قد ضيَّع الصلاة وتولى عن إقامتها، وهذا المناط يفهم من قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (¬3). فجعل التوليِّ هو مناط الكفر، ومعلوم أنه ليس كل من ترك الصلاة أو بعض صلوات يكون متوليًا عن أداء الصلاة من حيث الجملة (¬4)، والله أعلم. الأحكام الدنيوية لتارك الصلاة: ما تقدم ذكره هو الأحكام الأخروية لتارك الصلاة، وأما ما يترتب على ترك الصلاة من الأحكام في الدنيا، فعلى ما يأتي: [1] عند القائلين بأنه فاسق وليس بكافر: تارك الصلاة -عند هؤلاء- فاسق عاصٍ، فهو كغيره من عصاة المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، لكنهم اختلفوا فيما يفعله الإمام تجاهه على قولين: (أ) أنه يقتل حدًّا: فعند المالكية والشافعية يطالب بأداء الصلاة إذا ضاق الوقت، ويتوعد بالقتل إن أخرها عن الوقت، فإن أخر حتى خرج الوقت استوجب القتل، ولا يقتل حتى يستتاب في الحال، فإن أصر حدًّا وقيل يمهل ثلاثة أيام. وعند بعض الحنابلة -الذين لا يكفرون منهم- يُدعى ويقال له: صلِّ وإلا قتلناك، فإن صلى وإلا وجب قتله، ولا يقتل حتى يحبس ثلاثًا، ويُدعى ¬

(¬1) انظر «مجموع الفتاوى» (22/ 48، 49)، و «الصلاة» لابن القيم (ص: 41). (¬2) انظر «مجموع الفتاوى» (22/ 49). (¬3) سورة القيامة، الآيتان: 31، 32. (¬4) «ضوابط التكفير» للقرني (ص: 159 - 161) بتصرف.

في وقت كل صلاة، فإن صلى وإلا قتل حدًّ، واختلفوا في كيفية قتله، فقال جمهورهم: يضرب عنقه بالسيف. وعند هؤلاء جميعًا، إذا قتل فإنه يُغسَّل ويُصلَّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ويورث. (ب) أنه لا يقتل وإنما يُعزَّر ويحبس حتى يموت أو يتوب: وهو مذهب الزهري وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وداود الظاهري والمزني وابن حزم، واستدلوا بحديث «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: ...» الحديث وقد تقدم، وبما في معناه، كحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» (¬1). [2] عند القائلين بكفره: فتجرى عليه أحكام الكافر المرتد، ومن ذلك (¬2): 1 - سقوط ولايته فلا يتولى ما يشترط فيه الولاية فلا يزوج أحدًا من بناته، ولا يولى على القاصرين من أولاده ونحو ذلك. 2 - لا يرث ولا يورث لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (¬3). 3 - يُحرم من دخول مكة. 4 - تحرم ذبيحته، بخلاف المسلم والكتابي. 5 - لا يُصلى عليه بعد موته ولا يُدعى له بعد موته. 6 - تحريم زواجه بالمسلمات لأنه كافر، والكافرة كذلك يحرم على الرجل المسلم نكاحها، وإذا ارتد أحد الزوجين انفسخ العقد عند الأئمة الأربعة. وأما الإمام: فيدعو تارك الصلاة ويقول له: صلِّ وإلا قتلناك، فإن تاب وصلَّى وإلا قتله ردَّةً، ليس ذلك لأحد من عامة الناس وإنما للحاكم فقط فلينتبه!! على من تجب الصلاة؟ تجب الصلاة على كل عاقل، بالغ، ذكر أو أنثى حر أو عبد. 1 - فأمل العقل: فهو شرط لوجوب الصلاة على المرء، فلا تجب على المجنون ¬

(¬1) صحيح أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22). (¬2) «رسالة ابن عثيمين» (ص: 20 - 24) مع رسالة الشيخ ممدوح. (¬3) صحيح أخرجه البخاري (4283)، ومسلم (1614).

إجماعًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر (وفي رواية: يحتلم) وعن المجنون حتى يعقل» (¬1). واختلف العلماء فيمن تغطىَّ عقله بمرض أو إغماء أو دواء مباح، والصحيح أن المغمى عليه ونحوه ممن زال عقله لا يعقل ولا يفهم، فالخطاب عنه مرتفع، وإذا كان غير مخاطب في وقتها، فلا يجب عليه أداؤها في غير وقتها، فإن أفاق وعقل في وقت يدرك فيه -بعد الطهارة- الدخول في الصلاة لزمه أداؤها. وأما من سكر أو نام عن الصلاة أو نسيها حتى خرج وقتها، فهؤلاء -خاصة- يجب أن يصلوُّا ما فاتهم، للنص: قال الله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬2). فلم يبح الله تعالى للسكران أن يصلي حتى يعلم ما يقول، فإن أفاق صلاها. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا نسي أحكم صلاة أو نام عنها فليصلِّها إذا ذكرها (¬3). بهذا قال المالكية والشافعية [إلا أنهم فرقوا بين السكر المتعدِّي به والسكر بلا تعدٍّ!!] وبه قال ابن حزم (¬4) واختار العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- أنه إن زال عقله بفعله واختياره بتناول البنج أو الدواء المخدر فعليه القضاء، وإن كان بغير اختياره فلا قضاء عليه. 2 - وأما البلوغ: فهو شرط لوجوب الصلاة بلا خلاف، فلا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ، للأدلة الدالة على رفع قلم التكليف عن الصبي، وقد تقدم الحديث فيه. تعليم الصبي الصلاة وأمره بها: الصبي وإن كان لا تجب عليه الصلاة، إلا أنه يجب على وليِّه أن يأمره بها إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها -تأديبًا له- إذا بلغ عشرًا ليعتادها إذا بلغ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة ابن سبع سنين، واضربوا عليها ابن عشر» (¬5) وهذا ¬

(¬1) صحيح أخرجه أبو داود (4398)، والنسائي (6/ 156)، وابن ماجه (2041) وغيرهم. (¬2) سورة النساء، الآية: 43. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (684). (¬4) «حاشية الدسوقي» (1/ 184)، و «مغنى المحتاج» (1/ 131)، و «المحلى» (2/ 233 - 234)، و «الممتع» (2/ 18). (¬5) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (494)، و «الترمذي» (407) عن سبرة بن معبد وله شاهد عن عبد الله عمرو.

عدد الفرائض

مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والحنابلة، أما المالكية فحملوا الأمر في هذا الحديث على الندب والاستحباب (¬1)، وهذا لو صح لهم في قوله (مروهم) لم يصح لهم في قوله (واضربوهم) لأن الضرب إيلام الغير وهو لا يباح للأمر المندوب. والظاهر أنهم استشكلوا أمر الصبي بالصلاة وضربه عليها وهو غير مكلف؟!! والجواب: أن ذلك إنما يلزم لو اتحد المحل وهو هنا مختلف، فإن محلَّ الوجوب الولي -وهو مكلف- ومحل عدمه ابن العشر، ولا يلزم من عدم الوجوب على الصغير عدمه على الولي، فيجب على الولي ضربه عليها (¬2)، لكن الصبي لا يأثم بترك الصلاة والله أعلم. تنبيه: جعل بعض الفقهاء الإسلام شرطًا لإيجاب الصلاة على المرء، قالوا: فلا تجب على الكافر الأصلي، قالوا: فلهذا لا يؤمر الكافر إذا أسلم بقضائها. وعدم إيجابها على الكافر مخالف لما صحَّ في الأصول أن الكفَّار مخاطبون بفروع الشريعة، فهي واجبة عليهم وهم معاقبون على تركها في الآخرة (¬3). على أن الشافعية والحنابلة (¬4) قد صرَّحوا بأن الصلاة لا تجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة بها في الدنيا لعدم صحتها منه، لكن يعاقب على تركها في الآخرة زيادة على كفره، لتمكنه من فعلها بالإسلام. فعلى هذا يكون الخلاف معهم لفظيًّا، فالصلاة واجبة على الكافر لكنها لا تصح منه، فكان الإسلام شرط صحة لا شرط وجوب، والله أعلم. قلت: وأما كون الكافر لا يؤمر بقضائها إذا أسلم فللنص -وسيأتي- ولأنه لم يعتقد وجوبها ولأنه تعمد إخراج الصلاة عن وقتها -وقد وجبت عليه- بغير عذر فلا يقدر على قضائها كما سيأتي تحقيق هذا. عدد الفرائض: الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس، وهي: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر (¬5). ¬

(¬1) «حاشية ابن عابدين» (1/ 234)، و «الدسوقي» (1/ 186)، و «مغنى المحتاج» (1/ 131)، و «كشاف القناع» (1/ 225). (¬2) «نيل الأوطار» (1/ 369 - 370) بتصرف وانظر «السيل الجرار» (1/ 156). (¬3) «السيل الجرار» (1/ 155). (¬4) «مغنى المحتاج» (1/ 130)، و «كشاف القناع» (1/ 222). (¬5) هذا عند الجمهور، وقال أبو حنيفة وأصحابه: الوتر واجب مع الخمس، وسيأتي تحريره.

عدد الركعات

وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع، وهي معلومة من الدين بالضرورة، يكفر جاحدها (¬1). 1 - عن أبي رزين قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال ابن عباس: نعم، ثم قرأ عليه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ}: المغرب، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: الفجر، {وَعَشِيّاً}: العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: الظهر، {وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} (¬2). 2 - عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرني ما فرض الله عليَّ من الصلوات؟ فقال: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تَطَوَّع» (¬3). 3 - عن أنس بن مالك: أن الصلاة فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به خمسين ثم نقصت حتى جعلت خمسًا، ثم نودي: «يا محمد، إنه لا يبدل القول لدي، وإن لك بهذه الخمس خمسين» (¬4). عدد الركعات: قال ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 318): «أجمع أهل العلم على أن صلاة الظهر أربع ركعات يُخافت فيها بالقراءة، ويجلس فيها جلستين في ل مثنى جلسة للتشهد، وأن عدد صلاة العصر أربعًا كصلاة الظهر لا يجهر فيها بالقراءة، ويجلس فيها جلستين في كل مثنى جلسة للتشهد، وأن عدد صلاة المغرب ثلاثًا يجهر في الركعتين الأوليين منها بالقراءة ويُخافت في الثالثة، ويجلس في الركعتين الأوليين جلسة للتشهد وفي الآخرة جلسة، وأن عدد صلاة العشاء أربعًا يجهر في الركعتين الأوليين منها بالقراءة ويُخافت في الأُخريين، ويجلس فيها جلستين كل مثنى جلسة للتشهد، وأن عدد صلاة الصبح ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ويجلس فيها جلسة واحدة للتشهد، هذا ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 91)، و «الفواكه الدواني» (1/ 192)، و «مغنى المحتاج» (1/ 121)، و «المغنى» (1/ 370). (¬2) إسناده حسن: أخرجه الطبري في «التفسير» (21/ 20)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 322)، والبيهقي في «الكبرى» (1/ 359)، والطبراني في «الكبير» (10/ 304). (¬3) صحيح أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11). (¬4) صحيح: أخرج نحوه البخاري (349)، ومسلم (162) مطولاً.

مواقيت الصلاة

فرض المقيم، فأما المسافر ففرضه ركعتين إلا صلاة المغرب فإن فرض المسافر في صلاة الغرب كفرض المقيم» اهـ. مواقيت الصلاة اتفق المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتًا لابد أن تؤدى فيها، والأصل في هذا قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (¬1) وإليك تحديد هذه الأوقات وبيان معالمها: [1] صلاة الظهر: الظهر: ساعة الزوال ووقته، والمراد بالزوال: ميل الشمس عن كبد السماء إلى المغرب (¬2). وصلاة الظهر هي التي تجب بدخول وقت الظهر، وتسمى صلاة الظهر -أيضًا- (الأولى) لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى (الهجيرة) فعن أبي برزة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العجيرة التي يدعونها: الأولى حين تدحض الشمس أو تزول» (¬3). أول وقت الظهر: هو زوال الشمس، أي: ميلها عن وسط السماء جهة الغرب، وقد أجمع العلماء على ذلك لثبوت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الظهر حين زالت الشمس، كما في حديث أبي برزة السابق. وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفَّر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان» (¬4). آخر وقت الظهر: اختلف أهل العلم فيه، وأصح الأقوال: أن آخره أن يصير ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 103. (¬2) «المصباح المنير»، و «المجموع» (3/ 24)، و «المغنى» (1/ 372). (¬3) صحيح أخرجه البخاري (541). (¬4) صحيح أخرجه مسلم (612).

ظل الشيء مثله سوى مقدار الظل حين الزوال (¬1)، وهو وقت دخول العصر، وهذا مذهب الجمهور خلافًا لأبي حنيفة فعنده: آخره أن يكون ظل الشيء مثليه سوى فيء الزوال (¬2). واستدل الجمهور بما يلي: 1 - حديث ابن عمر السابق: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر ...». 2 - حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس وكان الفيء قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك وظل الرجل، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، ثم صلى من الغد الظهر حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه قدر ما يسير الراكب سير العنق إلى ذي الحليفة، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل -شك زيد- ثم صلى الفجر فأسفر» (¬3). وهو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم فرغ من الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، وشرع في العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، فلا اشتراك بينهما (¬4). ولا يقال: إنه إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر ولم يخرج وقت الظهر بل يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالح للظهر والعصر أداء، كما قال بعضهم (¬5)، ويؤيد ما ذكرنا حديث أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما التفريط على من لم يصلِّ صلاة حتى يجيء وقت الأخرى» (¬6) قلت: فتعيَّن الحمل المتقدم. ¬

(¬1) يكون لكل شيء ظل قبل الظهر، ويتناقص هذا الظل، ثم يبدأ في الزيادة، فهذا هو فيء الزوال وهو أول وقت الظهر، فإذا زاد الظل عن هذا المقدار، بما يساوي طول الشيء، فهذا آخر وقت الظهر. (¬2) «مواهب الجليل» (1/ 382)، و «مغنى المحتاج» (1/ 121)، و «المغنى» (1/ 371)، و «الأوسط» (2/ 327)، و «بدائع الصنائع» (1/ 123)، و «الأصل» (1/ 144). (¬3) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 261)، وانظر «الإرواء» (1/ 270). (¬4) «نيل الأوطار» (1/ 347). (¬5) عزا النووي في شرح مسلم هذا القول لمالك وكذا حكام في «بداية المجتهد» (1/ 125) عن مالك، والذي عزاه ابن المنذر (2/ 327) له أنه قال: يخرج وقت الظهر؟!! فليحرر. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (595)، ومسلم (681) في حديث طويل.

فائدة: يمكن معرفة وقت الظهر بطريقة الحساب بالساعات، وذلك بأن يُحسب الوقت بين طلوع الشمس إلى غروبها، فيكون وقت الظهر في منتصفه تمامًا. يستحب تعجيل الظهر في أول الوقت: لحديث جابر بن سمرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس» (¬1) أي: مالت عن وسط السماء جهة المغرب. ونحوه حديث أبي برزة، وقد تقدم قريبًا. ويُستحب تأخيرها إذا اشتد الحرُّ: لحديث أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البر بكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة» (¬2). وحديث أبي ذر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر، فقال: «أبرد» مرتين أو ثلاثًا، حتى رأينا فيء التلول، ثم قال: «شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة» (¬3). وحدُّ الإبراد: الصحيح فيه أنه يختلف باختلاف الأحوال بشرط أن لا يمتد إلى آخر الوقت. [2] صلاة العصر: العصر: يطلق على العشى إلى احمرار الشمس، وهو آخر ساعات النهار. وصلاة العصر هي التي تجب بدخول وقت العصر، وتسمى الصلاة الوسطى. أول وقت العصر: إذا صار ظل الشيء مثله - عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة في المشهور عنه فقد جعل أوله أن يصير ظل الشيء مثليه (!!) - والأدلة المتقدمة غب وقت الظهر تدل على قول الجمهور (¬4). آخر وقت العصر: تعارضت ظواهر الأحاديث في آخر وقت العصر. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (618)، وأبو داود (403)، وابن ماجه (673). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (906) ونحوه عند البخاري (534)، ومسلم (615) عن جابر. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (539)، ومسلم (616). (¬4) «جواهر الإكليل» (1/ 32)، و «مغنى المحتاج» (1/ 121)، و «المغنى» (1/ 375)، و «فتح القدير» (1/ 195).

ففي حديث جابر في إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «أنه صلى العصر في اليوم الأول عند مصير ظل الشيء مثله، واليوم الثاني عند مصير ظل الشيء مثليه .... ثم قال: الوقت بين هذين الوقتين» (¬1) وبه قال الشافعي [لكن هذا عند وقت الاختيار] ومالك في إحدى الروايتين (¬2). وفي حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «... وقت العصر ما لم تصفَّر الشمس» (¬3) وبه قال أحمد وأبو ثور ورواية عن مالك (¬4)، ونحوه حديث أبي موسى في قصة السائل عن مواقيت الصلاة وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في اليوم الأول العصر والشمس مرتفعة، وفي اليوم الثاني آخر العصر فانصرف منها والقائل يقول: احمرَّت الشمس ... الحديث» (¬5). وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» (¬6) فقال إسحاق وأهل الظاهر (¬7): آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة. قلت: والذي تجتمع عليه هذه الأدلة كلها وغيرها أن يُحمل حديث جبريل على بيان وقت الاختيار، وحديث ابن عمرو على وقت الجواز، وحديث أبي هريرة على وقت العذر والاضطرار، فنقول: آخر الوقت المختار مصير ظل الشيء مثليه -بعد اطراح فيء الزوال- ويمتد إلى اصفرار الشمس، ويكره التأخير إلى ما بعد ذلك لغير عذر، لحديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله إلا قليلاً» (¬8). فإذا كان هناك عذر أو ضرورة جاز أداؤها -من غير كراهة- قبل غروب الشمس بمقدار ركعة. والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: وقد سبق تخريجه. (¬2) «بداية المجتهد» (1/ 126)، و «الأم» (1/ 73). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «بداية المجتهد» (1/ 126)، و «المغنى» (1/ 376)، و «الأوسط» (2/ 331) وحكى في المسألة ستة أقوال. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (614)، وأبو داود (395)، والنسائي (1/ 260). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (579)، ومسلم (163 - 608). (¬7) «بداية المجتهد» (1/ 126)، و «الأوسط» (2/ 332)، و «المحلى». (¬8) صحيح: أخرجه مسلم (622)، وأبو داود (409)، والترمذي (160)، والنسائي (1/ 254).

ويستحب التبكير بالعصر: 1 - لحديث أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة» (¬1) وبعض العوالي على أربعة أميال من المدينة. 2 - وعن رافع بن خديج قال: «كنَّا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ننحر الجزور فنقسم عشر قِسَم، ثم نطبخ فنأكل لحمه نضيجًا قبل مغيب الشمس» (¬2). ويتأكد تعجيلها في يوم الغيم: لأنه مظنة التباس الوقت، فإذا وقع التراخي، فربما خرج الوقت أو اصفرَّت الشمس قبل الصلاة، فعن أبي المليح قال: كنا مع بُريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكِّروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» (¬3). الترغيب في المحافظة على صلاة العصر، والترهيب من تفويتها: 1 - قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} (¬4). والصلاة الوسطى هي صلاة العصر -على الصحيح- لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما شغله الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر» (¬5). 2 - وعن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالمخمص، فقال: «إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيَّعوها، فمن حافظ عليها كان له أره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد» (¬6) والشاهد: النجم. 3 - عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» يعني: الفجر والعصر (¬7). 4 - وتقدم حديث بريدة مرفوعًا: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (550)، ومسلم (621). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2485)، ومسلم (625). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (553)، والنسائي (1/ 83)، وأحمد (5/ 349). (¬4) سورة البقرة، الآية: 238. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2931)، ومسلم (627) واللفظ له. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (830). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (643).

قال ابن القيم (¬1): «والذي يظهر في الحديث -والله أعلم بمراد رسوله- أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبدًا، فهذا يحبط العمل جميعه، وترك معين في يوم معين، فهذا يحبط عمل ذلك اليوم، فالحبوط العام في مقابلة الترك العام، والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين، فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم، قد دلَّ القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} (¬2). وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (¬3). قلت: هذا فيمن تركها مضيعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها، والله أعلم. 5 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه» (¬4) أي: فكأنما سُلب أهله وماله فأصبح بلا أهل ولا مال، وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها (¬5) على النحو الذي تقدم. أو يقال: المعنى: فليكن حذره من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله. [3] صلاة المغرب: المغرب في الأصل: مِن غربت الشمس: إذا غابت وتوارت، ويطلق في اللغة على وقت الغروب ومَكانه، وعلى الصلاة التي تؤدى في هذا الوقت (¬6). ويطلق على المغرب كذلك العشاء، لكن يكره هذا لقوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب» وتقول الأعراب: هي العشاء. أول وقت المغرب: إذا غربت الشمس وغابت وتكامل غروبها، بالإجماع. وهذا ظاهر في الصحاري، ويعرف في العمران بزوال الشعاع من رءوس الجبال وإقبال الظلام من المشرق، وطلوع النجم (¬7). ¬

(¬1) «الصلاة وحكم تاركها» (ص: 43 - 44). (¬2) سورة البقرة، الآية: 264. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 2. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (552)، ومسلم (626/ 200). (¬5) «الصلاة» لابن القيم (44). (¬6) «المصباح المنير»، «كشاف القناع» (1/ 253). (¬7) «البدائع» (1/ 123)، و «المغنى» (1/ 381)، و «نيل الأوطار (2/ 5، 6).

آخر وقت المغرب: اختلف فيه العلماء على قولين: الأول: أن للمغرب وقتًا واحدًا، بعد الغروب بقدر ما يتطهر المصلي ويستر عورته ويؤذن ويقيم للصلاة، وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي (¬1)، وحجتهم حديث إمامة جبريل -وقد تقدم- وفيه أنه صلى في اليوم الأول والثاني المغرب حين غربت الشمس وقتًا واحدًا وبما رواه سويد بن غفلة قال سمعت عمر ابن الخطاب يقول: «صلوا هذه الصلاة والفجاج مسفرة، يعني المغرب» (¬2). الثاني: آخره إلى أن يغيب الشفق: وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي وبعض أصحاب الشافعي وصححه النووي واختاره ابن المنذر (¬3)، وهو الصحيح، والدليل عليه: 1 - حديث ابن عمرو مرفوعًا: «ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق ...» الحديث، وقد تقدم. 2 - حديث أبي موسى في السائل عن مواقيت الصلاة، وفيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في اليوم الأول المغرب حين وقبت (أي: غربت) الشمس، وفي اليوم الثاني آخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ...» وقد تقدم تخريجه، ومثله في حديث بريدة (¬4). 3 - حديث زيد بن ثابت أنه قال لمروان: ما لك تقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصَّل؟ و «قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولي الطوليين»؟ يعني: الأعراف (¬5). وقد كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مبينة حرفًا حرفًا بترتيل مع إتمام ركوع وسجود، فهذا يدل على أن وقت المغرب ممتد إلى غياب الشفق. 4 - حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قُدِّم العشاء، فابدءوا به قبل صلاة المغرب، ولا تعجَّلُوا عن عشائكم» (¬6) وفي لفظ من حديث عائشة «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء» (¬7) وهو صريح في جواز تأخير صلاة المغرب إلى ما بعد الطعام بعد دخول وقته. ¬

(¬1) «بداية المجتهد» (10/ 126)، و «المجموع» (3/ 28)، و «الأوسط» (2/ 335). (¬2) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (2092)، وابن أبي شيبة (1/ 329). (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 127)، و «المجموع» (3/ 28)، و «الأوسط» (2/ 337). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (613)، والترمذي (152)، والنسائي (1/ 258). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (764)، والنسائي (2/ 170)، وأحمد (5/ 188). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (672)، ومسلم (557). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (671).

5 - حديث معاذ «أنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم» (¬1). يستحب تعجيل المغرب: 1 - فعن رافع بن خديج قال: «كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله» (¬2). 2 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال أمتي بخير - أو على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» (¬3). [4] صلاة العشاء: العشاء: اسم لأول الظلام من المغرب إلى العتمة، وسميت الصلاة بذلك لأنها تفعَل في هذا الوقت. ويقال للصلاة أيضًا: (العشاء الآخرة) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» (¬4). ويقال لها كذلك: (العتمة) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوًا» (¬5) لكن قد ورد كراهية ذلك في حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يُعتمون بالإبل» (¬6) والتحقيق أن إطلاق العتمة على العشاء خلاف الأَولى لهذا الحديث كما ذهب إليه مالك والشافعي واختاره ابن المنذر ورجَّحه ابن حجر. أول وقت العشاء: أجمع أهل العلم -إلا من شذ منهم- على أن أول وقت العشاء الآخرة إذا غاب الشفق. لكنهم اختلفوا في الشفق (¬7)؟! فالجمهور على أنه: الحُمرة، وأبو حنيفة وزفر والأوزاعي قالوا: هو البياض بعد الحمرة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (711)، ومسلم (465). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (559)، ومسلم (637). (¬3) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (414)، وأحمد (4/ 147). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (444)، وأبو داود (4175)، والنسائي (5128). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (615، 721)، ومسلم (437). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (228)، والنسائي (1/ 270)، وابن ماجه (705). (¬7) انظر: «الأوسط» (2/ 339 - 342)، و «المجموع» (3/ 44 - 45).

قلت: والأول هو الصواب، لأن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى حين غاب الشفق، وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول (¬1)، وقد ثبت في حديث عائشة أنهم: «كانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول» (¬2) فصح يقينًا أن الشفق: الحمرة لا البياض، والله أعلم. آخر وقت العشاء: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال مشهورة: الأول: آخره إلى ثلث الليل: وبه قال الشافعي في الجديد [إلا أن هذه عنده وقت الاختيار، هذا المذهب، لكن الذي صرَّح به في «الأم» أنه إذا مضى الثل فهي فائتة] وأبو حنيفة والمشهور من مذهب مالك (¬3) وحجتهم: حديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه «أنه صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني ثلث الليل». الثاني: آخره نصف الليل: وبه قال الثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي والشافعي في القديم [إلا أنه عند أصحاب الرأي يجزئ بعده مع الكراهة وعند الشافعي: هو وقت الاختيار وأنه لا يفوته إلى الفجر] وابن حزم. وحجتهم: حديث عبد الله بن عمرة -الذي تقدم كثيرًا- وفيه: «ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ...» وحديث أنس قال: «أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ...» (¬4)، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: «... وأن صلِّ العشاء ما بينك وبين ثلث الليل، وإن أخَّرت فإلى شطر الليل، ولا تكن من الغافلين» (¬5). الثالث: آخره طلوع الفجر الصادق (ولو لغير اضطرار»: وهو قول عطاء وطاوس وعكرمة وداود الظاهري، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة، واختاره ابن المنذر (¬6) وحجتهم: ¬

(¬1) هذه الحقيقة نقلها في «نيل الأوطار» (2/ 16) عن ابن سيد الناس في «شرح الترمذي» ثم رأيت ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/ 127) يكذبها فليحرر!! (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (569)، ومسلم (218). (¬3) «الأوسط» (2/ 343)، و «الأم» (1/ 74)، و «بداية المجتهد» (1/ 128)، و «المجموع» (3/ 42). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (572). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه مالك والطحاوي وابن حزم بسند صحيح كما في «تمام المنة» (ص: 142). (¬6) «الأوسط» (2/ 346)، و «بداية المجتهد» (1/ 128).

1 - حديث أبي قتادة مرفوعًا: «إنما التفريط على من لم يصل صلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى» (¬1). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى شطر الليل» (¬2). قالوا: هو دليل على أنه لا حرج على من أخرها إلى شطر الليل، وإذا كان خروجه إليهم بعد انتصاف الليل، فصلاته بعد شطر الليل، وإن كان كذلك ثبت أن وقتها إلى طلوع الفجر (¬3). 3 - حديث عائشة قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: «إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي» (¬4). الترجيح: أقوى الأحاديث السابقة دلالة على تحديد آخر وقت العشاء هو حديث عبد الله بن عمرو: «ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ...» ورجَّحه الشوكاني لكنه جعله آخر وقت الاختيار، وأما وقت الجواز فممتد إلى الفجر مستدلاًّ بحديث أبي قتادة المتقدم، وقال: «فإنه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا صلاة الفجر، فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع» اهـ. قلت (¬5): أما الاستدلال بحديث أبي قتادة على أن وقت العشاء ممتد إلى طلوع الفجر، ففيه نظر، إذ ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا سيق لأجل ذلك، وإنما لبيان إثم من يؤخر الصلاة حتى يخرجها عامدًا عن وقتها مطلقًا سواء كان يعقبها صلاة أخرى مثل العصر مع المغرب، أو لا، مثل الصبح مع الظهر، وهم نائمون في سفرهم، واستعظم الصحابة رضي الله عنهم وقوع ذلك منهم، فذكره، فلو كان المراد ما ذهبوا إليه من امتداد كل صلاة إلى دخول الأخرى، لكان نصًّا صريحًا على امتداد ذهبوا إليه من امتداد كل صلاة إلى دخول الأخرى، لكان نصًّا صريحًا على امتداد ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه. (¬2) صحيح: يأتي قريبًا. (¬3) «الأوسط» لابن المنذر (2/ 346). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (219)، والنسائي (1/ 267). (¬5) مستفاد من كلام العلامة الألباني في «تمام المنة» (ص: 141) وقد نقل معناه عن ابن حزم (3/ 178).

وقت الصبح إلى وقت الظهر وهم لا يقولون بذلك، ولذلك اضطروا إلى استثناء صلاة الصبح من ذلك، وهذا الاستثناء على ما بيَّنا من سبب الحديث يعود عليه بالإبطال، لأنه إنما ورد في خصوص صلاة الصبح، فكيف يصح استثناؤها؟! فالحق أن الحديث لم يرد من أجل التحديد، بل لإنكار إخراج الصلاة عن وقتها مطلقًا. اهـ. قلت (أبو مالك): وأما حديث عائشة «حتى ذهب عامة الليل ....» فالمراد بعامة الليل: كثير منه وليس المراد أكثرهُ، ولابد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه لوقتها» ولا يجوز أن يكون المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل، لأنه لم يقل أحد من العلماء: إن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل (¬1). فلا يبقى عند القائلين بامتداد وقت العشاء إلى الفجر (سواء للاختيار أو الضرورة) إلا حديث أنس: «أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلَّى ...» (¬2) فإن صح حمله على أنه انتهى من الصلاة نصف الليل، ويكون قوله (ثم صلَّى) من تصرَّف الرواة، وإلا فالقول قولهم، والله أعلم. ويستحب تأخير العشاء: قد ورد في تأخير العشاء أخبار كثيرة صحاح، وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين (¬3)، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» (¬4) والحكمة فيه أنه أنفع في تصفية الباطن من الأشغال المُنْسية لذكر الله تعالى، وأقطع لمادة السمر بعد العشاء، لكن التأخير ربما يفضي إلى تقليل الجماعة، وتنفير القوم، فلهذا: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخِّر العشاء أحيانًا، وأحيانًا يعجِّل: إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطأوا أخَّر ...» (¬5). ويكره النومُ قبلها والحديثُ بعدها: لحديث أبي برزة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها» (¬6) والعلة في كراهة النوم قبل صلاة ¬

(¬1) «شرح مسلم» للنووي. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (572). (¬3) «تبيين الحقائق» للزيلعي (1/ 84). (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (167)، وابن ماجه (691)، وأحمد (2/ 245). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (560)، ومسلم (233) من حديث جابر. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (568)، ومسلم (237).

العشاء خشية أن يذهب به النوم فيفوته وقتها، أو يترخَّص الناس في ذلك فيناموا عن إقامة جماعتها (¬1). وأما كراهة الحديث بعدها، فلأنه ربما يؤدى إلى سهر يفوت به الصبح، أو لئلا يقع في كلامه لغو، فلا ينبغي ختم اليقظة به، أو لأنه يفوت به قيام الليل لمن له به عادة، ولتقع الصلاة التي هي أفضل الأعمال خاتمة عمله، والنوم أخو الموت، وربما مات في نومه (¬2). وهذا إذا كان الحديث مما لا فائدة فيه، فإن كان لحاجة دينية عامة أو خاصة، أو لما يعود على صاحبه بفائدة أو إلى مصالح المسلمين، فهذا لا بأس به، فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر وعمر في أمر من أمور المسلمين» (¬3). وفي حديث ابن عابس أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث مع أهله -ميمونة- ساعة ثم رقد ...» (¬4). [5] صلاة الفجر: الفجر في الأصل: هو الشفق، والمراد به ضوء الصباح، والفجر في آخر الليل كالشفق في أوله. والفجر اثنان (¬5): الفجر الأول (الكاذب) وهو البياض المستطيل الذي يبدو في ناحية من السماء -وهو ما يسمى عند العرب بذنب السرحان (الذئب) - ثم ينكتم فيعقبه الظلام. والفجر الثاني (الصادق): وهو البياض المستطير المعترض في الأفق، ولا يزال يزداد نوره حتى تطلع الشمس، وفي الحديث: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق» (¬6). وهذا الفجر الثاني هو الذي تتعلق الأحكام كلها به، لا الأول الكاذب. ويطلق الفجر على صلاة الفجر لأنها تؤدى في هذا الوقت، وتسمى صلاة الصبح والغداة. ¬

(¬1) «تبيين الحقائق» (1/ 84)، و «الفواكه الدواني» (1/ 197)، و «نيل الأوطار» (2/ 18). (¬2) السابق، و «المجموع» (3/ 42)، و «مغنى المحتاج» (1/ 125). (¬3) أخرجه الترمذي (169)، وأحمد (1/ 26) وفيه انقطاع، وله شواهد. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (190). (¬5) «البدائع» (1/ 122)، و «مغنى المحتاج» (1/ 124)، و «الفواكه» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 255). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1094)، والترمذي (706) واللفظ له، وأبو داود (2346)، والنسائي (2171) وغيرهم.

أول وقت الفجر: أجمع أهل العلم على أن أول وقت صلاة الصبح: طلوع الفجر الصادق. آخر وقت الفجر: وأجمعوا على أن آخر وقتها طلوع الشمس. يستحب التبكير بصلاة الصبح (التغليس): ذهب جمهور العلماء منهم: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور (¬1)، إلى أن أداء صلاة الفجر بغلس أفضل من الإسفار بها (¬2)، وهو روي عن الخلفاء الأربعة وابن مسعود، وحجتهم: (أ) أن الأخبار قد دلَّت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغَلس، ومن ذلك: 1 - حديث عائشة قالت: «كُنَّ نساءُ المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، متلفعات بمروطهنَّ ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحدٌ من الغَلَس» (¬3). 2 - حديث أبي برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح ثم ينصرف، وما يعرف الرجل منا جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة» (¬4). 3 - حديث أنس عن زيد بن ثابت قال: «تسحَّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قُمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان مقدار ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية» (¬5). والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة وهي قراءة الخمسين آية هي مقدار الوضوء، فأشعر ذلك بأنه صلاها في أول وقت الصبح. 4 - حديث أبي مسعود الأنصاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلىَّ صلاة الصبح مرةً بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر» (¬6). ¬

(¬1) «المدونة» (1/ 56)، و «الأوسط» (2/ 377)، و «مغنى المحتاج» (1/ 125)، و «المغنى» (1/ 394)، و «شرح السنة» للبغوي (1/ 197). (¬2) الغلس: اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل، والإسفار: ضوء الصباح. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (578)، ومسلم (230). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (541)، ومسلم (1097). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (576)، ومسلم (47). (¬6) حسن: أخرجه أبو داود (394)، وأصله في الصحيحين بدون قوله (ثم كانت صلاته ...).

(ب) أن التبكير بها داخل في عموم الأدلة على استحباب تعجيل الصلوات في أول أوقاتها، وسيأتي بعضها قريبًا. (جـ) أن التبكير بها هو فعل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم (¬1). (د) أن بعض العلماء -كالشافعي وأحمد- يحملون معنى الإسفار على تيقن طلوع الفجر وتبيينُّه، فلما احتمل الإسفار المعنيين كانت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحتمل إلا معنى واحدًا أولى. وذهب الثوري وأبو حنيفة وصاحباه إلى أن الإسفار أفضل (¬2)، واحتجوا بما يلي: 1 - حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» (¬3) وأجاب ابن حبان عنه فقال: «أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (أسفروا) في الليالي المقمرة التي لا يتبين فيها وضوح طلوع الفجر، لئلا يؤدي المرء صلاة الصبح إلا بعد التيقُّن بالإسفار بطلوع الفجر، فإن الصلاة إذا أُديت كما وصفنا كان أعظم للأجر من أن تُصلىَّ على غير يقين من طلوع الفجر» اهـ (¬4). 2 - حديث ابن مسعود في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة وفيه: «وصلىَّ الفجر يومئذ قبل ميقاتها [بغلس] ....» الحديث. قالوا: فاعتبروا صلاته صلى الله عليه وسلم الفجر بغلس قبل وقتها المعروف عند ابن مسعود، فيكون وقتها المعهود الإسفار. قلت: وهذا ليس صريحًا في الدلالة، فكونه صلى الفجر بغلس قبل موعده المعهود، لا ينافي أن يكون المعهود الغلس كذلك لكن متأخر عن هذا، ثم إنه يحتمل أن يكون قوله (قبل ميقاتها) على ظاهره!! وقد جمع الطحاوي -رحمه الله، وهو حنفي- بين أدلة التغليس والإسفار بأن يدخل في الصلاة مغلسًا، ويطول القراءة حتى ينصرف عنها مسفرًا (¬5). قلت: وهذا فعل حسن، لكن يقوى مذهب الجمهور بتفضيل تعجيلها بغلس إذ الخلاف في وقت الدخول في الصلاة لا الخروج منها والله أعلم. ¬

(¬1) انظر الآثار عنهم في «الأوسط» لابن المنذر (2/ 374 - وما بعدها) وورد الإسفار كذلك عن علي وعثمان. (¬2) «تبيين الحقائق» للزيلعي (1/ 82)، و «شرح معاني الآثار» (1/ 184)، و «الأوسط» (2/ 377). (¬3) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (424)، والترمذي (154)، والنسائي (1/ 272)، وابن ماجه (672). (¬4) «صحيح ابن حبان (4/ 359 - الإحسان). (¬5) «شرح معاني الآثار» (1/ 184).

مسائل تتعلق بمواقيت الصلاة

مسائل تتعلق بمواقيت الصلاة [1] الوقت أوكد فرائض الصلاة: فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (¬1). ولهذا لم يَجُزْ تأخير الصلاة عن وقتها، ولو لجنابة أو حدث أو نجاسة في الثوب، ولا لفقدان ما تُستر به العورة، ولا غير ذلك، -على الصحيح- بل يصلى في الوقت بحسب حاله (¬2). وقد امتدح الله تعالى المحافظين على مواقيت الصلاة، فقال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} (¬3). {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (¬4). قال ابن مسعود: «ذلك على مواقيتها» (¬5). بل جعل الصلاة في وقتها أفضل الأعمال، وأحبها إليه سبحانه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ (وفي رواية: أفضل؟) قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أيُّ؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أيُّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» (¬6). وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من متابعة الأمراء على تأخير الصلاة -عن وقتها المختار- فعن أبي ذرِّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يُميتون الصلاة (أو يؤخرون الصلاة عن وقتها)؟» قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة» (¬7). وبيَّن أنس بن مالك رضي الله عنه أن تأخير الصلاة عن وقتها المختار [لغير عذر] خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تضييع للصلاة، فعن الزهري قال: دخلت على أنس ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 103. (¬2) وهذا اختيار شيخ الإسلام في «الفتاوى» (22/ 30) وعزاه لجماهير أهل العلم، وانظر «الفروع» (1/ 293)، و «الأم» (1/ 79)، و «المجموع» (1/ 182). (¬3) سورة المعارج، الآية: 23. (¬4) سورة المعارج، الآية: 34. (¬5) أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 386)، والطبراني كما في «المجمع» (7/ 129). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (648)، والترمذي (176)، وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (1007) بتحقيقي.

ابن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: «لا أعرف شيئًا مما أدركت [يعني: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم] إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَتْ» (¬1). قلت: فَحَرِيٌّ بمن لنفسه عنده قَدْرٌ وقيمة أن يحافظ على مواقيت الصلاة، وأن يؤديها في أول وقتها -إلا العشاء إذا لم تكن مشقَّة- عملاً بقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (¬2). وقوله تعالى {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (¬3). واقتداءً بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والله المستعان. [2] بمَ تُدرك الصلاة في الوقت؟ لأهل العلم في هذه المسألة قولان: الأول: تُدرك بتكبيرة الإحرام: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور من مذهب أحمد (¬4)، وحجتهم: 1 - أن إدراك جزء من الصلاة -وهو تكبيرة الإحرام- كإدراك الكل لأن الصلاة لا تتبعَّض (¬5). 2 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها» (¬6). قالوا: والسجدة جزء من الصلاة، فيقاس عليها تكبيرة الإحرام. الثاني: تُدرك بإدراك ركعة كاملة في الوقت: وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام (¬7)، وهو الراجح، لما يأتي: 1 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (¬8) وجملة (من أدرك ...) شرطية ومفهومها أن من أدرك دون ركعة فإنه لم يدرك، فالإدراك معلق بالركعة الكاملة فعدم اعتبارها إلغاء لما اعتبره الشارع، وتعليق الإدراك بالتكبيرة اعتبار لما ألغاه الشارع. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (530). (¬2) سورة البقرة، الآية: 148. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 61. (¬4) «المجموع» (3/ 49)، و «الأوسط» (2/ 348)، و «الإكليل» (1/ 304). (¬5) «المبدع» (1/ 353) لكن عند أبي حنيفة: تفسد صلاته إذا طلعت الشمس وقد بقيت ركعة من الصبح!! وهو خلاف الدليل. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (609)، وأحمد (6/ 78). (¬7) «مواهب الجليل» (1/ 408)، و «الدسوقي» (1/ 182)، و «الإنصاف» (1/ 439). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (580)، ومسلم (607).

2 - أما حديث «من أدرك سجدة ..» فالمراد بها: الركعة الكاملة من باب تسمية الشيء ببعض أجزائه، يدل على هذا أنه قال مرة: «من أدرك ركعة ...» ومرة: «من أدرك سجدة ...» فدلَّ على أن المراد واحد وهو الركعة الكاملة، وقد قال ابن عمر: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها» (¬1) يعني: ركعتين، والله أعلم. من أدرك جزءًا من الوقت ثم جاءه عذر: إذا طرأ عذر -بعد دخول الوقت- كالجنون والإغماء والحيض والنفاس ونحو ذلك، فهنا حالتان: 1 - أن يكون مضى من وقت الصلاة دون قدر الفرض (ما يسع لأقل من ركعة كاملة) فلا يجب عليه القضاء بعد زوال العذر (¬2). 2 - أن يكون مضى من وقت الصلاة ما يتسع لركعة كاملة، ففي إلزامه بالقضاء قولان تقدما في أبواب «الحيض» (¬3)، واختار شيخ الإسلام أنه لا يلزمه القضاء، لأنه قد طرأ عليه العذر في وقت يجوز له تأخير الصلاة إليه، وهو غير مفروط ولا مُعتد، ولأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة بقضاء صلاة حاضت في وقتها مع كثرة حدوثه، وهذا قوي وإن كان الأحوط قضاؤها والله أعلم. [3] الأعذار لتأخير الصلاة عن وقتها: 1، 2 - النوم والنسيان: فمن نام عن الصلاة -أو نسيها- حتى خرج وقتها، فهو معذور، ويجب عليه أداء هذه الصلاة إذا استيقظ من نومه أو ذكرها، لحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» (¬4). ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -في سفر- فما أيقظهم إلا حر الشمس- وقد طلعت -فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في نوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1173). (¬2) «المجموع» (3/ 71). (¬3) انظر ما تقدم (1/ 209). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (597)، ومسلم (314 - 316).

فإذا كان من الغد فليصلها عند وقتها ...» الحديث (¬1). وفعل الصلاة في وقت الاستيقاظ أو ذكر الصلاة المنسية هو في الحقيقة أداء لا قضاء لأنه في الوقت الذي لا وقت لها سواه (¬2). تنبيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة المتقدم: «... فإذا كان من الغد فليصلها عند وقتها» اضطربت أقوال العلماء في معناه، والصحيح الذي عليه المحققون ما ذكره النووي «أن معناه: أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها، ويتحول في المستقبل بل يبقى كما كان، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد، وليس معناه أنه يقضي الصلاة الفائتة مرتين، مرة في الحال ومرة في الغد» (¬3) اهـ. 3 - الإكراه: فمن أكره على ترك الصلاة، ومُنع من الإيماء بها، أو أكره على التلبس بما ينافيها، فهو معذور (¬4)، [ويقضي إذا زال عذره] وأما إذا أمكنه الإيماء برأسه فتجب عليه الصلاة في الوقت، وليس عليه إعادتها على الصحيح. والله أعلم. 4 - الجمع بين الصلاتين لمن يجوز له الجمع: فمن جمع الصلاتين جمع تأخير فإنه يصلي الأولى في وقت الثانية، وهو في الحقيقة لا يقال: إنه (أخرها عن وقتها) إلا في الصورة، وإلا فإن وقتيهما في هذا الحالة وقت واحد، وسيأتي طرف من أحكام جمع الصلاتين، إن شاء الله تعالى. 5 - شدة الخوف: بحيث لا يتمكن من الصلاة بوجه من الوجوه ولا يقلبه، فلا حَرَج عليه حينئذ إذا فاته الوقت -في أحد قولي العلماء- لأنه لو صلى حينئذ لم يَدْر ما يقول وما يفعل لا سيما عند شدة منابذة العدو، وعليه يحمل تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر في غزوة الخندق حتى غربت الشمس (¬5). ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) انظر «السيل الجرار» (1/ 188). (¬3) «شرح مسلم» للنووي (2/ 988 - قلعجي). (¬4) «المجموع» (3/ 67)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 200)، و «الأشباه والنظائر» (208). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (598)، ومسلم (631)، وانظر «الشرح الممتع» (2/ 23)، و «نيل الأوطار» (2/ 36).

وقد ورد عن أنس: «أنه اشتدت الحرب غداة فتح تُسْتَر، فلم يصلوا إلا بعد طلوع الشمس» (¬1). [4] من صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها: إذا بلغ الصبي، أو عقل المجنون، أو أفاق المغمى عليه، أو طهرت الحائض والنفساء، قبل خروج وقت الصلاة بمقدار ركعة أو أكثر، لزمهم أداؤها، وهل يلزمهم أداء ما يجمع إليها قبلها؟ يتضح بالمثال الآتي: إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس أو قبل طلوع الفجر: فلأهل العلم في شأنها ثلاثة أقوال: الأول: إذا طهرت قبل الغروب لزمها الظهر والعصر، وإن طهرت قبل الفجر لزمها المغرب والعشاء: وهو مروي عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبي هريرة وهو مذهب طاوس والنخعي ومجاهد وربيعة ومالك والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور وإسحاق، وهم الجمهور (¬2)، وحجتهم: 1 - ما رُوي عن عبد الرحمن بن عوف قال: «إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس صَلَّت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع الفجر صلَّتْ المغرب والعشاء» (¬3). 2 - ما رُوى عن ابن عباس قال: «إذا طهرت قبل المغرب صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلَّت المغرب والعشاء» (¬4) ونُقل نحوه عن أبي هريرة. ¬

(¬1) أورده ابن حزم في «المحلى» (2/ 244) وأعله برواية مكحول عن أنس، قال: ومكحول لم يدرك أنسًا. اهـ. قلت: أثبت أبو حاتم الرازي -كما في «المراسيل» لابنه (1/ 211) - والترمذي -كما في «تهذيب التهذيب» (1/ 290) - سماع مكحول من أنس، فإن لم يكن في الإسناد غير هذا فهو صحيح، والله أعلم. (¬2) «اختلاف العلماء» (ص 380)، و «الأوسط» (2/ 243)، و «مسائل أحمد» لابن هانئ (1/ 131)، و «بداية المجتهد» (1/ 133). (¬3) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 336)، وعنه ابن المنذر (2/ 243)، وعبد الرزاق (1285). (¬4) إسناده ضعيف: أخرجه الدارمي (889)، وابن أبي شيبة (2/ 337)، وابن المنذر (2/ 244).

3 - أن الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، يجمعان في حال العذر في وقت إحداهما، فإذا طهرت في آخر النهار فوقت الظهر باقٍ فتصليها قبل العصر، وإذا طهرت في آخر الليل فوقت المغرب باقٍ في حال العذر فتصليها قبل العشاء (¬1). الثاني: إذا طهرت في وقت العصر لزمها العصر وليس عليها الظهر: وهو مذهب الحسن وقتادة والثوري وأبي حنيفة (¬2)، وحجتهم: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» قالوا: و (ال) في قوله (الصلاة) للعهد، أي: أدرك الصلاة التي أدرك من وقتها ركعة، وأما التي قبلها فلم يدرك من وقتها شيئًا، وقد مضى وقتها ولم يكن أهلاً للوجوب، فكيف نلزمه؟! (¬3). 2 - أنه لا خلاف أن التارك للصلاتين حتى إذا كان قبل غروب الشمس بركعة ذهب ليجمع بينهما فصلى ركعة قبل غروب الشمس وسبع ركعات بعد ما غربت عاصٍ لله تعالى مذموم، إذا كان قاصدًا في غير حال عذره، فغير جائز أن يُجعلَ حكُم الوقت الذي أبيه فيه الجمع بين الصلاتين حكم الوقت الذي حُظر فيه الجمع بينهما (¬4). 3 - أننا متفقون على أنه لو أدرك ركعة من صلاة الظهر ثم وجد مانع التكليف، لم يلزمه إلا قضاء الظهر فقط، مع أن وقت الظهر وقت للظهر والعصر حال العذر والجمع، فما الفرق بين المسألتين؟! فإن قالوا: فرقنا للآثار عن الصحابة، فيقال: آثارهم -إن صحت- محمولة على سبيل الاحتياط فقط خوفًا من أن يكون المانع قد زال قبل أن يخرج وقت الأولى، ولا سيما الحيض، فإن الحيض قد لا تعلم الحائض بطهرها إلا بعد مدة من طهارتها (¬5). الثالث: إذا طهرت قبل الغروب بوقت يتسع للصلاتين صلت الظهر والعصر، وإن لم يتسع إلا لواحدة لزمها العصر فقط: وهو قول مالك والأوزاعي (¬6). ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى»، وانظر «شرح العمدة» لابن تيمية (المجلد الثاني). (¬2) «اختلاف العلماء» (ص: 380)، و «الأوسط» (2/ 245)، و «الأصل» (1/ 330). (¬3) «الشرح الممتع» (2/ 130). (¬4) «الأوسط» لابن المنذر (2/ 245). (¬5) «الشرح الممتع» لابن عثيمين (2/ 130) بتصرف يسير. (¬6) «الأوسط» (2/ 246)، و «بداية المجتهد» (1/ 133).

الراجح: الذي يظهر لي أن القول الثاني هو الأقوى، والأول أحوط، ولابد من المصير إلى الثالث إذا ضاق الوقت والله أعلم. [5] إذا لم يصلِّ الصلاة حتى خرج وقتها بغير عذر: ففي حكم قضاء هذه الصلاة قولان للعلماء: الأول: أنه يجب عليه قضاؤها: وهو مذهب جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، حتى ادَّعى النووي الإجماع عليه (¬1) -ولا يصح- وجملة ما استدلوا به: 1 - الأحاديث الواردة بوجوب القضاء على الناسي، قالوا: يُستفاد من مفهوم خطابها وجوب القضاء على العامد من باب أولى. وأُجيبَ عنه: بأن القائل بأن العامد لا يقضي لم يرد أنه أخف حالاً من الناسي، بل إن المانع من وجوب القضاء على العامد أنه لا يسقط عنه الإثم فلا فائدة فيه، فيكون إثباته مع عدم النص عبثًا بخلاف الناسي والنائم فقد أمرهم الشارع بذلك، وصرَّح بأن القضاء كفارة لهما، لا كفارة لهما سواه (¬2). ثم إن القياس إنما هو قياس الشيء على نظيره، لا على ضده، وهذا لا خلاف فيه، والعمد ضد النسيان، والمعصية ضد الطاعة، فكيف تقاس عليها؟! (¬3). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم في قضاء النائم والناسي: «لا كفارة لها إلا ذلك»، قالوا: يدل على أن العامد مراد بالحديث، لأن النائم والناسي لا إثم عليهما، فالمراد بالناسي التارك. وأُجيب عنه: بأن هذا الكلام يستلزم عدم وجوب القضاء على النائم والناسي لعدم الإثم الذي جعلوا الكفارة منوطة به، والأحاديث الصحيحة صرَّحت بوجوب ذلك عليهما!! ثم إن الكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد، وهذا واضح. 3 - القياس على وجوب القضاء على من أفطر عمدًا في رمضان كالمجامع في نهار رمضان. ¬

(¬1) «العناية» (1/ 485 - مع فتح القدير)، و «الدسوقي» (1/ 264)، و «المجموع» (3/ 71)، و «الإنصاف» (1/ 342)، و «الممتع» (2/ 133). (¬2) «نيل الأوطار» (2/ 32). (¬3) «المحلى» (2/ 237)، وفيه بحث رائق في الرد على القائلين بوجوب القضاء.

وأجيب: بأن ثبوت القضاء على المجامع في نهار رمضان ضعيف، وقد أخرج البخاري ومسلم هذا الحديث بدون زيادة: «وصم يومًا مكان ما أصبت» (¬1) وهي ضعيفة لا تثبت. 4 - وقد يستدل لهم [ولم يستدلوا هم به] بحديث: «فدين الله أحق أن يقضى» (¬2). فيقال: سمى النبي صلى الله عليه وسلم العبادات (الحج والصيام) دينًا. ويُجاب عنه: بأنه يلزم من هذا أن يجيزوا الصلاة قبل وقتها!! فإن أداء الديون جائز قبل حلول أجلها، وسيأتي مزيد إيضاح في أدلة الفريق الآخر. الثاني: أنه لا يجب عليه قضاؤها، بل ولا تصح منه: وبه قال عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود [قال ابن حزم: ما نعلم لهم مخالفًا من الصحابة] والقاسم بن محمد وبديل العقيلي ومحمد بن سيرين ومطرِّف بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز، وداو الظاهري وابن حزم وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ثم العلامة الألباني وابن عثيمين (¬3) وهو الراجح، ومما يدل عليه: 1 - قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (¬4). فالصلاة عبادة مؤقتة بوقت محدود الطرفين، له أول وله آخر، فلا يجوز أداؤها قبل الوقت ولا بعد خروجه، لا فرق بينهما، إلا بنص يتضمن أمرًا جديدًا، كما في النائم والناسي وسائر أصحاب الأعذار، كالحج وصيام رمضان تمامًا. ومعلوم أنه إذا صلاها قبل الوقت متعمدًا فصلاته باطلة بالاتفاق، فكذلك لو صلاها بعد وقتها. 2 - قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬5). ¬

(¬1) انظر «مجموع الفتاوى» (22/ 40)، و «نصب الراية» (2/ 453)، و «التلخيص» (2/ 219). (¬2) صحيح: سيأتي في مواضع، إن شاء الله. (¬3) «المحلى» (2/ 235 - وما بعدها)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 40)، و «فتح الباري» لابن رجب كما في «الإنصاف» (1/ 443)، و «الممتع» (2/ 133)، و «نيل الأوطار» (2/ 31 - 32). (¬4) سورة النساء، الآية: 103. (¬5) سورة الماعون، الآيتان: 4، 5.

3 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (¬1). فلو كان العامد لترك الصلاة مدركًا لها بعد خروج وقتها لما كان له الويل، ولا لقي الغي، كما لا ويل ولا غَيَّ لمن أخرَّها إلى آخر وقتها الذي يكون مدركًا لها. 4 - حديث: «من نسي صلاة فليصلِّها إذا ذكرها ...» (¬2) دليل على أن العامد لا يقضي الصلاة -تمسكًا بدليل الخطاب- فإن (من نسي) شرط، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم أن من لم ينس لا يصلي. 5 - أن القضاء إيجاب شرع، والشرع لا يجوز إلا لله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجب القضاء إلا بأمر جديد -على الصحيح في الأصول- ولا دليل على الأمر بالقضاء، ولو كان القضاء واجبًا على العامد لترك الصلاة حتى يخرج وقتها، لما أغفل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك ولا نسياه ولا تعمدا إعناتًا بترك بيانه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (¬3). 6 - حديث: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِر أهله وماله» (¬4) فصحَّ أن ما فات فلا سبيل إلى إدراكه، ولو أدرك أو أمكن أن يُدرك لما فات كما لا تفوت الصلاة المنسية أبدًا، ولو أمكن قضاء المتروكة عمدًا لكان القول بأنها فاتته كذبًا وباطلاً!! 7 - يقال لمن أوجب قضاءها على العامد: هذه الصلاة التي تأمره بِفعلها، أهي التي أمره الله تعالى بها؟ أم هي غيرها؟ فإن قال: هي هي، قلنا لهم: فالعامد لتركها ليس عاصيًا لأنه فعل ما أمره الله تعالى ولا إثم على قولكم (!!) ولا ملامة على من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها (!!) وهذا لا يقوله مسلم. وإن قال: ليست هي التي أمره الله بها، قلنا: صدقت، وفي هذا كفاية إذا أقروا بأنهم أمروه بما لم يأمره به الله تعالى (¬5). قلت: وهذا القول هو الراجح، وليس مع المخالف ما يصلح للتعويل عليه، والله أعلم. ¬

(¬1) سورة مريم، الآية: 59. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) سورة مريم، الآية: 64. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) انظر «المحلى» (2/ 235 - وما بعدها)، و «الإحكام» لابن حزم (1/ 301).

قضاء الصلوات الفائتة

من ضيَّع الصلاة سنوات من عمره: يتفرَّع على القول بأن من ترك الصلاة متعمدًا لغير عذر حتى خرج وقتها، لا يجب عليه قضاؤها ولا تصح منه، أن من ضيَّع الصلاة زمانًا من عمره، ثم تاب إلى الله تعالى واستقام على دينه، فإنه لا يصلي ما فاته، سواء قلنا بكفره حال تركها أو لا، خلافًا للجمهور (¬1) فإنهم يوجبون عليه قضاء جميع الصلوات التي فاتته (!!!). وماذا على تاركها متعمدًا؟ إن الحكم على من ترك الصلاة حتى خرج وقتها من غير عذر، بعدم قضائها ليس تخفيفًا عليه، وإنما هو في الحقيقة تنكيل به وسخط لفعله، فالإثم لا يسقط عنه وإن صلاَّها ألف مرة بعد وقتها، إلا أن يتوب إلى الله تعالى ويستغفره، فهذا الذي يلزمه: التوبة والاستغفار، والإكثار من فعل الخير وصلاة التطوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضة شيئًا قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك» (¬2). قضاء الصلوات الفائتة القضاء لغة: الحكم والأداء، واصطلاحًا: فعل الواجب بعد وقته (¬3). والفائتة: الصلاة التي خرج وقتها المحدد لها. وقد حققنا أنه لا يُقضى من الصلوات إلا ما خرج وقتها بعذر، خلافًا لجمهور العلماء الذين يقولون بأن العبادات المحددة بوقت تفوت بخروج الوقت المحدد لها من غير أداء، وتتعلق بالذمة إلى أن تقضي، من غير تفريق بين المعذور وغيره. هل يجب قضاء الفائتة على الفور؟ يجب على من فاتته الصلاة [بعذر شرعي] أن يقضيها على الفور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في النائم والناس: «فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» فهذا أمر ¬

(¬1) «ابن عابدين» (2/ 62)، و «الدسوقي» (1/ 264)، و «مغنى المحتاج» (1/ 308). (¬2) تقدم الكلام عليه، وانظر «المحلى» (2/ 235)، و «الفتاوى» (22/ 40 - 41)، و «تحفة الأحوذي» (2/ 463). (¬3) «المصباح المنير»، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 487).

وهو للوجوب الفوري، والمراد بالفور: الفور العادي بحيث لا يُعَدُّ مفرطًا، وهذا مذهب المالكية والحنابلة (¬1). وذهب الحنفية والشافعية إلى استحباب الفور وجواز التراخي في القضاء (¬2)، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما استيقظوا من النوم بعد طلوع الشمس، لم يصلوا إلا بعد ارتحالهم إلى مكان آخر؟! وأُجيب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علَّلَّ ذلك بقوله: «ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان ...» (¬3). فكان المانع من الصلاة أنه مكان حضره الشيطان، فلا يدل على مشروعية التراخي في القضاء. وعلى هذا، فلو استيقظ شخص بعد طلوع الشمس، فلا يجوز له أن يعاود النوم حتى يصلي فإنه وقتها، والله أعلم. الترتيب في قضاء الفوائت: عن جابر بن عبد الله «أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسبُّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله، ما كِدْتُ أصلِّي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما صلَّيْتُها» فتوضأ وتوضأنا، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلَّى بعدها المغرب» (¬4). وعن أبي سعيد قال: حُبسْنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهويٍّ من الليل كُفينا، وذلك قول الله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} (¬5). قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أره فأقام المغرب فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام المغرب فصلاها كذلك، قال: وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (¬6). ¬

(¬1) «الشرح الصغير» (1/ 3665)، و «كشاف القناع» (1/ 260). (¬2) «حاشية ابن عابدين» (2/ 74)، و «المجموع» (3/ 69). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (680)، والنسائي (1/ 80) عن أبي هريرة. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (568)، ومسلم (209). (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 25. (¬6) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 297)، وأحمد (3/ 25)، وابن خزيمة (996)، وأبو يعلى (1296).

وفيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الفوائت مرتبة، فقال الجمهور (¬1) يجب الترتيب في قضاء الفوائت على اختلاف بينهم في تفاصيل، واستدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن توقيت المقضية بوقت الذكر أضيق من توقيت المؤداة، فيجب تقديم ما تضيق. وقال الشافعي (¬2): يستحب ولا يجب، لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمجرده لا يدل على الوجوب. ما يسقط به الترتيب. 1 - ضيق وقت الصلاة الحاضرة (¬3): فإنه يُسقط الترتيب، لأن فرض الوقت آكد من فرض الترتيب، فيصلي الصلاة الحاضرة ثم يقضي الفائتة، وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وبه قال ابن المسيب والحسن والأوزاعي والثوري وإسحاق، وعند الشافعي لا يجب الترتيب أصلاً كما تقدم. وأما المالكية -ورواية عن أحمد وعطاء والليث- فقالوا: يرتب وإن خرج وقت الحاضرة؟!! قلت: والأول أظهر، لا سيما وأن إيجاب الترتيب أصلاً منازع فيه. 2 - فوات الجماعة: فمن فاتته الظهر -مثلًا- فخشي إن قضاها أن تفوته جماعة العصر، سقط الترتيب فيصلي مع الجماعة العصر، ثم يقضي الظهر بعدها، وهذا رواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام (¬4). وله أن يدخل معهم في جماعة العصر بنية الظهر -بناء على جواز اختلاف نية المأموم عن الإمام وسيأتي تحريره- ثم يصلي بعدها العصر، ولعلَّ الأول أظهر والله أعلم. 3 - فوات ما لا يمكن قضاؤه على وجه الانفراد كصلاة الجمعة: فلو ذكر أن ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 131)، و «الشرح الصغير» (1/ 367)، و «المغنى» (1/ 607)، و «نيل الأوطار» (2/ 36). (¬2) «روضة الطالبين» (1/ 269). (¬3) «البناية» (2/ 628)، و «المغنى» (1/ 610)، و «الإنصاف» (1/ 444)، و «الخرشي» (1/ 301)، و «الأوسط» (2/ 415). (¬4) «الإنصاف» (1/ 444 - 445).

عليه فائتة بعد إقامة صلاة الجمعة، فإنه يقدِّم الجمعة، لأنه لا يستطيع أن يقضي الجمعة، فيكون فواتها كفوات الوقت، وهو رواية عن أحمد (¬1). 4 - النسيان: فلو صلى الفوائت بغير ترتيب ناسيًا، فلا شيء عليه، لعموم قوله تعالى {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} (¬2). وفي الحديث أن الله تعالى قال: «نعم» (¬3) وفي رواية «قد فعلت». ولحديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬4). وإلى هذا ذهب الحنفية والحنابلة في المذهب خلافًا لمالك ورواية عن أحمد (¬5). 5 - الجهل: فمن جهل وجوب الترتيب فصلى غير مرتبة، فلا شيء عليه، لأن الجهل أخو النسيان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا رواية عن أحمد واختيار شيخ الإسلام، وبه قال الحنفية (¬6). قضاء الصلاة الفائتة على صِفَتِها: ذهب الحنفية والمالكية -وقول عند الشافعية- وأبو ثور وابن المنذر (¬7) أن الاعتبار في صفة الصلاة المقضية بوقت الفائتة، ليكون القضاء على وفق الأداء. فمن نسي صلاة العشاء -وهي جهرية- فلم يذكرها إلا نهارًا، قضاها جهرًا على أصلها. والعكس، ويستدل لهم بحديث أبي سعيد المتقدم في قصة الخندق، وفيه: «فأقام الظهر فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ....» (¬8) الحديث وقد كان هذا بعد المغرب. وأما الحنابلة، والصحيح عند الشافعية أن الاعتبار بوقت القضاء! وإذا نسي الصلاة في الحضر فذكرها في السفر: فإنه يصليها تامة غير مقصورة ¬

(¬1) «السابق» (1/ 444)، و «الممتع» (2/ 141). (¬2) سورة البقرة، الآية: 286. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (125). (¬4) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجه (2045) وغيره وانظر «الإرواء» (82). (¬5) «البناية» (2/ 629)، و «المغنى» (1/ 609)، و «الخرشي» (1/ 301). (¬6) «الإنصاف» (1/ 445)، و «البناية» (2/ 629). (¬7) «مجمع الأنهر» (1/ 164)، و «الشرح الصغير» (1/ 365)، و «روضة الطالبين» (1/ 269) و «اختلاف العلماء» (ص: 60). (¬8) صحيح: تقدم قريبًا.

الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

على أصلها، على المذهب الأول، ووافقهم على هذا -هنا- الشافعي وأحمد (¬1)، وخالفا في عكسه فقالا: إذا نسي صلاة السفر فذكرها في الحضر صلاَّها تامة كذلك. قضاء السنن الرَّواتب: يُشرع قضاء السنن الرواتب إذا فات وقتها في أصح أقوال العلماء، وهو مروي عن ابن عمر، وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن والمزني وغيرهم (¬2)، وسيأتي بيانه مفرقًا في مواضعه في «صلاة التطوع» إن شاء الله تعالى. الأذان والإقامة، والجماعة في الفائتة: يُشرع لمن فاتته صلاة وأراد قضاءها أن يؤذن ويقيم، وإن فاتت جماعة أن يصلوا المقضية جماعة، لحديث أبي قتادة -في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لبلال: «قُم فأذن الناس بالصلاة» فلما طلعت الشمس وابيضتَّ، قام فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). وفي لفظ حديث ابن مسعود: «فأمر بلالاً فأذَّن، ثم أقام فصلَّى بنا» (¬4). وهذا مذهب جمهور العلماء. الأوقات المنهي عن الصلاة فيها 1، 2 - صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس قيد رمح، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس: فقد ثبت النهي عن صلاة التطوع في هذين الوقتين، والأصل في هذا: (أ) حديث ابن عباس قال: «شهد عندي رجال مرضيون -وأرضاهم عند عمر رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس» (¬5). ¬

(¬1) «الأم» (1/ 161)، و «المجموع» (4/ 249)، و «المغنى» (1/ 570)، و «اختلاف العلماء» (ص 60). (¬2) «روضة الطالبين» (1/ 337)، و «الإنصاف» (2/ 178)، وانظر المذاهب الأخرى في «نيل الأوطار» (3/ 44 - 34). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (595)، وأبو داود (439)، والنسائي (2/ 105). (¬4) حسن: أخرجه أحمد (1/ 450)، وابن حبان (1580). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (581)، ومسلم (826).

(ب) حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس» (¬1). 3 - وقت الزوال (عند قائم الظهيرة): لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّف (¬2) الشمس للغروب حتى تغرب» (¬3). علة النهي: وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم علة النهي عن الصلاة في هذه الأوقات بقوله لعمرو بن عبسة: «صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تُسجَّر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار» (¬4). ما يستثنى من النهي: [1] عند الظهيرة يوم الجمعة: فإنه يستحب للمرء التنفل مطلقًا قبل صلاة الجمعة حتى يخرج الإمام، فإذا خرج امتنع من صلاة التطوع، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، فيتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهن، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام -إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (¬5). وبهذا قال الشافعي -رحمه الله- مستدلاًّ بهذا الحديث وبحديث أبي هريرة: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (586)، ومسلم (827). (¬2) تضيَّف الشمس: تميل الغروب. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (831). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (832). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (883).

«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة» (¬1) لكنه ضعيف ويغني عنه ما ذكرت ولله الحمد. وللعلماء قولان آخران: الأول: أنه لا يكره الصلاة نصف النهار مطلقًا في الجمعة وغيرها على سواء، وهو مذهب مالك، وحجته عمل أهل المدينة، وهو مردود بالأحاديث المتقدمة. والثاني: أنه يكره الصلاة نصف النهار مطلقًا في الجمعة وغيرها، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد. ومذهب الشافعي أرجح، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬2). [2] صلاة ركعتي الطواف بالبيت الحرام: فلا مانع من إيقاع ركعتي الطواف في أوقات النهي المتقدمة لما يأتي: (أ) حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف، لا تمنعواأحدًا طاف بهذا البيت وصلَّى في أي ساعة شاء من الليل أو النهار» (¬3). (ب) أنه فعله ابن عباس والحسن والحسين وبعض السلف. (جـ) أن ركعتي الطواف تابعتان له، فإذا أبيح المتبوع ينبغي أن يباح التبع. وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وهو مروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء وطاوس وأبي ثور (¬4). [3] قضاء الفوائت في أوقات النهي: وقد اختلف أهل العلم في حكم قضاء الفائتة في أوقات النهي على قولين: الأول: لا يجوز في أوقات النهي: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحاب الرأي (¬5) وحجتهم: 1 - «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس أخرَّها حتى ابيضت الشمس» (¬6). ¬

(¬1) إسناده تالف: أخرجه الشافعي في «الأم» (1/ 226)، وعنه البيهقي (2/ 464). (¬2) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 378) ط. الرسالة. (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي (869)، والنسائي (1/ 284)، وابن ماجه (1254). (¬4) «الأم» (1/ 150)، و «المجموع» (4/ 72)، و «المغنى» (2/ 81). (¬5) «المبسوط» (1/ 150). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (344)، ومسلم (682) عن عمران بن حصين.

2 - أنها صلاة، فلم تجوز في هذه الأوقات كالنوافل. 3 - ما رُوي عن أبي بكرة رضي الله عنه «أنه نام في دالية، فاستيقظ عند غروب الشمس، فانتظر حتى غابت الشمس ثم صلاها» (¬1). 4 - ما رُوي عن كعب بن عجرة: «أن ابنه نام حتى طلع قرن الشمس فأجلسه، فلما أن تعالت الشمس قال له: صلِّ الآن» (¬2). الثاني: يجوز قضاء الفوائت في أوقات النهي وغيرها: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور الصحابة والتابعين (¬3)، وحجتهم: 1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» (¬4). 2 - حديث أبي قتادة مرفوعًا: «إنما التفريط في اليقظة على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها» (¬5). ففيهما الأمر بالصلاة حين ذكرها أو الاستيقاظ لها من غير استثناء لأوقات النهي. قلت: وهذا هو الراجح، وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة حتى ابيضَّت الشمس فهم لم يوقظهم إلا حر الشمس أصلاً، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن أن العلة أنه «مكان حضر فيه الشيطان» فجعل المانع من الصلاة المكان لا الزمان، والله أعلم. [4] قضاء السنن الرواتب في أوقات النهي: يجوز قضاء السنن الرواتب ولو في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها لما يأتي: (أ) حديث أم سلمة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر فسألته عن ذلك فقال: «يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، فإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان» (¬6). (ب) ما روي عن قيس بن عمرو قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر، فقال: «ما هاتان الركعتان يا قيس؟» قلت: يا ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 66)، وعبد الرزاق (2250). (¬2) إسناده ضعيف: ذكري الترمذي تعليقًا (1/ 158)، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 66). (¬3) «المدونة» (1/ 130)، و «الأم» (1/ 148)، و «المغنى» (2/ 80)، و «الأوسط» (2/ 411). (¬4) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (311) وغيره وقد تقدم. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (297).

رسول الله، لم أكن صليت ركعتي الفجر، قال: «فسكت عنه» (¬1) وفي رواية «فلم ينكر ذلك عليه». (جـ) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ...» وهذا مذهب مالك والشافعي (¬2). [5] الصلاة على الجنازة بعد الصبح والعصر: أجمع العلماء على جواز الصلاة على الجنازة بعد صلاة الصبح والعصر (¬3). ثم اختلفوا في إيقاعها في الأوقات المذكورة في حديث عقبة بن عامر: حين تطلع الشمس حتى ترتفع، وعند قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تتضيَّف الشمس للغروب حتى تغرب، على قولين: الأول: لا تجوز صلاة الجنازة في هذه الأوقات الثلاثة: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأكثر أهل العلم (¬4)، لحديث عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا ... فذكرها» (¬5). الثاني: يجوز صلاة الجنازة في جميع أوقات النهي: وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد (¬6) وحجة الشافعي أنها صلا ذات سبب فتستثنى من النهي. قلت: الأظهر أنها لا تجوز في هذه الأوقات الثلاثة لأجل النص، لأن فيه مع النهي عن الصلاة، النهي عن الدفن فيها فيتناول النهي عن الصلاة على الجنازة فيها، فيمنع استثناءها من النهي، ثم إن هذه الأوقات الثلاثة قصيرة وليس في الانتظار حتى تفوت ما يخشى منه والله أعلم. [6] الصلوات التي لها سبب: كتحية المسجد، وسنة الوضوء، وصلاة الكسوف ونحوها فهذه اختلف فيها العلماء على قولين: ¬

(¬1) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (1267)، والترمذي (422)، وأحمد (5/ 447) وهو مرسل وله طريق أخرى عند ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 391)، والحاكم (1/ 274)، والبيهقي (2/ 483) وبمجموعها يحسن الحديث. (¬2) «بداية المجتهد» (1/ 137)، و «الأم» (1/ 149). (¬3) نقله ابن قدامة في «المغنى» (2/ 82). (¬4) «المدونة» (1/ 190)، و «المبسوط» (1/ 152)، و «المغنى» (2/ 82)، و «معالم السنن» (1/ 313). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) «الأم» (1/ 150)، و «المجموع» (4/ 68).

الأول: لا تجوز في أوقات النهي: وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد (¬1). الثاني: يجوز، وهو مذهب الشافعي (¬2) والرواية الثانية عن أحمد، وحجتهم: 1 - أنه ثبت جواز ركعتي الطواف في كل وقت، وقد تقدم. 2 - ثبت جواز الصلاة عقيب الوضوء في أي وقت، كما في حديث بلال وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم له: أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام .... فقال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي» (¬3). 3 - قوله صلى الله عليه وسلم في الكسوف: «فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة» (¬4). 4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (¬5). 5 - ثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر كما تقدم. 6 - الإجماع على جواز الصلاة على الجنازة بعد الصبح والعصر. قالوا: فهذه كلها صلوات ذوات سبب وجاز فعلها مطلقًا، فتستثنى من النهي. قلت: ويُستدل لهذا المذهب كذلك بما يلي: 7 - حديث أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر، كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة (أو قال: يؤخرون الصلاة عن وقتها» قلت: فبما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها، فإذا أدركتها معهم فصلِّ فإنها لك نافلة» (¬6). وفي حديث ابن مسعود موقوفًا: «ستكون أمراء يسيئون الصلاة يخنقونها إلى شَرَق الموتى، (يعني: إلى آخر النهار) ...» (¬7) وذكر نحو حديث أبي ذر، فأجاز النافلة في وقت الكراهة للسبب المذكور. ¬

(¬1) «المبسوط» (1/ 152)، و «شرح فتح القدير» (1/ 204)، و «المغنى» (2/ 90). (¬2) «الأم» (1/ 149)، و «المجموع» (4/ 69). (¬3) صحيح: تقدم في «الوضوء». (¬4) صحيح: يأتي في «صلاة الكسوف». (¬5) صحيح: يأتي في «صلاة التطوع». (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (648)، وأبو داود (431)، وانظر «تعظيم قدر الصلاة» (1008) بتحقيقي. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (534) وغيره، وانظر «قدر الصلاة» (1015) بتحقيقي.

الأذان والإقامة

8 - حديث يزيد بن الأسود قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّته، فصليتُ معه صلاة الصبح في مسجد الخيف من منى، فلما قضى صلاته إذا رجلان في آخر الناس لم يصليا، فأُتي بهما ترعُد فرائضهما، فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» قالا: يا رسول الله، كنا قد صلينا في رحالنا، قال: «فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» (¬1) قال الخطابيُّ: وفي قوله: (فإنها نافلة) دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب. اهـ (¬2). قلت: وعلى ما تقدم فإن النهي عن الصلاة في الأوقات الواردة في النصوص خاص بمطلق التنفل من غير سبب، وبمن قصد تحرى الصلاة فيها، ويؤيده حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتحرَّى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها» (¬3). فائدة: أوقات النهي المتقدمة إنما هي ما كان النهي فيها متعلقًا بالأوقات الأصلية، وهناك أوقات أخرى نهى عن الصلاة فيها لتعلقها بأمر خارج عن أصل الوقت، وستأتي مفرقة في مواضعها في «صلاة التطوع» إن شاء الله. الأذان والإقامة التعريف (¬4): الأذان لغة: الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬5). أي: أَعْلمِهم به. وشرعًا: التعبد لله تعالى للإعلام بدخول وقت الصلاة بذكر مخصوص. والإقامة لغة: مصدر (أقام) من أقام الشيء إذا جعله مستقيمًا، ولها معان منها: الاستقرار والإظهار والنداء، وشرعًا: التعبد لله بالقيام للصلاة والشروع فيها لذكر مخصوص. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (219)، والنسائي (2/ 112) وغيرهما. (¬2) «معالم السنن» (1/ 165). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (585)، ومسلم (828). (¬4) «اللسان»، و «المصباح المنير»، و «شرح منتهى الإرادات» (1/ 122، و «الممتع» (35 - 36). (¬5) سورة الحج، الآية: 27.

أولاً: الأذان من فضائل الأذان: 1 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نوُدي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قُضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى» (¬1). 2 - عن أبي سعيد الخدري قال لابن أبي صعصعة: إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه «لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). 3 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا» (¬3). 4 - عن معوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رضي الله عنه: «المؤذِّنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة» (¬4). 5 - عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يعجب ربُّكم من راعي غنم في رأس شَظيَّة بجبل يؤذِّن بالصلاة، ويصلى فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة» (¬5). 6 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإمام ضامن، والمؤذِّن مؤتمن، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذِّنين» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (608)، ومسلم (389). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (608)، والنسائي (2/ 12). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (614)، ومسلم (437). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (387)، وابن ماجه (725)، وأحمد (4/ 95). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (1203)، والنسائي (2/ 20)، وأحمد (4/ 158). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (517)، والترمذي (207)، وأحمد (2/ 284 - 419)، وانظر «الإرواء» (1/ 231).

7 - الأذان أفضل من الإمامة: للأحاديث المتقدمة في فضل الأذان، ولأن «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن» والأمانة أعلى من الضمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد، وإنما لم يتولَّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون التأذين، لأن الإمامة كانت متعيِّنة عليهم، فإنها وظيفة الإمام الأعظم، ولم يمكن الجمع بينها وبين الأذان، لضيق وقتهم عنه، وانشغالهم بما هو أهم كتدبير شئون المسلمين، فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم، وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل. وهذا مذهب الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد واختاره أكثر أصحابه والمالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1). بدء مشروعية الأذان: شُرع الأذان بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، على الأصح، للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، ومن ذلك حديث ابن عمر: كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال قم فناد بالصلاة» (¬2). حكم الأذان: اتفقت الأمة الإسلامية على مشروعية الأذان، والعمل به جارٍ منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بلا خلاف. ثم اختلف أهل العلم في حكمه، هل هو واجب؟ أو سنة مؤكدة؟ والصحيح الذي لا ينبغي التردد فيه في مثل هذه العبادات العظيمة أن الأذان فرض كفاية، فليس لأهل مدينة أو قرية أن يدعوا الأذان والإقامة، ويستدل على ذلك بأمور: 1 - أن الأذان عبادة من أعظم شعائر الإسلام وأشهر معالم الدين، وقد وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله سبحانه إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليل ونهار وسفر وحر، ولم يسمع أنه وقع الإخلال بها أو الترخيص في تركها. ¬

(¬1) «المغنى» (1/ 402)، و «المجموع» (3/ 74)، و «مواهب الجليل» (1/ 422)، و «الاختيارات» (ص: 36). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (604)، ومسلم (377).

2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله علامة للإسلام ودلالة على التمسك به والدخول فيه، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا أغزى بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم» (¬1). 3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر به، فعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولأصحابه: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمَّكم أكبركم» (¬2). 4 - عن أنس بن مالك قال: «أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان ويُوتر الإقامة» (¬3). 5 - في حديث عبد الله بن زيد في رؤياه الأذان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها رؤيا حق، إن شاء الله، ثم أمر بالتأذين» (¬4). 6 - قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: «... واتَّخِذْ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» (¬5). 7 - عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ثلاثة [لا يؤَذَّن] ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان» (¬6) وهو دالٌّ على وجوب الأذان لأن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنُّبه. وقد ذهب إلى وجوب الأذان: مالك -في قول، وخصَّ الفرضية بمساجد الجماعات- وأحمد، وهو وجه عند الشافعية، وبه قال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود وابن حزم، واختاره ابن المنذر وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬7). بينما ذهب أبو حنيفة والشافعي، وهو قول عن مالك، إلى أنه سنة مؤكدة!! قلت: ولا شك أن الأول أرجح، ثم إن الحنفية -القائلين بأنه سنة- قد صرَّحوا بأنها كالواجب في لحوق الإثم (¬8)، فكأَّن الخلاف معهم لفظي والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (610)، ومسلم (382). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (605)، ومسلم (378). (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (499)، والترمذي (189)، وابن ماجه (706) وغيرهم. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (531)، والنسائي (672)، والترمذي (209)، وابن ماجه (714). (¬6) إسناده لين: أخرجه أبو داود (547)، والنسائي (847)، وأحمد (6/ 446) والزيادة له. (¬7) «الإنصاف» (1/ 407)، و «مواهب الجليل» (1/ 422)، و «روضة الطالبين» (1/ 195)، و «الأوسط» (3/ 24)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 64)، و «السيل الجرار» (1/ 196). (¬8) «ابن عابدين» (1/ 384)، و «فتح القدير» (1/ 240).

فوائد: 1 - الأذان على المسافرين: يجب الأذان على المسافرين إذا أرادوا الصلاة، كالحاضرين، لعموم الأدلة، وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك في الحضر والسفر، ولأن أمره صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وأصحابه بالأذان كان وهم مسافرون إلى أهليهم، وهذا هو الصواب خلافًا لمذهب الحنابلة والجمهور. 2 - الأذان للصلاة الفائتة: يجب الأذان للصلوات الخمس، سواء كانت مؤدَّاة أم مقضيَّة، وقد تقدم حديث نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -في سفرهم- عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بالأذان والإقامة، ويدل عليه كذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم ...». لكن ... لو نام جماعة عن الصلاة -في بلدة- حتى خرج وقتها، وقد أُذِّن في هذه البلدة، لم يجب عليهم الأذان اكتفاءً بالأذان العام في هذه البلدة، وسقطت به فريضة الأذان عنهم (¬1). 3 - حكم أذان النساء وإقامتهن (¬2) لا يجب على النساء أذان ولا إقامة، عند جماهير السلف والخلف، من الأئمة الأربعة والظاهرية، وقد ورد عن أسماء مرفوعًا: «ليس للنساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ...» (¬3). وهو ضعيف لا يصح، لكن لم يرد كذلك أمر النساء بالأذان أو الإقامة. ولا يجوز -بل لا يجزئ- أذان المرأة للرجال عند الجمهور خلافًا للحنفية، لأن الأذان للإعلام ويشرع له رفع الصوت، ولا يشرع للمرأة رفع صوتها، ولم يُسمع في أيام النبوة ولا في الصحابة ولا فيمن بعدهم أنه وقع التأذين المشروع الذي هو الإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الصلاة من امرأة قط. ثم اختلفوا في أذان النساء وإقامتهن إذا كُنَّ منفردات عن الرجال: فقيل: يُكرهان وقيل: يباحان، وقيل: يستحبان، وقيل: تستحب الإقامة دون الأذان. ¬

(¬1) أفاده في «الشرح الممتع» (2/ 41) وانظر ما تقدم في «قضاء الفائتة». (¬2) «المغنى» (1/ 422)، و «المجموع» (3/ 98)، و «البدائع» (1/ 135)، و «منح الجليل» (1/ 120)، و «الأوسط» (3/ 53)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا (1/ 299). (¬3) ضعيف: أخرجه البيهقي (1/ 408).

والذي يظهر أن النساء إذا كنَّ منفردات عن الرجال، فإذا أَذَّنَّ وأقَمْنَ فحسن، لأنهما ذكر لله تعالى، ولم يرد ما يمنع منهما، ولذا سئل ابن عمر: هل على النساء أذان؟ فغضب، وقال: «أَنْهى عن ذكر الله؟!!» (¬1). وعن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: كنا نسأل أنسًا: هل على النساء أذان وإقامة؟ قال: «لا، وإن فعلن فهو ذكر» (¬2). وهذا قول الشافعي ورواية عن أحمد، وإليه ذهب ابن حزم (¬3)، قال الشافعي: «ولا تجهر المرأة بصوتها، تؤذن في نفسها، وتسمع صواحباتها إذا أذَّنت، وكذلك تقيم إذا أقامت ...» اهـ. 4 - أذان المنفرد، والجماعة بمسجد صَلَّى فيه أهله: من صلى منفردًا ببلده أُذِّن بها، فإن اكتفى بأذانهم أجزأه، وإن أذَّن وأقام فقد أحسن لإدراك فضيلة الأذان، ولحديث أبي سعيد وعقبة بن عامر المتقدمين في «فضائل الأذان». وكذلك إذا فاتته الجماعة، وحضر في مسجد قد صلَّى فيه أهله، فإن اكتفى بأذانهم أجزأه، والأولى أن يؤذِّن ويقيم، كذا فعل أنس بن مالك: فعن أبي عثمان قال: أتانا أنس بن مالك في مسجد بني ثعلبة، فقال: قد صليتم؟ - وذلك صلاة الغداة - فقلنا: نعم، فقال لرجل: أذِّن، فأذَّن وأقام ثم صلى في جماعة (¬4). وبذا قال الشافعي وأحمد، وقال مالك والأوزاعي: يقيم ولا يؤذن، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤذن ولا يقيم (¬5). 5 - الأذان للصلاتين المجموعتين: إذا جُمعت صلاتان في وقت إحداهما كجمع العصر مع الظهر في وقت الظهر بعرفة، وكجمع المغرب مع العشاء بمزدلفة، فإنه يكتفي بأذان واحد، ويقام ¬

(¬1) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 223). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 223). (¬3) «الأم» (1/ 84)، و «المغنى» (1/ 422)، و «المحلى» (3/ 129). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 221). (¬5) «الأم» (1/ 84)، و «المغنى» (1/ 418)، و «المدونة» (1/ 61)، و «الأوسط» (3/ 60 - 62).

لكل صلاة بإقامة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم -وسيأتي في «الحج» - وبهذا قال الجمهور خلافًا للمشهور عند المالكية من أنه يؤذن لكل منهما!! (¬1). 6 - ما يُشرع له الأذان من الصلوات: اتفق أهل العلم على أن الأذان إنما شُرع للصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤذن لصلاة غيرها كالجنازة والوتر والعيدين وغير ذلك، لأن الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة، والمكتوبات هي المخصصة بأوقات معينة، والنوافل تابعة للفرائض، فجعل أذان الأصل أذانًا للتبع تقديرًا، أما صلاة الجنازة فليست بصلاة على الحقيقة، إذ لا قراءة فيها ولا ركوع ولا سجود. ومما ورد في ذلك حديث جابر بن سمرة قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة» (¬2). كيف يُعلن عن الصلوات التي لا أذان لها؟ ذهب الشافعي إلى أنه يُنادى لكل صلاة لا يؤذن لها بقوله: «الصلاةُ جامعة» ووافق الحنابلة في صلاة العيد والكسوف والاستسقاء، والحنفية والمالكية في الكسوف فقط (¬3)، قلت: والصواب أن يوقف في هذا مع النص فما ثبت فيه النص بالنداء بـ «الصلاة جامعة» استحب فعله وإلا لم يُشرع، وسيأتي بيانه مفرَّقًا في مواضعه، إن شاء الله تعالى. شروط الأذان: [1] دخول وقت الصلاة (عدا الفجر): يشترط للأذان أن يدخل وقت الصلاة المفروضة، فلا يصح الأذان قبل دخول الوقت -إلا في الفجر على ما سيأتي- ويستحب إذا دخل الوقت أن يؤذن في أوله، ليعلم الناس فيأخذوا أهبتهم للصلاة، فعن جابر بن سمرة قال: «كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس لا يَخْرمُ (¬4)، ثم لا يقيم حتى يخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام حين يراه» (¬5). ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 152)، و «المجموع» (3/ 83)، و «مواهب الجليل» (1/ 468)، و «المنع (2/ 41). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (887)، وأبو داود (1148)، والترمذي (532). (¬3) «ابن عابدين» (1/ 565)، و «المجموع» (3/ 77)، و «المواهب» (1/ 435)، و «كشاف القناع» (1/ 211). (¬4) أي: لا يترك شيئًا من ألفاظه. «نيل الأوطار» (2/ 57). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (606)، وأبو داود (537)، والترمذي (202)، وأحمد (5/ 91).

وأما الفجر ... فذهب مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف وابن حزم إلى أنه يُشرع الأذان للفجر قبل الوقت (قبل طلوع الفجر الصادق) (¬1) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» [قال: وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت] (¬2). فيكون هذا الأذان (الأول) لأجل إيقاظ النائم ليتأهب للصلاة، ولردِّ القائم المجتهد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطًا، وليتسحَّر إن كان له حاجة إلى الصيام، كما في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعنَّ أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل، ليرجع قائمكم، ويُوقظ نائمكم» (¬3). وقد استحب الجمهور الأذان الثاني عند دخول الوقت، ورأوا أنه يجوز الاكتفاء به للصلاة!! والصحيح ما ذهب إليه ابن المنذر وابن حزم من أنه لابد من الأذان الثاني الذي في الوقت لأنه الأصل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم» وهذا عام لا يستثنى منه شيء ولا يعارضه حديث «إن بلالاً يؤذن بليل» لأن هذا الأذان ليس لصلاة الفجر كما تقدم. بينما ذهب الثوري وأبو حنيفة (¬4) إلى أنه لا يؤذن للفجر إلا بعد طلوع الفجر الصادق، قياسًا على سائر الصلوات، ولما يُروى عن شداد مولى عياض بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر» (¬5) وهو ضعيف لا يصح. ولما يُروى عن ابن عمر أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: «ألا إن العبد نام» (¬6) وهو معلول عند أئمة الحديث لا تقوم به حجة. ¬

(¬1) «المدونة» (1/ 60)، و «الأم» (1/ 83)، و «مسائل أحمد» لعبد الله (58)، و «المجموع» (3/ 88)، و «الأوسط» (3/ 29)، و «المحلى» (3/ 160). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (617)، ومسلم (1092). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (621)، ومسلم (1093). (¬4) «المحلى» (3/ 163)، و «المجموع» (3/ 88)، و «الأوسط» (3/ 30)، و «المبسوط» (1/ 134). (¬5) ضعيف: أخرجه أبو داود (534)، وقد أعلَّه البيهقي بالانقطاع وقال ابن القطان: شداد مجهول، وانظر «نصب الراية» (1/ 283). (¬6) أعلَّه الأئمة: أخرجه أبو داود (532) وضعفه وكذا ضعفه الترمذي (203)، وأعلَّه أكابر الحفاظ بالوقف، وانظر «نيل الأوطار» (3/ 59)، و «سبل السلام» (1/ 125).

فأما قياسهم فهو في مقابل النصوص السابقة في إثبات الأذان قبل الفجر، وهي دالة على دوام ذلك من بلال، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهه فثبت جوازه بل استحبابه. وأما الأحاديث التي استدلوا بها فمعلولة لا تقوم بها حجة فضلاً عن أن تردَّ بها السنن الثابتة الصحيحة، والله أعلم. [2] نية الأذان: يشترط لصحة الأذان النية كسائر العبادات، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (¬1) فلو أخذ شخص في ذكر الله بالتكبير ثم بدا له عقب ما كبَّر أن يؤذن، فإنه يبتدئ الأذان من أوله ولا يبني على ما قال، وهذا مذهب المالكية والحنابلة (¬2). [3] أداؤه باللغة العربية (¬3): فيشترط كون الأذان باللفظ العربي، ولا يصح الإتيان به بأي لغة أخرى ولو علم أنه أذان، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، ونحوه مذهب الشافعية إلا أنهم قالوا: إن لم يوجد منهم من يحسن العربية أجزأهم بغيرها. [4] خلو الأذان من اللحن الذي يغيِّر المعنى (¬4): كمدِّ همزة (أكبر) أو بائه وغير ذلك مما يغير المعنى، وكذلك التمديد الزائد عن المطلوب في الأذان، فإن أحال المعنى أبطل الأذان وإلا كُره عند الجمهور خلافًا للحنفية. [5] ترتيب كلمات الأذان (¬5): فيشترط أن يأتي المؤذن بكلمات الأذان على نفش النظم والترتيب الوارد في السنة -والذي يأتي قريبًا- دون تقديم أو تأخير لكلمة أو جملة على الأخرى، فإن فعل المؤذن ذلك استأنف الأذان من أوله -عند الجمهور خلافًا للحنفية- لأن ترك الترتيب يخل بالإعلام المقصود، ولأنه ذكر يعتد به، فلا يجوز الإخلال بنظمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: تقدم مرارًا. (¬2) «مواهب الجليل» (1/ 424)، و «منتهى الإرادات»؛1/ 129). (¬3) «ابن عابدين (1/ 256)، و «كشاف القناع» (1/ 215)، و «المجموع» (3/ 129). (¬4) «ابن عابدين» (1/ 259)، و «منتهى الإرادات» (1/ 130)، و «المواهب» (1/ 438)، و «المجموع» (3/ 108). (¬5) «البدائع» (1/ 149)، و «مغنى المحتاج» (1/ 137)، و «الإرادات» (1/ 128)، و «المواهب» (1/ 425). (¬6) صحيح: علقه البخاري في «الاعتصام»، ووصله مسلم (1718) وغيره.

[6] الموالاة بين ألفاظ الأذان (¬1): وهي المتابعة بين ألفاظه بدون فصل بقول أو فعل، فإن كان الفصل يسيرًا كأن يعطس المؤذن في أثنائه فيبنى على ما مضى عند الجمهور، وأما لو طال الفصل بين كلمات الأذان بكلام كثير أو إغماء ونحوه فيبطل الأذان ويجب استئنافه من أوله، ولا يجوز أن يبنى غيره على أذانه، بل يستأنف. [7] إسماع غير الحاضرين (¬2): إما برفع الصوت أو باستعمال مكبِّر الصوت، ليحصل المقصود للأذان، فإن كان يؤذن لنفسه فلا يشترط رفع الصوت إلا بقدر ما يسمع نفسه أو يسمع الحاضر معه، وقد تقدم في حديث أبي سعيد: «.. فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: «علِّمه بلالاً فإنه أندى وأمدُّ صوتًا منك» (¬4). وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وقول عند الحنفية، وهو سنة عند المالكية والراجح عند الحنفية. هل يجزئ عرض الأذان من المذياع؟ (¬5) عرض الأذان من المذياع أو المسجل غير صحيح، لأنه عبادة، وقد سبق أنه أفضل من الإمامة، وكما أنه لا يصح أن يقتدي الناس في صلاتهم بصلاة مسجلة، فكذلك الأذان. والله أعلم. هل يجوز الكلام أثناء الأذان والإقامة؟ اختلف أهل العلم في حكم كلام المؤذن أثناء التأذين على أقوال (¬6): الأول: يجوز الكلام في الأذان مطلقًا: وبه قال الحسن وعطاء وقتادة وأحمد (إلا أنه منعه في الإقامة) وهو مروي عن سليمان بن صرد (من الصحابة) وعروة ابن الزبير، واحتجوا بما يلي: 1 - أن ابن عباس أمر مناديه يوم الجمعة في يوم مطير، لما بلغ: حي على ¬

(¬1) المراجع السابقة. (¬2) المراجع السابقة. (¬3) صحيح: تقدم في «فضائل الأذان». (¬4) حسن: تقدم في «حكم الأذان» وسيأتي. (¬5) «الشرح الممتع» (2/ 61 - 62) بمعناه. (¬6) «الأوسط» (3/ 43)، و «مسائل أحمد» لأبي داود (27)، و «المدونة» (1/ 59)، و «الأم» (1/ 85).

الصلاة، أن يقول: «الصلاة في الرحال، فقيل: ما هذا، قال: فعله من هو خير مني» (¬1). 2 - عن موسى بن عبد الله بن زيد أن سليمان بن صرد -وكانت له صحبة- «كان يؤذن في العسكر فيأمر غلامه بالحاجة وهو في أذانه» (¬2). الثاني: يكره الكلام أثناء الأذان والإقامة: وبه قال النخعي وابن سيرين والأوزاعي ومالك والثوري والشافعي وأبو حنيفة. الثالث: لا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في أذانه إلا كلامًا من شأن الصلاة نحو (صلوا في رحالكم)، وهو قول إسحاق واختاره ابن المنذر. الرابع: إن تكلم في الإقامة أعادها: وهو قول الزهري. صفات المؤذن: يستحب أن يتصف المؤذن بما يلي: 1 - أن يبتغي بأذانه وجه الله: فلا يأخذ أجرة على أذانه وإقامته، لأنَّ الاستئجار على الطاعة لا يجوز، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» (¬3). فإن لم يوجد متطوع، رَزَق الإمام (جعل راتبًا) من بيت المال من يقوم به، لحاجة المسلمين إليه. 2 - أن يكون عدلاً أمينًا: لأن «المؤذن مؤتمن» (¬4) أي: أمين على مواقيت الصلاة، وليؤمن نظره إلى العورات، ويصح أذان الفاسق مع الكراهة عند الجمهور، واختار شيخ الإسلام عدم إجزاء أذان ظاهر الفسق، لمخالفته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجه عند الحنابلة (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (616)، ومسلم (699) بنحوه. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 116 - فتح) ووصله ابن أبي شيبة (1/ 212، وابن المنذر (3) 44)، وأبو نعيم شيخ البخاري بسند صحيح كما في الفتح (2/ 116). (¬3) صحيح: تقدم في «حكم الأذان». (¬4) صحيح: تقدم في «فضائل الأذان». (¬5) «ابن عابدين» (1/ 263)، و «المواهب» (1/ 436)، و «مغنى المحتاج» (1/ 138)، و «المغنى» (1/ 413)، و «الاختيارات» (37).

3 - أن يكون صيِّتًا (حسن الصوت) (¬1): لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد «فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فإنه أندى صوتًا منك» (¬2). وعليه فيستحب استخدام أجهزة الصوتيات الحديثة لتحسين الصوت وإبلاغه، هذا مع كراهة التمطيط والتطريب. 4 - أن يكون عالمًا بالوقت: ليتمكن من الأذان في أوله، ويؤمن خطره، ويجوز لمن لا يعلم الوقت بنفسه -كالأعمى- أن يؤذن إذا كان معه من يخبره به، فقد «كان ابن أم مكتوم -وهو أعمى- لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت» (¬3). صفة الأذان: وردت ألفاظ الأذان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث كيفيات: الأولى: خمس عشرة جملة (تربيع التكبير، وتثنية بقية الألفاظ، ما عدا كلمة التوحيد الأخيرة فإنها منفردة): وهذه الكيفية ثابتة في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ليضرب به للناس في الجمع للصلاة أطاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به للصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى، قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر غير بعيد، قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال: إن هذا رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتًا منك. فقمت مع بلال فجعلت ألقنه عنه ويؤذن به، قال: فسمع بذلك عمر ¬

(¬1) «ابن عابدين» (1/ 259)، و «المواهب» (1/ 437)، و «مغنى المحتاج» (1/ 138)، و «منتهى الإرادات» (1/ 125). (¬2) حسن: تقدم مرارًا، ويأتي في «صفة الأذان». (¬3) صحيح: تقدم قريبًا.

ابن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل الذي أُرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد (¬1). وبهذه الكيفية أخذ أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه (¬2). الثانية: تسع عشرة جملة (كالسابقة مع زيادة الترجيع في الشهادتين): والترجيع هو: أن يخفض صوته بالشهادتين -مع إسماعه الحاضرين- ثم يعود فيرفع صوته بهما. وهذه الكيفية ثابتة في حديث أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: «الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله» ثم قال: «ارجع فامدد من صوتك» ثم قال: «قل: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ...» الحديث (¬3). وفي رواية عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة». وبهذه الكيفية أخذ الشافعي (¬4). الثالثة: سبع عشرة جملة (كالسابقة لكن بتثنية التكبير في أوله لا تربيعه): وهي رواية أخرى لحديث أبي محذورة السابق: «أن نبي الله علمه هذا الأذان: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة -مرتين- حي على الفلاح -مرتين- الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله» (¬5). لكن هذه الرواية معلولة لا تصح، إنما الصحيح تربيع التكبير كما تقدم. ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (499)، والترمذي (189)، وابن ماجه (706)، وانظر «الإرواء» (2/ 264). (¬2) «البدائع» (1/ 147)، و «المغنى» (1/ 404)، و «الأوسط» (3/ 16). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (500 - 503)، والترمذي (192)، والنسائي (2/ 4)، وابن ماجه (709). (¬4) «الأم» (1/ 85). (¬5) أعلَّ بهذا اللفظ. أخرجه مسلم (379) وغيره.

وبهذه الكيفية أخذ مالك وصَاحَبا أبي حنيفة (¬1). وقد رجَّح بعض العلماء تربيع التكبير (الكيفية الثالثة) في حديث أبي محذورة بأنها زيادة مقبولة لعدم منافاتها وصحة مخرجها، ولموافقتها لرواية «علمَّه الأذان تسع عشرة كلمة ...». ثم رجَّحوها على الكيفية الأولى (التي ليس فيها الترجيع) بأن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث ابن زيد في أول الأمر، وبأن عمل أهل مكة والمدينة على الترجيع (¬2). بينما ذهب آخرون إلى أن هذه الكيفيات كلها مباحة يخيَّر بين فعل أيٍّ منها، وهو قول أحمد (وإن اختار الأولى) وإسحاق، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3)، ولعلَّه أولى من الترجيح لأن القاعدة أن «العبادات الواردة على وجوه متنوعة فالأولى فعلها على هذه الوجوه» والله أعلم. التثويب في أذان الفجر: التثويب هو أن يقول المؤذن (الصلاة خير من النوم) مرتين بعد الحيعلتين (¬4) في أذان الفجر، وهو سنة عند الجمهور (¬5) لحديث أبي محذورة المتقدم وفيه: «... فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله» وفي لفظ «في الأولى من الصبح» (¬6). وقد ورد التثويب في الفجر من حديث بلال، وسعد القرظ، وأبي هريرة، وابن عمر، ونعيم النحام، وعائشة، وأبي محذورة، وفي أسانيدها مقال، وأفضلها الثلاثة الأخيرة، وهي بمجموعها تثبت مشروعية التثويب في أذان الفجر. ¬

(¬1) «المدونة» (1/ 57)، و «البدائع» (1/ 147). (¬2) «المحلى» (3/ 203 - 206)، و «الأوسط» (3/ 16)، و «نيل الأوطار» (2/ 45)، و «زاد المعاد» (2/ 389). (¬3) «مسائل أحمد» لأبي داود (27)، و «المغنى» (1/ 404)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 336 - 337)، و «الممتع» (2/ 51). (¬4) أي: حي على الصلاة، حي على الفلاح. (¬5) «مواهب الجليل» (1/ 431)، و «المجموع» (3/ 92)، و «المغنى» (1/ 407)، و «سبل السلام» (1/ 250). (¬6) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (501)، والنسائي (2/ 8 - 79، وأحمد (3/ 408) وصححه الألباني لذاته في تخريج «المشكاة» (645)، وإنما يحسَّن بمجموع الطرق. والله أعلم.

التثويب في الأذان الأول دون الثاني: الأحاديث المشار إليها آنفًا منها ما ذكر التثويب دون تحديد بكونه في الأذان الأول أو الثاني، ومنها ما نص على أنه في الأول، وليس فيها حديث واحد نص على أنه في الثاني، فدلَّ على أن مشروعية التثويب إنما هي الأذان الأول لأنه لإيقاظ النائم -كما تقدم- وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان للفجر أحدهما بلال -وورد عنه التثويب- والثاني ابن أم مكتوم، وكان أذان بلال هو الأول ولم يَرد أن ابن أم مكتوم كان يثوب في أذانه، والله تعالى أعلم (¬1). فائدة: أجاز بعض الحنفية والشافعية التثويب في العشاء، قالوا: لأنها وقت غفلة ونوم كالفجر (!!) وأجاز بعض الشافعية التثويب في جميع الأوقات!! وهذه بدعة مخالفة للسنة، وقد أنكرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل يصلي في مسجد فسمع رجلاً يثوِّب في أذان الظهر فخرج، فقيل له: أين؟ فقال: «أخرجتني البدعة» (¬2). المستحبات في الأذان: 1 - الأذان على طهارة: لعموم الأدلة على استحباب ذكر الله على طهارة -وقد تقدمت في الوضوء- وقد رُوي حديث: «لا يؤذن إلا متوضئ» ولا يصح. فإذا أذَّن وهو محدث الحدث الأصغر أجزأ عند جميع الفقهاء، وكذلك إن كان جنبًا على الصحيح لعدم الدليل على المنع ولأن الجنب ليس بنجس، وقد منعه أحمد وإسحاق (¬3). 2 - الأذان قائمًا: لم يختلف أهل العلم في أن من السنة أن يؤذن وهو قائم إلا من علة، فإن كانت به علة فله أن يؤذن جالسًا، وكره مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي الأذان قاعدًا مطلقًا (¬4). ¬

(¬1) انظر رسالة «تحفة الحبيب .. بحكم الأذانين الفجر والتثويب» لشيخنا مجدي بن عرفان رفع الله قدره. (¬2) حسَّنه الألباني: أخرجه أبو داود (538)، والبيهقي (1/ 424)، وانظر «الإرواء» (236). (¬3) «الأوسط» (3/ 28). (¬4) «الأوسط» (3/ 46).

وقد تقدم في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قُم يا بلا فنادِ بالصلاة» (¬1). وفي حديث عبد الله بن زيد: «رأيت في المنام كأن رجلاً قائمًا ... فأذن مثنى وأقام مثنى» (¬2). 3 - استقبال القبلة: أجمع أهل العلم على أن من السنة أن تُستقبل القبلة بالأذان (¬3)، وقد رُوي فيه أحاديث فيها مقال منها ما في بعض روايات حديث ابن زيد أن الملك الذي رآه يؤذن استقبل القبلة (¬4). 4 - إدخال إصبعيه في أذنيه: لحديث أبي جحيفة قال: «رأيت بلالاً يؤذن ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في أذنيه» (¬5). 5 - جمع المؤذن بين كل تكبيرتين: لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله ... الحديث» (¬6) وسيأتي بتمامه، ففيه إشارة ظاهرة إلى أن المؤذن يجمع بين كل تكبيرتين، وأن السامع يجيبه كذلك (¬7)، لا كما يفعله بعض المؤذنين من إفراد كل تكبيرة من الأربع بِنَفَس (!!) 6 - الالتفات بالرأس يمينًا عند قوله: حي على الصلاة، ويسارًا عند قوله: حي على الفلاح: لحديث أبي جحيفة «أنه رأى بلالاً يؤذن، قال: «فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا بالأذان» (¬8). فيسنُّ أن يلتفت برأسه، وبدنُه مستقبل القبلة، وبه قال الجمهور ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 203)، وأحمد (5/ 232). (¬3) «الأوسط» (3/ 28). (¬4) انظر «إرواء الغليل» (1/ 250). (¬5) صحيح: أخرجه الترمذي (197)، وأحمد (4/ 308)، وانظر «الإرواء» (230). (¬6) صحيح: يأتي بتمامه قريبًا. (¬7) «شرح مسلم» للنووي (3/ 79). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (634)، ومسلم (503).

خلافًا لمالك فقد أنكره!! وقيَّده أحمد وإسحاق بمن يؤذن على المنارة يريد أن يسمع الناس (¬1). 7 - التثويب في الأذان الأول للفجر: وقد تقدم الكلام عليه. ما يستحب لمن سمع الأذان: 1 - الترديد سرًّا خلف المؤذن: فعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» (¬2). فإذا قال المؤذن: حي على الصلاة، وحي على الفلاح، فليقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة» (¬3). وقد ذهب الجمهور إلى تخصيص الحيعلتين بهذا الحديث من عموم حديث أبي سعيد المتقدم، ولأن الحيعلتين خطاب، فإعادته عبث. إذا قال المؤذن (الصلاة خير من النوم) بم يجيب؟ يجيب السامع بقوله: (الصلاة خير من النوم) على عموم حديث أبي سعيد المتقدم، وأما قو لبعضهم: (صدقت وبررت) فلا يثبت فيه حديث صحيح، فلا يجوز التعبد به، والله أعلم. فائدة: يكفي في إجابة المؤذين بالشهادتين أن يقول: (وأنا) أو (وأنا أشهد) ونحو ذل لحديث سهل بن حنيف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهو جالس على المنبر، أَذَّن المؤذن، قال: الله أكبر الله أكبر، قال معاوية: قال: الله أكبر الله أكبر، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا فقال: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقال معاوية: وأنا، فلما قضى التأذين قال: «أيها الناس إني سمعت ¬

(¬1) «الأوسط» (3/ 26، 27). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (611)، ومسلم (383). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (385)، وأبو داود (523).

رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس -حين أذن المؤذن- يقول ما سمعتم مني من مقالتي (¬1). 2 - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له بعد فراغ المؤذن: فعن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلَّوا عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ صلاة، صلى الله بها عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، فأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» (¬2). وعن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يومَ القيامة» (¬3). 3 - الشهادة بالوحدانية والرسالة والرضا بالله ورسوله وبدينه: فعن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمجمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، غُفر له ما تقدم من ذنبه» (¬4). 4 - الدعاء بين الأذان والإقامة: لأن الدعاء حينئذ مستجاب، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة [فادعوا]» (¬5). وعن عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل كما يقولون، فإذا انتهيت، فَسَلْ تُعْطَهْ» (¬6). النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان: فعي أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة، فأذن المؤذن، فقام ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (914)، والنسائي (2/ 24)، وأحمد (4/ 95). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (384)، وأبو داود (523)، والترمذي (3694)، والنسائي (2/ 25). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (614)، وأبو داود (529)، والترمذي (211)، والنسائي (2/ 27). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (386)، وأبو داود (525)، والترمذي (210)، والنسائي (2/ 26). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (521)، والترمذي (212)، وابن خزيمة (425)، وأحمد (3/ 155). (¬6) لا بأس به: أخرجه أبو داود (524)، وأحمد (2/ 172)، وابن حبان (1695).

رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره، حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬1). قال النووي: «فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر» (¬2) اهـ. قلت: ولا يخرج إلا لضرورة كالوضوء أو الغسل ونحوه، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أقيمت الصلاة وعدِّلت الصفوف فاغتسل ثم رجع، وسيأتي في «الإقامة»، قال الحافظ في «الفتح» (2/ 143): يلحق بالجنب: المحدث والراعف والحاقن ونحوهم، وكذا من يكون إمامًا لمسجد آخر ومن في معناه. اهـ. بعض الأخطاء والبدع فيما يتعلق بالأذان (¬3): الأذان عبادة، فالأصل فيه التوقيف على النص ومورده، فلا يشرع فيه إلا ما شرعه الله ورسوله، وقد فشت في مجتمعاتنا كثير من المخالفات والأخطاء فيما يتعلق بالأذان، وأذكر من ذلك على سبيل الاختصار. (أ) من أخطاء المؤذنين: 1 - التمطيط والتطريب والتلحين الزائد في الأذان. 2 - زيادة لفظة (سيدنا) عند الشهادة في الأذان. 3 - التسابيح والتواشيح ونحو ذلك قبل الأذان. 4 - الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان. 5 - عدم الالتزام بسنن الأذان التي تقدم ذكرها. 6 - ترك الأذان الأول للفجر، وترك التثويب فيه. (ب) من أخطاء مستمعي الأذان: 1 - عدم الالتزام بالسنن التي تقدم ذكرها. 2 - قولهم: (الله أعظم والعزة لله) عند سماع التكبير. 3 - إقسام بعضهم بحق الأذان. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (655)، وأبو داود (536)، والنسائي (2/ 29)، والترمذي (131). (¬2) «شرح مسلم» (5/ 157)، وانظر «سنن الترمذي» (1/ 398) - شاكر. (¬3) انظر «بدع وأخطاء المصلين» (لأخينا عماد زكي أثابه الله ط. التوفيقية).

4 - زيادة بعضهم (والدرجة العالية الرفيعة) و (إنك لا تخلف الميعاد) في الدعاء بعد الأذان. 5 - قولهم: لا إله إلا الله، إذا كبَّر المؤذن التكبير الأخير، فيسبقون بهذا المؤذن. (جـ) من الأخطاء عند إقامة الصلاة: 1 - عدم إجابة المقيم. 2 - قولهم (أقامها الله وأدامها) عند قول المقيم: قد قامت الصلاة. 3 - قولهم بعد الإقامة: (اللهم أحسن وقوفنا بين يديك). ثانيًا: الإقامة تعريفها: تقدم أن الإقامة: إعلام بالقيام إلى الصلاة، بألفاظ مأثورة على صفة مخصوصة. صفة الإقامة: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الإقامة كيفيتان: الأولى: إحدى عشرة جملة: (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله). وهذه الكيفية هي الواردة في حديث عبد الله بن زيد الذي تقدم في الأذان، وعليها يُحمل ما ثبت عن أنس قال: «أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، إلا الإقامة» (¬1). لأن بلالاً إنما كان يؤذن على ما علَّمه عبد الله بن زيد، وعلى هذا جماهير أهل العلم من السلف والخلف. الثانية: سبع عشرة جملة: (الله أكبر أربعًا، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، قد قامت الصلاة مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله). وهذه الكيفية ثابتة في حديث أبي محذورة المتقدم في الأذان. ومن ألزم نفسه -في الأذان- بحديث ابن زيد لزمه أن يلتزم في الإقامة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (605)، ومسلم (378).

بالكيفية الأولى، ومن ألزمها بحديث أبي محذورة لزمه الثانية، ومن رأى التخيير فهو كذلك في الإقامة، وهو الأَوْلى، والله أعلم. هل يلزم أن يقيم من أذَّن؟ الأَوْلى أن يقيم من أذَّن، لأن بلالاً رضي الله عنه كان يتولى الأذان والإقامة -كما سيأتي- وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، ولو أذَّن رجل وأقام آخر فهو جائز، وأما حديث زيد الصدائي مرفوعًا: «يقيم أخو الصداء، فإن من أذَّن فهو يقيم» (¬1) فلا يصح وكذلك حديث عبد الله بن زيد أنه أقام بعد أن أذَّن بلال (¬2) ضعيف. هل يردد خلف من يُقيم؟ يُشرع لمن سمع الإقامة أن يقول مثلما يقول المقيم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثلما يقول المؤذن» (¬3) والإقامة نداء وأذان، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة» (¬4) يعني: الأذان والإقامة. وقيل: لا يشرع الإجابة إلا في الأذان، قلت: والأمل أرجح والأمر واسع. ماذا يقول إذا قال: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة؟ السنة أن يقول كما سمع (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة) لعموم الحديث المتقدم، وأما ما يُروى من أنه يقول: «أقامها الله وأدامها» (¬5) فلا يثبت الحديث فيه. متى يقيم الصلاة؟ 1 - الأصل أن لا يقيم إلا إذا رأى الإمام، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: «كان بلال يؤذِّن إذا دحضت، فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام الصلاة حتى يراه» (¬6). 2 - ويشرع أحيانًا أن يقيم قبل أن يخرج الإمام، إذا رآه من بعيد أو علم بقرب خروجه كما في حديث أبي هريرة «أن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مصافهَّم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه» (¬7). ¬

(¬1) ضعيف: وانظر «الضعيفة» (35)، و «الإرواء» (237). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (499)، وأحمد (4/ 43). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: يأتي في «صلاة التطوع». (¬5) ضعيف: أخرجه أبو داود (528)، وانظر «الإرواء» (241). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (606) وقد تقدم. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (605).

شروط صحة الصلاة

متى يقوم الناس للصلاة؟ 1 - إذا لم يكن الإمام معهم في المسجد، فالسنة ألا يقوموا حتى يروه، أقام المؤذن أو لم يقم، وهذا قول الجمهور، لحديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني» (¬1). 2 - إذا كان الإمام معهم في المسجد: فذهب الشافعي والأكثرون أنهم لا يقومون إلا بعد الفراغ من الإقامة، وقال مالك: إذا اخذ في الإقامة، وقال أحم: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، وقال أبو حنيفة: يقومون إذا قال: حي على الصلاة (¬2). قلت: والذي يظهر لي أنهم يقومون إذا رأوا الإمام قد قام، فإن قيام الإمام إلى مقامه في معنى خروجه على المصلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فلا تقوموا حتى تروني» والله أعلم. تنبيه: رأى بعض الفضلاء المعاصرين أنه لا يشرع الإقامة للصلاة باستعمال مكبِّر الصوت وإسماع من في خارج المسجد!! وعزا هذا القول إلى العلامة الألباني، رحمه الله. قلت: لعل مستند هذا القول أن المقصود من الإقامة الإعلام بالدخول في الصلاة والإحرام بها، وليس الإعلام للصلاة والتهيؤ لها والدعاء إليها كما في الأذان، ومع هذا فليس هناك ما يمنع من إسماع الإقامة لمن في الخارج، بل قد ثبت عن ابن عمر: «أنه قد سمع الإقامة وهو بالبقيع، فأسرع إلى المسجد» (¬3). شروط صحة الصلاة الشرط هو: ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، كالطهارة مثلًا فإن عدمها يلزم منه عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من طهارته وجوب الصلاة، ومن شروط الصلاة التي لا تصح إلا بها -مع القدرة ما يأتي: [1] العلم بدخول الوقت: قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (637)، ومسلم (604). (¬2) «شرح مسلم» للنووي (3/ 840 - قلعجي). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي كما في مسنده (183 - شفاء العي). (¬4) سورة النساء، الآية: 103.

وقد حددت السُّنة مواقيت الصلوات -كما تقدم-، والصلاة عبادة مؤقتة بوقت محدد الطرفين، فلا يصح فعلها قبل وقتها -بالإجماع- ولا يصح فعلها بعد وقتها إلا لعذر على الراجح كما تقدم تحريره. وقد اتفق الفقهاء على أنه يكفي في العلم بدخول الوقت غلبة الظن (¬1). [2] الطهارة من الحَدَثَيْن مع القدرة: وهي شرط لصحة الصلاة لما يأتي: 1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬2). 2 - قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا} (¬3). 3 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬4). 4 - حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» (¬5). وهما صريحان في الشرطية، ولا تصح الصلاة إلا بتحقيق الطهارة من الحدث، إلا من أصحاب الأعذار الشرعية كصاحب سلس البول وتفلت الريح والمستحاضة فهؤلاء يصلون وإن أحدثوا في الصلاة، وكذلك فاقد الطهورين (الماء والتراب) كالمسجون ونحوه فإنه يصلي على حالته. والله أعلم. هل يشترط الطهارة من النجس في البدن والثوب والمكان؟ أما البدن: فيجب تطهيره من النجاسة لما يأتي: 1 - قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬6). وإذا وجب تطهير الثوب فتطهير البدن أولى. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (1/ 247)، و «الدسوقي» (1/ 181)، و «مغنى المحتاج» (1/ 184)، و «كشاف القناع» (1/ 257). (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) سورة النساء، الآية: 43. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (224)، والترمذي (1)، والنسائي (139)، وأبو داود (59)، وابن ماجه (273). (¬6) سورة المدثر، الآية: 4.

2 - أحاديث الاستنجاء والاستجمار -التي تقدمت في «الطهارة» - تدل على وجوب تطهير البدن من النجاسة. 3 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الذكر من المذي. 4 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستتار من البول، وإخباره عن الرجلين اللذين يعذبان في قبرهما أن أحدهما كان لا يستتر (أو يستنزه) من البول. وكل هذه الأدلة تقدمت في «كتاب الطهارة». وأما الثوب فيجب تطهيره واجتناب النجاسة فيه، لما يأتي: 1 - قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬1). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم في الثوب يصيبه دم الحيض: «تحتُّه، ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه» (¬2). خلعُ النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أخبره جبريل بأن فيهما خبثًا (¬3)، يدل على وجوب التخلي من النجاسة حال الصلاة في الثوب. وأما المكان: فيجب تطهير المكان الذي يصلى فيه، لما يأتي: 1 - قال الله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬4). 2 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإهراق ذنوب من ماء على بول الأعرابي في المسجد (¬5). قلت: (أبو مالك): ولأهل العلم تجاه هذه النصوص السابقة مسلكان: الأول: عند الصلاة، وأنه إذا صلَّى مباشرًا للنجاسة أو حاملاً لها أو ملاقيًا لها فهو آثم لكن صلاته صحيحة، لأن هذه النصوص ليس فيها ما يفيد نفي ذات الصلاة أو صحتها، بخلاف الطهارة من الحدث، ولا يستلزم الواجب أن يكون شرطًا (¬6). ¬

(¬1) سورة المدثر، الآية: 4. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (227)، ومسلم (291). (¬3) صحيح: تقدم في «تطهير النجاسات». (¬4) سورة البقرة، الآية: 125. (¬5) صحيح: تقدم في «الطهارة». (¬6) انظر «السيل الجرار» للشوكاني (1/ 157 - 158).

الثاني: أن هذه النصوص فيها الأمر باجتناب النجاسة، والأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي في العبادات يقتضي الفساد، فاستدل بذلك على الشرطية، وإلى هذا ذهب جماهير العلماء (¬1). والذي يظهر: القول الأول، نعم يصح الاستدلال على الشرطية بالنهي الذي يدل على الفساد المرادف للبطلان، لكن هذا إذا كان النهي عن ذلك الشيء لذاته أو لجزئه، لا لأمر خارج عنه، والنهي هنا خارج عن جنس الصلاة كما لا يخفى، والله أعلم. من صلَّى وعليه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة، هل يعيدها؟ (¬2). اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: الأول: صلاته باطلة، وعليه الإعادة إذا علم بالنجاسة في الوقت، ولا إعادة بعد الوقت: وهو مذهب ربيعة ومالك والحسن (¬3). الثاني: صلاته باطلة، وعليه الإعادة ولو بعد الوقت: وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد (¬4). قالوا: لأنه فقد شرطًا من شروط صحة الصلاة فبطلت ولزمه الإعادة. الثالث: صلاته صحيحة، ولا إعادة عليه: وبه قال ابن عمر وعطاء وابن المسيب ومجاهد وأبو ثور وإسحاق والشعبي والنخعي والأوزاعي، وهو رواية عن أحمد، واختاره ابن المنذر (¬5) وحجتهم: 1 - أنه لم يعلم بالنجاسة، وقد قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} (¬6). وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: «قد فعلت» (¬7). ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 114)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 200)، و «مغنى المحتاج» (1/ 188)، و «كشاف القناع» (1/ 288). (¬2) محل هذه المسألة على قول الجمهور باشتراط الطهارة من النجس في الصلاة، وأما على ما رجحناه من الوجوب «دون الشرطية»، فلا شيء عليه كما لا يخفى. (¬3) «المدونة» (1/ 55)، و «المغنى» (2/ 65)، و «الأوسط» (2/ 164). (¬4) «الأم» (1/ 55)، و «المغنى» (2/ 65)، و «الأوسط» (2/ 164). (¬5) «الأوسط» (2/ 163)، و «المغنى» (2/ 65)، و «المجموع» (3/ 163). (¬6) سورة البقرة، الآية: 286. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (125).

2 - حديث أبي سعيد في قصة خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه لما أخبره جبريل أن فيهما أذى، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم بوجود الأذى وقد أتم صلاته، ولو كانت باطلة لاستأنفها من أولها. قلت: لو قلنا باشتراط اجتناب النجاسة فيلزمنا القول ببطلان الصلاة وإلا فيلزم منه أن من تذكر أنه صلى صلاة بغير وضوء أنه لا يعيدها!! وهم لا يقولون بهاذ، ففيه هدم للقواعد التي منها أن الشروط والأركان لا تسقط بالنسيان. وأما حديث خلع النعلين فهو دليل لنا على عدم اشتراط اجتناب النجاسة في الصلاة، فهو يقوى ترجيحنا للوجوب دون الشرطية والله أعلم. الأماكن المنهي عن الصلاة فيها: الأصل أن الأرض كلها مسجد، تجوز الصلاة في أي بقعة منها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ: .. وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا ...» (¬1). لكن يستثنى من هذا العموم أماكن قد ثبت النص بالنهي عن الصلاة فيها، ومن ذلك: 1 - مبارك الإبل (معاطنها): هي المواضع التي تقف فيها الإبل عند ورودها الماء وتبرك، والتي تأوي إليها وتبيت فيها، وعن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم»، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا» (¬2). وأقرب ما يقال في علة النهي، قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين» (¬3) فلا يبعد أن تصحبها الشياطين وتكون مباركها مأوى للشياطين فمنعت الصلاة فيها لأجل ذلك، كما امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة في المكان الذي غفلوا فيه عن صلاة الصبح، وعلل ذلك بقوله: «ذلك مكان حضرَنا فيه الشيطان» (¬4). 2 - المقبرة: فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمَّام» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (523)، وموضع الشاهد في البخاري (335)، ومسلم (520) عن جابر. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (360). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (493)، وابن ماجه (769)، وأحمد (5/ 55). (¬4) صحيح: تقدم في «المواقيت». (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (492)، والترمذي (236)، وابن ماجه (745) واختلف في وصله وإرساله والصواب الوصل وانظر «الإرواء» (1/ 320).

وعن أبي مرثد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلَّوا إليها» (¬1). وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬2) فكأن العلَّة في النهي عن الصلاة في المقبرة سد ذريعة عبادة القبور أو التشبه بالكفار. ويستوي في هذا أن تكون مقبرة مسلمين أو مقبرة كفار، فإذا نبشت وأخرج ما فيها من الموتى جازة الصلاة فيها. ويستثنى من النهي: الصلاة على الجنازة بعد دفنها -لمن لم يصلِّ عليها قبل- لحديث ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى على قبر بعد ما دفن فكبَّر عليه أربعًا» (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمن كان يَقُمُّ المسجد، فقالوا: مات يا رسول الله، قال: «أفلا آذنتموني؟» فقالوا: إنه كان كذا وكذا -قصته- قال: فحقروا شأنه، قال: «فدلوني على قبره» فأتى قبره فصلى عليه (¬4) وفيه مشروعية الصلاة على القبر خلاف وقد أجازها الجمهور، ومنعها مالك وأبو حنيفة وسيأتي في «الجنائز». 3 - الحمَّام: وهو مكان الاغتسال -لا مكان قضاء الحاجة كما يطلق عليه العوام- ولا تجوز الصلاة فيه لحديث أبي سعيد المتقدم «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام». ومكان قضاء الحاجة: ويسمى الحُشَّ والكنيف والمرحاض، ولا تجوز الصلاة فيه كذلك، لنجاسته ولأنه مأوى الشياطين: فعن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الحُشوش محتضَرَة، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخُبُث والخبائث» (¬5). هل تجوز الصلاة فوق البلاعة (بيارة الصرف)؟ الصحيح أن سطح البلاعة ليس تابعًا لها، ولا يدخل في مسمىَّ (الحُش) فيجوز الصلاة فوقها ما لم يكن على سطحها نجاسة، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (972). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (435)، ومسلم (529). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (954). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1337)، ومسلم (956). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (6)، وابن ماجه (296).

ما حكم الصلاة في الثوب المغصوب أو المُحَرَّم والأرض المغصوبة؟ لأهل العلم في هذه المسألة ونظائرها قولان: الأول: لا تصح الصلاة: وهو المشهور من مذهب أحمد وابن حزم واختاره شيخ الإسلام (¬1) وحجتهم: 1 - ما رُوى عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام، لم تقبل له صلاة ما دام عليه» (¬2) وهو ضعيف. 2 - أن اللباس متعلق بركن العبادة وشرطها فيؤثر فيها، بخلاف ما إذا كان أجنبيًّا عنها، فإنه لا يؤثر كما فيمن توضأ من آنية الذهب، فالإناء أجنبي عن الصلاة فلا يؤثر فيها. الثاني: تصح صلاته، وإن أثم بلبسه: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي (¬3) وهو الراجح لأن النص لم يأت بالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة أو الثوب المغصوب أو المحرَّم وإنما أتى في النهي عن الغصب وعن اللبس مطلقًا فتصح الصلاة ويثبت الإثم وتسمى هذه «قاعدة انفكاك الجهة» (¬4) وأما الحديث الذي استدلوا به فلا يصح، على أن نفس القبول لا يستلزم نفي الصحة. قلت: وربما يؤيد ما رجَّحناه حديث عقبة بن عامر قال: «أُهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُّوج حرير فلبسهُ، ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعهُ نزعًا عنيفًا شديدًا كالكاره لهُ، ثم قال «لا ينبغي هذا للمتقين» (¬5) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لبسه قبل التحريم ثم أخبره جبريل بتحريم الحرير (كما في رواية مسلم عن جابر) في الصلاة وخارجها، ولم يُعِد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة. [3] ستر العورة، مع القدرة: اتفق أهل العلم -إلا نَزْرًا يسيرًا- على أن ستره العورة شرط لصحة الصلاة لمن قدر على ذلك لما يأتي: ¬

(¬1) «الإنصاف» (1/ 194)، و «المحلى» (4/ 33)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 89). (¬2) ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 98) بسند ضعيف. (¬3) «المجموع» (3/ 180)، و «المبسوط» (1/ 206)، و «نيل الأوطار» (2/ 92). (¬4) انظر «قواعد ابن رجب» (ص 11، 12). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (375)، ومسلم (2075).

1 - قوله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬1) أي: استروا عوراتكم إذا أردتم الصلاة، فإنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة فنزلت الآية (كما في صحيح مسلم). 2 - حديث سلمة بن الأكوع قال: قلت يا رسول الله، إنا نكون في الصيد، أفيصلي أحدنا في القميص الواحد؟ قال: «نعم، وليَزرُرْهُ ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة» (¬2). 3 - حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الصلاة صلاة حائض إلا بخمار» (¬3). 4 - حديث جابر في قصة صلاته إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم مشتملاً بثوب، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «فإن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتَّزِر به» (¬4) فلا يجزئ أقل من الائتزار (ستر أسفل البدن) فدلَّ على وجوب ستر العورة في الصلاة، وهو نهي عن ضده فيقتضي الفساد، فكان فيه معنى الشرطية عند الجمهور. 5 - حكى ابن عبد البر الإجماع على فساد صلاة من صلى عريانًا وهو قادر على الاستتار، وكذا نقل شيخ الإسلام، وإن كان قد نقُل عن بعض المالكية أنه لا تبطل الصلاة بترك ستر العورة، وكذا اختار الشوكاني أنه واجب على قاعدته التي تقدمت في اشتراط طهارة الثوب والبدن والمكان (¬5)، والذي يظهر لي أن الأمر هنا يختلف لمن أمعن النظر. 6 - أن ستر العورة حال القيام بين يدي الله تعالى من باب التعظيم (¬6). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬2) إسناده لين: علَّقه البخاري بصيغة التمريض (1/ 554)، وقال البخاري: في إسناده نظر. اهـ. قلت: هو كذلك لعلة ذكرها الحافظ في الفتح (1/ 555)، ثم الحديث قد أخرجه أبو داود (623)، والنسائي (2/ 70) ومداره على راو ليِّن، وقد رأى العلامة الألباني في «المشكاة» (760) وقبله النووي في المجموع تحسينه (3/ 164)!!. (¬3) ضعيف على الراجح: أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377) وغيرهما وقد أعلَّه غير واحد من العلماء، وقد حسنه الألباني في «الإرواء» (1/ 215). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (361)، ومسلم (3010). (¬5) «التمهيد»، و «مجموع الفتاوى» (22/ 117)، و «الفتح» (1/ 555)، و «بداية المجتهد» (1/ 156)، و «السيل الجرار» (1/ 158). (¬6) «البدائع» (1/ 116)، و «الدسوقي» (1/ 211)، و «مغنى المحتاج» (1/ 184)، و «كشاف القناع» (263).

ما يجب ستره في الصلاة: ليُعلم ابتداءً أن التحقيق (¬1): أنه لا ارتباط بين عورة النظر والعورة في الصلاة لا طردًا ولا عكسًا، بل إن مصطلح (ستر العورة) الذي يعتبره الفقهاء شرطًا في صحة الصلاة، ليس من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في الكتاب والسنة أن ما يستره المصلي فهو عورة، بل قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2). وعورة النظر إنما هي لأجل الشهوة، وأما أخذ الزينة في الصلاة فلحق الله تعالى، فليس لأحد أن يطوف بالبيت أو يصلي عريانًا ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس، فهذا نوع وهذا نوع. وحينئذ فقد يستر المصلى في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يُبدى في الصلاة ما يسترهُ عن الغير: فالأول: مثل المنكبين، فقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» (¬3) فهذا لحَقِّ الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة، وكذلك المرأة تختمر في الصلاة، وهي لا تختمر عند زوجها ولا ذوي محارمها. وعكس ذلك: الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على [أصح] القولين، وأما ستر ذلك في الصلاة فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها إبداء الوجه والكفين في الصلاة عند الجمهور، فكذلك القدم عند أبي حنيفة، وهو الأقوى .. ، إذا عُلِم هذا فنقول: ما يجب أن يستره الرجل في صلاته: - «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطوف بالبيت عريانًا» (¬4) فالصلاة أولى. - وقال في الثوب الواحد: «إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به» (¬5) فلم يجزئ أقل من الاتزار وهو ستر أسفل البدن. - وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بين السُّرة والركبة عورة» (¬6). ¬

(¬1) هذا خلاصة ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «الفتاوى» (22/ 113 - 120). (¬2) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (359)، ومسلم (516). (¬4) صحيح: يأتي في «الحج». (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (495، 496)، وانظر «الإرواء» (1/ 226).

وعن بريدة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في لحاف لا يتوشح به، ونهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء» (¬1) فدلَّ على وجوب ستر القسم الأعلى من البدن في الصلاة. - و «نهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» (¬2). فدلَّ هذا على أن الرجل يؤمر في الصلاة بستر العورة: الفخذ وغيره حتى على القول بان الفخر ليس بعورة وأن العورة القبل والدبر فقط (وهذا مرجوح كما سيأتي في موضعه ولو صلى وحده في بيته ولم يره أحد لزمه ذلك. وأما من بنى على أن العورة السوأتان [على إحدى الروايتين عن أحمد، وابن حزم] أنه يجوز الصلاة كاشفًا فخذيه، فقد غلظ ولم يقل به أحمد -رحمه الله- كيف وأحمد يأمره بستر المنكبين، فكيف يبيح له كشف الفخذين؟! والحاصل أن الرجل مأمور -في الصلاة- بستر بدنه من الكتفين حتى الركبتين، إلا أن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا ضيقًا فله أن يتزر به ويكشف أعلى بدنه كما في حديث جابر المتقدم. فائدة: يجب ستر ما يلزم ستره في الصلاة بثوب لا يصف البشرة، بمعنى لا يصف لونها من بياض أو حمرة أو سواد، وأما إذا كان كثيفًا لكنه ضيق يصف حجم العض لا لونه، فيكره وصلاته صحيحة (¬3). ما يجب أن تستره المرأة في الصلاة (¬4): 1 - إذا صلت بحضرة الأجانب فعليها أن تستر جميع بدنها إلا الوجه والكفين عند الجمهور (¬5). 2 - إذا ظهر منها شيء -مما يجب ستره- بحضرة الأجانب فهي آثمة لكن لا تبطل صلاتها -على الصحيح من أقوال العلماء- إذا لا دليل على بطلان الصلاة بذلك. ¬

(¬1) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (636)، والبيهقي (2/ 236) وانظر «صحيح أبي داود» (646). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) أفاد نحوه الشيخ وحيد -حفظه الله- في «الإكليل» (1/ 311). (¬4) نقلاً عن كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 81، 82، 83) ط. التوفيقية. (¬5) في كشف الوجه والكفين خلاف بين العلماء ويأتي تحريره في موضعه.

3 - أما إذا كانت المرأة تصلي منفردة أو يحضرها الزوج أو المحارم فإنه: يجوز لها كشف وجهها وكفيها في الصلاة وهو قول أكثر العلماء. وبالنسبة لشعر المرأة في الصلاة، فقد ورد حديث: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (¬1) وهو وإن كان ضعيفًا، إلا أن الترمذي قال عقبه: «والعمل عليه عند أهل العلم: أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها، وهو قول الشافعي، قال: لا تجوز صلاة المرأة وشيء من جسدها مكشوف» اهـ. (لكن إذا انكشف شيء يسير من شعرها وبدنها فصلاتها صحيحة وليس عليها الإعادة -عند كثير من العلماء- وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وإن انكشف شيء كثير أعادت الصلاة في الوقت عند عامة العلماء، الأئمة الأربعة وغيره) (¬2). أما قدم المرأة في الصلاة: فقد ورد حديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: «إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها» لكنه ضعيف (¬3). وقد قال الشافعي في «الأم» (1/ 77): وكل المرأة عورة -يعني في الصلاة- إلا وجهها وكفيها وظهر قدميها ... اهـ. ونقل عنه الترمذي قوله: وقد قيل إن كان ظهر قدميها مكشوفًا فصلاتها جائزة. اهـ. وهذا مذهب أبي حنيفة كما نقله ابن تيمية في الفتاوى (22/ 123). وذهب مالك وأحمد إلى أن المرأة عورة كلها بل قال أحمد: المرأة تصلي ولا يرى منها شيء ولا ظفرها. اهـ. قلت: والذي يترجح لي جواز الصلاة مع كشف ظاهر القدم في غير حضرة الأجانب وإن كان الأحوط سترهما والله أعلم. 4 - يستحب أن تصلي المرأة في الثياب التي تستر بدنها، فما كان فيه زيادة في التستر فهو الأفضل. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377) وغيرهما وقد أعله غير واحد من أهل العلم وانظر «جامع أحكام النساء» (1/ 310). (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 123)، وانظر «المغنى» لابن قدامة (1/ 601). (¬3) أخرجه أبو داود (640)، والبيهقي (2/ 232) بسند ضعيف موقوفًا ومرفوعًا.

ولذا قال الشافعي: قد اتفق عامتهم على الدرع والخمار (¬1)، وما زاد فهو خير وأستر، ولأنه إذا كان عليها جلباب فإنها تجافيه راكعة وساجدة لئلا تصف ثيابها فتبين عجيزتها ومواضع عورتها (¬2). 5 - أما المرأة إذا كانت أَمَةً (ليست حرة) فهي كالحرة إلا أنه يجوز لها أن تصلي كاشفة شعرها باتفاق العلماء إلا الحسن وعطاء. 6 - البنت الصغيرة التي لم تحض لا يجب عليها الاختمار (تغطية الشعر) أثناء الصلاة، فعند عبد الرزاق في «المصنف» (3/ 113) بسند صحيح عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: الجارية التي لم تحض وهي تصلي؟ قال: حسبها إزارها. فوائد: (أ) من انكشفت عورته في الصلاة بلا قصد، هل تبطل؟ ذهب الجمهور إلى أن مَن انكشف من عورته شيء في الصلاة -ولو بلا قصد- تبطل صلاته إذا لم يسترها في الحال، وقيده الحنفية بانكشاف ربع عضو، قدر أداء ركن (¬3) (!!) بينما ذهب الحنابلة إلى أنه لا تبطل الصلاة بانكشاف عورته لزمن قصير، كما لو أطارت الريح ثوبه عن عورته، وكذلك لو بدا يسير من العورة ولو طال زمن الانكشاف (¬4). لحديث عمرو بن سلمة قال: «انطلق أبي وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه فعلمهم الصلاة، فقال: يؤمكم أقرؤكم، وكنت أقرأهم لما كانت أحفظ، فقدموني، فكنت أؤمهم وعليَّ بردة لي صغيرة صفراء، فكنت إذا سجدت انكشفت عني، فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم، فاشتروا لي قميصًا عمانيًّا، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به» (¬5) ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك ولا أحد من الصحابة. قلت: وهذا هو الصحيح، لكن يجب عليه إذا علم بانكشاف عورته أن يواريها إن استطاع. ¬

(¬1) الدرع يشبه القميص لكنه سابغ يغطى قدميها، والخمار ما يغطي رأسها وعنقها، والجلباب يُلتحف به فوق الدرع، وقد صح عن عمر وابن عمر وابن سيرين وغيرهم أنهم قالوا: تصلي المرأة في ثلاث أثواب (درع وخمار وجلباب). (¬2) «المغنى» (1/ 602)، و «المهذب» (3/ 172) عن «جامع أحكام النساء» (1/ 335). (¬3) «ابن عابدين» (1/ 273)، و «المواهب» (1/ 498)، و «المجموع» (3/ 166). (¬4) «كشاف القناع» (1/ 269). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4302)، وأبو داود (585) واللفظ له.

(ب) صلاة العاجز عن ستر العورة (¬1): لا تسقط الصلاة عمن لم يجد ما يستر به عورته بالاتفاق، واختلفوا في كيفية صلاته؟ فذهب الجمهور إلى أنه إن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا أو ثوب حرير (للرجل) فيجب عليه لبسه، فإن لم يجد شيئًا: قالوا يصلي عريانًا لقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). ثم قال الحنفية والحنابلة: هو مخيَّر بين أن يصلي قاعدا أو قائمًا، واستحبوا أن يومئ في الركوع والسجود لأنه أستر، وقال المالكية والشافعية يجب أن يصلي قائمًا ولا يجوز الجلوس، وهل يعيد إذا وجد ما يستره؟ الصحيح أن لا يعيد كما قال الشافعية والحنابلة، والله أعلم. (جـ) التزين والتجمل للصلاة: يجوز الصلاة في ثوب واحد -كما تقدم- لكن يستحب أن يصلي المرء في أكثر من ثوب وأن يأخذ زينته ويتجمل ما أمكن لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي عند كل صلاة، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزيَّن له ...» (¬3). [4] استقبال القبلة مع القدرة: وهو شرط لصحة الصلاة بإجماع (¬4) العلماء، لما يأتي: 1 - قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬5). 2 - حديث ابن عمر قال: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة» (¬6). 3 - حديث المسيء صلاته المشهور، عن أبي هريرة: ¬

(¬1) «ابن عابدين» (1/ 275)، و «الدسوقي» (1/ 216)، و «المجموع» (3/ 142، 182)، و «كشاف القناع» (1/ 270). (¬2) سورة التغابن، الآية: 16. (¬3) أخرجه البيهقي (2/ 236)، وانظر «المجموع» (2/ 54). (¬4) «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص 26). (¬5) سورة البقرة، الآية: 144. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (4491)، ومسلم (526)، والنسائي (2/ 61).

أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد فصلى ثم جاء فسلم عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل» فقال في الثانية أو في التي بعدها علمني يا رسول الله فقال «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تستوي قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم ارفع حتى تستوي قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (¬1). الاستقبال على وجهين: فالمصلى إما أن يكون مشاهدًا للكعبة أو لا: 1 - من كان مشاهدًا للكعبة: فالواجب أن يستقبل عينها بكل بدنه، ولا يجزئه -وهو في الحرم مشاهد للكعبة- أن يستقبل جزءًا من المسجد غير الكعبة. 2 - من لم يكن مشاهدًا للكعبة: فالواجب عليه أن يستقبل جهتها لا عينها، لأن هذا غاية مقدوره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول أو غائط، ولكن شرقوا أو غرِّبوا» (¬2) فدلَّ على أن كل ما بين المشرق والمغرب يعتبر قبلة لأهل المدينة، وعليه يكون اتجاه القبلة لأهل مصر ما بين المشرق والجنوب. ويمكن الاستدلال على القبلة بالمحاريب التي في مساجد المسلمين، أو باستخدام (البوصلة) وغير ذلك. متى يسقط استقبال القبلة؟ قد علمت أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، ولكن يستثنى من ذلك حالات تصح فيها الصلاة بدون استقبال القبلة. [1] العاجز عن استقبال القبلة: كالمريض الذي لا يستطيع الحركة وليس معه من يوجهه للقبلة، فهو معذور لقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. [2] من خفيت عليه القبلة فاجتهد، فصلى إلى غيرها: من خفيت عليه القبلة وجب عليه أن يسأل من يدلُّه، فإن لم يجد، اجتهد في تحديدها، فإن اجتهد وصلى ثم تبيَّن خطؤه أثناء الصلاة: وجب عليه أن يستدير إليها في الصلاة كما في حديث ابن عمر المتقدم قريبًا وفيه: «فاستداروا إلى الكعبة». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6251)، ومسلم (397). (¬2) صحيح: تقدم في «الطهارة».

وإذا تبين خطؤه بعد فراغه من الصلاة فصلاته صحيحة ولا إعادة عليه على الراجح، لحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم نَدْرِ أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬1) (¬2). وهو مذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. [3] عند شدة الخوف من عدو ونحوه: قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (¬3). وفي حديث ابن عمر في صلاة الخوف: «... فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلَّوا على أقدامهم أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها» (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس» (¬5). [4] في صلاة النافلة للراكب في السفر: فيجوز للمسافر أن يصلي النافلة وهو راكب دابته (السيارة أو الطائرة أو السفينة) ولا يلزمه استقبال القبلة إن تعذَّر عليه، فعن ابن عمر أنه كان يصلي على دابته من الليل وهو مسافر، ما يبالي حيثما كان وجهه، وقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح [يعني: يصلي] على الراحلة قِبل أي وجه توجَّه، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» (¬6). وعن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يسبِّح: يومئ برأسه قبل أي وجه توجَّه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة» (¬7). وعن جابر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة» (¬8). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 115. (¬2) حسنه الألباني: أخرجه الترمذي (345)، وانظر «الإرواء» (1/ 323) وله شاهد عن جابر. (¬3) سورة البقرة، الآيتان: 238، 239. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4535)، ومالك (396). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 255). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1098)، ومسلم (700). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1098). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (400).

لكن .. إن استطاع أن يبتدئ صلاته مستقبلاً القبلة ثم يتوجه مع راحلته حيث توجهت فهو أفضل، لما ورد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع على ناقته استقبل بها القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجَّهه ركابه» (¬1). مسألة: إذا ركب المسافر السيارة -التي لا يقودها هو- بعد صلاة الظهر، وعلم أنه لا يصل إلا بعد المغرب، فهل له أن يصلي العصر في السيارة؟ أو يصليها مع المغرب؟ الأظهر أنه لابد أن يصلي العصر في وقته -في السيارة- ولو قائدًا ولو إلى غير القبلة، لأن الوقت هو آكد فروض الصلاة -كما تقدم- فيتقدَّم على اشتراط استقبال القبلة والله أعلم. [5] النيَّة: النية: هي العزم على فعل العبادة تقربًا إلى الله تعالى، فلا تصح الصلاة بدونها بحال، ولا تسقط النية بحال، لأنها لا تسقط إلا بذهاب العقل، وحينئذ يسقط التكليف لأن العقل مناط التكليف. وقد انعقد الإجماع على اعتبار النية شرطًا في صحة الصلاة (¬2)، والأصل فهيا قول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬4). مما لا خلاف فيه: 1 - أن محل النية القلبُ دون اللسان في جميع العبادات التي منها الصلاة. 2 - أنه لو تكلَّم بلسانه سهوًا بخلاف ما نوى في قلبه، كان الاعتبار بما نوى بقلبه، وذلك كمن قصد بقلبه الظهر، لكن جرى لسانه بالعصر سهوًا. 3 - أنه لو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه، لم يجزئه ذلك. 4 - أن «الجهر بالنية في الصلاة من البدع السيئة، ليس من البدع الحسنة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لم يقل أحد منهم أن الجهر بالنية مستحب ولا هو ¬

(¬1) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (1225) وغيره وانظر «صفة صلاة النبي» (ص 75). (¬2) «الدسوقي» (1/ 233)، و «مغنى المحتاج» (1/ 148)، و «بداية المجتهد» (1/ 167)، و «كشاف القناع» (1/ 313). (¬3) سورة البينة، الآية: 5. (¬4) صحيح: تقدم مرارًا وهو متفق عليه.

بدعة حسنة، فمن قال ذلك فقد خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الأئمة الأربعة وغيرهم ... وقائل هذا يستتاب، فإن تاب وإلا عوقب بما يستحقه ..» (¬1). يضاف إلى هذا ما في الجهر بالنية من التشويش على المصلين، وهو حرام. والتلفظ بالنية -ولو سرًّا- بدعة: قال شيخ الإسلام (¬2): «لم ينقل مسلم -لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه- أنه قد تلفظ قبل التكبير بلفظ النية، لا سرًّا ولا جهرًا، ولا أنه أمر بذلك، ومن المعلوم أن الهمم والدواعي متوفرة على نقل ذلك لو كان ذلك، وأنه يمتنع على أصل التواتر -عادة وشرعًا- كتمانُ نقل ذلك، فإذا لم ينقله أحد، عُلم قطعًا أنه لم يكن .... فزيادة هذا وأمثاله في صفة الصلاة بمنزلة سائر الزيادات المحدثة في العبادات، كمن زاد في العيدين الأذان والإقامة، ومن زاد في السعي صلاة ركعتين على المروة وأمثال ذلك» اهـ. ثم النية أيسر من أن يتلفظ بها، فمن قام ليتوضأ ثم خرج إلى المسجد عالمًا بمراده من ذلك فقد حقق النية، ولذا قال شيخ الإسلام: «النية تتبع العلم، فمن علم ما أراد فعله فقد نواه» (¬3) إذ لا يمكن عمل بلا نية. تعيين الصلاة: ولابد في النية من تعيين الصلاة التي يصليها: هل هي فرض أم نافلة؟ وهل هي ظهر أو عصر؟ والمقصود استحضار هذا في القلب. موضع النية: 1 - لا خلاف بين العلماء أن النية إذا كانت مقارنة للتكبير -بأن أعقبها مباشرة- فهي مجزئة، بل هذا هو الأصل والأفضل. 2 - لا خلاف بينهم في أن النية بعد التكبير لا تجزئ. 3 - إذا نوى الصلاة ثم تشاغل ثم صلاها صحت صلاته -في أصح القولين- لأن نيَّته مستصحبة للحكم ما لم ينو فسخها (¬4) والله أعلم. قلب النية وتغييرها أثناء الصلاة (¬5): الانتقال من نية إلى نية في الصلاة له صور متعددة، ومن ذلك: ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (22/ 233). (¬2) «مجموع الفتاوى» (22/ 237 - 238). (¬3) «الاختيارات» (ص: 49). (¬4) «الإنصاف» (1/ 23)، و «المبدع» (1/ 417) وهو اختيار ابن عثيمين في «الممتع» (2/ 291). (¬5) «الممتع» (2/ 294 - 301)، و «الإكليل» (1/ 348 - 355) للشيخ وحيد بالي، حفظه الله.

[1] من فرض إلى نفل مطلق: لا يجوز لمن يصلي الظهر -مثلًا- منفردًا ثم رأى جماعة قد حضروا أن يقلب فرضه نفلاً ثم يصلي معهم جماعة. [2] من فرض إلى فرض آخر: فلا يجوز، ويبطل الفرضان، فالأول لأنه قطعه، والثاني لعدم النية قبل البدء فيه، وصورة هذا: أن يتذكر وهو يصلي العصر أنه لم يصلِّ الظهر، فلا يجوز أن يقلبها ظهرًا. [3] من نفل إلى فرض: فلا يجوز كذلك للعلة السابقة. [4] من نفل معين إلى نفل مطلق: يجوز، لأن النفل المعين يتضمن نية النفل المطلق، ومثاله: أن ينوي صلاة أربع ركعات سنة الظهر، ثم يرى الجماعة، فيقلبها ركعتين لإدراك الجماعة. [5] من نفل معين إلى نفل معين: لا يجوز، كما لو نوى تحية المسجد، ثم قلبها -أثناء الصلاة- سنة الفجر، فبطل الأول بقطعه والثاني بعدم النية في أوله. [6] من نفل مطلق إلى نفل معين: لا يصح لما سبق. [7] من نية إمام إلى مأموم: فيجوز، لحديث عائشة في قصة صلاة أبي بكر بالناس وفيه: «فلما دخل [رسول الله صلى الله عليه وسلم] المسجد سمع أبو بكر حسَّه، ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم مكانك، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسًا وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» (¬1). [8] من مؤتم بإمام إلى مؤتم بإمام آخر: فيجوز لحديث عائشة السابق، فقد كان الناس مؤتمين بأبي بكر ثم بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفي قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدَّم عبد الرحمن بن عوف فأكمل بهم الصلاة (¬2). [9] من مأموم إلى إمام: فيجوز، كما إذا حدث للإمام عذر في الصلاة، فيستخلف أحد المأمومين لحديث عمر المتقدم. [10] من منفرد إلى إمام: فيجوز، كأن يصلي الرجل منفردًا فيأتي إليه آخر فيأتم به، فيكمل الصلاة به إمامًا: لحديث ابن عباس قال: «بِتُّ عند خالتي فقام ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3700).

النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأسني عن يمينه» (¬1). ولا فرق في هذا بين النفل والفرض على الصحيح. [11] من إمام إلى منفرد: لا يجوز إلا لعذر، كأن يحدث للمأموم عذر فيترك الإمام وحده، فحينئذ يجوز وصلاته صحيحة. [12] من مأموم إلى منفرد: فقيل: يجوز لعذر شرعي كتطويل الإمام فوق السُّنَّة وكأن يطرأ على المأموم وجع ونحوه مما يحتاج معه إلى الانفراد والتخفيف والانصراف، ويستدل لهم بقصة الرجل الذي صلى خلف معاذ بن جبل فأطال القراءة فانفرد الرجل وصلى وحده وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بالإعادة (¬2). وقيل: بل ليس له الانفراد وإنما إذا طرأ عليه شيء فله أن يقطع الصلاة ثم يصليها وحده، وأجابوا بأن الظاهر من حديث معاذ أن الرجل خرج من صلاته ثم صلاها وحده، كما في رواية مسلم (465): «فانحرف رجل فسلَّم ثم صلى وحده». قلت: والأول أظهر (¬3) -حتى على الرواية الأخيرة- ففعل الرجل لا يدل على عدم جواز الانفراد، ثم إن الذي يظهر لي أن الإمام والائتمام (الجماعة) وصف زائد على أصل الصلاة، فلا تأثير لنيَّتها في صحة الصلاة، وإن كانت قد تُؤثر في تحصيل ثواب الجماعة، كما يدل على هذا مجموع الأحاديث السابق ذكرها فيما يتعلق بنية الإمام والمأموم، والله تعالى أعلم. اختلاف نية الإمام والمأموم (¬4): لا خلاف في مشروعية ائتمام المصلي بإمام مع توافقهما في النية، فرضًا كانت الصلاة أو سنة. ثم اختلف أهل العلم فيما إذا اختلفت نية الإمام والمأموم؟ والصحيح أنه لا يشترط أن توافق نية المأموم نية الإمام، وهو مذهب الشافعي وابن حزم (¬5). والدليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (699)، ومسلم (763). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6106)، ومسلم (465). (¬3) وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين، خلافًا لما اختاره الشيخ وحيد. (¬4) انظر «المنهيات الشرعية في صفة الصلاة» للكمالي (ص: 14 وما بعدها). (¬5) «مغنى المحتاج» (1/ 502)، و «المحلى» (4/ 223)، «بداية المجتهد» (1/ 167).

قال ابن حزم: «فنصَّ عليه السلام نصًّا جليًّا على أن لكل أحد ما نوى، فصحَّ يقينًا أن للإمام نيتَّه، ولا تعلق لإحداهما بالأخرى ...» اهـ. وأما حديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه ...» (¬1) فالمراد به: لا تختلفوا عليه في الأفعال الظاهرة، بدليل قوله في الحديث نفسه: «.. فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين» فلا تعلَّق للحديث باختلاف النيات، ويدل على هذا اتفاق عامة أهل العلم على جواز ائتمام المتنفل بالمفترض مع اختلاف نيتهما -كما سيأتي- وكذلك سائر الأدلة التي تأتي في صور اختلاف النيَّتين، وهي: [1] صلاة المتنفل خلف المفترض: وهي جائزة عند عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم لما يأتي: (أ) حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها فإن أَدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة» (¬2). (ب) حديث يزيد بن الأسود قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، قال: فلما قضى صلاته وانحرف، إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال: «عليَّ بهما»، فجيء بهما تَرْعُدُ فرائصهما، فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: «فلا تفعلوا، إذا صلَّيتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلِّيا معهم، فإنها لكما نافلة» (¬3). [2] صلاة المفترض خلف المتنفِّل: وهو جائز لما يلي: (أ) حديث جابر بن عبد الله: «أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» (¬4) زاد بعضهم: «هي له تطوع ولهم فريضة» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (689)، ومسلم (411). (¬2) صحيح: تقدم في «أوقات النهي عن الصلاة». (¬3) صحيح: تقدم في «أوقات النهي». (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (711)، ومسلم (465) واللفظ له. (¬5) إسناده ضعيف: أخرجه الشافعي في «الأم» (1/ 173)، والطحاوي (1/ 409)، والدارقطني (1/ 274) وفيه عنعنة ابن جريج وهو مدلس، وصححه الحافظ في الفتح.

قال الحافظ: واستُدلَّ بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل، بناء على أن معاذًا كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل. اهـ. ثم استدل بالزيادة المشار إليها. قلت: ويدلُّ على ما ذكره الحافظ أنني وجدت في رواية الحديث الأخرى -في قصة الرجل الذي شكا معاذًا -قوله: «... وإن معاذًا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة ... الحديث» (¬1) ففيه أن الصلاة التي صلاها معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض العشاء. (ب) حديث أبي بكرة قال: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر، فصفَّ بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم، فانطلق الذين صلَّوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصفوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلَّم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا ولأصحابه ركعتين ركعتين» (¬2). قال الشافعي في «الأم» (1/ 173): والآخرة من هاتين للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة، وللآخرين فريضة اهـ. وعلى هذا: فيجوز لمن أتى الجماعة وهم يصلون التراويح -ولم يكن صلى العشاء- أن يدخل معه بنيَّة العشاء، فإذا سلَّم الإمام من ركعتين قام فأتم صلاته منفردًا، أو قام لباقي صلاته فإذا قام الإمام إلى الركعتين بعدهما ائتم به ثم يسلم معه، والأُولى أَوْلى والله أعلم. [3] صلاة المفترض خلف من يصلي فرضًا آخر: وهذا له ثلاث حالات: (أ) أن يكون عدد ركعات الفرضين متفقًا: كأن يصلي ظهرًا مقضية خلف من يصلي العصر أو العشاء، وهذا جائز لعموم ما تقدم. (ب) أن يكون عدد ركعات فرض المأموم أكثر من الإمام: كمن يصلي لظهر خلف صبح أو مغرب فجائز لما سبق من عدم وجوب اتفاق النيتين، وقياسًا على صلاة المسبوق والمقيم خلف من يقصر الصلاة. ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) رجاله ثقات: أخرجه أبو داود (1248)، وفي سماع الحسن عن أبي بكرة خلاف، مع أن البخاري أخرج له عنه عدة أحاديث وهو لا يكتفي بمجرد إمكان اللقاء!!، وانظر «جامع التحصيل» (1/ 163).

(جـ) أن يكون عدد ركعات فرض المأموم أقل من الإمام: وهذا غير جائز، كمن يصلي الصبح خلف الظهر، أو المغرب خلف العشاء، لأنه هنا لابد له من مخالفة إمامه في الأفعال الظاهرة: إما بمفارقة إمامه لأجل أن يسلم أو لأجل انتظاره للتسليم معه، أو أنه يقوم مع إمامه ليحقق المتابعة، فيزيد في ركعات صلاته عمدًا وهذا يبطلها. لكن هل يقال: إنه ينتظر حتى يبقى للإمام من صلاته ما يساوي عدد ركعات فرضه فيدخل معه ويسلم معه؟ فهذا موضع نظر واجتهاد، والله تعالى أعلم. [4] صلاة المتم خلف من يَقْصر: وهذا جائز، ويجب على المتم أن يأتي ببقية الصلاة بعد سلام إمامه، بلا خلاف بين أهل العلم. وقد روى عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: يا أهل البلد: صلوا أربعًا، فإنا قوم سَفْر» (¬1) وهو ضعيف، إلا أن العمل عليه، لأن الصلاة تجب على المتم أربعًا، فلم يجز له ترك شيء من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر. فائدة: لا تشترط نية القصر لمن أراد قصر الصلاة (¬2): وهو قول عامة السلف، لأنه لم ينقل قطُّ أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه، لا بنية قصر ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، مع أن المأمورين -أو أكثرهم- لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجته، صلى بهم الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين (¬3)، وخلفه أمم لا يُحصى عددهم إلا الله، كلهم خرجوا يحجون معه، وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر، إما لحدوث عهده بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد، ولا سيما النساء. ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر بأصحابه ولا يعلمهم قبل الدخول في الصلاة أنه يقصر: حديث ذي اليدين أن النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم من ركعتين في صلاة الظهر أو العصر ناسيًا، فقال له ذو اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟» فقال: «لم أنس ولم تقصر» قال: بلى قد نسيت ...» (¬4). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1229). (¬2) «مجموع الفتاوى» (24/ 21، 14/ 105). (¬3) صحيح: يأتي في «الحج». (¬4) صحيح: يأتي في «سجود السهو».

أركان الصلاة

فلم يقل له: لو قصرت لأعلمتكم حتى تنووا القصر. قلت: وفائدة هذا أن المسافر إذا صلى خلف إمام ببلدة فرآه قصر الصلاة فله أن يسلم معه ولا يشترط أن يكون قد نوى القصر قبل الصلاة. [5] صلاة من يقصر خلف المتم: وهذا جائز، لكن يُلزم المأموم حينئذ أن يتم صلاته أربعًا، حتى ولو كان اقتداؤه بإمامة لحظة: - فعن موسى بن سلمة قال: «كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬1). - وعن ابن عمر «أنه كان إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين» (¬2). - وعن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم [يعني المقيمين] أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك وقال: «يصلي بصلاتهم» (¬3). لا يجوز الائتمام بمن يصلي صلاة يختلف فعلها عن فعل صلاته: كأن يصلي الظهر خلف من يصلي جنازة أو كسوفًا ونحوه، لأنه يفضي إلى مخالفة الإمام في الأفعال الظاهرة وهو لا يجوز. أركان الصلاة أركان الصلاة: أقوال وأفعال تتركب منها حقيقة الصلاة وماهيتها، فإذا تخلف واحد من هذه الأركان لم تتحقق الصلاة ولم يعتد بها شرعًا، ولا يُجبر بسجود السهو. ترك الركن في الصلاة (¬4): من ترك الركن في الصلاة فلا يخلو من كونه: (أ) تركه عمدًا: من ترك ركنًا من أركان الصلاة عمدًا بطلت صلاته، ولم تصح بالاتفاق. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 216)، وابن خزيمة (952)، والبيهقي (3/ 153)، وانظر «الإرواء» (3/ 21). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (694). (¬3) صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 157)، وانظر «الإرواء» (3/ 22). (¬4) «ابن عابدين» (1/ 297، 318)، و «الدسوقي» (1/ 239، 279)، و «كشاف القناع» (1/ 385، 402).

(ب) تركه سهوًا أو جهلاً: فإن أمكن تداركه والإتيان به وجب بالاتفاق، فإن لم يمكن تداركه فسدت صلاته عند الحنفية، وعند الجمهور: تُلغى الركعة التي ترك منها الركن فقط، إلا أن يكون نسي تكبيرة الإحرام، فإنه يستأنف من جديد لأنه لم يدخل في الصلاة أصلاً. وأركان الصلاة هي: [1] القيام في الفرض للقادر عليه: (أ) لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} (¬1). (ب) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب» (¬2). (جـ) وقد أجمع العلماء على أن القيام ركن في صلاة الفرض لمن قدر على ذلك، وأجمعوا على أن المريض يسقط عنه القيام إذا لم يستطعه، فيصلي جالسًا، وكذلك يسقط القيام عمن يمكنه لكن يشق عليه مشقة شديدة أو يخشى به زيادة مرضه أو تباطؤ برئه: فعن أنس بن مالك قال: «سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجُحِش (¬3) شقُّه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعدًان فصلينا وراءه قعودًا» (¬4). قال ابن قدامة: «والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام بالكلية لكن لما شقَّ عليه القيام سقط عنه، فكذلك يسقط عن غيره» اهـ (¬5). فوائد: (أ) تجوز صلاة النافلة على الراحلة في السفر مطلقًا سواء كان السفر طويلاً أم قصيرًا، ولا تجوز في الحضر وقد تقدم هذا في «شرط استقبال القبلة». (ب) تجوز صلاة النافلة جالسًا -ولو من غير عذر- لكن ثواب القائم أكبر، فصلاة القاعد أجرها على النصف من صلاة القائم: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 238. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1117)، وأبو داود (939)، والترمذي (369). (¬3) يعني: انخدش جلده وانقشر. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (378)، ومسلم (411) واللفظ له. (¬5) «المغنى» (2/ 571).

فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائمًا فله نصف أجر القاعد» (¬1). قال الخطابي: المراد به: «المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم، ترغيبًا له في القيام مع جواز قعوده» اهـ. قال الحافظ (¬2): «وهو حمل متجه» اهـ. قلت: ووجه هذا الحمل قوله (ومن صلى نائمًا فله نصف أجر القاعد) ولا تجوز الصلاة للمضطجع من غير عذر -عند الجمهور- ولو في نافلة، لأنه لا يعرف أن أحدًا قطُّ صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح، ولو كان هذا مشروعًا لفعله المسلمون على عهد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم أو بعده، ولفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرةً لتبيين الجواز (¬3). وقد قال أنس: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس وهم يصلُّون قعودًا [من مرضٍ] فقال: «إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» (¬4). قلت: هكذا حمل الخطابي حديث عمران على صلاة الفريضة واستحسنه الحافظ، وحمله الأكثرون على صلاة النافلة، فاستوى فيه المعذور وغيره، لأنه يدل على أن القيام في النافلة ليس ركنًا بل مستحب ... ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة في السفر على راحلته دون الفريضة، وأما حديث أنس فلا معارضة فيه، لأن عموم إباحة الجلوس في النافلة لا تمنع ما كان فيه زيادة وصف المرض ولا يخصص به كما لا يخفى، والله أعلم. ويؤيد هذا العموم ما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة جالسًا كحديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدَّن وثَقُل كان أكثر صلاته جالسًا» (¬5) وكذا ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح صلاة الليل قائمًا ثم يقعد، وسيأتي قريبًا. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1115)، والترمذي (371)، والنسائي (3/ 223)، وابن ماجه (1231). (¬2) «فتح الباري» (2/ 585) ط. المعرفة. (¬3) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (23/ 235). (¬4) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1229)، وأحمد (3/ 214) والزيادة له، وانظر «صفة صلاة النبي» (ص: 78). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (732).

فائدتان: الأولى: صلاة الجالس بعذر لا ينقص ثوابها: لأنه كان من عادته أن يصلي قائمًا وقد منعه المرض ونحوه فيكون له الأجر كاملاً لقوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري (2996): «من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا». الثانية: من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينقص ثوابه إن صلى النافلة من غير عذر قاعدًا (¬1): لحديث عبد الله بن عمرو قال: حُديْثُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة» قال: فأتيتُه فوجدته يصلي جالسًا، فوضعت يدي على رأسه، فقال: «ما لك يا عبد الله بن عمرو؟» قلت: حُدِّثتُ يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعدًا على نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدًا! قال: «أجل، ولكني لست كأحد منكم» (¬2). (جـ) يجوز أن يستفتح القراءة في النافلة قاعدًا ثم يقوم باتفاق العلماء، لحديث عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسًا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك» (¬3). (د) ويجوز أن يستفتح النافلة قائمًا ثم يقعد: للحديث السابق. (هـ) صفة الجلوس: من صلى جالسًا فالأفضل أن يجلس على هيئة جلوسه للتشهد، ويفترش في حال القيام والركوع، لإطلاق حديثي عمران وعائشة المتقدمين، إذا المتبادر أن المراد بالجلوس: المعهود في الصلاة. وإن كان يجوز «التربُّع» في الصلاة لا سيما لأجل العذر، فقد جاء هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬4) وعن بعض أصحابه (¬5). أما مدُّ الرجلين في الجلوس في الصلاة فلا يجوز إلا لعذر. (و) تجوز صلاة المضطجع لعذر: سواء في الفرض أو النفل إن لم يستطع ¬

(¬1) «شرح مسلم» للنووي، و «فتح القدير» (1/ 46). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (735)، والنسائي (1659)، وأبو داود (950). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1119)، ومسلم (731). (¬4) أخرجه النسائي (3/ 224)، وابن خزيمة (2/ 236)، والبيهقي (2/ 305) وانظر «صفة صلاة النبي» (ص: 80). (¬5) ورد عن ابن عمر في «مصنف ابن أبي شيبة» (2/ 220).

القعود، وأما في النافلة من غير عذر فقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يُشرع لأنه لم يُنفل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه فعله ولو مرة، قلت: ولو تمسك أحد بظاهر حديث عمران المتقدم «ومن صلى نائمًا فله نصف أجر القاعد» فهل يسعه؟ الصحيح أن له ذلك، وهو مذهب ابن حزم في المحلى (3/ 56) ورجَّحه ابن عثيمين في «الممتع» (4/ 113). (ز) صفة الاضطجاع: من صلى مضطجعًا، فيستحب أن يكون ذلك على جنبه الأيمن مستقبلاً بوجهه القبلة، لأنه السنة في النوم، ولحديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلاً بوجهه القبلة، لأنه السنة في النوم، ولحديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعُّله وترجُّله وطهوره وفي شأنه كله» (¬1). فإن كان لا يستطيع الاضطجاع إلا على هيئة معينة، فهو المتعين له، والله أعلم. القيام في الفريضة في الطائرة والسفينة: من كان في طائرة أو سفينة فيجب عليه القيام -في صلاة الفريضة- إن استطاع، فإن خاف السقوط أو الغرق ونحو ذلك فهو غير مستطيع للقيام، فله أن يصلي جالسًا إيماءً بركوع وسجود، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في السفينة؟ فقال: «صلِّ فيها قائمًا، إلا أن تخاف الغرق» (¬2). الاعتماد على شيء في القيام: من صلى وهو متكئ على حائط أو عصًا ونحو ذلك، فإن كان لعذر، فهذا مما اتفق العلماء على جوازه، لدعاء الحاجة إليه، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3). وعن أم قيس بنت محصن: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسنَّ وحمل اللحم، اتخذا عمودًا في مصلاَّه يعتمد عليه» (¬4). إذا صلى خلف إمام جالسٍ لعذر: فيصلي جالسًا على الأصل كما سيأتي تحريره في «صلاة الجماعة». [2] تكبيرة الإحرام: وهي ركن من أركان الصلاة باتفاق عامة أهل العلم لما يأتي: ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه مرارًا. (¬2) صححه الألباني: أخرجه البزار (68) وغيره، وانظر «صفة صلاة النبي» (ص: 79). (¬3) سورة التغابن، الآية: 16. (¬4) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (948) والبيهقي (2/ 288)، الحاكم (1/ 264)، وانظر «الصحيحة» (319).

1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (¬1). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر ...» (¬2). 3 - وفي لفظ لحديث المسيء صلاته: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يقول: الله أكبر» (¬3). 4 - وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير» (¬4). «والتكبير هنا: هو التكبير المعهود الذي نقلته الأمة نقلاً ضروريًّا خلفًا عن سلف عن نبيِّها صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله في كل صلاة (الله أكبر) لا يقول غيره، ولا مرة واحدة» (¬5). فلا يجزئ للدخول في الصلاة غير قوله (الله أكبر)، وهذا مذهب الثوري ومالك وأحمد والشافعي [إلا أنه أجاز قوله: الله أكبر] وهو مروي عن ابن مسعود، وخالف أبو حنيفة فقال: تنعقد الصلاة بكل اسم لله تعالى على وجه التعظيم مثل: الله العظيم أو الكبير أو الجليل، أو سبحان الله، أو الحمد لله ونحو ذلك قال: فالجميع ذكر (!!) وقياسًا على الخطبة حيث لم يتعيَّن لفظها (!!) ولا شك أنه قياس في مقابل النص وهو فاسد، والصحيح مذهب الجمهور (¬6). لا يصح بغير العربية للقادر عليها: لا يصح التكبير بغير العربية للقادر عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكبِّر بالعربية ولم يعدل عن ذلك أبدًا، وهو القائل: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬7). وأما غير القادر على التكبير بالعربية، فالواجب عليه تعلُّمه -وهو يسير- فإن ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (61) والترمذي (3)، وصححه في «الإرواء» (301) وقد يُنازع فيه. (¬2) صحيح: تقدم بتمامه وتخريجه. (¬3) صححه الألباني: أخرجه الطبراني (5/ 38) وانظر «صفة الصلاة» (ص: 86). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (498). (¬5) «تهذيب السنن» لابن القيم (1/ 49). (¬6) «ابن عابدين» (1/ 442)، و «المدونة» (1/ 62)، و «الأم» (1/ 100)، و «المجموع» (3/ 233)، و «المغنى» (1/ 333). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (631)، وأحمد (5/ 53) من حديث مالك بن الحويرث.

خاف خروج الوقت قبل أن يتعلمه، أو لم يحسن التكبير بالعربية مطلقًا، فإنه يكبِّر بلغته. والله أعلم. [3] قراءة الفاتحة في كل ركعة: قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة من كل صلاة فرضًا أو نفلاً، جهرية كانت أو سرية، وإليه ذهب الثوري ومالك والشافعي وأحمد في المشهور منه، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص (¬1). والدليل على هذا: 1 - حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬2). 2 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، هي خداج، هي خداج، غير تمام» (¬3) والصلاة لناقصة لا تسمى صلاة حقيقة، ومما يدل على أن النقص المراد هنا الذي لا تجزئ الصلاة معه في تمام هذا الحديث عند مسلم: قال أبو السائب: قلت لأبي هريرة: إني أكون أحيانًا وراء الإمام؟ قال: فغمز أبو هريرة ذراعي وقال: «اقرأ بها في نفسك». 3 - في رواية رفاعة بن رافع لحديث «المسيء صلاته» قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «.. ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت ... ثم اصنع ذلك في كل ركعة» (¬4). وذهب أبو حنيفة -وهو رواية عن أحمد- إلى أن الفاتحة لا يتعيَّن قراءتها، وأنه تجزئ قراءة آية من القرآن، وحجة هذا القول: 1 - قوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ .... فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (¬5). وأجيب: بأن الآية الكريمة تحتمل أن المراد بها: الفاتحة وما تيسر معها، ¬

(¬1) «المدونة» (1/ 66)، و «الأم» (1/ 93)، و «المجموع» (3/ 285)، و «المغنى» (1/ 343)، و «الأوسط» (3/ 101). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394) وغيرهما. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (41)، وأبو داود (821)، والنسائي (2/ 135)، والترمذي (312)، وابن ماجه (838). (¬4) أخرجه أحمد (18225) وقوله (اقرأ بأم القرآن) شاذ انفرد به إسحاق بن عبد الله، كما حرَّره شيخنا أبو عمير -حفظه الله- في «شفاء العي» (1/ 192). (¬5) سورة المزمل، الآية: 20.

ويحتمل أنها نزلت قبل نزول الفاتحة، لأنها نزلت بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، فنسخه الله تعالى عنه بها. 2 - في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته قال صلى الله عليه وسلم: «ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن» (¬1). وأجيب بأن قوله (ما تيسَّر): مجمل مبيَّن، أو مطلق مقيد، أو مبهم مفسَّر برواية (اقرأ بأم القرآن) [إن صحت!!] لأن الفاتحة كانت هي المتيسِّرة لحفظ المسلمين لها، وقيل: إن المراد بـ «ما تيسر» فيما زاد على الفاتحة جمعًا بين الأدلة. 3 - أن الفاتحة لو كانت ركنًا لوجب تعلمها ولما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عنها -عند التعذر- إلى بدلها كما في لفظ لحديث المسيء صلاته: «فإن كان معك قرآن وإلا فاحمد الله ...» (¬2). وأجيب بأن هذا فرضه حين لا قرآن معه، على أنه يمكن تقييده بعدم الاستطاعة لتعلم القرآن كما في حديث ابن أبي أوفى: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فقال: «قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله» (¬3). قلت: ولا شك أن مذهب الجمهور أقوى، وهو الذي يتعين المصير إليه، فلا تصح الصلاة التي لا يقرأ فيها بالفاتحة لمن استطاع حفظها، لحديث عبادة المتقدم ولا يعكِّر عليه شيء مما تقدم، لأنه -على أقل تقدير- تضمن حكمًا زائدًا على الآية وحديث المسيء فيتحتم الأخذ به. ثم إن ظواهر هذه الأحاديث إذا ضُمت إلى حديث أبي قتادة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب» (¬4) ومع حمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث «المسيء صلاته»: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» على أن المراد في كل ركعة، دلَّ ذلك كله على ركنية قراءة الفاتحة في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمأموم وبين إسرار الإمام وجهره على ما سيأتي تحريره. ¬

(¬1) صحيح: تقدم مرارًا. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (856). (¬3) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (832) وغيره، وانظر «الإرواء» (303). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (759) بمعناه.

قراءة البسملة في أول الفاتحة: اختلف أهل العلم في حكم قراءة البسملة في أول الفاتحة، تبعًا لاختلافهم في مسألة: هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من الفاتحة أم لا؟ والصحيح أن البسملة آية من القرآن قبل كل سورة إذ أُثبتت في المصحف، وإن كانت -على الأرجح- ليست آية من الفاتحة، فيجب قراءتها قبل الفاتحة كما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. من لم يستطع حفظ الفاتحة: قال الخطابي (¬1): «الأصل أن الصلاة لا تجزئ إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ومعقول أن قراءة فاتحة الكتاب على من أحسنها دون من لا يحسنها، فإذا كان المصلي لا يحسنها ويحسن غيرها من القرآن، كان عليه أن يقرأ منه قدر سبع آيات، لأن أولى الذكر بعد الفاتحة ما كان مثلها من القرآن، وإن كان ليس في وسعه أن يتعلم شيئًا من القرآن، لعجز في طبعه، أو سوء في حفظه، أو عُجْمة في لسانه، أو عاهة تعرض له، كان أولى الذكر بعد القرآن ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد والتهليل ...» اهـ. قلت: وهو قوله صلى الله عليه وسلم لمن لم يستطع حفظ الفاتحة: «قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» (¬2). [4]، [5] الركوع: والطمأنينة فيه: الركوع ركن في كل ركعة من الصلاة بإجماع أهل العلم (¬3)، ومستنده: 1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ...} (¬4). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعًا» (¬5). 3 - مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه في كل ركعة من كل صلاة، مع قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬6). ¬

(¬1) معالم السنن. (¬2) تقدم قريبًا. (¬3) «مراتب الإجماع» لابن حزم (ص: 26). (¬4) سورة الحج، الآية: 77. (¬5) صحيح: تقدم مرارًا. (¬6) صحيح: تقدم قريبًا.

وأقل ما يجزئ في الركوع: أن ينحني بحيث تمس يداه ركبتيه، وقيل: أن ينحني بحيث يكون إلى الركوع التام أقرب منه إلى القيام التام. وأما الطمأنينة: فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم اركع حتى تطمئن راكعًا». ولقوله: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» (¬1). وهي ركن في الركوع -والسجود- عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (¬2). وتتحقق الطمأنينة: «لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء ... ثم يركع ويضع يديه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي» (¬3) وقيل: بمقدار الذكر الواجب في الركوع. [6، 7] الاعتدال بعد الركوع والطمأنينة فيه: لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «... ثم ارفع حتى تطمئن رافعًا». وفي حديث أبي حميد -في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم-: «فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقارٍ مكانه» (¬4) وقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي». ويدخل في ركن الاعتدال: الرفع من الركوع لاستلزامه له. [8، 9] السجود، والطمأنينة فيه: والسجود في كل ركعة مرتين من أركان الصلاة بالإجماع، ومستنده: 1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬5). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا». 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 183)، والترمذي (264)، وأبو داود (840)، وابن ماجه (870). (¬2) «المبسوط» (1/ 21)، و «المدونة» (1/ 71)، و «المجموع» (3/ 407)، و «المغنى» (1/ 360). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (859)، والنسائي (2/ 20)، والترمذي (302)، وابن ماجه (460). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (828). (¬5) سورة الحج، الآية: 77. (¬6) صحيح: تقدم مرارًا.

4 - قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب جبينه» (¬1). 5 - قوله صلى الله عليه وسلم: «أتموا الركوع والسجود، فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم» (¬2). ولابد أن يكون السجود على الأعضاء السبعة: الكفان، والركبتان، والقدمان، والجبهة مع الأنف، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرنا أن نسجد على سبع أعظُم: على الجبهة- وأشار بيده على أنفه- واليدين (وفي لفظ: الكفين) والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر» (¬3). [10، 11] الجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه: وهو ركن من أركان الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا». وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا» (¬4). وبركنيته قال الشافعي وأحمد، ولم ينقل فيه عن مالك شيء، وأما أبو حنيفة فيكفي عنده أن يرفع رأسه مثل حد السيف!! (¬5). [12، 13] التشهد الأخير، والجلوس فيه: وهو ركن من أركان الصلاة تبطل الصلاة بتركه عمدًا أو سهوًا، لما يأتي: 1 - حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل السلام على ميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا: السلام على الله، لكن قولوا التحيات لله ... إلى آخره» (¬6). وهو دليل على أنه فُرض بعد أن لم يكن مفروضًا. ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه الدارقطني (1/ 348) وانظر «صفة الصلاة» (ص: 142). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (418)، ومسلم (424). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (812)، ومسلم (490). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (498)، وابن ماجه (893). (¬5) «الأم» (1/ 100)، و «المجموع» (3/ 412)، و «المغنى» (1/ 375)، «المدونة» (1/ 70)، و «ابن عابدين» (1/ 474). (¬6) صحيح: أخرجه بلفظ (قبل أن يفرض علينا)، النسائي (3/ 40)، والبيهقي (2/ 138)، وانظر «الإرواء» (319) وأصله في «الصحيحين».

2 - حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قعد أحدك في الصلاة فليقل: التحيات لله ...» (¬1). 3 - مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على فعله. وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ومذهب مالك أنه سنة وليس بركن إلا الجزء الذي يوقع فيه التسليم (!!) وعند أبي حنيفة الجلوس قدر التشهد ركن، أما التشهد فلا يجب (!!) (¬2) ولم يأت القائلون بعدم وجوبه بحجة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلِّمه للمسيء صلاته، نعم يصلح هذا حجة إذا تقرر أن حديث المسيء متأخر عن إيجاب التشهد، أما إذا كان حديث المسيء متقدمًا فلا مانع من أن يتجدد إيجاب واجبات لم يشتمل عليها، لأن قصر الواجبات على حديث المسيء فقط وإهدار الأدلة الواردة بعده -تخيلاً لصلاحيته لصرف كل دليل يرد بعده- دالاً على الوجوب- سدٌّ لباب التشريع، وردٌّ لما تجدد من واجبات الصلاة، فإن جهل التاريخ كان القول بالوجوب أرجح لأنه قد وُجِد ما يقضي الوجوب، ولم يتيقن ما يصرفه عن ذلك، فوجب على الموجب عملاً بدليله (¬3). صيغة التشهد: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفىَّ بين كفَّيْه، كما يعلِّمني السورة من القرآن: «التحيات لله والصلوات لله والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» (¬4). وهذا أصح صيغ التشهد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل العلم (¬5)، وإن كان العلماء قد اتفقوا على جواز جمع صيغ التشهد الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي بعضها. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (831)، ومسلم (402). (¬2) «الأم» (1/ 102)، و «المغنى» (1/ 387)، و «مواهب الجليل» (2/ 525)، و «المبسوط» (1/ 29). (¬3) «السيل الجرار» (1/ 219)، و «نيل الأوطار» (2/ 309) ط. الحديث. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6265)، ومسلم (402). (¬5) «الأوسط» لابن المنذر (3/ 207)، و «المحلى» (3/ 207).

فائدة: قد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة في قوله (السلام عليك أيها النبي) بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب، وبين ما بعده فيقال بلفظ الغيبة: (السلام على النبي ...) ففي لفظ عند البخاري (6265) بعد سياق التشهد قال ابن مسعود: «وهو بين ظهرانينا، فلما قُبض قلنا: السلام، يعني على النبي» وقواه الحافظ في «الفتح» (2/ 366) فقال: «قد صح بلا ريب، وقد وجدت له متابعًا قويًّا، قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء: «أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي» وهذا إسناد صحيح اهـ. قال العلامة الألباني -رحمه الله-: «ولابد أن يكون ذلك بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم ويؤيده أن عائشة رضي الله عنها كذلك كانت تعلمهم التشهد في الصلاة» (¬1) اهـ. [14] التسليم: ذهب الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- إلى أن التسليم ركن في الصلاة لما يأتي: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «... وتحليلها التسليم» (¬2). 2 - وعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم الصلاة بالتسليم» (¬3). 3 - مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على التسليم. وقد قيل إن هذه الأدلة لا تنهض للحكم بالركنية، لأنه لم يذكر التسليم في حديث «المسيء» إلا أن يُعلم تأخر حديث على: «تحليلها التسليم» كذا قال الشوكاني (¬4). قلت: هو هنا قد خالف ما كان قرره -فيما نقلته عنه في إيجاب التشهد- من أنه إذا لم يُعلم التاريخ كان القول بالوجوب أرجح للنص الموجب، لكن .. الذي يمكن أن يناقش هو صحة حديث على: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» فمن صح عنده لزمه القول بالركنية، والذي يظهر أنه يدل على الركنية كذلك ما يأتي: 4 - حديث أبي سعدي الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته ¬

(¬1) «صفة صلاة النبي» (ص: 161) وعزاه أثر عائشة للسراج والمخلص في «فوائده» بسندين صحيحين عنها. (¬2) صححه الألباني: وقد تقدم. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (498)، وأبو داود (783). (¬4) «نيل الأوطار» (2/ 352 - الحديث).

فلم يدْرِ كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليَبْنِ على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» (¬1). 5 - وفي حديث ابن مسعود -في سجود السهو-: «.. فليتحرَّ الذي يرى أنه صواب ثم يُسلِّمْ ثم يسجد سجدتي السهو» (¬2). وفيهما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسليم من كل صلاة حتى التي يسهو فيها، وهذا الأمر مع ما تقدم يشعر بفرضيَّة التسليم، والله أعلم. وأما أبو حنيفة فقال: التسليمتان اختيار، وليس السلام من الصلاة فرضًا، بل إذا قعد مقدار التشهد فقد تمت صلاته!! واستُدل له برواية لحديث ابن مسعود في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له التشهد: «فإذا قلت هذا، فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» (¬3). وهذه الزيادة مدرجة في الحديث باتفاق الحفاظ، بل الذي صح عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضًا بلفظ: «مفتاح الصلاة التكبير وانقضاؤها التسليم [إذا سلم الإمام فقم إن شئت]» (¬4). هل تجزئ تسليمة واحدة؟ أم تسليمتان؟ (¬5) ذهب الشافعية والمالكية وجمهور العلماء إلى أن الركن التسليمة الأولى، أما الثانية فسنَّة، وقال ابن المنذر: وكلُّ من أحفظ عنه من أهل العلم يجيز صلاة من اقتصر على تسليمة، وأُحب أن يسلم تسليمتين. اهـ. قال النووي: أجمع العلماء الذين يعتدُّ بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة!! قلت: بل خالف في هذا أحمد بن حنبل -في رواية عنه- فأوجب التسليمتين وهو المذهب عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم وأهل الظاهر وبعض المالكية والحسن ابن صالح، واستدلوا بما يلي: ¬

(¬1) صحيح: يأتي في «سجود السهو». (¬2) صحيح: يأتي في «سجود السهو». (¬3) أخرجه أبو داود (968)، وأحمد (1/ 129)، والدارقطني (1/ 353)، وانظر «المحلى» (3/ 278). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن حزم في «المحلى» (3/ 279)، والبيهقي في «الخلافيات» كما في «النيل» (2/ 251). (¬5) «الأم» (1/ 121)، و «المجموع» (3/ 425)، و «الدسوقي» (1/ 241)، و «كشاف القناع» (1/ 361)، و «الأوسط» (3/ 223).

1 - مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على التسليمتين مع قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولم يصح عندهم أنه سلم تسليمة واحدة. 2 - قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رآهم يشيرون بأيديهم عند التسليم: «... إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ويسلم على أخيه من على يمينه وشماله» (¬1). قالوا: وما دون الكفاية لا يكون مجزئًا. واستدل الجمهور على إجزاء تسليمة واحدة بما يلي: 1 - حديث: «... وتحليلها التسليم» قالوا: وهذا لفظ مطلق يصدق على التسليمة الواحدة. 2 - حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ وفيه: «فلا يقعد في شيء منهن إلا في الثامنة، فإنه يقعد فيها للتشهد، ثم يقوم ولا يسلم فيصلي ركعة واحدة، ثم يجلس فيتشهد ويدعو ثم يسلم تسليمة واحدة: السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا» (¬2) ولفظ مسلم (746): «... ثم يسلِّم تسليمًا يسمعناه» محتمل للتسليمة والتسليمتين، إلا أن التسليمة الواحدة قد ثبتت عن جماعة من الصحابة منهم أنس وابن عمر. فائدتان: [1] أقل ما يجزئ في التسليم لفظ (السلام عليكم) على الأصح وأكمله وأفضله (السلام عليكم ورحمة الله) يمينًا وشمالاً. [2] هل يزاد (وبركاته) في التسليم (¬3)؟ - الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسليم هو قوله: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمينه وشماله، وقد ورد هذا عنه صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة من حديث: جابر بن سمرة، وابن عمر، وابن مسعود. - أما زيادة (وبركاته): فلم ترد مرفوعة بإسناد محتمل إلا من طريق موسى ابن قيس عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن وائل بن حجر، وقد غمز الدارقطني ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (431). (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 236)، وانظر «الإرواء» (2/ 32 - 34). (¬3) هذا خلاصة بحث طيِّب أعدَّه أخونا إبراهيم الشيخ -أثابه الله- بعنوان «ألفاظ التسليم من الصلاة» وقد قدَّم له شيخنا مصطفى العدوي، رفع الله قدره.

واجبات الصلاة

في هذه الرواية، وتكلم بعض العلماء في سماع علقمة من أبيه. ولم ترد موقوفة بإسناد صحيح إلا عن الأسود بن يزيد. على أن تصحيح هذه الزيادة مما يسع الاجتهاد والنظر فيه، فمن صحت عنده أفادته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها أحيانًا (¬1) قليلة في التسليمة الأولى، ومن ضعَّفها لم يعمل بها مع عدم الإنكار على المخالف الذي يفعلها نادرًا، وأما أن يداوم عليها -كما يفعله بعض المتسِّننة- فهو خلاف السنة على كل حال. وليعلم أن جمهور أهل العلم يرون الاقتصار على قول (السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله). [15] ترتيب الأركان: لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها مرتبة، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وعلَّمها للمسيء صلاته مرتبة بقوله: «ثم ... ثم ...». ولأنها عبادة تبطل بالحدث فكان الترتيب فيها ركنًا كغيره (¬2). واجبات الصلاة الواجبات: ما يجب فعله أو قوله في الصلاة، ويسقط بالسهو ويجبره سجود السهو ومن تركه عمدًا بطلت صلاته إذا كان عالمًا بوجوبه. وهذا المصطلح عند الحنفية والحنابلة، إلا أن الحنفية لا يرون تارك الواجب متعمدًا تبطل صلاته، وإنما هو آثم فاسق يستحق العقاب!! وأما المالكية والشافعية فليس عندهم إلا أركان وسنن من حيث الجملة. [1] دعاء الاستفتاح: وهو واجب -على الأرجح- سواء في صلاة الفرض أو النفل أن تستفتح به الصلاة بعد التكبير وقبل قراءة الفاتحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث رفاعة بن رافع- للمسيء صلاته: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ ... ثم يكبر، ويحمد الله عز وجل ويثني عليه ويقرأ ما تيسر من القرآن ... فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته» (¬3). ¬

(¬1) وكذا فعل العلامة الألباني -قَدَّس الله روحه- في «صفة الصلاة» ص 187. (¬2) «الدسوقي» (1/ 241)، و «مغنى المحتاج» (1/ 158)، و «كشاف القناع» (1/ 389)، و «الممتع» (3/ 426). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (859)، والنسائي (2/ 20)، والترمذي (302)، وابن ماجه (460).

فظاهر قوله: «ويحمد الله عز وجل وثني عليه» أنه دعاء الاستفتاح، قال الصنعاني: «فيؤخذ منه وجوب مطلق الحمد والثناء بعد تكبيرة الإحرام» (¬1) اهـ. قلت: ولا مانع من القول بالوجوب إذ قد صحَّ الحديث ولم ينعقد على خلافه إجماع، بل القول بوجوبه هو رواي عن أحمد واختارها ابن بطة (¬2)، وقد أطلق ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/ 172) القول بوجوب التوجيه في الصلاة عن الشافعي وأبي حنيفة (!!) ولم أظفر بما يؤيد هذا عنهما إلا ما وقع في «الدر المختار» (1/ 476) من عدِّ (الثناء) من الواجبات. والأصل في دعاء الاستفتاح أن يُسَرَّ به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر به، وعليه عامة أهل العلم وإنما يجوز للإمام أن يجهر به أحيانًا ليعلمه الناس (¬3). كما جهر عمر بن الخطاب بقوله: «سبحانك اللهم وبحمدك ...» (¬4). يستثنى مما تقدم موضعان: 1 - في صلاة الجنازة: فإنه لا يشرع فيها دعاء الاستفتاح، لأنها مبنية على التخفيف والاختصار، وعن طلحة بن عبيد الله بن عوف قال: «صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: ليعلموا أنها سنة» (¬5) وفي رواية «فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى يسمعنا ...». ففيه إشارة إلى عدم مشروعية دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة، إذ لم يجهر به ليعلمهم إياه كما جهر بالفاتحة. وقيل: بل يشرع فيها كغيرها، والأول أقرب والله أعلم. المسبوق إذا أدرك الإمام في غير القيام: فإنه لا يأتي بدعاء الاستفتاح لفوات محله. ¬

(¬1) «سبل السلام» (1/ 312). (¬2) «الفروع» (1/ 413)، و «الإنصاف» (2/ 120). (¬3) ذكر في «المغنى» (2/ 145) نحوه عن أحمد. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (399) منقطعًا ووصله الدارقطني (1/ 199)، والبيهقي (2/ 34)، ورجحا وقفه، وأخرجه عبد الرزاق (2555 - 2557)، وابن أبي شيبة (1/ 230) من طرق متصلاً ومنقطعًا، وانظر «المجموع» (3/ 277)، و «الإرواء» (340). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1335)، وأبو داود (3182)، والترمذي (1032)، وابن ماجه (2490)، والنسائي (4/ 74، 75)، والرواية الأخرى له.

من صيغ الاستفتاح قد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة صيغ لدعاء الاستفتاح منها: 1 - حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة سكت هُنَيْهَة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله، بأبي وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: «أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبَرَد» (¬1). 2 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال رجل من القوم: «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً» ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبتُ لهان فتحت لها أبواب السماء» قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك (¬2). 3 - حديث عائشة وأبي سعيد وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمُك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك» (¬3). وقد تقدم أن عمر كان يستفتح به. 4 - حديث عليٍّ رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومَحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (¬4)، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفتُ بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عنِّي سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كلُّه بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (601)، والترمذي (3592)، والنسائي (2/ 125). (¬3) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (776)، والترمذي (243)، والنسائي (2/ 132)، وابن ماجه (806) وغيرهم وانظر «الإرواء» (341). (¬4) هذا اللفظ ثابت ولا حرج في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه فهو من باب الاقتداء لا من باب الإخبار عن النفس.

ويقال: وكان يقوله في الفرض والنفل (¬1). مما كان يستفتح به صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل ما جاء في: 5 - حديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل: «اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرائيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدِني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (¬2). قلت: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الاستفتاح غير ذلك، فليراجعها من شاء (¬3). وبكل صيغة مما تقدم أخذ طائفة من أهل العلم (¬4): فأخذ الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي بالمروي عن عمر [وعائشة وأبي سعيد]. وأخذ الشافعي بحديث عليٍّ، وقال أبو ثور: أي ذلك قال يجزيه، واختاره ابن المنذر، قلت: ويستحب التنويع في الاستفتاح بكل ما تيسَّر مما تقدم. وأما مالك -رحمه الله- فكان لا يرى مشروعية الاستفتاح ولا الاستعاذة ولا البسملة (¬5) (!!) وهذه النصوص وغيرها حجة عليه، والله أعلم. [2] الاستعاذة قبل القراءة: وهي واجبة -على الأرجح- لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬6). ففي الآية أمر بالاستعاذة عند إرادة القراءة وحقيقة الأمر الوجوب. ولأن الاستعاذة تدرأ شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد قال بوجوبها في الصلاة: عطاء والثوري والأوزاعي وداود وابن حزم وهو رواية عن أحمد (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (771)، وأبو داود (760)، والترمذي (342)، والنسائي (2/ 130). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (770). (¬3) انظر «صفة صلاة النبي» للألباني (ص: 91 - 95) ط. المعارف. (¬4) «الأوسط» لابن المنذر (3/ 86)، و «الأم» (1/ 106)، و «مسائل أحمد» لأبي داود (30). (¬5) «الأوسط» (3/ 86)، و «المدونة» (1/ 62). (¬6) سورة النحل، الآية: 98. (¬7) «المحلى» (3/ 247)، و «المجموع» (3/ 281)، و «الفورع» (1/ 413)، و «الإنصاف» (2/ 120).

وقد ذهب الجمهور إلى الاستحباب، ومنعها مالك (¬1) (!!). صيغ الاستعاذة: يشرع الاستعاذة في أول القراءة بإحدى الصيغ الآتية: (أ) «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». (ب) «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم». (جـ) «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» (¬2). قال ابن قدامة في «المغنى» (2/ 146): وهذا كله واسع، وكيفما استعاذ فحسن. اهـ. الإسرار بالاستعاذة: الأصل في الاستعاذة الإسرار بها، فإنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جهر بها، ولا عن خلفائه الراشدين أنهم داوموا على الجهر بها، وإنما قد يجهر بها الإمام أحيانًا لتعليم الناس على نحو ما تقدم عن ابن عباس. هل يستعيذ في كل ركعة؟ قال الأكثرون: يجزئه أن يستعيذ في أول ركعة فقط، واستحب الشافعي الاستعاذة في كل ركعة، وأوجبه ابن سيرين (¬3)، قلت: ووجهه أن الآية تقتضي تكرير الاستعاذة عند تكرير القراءة، فمتى حصل الفصل بين القراءتين بالركوع والسجود ونحوهما، فتشرع الاستعاذة، والله أعلم. [3] التأمين بعد الفاتحة: لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه» (¬4). وقد حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، ولم يظهر لي وجه صرفه عن الوجوب!! ¬

(¬1) «ابن عابدين» (1/ 328)، و «الدسوقي» (1/ 251)، و «مغنى المحتاج» (1/ 156)، و «كشاف القناع» (1/ 335). (¬2) وهي ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر «إرواء الغليل» (342). (¬3) «الأوسط» (3/ 89)، وقال بوجوب الاستعاذة في أول كل ركعة ابن حزم في «المحلى» (3/ 254). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (780)، ومسلم (410) من حديث أبي هريرة.

وقال ابن حزم: يجب على المأموم، وأما المنفرد والإمام فيندب لهما (¬1)، لظاهر الحديث المتقدم وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا انتهى من قراءة الفاتحة قال: «آمين» يجهر بها ويمد بها صوته» (¬2). فالصحيح أن التأمين واجب على الإمام والمأموم والمنفرد مطلقًا، جهرًا في الجهرية وسرًّا في السرية والله أعلم. [4، 5، 6] تكبيرات الانتقال، وقول «سمع الله لمن حمده»، وقول: ربنا لك الحمد: 1 - لقوله صلى الله عليه وسلم: «... وإذا كبَّر فكبِّروا ... وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد» (¬3). 2 - ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ففي حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوى، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس» (¬4) ونحوه في حديث أبي حميد الساعدي. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬5). 3 - أمره صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته بذلك فقال -في حديث رفاعة بن رافع-: «إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله عز وجل ويثني عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقولك سمع الله لمن حمده، حتى يستوي قائمًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى ¬

(¬1) «ابن عابدين» (1/ 320)، و «الدسوقي» (1/ 248)، و «مغنى المحتاج» (1/ 160)، و «كشاف القناع» (1/ 339)، و «المحلى» (3/ 262)، و «نيل الأوطار» (2/ 258). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري في «جزء القراءة»، وأبو داود (932)، وصححه الألبان في «صفة الصلاة» (ص: 101). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (722)، ومسلم (409). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (289)، ومسلم (392). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (631).

يستوي قاعدًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصل ... ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته» (¬1). 4 - أنها شعار الانتقال من ركن إلى آخر، ومن هيئة إلى أخرى (¬2). وهذه الأمور الثلاثة واجبة في الصلاة على المنفرد والإمام والمأموم على الصحيح، وهو مذهب الحنابلة، وهي سنة عند الجمهور (¬3). فائدة: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحميد بعد قوله (سمع الله لمن حمده) أربع صيغ، هي: 1 - «ربنا ولك الحمد» (¬4) 2 - «اللهم ربنا ولك الحمد» (¬5). 3 - «ربنا لك الحمد» (¬6) 4 - «اللهم ربنا لك الحمد» (¬7). [7] التسبيح في الركوع والسجود: وهو قول (سبحان ربي العظيم) في الركوع، و (سبحان ربي الأعلى) في السجود، وبإيجابه في الصلاة قال أحمد بن حنبل -في رواية- وهو المذهب، وإسحاق وداود وابن حزم (¬8)، وحجتهم: 1 - حديث عقبة بن عامر قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: «اجعلوها في سجودكم» (¬9) قالوا: وهذا الأمر للإيجاب لاجتماع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ووروده من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (859)، والنسائي (2/ 2)، والترمذي (302)، وابن ماجه (460). (¬2) «الشرح الممتع» (3/ 432). (¬3) «ابن عابدين» (1/ 334) النبي صلى الله عليه وسلم و «الدسوقي» (1/ 243)، و «مغنى المحتاج» (1/ 165)، و «كشاف القناع» (1/ 348). (¬4) البخاري (689)، ومسلم (392). (¬5) البخاري (795)، والترمذي (3423)، والنسائي (1060)، وأبو داود (770). (¬6) البخاري (722)، ومسلم (409). (¬7) البخاري (796)، ومسلم (404). (¬8) «الإنصاف» (2/ 115)، و «المحلى» (3/ 260). (¬9) إسناده ليِّن: أخرجه أبو داود (869)، وابن ماجه (887)، وأحمد (16773).

قلت: الحديث في سنده لين، إلا أنه موافق للآتي بعده فيتأيد به، وهو: 2 - حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظِّموا فيه الربَّ عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم» (¬1). 3 - حديث حذيفة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم»، وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى» (¬2). وقد ذهب الجمهور (¬3) إلى أن التسبيح في الركوع والسجود سنة وليس بواجب بناء على أنه لم يأمر به المسيء صلاته، وهذا متجه عند من يضعِّف حديث عقبة ابن عامر ولا يرى حديث ابن عباس شاهدًا له، وأما من ثبت عنده حديث عقبة فيلزمه القول بالوجوب، لما تقدم مرارًا. [8، 9] التشهد الأوسط والجلوس له: لأمره صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته به -في حديث رفاعة- بقوله: «.. فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد» (¬4). ولسائر الأدلة التي تقدمت في ركنية التشهد الأخير، وإنما لم نقل بركنية التشهد الأوسط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نسيه لم يعد إليه وجبره بسجود السهو (¬5)، ولو كان ركنًا لم ينجبر به (¬6). وبوجوب التشهد الأوسط قال أحمد وإسحاق والليث وأبو ثور وداود وابن حزم. وقال الجمهور: هو سنَّة (¬7)، لأنه لو كان واجبًا لم يسقط بالسهو كالأركان!! ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (479)، وأبو داود (876). (¬2) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (262)، وأبو داود (871)، والنسائي (3/ 226)، وابن ماجه (888). (¬3) «ابن عابدين» (1/ 474)، و «مواهب الجليل» (1/ 525)، و «الأم» (1/ 101)، و «المجموع» (3/ 410). (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (860)، والبيهقي (2/ 133)، وانظر «الإرواء» (337). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1230)، ومسلم (570) من حديث عبد الله بن بحينة. (¬6) «الشرح الممتع» (3/ 441). (¬7) «المحلى» (3/ 268)، و «المجموع» (3/ 430).

سنن الصلاة

وأجيب بأن هذا إنما يكون دليلاً لو كان سجود السهو مختصًّا بترك ما ليس بواجب وذلك ممنوع (¬1). بل إن سجود السهو لا يشرع إلا لترك واجب، «لأن الأصل منع الزيادة في الصلاة، وسجود السهو قبل السلام زيادة في الصلاة، ولا ينتهك هذا المنع إلا لفعل واجب، فإذا وجب سجود السهو لتركه دلَّ ذلك على وجوبه، وإلا لكان وجوده وعدمه سواء» (¬2). الإسرار بالتشهد: أجمع العلماء على الإسرار بالتشهدين وكراهة الجهر بهما، لأنه لم ينقل الجهر بهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس توارثت الإخفاء بالتشهد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، والتوارث كالتواتر (¬3). سنن الصلاة سنن الصلاة: هي أقوال وأفعال يُستحب الإتيان بها في الصلاة، يُثاب فاعلها، ولا تبطل الصلاة بتركها ولو عمدًا، ولا يُشرع بتركها سجود السهو. وليعلم أن في هذا الباب أمور مجمعًا عليها لا مندوحة عن الإتيان بها، وأمورًا أخرى اختلف العلماء فيها، فكان الأنسب في هذا المقام أن أثبت ما صح دليل مشروعيته دون غيره دون التعريج على أوجه الاختلاف فيه، خشية الإطالة، ولأن المقصود معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته للاقتداء به، ولا يضر بعذ ذلك مخالفة من خالف كائنًا من كان. وقد قسمت هذه السنن إلى قولية وفعلية: السنن القولية: 1 - القراءة بعد الفاتحة: فَتُسَنُّ قراءة سورة في الركعتين الأوليين بعد الفاتحة بإجماع العلماء، وكذلك تسن قراءتها -أحيانًا- في الثالثة والرابعة: فعن أبي قتادة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، ويسمعنا الآية أحيانًا، ويقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب» (¬4). ¬

(¬1) «السيل الجرار» (1/ 229). (¬2) «الشرح الممتع» (3/ 443 - 444). (¬3) «المبسوط» (1/ 32)، وانظر «الأوسط» (3/ 207)، و «المجموع» (3/ 444). (¬4) أخرجه مسلم (421)، ونحوه وفي البخاري (759).

وأما القراءة في الثالثة والرابعة فلحديث أبي سعيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الآخريين قدر خمس عشرة آية ... الحديث» (¬1). ويستفاد من الحديث السابق أيضًا: أنه يستحب أن تكون القراءة في الأوليين أكثر من القراءة في الأخريين. ويستحب كذلك ترتيل القراءة وتدبرها بالإجماع، ويكره الإفراط في الإسراع في القراءة بالإجماع، ولقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (¬2). ويستحب سؤال الله تعالى والاستعاذة به عند ذكر آيات الرحمة والعذاب. فعن حذيفة قال: «صليت من النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة ... يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مَرَّ بتعوذ تعوذ ثم ركع» رواه مسلم. ويستحب -في الصلاة- أن يقول: «سبحان الله» إذا قرأ قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (¬3). وإذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (¬4). أن يقول: «سبحانك فبلى». لثبوت الدليل فيهما. ولا يشرع إذا قرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (¬5) أن يقول: «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين». ولا أن يقول إذا قرأ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (¬6): «آمنا بالله». ولا أن يقول إذا قرأ الإمام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬7): «استعنت بالله». فإن هذا كله لا يثبت الحديث فيه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (452). (¬2) سورة المزمل، الآية: 4. (¬3) سورة الأعلى، الآية: 1. (¬4) سورة القيامة، الآية: 40. (¬5) سورة التين، الآية: 8. (¬6) سورة المرسلات، الآية: 50. (¬7) سورة الفاتحة، الآية: 5.

2 - الذكر في الركوع بما يأتي: 1 - «اللهم لك ركعتُ، ولك أسلمت وبك آمنت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي» (¬1). 2 - قوله: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» (¬2). 3 - «سُبَّوحٌ قُدُّوس رب الملائكة والروح» (¬3). 4 - «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» (¬4). 3 - الذكر بعد القيام من الركوع وبعد «ربنا لك الحمد» بما يأتي: 1 - «اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجدُّ» (¬5). 2 - «ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه» (¬6). 4 - الذكر في السجود بما يأتي: 1 - «اللهم لك سجدت وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين» (¬7). 2 - «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» (¬8). 3 - «سبوح قدوس رب الملائكة والروح» (¬9). 4 - «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» (¬10). 5 - الإكثار من الدعاء في السجود، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وأما السجود فاجتهدوا في الداء، فقمن أن يستجاب لكم» (¬11). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (771)، والترمذي (4317)، وأبو داود (760)، والنسائي (2/ 130). (¬2) أخرجه البخاري (2/ 247)، ومسلم (484) وغيرهما. (¬3) أخرجه مسلم (487)، وأبو داود (872). (¬4) أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (2/ 191) بسند حسن. (¬5) أخرجه مسلم (477)، والنسائي (2/ 198). (¬6) أخرجه البخاري (2/ 237)، وأبو داود (770)، والنسائي (2/ 196)، والترمذي (404). (¬7) أخرجه مسلم (771) وقد تقدم. (¬8) تقدم ثلاثتهم قريبًا في (الذكر في الركوع). (¬9) تقدم تخريجه. (¬10) أخرجه مسلم (483). (¬11) أخرجه مسلم (483).

بمعنى: فجدير وحقيق أن يستجاب لكم. وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: «اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّهُ وجِلَّه وأوله وآخره وعلانيته وسرَّه» (¬1). 5 - الدعاء بين السجدتين بما يأتي: 1 - «اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني» (¬2). 2 - «رب اغفر لي .. رب اغفر لي» (¬3). 6 - الصلاة على النبي بعد التشهد الأول والأخير: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره، فيبعثه الله فيما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ثم يصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيدعو ربه ويصلي على نبيه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة فيقعد ثم يحمد ربه ويصلي على نبيه ويدعو ثم يسلم ...» (¬4). وأفضل صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد». 7 - الدعاء بعد التشهد الأول والثاني: فأما بعد الأول: فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع ربه عز وجل» (¬5). وأما بعد الثاني: فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (850)، والترمذي (284) وصححه الألباني. (¬2) أخرجه أبو داود (874)، والنسائي (3/ 226) وانظر «الإرواء» (335). (¬3) أخرجه مسلم (746). (¬4) أخرجه البخاري (6357)، ومسلم (406) وغيرهما. (¬5) تقدم تخريجه.

بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال (¬1) وفي رواية: «ومن المأثم والمغرم». وقد ثبت أدعية أخرى بين التشهد والتسليم ومنها: 1 - «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (¬2). 2 - «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به منيَّ، أنت المقدِّم، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت» (¬3). 8 - التسليمة الثانية: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلِّم تسليمتين، فعن عامر بن سعد عن أبيه قال: «كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده» (¬4). والتسليمة الأولى ركن، أما الثانية فهي سنة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على الأولى: فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن قليلاً» (¬5). 9 - الذكر والدعاء بعد الصلاة: أما الذكر فقد ثبت فيه أحاديث منها: 1 - «من سبَّح في دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين وكبَّر ثلاثً وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير -غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» (¬6). 2 - «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3/ 192)، ومسلم (588) وغيرهما. (¬2) أخرجه البخاري (2/ 265)، ومسلم (2705) وغيرهما. (¬3) أخرجه مسلم (771)، وأبو داود (760)، والترمذي (3417)، والنسائي (2/ 130). (¬4) رواه مسلم (1/ 582). (¬5) أخرجه الترمذي (295) بسند صحيح. (¬6) رواه مسلم (597).

قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» (¬1). 3 - «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجد» (¬2). 4 - كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثًا، وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (¬3). 5 - عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمُعَوِّذات دُبُرَ كل صلاة» (¬4). 6 - «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يحل بينه وبين دخول الجنة إلا الموت» (¬5). وأما الدعاء بعد الصلاة: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بعدة صيغ منها: 1 - «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (¬6). 2 - «اللهم إني أعوذ بك من الجبْن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر» (¬7). 3 - «رب قِني عذابَك يوم تبعث عبادك» (¬8). 4 - «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» (¬9). ¬

(¬1) رواه مسلم (594). (¬2) رواه البخاري (844)، ومسلم (471). (¬3) رواه مسلم (591). (¬4) رواه أبو داود (1523)، والترمذي (2903)، والنسائي (1336) بسند حسن. (¬5) رواه ابن السني بسند حسن. (¬6) أخرجه أبو داود (1508)، والنسائي (3/ 53) بسند صحيح. (¬7) أخرجه البخاري (2822)، والترمذي (3562)، والنسائي (8/ 266). (¬8) أخرجه مسلم (709). (¬9) أخرجه مسلم (771) وقد تقدم.

السنن الفعلية في الصلاة

5 - «اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملاً متقبلاً» (¬1). 6 - «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر» (¬2). فائدة: الدعاء بعد الصلاة مستجاب -إن شاء الله- فقد قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل، ودبر الصلوات المكتوبات» (¬3). السنن الفعلية في الصلاة 1 - اتخاذ السترة في الصلاة: يُسَنُّ له أن يجعل أمامه سترة -في الصلاة- تمنع المرور أمامه، وتكف بصره عما وراءها. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم فليصلِّ إلى سترة، وليدنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته» (¬4). - وهذه السترة قد تكون جدارًا أو أسطوانة (عمودًا) أو عصا مغروزة أو نحو ذلك، وأقل ذلك ما يكون مثل مؤخرة الرحل وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب: لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصلِّ، ولا يبالِ من مَرَّ وراء ذلك» (¬5). وإذا اتخذ هذه السترة فلا يسمح لأحد أن يمر أمامه في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان» (¬6). وإن كان قد عارض هذا بعض العلماء بأدلة صحيحها غير صريح، وصريحها غير صحيح، فقالوا: لا يقطع الصلاة شيء، وتأولوا الحديث المتقدم بأن المراد بقطع الصلاة في الحديث قطع الخشوع، وليس بطلان الصلاة بمجرد المرور (¬7). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (925)، وأحمد (4/ 55) بسند حسن. (¬2) أخرجه النسائي (8/ 262)، وابن السني (111) بسند حسن. (¬3) أخرجه الترمذي (3499) وصححه الألباني. (¬4) أخرجه أبو داود (681)، والنسائي (2/ 62)، والحاكم (1/ 251) واللفظ له وهو صحيح. (¬5) أخرجه مسلم (499)، والترمذي (334)، وأبو داود (671). (¬6) أخرجه البخاري (487)، ومسلم (505) وغيرهما. (¬7) زاد المعاد (1/ 306)، وجامع أحكام النساء (1/ 424).

فوائد (¬1): 1 - مرور الجارية الصغيرة التي لم تحض لا يقطع الصلاة لأنه لا يقال لها امرأة، فعن قتادة قال: لا تقطع المرأة صلاة المرأة، قال: وسئل هل يقطع الصلاة الجارية التي لم تحض؟ قال: لا (¬2). 2 - مرور المرأة عن يمين ويسار الرجل وهو يصلي لا يقطع صلاته. 3 - وقوف المرأة بجانب الرجل لا يُبطل صلاته، فعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعليَّ مرط وعليه بعضه إلى جنبه» (¬3). إذا كنت تصلين في جماعة فلا حرج في المرور بين الصفوف، لأن سترة الإمام سترة للمأموم، فعن ابن عباس قال: «أقبلت راكبًا على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى، فمررت بين يدي الصف، فنزلت فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد» (¬4). 2 - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول وكذا عند كل رفع وخفض: فعن نافع: أن ابن عمر «كان إذا دخل في الصلاة كبَّر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه» ورفع ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم (¬5). قلت: هذه هي المواضع الأربعة التي يتأكد فيها رفع اليدين، لكن يُسَنُّ أحيانًا رفع اليدين عند كل رفع وخفض، لحديث مالك بن الحويرث أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه» (¬6). محل الرفع وصفته: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه تارة مع التكبير، ¬

(¬1) جامع أحكام النساء (1/ 414). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2/ 28) بسند صحيح إلى قتادة. (¬3) أخرجه مسلم (2/ 148)، وأبو داود (370)، وابن ماجه (652) والنسائي. (¬4) أخرجه البخاري (493)، ومسلم (504) وغيرهما. (¬5) أخرجه البخاري (739)، وأبو داود (727)، ونحوه عند مسلم (390). (¬6) أخرجه النسائي (2/ 206) وأحمد (493) وهو صحيح.

وتارة بعده، وتارة قبله، ويستحب أن يرفع اليدين ممدودتي الأصابع، ويجعلهما حذو منكبيه كما في حديث أبي قتادة (¬1)، أو يجعلهما حذو أذنيه كما في حديث وائل بن حجر المتقدم. 3 - وضع اليمنى على اليسرى فوق الصدر: فعن سهل بن سعد قال: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» (¬2). وعن وائل بن حجر قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره» (¬3). 4 - النظر محل السجود: فعن عائشة قالت: «لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها» (¬4). 5 - استواء الظهر في الركوع وعدم رفع الرأس أو خفضه، والقبض بالكف على الركبتين مع تفريج الأصابع ومباعدة العضدين عن الجنبين: لحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره حتى يعتدل ولا يبقى محدودبًا» (¬5). وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لم يُشخص رأسه ولم يُصوِّبه ولكن بين ذلك» (¬6). وفي حديث أبي حميد: «.. ثم ركع، فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ووتَّر يديه فتجافى عن جنبيه» (¬7). وعن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا ركع فرَّج أصابعه» (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري وغيره. (¬2) أخرجه البخاري (740)، ومالك في الموطأ (376). (¬3) أخرجه ابن خزيمة (479)، وصححه الألباني في «الإرواء» (352). (¬4) أخرجه الحاكم (1/ 479)، وصححه الألباني. (¬5) أخرجه البخاري (828)، وأبو داود (717). (¬6) أخرجه مسلم (498)، وأبو داود (768). (¬7) أخرجه أبو داود (720)، والترمذي (259) وهو صحيح. (¬8) أخرجه ابن خزيمة (594) وصححه الألباني.

6 - النزول في السجود على اليدين قبل الركبتين: لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» (¬1). 7 - تمكين الجبهة والأنف واليدين من الأرض مع مجافاة اليدين عن الجنبين، ووضع الكفين حذو المنكبين أو الأذنين، ورفع المرفقين، ونصب القدمين ورصُّ العقبين واستقبال القبلة بأصابع الكفين والقدمين: ففي حديث أبي حميد: «.. فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة» (¬2). وعن عبد الله بن بُحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا صلى فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه» (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك» (¬4). وفي حديث أبي حميد: «.. كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه» (¬5). وفي حديث عائشة: «.. فوجدته ساجدًا راصًّا عقبيه مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة» (¬6). فائدة: ذهب فريق من العلماء إلى أن المرأة تخالف الرجل في هيئات الركوع والسجود فقالوا: إنها تجمع نفسها ولا تجافي، وتضم فخذيها وغير ذلك لأن هذا أستر لها (¬7). لكن لم يرد أي دليل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيح السند يوضح أي فرق بين صفة صلاة المرأة وصفة صلاة الرجل، وكذلك لم نقف على شيء ثابت صحيح ¬

(¬1) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد بسند حسن. (¬2) أخرجه البخاري وأبو داود. (¬3) أخرجه البخاري (807)، ومسلم (495) وغيرهما. (¬4) أخرجه مسلم (494). (¬5) أخرجه ابن خزيمة والترمذي. (¬6) أخرجه ابن خزيمة (654)، والبيهقي (2/ 116) وصححه الألباني. (¬7) انظر سنن البيهقي (2/ 222)، والمغنى (1/ 562)، وسبل السلام (1/ 308)، ورد على هذا المذهب ابن حزم في المحلى (4/ 124) ولم يفرق بين الرجل والمرأة في هيئات الصلاة.

عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وعلى ذلك فمن تمسك بالأصل وسوَّى بين صلاة الرجل والمرأة في جميع الهيئات لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فرأيه أسدَّ وأقوى وخصوصًا إذا كانت المرأة تصلي منفردة - ومن رأى أن المرأة تفارق الرجل في هذه الهيئات وأنها مأمورة بكل ما هو أستر لها، فله وجهه وبه قال عدد كبير من السلف الصالح والله أعلم (¬1). 8 - افتراش الرِّجلْ اليسرى ونصب اليمنى في الجلسة بين السجدتين: فعن عائشة قالت: «وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى» (¬2). ويجوز كذلك -بين السجدتين- أن ينصب قدميه ويقعد على العقبين (أحيانًا) وهو ما يسمى بالإقعاء. لحديث طاوس قال: «قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين فقال: سنة، فقلنا له: إنا لنراه جفاء بالرَّجُل، فقال ابن عباس: بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم» (¬3). وعن أبي الزبير أنه: «رأى عبد الله بن عمر إذا سجد حين يرفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه، ويقول: إنه من السنة» (¬4). 9 - إطالة الجلسة بين السجدتين: وقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم» (¬5). وهذه السُّنة تركها الناس من بعد انقراض عصر الصحابة، ولهذا قال ثابت: «وكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه: يمكث بين السجدتين حتى نقول: قد نسي أو: قد أوهم» (¬6). 10 - الجلوس بعد السجود قبل القيام للركعة الثانية أو الرابعة (جلسة الاستراحة): فيُسَنُّ بعد الفراغ من السجود الثاني من الركعة الأولى والثالثة أن يجلس جلسة خفيفة قبل قيامه إلى الركعة الثانية والرابعة. ¬

(¬1) جامع أحكام النساء لشيخنا (1/ 378) بتصرف يسير. (¬2) أخرجه مسلم (498)، وأبو داود (768). (¬3) أخرجه مسلم (498)، وأبو داود (768). (¬4) أخرجه مسلم (536)، وأبو داود (830)، والترمذي (282). (¬5) أخرجه مسلم (473)، ومعنى قوله: (قد أوهم): أوقع في ذهنهم أنه ترك ما بعده. (¬6) أخرجه البخاري (2/ 249)، ومسلم (473).

لحديث مالك بن الحويرث أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا» (¬1). 11 - الاعتماد على الأرض باليدين عند النهوض إلى الركعة الجديدة: لقول مالك بن الحويرث: «ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ .... فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام» (¬2). 12 - الافتراش في الجلوس للتشهد الأول والتورك في التشهد الأخير: الافتراش هو: أن ينصب رجله اليمنى ويفترش اليسرى فيجلس عليها. والتورك هو: أن ينصب اليمنى ويقدم اليسرى ويجعل مقعدته على الأرض. ففي حديث أبي حميد: «.. فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدَّم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته» (¬3). فائدة: إذا كانت الصلاة ركعتين فقط بمعنى أن فيها تشهدًا واحدًا فالسنة فيه الافتراش، لحديث عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: «... وكان يقو في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ...» (¬4). 13 - الإشارة بالسبابة في التشهد من أوله إلى آخر الدعاء والرمي بالبصر إليها: لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعيه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها [ورمى ببصره إليها]، ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها» (¬5). فائدة: لا تجوز الإشارة بغير السبابة اليمنى، فعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «مرَّ عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بإصبعي فقال: أحدِّ أحدِّ، وأشار بالسبابة» (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (823)، ومسلم (829). (¬2) أخرجه البخاري (824). (¬3) أخرجه البخاري (1/ 201)، وأبو داود (194)، والترمذي (2/ 105). (¬4) أخرجه مسلم (1/ 357). (¬5) أخرجه مسلم (580). (¬6) أخرجه أبو داود (2/ 80)، والنسائي (3/ 38).

أمور تباح في الصلاة

وإذا كانت السبابة اليمنى مقطوعة فالراجح أن الإشارة تسقط في حقه ولا تشرع الإشارة بغيرها والله أعلم. أمور تباح في الصلاة (أ) الأفعال المباحة في الصلاة: 1 - حمل الطفل في الصلاة: فعن أبي قتادة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سد وضعها وإذا قام حلمها» (¬1). 2 - المشي اليسير للحاجة: فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت، والباب عليه مغلق، فجئت فاستفتحت فمشى ففتح لي، ثم رجع إلى مصلاه، ووصفت أن الباب في القبلة» (¬2). 3 - الحركة لإنقاذ الطفل أو غيره من التردِّي أو مما يؤذيه: عن الأزرق بن قيس قال: «كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينما أنا على حرف نهر إذا رجل يصلي [وهو أبو برزة الأسلمي] وإذا لجام دابته بيده فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها ... قال: إني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات أو سبع غزوات أو ثمانية وشهدت تيسيره وإني كنت أراجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق عليَّ» (¬3). قال الحافظ في الفتح (3/ 82): ظاهر سياق القصة أن أبا برزة لم يقطع صلاته، يؤيده قوله في رواية عمرو بن مرزوق: «فأخذها ثم رجع القهقري» فإنه لو كان قطعها ما بالى أن يرجع مستدبر القبلة، وفي رجوعه القهقري ما يشعر بأن مشيه إلى قصدها ما كان كثيرًا ...» اهـ. فائدة: يدخل في هذا أنه يجوز لك إذا كنت تصلين ودقَّ جرس التليفون -مثلًا- أن ترفعي السماعة ليعلم الطالب أنك في صلاة ونحو ذلك. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (516)، ومسلم (543) وغيرهما. (¬2) أخرجه الترمذي (598)، وأبو داود (910)، والنسائي (3/ 11) وحسنه الألباني. (¬3) أخرجه البخاري (1211).

4 - مدافعة المار أمامه في الصلاة: وقد تقدم حديث أبي سعيد في الأمر بمقاتلة المار بين يدي المصلي. 5 - قتل الحية والعقرب وما يؤذي في الصلاة: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر بقتل الأسودين في الصلاة: العقرب والحية» (¬1). 6 - غَمْز رِجل النائم للحاجة: عن عائشة قالت: «كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فإذا سجد غمزني، فإذا قام مددتها» (¬2). 7 - خَلْع النعل ونحوه أثناء الصلاة للحاجة: عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ....» (¬3) الحديث. 8 - البصاق في الثوب أو في المنديل: عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقنَّ قِبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا» ثم طوى ثوبه بعضه على بعض (¬4). 9 - إصلاح الثوب وحكُّ الجسد في الصلاة: فعن جرير الضبي قال: «كان عليٌّ إذا قام في الصلاة وضع يمينه على رسغ يساره، ولا يزال كذلك حتى يركع إلا أن يُصلح ثوبه أو يحكَّ جسده» (¬5). وقال ابن عباس: «يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء» (¬6). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (921)، والنسائي (1202)، والترمذي (390)، وابن ماجه (1245) واللفظ له وهو صحيح. (¬2) أخرجه البخاري (1209)، ومسلم (512) وغيرهما. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) أخرجه مسلم (3008)، وأبو داود (477). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 391)، والبخاري (2/ 58) معلقًا بصيغة الجزم. (¬6) أخرجه البخاري (2/ 58) معلقًا بصيغة الجزم.

10 - التسبيح للرجال والتصفيق للنساء إذا ناب شيء في الصلاة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «... من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبَّح التفت إليه، وإنما التصفيح للنساء» (¬1) والتصفيح والتصفيق بمعنى واحد وهو ضرب صفحة الكف على صفحة الكف الآخر (¬2). فائدة: قد علمت أنه لا يشرع للمرأة التسبيح في الصلاة إذا نابها شيء فيها، لكن هذا يجوز لها إذا لم يكن بُدَّ من التسبيح وفي غير حضرة الرجال، فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء وقالت: «سبحان الله ...» وهو متفق عليه. 11 - الالتفات يمنة أو يسرة لحاجة: عن جابر قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا فأشار غلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودًا» (¬3). وفي حديث سهل بن سعد: «.... فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف، فصفَّق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله ....» (¬4). 12 - الإشارة باليد أو الرأس للحاجة: عن جابر قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المصطلق فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته فقال بيده هكذا، ثم كلمته فقال بيده هكذا (أشار بها) وأنا أسمعه يقرأ ويومئ برأسه، فلما فرغ قال: «ما فعلت في الذي أرسلتك فإنه لم يمنعني من أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي» (¬5). وأشار النبي صلى الله عليه وسلم للجارية التي بعثتها أم سلمة تسأله عن الركعتين اللتين رأته يصليهما (¬6). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1201)، ومسلم (421) واللفظ له. (¬2) النهاية لابن الأثير (3/ 34). (¬3) أخرجه مسلم (413)، والنسائي (3/ 9)، وأبو داود (588). (¬4) أخرجه البخاري (684)، ومسلم (421) وغيرهما. (¬5) أخرجه مسلم (540)، وأبو داود (926). (¬6) أخرجه البخاري (4370)، ومسلم (834).

13 - رد السلام إشارةً على من سلَّم عليك: فإذا سَّلم عليك أحد وأنت في الصلاة فمن المعلوم أنه لا يجوز أن ترد عليه كلامًا، لكن يجوز أن ترد إشارة باليد، فعن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: هكذا، وبسط كفه [وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق] (¬1). 14 - رفع الرأس في السجود للتحقق من الأمر إذا أطال الإمام: فإذا كنت في جماعة فأطال الإمام السجود أو لم تسمع التكبير أو نحو ذلك فيجوز لك -وأنت ساجد- أن ترفع رأسك لتتحقق من الأمر. فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا أو حُسينًا فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، فقال: «كل ذلك لم يكن، ولكنَّ ابني ارتحلني (¬2) فكرهت أن أُعجله حتى يقضي» (¬3). 15 - النظر في المصحف والقراءة منه في صلاة النافلة للحاجة: فحيثما دعت حاجة كإرادة التطويل في صلاة القيام -مع عدم الحفظ- مثلًا فإنه لا بأس بالقراءة من المصحف في الصلاة: فعن القاسم أن «عائشة كانت تقرأ في المصحف فتصلي في رمضان» (¬4) وقال القاسم: «كان يؤم عائشة عبدٌ يقرأ في المصحف» (¬5). أما فعل هذا في الفرض فلا يجوز، وكذلك في النفل إذا لم تكن حاجة. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (915) بسند صحيح. (¬2) أي: اتخذني راحلة له بالركوب على ظهري (حاشية السندي على النسائي 2/ 230). (¬3) أخرجه النسائي (2/ 230) بسند حسن. (¬4) أخرجه عبد الرزاق (2/ 240)، وابن أبي داود في «المصاحب» (192). (¬5) أخرجه البخاري معلقًا في كتاب الأذان باب: إمامة العبد، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 338)، وابن أبي داود في المصاحف (ص: 192).

(ب) الأقوال وما في معناها المباحة في الصلاة

(ب) الأقوال وما في معناها المباحة في الصلاة: 1 - الفتح على الإمام: إذا لُبس على الإمام: إذا لُبس على الإمام في القراءة أن يفتح عليه من وراءه، إذا نتج عن عدم الفتح تغيير في كلام الله تعالى بأي نوع: فعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلُبسَ عليه، فلما انصرف قال لأُبي: صليت معنا؟ قال: نعم، قال: «فما منعك» (¬1). فوائد: 1 - ينبغي ألا يُفتح على الإمام ما دام يُرَدِّد التلاوة، لأنه ربما تذكر بنفسه فهو أولى. 2 - لا يُفتح على الإمام إذا سكت ولم يتردد في القراءة إلا إذا تأخر في سكوته، لأنه يحتمل أن يكون تفكَّر قليلاً فيما يقرأ. 3 - لا يُفتح على الإمام إذا أخطأ في القراءة ما لم يكن خطأ يغير المعنى. فعن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أُقرئت القرآن على ... سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف: إن قلت: غفورًا رحيمًا أو قلت: سميعًا عليمًا أو قلت: عليمًا سميعًا فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب» (¬2). 2 - ترداد الآية في صلاة التطوع: فعن أبي ذر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فرددها حتى أصبح: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (¬3)} (¬4). وعن مسروق: أن تميمًا الداري ردَّد هذه الآية: {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ} (¬5)» (¬6). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (894)، وابن حبان (1/ 316 - إحسان) بسند جيد. (¬2) أخرجه أحمد (20646) بسند صحيح. (¬3) سورة المائدة، الآية: 118. (¬4) أخرجه النسائي (1010)، وأحمد (20831) والحاكم وفي سنده لين. (¬5) سورة الجاثية، الآية: 21. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة «المصنف» (2/ 477).

وعن سعيد بن عبيد قال: «رأيت سعيد بن جبير وهو يؤمهم في رمضان يردد هذه الآية: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} (¬1)، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (¬2) يرددها مرتين أو ثلاثًا» (¬3). قلت: ولم يُنقل هذا في صلاة الفرض، فتركه أولى، والله أعلم. 3 - البكاء والأنين في الصلاة: البكاء في الصلاة إن كان من خوف الله تعالى وذكر الجنة والنار ونحوه كان ممدوحًا مثابًا عليه، ولا يبطل الصلاة كما يظن بعض الناس، وكذلك إن كان لوجع أو مصيبة وكنت مغلوبًا عليك فلا شيء فيه أيضًا. ومما يدل على عدم بطلان الصلاة به: 1 - مدح الله تعالى للباكين بقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (¬4)، وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (¬5). والآيتان تشملان المصلي وغيره. 2 - وعن عبد الله بن الشخير قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولصدره أزيز كأزيز المرِجل» (¬6). وأزيز المرجل هو صوت غليان الماء في الإناء. 3 - وعن علي قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» (¬7). 4 - وعن ابن عمر قال: «لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له في الصلاة، فقال: «مُروا أبا بكر فليصل بالناس»، قالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء، قال: «مروه فيصلي»، فعاودته قال: «مروه فيصلي، إنكن صواحب يوسف» (¬8). ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 71. (¬2) سورة الإنفطار، الآيتام: 6، 7. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (2/ 492). (¬4) سورة مريم، الآية: 58. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 109. (¬6) أخرجه النسائي (1214)، وأبو داود (1/ 328)، وأحمد (4/ 25) وسنده صحيح. (¬7) أخرجه أحمد (1026)، وابن خزيمة (2/ 53) وسنده صحيح. (¬8) أخرجه البخاري (682).

5 - وقال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (¬1) (¬2). فائدة: والأنين [وهو أن تقول «أَهْ»] والتأوه [قول «أُوه» أو «أُوَّه» أو «آه»] لا يبطلان الصلاة، لكن يكرهان إن كانا من غير حاجة. 3 - النفخ أثناء الصلاة لحاجة: فعن عبد الله بن عمر قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله .... ثم نفخ في آخر سجوده فقال: «أف أف»، ثم قال: «رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ...» (¬3). وعن أيمن بن نابل قال: قلت لقدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- أتأذى بريش الحمام في مسجد الحرام إذا سجدنا، فقال: انفخوا» (¬4). 4 - النحنحة في الصلاة للحاجة: ولا بأس بها في الصلاة، «ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم التكلم في الصلاة وقال: «إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» والنحنحة لا تدخل في مسمى الكلام أصلاً، فإنها لا تدل بنفسها ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلمًا وإنما يفهم مراده بقرينة فصارت كالإشارة» (¬5) اهـ. 5 - الكلام اليسير لمصلحة الصلاة: فإن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها إذا كان من الإمام أو المأموم شريطة ألا يكثر، وأن يتوقف التفهيم عليه. ومما يدل على ذلك حديث ذي اليدين المشهور في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس العصر «.. فسلم من ركعتين فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 86. (¬2) أخرجه البخاري تعليقًا في الأذان وانظر «فتح الباري» (2/ 206) وقد ذكر ابن تيمية في الفتاوى (22/ 623) أن هذا الأثر محفوظ عن عمر. (¬3) أخرجه أبو داود (1194)، والنسائي (3/ 137)، وأحمد (2/ 159) ورجاله ثقات، وقد علقه البخاري (2/ 62) بصيغة التمريض للاختلاف في رواية عطاء بن السائب وقد كان اختلط، لكن سماع حماد بن سلمة منه كان قبل الاختلاط في قول ابن معين وأبي داود. (¬4) أخرجه البيهقي (2/ 253) وصححه الحافظ في الفتح (3/ 85). (¬5) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/ 617).

رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن»، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله على الناس فقال: «أصدق ذو اليدين؟» فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم» (¬1). ووجه الدلالة أن الإمام والمأموم تكلما -لمصلحة الصلاة- قبل أن ينهيا الصلاة فكان في حكم الصلاة. 6 - «الحمد» في الصلاة لمن عطس: فيجوز لمن عطس في الصلاة أن يحمد الله في نفسه، لكن لا يشتمه صاحبه. لحديث رفاعة بن مالك قال: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه مباركًا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله وانصرف فقال: «من المتكلم في الصلاة؟» ... فقال رفاعة: أنا يا رسول الله، .... ، فقال: «والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكًا أيهم يصعد بها ...» (¬2). قال الشوكاني: «ويدل أيضًا على مشروعية الحمد في الصلاة لمن عطس ... ويؤيد ذلك عموم الأحاديث الواردة بمشروعيته فإنها لم تفرق بين الصلاة وغيرها» اهـ. قلت: ومما يؤيد هذا أيضًا ما في حديث معاوية بن الحكم قال: بينما أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقال: الحمد لله، فقلت: يرحمك الله .... الحديث» (¬3). وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن شمت العاطس ولم ينه العاطس عن الحمد فدل على مشروعيته والله أعلم. 7 - «الحمد» في الصلاة للأمر السارِّ المُفْرِح: ففي حديث سهل بن سعد في قصة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ¬

(¬1) أخرجه البخاري (714)، ومسلم (573) وغيرهما. (¬2) أخرجه الترمذي (404)، والنسائي (2/ 245)، وأخرجه البخاري (799) لكن ليس فيه ذكر العطاس. (¬3) أخرجه مسلم (537)، وأبو داود (930).

المنهيات في الصلاة

ليصلح بينهم فصلى بهم أبو بكر فلما أتى النبي وهم يصلون أراد أبو بكر أن يتراجع «... فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله من ذلك ...» (¬1). 8 - تكليم المصلي وسؤاله للحاجة: فقد تقدم في قصة جابر لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فكلمه، فلم يرد عليه وأشار إليه بيده (¬2). وكذلك تقدم حديث أسماء قالت: «أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء ...» (¬3). المنهيات في الصلاة وهي الأمور التي ورد النص بتحريمها أو كراهتها في الصلاة، لكن هذه المنهيات لا تبطل الصلاة، وإنما تنقص من أجر المصلي وهي: 1 - الاختصار (وضع اليد على الخَصْر في الصلاة): وهذا لا يجوز، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الخصر في الصلاة» (¬4). وعن عائشة أنها «كانت تكره أن يجعل المصلى يده في خاصرته وتقول: إن اليهود تفعله» (¬5). وعن زياد بن صبيح قال: «صليت إلى جنب ابن عمر ووضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى، قال: هذا الصَّلْب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه» (¬6). قال السندي: «وهيئة الصلب في الصلاة أن يضع يديه على خاصرتيه ويجافي بين عضديه في القيام» اهـ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (684)، ومسلم (431). (¬2) مسلم (540). (¬3) البخاري (1052)، ومسلم (905). (¬4) أخرجه البخاري (1220)، ومسلم (545). (¬5) أخرجه البخاري (3458). (¬6) أخرجه أبو داود (903)، والنسائي (2/ 127)، وأحمد (2/ 30) بسند لا بأس به.

2 - رفع البصر إلى السماء: وهو لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتُخطفنَّ أبصارهم» (¬1). 3 - النظر إلى ما يشغل في الصلاة: لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فقال: «شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية» (¬2). 4 - الالتفات لغير حاجة: وقد تقدم أنه يجوز الالتفات في الصلاة لحاجة، أما إذا لم تكن هناك حاجة تدعو إليه فلا يجوز. فعن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» (¬3). 5 - تشبيك الأصابع: ويكره في الصلاة أن يدخل أصابع إحدى اليدين بين أصابع الأخرى لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه» (¬4). وعن إسماعيل بن أمية قال: «سألت نافعًا عن الرجل يصلي وهو مشبك يديه، قال: قال ابن عمر: تلك صلاة المغضوب عليهم» (¬5). 6 - فرقعة الأصابع: وهي إن قلَّت في الصلاة: كُرهت، لأنها مشغلة عن الصلاة، وإن كثرت: حَرُمت، لأن فيها تلاعبًا بالصلاة: وعن شعبة مولى ابن عباس قال: «صليت إلى جنب ابن عباس ففقعت ¬

(¬1) أخرجه مسلم (429)، والنسائي (3/ 39). (¬2) أخرجه البخاري (752)، ومسلم (556). (¬3) أخرجه البخاري (751)، وأبو داود (897)، والنسائي (3/ 8). (¬4) أخرجه الحاكم (1/ 206)، وهو في صحيح الجامع (445) وله شاهد في مسند أحمد (3/ 42) عن أبي سعيد. (¬5) أخرجه أبو داود (2/ 261)، وصححه الألباني في «الإرواء» (2/ 103).

أصابعي، فلما قضيت الصلاة، قال: لا أمَّ لك!! أتفقع أصابعك وأنت في الصلاة؟!» (¬1). 7 - الالتحاف بالثوب وجعل اليدين من داخل فتركع وتسجد هكذا (السدل): لحديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السَدْل في الصلاة» (¬2). والسَدْل هو: أن تلتحف بثوبك وتدخل يديك من داخل، فتركع وتسجد وهو كذلك. 8 - التثاؤب في الصلاة: ولا يجوز التمادي فيه، بل يجب منعه بوضع اليد على الفم لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التثاؤب [في الصلاة] من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» (¬3). ولا تشرع الاستعاذة عند التثاؤب لعدم الدليل عليها، وهذا من الأشياء المنتشرة بين الناس ولا دليل عليها. 9 - البصاق جهة القبلة أو عن اليمين: لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا قام يصلى فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا» ثم طوى ثوبه بعضه على بعض (¬4). 10 - تغميض العينين في الصلاة: وهو إن قُصد به القربة إلى الله حَرُم، لأنه يدخل في باب البدع، وإلا كُرَه، لمخالفته السنة. قال ابن القيم (¬5): «ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة .... وقد يدل على ذلك مدُّ يده في صلاة الكسوف ليتناول العنقود لما رأى الجنة، وكذلك رؤيته النار وصاحبة الهرة فيها، وصاحب المحجن، وكذلك مدافعته للبهمة التي أرادت أن تمر بين يديه .... [وذكر عدة أحاديث، ثم قال:] ... فهذه ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 334)، وحسنه في «الإرواء» (2/ 99). (¬2) أخرجه أبو داود (629)، والترمذي (376) بسند حسن. (¬3) أخرجه البخاري (3289)، ومسلم (2994)، والترمذي (368) والزيادة له. (¬4) أخرجه مسلم (3008)، وقد تقدم. (¬5) زاد المعاد (1/ 294).

الأحاديث وغيرها يستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة» اهـ. 11 - التمطي في الصلاة: فيكره التمطي في الصلاة، أي التمدُّد، إلا إن كان يسيرًا للحاجة وذلك لأنه عمل ينافي الخشوع في الصلاة، وأخرج ابن أبي شيبة (1/ 349) عن سعيد بن جبير قال: «التمطي ينقص الصلاة». 12 - التطبيق في الركوع: وهو جعل بطن الكف على بطن الكف الأخرى ووضعهما بين الركبتين والفخذين في الركوع. وقد كان هذا مشروعًا في أول الأمر ثم نُهي عنه. فعن مصعب بن سعد قال: «صليت إلى جنب أبي، قال: وجعلت يدي بين ركبتي، فقال لي أبي: اضرب بكفيك على ركبتيك، قال: ثم فعلت ذلك مرة أخرى، فضرب يدي وقال: إنا نهينا عن هذا، وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب» (¬1). 13 - قراءة القرآن في الركوع والسجود: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا ...» (¬2). 14 - بسط الذراعين في السجود: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» (¬3). فلا يجوز بسط الذراعين على الأرض وإنما يُرفع المرفقان كما تقدم. 15 - كفت الثوب (ضَمُّه ومَنْعُه من الانتشار على الأرض) عند السجود، ويدخل في هذا تشمير الكم في الصلاة: فعن ابن عباس قال: «أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبع ونُهي أن يكفت الشعر والثياب» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (790)، ومسلم (535) واللفظ له. (¬2) أخرجه مسلم (479) وقد تقدم. (¬3) أخرجه البخاري (823)، ومسلم (493) وغيرهما. (¬4) أخرجه البخاري (809)، ومسلم (490) واللفظ له.

16 - الإقعاء (إلصاق الإليتين بالأرض ونصب الساقين ووضع اليدين على الأرض): وهذه الهيئة لا تجوز في الجلوس في الصلاة: لحديث عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «... وكان ينهى عن عُقبة الشيطان ...» (¬1). وعقبة الشيطان: هي الإقعاء على الهيئة السابقة. وفي حديث أبي هريرة: «... ونهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب ...» (¬2). فائدة: الإقعاء على هذا المعنى لا يجوز للأدلة المتقدمة، لكن أنبه على أن للإقعاء معنى آخر وهو نصب القدمين ووضيع الإليتين على العقبين في الجلوس بين السجودين، وهو مشروع كما تقدم. 17 - وضع اليد على الأرض في الجلوس في الصلاة إلا لعذر: فعن ابن عمر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس الرجل في الصلاة أن يعتمد على يده اليسرى» (¬3). وفي رواية أن ابن عمر قال: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون. 18 - سجود المريض على شيء مرتفع: فالمريض إن استطاع أن يسجد على الأرض فهو الواجب، وإلا فإنه يومئ إيماءً برأسه ولا يلزمه أن يضع وسادة أو نحوها ليسجد عليها. لحديث ابن عمر قال: «عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه مريضًا، وأنا معه، فدخل عليه وهو يصلي على عود، فوضع جبهته على العود، فأومأ إليه، فطرح العود، وأخذ وسادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعها عنك، إن استطعت أن تسجد على الأرض وإلا فأومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (498). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 265) بسند ضعيف. (¬3) أخرجه أبو داود (1/ 260)، وأحمد (2/ 116)، والحاكم (1/ 230)، والبيهقي (2/ 136). (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 270)، وله شاهد من حديث جابر عند البزار (1/ 275 - كشف الأستار)، والبيهقي (2/ 306)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (323).

19 - مسح الحصى من موضع السجود والعبث في الصلاة: إلا إن كان للحاجة الملحة، فيجوز مرة واحدة ولكن تركه أولى إذا كان وجود الحصى لا يؤدي إلى تقليل الخشوع. لحديث معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوِّي التراب حيث يسجد قال: «إن كنت فاعلاً فواحدة» (¬1). وفي رواية أخرى: «لا تمسح وأنت تصلي، وإن كنت لابد فاعلاً فواحدةٍ لتسوية الحصى» (¬2). فائدة: إذا تعلَّق بالجبهة تراب أو حصى من السجود بالأرض فإنه يكره إزالته لما فيه من العمل المشغل عن الصلاة ولا سيما إذا تكرر وكثر. فعن أبي سعيد قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته» (¬3). وقال ابن مسعود: أربع من الجفاء: ... وذكر منها «ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته» (¬4). فإن كان يؤذي المصلي فإنه يُزال ويمسح والله أعلم. 20 - تقديم النزول بالركبتين قبل اليدين على الأرض في السجود: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه» (¬5). 21 - الإشارة باليدين إلى الجانبين عند التسليم: وهذه الإشارة عند التسليم منتشرة بين عوام الرجال والنساء وهي منهي عنها في الصلاة. فعن جابر بن سمرة أنه قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1207)، ومسلم (546). (¬2) أخرجه أبو داود (1/ 249)، قال النووي: إسناده على شرط البخاري ومسلم. (¬3) أخرجه البخاري (669)، ومسلم (1167). (¬4) أخرجه البيهقي (2/ 285)، وصححه الألباني في «الإرواء» (1/ 97). (¬5) تقدم تخريجه.

مبطلات الصلاة

عليكم ورحمة الله، السلام عليك ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علامَ تُومئُون بأيديكم كأذناب خيل شُمْس (¬1)؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذَه ثم يسلم على أخيه، من على يمينه وشماله» (¬2). 22 - مسابقة الإمام في الصلاة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو: يجعل الله صورته صورة حمار» (¬3). 23 - الصلاة بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط: فعن عائشة قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» (¬4). مبطلات الصلاة 1 - تيقن الحدث المبطل للوضوء: فقد شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يُخَيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: «لا ينفتل -أو لا ينصرف- حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» (¬5). 2 - ترك شرط من شروط الصلاة أو ركن من أركانها بدون عذر: لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته لما رآه لا يطمئن في صلاته: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» (¬6). وقد ذكرنا من قبل شروط الصلاة وأركانها فراجعها. 3 - الأكل والشرب عمدًا: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أكل أو شرب في صلاة الفرض عامدًا أن عليه الإعادة. وكذا في صلاة التطوع عند الجمهور، لأن ما أبطل الفرض يبطل التطوع. ¬

(¬1) المراد الأذناب التي تضطرب وتتحرك ولا تستقر والمقصود رفع الأيدي مع التسليم. (¬2) أخرجه مسلم (431)، والنسائي (1185)، وأبو داود (998). (¬3) أخرجه البخاري (691)، ومسلم (427) وغيرهما. (¬4) أخرجه مسلم (560)، وأبو داود (89). (¬5) أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361). (¬6) أخرجه البخاري (793)، ومسلم (397).

القنوت في الفرائض

4 - الكلام عمدًا لغير مصلحة الصلاة: فعن زيد بن أرقم قال: «كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ} (¬1)، فأمرنا بالسكوت [ونهينا عن الكلام]» (¬2). فائدة: من تكلم في الصلاة ناسيًا أو جاهلاً بالحكم لم تبطل صلاته ففي حديث معاوية بن الحكم في قصة صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس رجل من القوم فحمد الله فقال له: يرحمك الله، فجعل الناس ينظرون إليه فقال: واثكل أُمياه ما لكم تنظرون إلي .... ، الحديث وفيه أنه تكلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاته ولم يأمره بالإعادة لأنه كان جاهلاً بالحكم وإنما قال له: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (¬3). 5 - الضحك الذي يظهر معه الصوت: وهو مبطل للصلاة بالإجماع كما نقله ابن المنذر، وذلك لأنه أفحش من الكلام، لما يصاحبه من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها. وقد جاءت عدة آثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على بطلان الصلاة بالضحك (¬4). فائدة: أما التبسُّم فلا يبطل الصلاة، لكن إن كان لغير عذر كرُه فعن جابر قال: «لا يقطع الصلاة التبسم، ولكن يقطع القرقرة» (¬5). القنوت في الفرائض أولاً: القنوت في صلاة الفجر (¬6): اختلف أهل العلم في مشروعية القنوت في الفجر وفي الوجه الذي يكون عليه، على أربعة أقوال: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 238. (¬2) أخرجه البخاري (1200)، ومسلم (539) والزيادة له. (¬3) أخرجه مسلم (537) وقد تقدم. (¬4) ورد عن جابر وأبي موسى عند ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 387). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 387)، وعبد الرزاق (2/ 378) بسند حسن. (¬6) لأخينا في الله مجدي بن عبد الهادي رسالة نافعة بعنوان «إسفار الصبح في قنوت الصبح» وقد قدم لها وراجعها شيخنا مصطفى العدوي، رفع الله مقامه.

الأول: أنه سُنَّة مؤكدة راتبة، يستحب المداومة عليه: وهو مذهب مالك والشافعي (¬1) وحجة هذا القول ما يلي: 1 - حديث البراء بن عازب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنتُ في الصبح [والمغرب] (¬2). 2 - حديث أنس أنه سئل: أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: «نعم» فقيل له: أوقنت قبل الركوع؟ قال: «بعد الركوع يسيرًا» (¬3). 3 - حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» ثم يقول وهو قائم: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسنى يوسف، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله» ثم بلغنا (¬4) أنه ترك ذلك لما أنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬5) (¬6). 4 - ونحوه عن ابن عمر أنه: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا» بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ .... فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬7) (¬8). قالوا: ووجه الدلالة منهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت بعد القيام من الركوع في الفجر، وهذا يدل على المداومة، وأما تركه لذلك بنزول الآية فلا يعكِّر علينا ¬

(¬1) «المدونة» (1/ 100)، و «الاستذكار» (6/ 201)، و «الأم» (8/ 814)، و «المجموع» (3/ 494)، و «الأذكار» للنووي (69). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (678)، والترمذي (401)، وأبو داود (1441)، والنسائي (2/ 202) وقد اختلف على عمرو بن مرة في لفظ (والمغرب). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1001)، ومسلم (677). (¬4) القائل: الزهري، كما أشار إليه الحافظ في «الفتح» (8/ 75). (¬5) سورة آل عمران، الآية: 128. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (804)، ومسلم (675) واللفظ له. (¬7) سورة آل عمران، الآية: 128. (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (4559).

لأمرين، أحدهما: أن هذا القول بلاغ من قول الزهري كما في رواية أبي هريرة، وهو منقطع لا يصح (¬1)، وعلى فرض صحته فهو متوجِّه إلى المراد: ترك اللعن لا ترك الدعاء جملة (¬2). 5 - ما يُروى عن أنس قال: «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا» (¬3) وهو منكر لا يصح. القول الثاني: أن القنوت -في الفجر وغيره- منسوخ وبدعة: وهو مذهب أبي حنيفة (¬4) واستُدل له بما يلي: 1 - حديث أبي مالك الأشجعي قال: يا أبه، إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، وعلي بن أبي طالب هاهنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: «أي بُنَيُّ محُدَث» (¬5). وأُجيب عنه: بأن والد أبي مالك -طارق بن أشيم رضي الله عنه- مقل من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرف بملازمته صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد أن يخفى عليه قنوته صلى الله عليه وسلم، فقد خفيت أشياء على أكابر الصحابة وأكثرهم ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم (¬6) وقد أثبت القنوت غير طارق، ومن علم حجة على من لم يعلم. قلت: ثم قد ثبت القنوت عن الخلفاء الأربعة كذلك!! 2 - ما رُوى عن أم سلمة قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القنوت في الفجر» (¬7). 3 - ما رُوى عن ابن مسعود قال: «لم يقنت النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهرًا، لم يقنت قبله ولا بعده» (¬8). ¬

(¬1) «فتح الباري» (8/ 75)، و «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (2/ 74). (¬2) انظر: «الأم» (8/ 815)، و «ابن خزيمة» (1/ 316)، و «معالم السنن» (1/ 250)، و «المجموع» (3/ 505)، و «طرح التثريب» (2/ 289)، وانظر «إسفار الصبح» (ص: 52). (¬3) منكر: أخرجه أحمد (3/ 162)، والدارقطني (2/ 39)، والبيهقي (2/ 201)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 441). (¬4) «المبسوط» (1/ 165)، و «فتح القدير» (1/ 431). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه الترمذي (402)، وابن ماجه (1241)، وأحمد (3/ 472)، وغمز فيه العقيلي في «الضعفاء» (2/ 119). (¬6) انظر نماذج من هذا في «مفاتيح للفقه في الدين» لشيخنا -حفظه الله- (ص: 82). (¬7) إسناده تالف: أخرجه الدارقطني (2/ 38). (¬8) إسناده تالف: أخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 245)، والبيهقي (2/ 213).

4 - ونحوه عن ابن عمر قال: «إنما بدعة، ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شهرًا ثم تركه» (¬1). وهذه الثلاثة ضعيفة لا يحتج بها، لكن ثبت عن ابن عمر أنه قال: «ما شهدتُ أن أحدًا فعله» (¬2)!! وعن ابن مسعود: «أنه كان لا يقنتُ في صلاة الفجر» (¬3). 5 - أن الترك في حديث ابن عمر وأبي هريرة -المتقدمين في أدلة الفريق الأول- يدلُّ على النسخ، وقد تقدم الإجابة عن ذلك من وجهين. 6 - قالوا: قد قنت النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر والمغرب، ونُسخ في المغرب بالاتفاق فكذلك الفجر (!!) وأُجيب: بأنه لا يسلَّم النسخ في هذا ولا ذاك. القول الثالث: لا يقنت إلا في النازلة: وهو مذهب أحمد (¬4) وبعض متأخري الحنفية ويُستدلُّ له: بحديث أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» (¬5). القول الرابع: يجوز فعله وتركه: وهو قول الثوري وابن جرير الطبري وابن حزم وابن القيم (¬6). قالوا: ثبت من مجموع الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله أحيانًا ويتركه أحيانًا معلمًا بذلك أمته أنهم مُخيًّرون في العمل به والترك. وقال ابن القيم: «فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء [يعني: الذين منعوه ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (2/ 213). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4954). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4949). (¬4) «المغنى» (2/ 587)، و «فتح القدير» لابن الهمام (1/ 434). (¬5) إسناده لين: أخرجه ابن خزيمة (620) والظاهر أنه مختصر من حديث أنس المتقدم في حكاية قنوته صلى الله عليه وسلم ودعائه على القبائل، وفيه تقييد بعدم القنوت إلا في الدعاء على قوم، وأخشى أن يكون الحمل في هذا على محمد بن محمد بن مرزوق، فقد أنكر ابن عدي عليه حديثين تفرد بها عن محمد بن عبد الله الأنصاري، وهو هنا يرويه عنه!! (¬6) «تهذيب الآثار» (1/ 337)، و «المحلى» (4/ 143)، و «زاد المعاد» (1/ 274).

مطلقًا] وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعد بالحديث من الطائفتين فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفًا للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفًا للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن» اهـ. الراجح: لا شك أن المداومة على قنوت الفجر لم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، فيبقى الأمر دائرًا بين أن يكون سنة في النوازل فقط، أو أن يُفعل تارة ويترك أخرى، وإن كان الذي يظهر لي من خلال الأحاديث الثابتة في المسألة أن الأقرب أنه لا يقنت إلا في النازلة، لا للحديث الذي استُدل به لأصحاب المذهب الثالث، وإنما لأن الظاهر من الأحاديث المفضلة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر فيها جميعًا الدعاء على قوم أو لقوم، وكذلك الذي ثبت عن عمر بن الخطاب ففيه: «.. وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب ... اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردُّه عن القوم المجرمين .....» (¬1). على أنني أُؤكد أن هذا لا يقتضي تبديع المخالف، ولا ترك الصلاة خلفه، فهذا من الجهل بدين الله سبحانه، الذي نبرأ إلى الله منه، ولله درُّ الإمام أحمد حين سئل: عن قوم يقنتون بالبصرة، كيف ترى في الصلاة خلف من يقنت؟ فقال: «قد كان المسلمون يصلون خلف من يقنت، وخلف من لا يقنت» اهـ (¬2). القنوت -في الفجر- يكون بعد الركوع: فإن الثابت في أحاديث أنس وابن عمر وأبي هريرة المتقدمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد القيام من الركوع، وبهذا قال الشافعي وأحمد وإسحاق وهو رواية عن مالك. وذهب مالك -في المشهور عنه- إلى أن محلَّه قبل الركوع، وهذا ثابت عن بعض الصحابة كعمر وعليِّ وابن عباس رضي الله عنهم، فالأمر واسع، لكن الأول أولى كما لا يخفى. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4969). (¬2) نقله عنه ابن القيم في كتاب «الصلاة وحكم تاركها» (ص: 120).

ثانيًا: القنوت في الصلوات الخمس: يشرع القنوت في الصلوات الخمس جميعًا إذا نزلت بالمسلمين نازلة، لحديث ابن عباس قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمد من الركعة الآخرة، يدعو على أحياء من بني سليم على رعل وذكوان وعصية، ويؤمِّن من خلفه» (¬1). فوائد تتعلق بالقنوت: 1 - يرفع الإمام صوته بالدعاء: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولذا نقل أنس وأبو هريرة وابن عباس دعاءه في القنوت. 2 - يؤمِّن الناس خلف الإمام: لما في حديث ابن عباس المتقدم «.. ويؤمِّن من خلفه» قال ابن قدامة: «لا نعلم فيه خلافًا». وعن أبي عثمان قال: «صليت خلف عمر بن الخطاب فقرأ بمائتي آية من البقرة، وقنت بعد الركوع، ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ورفع صوته بالدعاء حتى سمع من وراء الحائط» (¬2). 3 - هل تُرفع الأيدي في القنوت؟ (¬3) ذهب جمهور أهل العلم منهم أبو حنيفة وأحمد وإسحاق -وهو أصح الوجهين عند الشافعية- إلى أنهم يرفعون الأيدي في القنوت، وحكاه ابن المنذر عن عمر -وقد صحَّ عنه كما تقدم- وابن مسعود وغيرهما، ويؤيد هذا المذهب ما جاء في حديث أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم -في صلاة الغداة- رفع يديه فدعا عليهم .... الحديث» (¬4). وقال مالك: لا ترفع الأيدي، والأول أصح، والله أعلم. وستأتي مسائل أخرى تتعلق بالقنوت في «الوتر»، إن شاء الله. ¬

(¬1) حسن: صحيح: أخرجه أحمد (1/ 301)، وابن الجاورد (197)، وابن خزيمة (618)، والحاكم (1/ 225)، والبيهقي (2/ 200) وله شاهد عن أبي هريرة. (¬2) انظر «إسفار الصبح» (ص: 66 - 69) وما يأتي من مراجع. (¬3) إسناده حسن: أخرجه البيهقي في «معرفة السنن» (2/ 83). (¬4) «الأوسط» (5/ 212)، و «المغنى» (2/ 584)، و «المجموع» (3/ 499).

صلاة التطوع

صلاة التطوُّع تعريفها: التطوع في الأصل: فعل الطاعة، وصار في الشرع مخصوصًا بطاعة غير واجبة. وصلاة التطوع هي ما زادت على الصلوات المفروضة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام: «خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال السائل: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوَّع» (¬1). أهميَّة صلاة التطوع: 1 - الصلاة خير الأعمال: الصلاة أفضل عبادات البدن، وخير ما يتُقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استقيموا، ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» (¬2). 2 - الرفعة في الجنة بكثرة التطوع: عن ربيعة بن مالك الأسلمي قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «سَلْ» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: «أو غير ذلك؟» قلت: هو ذاك، قال: «فأعنَّي على نفسك بكثرة السجود» (¬3). وفي حديث ثوبان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة فقال: «عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ...» (¬4). 3 - جبر النقص في الفرائض: عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل لينصرف [من صلاته] وما كتب له إلا عُشْرها تُسْعها ثمنها سْبعها سْدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» (¬5). وقد شرعت صلاة التطوع لتكون جبرًا وتكميلاً لما قد يقع في الفرائض من ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه. (¬2) صحيح بطرقه: أخرجه ابن ماجه (277) وغيره وله أسانيد يصح بمجموعها، انظر «تعظيم قدر الصلاة» (170 - بتحقيقنا). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (489)، والنسائي (2/ 227)، وأبو داود (1320)، وأحمد (4/ 59). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (488)، وانظر «تعظيم قدر الصلاة» بتحقيقي (300). (¬5) أخرجه أبو داود (769)، وأحمد (4/ 321)، وانظر «قدر الصلاة» بتحقيقي (156).

نقص، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا للملائكة -وهو أعلم-: انظروا في صلاة عبدي أتَّمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئًا قال: انظروا هل لعبدي من تطوُّع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضة من تطوُّعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك» (¬1). أقسام صلاة التطوع: [1] تطوع مطلق: وهو الذي لا سبب له، ولا حصر له، ولا لعدد ركعات الواحدة منه، وله أن ينوي عددًا وله أن لا ينويه، بل يقتصر على نية الصلاة، فإذا شرع في تطوع ولم ينو عددًا فله أن يسلم من ركعة وله أن يزيد فيجعلها ركعتين أو ثلاثًا أو عشرًا أو أكثر، ولو صلى عددًا لا يعلمه ثم سلَّم صحَّ (¬2). فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه صلى عددًا كثيرًا، فلما سلَّم قال له الأحنف بن قيس: هل تدري انصرفت على شفع أم على وتر؟ قال: إلا أكن أدري فإن الله يدري، إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحطَّ عنه بها خطيئة» (¬3). متى يتشهد؟ إن تطوع بركعة فلابد من التشهد عقبها، وإن زاد على ركعة فله أن يقتصر على تشهد واحد في آخر صلاته، وهذا التشهد ركن لابد منه، وله أن يتشهد في كل ركعتين كما في الفرائض الرباعية، فإن كان العدد وترًا فلابد من التشهد في الآخرة أيضًا إن كانت صلاته أربعًا، فإن كانت ستًّا أو عشرًا أو أكثر من ذلك شفعًا كانت أو وترًا ففيها أربعة أوجه (¬4): 1 - يجوز أن يتشهد في كل ركعتين وإن كثرت التشهدات، ويتشهد في الآخرة، وله أن يقتصر على تشهده في الآخرة، وله أن يتشهد في كل أربع أو ثلاث أو ست وغير ذلك، ولا يجوز أن يتشهد في كل ركعة لأنه اختراع صورة في الصلاة لا عهد بها. ¬

(¬1) صحيح في الجملة. وانظر «تعظيم قدر الصلاة» بتحقيقي (180). (¬2) «المجموع» للنووي (3/ 541). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 164)، وعبد الرزاق (3561، 4847)، والبزار (9/ 345)، والبيهقي (2/ 489). (¬4) «المجموع» (3/ 542 - 543).

2 - لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال من الصلاة الواحدة، ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من ركعتين إن كان العدد شفعًا، فإن كان وترًا لم يجز بينهما أكثر من ركعة، قال النووي: وهو قوي، وظاهر السنة يقتضيه. اهـ. قلت: وسيأتي الدليل عليه في «قيام الليل». 3 - أن لا يجلس إلا في الآخرة، قال النووي: وهو غلط، قلت: بل ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم له، كما سيأتي في «الوتر». 4 - يجوز التشهد في كل ركعتين وفي كل ركعة، قال النووي: وهو ضعيف أو باطل. الأفضل أن تصلي ركعتين ركعتين: لا خلاف في أن الأفضل أن يسلم من كل ركعتين في نوافل الليل والنهار، وقد رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة الليل [والنهار] مثنى مثنى» (¬1) ولا يصح. والصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» (¬2). وهذا الذي ذكرتُ من جواز جمع ركعات كثيرة من النوافل المطلقة بتسليمة، وأن الأفضل في صلاة الليل والنهار أن يسلِّم من كل ركعتين، هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود وابن المنذر، وحكى عن الحسن وسعيد بن جبير. وقال أبو حنيفة: التسليم من ركعتين أو أربع في صلاة النهار سواء في الفضيلة ولا يزيد على ذلك، وصلاة الليل ركعتان وأربع وست وثمان بتسليمة ولا يزيد على ثمان. [2] التطوع المقيَّد: وهي الصلوات التي ورد النص بمشروعيتها، وهي نوعان: (أ) السنن الرواتب: وهي السنن التابعة للفرائض الخمس، ومن هذه السنن ما يتقدم على الفرائض، وتسمى (السنة القبلية)، ومنها ما يتأخر عنها، وتسمى (السنة البعدية) وفي ذلك معنى لطيف مناسب: ¬

(¬1) شاذ بهذه الزيادة: أخرجه أبو داود (1295)، والترمذي (594)، والنسائي (3/ 227)، وابن ماجه (1322)، وانظر «فتاوى ابن تيمية» (21/ 289) وأعله أحمد والنسائي والترمذي والدارقطني وابن عبد البر وابن حجر. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (990)، ومسلم (749) من حديث ابن عمر.

أما في التقديم فلأن النفوس -لاشتغالها بأسباب الدنيا -تكون بعيدة عن حال الخشوع والحضور التي هي روح العبادة، فإذا قُدِّمت النوافل على الفرائض أنست النفس بالعبادة. - وأما تأخيرها عنها، فلما تقدم من أن النوافل جابرة لنقص الفرائض، فإذا وقع الفرض ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الذي يقع فيه. الرواتب: مؤكدة، وغير مؤكدة: وهذه السنن التابعة للفرائض منها ما هو مؤكد قد داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عشر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح (¬1). وبهذا قال الشافعية والحنابلة (¬2). وعند الحنفية (¬3) الرواتب المؤكدة اثنتا عشرة: كالعشر السابقة لكن قبل الظهر أربع، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعًا قبل الظهر» (¬4). وعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بُنى له بهن بيتُ في الجنة» قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5). زاد الترمذي: «أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر». وأما المالكية فلا تحديد لعدد ركعات السنن الرواتب عندهم، بل يكفي في تحصيل الندب ركعتان في كل وقت. ومن السنن الرواتب ما ليس بمؤكد، وهي ما ورد الندب إلى فعلها في الجملة من غير تأكيد. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1180)، ومسلم (729). (¬2) «المجموع» (3/ 501)، و «كشاف القناع» (1/ 422). (¬3) «ابن عابدين» (1/ 441). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1182). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (728)، والترمذي (415)، والزيادة له، وأبو داود (1250)، وابن ماجه (1141)، ولها شاهد من حديث عائشة عند الترمذي (414)، والنسائي (3/ 260)، وابن ماجه (1140).

سُنَّة الفجر: توكيدها: من آكد السنن الراتبة: ركعتان قبل صلاة الفجر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد منه تعاهدًا على ركعتي الفجر» (¬1) وفي لفظ «لم يكن يدعهما أبدًا» (¬2) وذلك لما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (¬3). قال ابن القيم: في «الزاد» (1/ 315): «.. ولذا لم يدعها -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- هي والوتر سفرًا ولا حضرًا، وكان في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشدُّ من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما» اهـ. تخفيفهما: يُسَنُّ تخفيف ركعتي الفجر، بشرط أن لا تخل بواجب، فعن ابن عمر قال: أخبرتني حفصة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف المؤذن للصبح وبدا الصبح، صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة» (¬4). وعن عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح» (¬5). وعنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُخفِّف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب؟» (¬6). القراءة فيهما بعد الفاتحة: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في ركعتي سنة الفجر أَوْجُه: 1 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قرأ في ركعتي الفجر: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد)» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1093)، ومسلم (1191). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1159). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (725)، والترمذي (416). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (583). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (584). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1095)، ومسلم (1189). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (726).

2 - عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا ...} (¬1). والتي في آل عمران: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (¬2)» (¬3). فيقرأ بعد الفاتحة في الأولى الآية (136) من البقرة، وبعدها في الثانية الآية (64) من آل عمران. 3 - وربما استدل آية آل عمران في الثانية بقوله تعالى {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} (¬4) إلى آخر الآية كما في حديث ابن عباس (¬5). قلت: والأولى أن ينوِّع المرء بين هذا كله إصابة للسنة، كما هو الشأن في سائر العبادات التي صحت على أوجه متنوعة والله أعلم. الاضطجاع على الجنب الأيمن بعدهما: عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، بعد أن يستبين الفجر، ثم اضطجع على شقِّه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة» (¬6). وقد اختلف أهل العلم في حكم الاضطجاع بعد ركعتي سنة الفجر على أقوال (¬7): 1 - يستحب مطلقًا: وهو مذهب الشافعي وبه قال أبو موسى الأشعري ورافع ابن خديج وأنس بن مالك وأبو هريرة رضي الله عنهم، وبه قال ابن سيرين والفقهاء السبعة. 2 - أن الاضطجاع واجب: وهو مذهب أبي محمد بن حزمن بل أغرب -رحمه الله- فجعله شرطًا لصحة صلاة الفجر!! قال شيخ الإسلام: «وهذا مما تفرَّد به عن الأمة» (¬8) اهـ. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 136. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 64. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (727)، والنسائي (2/ 155). (¬4) سورة آل عمران، الآية: 52. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (727)، وأبو داود (1259). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (590). (¬7) «نيل الأوطار» (3/ 28 - 32)، و «المحلى» (3/ 196)، و «المجموع» (3/ 523 - 524). (¬8) نقله ابن القيم في «الزاد» (1/ 319).

قلت: مستنده حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلىَّ أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح، فليضطجع على جنيه الأيمن» (¬1). وأجيب بأن الحديث متكلم فيه، وعلى فرض صحته، فالأمر فيه مصروف إلى الاستحباب بحديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين، فإن كنت مستيقظة حدَّثني وإلا اضطجع» (¬2). وظاهره أنه كان لا يضطجع مع استيقاظها، فكان ذلك قرينة لصرف الأمر إلى الندب، وأجيب بأن تركه صلى الله عليه وسلم لما أمر به أمرًا خاصًّا بالأمة لا يعارض ذلك الأمر الخاص ولا يصرفه عن حقيقته كما تقرر في الأصول، قلت: هذا إذا ثبت الحديث!! 3 - أنه مكروه: وهو قول جمع من السلف منهم ابن مسعود وابن المسيب والنخعي، وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء، وحجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف عنه أنه عمل في المسجد إذا لو عمل به لتواتر نقله!! 4 - أنه خلاف الأولى: وهو مروي عن الحسن البصري. 5 - أنه مستحب لمن يقوم الليل ليستريح: وهو اختيار ابن العربي وشيخ الإسلام ابن تيمية. 6 - أن الاضطجاع ليس مقصودًا لذاته بل للفصل بين السنة والفرض: وهو مروي عن الشافعي، وهو مردود، لأن الفصل يمكن أن يكون بشيء غير الاضطجاع. قلت: والراجح أن الاضطجاع بعد ركعتي سنة الفجر مستحب بشرطين: الأول: أن يكون في البيت لا في المسجد لعدم نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والثاني: أن يكون الشخص ممن يستطيع القيام لصلاة الفجر ولا ينام عنها، والله أعلم. قضاؤهما: من فاتته ركعتا سنة الفجر -لعذر- فإنه يشرع له قضاؤهما متى زال عذره لما يأتي: 1 - حديث أبي هريرة قال عرَّسنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1261)، والترمذي (420)، وأحمد (2/ 415) وغيرهم وقال ابن تيمية هذا باطل وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل، لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1092)، ومسلم (1227).

فيه الشيطان» قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضَّأ، ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلَّى الغداة (¬1). ونحوه حديث عمران بن حصين وقد تقدم. 2 - حديث قيس بن عمرو قال رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الصبح ركعتان» «فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). ولا يعارض ما تقدم حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يصلِّ ركعتي الفجر، فليصلهما بعد ما تطلق الشمس» (¬3) فإنه ليس صريحًا في أن من تركهما لا يصليهما إلا بعد طلوع الشمس -كما قال الجمهور- إذ ليس فيه إلا الأمر لمن لم يصلهما مطلقًا أن يصليهما بعد طلوع الشمس، ولا شك أنهما إذا تركا في وقت الأداء فُعِلا في وقت القضاء، وليس في الحديث ما يدل على المنع من فعلهما بعد صلاة الصبح، والله أعلم. هل يتطوع -بعد طلوع الفجر- سوى ركعتي الفجر؟ (¬4). اختلف أهل العلم في التطوع بعد طلوع الفجر سوى ركعتي السنة اللتين قبل صلاة الفجر على قولين: الأول: يُكره التطوع بغير ركعتي الفجر: وهو قول أكثر السلف منهم الحسن البصري والنخعي وسعيد بن المسيب وأصحاب الرأي، وهو مروي عن عبد الله بن عمرو، وابن عمر وفي إسنادهما مقال. وعن يسار مولى ابن عمر قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر، فقال: يا يسار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة، فقال: «ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا تصلُّوا بعد الفجر إلا سجدتين» (¬5). الثاني: لا بأس أن يتطوع بعد طلوع الفجر: وقد حكاه ابن المنذر عن الحسن ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1098) وغيره. (¬2) حسن بطرقه: وقد تقدم في «أوقات النهي». (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي (423)، وابن خزيمة (1117)، والحاكم (1/ 274)، وابن حبان (2472) وغيرهم. (¬4) «الأوسط» لابن المنذر (2/ 399 - 400). (¬5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (1264)، والترمذي (417)، وانظر «صحيح الجامع» (5353).

البصري -أيضًا- قال: وكان مالك يرى أن يفعل ذلك من فاتته صلاته بالليل، وهو مروي عن بلال رضي الله عنه. قلت: والأول أقوى ويؤيده حديث ابن عمر عن حفصة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتي الفجر» (¬1) وهو يقوى حديث ابن عمر السابق -وإن لم يكن مردُّه إلى حديث حفصة!! - ويستثنى من هذا قضاء الفائتة وصلاة ذات السبب كما تقدم في أوقات النهي، والله أعلم. تنبيهان: 1 - لا يكره الكلام بعد ركعتي الفجر: خلافًا لما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كأحمد وإسحاق، من كراهة الكلام بعد طلوع الفجر حتى يصلى الفجر إلا ما كان من ذكر الله أو مما لا بد منه، إذ لا دليل على ذلك، بل في حديث عائشة الذي تقدم دليل على خلافه، وهو قولها: «فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع». 2 - لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في الدعاء بعد الفراغ من ركعتي الفجر: وفيهما حديثان ضعيفان جدًّا لا يجوز العمل بهما حتى عند القائلين بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، لشدة ضعفهما (¬2). سُنَّة الظهر: وردت سنة الظهر على ثلاثة أوجه: الأول: ركعتان قبلها وركعتان بعدها: كما في حديث ابن عمر قال: «حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح» (¬3). الثاني: أربع ركعات قبلها واثنتان بعدها: فعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعًا قبل الظهر» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1173)، ومسلم (723) وغيرهما. (¬2) نبَّه على هذا العلامة الألباني -رحمه الله- في «تمام المنة» (ص/ 238 - 239) فليراجع. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «كان يصلي قبل الظهر أربعًا واثنتين بعدها» (¬1). وقد تقدم نحوه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها. الثالث: أربع ركعات قبلها وأربع بعدها: لحديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلَّى أربع ركعات قبل الظهر، وأربعًا بعدها حرَّمه الله على النار» (¬2). فائدة: الأولى أن تصلى الأربع ركعتين ركعتين، وأما حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع قبل الظهر لا يُسلَّم فيهن، تفتح لهن أبواب السماء» (¬3) فضعيف لا يصح. قضاء سنة الظهر: - قضاء السنة القبلية: من فاتته السنة قبل الظهر -لعذر- فإنه يقضيها بعدها، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصلِّ أربعًا قبل الظهر صلاهنَّ بعدها» (¬4). - قضاء السنة البعدية: وكذلك يقضي السنة البعدية للظهر إذا زال عذره، ولو بعد صلاة العصر، لحديث أم سلمة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر -وقد نَهَى ذلك- فسألته عنهما فقال: «يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، فإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (730)، وأحمد (6/ 30). (¬2) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (1269)، والترمذي (428)، والنسائي (3/ 265)، وابن ماجه (1160)، وأحمد (6/ 326)، والحاكم (1/ 312) وله طرق يصح بمجموعها. (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1270)، وأحمد (5/ 416)، وعبد بن حميد (226)، والطيالسي (507)، وابن خزيمة (1214)، والبيهقي (2/ 488) ومداره على عبيدة بن متعب، ولا يحتج به وقد ضعف الحديث الحافظ في «الدراية» (1/ 199)، وابن الجوزي في «التحقيق» (108) وهو كذلك. (¬4) حسن: أخرجه الترمذي (426). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (834)، وأحمد (6/ 310).

سنة العصر: ليس للعصر سنة راتبة مؤكدة، لكن يستحب أن يصلي قبلها ركعتين، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة» (¬1) والمراد بين الأذان والإقامة وقد ورد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا» (¬2). والحديث -عند من يصححه- يدل على مشروعية صلاة أربع قبل العصر. تنبيه: ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سرًّا ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد العصر» (¬3). وعنها قالت: «ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجدتين بعد العصر عندي قطُّ» (¬4). وهذه المواظبة من النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة بعد العصر إنما هي من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما ذكر غير واحد من أهل العلم (¬5) قلت: ولعل هذا يتأيد بقولها رضي الله عنها: «والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله [تعني: الركعتين بعد العصر] ... وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما، ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يُثَقِّل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم» (¬6). سنة المغرب: - قبلها: يستحب -لمن شاء- أن يصلي ركعتين قبل صلاة المغرب لما يأتي: 1 - حديث عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء» كراهية أن يتخذها الناس سنة راتبة (¬7). 2 - حديث أنس بن مالك قال: «كان المؤذن إذا أذَّن، قام الناس من أصحاب ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (624)، ومسلم (838). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1271)، والترمذي (430)، وأحمد (2/ 117) وقد صححه الألباني والظاهر خلافه، وانظر الميزان (6/ 332)، والكامل (6/ 243). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (592). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (591). (¬5) انظر «فتح الباري» (2/ 77 - سلفية). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (590). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1129)، وأبو داود (1281).

رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السوراي (¬1) يصلَّون، حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وهم كذلك، يصلُّون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء» (¬2). وهو يدل على استحباب تخفيفهما كما في ركعتي الفجر. والله أعلم. 3 - حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بين كل أذانين صلاة -ثلاثًا- لمن شاء» (¬3). 4 - حديث عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صلاة مرفوضة إلا وبين يديها ركعتان» (¬4). - بعدها: ويتأكد صلاة ركعتين بعد صلاة المغرب كما تقدم في أحاديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة. ويستحب أن تصلى الركعتان بعد المغرب في البيت، لحديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي الركعتين بعد المغرب، والركعتين بعد الجمعة إلا في بيته» (¬5). وعن محمود بن لبيد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد الأشهل فصلى بهم المغرب، فلما سلَّم قال: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» (¬6). والقراءة فيهما: ويستحب أن يقرأ فيهما: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) بعد الفاتحة لحديث ابن مسعود قال: «ما أحصى ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل الفجر بـ (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد)» (¬7). سنة العشاء: - قبلها: يستحب -لمن شاء- صلاة ركعتين قبل العشاء، لعموم الندب إلى الصلاة قبل الفريضة وقد تقدم. ¬

(¬1) السواري جمع سارية وهي الأسطوانة (العمود) والمراد: يتسارعون إليها للاستتار بها ممن يمر بين أيديهم. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (625)، ومسلم (837) وغيرهما. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (624)، ومسلم (838). (¬4) صحيح بما قبله: أخرجه ابن حبان (2455)، والدارقطني (1/ 267) وما قبله يشهد له. (¬5) صحيح: أخرجه الترمذي (432)، والطيالسي (1836)، والطحاوي (1/ 336). (¬6) حسن: أخرجه أحمد (5/ 428)، وابن ماجه (1165). (¬7) حسن لشواهده: أخرجه الترمذي (431)، وابن ماجه (1166) بسند ضعيف، وله شاهد عن ابن عمر عند النسائي (992)، وابن ماجه (833)، وأحمد (4533) بسند لا بأس به.

صلاة الوتر

- بعدها: يتأكد صلاة ركعتين بعد صلاة العشاء، كما تقدم في أحاديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة. ملخص ما سبق في السنن الراتبة: الصلاة ... عدد ركعات الفريضة ... الراتبة المؤكدة (قبلية) ... الراتبة المؤكدة (بعدية) ... الراتبة غير المؤكدة الفجر .... 2 ..................... 2 ..................... - ...................... - الظهر .... 4 .................... - (2) أو (4) ......... 2 ...................... 2 بعد العصر ... 4 .................... - ...................... - ..................... 2 قبل المغرب ... 3 ................... - ...................... 2 ..................... 2 قبل العشاء ... 4 ................... - ....................... 2 ..................... 2 قبل (ب) السنن غير الرواتب: وهي الصلوات التي لا تكون تابعة أو مرتبطة بالصلوات المفروضة وهي: صلاة الوتر تعريفها: الوتر (بفتح الواو وكسرها) لغة: العدد الفردي كالواحد والثلاثة والخمسة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وتر يحب الوتر» (¬1) وكقوله: «من استجمر فليوتر» (¬2) والوتر اصطلاحًا: صلاة الوتر، وهي صلاة تفعل ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، تختم بها صلاة لليل، وسميت بذلك لأنها تصلى وترًا ركعة واحدة أو ثلاثًا أو أكثر ولا تكون شفعًا. وصلاة الوتر اختلف فيها، فقيل: هي جزء من صلاة القيام والتهجد، وقيل: هي غير التهجد (¬3). حُكْم الوتر: لأهل العلم في حكم الوتر قولان: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة. (¬2) صحيح: تقدم في «الطهارة». (¬3) «المجموع» للنووي (4/ 480).

الأول: أنه واجب: وهو مذهب أبي حنيفة (¬1)، وهو من مفرداته، حتى قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا وافق أبا حنيفة في هذا. اهـ. وحجة هذا القول: 1 - حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من لم يوتر فليس منا» (¬2). 2 - حديث أبي أيوب مرفوعًا: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» (¬3). 3 - حديث أبي بصرة مرفوعًا: «إن الله زادكم صلاة، وهي صلاة الوتر، فصلوها فيما بين العشاء إلى الفجر» (¬4). 4 - حديث ابن عمر مرفوعًا: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» (¬5). 5 - حديث أبي سعيد مرفوعًا: «أوتروا قبل أن تصبحوا» (¬6). 6 - حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا أوتر قال: «قومي فأوتري يا عائشة» (¬7). القول الثاني: أنه سنة مؤكدة: وهو مذهب جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وصاحبي أبي حنيفة. وأجابوا عن أدلة أبي حنيفة -مما تقدم وما في معناه- بأن أكثرها ضعيف لا يثبت، وما صح منها وكان مفيدًا ظاهره للإيجاب، فهو مصروف إلى الندب بما يأتي: 1 - حديث طلحة بن عبيد الله في الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ¬

(¬1) «الهداية مع فتح القدير» (1/ 300)، و «المجموع» (3/ 514)، و «نيل الأوطار» (3/ 38). (¬2) ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 443) ونحوه من حديث بريدة وهو ضعيف كذلك، وانظر «الإرواء» (417). (¬3) صحيح موقوفًا: أخرجه أبو داود (1422)، والنسائي (8/ 238)، وأحمد (5/ 418) وصحح الأئمة وقفه. (¬4) صححه الألباني: أخرجه أحمد (6/ 397)، والطحاوي (1/ 250)، وانظر طرقه في «الإرواء» (423). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (998)، ومسلم (751). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (754)، والترمذي (468)، والنسائي (1/ 247)، وابن ماجه (1189). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (512)، والبخاري بنحوه (512).

صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال: هل عليَّ غيرها؟ فقال: «لا، إلا أن تطوع» ... فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق» (¬1) ففي هذا الحديث وحده أربعة أدلة على أن الوتر ليس بواجب، فتأمله. 2 - حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوه ...» الحديث (¬2). وهو من أقوى ما يستدل به لأن بعث معاذ لليمن كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ولو كان الوتر واجبًا أو شيئًا زاده الله للناس على صلواتهم، لأمره صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله قد فرض عليهم ست صلوات لا خمسًا. 3 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر» (¬3) فلم يذكر الوتر في الصلوات المذكورة وهي واجبة. 4 - حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير» (¬4) ولو كان الوتر واجبًا لما جاز فعله على الراحلة كما تقدم. 5 - حديث ابن محيريز عن المُخَدَّجي قال: سأل رجل أبا محمد -رجلاً من الأنصار- عن الوتر، فقال: الوتر واجب كوجوب الصلاة، فأتى عبادة بن الصامت، فذكر ذلك له، فقال: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات افترضهن الله على عباده ...» (¬5). الحديث. والراجح ضعفه. 6 - حديث جابر قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثماني ركعات، وأوتر، فلما كانت الليلة القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج ¬

(¬1) صحيح: تقدم مرارًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (233)، والترمذي (214)، وابن ماجه (1086). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (999)، ومسلم (700) وغيرهما. (¬5) ضعيف على الراجح: تقدم تخريجه في «حكم تارك الصلاة» وانظر تخريجه مفصلاً في «تعظيم قدر الصلاة» بتخريجي.

فيصلى بنا، فأقمنا فيه حتى أصبحنا فقلنا: يا رسول الله رجونا أن تخرج فتصلي بنا، فقال: «إني كرهت -أو خشيت- أن يُكتب عليكم الوتر» (¬1) وهو ضعيف كذلك. فائدة: اختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الوتر واجب على من له ورد من قيام الليل (¬2). قلت: لعل مستنده قوله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» وقد تقدم قريبًا. وقت الوتر: أجمع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر، ثم اختلفوا في جوازه بعد الفجر على خمسة أقوال، أشهرها قولان (¬3): الأول: لا يجوز بعد طلوع الفجر: وهو مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة، وسفيان الثوري وإسحاق وعطاء والنخعي وسعيد بن جبير، وهو مروي عن ابن عمر، وحجتهم: 1 - حديث خارجة بن حذافة -المتقدم قريبًا- وفيه: «فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» (¬4). 2 - حديث أبي سعيد مرفوعًا: «أوتروا قبل أن تصبحوا» (¬5) وفي لفظ له: «من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له» (¬6). 3 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا الصبح بالوتر» (¬7). 4 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى» (¬8). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه ابن خزيمة (1070)، وأبو يعلى (1802)، وابن حبان (2409). (¬2) «الاختيارات» (ص/ 64). (¬3) «الأوسط»، و «التمهيد» (2/ 349 - فتح المالك)، و «بداية المجتهد» (1/ 294)، و «المجموع» (3/ 518). (¬4) صححه الألباني: وقد تقدم وانظر «الإرواء» (423). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) إسناده صحيح: أخرجه ابن خزيمة (1092)، وابن حبان (2409)، والحاكم (1/ 301)، والبيهقي (2/ 478). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (750)، وأبو داود (1436)، والترمذي (467)، وأحمد (2/ 37). (¬8) صحيح: تقدم قريبًا.

5 - عن ابن عمر قال: إذا كان الفجر فقد ذهبت صلاة الليل والوتر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوتروا قبل الفجر» (¬1). الثاني: يجوز بعد طلوع الفجر ما لم يُصِّل الصبح: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور، واستدلوا بآثار وردت عن الصحابة أنهم كانوا يوترون بعد الفجر، منهم ابن مسعود وابن عباس وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وحذيفة وعائشة، ولم يُرو عن غيرهم من الصحابة خلافه. الراجح: الذي يظهر أن الأول أرجح لقوة أدلته، وأما الآثار عن الصحابة فالظاهر -كما يقول ابن رشد- أنها ليست مخالفة للآثار المتقدمة، بل إجازتهم لذلك هو من باب القضاء، لا من باب الأداء، وإنما يكون قولهم خلاف الآثار لو جعلوا صلاته بعد الفجر من باب الأداء فتأمل، ثم إنه ينبغي أن تُتَأمَّل صفة النفل في ذلك عنهم!! وقته المستحب: تقدم أنه يجوز الوتر من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، والأفضل أن يكون في الثلث الأخير من الليل. فعن عائشة قالت: «من كلِّ الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر» (¬2). ويستحب -بالاتفاق- أن يجعل الوتر آخر النوافل التي يصليها بالليل، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» (¬3). وهذا إذا وثق باستيقاظه آخر الليل فيستحب له تأخير الوتر لآخر الليل، فإن خشي ألا يستيقظ للوتر آخر الليل فيستحب أن يوتر قبل النوم: لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل، فليوتر من أوله وليرقد، ومن طمع منكم أن يستيقظ من آخر الليل فليوتر من آخره، فإن صلاة آخر الليل محضورة، فذلك أفضل» (¬4). وعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: «متى توتر؟» قال: أوتر ثم أنام، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (469)، وابن خزيمة (2/ 148)، والحاكم (1/ 302)، والبيهقي (2/ 478). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (996)، ومسلم (745). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (755)، والترمذي (455)، وابن ماجه (1187).

فقال لعمر: «متى توتر؟» قال: أنام ثم أوتر، قال: فقال لأبي بكر: «أخذت بالحزم أو الوثيقة» وقال لعمر: «أخذت بالقوة» (¬1). هل يجوز التنفُل بعد الوتر؟ وهل يكرر الوتر؟ من صلى الوتر، ثم بدا له بعد ذلك أن يصلي نفلاً، فللعلماء فيه قولان (¬2): الأول: أنه يجوز، وله أن يصلي ما شاء لكن لا يعيد الوتر: وهو مذهب أكثر العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة والمشهور عند الشافعية وبه قال النخعي والأوزاعي وعلقمة، وهو مروي عن أبي بكر وسعد وعمار وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم. فأما جواز الصلاة بعد الوتر فيستدل له ما يأتي: 1 - حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلِّم وهو قاعد» (¬3). 2 - حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم: «كان يركع ركعتين بعد الوتر وهو جالس» (¬4). 3 - حديث جابر -المتقدم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أوله وليرقد ... الحديث» (¬5) ويُفهم منه أنه إذا استيقظ -وقد أوتر قبل النوم- فله أن يصلي كما هو واضح. وأما منع تكرير الوتر، فلحديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا وتران في ليلة» (¬6). الثاني: لا يجوز التنفل بعد الوتر إلا أن ينقض وتره ويصلي ثم يوتر: ومعنى نقض الوتر، أن يبدأ نفله بركعة يشفع بها وتره، ثم يصلي شفعًا ما شاء ثم يوتر، وهذا هو القول الآخر عند الشافعية وهو مروي عن عثمان وعلي وأسامة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، وحجتهم: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1421)، وابن ماجه (1202)، وابن خزيمة (1084). (¬2) «فتح القدير» (1/ 312)، و «الزرقاني» (1/ 285)، «المجموع» (3/ 521)، و «كشاف القناع» (1/ 427)، و «بداية المجتهد» (1/ 297). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (746). (¬4) إسناده لين: الترمذي (471)، وابن ماجه (1195) وله شاهد في الصحيح. (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) حسن: أخرجه الترمذي (468)، وأبو داود (1439)، والنسائي (3/ 229) وغيرهم.

قوله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» (¬1). والراجح: القول الأول لثبوت فعل النافلة بعد الوتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدلَّ على الجواز، ولأن نقض الوتر -على الوجه الذي تقدم- ضعيف من وجهين: 1 - أن الوتر الأول مضى على صحته، فلا يتوجه بإبطاله بعد فراغه، ولا ينقلب إلى النفل بتشفيعه. 2 - أن النفل بواحدة غير معروف في الشرع. والله تعالى أعلم. عدد ركعات الوتر وصفته: يجوز الوتر بركعة واحدة، أو ثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع. 1 - الوتر بركعة واحدة: وهو جائز عند الجمهور لأنه يحصل بالركعة الوتر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلَّى واحدة فأوترت له ما قد صلى» (¬2). ولحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الوتر ركعة من آخر الليل» (¬3). وعن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة» (¬4). وأما أبو حنيفة فقال: لا يكون الوتر إلا ثلاثًا، لحديث: «المغرب وتر النهار» (¬5). فلما شبِّهت المغرب بوتر صلاة الليل -وكانت ثلاثًا- وجب أن يكون وتر صلاة الليل ثلاثًا!! قلت: لا يمنع كون صلاة المغرب -وهو ثلاث- وترًا، أن يكون غيرها أيضًا وترًا، ثم إذا كان المغرب وتر النهار، فقد دلَّت الأدلة المتقدمة على أن الركعة الواحدة وتر الليل، وهو واضح. ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (752) وغيره. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (736)، وأبو داود (1335)، والترمذي (440)، والنسائي (3/ 234)، وأحمد (6/ 35). (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (2/ 30، 41)، وابن أبي شيبة (2/ 81)، وعبد الرزاق (4675) من حديث ابن عمر مرفوعًا، وأخرجه مالك (276) موقوفًا عنه ولا يضر وقفه فمالك يوقف المرفوعات وللحديث شواهد عن عائشة وابن مسعود.

2 - الوتر بثلاث ركعات: وهو جائز على صفتين، كلتاهما مشروعة وهما: الأولى: أن يصلي ركعتين ويسلم، ثم يصلي الثالثة وحدها: فعن ابن عمر «أنه كان يسلِّم بين الركعتين والوتر حتى يأمر ببعض حاجته» (¬1). وقد ورد مرفوعًا عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل الشفع والوتر بتسليم يُسمعناه» (¬2). ويشهد له حديث عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ويقرأ في الوتر بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} (¬3). وقد بوب عليه في «صحيح ابن حبان»: (ذكر الخبر الدال على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بالتسليم بين الركعتين والثالثة). الثانية: أن يصلي الثلاث بتشهد واحد: فعن عائشة قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره يزيد على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا ...» (¬4). وعنها: «كان صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن» (¬5). تنبيه: لا يُشرع أن يصلي ثلاثًا بتشهدين وتسليم كصلاة المغرب، لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا توتروا بثلاث، أو توتروا بخمس أو بسبع، ولا تشبَّهوا بصلاة المغرب» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (991)، عن مالك (1/ 125). (¬2) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد (2/ 76)، والطحاوي (1/ 278)، وابن حبان (2433 - 2435) وقواه الحافظ في «الفتح» (2/ 482). (¬3) ضعيف بهذا التمام: أخرجه الطحاوي (1/ 285)، والحاكم (1/ 305)، والدارقطني (2/ 35)، وابن حبان (3432) وقد صح بدون ذكر المعوذتين من حديث ابن عباس وأبي ابن كعب كما سيأتي انظر «التلخيص» (533). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1147)، ومسلم (738) وغيرهما. (¬5) أخرجه مالك (466)، والنسائي (3/ 234)، والطحاوي (1/ 280)، والحاكم (1/ 304)، والبيهقي (3/ 31). (¬6) صحيح: أخرجه الحاكم (1/ 304)، والبيهقي (3/ 31)، وابن حبان (2429)، والدارقطني (2/ 24)، قال الحافظ في «التلخيص» وإسناده كلهم ثقات، ولا يضر وقف من أوقفه. اهـ.

ما يقرأ في الثلاث: إذا أوتر بثلاث فيستحب أن يقرأ بما يأتي في الحديثين: عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة ركعة» (¬1) يعني: في كل ركعة سورة منها. وعن أُبي بن كعب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإذا سلَّم قال: سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدُّوس ثلاث مرات» (¬2)، وبهذين الحديثين قال الحنابلة، واستحب المالكية والشافعية أن يزيد في الثالثة المعوذتين لحديث عائشة الذي تقدم، ولا يثبت، والله أعلم. 3 - الوتر بخمس ركعات: وهو جائز، ويستحب إن أوتر بخمس ألا يجلس للتشهد إلا في الخامسة: فعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرها» (¬3). 4 - الوتر بسبع أو تسع ركعات: وهو جائز، ويستحب إن أوتر بذلك أن يسرد الركعات ولا يجلس للتشهد إلا في الركعة قبل الأخيرة -ولا يسلم- ويقوم إلى الأخيرة ويتشهد ويسلِّم: فعن عائشة -في صفة وتر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كنا نعد له صلى الله عليه وسلم سواكه، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمد ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلِّم، ثم يقوم التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلَّم تسليمًا يسمعناه، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بُنَيَّ، فلما أسنَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعة الأول، فتلك تسع يا بني» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (461)، والنسائي (3/ 236). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (1423)، والنسائي (3/ 244)، وابن ماجه (1171) وقد اختلف فيه بما لا يضر، إن شاء الله. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (737)، وأبو داود (1324)، والترمذي (457). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (746)، وأبو داود (1328)، والنسائي (3/ 199).

هل يشترط أن يُسبَق الوتر بصلاة (شفع)؟ بمعنى هل للمصلي أن يقتصر على ركعة واحدة لا يسبقها صلاة، وكذلك في الثلاث وغيرها؟ فذهب المالكية -وهو قول عند الشافعية- إلى أن الوتر بركعة واحدة لا يكون إلا بعد شفع يسبقها (¬1)، قالوا: والأصل في ذلك حديث: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى». وذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز الإيتار بواحدة، قالوا: لكن الاقتصار عليها خلاف الأولى، وأدنى الكمال ثلاث ركعات (¬2). قلت: ولعله يُستدل للجواز بما يأتي (¬3): 1 - حديث عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت» (¬4) وظاهره أنها كانت تُوتر دون أن تقدِّم على وترها شفعًا. 2 - حديث عائشة المتقدم قريبًا في صلاته صلى الله عليه وسلم الوتر تسعًا وسبعًا ثم صلاته ركعتين وهو جالس ... الحديث، وفيه أن الوتر متقدم على الشفع، ففيه حجة على أنه ليس من شرط الوتر أن يتقدمه شفع، والله أعلم. القنوت في الوتر: القنوت يطلق على معانٍ منها: القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع. وفي الاصطلاح: هو اسم للدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام (¬5). والقنوت في صلاة الوتر مشروع في الجملة عند الجمهور -خلافًا لمالك (¬6) - واختلفوا في أنه واجب أو مستحب (¬7)، وفي أنه يكون في جميع السنة أو ¬

(¬1) «المنتقى» للباجي (1/ 223) والمراجع الآتية بعده. (¬2) «حاشية القليوبي» (1/ 212)، و «كشاف القناع» (1/ 416)، و «المغنى» (2/ 150). (¬3) «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 293) ط. الكتب العلمية. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (512)، ومسلم (512). (¬5) «الفتوحات الربانية على الأذكار النووية» (2/ 286)، و «بصائر ذوي التمييز» (4/ 298). (¬6) المشهور عنه القول بكراهة القنوت في الوتر، وفي رواية عنه: يقنت في النصف الأخير من رمضان «الكافي» لابن عبد البر (ص: 74)، و «القوانين» (ص: 66)، و «المغنى» (2/ 580)، و «المجموع» (4/ 24). (¬7) قال أبو حنيفة بوجوبه خلافًا للصاحبين والجمهور. «البدائع» (1/ 273)، و «البحر الرائق» (2/ 43).

في رمضان فقط (¬1)، وفي أنه هل يكون قبل الركوع أو بعده (¬2)، وفيما يُسَنُّ أن يدعو به (¬3)، والصحيح ما يأتي: 1 - يستحب القنوت -أحيانًا- في أي وقت من السنة: والأصل في هذا حديث الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن تولَّيت وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلُّ من واليت، تباركت ربنا وتعاليت» (¬4). وعن أُبيِّ بن كعب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع» (¬5). وإنما قلنا: يستحب القنوت في الوتر «أحيانًا»: لأن الصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان صلى الله عليه وسلم يفعله دائمًا، لنقلوه جميعًا عنه، نعم رواه عنه أُبي بن كعب وحده، فدلَّ على أنه كان يفعله أحيانًا، وعلى أنه غير واجب، وهو قول الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (¬6). 2 - القنوت في الوتر قبل الركوع وبعد القراءة أَوْلى: لحديث أُبيِّ بن كعب المتقدم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع». وعن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: «قد كان القنوت». فقلت: قبل الركوع، فقال: «كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا، أُراه كان بعث قومًا لهم القرَّاء زُهاء سبعين رجلاً إلى قوم من المشركين دون ¬

(¬1) عند الحنفية: في جميع السنة، وعند الشافعية: في النصف الأخير من رمضان خاصة، وعندهم وجه: في جميع رمضان، وعند الحنابلة: في جميع السنة «البدائع» (1/ 273)، و «المجموع» (4/ 15)، و «المغنى» (2/ 58)، و «المحلى» (4/ 145). (¬2) عند الحنفية: قبل الركوع، وعند الشافعية والحنابلة: بعد الرفع من الركوع [المراجع المتقدمة]. (¬3) عند الحنفية الشافعية: الدعاء بـ (اللهم اهدنا فيمن هديت ...)، وعند الحنابلة: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك ...). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (3/ 248)، وابن ماجه (1178)، وانظر «الإرواء» (429). (¬5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (1414)، والنسائي (1/ 248)، وابن ماجه (1182)، وانظر «الإرواء» (426). (¬6) أفاد نحوه العلامة الألباني -رحمه الله- في «صفة الصلاة» (ص: 179).

أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو عليهم» (¬1). قال الحافظ في «الفتح» (2/ 569): «ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت لحاجة [يعني: للنازلة] بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة، فالصحيح عنه أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح» اهـ. وعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: «كان عبد الله -يعني: ابن مسعود- لا يقنت في شيء من الصلوات، إلا في الوتر قبل الركعة» (¬2). 3 - ما يُسنُّ الدعاء به في القنوت: يُسَنَّ الدعاء -في قنوت الوتر- بما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: «اللهم اهدني فيمن هديت ..» إلخ وقد تقدم. وتجوز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت لثبوتها عن الصحابة: فقد ثبت ذلك في حديث إمامة أُبيِّ بن كعب الناس في قيام رمضان، وكذا في إمامة أبي حليمة معاذ الأنصاري، أحد الذين أقامهم عمر يصلي التراويح (¬3). 4 - ليس من السنة التطويل في دعاء القنوت: فإن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من تعليمه الحسن دعاء القنوت في الوتر يسير لا طول فيه. 5 - هل يجوز التغنِّي بدعاء القنوت؟ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه - فيما علمتُ- التغني بالدعاء، لا في القنوت ولا في غيره، فأخشى أن يكون ما استحسنه أكثر الأئمة في هذه الأيام محدثًا!! وقد قال ابن الهمام: «... لا أرى تحرير النَّغم في الدعاء -كما يفعله القراء في هذا الزمان- يَصْدُر ممن فهم معنى الدعاء والسؤال، وما ذلك إلا نوع لعب، فإنه لو قُدِّر في الشاهد [أي: الواقع] سائلُ حاجة من مَلِكٍ، أدَّى سؤاله وطلبه ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1002)، ومسلم (677). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 238)، وانظر «الإرواء» (2/ 166). (¬3) «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم» (ص/ 180).

بتحرير النغم فيه، من الرفع والخفض والتقريب والرجوع كالتغني، نُسب البتة إلى قصد السخرية واللعب، إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغنِّي» (¬1) اهـ. 6 - يستحب رفع اليدين في القنوت: فعن أنس -في قصة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قتلة القراء-: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم» (¬2). وعن أبي رافع قال: «صليت خلف عمر بن الخطاب، فقنت بعد الركوع، ورفع يديه وجهر بالدعاء» (¬3). و «كان أبو هريرة يرفع يديه في قنوته في شهر رمضان» (¬4). 7 - لا يُشرع مسح الوجه أو الصدر باليدين بعد القنوت: لعدم الدليل على ذلك، قال البيهقي في «سننه» (2/ 212): «فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت» اهـ. قلت: ولا يصح حديث في مسح الوجه بعد الدعاء خارج الصلاة كذلك، قال شيخ الإسلام (22/ 519): «... وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه صلى الله عليه وسلم فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة، والله أعلم» اهـ. التسبيح والدعاء بعد الوتر: يُستحب بعد التسليم من الوتر التسبيح لما في حديث أبي بن كعب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فإذا سلَّم قال: «سبحان الملك القدوس» ثلاث مرات» (¬5). وعن عليٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (¬6). ¬

(¬1) «فتح القدير» (1/ 370، 371). (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 137)، والبيهقي (2/ 211). (¬3) صحيح: أخرجه البيهقي (2/ 212)، ونحوه في «معرفة السنن» (2/ 83) من طريق أبي عثمان عن عمر. (¬4) أخرجه ابن نصر في «قيام الليل» (ص/ 138). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (1427)، والترمذي (3566)، والنسائي (1/ 252)، وابن ماجه (1179).

قضاء الوتر: إذا نام المرء عن الوتر أو نسيه، فإنه يصليه إذا قام أو ذكره في أي وقت كان: لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن الوتر أو نسيه، فليصلِّ إذا أصبح أو ذكره» (¬1). ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (¬2) وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب. وكذلك إذا فاته الوتر لعلةٍ كمرض ونحوه. قلت: ومن تعمد ترك الوتر -بغير عذر- حتى دخل وقت الفجر، فلا يشرع له قضاؤه أبدًا على ما حققناه في «قضاء الصلاة» والله أعلم. كم يقضي الوتر؟ عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام من الليل أو مرض صلَّى بالنهار ثنتي عشرة ركعة ...» (¬3). وقد عُلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فعلم أن قضاء الوتر بالنهار يكون شفعًا، فمن كانت عادته الإيتار بواحدة، قضى من النهار ركعتين، ومن كانت عادته الإيتار بثلاث قضاها أربعًا وهكذا. ويستحب المبادرة بقضائه قبل الظهر: ليكتب له أجر صلاته بالليل، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل» (¬4) والظاهر أنه تحريض على المبادرة، ويحتمل أن فضل الأداء مع المضاعفة مشروط بخصوص الوقت (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (465)، وأبو داود (1431)، وابن ماجه (1188)، وأحمد (3/ 44)، وانظر «الإرواء» (2/ 153). (¬2) صحيح: تقدم مرارًا. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (746) وغيره. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (747)، والترمذي (578)، وأبو داود (1299)، والنسائي (3/ 259)، وابن ماجه (1343). (¬5) «حاشية السيوطي على النسائي» (3/ 259).

الركعات بعد الوتر: عن عائشة رضي الله عنها في صفة صلاة النبي بالليل، قالت: «كان يصلي ثلاث عشرة ركعة: يصلي ثماني ركعات، ويوتر بركعة، وإذا سلَّم كبَّر فصلَّى ركعتين جالسًا، ويصلي ركعتين بين أذان الفجر والإقامة» (¬1). وهاتان الركعتان بعد الوتر، للعلماء فيهما ثلاثة مسالك: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما لبيان الجواز، ولم يواظب على ذلك بل فعله مرة أو مرات قليلة، وأن قولها «كان يصلي» لا يلزم منه الدوام والتكرار إلا أن يدلَّ دليل على ذلك (¬2). 2 - أن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر، فإن الوتر عبادة مستقلة -ولا سيما إن قيل بوجوبه- فتكونان كالركعتين بعد المغرب، فإنها وتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل (¬3). 3 - إنهما خاصتان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكون الحديث مخصصًا للأمر بجعل آخر الصلاة من الليل وترًا!! (¬4). قلت: القولان الأوَّلان لكل منهما وجه قوي، وأما الثالث ففيه نظر، فإن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم مشروعية التأسي به فيها، فإن قيل: فعله صلى الله عليه وسلم لا يخصص أمره بأن يُجعل آخر صلاة الليل وترًا؟ قلنا: نعم، لكن الأمر مصروف إلى الندب بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أوله ليرقد ...» (¬5) وبإقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الإيتار قبل النوم (¬6)، ففيهما مشروعية التنفل لمن استيقظ من النوم وقد كان أوتر قبله، ثم وقفت على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالركعتين بعد الوتر في حديث ثوبان مرفوعًا: «إن هذا السَّفر جهد وثقل، فإن أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له» (¬7) فالتقى الأمر بالفعل وثبتت المشروعية، ويكون الأمر بجعل الوتر آخر الليل على الاستحباب، والله تعالى أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1159)، ومسلم (738) وغيرهما. (¬2) «شرح مسلم» للنووي (6/ 21) ط. إحياء التراث العربي. (¬3) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 318، 319). (¬4) «نيل الأوطار» (3/ 48) ط. الحديث. (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) صحيح: تقدم قريبًا. (¬7) صححه الألباني: أخرجه الدارمي (1594)، وعنده «السهر» بدل «السفر» وابن خزيمة (1106)، والدارقطني (2/ 36)، وانظر «الصحيحة» (1993).

القراءة في الركعتين بعد الوتر: عن أبي أمامة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬1). استحباب الاضطجاع بعدها: يستحب بعد الركعتين اللتين بعد الوتر -أو بعد صلاة الليل- النوم حتى يؤذن بالفجر، ففي حديث ابن عباس -في قصة مبيته عند خالته ميمونة ووصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل-: «... ثم قام يصلي، فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت، فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفلتها، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح» (¬2). وفي رواية ابن خزيمة: «... فأوتر بتسع أو سبع، ثم صلى ركعتين، ووضع جنبه حتى سمعت ضفيزه، ثم أقيمت الصلاة فانطلق فصلى» وهاتان الركعتان يحتمل أن تكونا الركعتين اللتين كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد الوتر، ويحتمل أن تكونا ركعتي الفجر (¬3). قلت: ويؤيد الاحتمال الأول: حديث الأسود، قال: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل؟ قالت: «كان ينام أوله، ويقوم آخره، فيصلي، ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج» (¬4). ولا ينفي هذا مشروعية الاضطجاع بعد ركعتي سنة الفجر، بل الظاهر أنه كان تارة يضطجع بين صلاة الليل وصلاة الفجر، وأخرى بعد ركعتي سنة الفجر، وربما كان يضطجع في الموضعين والله أعلم. ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد (5/ 260)، والطحاوي (1/ 280 - 341)، والطبراني في «الكبير» (8/ 277)، والبيهقي (3/ 33) وله شاهد من حديث أنس. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1146)، ومسلم (739). (¬3) صحيح: أخرجه ابن خزيمة (2/ 157 - 158). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1146)، ومسلم (739).

قيام الليل

قيام الليل قيام الليل ويطلق عليه التهجد: وهو عند جمهور الفقهاء: صلاة التطوع في الليل بعد النوم (¬1) في أي ليلة من ليالي العام. فضائل قيام الليل والترغيب فيه: إن لصلاة التطوع في جوف الليل وتحت جنح ظلامه فضلاً كبيرًا، وأجرًا عظيمًا، لا يستطاع حصره، بل يعجز الخلق عن وصفه، فهي شعار الصالحين، وأهم خصائص المتقين. ولجلالة قدر فضلها، فقد خاطب الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يتصدَّى لهذا الشرف العظيم والفضل الكبير، ليظفر بالمقام المحمود، فقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} (¬2). وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة في تقرير فضيلة قيام الليل والترغيب فيه، وإليك طرفًا من هذه النصوص، فلعلَّ راغبًا في تلك الحياة المباركة أن تتوق نفسه إلى التنعم بها فيلزم نفسه بقيام الليل، ولو بجزء يسير منه. 1 - قال الله سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (¬3). 2 - وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} (¬4). 3 - وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (¬5). 4 - وقال عز وجل: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} (¬6). ¬

(¬1) «مغنى المحتاج» (1/ 228). (¬2) سورة الإسراء، الآية: 79. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 113. (¬4) سورة الفرقان، الآيتان: 63، 64. (¬5) سورة المزمل، الآيات: 1 - 4. (¬6) سورة الإنسان، الآيتان: 25، 26.

5 - وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬1). 6 - وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬2). 7 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). 8 - وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «الصلاة في جوف الليل» قال: فأي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شهر الله المحرم (¬4). 9 - وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (¬5). 10 - وعن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام» (¬6). 11 - وعن عمرو بن عبسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فَكُنْ» (¬7). ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 9. (¬2) سورة الذاريات، الآيات: 15 - 18. (¬3) سورة السجدة، الآيات: 15 - 17. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1163)، والترمذي (438)، وأبو داود (2429)، والنسائي (3/ 207)، وابن ماجه (1742). (¬5) صحيح: أخرجه الترمذي (1855)، وابن ماجه (1334)، وأحمد (7591)، وانظر «الصحيحة» (569). (¬6) صحيح: أخرجه ابن حبان (509) وغيره، وانظر «صحيح الترغيب» (614)، و «صحيح الجامع» (2123). (¬7) صحيح: أخرجه الترمذي (3579)، والنسائي (572)، وانظر «صحيح الترغيب» (624)، و «صحيح الجامع» (1184).

12 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى، وأيقظ امرأته [فصلَّت] فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها [فصلَّى] فإن أبى نضحت في وجهه الماء» (¬1). وفي لفظ: «إذا قاما وصليا ركعتين كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات» (¬2). 13 - وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يحبهم الله ... -فذكر منهم- .. ورجل سافر مع القوم فارتحلوا حتى إذا كان من آخر الليل وقع عليهم الكرى -أو النعاس- فنزلوا، فضربوا برءوسهم، ثم قام فتطهر، وصلى رغبة لله عز وجل، ورغبة لله عز وجل، ورغبة فيما عنده» (¬3). 14 - وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات» (¬4). 15 - عن ابن عمر أنه رأى رؤيا فقصَّها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نِعم الرجلُ عبدُ الله، لو كان يصلي من الليل» (¬5) وفي لفظ «إن عبد الله رجل صالح، لو كان يكثر الصلاة من الليل». قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً. قال القرطبي: «... لم يكن يقوم من الليل، فحصل لعبد الله من ذلك تنبيه على أن قيام الليل مما يتقي به النار والدنو منها، فلذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك» اهـ. 16 - عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: «سبحان الله، ماذا أنزل ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1308)، والنسائي (3/ 205)، وابن ماجه (1336)، وأحمد (2/ 250)، وهو في «صحيح الجامع» (3488). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (1309)، والنسائي في «الكبرى» (1310)، وابن ماجه (1335)، وهو في «صحيح الجامع» (330). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 176)، والطيالسي (468)، والطبراني في «الكبير» (2/ 1637)، والبيهقي (9/ 160). (¬4) صححه الألباني: وانظر «الإرواء» (452)، و «صحيح الجامع» (3958). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479).

الليلة من الفتن، ماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات، يا رُب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» (¬1). ففيه إيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة، لا سيما عند نزول آية، قاله في «الفتح». قلت: فهذا طرف من النصوص المتكاثرة المتضافرة في فضل قيام الليل والترغيب فيه، وسيأتي غيرها في بقية مباحث «قيام الليل» إن شاء الله، لعلها أن تصادف قلبًا صادقًا فينتفع، فأظفر - بإذن الله- بأجر الدلالة على الخير (¬2). وقت قيام الليل: صلاة الليل تجوز في أول الليل ووسطه وآخره، كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك قال: «ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليًا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائمًا إلا رأيناه» (¬3). قال الحافظ في الفتح (3/ 23): «أي إن صلاته ونومه كان يختلف بالليل، ولا يرتب وقتًا معينًا بل بحسب ما تيسَّر له القيام ..» اهـ. أفضل أوقاته: يستحب قيام الليل في الثلث الأخير من الليل، ليتعرض لنفحات الله تعالى العظيمة في تلك الساعات التي لا يستيقظ فيها لعبادة ربه إلا القليل من الناس فيظفروا بإجابة الدعوة وقبول التوبة ومغفرة الذنوب، وستر العيوب: فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول: أنا الملك، أنا لملك، من الذي يدعوني فأستجيب له، من الذي يسألني فأعطيه، من الذي يستغفرني فأغفر له» (¬4) وفي لفظ لمسلم (758) «... حتى ينفجر الفجر». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1126)، والترمذي (2196). (¬2) ومن أعظم ما يعين على قيام الليل مطالعة سير الصالحين في هذا الشأن، ومن أجمع وأعذب ما رأيت في هذا كتاب «رهبان الليل» للشيخ الحبيب الهمام صاحب القلم السيَّال/ د. سيد حسين العفاني -رفع الله قدره- فعليك به. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1090)، والنسائي (1627) واللفظ له، والترمذي (769). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) واللفظ له.

وعن عمرو بن عبسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكُنْ» (¬1). وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحبَّ الصلاة إلى الله عز وجل، صلاة داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا» (¬2). وكذلك كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم. فعن عائشة في وصفها لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان ينام أوله، ويقوم آخره، فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج» (¬3) وعن أم سلمة نحوه. وفي حديث حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صحبه في السفر: «.. ثم قام فصلَّى حتى قلت: قد صلى قدر ما نام، ثم اضطجع حتى قلت: قد نام قدر ما صلى، ثم استيقظ ففعل كما فعل أول مرة، وقال مثل ما قال، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الفجر» (¬4). وعن مسروق أنه سأل عائشة: أيُّ حين كان صلى الله عليه وسلم يصلي؟ فقالت: «كان إذا سمع الصارخ قام فصلى» (¬5) والصارخ: الديك، وقد جرت العادة بأن الديك يصيح عند نصف الليل أو ثلثه. من آداب قيام الليل: من شرح الله تعالى صدره وأراد قيام الليل، فيسنُّ له مراعاة الآداب الآتية: 1 - الاستعداد بما يُعينُ على القيام: ويكون هذا بأمور منها: (أ) نوم القيلولة -في الظهيرة- إن تيسَّر. (ب) ترك السهر في غير مصلحة شرعية، وقد تقدم كراهة الكلام بعد العشاء إلا لمصلحة شرعية. ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه النسائي (1626)، وله شاهد عن أم سلمة. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1132)، ومسلم (741).

(جـ) «الأولى لمن غلبه الكسل، والميل للدعة والترفه، أن لا يبالغ في حشو الفراش، لأنه سبب لكثرة النوم والغفلة والشغل عن مهمات الخيرات» (¬1). قلت: وقد كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم خشنًا، فعن عمر قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه» (¬2). وعن عائشة قالت: «كانت وسادته التي ينام عليها بالليل من أَدَمٍ حَشْوُها لِيفٌ» (¬3). 2 - أن ينوي عند نومه القيام: فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى إلى فراشه وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل، فغلبته عينه حتى يصبح كُتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه» (¬4). 3 - أن ينام على وضوء: وقد تقدم في «أبواب الوضوء» أن هذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - أن ينام على وضوء: وقد تقدم في «أبواب الوضوء» أن هذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - أن ينام على شقِّه الأيمن: فعن حفصة قالت: «كان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خدِّه الأيمن» (¬5) فالنوم على الشق الأيمن هو الفطرة كما سيأتي في حديث البراء بن عازب. فائدة: في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنب الأيمن سر لطيف وهو: «أن العلق معلقَّ في الجانب الأيسر، فإذا نام على شقه الأيسر، استثقل نومًا، لأنه لا يكون في دعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب، وطلبه مستقره وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة وطيب المنام، وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن لئلا يثقل نومه فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن، والله أعلم» اهـ (¬6). ¬

(¬1) «فيض القدير» (5/ 180). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2468)، ومسلم (1479) واللفظ له. (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (14146)، والترمذي (2469)، وهو في «صحيح الجامع» (4714). (¬4) حسن: أخرجه النسائي (1784)، وابن ماجه (1344)، والبيهقي (3/ 15). (¬5) صححه الألباني: وانظر «صحيح الجامع» (4523). (¬6) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 321، 322).

5 - وإن خاف ألا يستيقظ للقيام أوتر قبل أن ينام: فإذا استيقظ صلى ما شاء ثم لم يكرر الوتر، وقد تقدم هذا في «الوتر». 6 - أن يذكر الله تعالى عند نومه: وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّة أذكار، فمن ذلك: (أ) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفَّيه ثم نفث فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات» (¬1). (ب) وعن أبي هريرة أن الشيطان قال له، لما أراد أن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بهنَّ -وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬2) حتى تختمها فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقك، وهو كذوب، وذاك الشيطان» (¬3). (جـ) وعن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (¬4) أي: دفعتا عنه الشر والمكروه، وقيل أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن. (د) عن نوفل الأشجعي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك» (¬5). (هـ) عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام قال: «باسمك اللهم أموت وأحيا» وإذا استيقظ من منامه قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5018)، ومسلم (2192). (¬2) سورة البقرة، الآية: 256. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (3275)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (959). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4008)، ومسلم (808). (¬5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (5055)، والترمذي (3401)، وأحمد (5/ 456)، وانظر «صحيح الترغيب» (604)، و «صحيح الجامع» (1161). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (6312)، وأبو داود (5049)، والترمذي (3413).

(و) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بِصَنفَه إزاره (¬1) ثلاث مرات، فإنه لا يدري ما خلفه عليه بعد، وإذا اضطجع فليقل: «باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» (¬2). (ز) وعن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولفاطمة -لما سألاه خادمًا-: «ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم: إذا أوتما إلى فراشكما فسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا ثلاثًا وثلاثين، فإنه خير لكما من خادم» (¬3). (ح) عن ابن عمر أنه أمر رجلاً أخذ مضجعه أن يقول: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفَّاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتَها فاحفظها، وإن أمَتَّها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية» قال ابن عمر سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4). ويستحب أن يختم ما تيسَّر له مما سبق بما في الحديث الآتي: (ط) عن البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلت، فإن مِتَّ مِتَّ على الفطرة، فاجعلهنَّ آخر ما تقول». فقلت أستذكرهنَّ: وبرسولك الذي أرسلت، قال: «لا، وبنبيِّك الذي أرسلت» (¬5). 7 - أن يمسح النوم عن وجهه - إذا استيقظ- ويذكر الله ويتوضأ: (أ) فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقُد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارْقُد، فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلَّتْ عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن ¬

(¬1) أي: بحاشية ثوبه. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6320)، ومسلم (2714). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3705)، ومسلم (2727). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2712)، والنسائي في «اليوم والليلة» (796)، وأحمد (2/ 79). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710).

صلَّى انحلَّت عُقَدهُ كلها فأصبح نشيطًا طيِّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» (¬1). (ب) وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارَّ (¬2) من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استُجيب له، فإن توضأ وصلَّى قُبِلت صلاتُه» (¬3). (ج) عن ابن عباس قال: بتُّ عند خالتي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل -أو قبله بقليل أو بعده بقليل- استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شنٍّ معلقةٍ فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلِّي ...» الحديث (¬4). يريد: قوله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} (¬5). إلى آخر السورة. 8 - أن يستعمل السواك: فعن حذيفة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل (وفي رواية: ليتهجد) يشوص فاه بالسواك» (¬6). وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يصلي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك» (¬7). يعني: يتسوك لكل ركعتين. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1142)، ومسلم (776). (¬2) (تعارَّ): استيقظ. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1154)، والترمذي (3414)، وأبو داود (5060)، وأحمد (5/ 313). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (183)، ومسلم (763). (¬5) سورة آل عمران، الآية: 190. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (246)، ومسلم (255). (¬7) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجه (228)، وأحمد (1784)، وهو في «صحيح الجامع» (4837).

وقد يكون السواك بعد الاستيقاظ أو بعد الوضوء وكلاهما علة له. 9 - أن يفتتح قيامه بركعتين خفيفتين: فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» (¬1). وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» (¬2). وذلك لينشط بهما لما بعدهما، وهذا هو الأفضل، وإلا فلا حرج أن يفتتح بركعتين طويلتين، فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا، كما يظهر من حديث حذيفة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح بالبقرة فقلت: يركع عند المائة الأولى ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلاً ...» (¬3). 10 - أن يستفتح صلاته بالليل -بعد التكبير- بأحد الأدعية الآتية: (أ) عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليتهجَّد قال: «اللهم لك الحمد أنت قيِّم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق ووعدُك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيُّون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أَنَبْتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررت وما أعلنتُ، [وما أنت أعلم به مني] أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله» (¬4). (ب) وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل: «اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالمَ الغيب ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (767)، وأحمد (22890). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (768)، وأبو داود (1323)، والترمذي في «الشمال» (265). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (772)، والنسائي (1664)، وأبو داود (874). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1069)، ومسلم (769).

والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (¬1). (جـ) وعن حذيفة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فكان يقول: «الله أكبر (ثلاثًا) ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» (¬2). قلت: وله أن يدعو بما شاء من أدعية الاستفتاح الأخرى التي ذكرناها في «واجبات الصلاة». 11 - أن يطيل القيام ما استطاع من غير أن يشق على نفسه: فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصلاة طول القنوت» (¬3). قال النووي: «المراد بالقنوت هنا القيام باتفاق العلماء فيما علمت، وفيه دليل للشافعي ومن يقول كقوله: إن تطويل القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود» اهـ. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام: فعن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه ...» (¬4). وتقدم في حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة وعن ابن مسعود قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال، حتى هممت بأمر سوء». قيل: وما هممت به؟ قال: «هممت أن أجلس وأدعه» (¬5). قال الحافظ في «الفتح» (3/ 19): «وفي الحديث دليل على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قويًّا محافظًا على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما همَّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده» اهـ. فائدة: التطويل لا يختص بالقراءة، بل هو مستحب كذلك في الركوع والسجود والقعود والذكر والدعاء وجميع هيئات الصلاة: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (770). (¬2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1069)، وانظر «المشكاة» (1200). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (756)، وغيره. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3748)، ومسلم (2820). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1135)، ومسلم (773).

ففي حديث حذيفة الذي فيه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالبقرة والنساء وآل عمران في الركعة: «... ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه» (¬1). وفي حديث عائشة: «... ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ..» (¬2). قلت: وليس هذا التطويل في القراءة وغيرها شرطًا في صلاة الليل، وإنما هو الأفضل والأكمل لمن قدر عليه، وقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم -أحيانًا- يقرأ في كل ركعة قدر خمسين آية أو أكثر» (¬3) وكان يقول: «من صلى ليلة بمائة آية لم يُكتب من الغافلين» (¬4). 12 - وله القيام والقعود في صلاته: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل ثلاثة أنواع: الأول: أنه كان يصلي قائمًا: كما في الأحاديث المتقدمة. الثاني: أنه كان يصلي قاعدًا ويركع قاعدًا: فعن عائشة قالت: «لم يَمُتْ النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من صلاته وهو جالس» (¬5) وفي رواية أن هذا كان لما بدَّن وثَقُل. وعنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليلاً طويلاً قائمًا، وليلاً طويلاً قاعدًا، فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا، وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا» (¬6). الثالث: أنه كان يقرأ قاعدًا، فإذا بقي يسير من قراءته، قام فركع قائمًا. فعن عائشة قالت: «كان صلى الله عليه وسلم يصلي جالسًا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (1336)، وابن ماجه (1358)، وأحمد (6/ 83). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (994). (¬4) صححه الألباني: وانظر «الصحيحة» (643)، و «صحيح الترغيب» (636). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (735)، والنسائي (1656). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (730)، وأبو داود (955)، والنسائي (3/ 219). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1118)، ومسلم (731) واللفظ له.

13 - وإذا كسل أو فتر أو غلبه النوم، فَلْيَنَمْ، فإذا نشط صلَّى: فعن أنس قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وحبل ممدود بين ساريتين، قال: «ما هذا؟» قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت -أو: فترت- أمسكت به، فقال: «حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل -أو فتر- فليرقد» (¬1). وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم في الصلاة، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلَّى وهو ناعس، لعلَّه يذهب يستغفر فَيَسُب نفسه» (¬2). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من الليل، فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يَدْرِ ما يقول، فليضطجع» (¬3). 14 - ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها: قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (¬4). وعن حفصة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها» (¬5). وعن يعلى بن مملك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته؟ فنعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءته مفسرة حرفًا حرفًا» (¬6) والمراد: حسن الترتيل والتلاوة. وعن قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كانت مدًّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: يمدُّ بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم» (¬7) والمراد: أنه كان يمد ما كان في كلامه من حروف المد واللين بالقدر المعروف. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (212)، ومسلم (786). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (787)، وأبو داود (1311)، وابن ماجه (1372). (¬4) سورة المزمل، الآية: 4. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (733)، ومالك (311)، والنسائي (1658). (¬6) صححه الألباني: وانظر «المشكاة» (1210)، و «صفة الصلاة» (ص/ 124). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5046)، والنسائي (1014)، وأبو داود (1465) مختصرًا، وابن ماجه (1353)، وأحمد (11835).

وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يُقطِّع قراءته آية آية: (الحمد لله رب العالمين) ثم يقف، (الرحمن الرحيم) ثم يقف» (¬1). ويستحب أن يتغنى بالقرآن، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن» (¬2). وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أَذِنَ الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن يجهر به» (¬3). ومعنى يتغنى: يحسِّن صوته جاهرًا مترنَّمًا على طريق التحزُّن، مما له تأثير في رقة القلب وإجراء الدمع، بشرط ألا يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، وأما تمطيط القراءة، والتلحين الزائد فيها مما يخرج بالكلام عن موضعه فقد كرهه جمهور العلماء، والله أعلم. هل يجهر بالقراءة أو يُسِرُّ؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ بالقراءة في صلاة الليل تارة، ويجهر أخرى: فعن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بصلاته أم يخافت بها؟ قالت: «ربما جهر بصلاته، وربما خافت بها» قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة (¬4). وعن ابن عباس قال: «كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: ربما يسمعه من في الحجرة، وهو في البيت» (¬5) يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوسط بين الجهر والإسرار. قلت: وهذا هو المستحب، فعن أبي قتادة قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة، فإذا هو بأبي بكر الصديق يخفض من صوته، قال: ومرَّ بعمر وهو صلي رافعًا صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، مررت بك ¬

(¬1) صححه الألباني: وانظر «صحيح الجامع» (4876). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (7527)، وكأن الصواب عن أبي هريرة الذي بعده، ومع هذا فقد أخرجه بهذا اللفظ أبو داود (1469)، وأحمد (1396) وغيرهما عن سعد وغيره بلفظه. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5023)، ومسلم (792). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (307)، والنسائي (1/ 199)، وأبو داود (1437)، وأحمد (6/ 73). (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (1327)، والترمذي في «الشمائل» (275 - مختصر)، وأحمد (1/ 271).

وأنت تصلي تخفض صوتك» قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله، وقال لعمر: «مررت بك وأنت تصلي رافعًا صوتك» فقال: يا رسول الله أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئًا» وقال لعمر «اخفض من صوتك شيئًا» (¬1). وعلى هذا النحو يحمل سماع النبي صلى الله عليه وسلم أصوات الأشعرين بالقرآن، ومروره صلى الله عليه وسلم وسماعه لأبي موسى وهو يقرأ من الليل، وقوله: «يا أبا موسى، لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود» (¬2). قال النووي: «جاءت أحاديث بفضيلة رفع الصوت بالقراءة، وآثار بفضيلة الإسرار، قال العلماء: والجمع بينهما أن الإسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل في حق من يخافه، فإن لم يخف فالجهر أفضل، بشرط أن لا يؤذي غيره من مصلٍّ أو نائم أو غيرهما» اهـ. 15 - تدبُّر الآيات، والتعوُّذ والتسبيح في القراءة، والبكاء في الصلاة: (أ) جاء في حديث حذيفة في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم: «... يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تَعَوَّذ ...» (¬3). «فينبغي للمؤمنين سواه أن يكونوا كذلك، بل هم أولى به منه، إذا كان الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، وهم من أمرهم على خطر» (¬4). (ب) وعن أبي ذر قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح، يردِّدها، والآية: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5). (جـ) وعن عبد الله بن الشخير قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز المِرْجَل [من البكاء]» (¬6). ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (1329)، والترمذي (447) بنحوه. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1322). (¬3) «فيض القدير» للمناوي (5/ 160) ط. المكتبة التجارية. (¬4) صححه الألباني: أخرجه النسائي (1010)، وابن ماجه (1350)، وانظر «صفة الصلاة» (ص/ 121). (¬5) سورة المائدة، الآية: 118. (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (904)، والنسائي (1214)، وأحمد (15722).

(د) وقد مرَّ قول عائشة -لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصلي أبو بكر بالناس-: «إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يَقُمْ مقامك لا يُسمع الناس ...» (¬1) تعني من بكائه. وفي رواية: «إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء ...». (هـ) وقال عبد الله بن شداد: «سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، يقرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (¬2) (¬3). 16 - الإكثار من الدعاء -وقت السحر- في الصلاة وخارجها: لما مرَّ من أن هذا وقت نزول الرَّب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا لإجابة الداعي وإعطاء السائل. وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الليل لساعةً، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة» (¬4). وقد مرَّت أدعية النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل. ويستحب أن يكثر من الدعاء في السجود، فهو مظنة الاستجابة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء» (¬5). وقال: «... وأما السجود فأكثروا من الدعاء فيه، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم» (¬6). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءًا عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418). (¬2) سورة يوسف، الآية: 86. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا ووصله سعيد بن منصور (1138)، وابن أبي شيبة (5/ 405)، وعبد الرزاق (2/ 114)، والبيهقي في «الشعب» (2/ 364)، وقال شيخ الإسلام (22/ 623): هذا الأثر محفوظ عن عمر. اهـ. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (757). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (482)، والنسائي (1137)، وأبو داود (875). (¬6) صحيح: تقدم في «واجبات الصلاة». (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (486)، وغيره.

17 - ويستحب إيقاظ الأهل لصلاة الليل: وقد تقدم في «فضائل قيام لليل». 18 - وأن يضطجع بعد القيام وقبل الفجر: ليكون كالفاصل ما بين صلاة التطوع والفريضة، ويحصل بسببه النشاط لتأدية صلاة الصبح، لأنه لو وصل القيام بصلاة الفجر، لم يأمن أن يكون وقت القيام إليها ذاهب النشاط والخشوع لما به من التعب والفتور. وقد مرَّت الأدلة على استحباب ذلك في «الوتر». 19 - يكره -لمن اعتاد قيام الليل- أن يتركه: فعن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» (¬1). قيام الليل عند الشدائد: إذا اشتدت الكروب، وضاقت الحيل، فلا سبيل إلاَّ قرع باب الملك الذي بيده مقاليد كل شيء، والقيام بين يديه ومناجاته في جنح الليل: فعن علي رضي الله عنه قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» (¬2). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى صلَّى وانصرف إليهم ...» الحديث (¬3). عدد ركعات قيام الليل: 1 - العدد المستحب: يُستحب أن لا يُزاد في عدد ركعات قيام الليل على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، فإن هذا هو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه: (أ) فعن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: «سبع وتسع وإحدى عشرة، سوى ركعتي الفجر» (¬4). (ب) وسألها أبو سلمة بن عبد الرحمن فقالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1153)، ومسلم (1159). (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (973)، وانظر «صحيح الترغيب» (546). (¬3) حسن: أخرجه أحمد (6771). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1139).

في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا» (¬1). (جـ) وعن ابن عباس قال: «كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل» (¬2). (د) وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: «لأرمقنَّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة» (¬3). وقد ذهب بعض العلماء إلى أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت إحدى عشرة، وأما الركعتان الأخريان فقيل: هما ركعتا الفجر، وقيل: هما نافلة العشاء، وهذا إن سلم في بعض الروايات فلن يسلم في الأخرى، وقيل: هما الركعتان الخفيفتان اللتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته بهما، ولعلَّ هذا أوجهَ (¬4). 2 - هل يجوز الزيادة على هذا العدد؟ هذه مسألة تثير جدلاً بين ناشئة طلاب العلم مع إخواننا الحريصين على السنة، فقالوا: لا يجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة!! تقليدًا منهم لأحد الأئمة الفضلاء المعاصرين، ولعله -في هذا- أصاب أجرًا واحدًا. فإن الجماهير من السلف والخلف على جواز الزيادة على هذا العدد، مع قولهم بأنه المستحب، ولذا قال القاضي عياض: «ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عيه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه والله أعلم» اهـ. وقال ابن عبد البر في «التمهيد»: «فلا خلاف بين المسلمين أن صلاة الليل ليس فهيا حد محدود وأنها نافلة وفعل خير وعمل بر، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر» اهـ. ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1138)، ومسلم (764). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (765). (¬4) وهو الذي اختاره الحافظ في «الفتح» (3/ 21).

قلت: ومما يدل على صحة هذا المذهب ما يأتي (¬1): 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» (¬2). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «أعنِّي على نفسك بكثرة السجود» (¬3). 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطَّ عنك خطئية» (¬4). 4 - أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه هذا العدد لا يصلح أن يكون مخصِّصًا للأدلة السابقة، وذلك لأمور: (أ) لأن فعله صلى الله عليه وسلم لا يخصص قوله كما هو مقرر في الأصول. (ب) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه عن الزيادة على إحدى عشرة ركعة، بل حدَّد لنا أحب القيام إلى الله وهو قيام داود عليه السلام «ثلث الليل». ولذا قال شيخ الإسلام (22/ 272 - 273): «قيام رمضان لم يوقِّت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عددًا معينًّا، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات .... ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ ...» اهـ. (جـ) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهذا العدد من قيام الليل، ولو فُرض أنه أمر به -وهذا لا يقول به أحد- فلا يصلح كذلك أن يخصص عمومات الأدلة المتقدمة، لما تقرر في الأصول من أن العام لا يخصص بأحد أفراده إلا عند التعارض. 5 - أن من أراد موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يلزمه أن يوافقها عددًا وصفة، كمًّا وكيفًا، وقد قدَّمنا صفة تطويل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وهو يصلي هذا العدد من الركعات، والناظر في الآيات التي مرَّت في «فضائل القيام» يجد أن المعوَّل فيها على زمن القيام، فإن كان الشخص الذي يريد موافقة السنة لا يطيق هذا التطويل -لا سيما إن كان يصلي بالناس- أفنمنعه من زيادة عدد الركعات ¬

(¬1) ولشيخنا مصطفى العدوي -رفع الله قدره- رسالة لطيفة في «عدد ركعات قيام الليل» قرر فيها هذه المسألة وقد استفدت منها. (¬2) صحيح: تقدم تخريجه. (¬3) صحيح: تقدم تخريجه. (¬4) صحيح: تقدم تخريجه.

ليكون أرفق به وبمن وراءه، وأعون له على إحياء ثلث الليل!! وهل يكون من صلى إحدى عشرة ركعة في ساعة أفضل ممن صلى عشرين أو أكثر أو أقل في أربع ساعات!!! نعم، لا خلاف في أنه لو وافق السنة في العدد والوقت معًا فهو الأفضل، وإلا فحسبما تيسَّر له. 6 - قد ثبت «أن عمر بن الخطاب جمع الناس -في قيام رمضان- على أُبي بن كعب وتميم الداري، على إحدى وعشرين ركعة، وكانوا يقرءون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر» (¬1). وثبت كذلك أنه جمعهم على إحدى عشرة ركعة كما سيأتي في «التراويح». قضاء قيام الليل: يستحب لمن فاته قيام الليل -وقد اعتاده- لنوم أو مرض أن يقضيه نهارًا قبل الظهر. فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة» (¬2). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل» (¬3). قيام رمضان (التراويح): فضلها ومشروعيتها: صلاة التراويح سنة مؤكدة للرجال والنساء في رمضان، وهي من أعلام الدين الظاهرة (¬4). وهي المرادة بقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه» (¬5). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7730)، وابن الجعد (2926)، ومن طريقه البيهقي (2/ 496) لكن عندهما (عشرون ركعة). (¬2) صحيح: تقدم في «قضاء الوتر». (¬3) صحيح: تقدم في «قضاء الوتر». (¬4) «رد المختار» (1/ 472)، و «حاشية العدوي» (1/ 352)، و «المجموع» (4/ 31). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2009)، ومسلم (759).

وقد صلاَّها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في بعض الليالي، ولم يواظب عليها، خشية أن تُكتب عليهم فيعجزوا عنها: فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «صلى في المسجد، فصلى بصلاته الناس، ثم صلى القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» وذلك في رمضان [فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك]» (¬1). الجماعات في التراويح: تقدم في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بأصحابه التراويح في بعض الليالي. وعن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا من الشهر شيئًا، حتى إذا بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا الليلة الرابعة، وقام بنا التي تليها حتى ذهب نحو من شطر الليل، قلنا: يا رسول الله لو نفَّلتنا بقية ليلتنا هذه؟ قال: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حُسبت له بقية ليلته» ثم لم يقم بنا السادسة وقام بنا السابعة، وبعث إلى أهله واجتمع الناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قلت [أي: جبر بن نفير الراوي عن أبي ذر]: وما الفلاح؟ قال: السحور (¬2). وبقي الأمر على ذلك حتى كان زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجمع الناس في التراويح على إمام، ففي حديث عروة بن الزبير عن عائشة: «.. قال: فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كذلك كان في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، حتى جمعهم عمر بن الخطاب على أُبيِّ بن كعب، فقام بهم في رمضان، وكان ذلك أول اجتماع الناس على قارئ واحد في رمضان» (¬3). وعن عبد الرحمن بن عبد القادر قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: «إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل» ثم عزم فجمعهم على أُبيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1129)، ومسلم (761). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (3/ 202)، وابن ماجه (1327). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (924)، والنسائي (4/ 155) وغيرهما.

والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: «نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يعني آخر الليل- وكان الناس يقومون أوَّله» (¬1). ثم استمر العمل على هذا حتى الآن، ولذا اتفق أهل العلم على مشروعية الجماعة في التراويح. عدد ركعات التراويح: قد مرَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة أو ثلاثة عشرة ركعة في قيام الليل في بيته. «وأما الليالي التي صلى فيها التراويح بأصحابه فلم يُذكر عدد الركعات فيها، ولا يصح حديث في تحديد عدد هذه الركعات» (¬2). ولذا اختلف أهل العلم في تحديد عددها على أقوال كثيرة منها: 1 - إحدى عشرة ركعة: (أ) لأنه هو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه. (ب) وعن السائب بن يزيد قال: «أمر عمر بن الخطاب أُبيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وكان القارئ يقرأ بالمئتين حتى كنا نعتمد على العصيِّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر» (¬3). 2 - عشرون ركعة غير الوتر: وبه قال أكثر أهل العلم: الثوري وابن المبارك والشافعي وأصحاب الرأي، وهو مروي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة (¬4) ودليلهم: ما جاء عن السائب بن يزيد (أيضًا) (¬5): «أن عمر جمع الناس على أُبيِّ بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة ويقرءون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2010)، ومالك (252) واللفظ له. (¬2) «المصابيح في صلاة التراويح» (ص: 14 - 15) للسيوطي بنحوه. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 115). (¬4) «شرح السنة» (4/ 120)، و «البدائع» (1/ 288)، و «المغنى» (1/ 208)، و «المجموع» (4/ 32 - 33). (¬5) ما أدري إن كان هذا الأثر والذي قبله يُعلُّ أحدهما الآخر أم يحملان على تعدد الوقائع!! على أن رواية العشرين لها شواهد. (¬6) إسناده صحيح: تقدم قريبًا في عدد ركعات قيام الليل.

قال الكاساني: جمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان على أُبي ابن كعب فصلى بهم عشرين ركعة ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعًا منهم على ذلك. 3 - تسع وثلاثين بالوتر: وهو قول مالك (¬1) وقال: «هو الأمر القديم عندنا» وحجته: ما جاء عن داود بن قيس قال: «أدركت الناس بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستًّا ويوترون بثلاث» (¬2). 4 - أربعون ركعة ويوتر بسبع: قال الحسن بن عبيد الله «كان عبد الرحمن بن الأسود يصلي بنا في رمضان أربعين ركعة ويوتر بسبع» (¬3) وعن أحمد بن حنبل أنه كان يصلي في رمضان ما لا يحصى (¬4). قلت: والتحقيق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (» / 272 - 273): «... وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن، والأفضل يخلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان منهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره -هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملون فالقيام بعشرين ركعة هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر والأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره. ومن ظن أن قيام رمضان في عد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد ولا ينقص منه فقد أخطأ ...» اهـ. قلت: وهكذا فليكن الفقه، فأين هذا من بعض إخواننا الذين يفارقون جماعة التراويح في «الحرم» وينصرفون بعد صلاة عشر ركعات!! عفا الله عنا وعنهم. ¬

(¬1) «المدونة» (1/ 193)، و «شرح الزرقاني» (1/ 284). (¬2) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 393)، وابن نصر في «قيام رمضان» (ص/ 60). (¬3) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 393). (¬4) «كشاف القناع» (1/ 425)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 563).

الاستراحة بين كل ترويحتين: اتفق الفقهاء على مشروعية الاستراحة بعد كل أربع ركعات، لأنه المتوارث عن السلف، فقد كانوا يطيلون القيام في التراويح ويجلسون بعد كل أربع للاستراحة (¬1). قلت: ولعلَّ الأصل في هذا قول عائشة رضي الله عنها -الذي تقدم كثيرًا- في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم: «... يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأ عن حسنهن وطولهن ...» فهو مشعر بالفصل بين كل أربع. ولا يشرع في هذه الاستراحة ذكر مُعيَّن ولا غيره كما يفعله بعض الجهال. القراءة في «التراويح»، وهل يُختم القرآن؟ لم يرد في تحديد القراءة في التراويح سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختلف باختلاف الأحوال، ويقرأ الإمام قدر ما لا يُنفِّرهم عن الجماعة، ولو اتفق جماعة يرضون بالتطويل فهو أفضل للآثار المتقدمة. وقد استحب الحنفية والحنابلة أن يختم القرآن الكريم في الشهر، ليسمع الناس جميع القرآن في تلك الصلاة (¬2). القيام مع الإمام حتى ينصرف: ينبغي لمن صلى خلف الإمام أن يتم معه الصلاة حتى ينصرف، وألا يفارقه قبل انصرافه، ففي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة» (¬3) وإن أوتر الإمام آخر صلاته أوتر معه، ولو كان في نيَّته القيام بالليل، فإن هذا لا يضرُّ كما تقدم تحريره، والله أعلم. ¬

(¬1) «رد المختار» (1/ 474)، و «حاشية العدوي» (2/ 321)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 564). (¬2) «فتح القدير» (1/ 335)، و «البدائع» (1/ 289)، و «المغنى» (2/ 169). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (3/ 83)، وابن ماجه (1327).

صلاة الضحى

صلاة الضُّحىَ الضحى عند الفقهاء: ما بين ارتفاع الشمس إلى زوالها (¬1). فضل صلاة الضحى: ثبتت أحاديث كثيرة في فضلها، ومن ذلك: 1 - حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُصبح على كلِّ سُلامى (¬2) من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» (¬3). 2 - وعن بريدة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، عليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة» قالوا: فمن الذي يطيق يا رسول الله؟ قال: «النخامة في المسجد يدفنها، أو الشيء ينحيه عن الطريق، فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزئ عنه» (¬4). «والحديثان يدلاَّن على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها، وتأكد مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزيان عن ثلاثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة ...» (¬5). 3 - وعن زيد بن أرقم قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلُّون الضحى، فقال: «صلاة الأوَّابين حين ترمض الفصال» (¬6). 4 - وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: «ابنَ آدم، اركع لي ركعات من أوَّل النهار، أَكْفِكَ آخره» (¬7). 5 - وعن عبد الله بن عمرو قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فغنموا وأسرعوا الرجعة، فتحدَّث الناس بقرب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم، ¬

(¬1) «حاشية ابن عابدين» (2/ 23) ط. الفكر. (¬2) السُّلامى في الأصل: عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في عظام البدن ومفاصله. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (720)، وأبو داود (1285)، وأحمد (5/ 167). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 524)، وأحمد (5/ 354). (¬5) «نيل الأوطار» (3/ 78) ط. الحديث. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (748)، وأحمد (4/ 366). (¬7) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (475) وله شاهد من حديث نعيم بن همار عند أبي داود (1289)، وانظر «الإرواء» (465).

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلُّكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة؟ من توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبُحة الضحى فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة» (¬1). حكم صلاة الضحى: اختلف أهل العلم في حكم صلاة الضحى على ستة أقوال (¬2)، أقربها ثلاثة: الأول: تستحب مطلقًا، ويستحب المواظبة عليها، وهو مذهب الجمهور (¬3) خلافًا للحنابلة، وحجتهم: 1 - عموم الأحاديث المتقدمة في فضل صلاة الضحى، وخصوصًا حديث: «يصح على كل سلامى من أحدكم صدقة ...». 2 - حديث أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد» (¬4) ونحوه عن أبي الدرداء وأبي ذر. 3 - حديث معاذة العدوية قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: «نعم، أربعًا ويزيد ما شاء» (¬5). قال الشوكاني في «النيل» (3/ 76): ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغًا لا يقصر البعض منه عن اقتضاء الاستحباب. اهـ. وقال الحافظ في «الفتح» (3/ 66): وقد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد، ... وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفسًا من الصحابة. اهـ. 4 - وأما المواظبة عليها فلقوله صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله تعالى ما دام عليه صاحبه وإن قلَّ» (¬6). ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أحمد (2/ 175)، وانظر «صحيح الترغيب» (663 - 664). (¬2) «زاد المعاد» (1/ 341 - 360)، و «بدائع الفوائد» و «فتح الباري» (3/ 66). (¬3) «عمدة القاري» (7/ 240)، و «مواهب الجليل» (2/ 67)، و «روضة الطالبين» (1/ 337)، و «المغنى» (2/ 132). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1178)، ومسلم (721). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (719)، وابن ماجه (1381). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (43)، ومسلم (782) واللفظ له.

الثاني: يستحب فعلها تارة وتركها أخرى، ولا يواظب عليها: وهو المذهب عند الحنابلة (¬1) وحجتهم: 1 - حديث أبي سعيد قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» (¬2) وهو ضعيف. 2 - في حديث أنس -في قصة صلاة النبي في بيت عتبان بن مالك الضحى- وقال فلان ابن الجاورد لأنس رضي الله عنه: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قال: «ما رأيته صلَّى غير ذلك اليوم» (¬3). 3 - حديث عائشة قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبَّح [تعني: صلَّى] سُبْحة الضحى، وإني لأُسبَّحها [وإن كان ليدع العمل وهو يجب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم]» (¬4). الثالث: لا تشرع إلا لسبب: كفوات قيام الليل ونحوه وهذا ما اختاره ابن القيم بعد بسط الأقوال في المسألة (¬5). واحتج القائلون به بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا بسبب، واتفق وقوعها وقت الضحى وتعدد الأسباب: 1 - فحديث أم هانئ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات [سبحة الضحى] فلم أر صلاة قطُّ أخفَّ منها غير أنه يتم الركوع والسجود» (¬6). كان بسبب الفتح، قالوا: وسنة الفتح أن يصلي ثماني ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة. 2 - وصلاته صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان بن مالك إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته في مكان يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى فاختصره الراوي فقال: «صلى في بيته الضحى» (¬7). ¬

(¬1) «الفروع» لابن مفلح (1/ 567). (¬2) ضعيف: أخرجه الترمذي (477)، وأحمد (3/ 21 - 36)، وانظر «الإرواء» (460). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (670). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1177/ 1128)، ومسلم (718). (¬5) «زاد المعاد» (1/ 341 - 360)، و «بدائع الفوائد» (1/). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1176)، ومسلم (719)، والزيادة لأبي داود (1290). (¬7) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.

3 - وعن عبد الله بن شقيق أنه قال لعائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: «لا، إلا أن يجيء من مغيبه» (¬1). لأنه كان ينهى عن الطروق ليلاً، فيقدم أول النهار فيبدأ بالمسجد فيصلي وقت الضحى. قالوا: وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فلا تدل على أنها سنة راتبة لكل أحد، ولهذا خص بذلك أبا ذر وأبا هريرة، ولم يوص بذلك أكابر الصحابة!!. قال ابن القيم: «ومن تأمَّل الأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة وحدها لا تدل إلا على هذا القول» اهـ. وقد اختار شيخ الإسلام أن من كان من عادته قيام الليل فإنه لا يُسنُّ له صلاة الضحى، وأما من لم تكن عادته صلاة الليل فإنه يُسنُّ له صلاة الضحى مطلقًا كل يوم (¬2). قلت: ولا يخفى أن القول الأول أصحُّ، لعموم الترغيب في فعل صلاة الضحى، وكونها تجزئ عن الثلاثمائة والستين صدقة التي كل إنسان، وأما ما ورد عن بعض الصحابة من إنكارها كابن مسعود وابن عمر وغيرهما فلا يقدح في المشروعية، لأن غيرهما قد أثبت مشروعيتها وكلٌّ روى ما رأى من علم حجة على من لم يعلم. وكذلك فما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم لها هو أو بعض أصحابه في بعض الأوقات لا ينفي مشروعيتها فإنه ليس من شرط المشروعية مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم بل هي مشروعية مرغَّب في فعلها لما تقدم في فضلها، ولذا قالت عائشة: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لأسبِّحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم» (¬3) والله تعالى أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (717)، وقد جاء عن عائشة روايات مختلفة، فهنا قيدت صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى بمجيئه من السفر، وفي مسلم كذلك نفي رؤيتها لصلاته مطلقًا، وفي أخرى: الإثبات مطلقًا، وقد ذهب طائفة من العلماء منهم ابن عبد البر إلى ترجيح ما في الصحيحين مع ما انفرد به مسلم، وجمع آخرون بين هذه الرويات. انظر «فتح الباري» (3/ 67). (¬2) «الاختيارات» (ص/ 64)، و «الفروع» (1/ 567). (¬3) صحيح: تقدم تخريجه.

وقت صلاة الضحى: يبتدئ وقتها من بعد ارتفاع الشمس وانتهاء وقت الكراهة إلى قبيل زوالها ما لم يدخل وقت النهي عند الجمهور (¬1) قلت: وعليه فيبتدئ بعد قُرابة ربع ساعة من طلوع الشمس. وأفضل وقتها: أن تؤخر إلى أن يشتد الحر، لحديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الأوَّابين حين تَرْمِضُ الفصال» (¬2) ومعناه: أن تحمى الرمضاء -وهي الرمل- فتجد هذه الحرارة الفصالُ (صغارُ الإبل) بخفافها، وهذا يكون قبيل الزوال بدقائق. وعدد ركعاتها: لا خلاف بين القائلين باستحباب صلاة الضحى في أن أقلهَّا ركعتان (¬3) لحديث: «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» وتقدم، ولحديث أبي هريرة: «أوصاني خليلي بثلاث ... وركعتي الضحى ...». ثم اختلفوا في أكثر صلاة الضحى على ثلاثة أقوال: الأول: أكثرها ثمان ركعات: وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (¬4) لحديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم الفتح وصلى ثماني ركعات ...» (¬5) الحديث. الثاني: أكثرها اثنتا عشرة ركعة: وهو مذهب الحنفية ووجه مرجوح عند الشافعية ورواية عن أحمد، لحديث أنس مرفوعًا: «من صلَّى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرًا في الجنة» وهو ضعيف. ¬

(¬1) «مواهب الجليل» (2/ 68)، و «كشاف القناع» (1/ 442)، و «روضة الطالبين» (1/ 332)، و «أسنى المطالب» (1/ 204). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (748)، وأحمد (4/ 366). (¬3) «الفتاوى الهندية» (1/ 112)، و «الدسوقي» (1/ 313)، و «روضة الطالبين» (1/ 332)، و «الإنصاف» (2/ 190). (¬4) «الدسوقي» (1/ 313)، و «المجموع» (4/ 36)، و «الروضة» (1/ 332)، و «الإنصاف» (2/ 190)، و «المغنى» (2/ 131). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا.

صلاة الاستخارة

الثالث: لا حد لعدد ركعاتها: وهو مروي عن جماعة من السلف، وهو الأرجح لأمرين: 1 - حديث معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: «نعم، أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله» (¬1). 2 - أن الاقتصار على الثماني ركعات في حديث أم هانئ يَردُ عليه أمران، الأول: أن من العلماء من قال أنها صلاة فتح وليست ضحى، والآخر: أن هذا الاقتصار على الثماني لا يستلزم عدم مشروعية الزيادة عليها لأن هذه قضية عين (¬2). صلاة الاستخارة من أراد أمرًا من الأمور المباحة، والتبس عليه وجه الخير والصواب فيه، فإنه يُسَنُّ له أن يصلي ركعتين من غير الفريضة -أية ركعتين ولو من السنن الرواتب- ثم يدعو عقبهما بالدعاء الوارد في الحديث الآتي: عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا هَمَّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقُلْ: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقُدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر [ويُسمِّي حاجته] خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجله وآجله) فاقدره لي ويسَّره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجله وآجله) فاصْرِفْهُ عنِّي واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به» (¬3) وههنا تنبيهات يجدر الالتفات إليها: 1 - الاستخارة إنما تشرع عند الهمِّ بأمر مباح، فلا تشرع في المستحبات إلا في التخيير بينهما والواجبات والمحرمات. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (719). (¬2) «الشرح الممتع» (4/ 120). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6382)، وأبو داود (1538)، والترمذي (480)، والنسائي (6/ 80)، وابن ماجه (1383).

صلاة التسبيح

2 - «ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسًا وإلا فلا يكون مستخيرًا لله، بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرِّي من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة، ومن اختياره لنفسه» (¬1). 3 - ليس من شرط الاستخارة أن يرى صاحبها رؤيا في منامه كما يعتقده كثير من العوام، وإنما تكون بما ينشرح له الصدر، أو يأول له الأمر بطبيعته وفق ما اختاره الله تعالى. 4 - ربما جاء اختيار الله تعالى للعبد على غير هواه، أو على ما يراه -هو- شرًا فعليه أن يستسلم لله ولأمره {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2). 5 - الاستخارة دعاء فلا بأس بتكرارها. تنبيه: ورد حديث «إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات» (¬3) وهو باطل لا يصح. صلاة التسبيح صلاة التسبيح: نوع من صلاة النفل تفعل على صورة خاصة يأتي بيانها، وإنما سميت «صلاة التسبيح» لما فيها من كثرة التسبيح، ففيها في كل ركعة خمس وسبعون تسبيحة (¬4). حكم صلاة التسبيح: اختلف أهل العلم في حكمها لاختلافهم في ثبوت الحديث الوارد فيها وهو: حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: «يا عباس يا عماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمه وحديثه خطأه وعمده صغيره ¬

(¬1) نقله في «نيل الأوطار» (3/ 90) عن النووي. (¬2) سورة البقرة، الآية: 216. (¬3) باطل: أخرجه ابن السُّني (603) وسنده واهٍ وانظر «الميزان» (1/ 21). (¬4) «نهاية المحتاج» (2/ 119).

وكبيره سره وعلانيته، عشر خصال أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرًا ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرًا ثم تهوي ساجدًا فتقولها وأنت ساجد عشرًا ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرًا ثم تسجد فتقولها عشرًا ثم ترفع رأسك فتقولها عشرًا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة فغن لم تفعل ففي كل شهر مرة فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة فإن لم تفعل ففي عمرك مرة» (¬1). وقد اختلف أهل العلم في حكمها على ثلاث أقوال: الأول: أنها مستحبة: وبه قال ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم، وبعض الشافعية (¬2) وهؤلاء صححوا الحديث فقالوا به. الثاني: أنها لا بأس بها (جائزة): وبه قال بعض الحنابلة (¬3) قالوا: لو لم يثبت الحديث فيها فهي من فضائل الأعمال فيكفي فيها الحديث الضعيف (!!). ¬

(¬1) ضعيف، واختُلف في تحسينه: أخرجه أبو داود (1297)، وابن ماجه (1387)، والحاكم (1/ 318 - 319)، والبيهقي (3/ 51)، والطبراني (11/ 161)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 25 - 26) وغيرهم من طرق عن ابن عباس، وكلها ضعيفة، وله شواهد كثيرة إلا أنها لا تصلح للاعتضاد، ولذا قال الحافظ في «التلخيص» (2/ 7): «والحق أن طرقه كلها ضعيفة، وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية فيه، وعدم المتاع والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات» اهـ. قلت: وقد ضعف الحديث جمع من العلماء منهم: الإمام أحمد -وقيل رجع عن تضعيفه- والترمذي وابن العربي وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» وقد ردَّ عليه الحفاظ، وضعفه شيخ الإسلام وتوقَّف فيه ابن خزيمة والذهبي: وقوَّى الحديث جمعٌ كذلك منهم: مسلم وأبو داود -كما نقله المنذري- والحاكم والبيهقي وابن حجر، ومن المعاصرين أحمد شاكر والألباني وغيرهم وقد ألَّف الأخ جاسم الفهيد -حفظه الله- في ذلك رسالة لطيفة بعنوان «التنقيح لما جاء في صلاة التسبيح» فأجاد فيها وخلص إلى تصحيح الحديث، قلت: تحسين هذا الحديث أو تصحيحه بطرقه، محلُّ اجتهاد، فليحرِّره الباحث المجتهد، والله أعلم. (¬2) «المجموع» (3/ 647)، و «نهاية المحتاج» (2/ 119). (¬3) «المغنى» (2/ 132).

صلاة تحية المسجد

ولذا قال ابن قدامة في «المغنى» (2/ 132): إن فعلها إنسان فلا بأس، فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها (!!) اهـ. الثالث: أنها غير مشروعة وهو مذهب الإمام أحمد، فقد قال: ما تعجبني، قيل له: لم؟ قال: ليس فيها شيء يصح، ونفض يده كالمُنكر (¬1). وقال النووي: في استحبابها نظر، لأن حديثها ضعيف، وفيها تغيير لنظم الصلاة المعروفة فينبغي أن لا يفعل بغير حديث، وليس حديثها بثابت. اهـ (¬2). قلت: وهذا الأخير أرجح لعدم ثبوت الحديث مع ما فيه من المخالفة لهيئة الصلاة، لكن من رأى باجتهاده -وكان من أهل الاجتهاد- صحة الحديث فيسنُّ له العمل به، وأما القول الثاني بالجواز مع كون الحديث ضعيفًا فهو قول ضعيف، وذلك لأمرين: 1 - أن الصواب أن الحديث الضعيف لا يُعمل به مطلقًا، لا في الفضائل ولا غيرها، وهذا هو مذهب المحققين من أهل العلم وهو ظاهر مذهب البخاري ومسلم ويحيى بن معين وابن حزم وغيرهم (¬3). 2 - أن القائلين بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال اشترطوا له شروطًا منها أن يكون مندرجًا تحت أصل في الشرع، فمحله الأعمال الثابتة المشروعة أصلاً، وليست الصلاة بهذه الهيئة بثابتة بغير هذا الحديث حتى نعمل به على أنه في فضائل ما هو مشروع!!. تنبيه: على القول بمشروعية صلاة التسبيح، فإن تحرِّي صلاتها في ليلة السابع والعشرين من رمضان، والاجتماع في المساجد لأدائها بدعة لا أصل لها، والله أعلم. صلاة تحية المسجد يستحب لمن دخل المسجد أن لا يجلس إلا بعد أن يصلي ركعتين لما يأتي: 1 - حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (¬4). ¬

(¬1) «المغنى» لابن قدامة (2/ 132). (¬2) «المجموع» (3/ 548). (¬3) انظر «تمام المنة» (ص/ 34)، ومقدمة «صحيح الترغيب» (1/ 16 - 36). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (444)، ومسلم (714).

2 - وعن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سليكًا الغطفاني -لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقعد قبل أن يصلي الركعتين- أن يصليهما» (¬1). 3 - حديث جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره لما أتى المسجد لثمن جمله الذي اشتراه منه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الركعتين» (¬2). والأمر في هذه الأحاديث ظاهره الوجوب، وكذلك النهي ظاهره تحريم ترك الركعتين، وقد ذهب جمهور العلماء -ومعهم ابن حزم- إلى أن الأمر مصروف إلى الندب بجملة أدلة، منها: حديث: «خمس صلوات ... قال: هل عليِّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع» (¬3). وقد أجاب عنه الشوكاني -رحمه الله- «بأن قوله (إلا أن تطوع) ينفي وجوب الواجبات ابتداءً، لا الواجبات بأسباب يختار المكلَّف فعلها، كدخول المسجد مثلًا، لأن الداخل ألزم نفسه الصلاة بالدخول، فكأنه أوجبها على نفسه، فلا يصح شمول ذلك الصارف لمثلها» (¬4) اهـ. قلت: وقد يؤيد أن هذه الأوامر على الاستحباب: حديث أبي واقد الليثي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» (¬5). قلت: فجلسا ولم يأمرهما بصلاة الركعتين، والله أعلم. فائدة: تقدم في «أوقات النهي» أن تحية المسجد من ذوات السبب التي تفعل في كل وقت ولو في أوقات الكراهة على الأرجح والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (930)، ومسلم (875). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2097)، ومسلم (715). (¬3) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬4) «نيل الأوطار» (3/ 84) ط. الحديث. وهذه الفائدة ظاهرة في الحديث، ولم يستنبطها منه الحافظ (!). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (66).

صلاة التوبة

الصلاة بعد الوضوء: يستحب لمن توضأ أن يصلي ركعتين أو أكثر في أي وقت -ولو في وقت الكراهة- لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الصبح: «يا بلال، أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة» قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي» (¬1). صلاة التوبة من زلَّت قدمه وارتكب ذنبًا، فعليه أن يسارع بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى، فهو سبحانه غافر الذنب وقابل التوب. والصلاة لأجل التوبة من الذنب مستحبة باتفاق المذاهب الأربعة (¬2)، لحديث أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له» ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ...} (¬3) (¬4). وفي سنده ضعف إلا أن الآية تشهد لمعناه، على أنه قد صححه بعض أهل العلم. صلاة ركعتين بعد الطواف بالكعبة: يستحب عند الجمهور -ويجب عند الحنفية- أن يصلي ركعتين بعد الطواف خلف مقام إبراهيم يقرأ فيهما بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجته كما في حديث جابر الطويل (¬5) وسيأتي في الحج بتمامه. وتصلي هاتان الركعتان في أي وقت ولو في أوقات النهي، لحديث جبير بن ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1149)، ومسلم (910). (¬2) «ابن عابدين» (1/ 462)، و «الدسوقي» (1/ 314)، و «أسنى المطالب»، و «كشاف القناع» (1/ 443). (¬3) سورة آل عمران، الآية: 135. (¬4) ضعيف: أخرجه الترمذي (406)، وأبو داود (1521)، وابن ماجه (1395)، وفي سنده أسماء بن الحكم، قال الحافظ: صدوق، قلت: بل هو مجهول. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1218)، وسيأتي بتمامه في «الحج».

صلاة الكسوف

مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أيَّة ساعة شاء من ليل أو نهار» (¬1). صلاة الكسوف تعريفها: الكسوف: هو ذهاب ضوء أحد النيِّرين (الشمس والقمر) أو بعضه، وتغيُّره إلى سواد، والخسوف مرادف له، وقيل: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وهو الأشهر في اللغة (¬2). وصلاة الكسوف: صلاة تؤدى بكيفية مخصوصة، عند ظلمة أحد النيِّرين أو بعضهما (¬3). حكم الصلاة لكسوف الشمس: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الصلاة لكسوف الشمس سنة مؤكدة، وصرَّح أبو عوانه بوجوبها وهو رواية عن أبي حنيفة، وحُكي عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، والقول بوجوبها متجه وقوي لثبوت الأوامر بها، ورجَّحه الشوكاني وصدق خان ثم الألباني، رحمهم الله (¬4). واختلفوا في حكم الصلاة لخسوف القمر على قولين: الأول: أنها سنة مؤكدة وتُصلَّى جماعة كصلاة كسوف الشمس: وهو مذهب الشافعي وأحمد وداود وابن حزم، وبه قال عطاء والحسن والنخعي وإسحاق، وهو مروي عن ابن عباس (¬5) وحجة هذا القول ما يأتي: 1 - حديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله، وصلوا حتى ينجلي ...» (¬6). ونحوه من حديث عائشة وابن عمر وابن عباس وأبي بكرة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (869)، والنسائي (5/ 223)، وابن ماجه (1254). (¬2) «لسان العرب» و «كشاف القناع» (2/ 60)، و «أسنى المطالب» (1/ 385). (¬3) «مواهب الجليل» (2/ 199)، و «نهاية المحتاج» (2/ 394)، و «كشاف القناع» (2/ 60). (¬4) «فتح الباري» (2/ 612)، و «السيل الجرار» (1/ 323)، و «الروضة الندية» (ص/ 156)، و «تمام المنة» (ص/ 261). (¬5) «الأم» (1/ 214)، و «المغنى» (2/ 420)، و «الإنصاف» (2/ 442)، و «بداية المجتهد» (1/ 160)، و «المحلى» (5/ 95). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1060)، ومسلم (904).

2 - ما رُوى «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لكسوف القمر» (¬1). 3 - ما رُوى عن ابن عباس: «أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين، وقال: إنما صليت لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي» (¬2). الثاني: أنها لا تصلى جماعة، وهي سنة كالنوافل من غير زيادة في الركوع: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك (¬3) وقالوا: لوجود المشقة في الليل غالبًا دون النهار (!!) ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاَّها جماعة مع أن خسوف القمر كان أكثر من كسوف الشمس. قلت: والأول أرجح لأمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة لهما من غير تفريق. وقتها: وقت صلاة الكسوف من ظهور الكسوف إلى حين زواله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم -المتقدم-: «إذا رأيتموهما فادعوا الله وصلُّوا حتى ينجلي» (¬4) فجعل الانجلاء غاية للصلاة، لأنها شرعت رغبة إلى الله في رد نعمة الضوء، فإذا حصل ذلك حصل المقصود من الصلاة (¬5). فواتها: تفوت صلاة كسوف الشمس بأحد أمرين: 1 - انجلاء جميعها، فإن انجلى بعضها جاز الشروع في الصلاة للباقي، كما لو لم ينكسف إلا ذلك القدر. 2 - غروبها كاسفة. وتفوت صلاة خسوف القمر بأحد أمرين: 1 - الانجلاء الكامل. 2 - طلوع الشمس وقيل بغيابه وهو خاسف، ولو حال سحاب وشك في الانجلاء صلَّى، لأن الأصل بقاء الكسوف (¬6). ¬

(¬1) حب، انظر (فتح) (3/ 638). (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (3/ 342) وأخرج نحوه - لكن على ظهر زمزم- الشافعي كما في مسنده (484)، وعنه البيهقي (3/ 342) وسنده تالف. (¬3) «ابن عابدين» (2/ 183)، و «البدائع» (1/ 282)، و «مواهب الجليل» (2/ 201)، و «بداية المجتهد» (1/ 312)، و «الدسوقي» (1/ 402). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) المراجع السابقة. (¬6) «المغنى» (2/ 427)، و «روضة الطالبين» (2/ 87)، و «المواهب» (2/ 203).

فائدة: تصلى الكسوف في جميع الأوقات حتى المنهي عن الصلاة فيها، وهو مذهب الشافعي. ما يستحب لمن رأى الكسوف: [1] الإكثار من الذكر والاستغفار والتكبير والصدقة وسائر القُرَب: وفي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّرا وصلُّوا وتصدقوا ...» (¬1). وعن أسماء قالت: «لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس» (¬2). تعني التقرب إلى الله تعالى بإعتقا العبيد. [2] الخروج للصلاة جماعة في المسجد: ففي حديث عائشة: «ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبًا فكسفت الشمس، فرجع ضُحىً، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحُجَر، ثم قام فصلَّى ...» (¬3). وفي لفظ مسلم عنها «... فخرجتُ في نسوة بين ظهراني الحُجَر في المسجد، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم من مَرْكَبِه حتى أتى إلى مصلاَّه الذي كان يصلى فيه ..» الحديث. قال الحافظ في «الفتح» (3/ 633): والمركب الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه بسبب موت ابنه إبراهيم، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد ولم يصلها ظاهرًا، وصحَّ أن السنَّة في صلاة الكسوف أن تصلى في المسجد، ولولا ذلك لكانت صلاتها في الصحراء أجدر برؤية الانجلاء، والله أعلم. اهـ. [3] يخرج للصلاة النساء: لحديث أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس، فإذا الناس قيام يصلُّون وإذا هي قائمة تصلي ....» (¬4) الحديث. وقد تقدم لفظ عائشة: «فخرجت في نسوة بين ظهراني الحجر في المسجد ...». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1054)، وأبو داود (1192). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1056)، ومسلم (903). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1053)، ومسلم (905).

ويستثنى من هذا من تخشى الفتنة منهن فيصلين في البيوت منفردات. [4] النداء للصلاة بـ «الصلاة جامعة» من غير أذان ولا إقامة: فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي: إن الصلاة جامعة» (¬1). وليس لها أذان ولا إقامة اتفاقًا. [5] الخطبة بعد الصلاة: يُسَنُّ أن يخطب لها بعد الصلاة كخطبة العيد، لحديث عائشة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الصلاة قام وخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلُّوا وتصدقوا» (¬2) وهو مذهب الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث (¬3). وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد (¬4): لا خطبة لصلاة الكسوف (!!) وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد لها خطبة بخصوصها وإنما أراد أن يبيِّن لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس، وتُعقِّب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل (¬5). كيفية صلاة الكسوف: لا خلاف بين أهل العلم في أن صلاة الكسوف ركعتان، وإنما اختلفوا في كيفيتها على أقوال، أشهرها قولان: الأول: أنها ركعتان، في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجدتان، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد (¬6) واستدلوا بما يأتي: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1045). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «المجموع» (5/ 52)، و «أسنى المطالب» (1/ 286)، و «فتح الباري» (2/ 620)، و «بداية المجتهد» (1/ 311). (¬4) «البدائع» (1/ 282)، و «مواهب الجليل» (2/ 202)، و «المغنى» (2/ 425) والمراجع السابقة. (¬5) «فتح الباري» لابن حجر (2/ 620) ط. السلفية. (¬6) «الدسوقي» (1/ 405)، و «الأم» (1/ 215)، و «كشاف القناع» (2/ 62)، و «المغنى» (2/ 422).

1 - حديث ابن عباس قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً، وهو دون الركوع الأول» (¬1). 2 - حديث عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى يوم خسفت الشمس، فقام فكبَّر فقرأ قراءة طويلة ثم ركع ركوعًا طويلا، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمد، وقام كما هو، ثم قرأ قراءة طويلة وهي أدنى من القراءة الأولى، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهي أدنى من الركعة الأولى، ثم سجد سجودًا طويلاً، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم سلَّم ...» (¬2). 3 - حديث جابر قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر، فصلى بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال ثم سجد سجدتين، ثم قام، فصنع نحو ذلك، فكانت أربع ركعات وأربع سجدات» (¬3). الثاني: أنها ركعتان، في كل ركعة قيام واحد وركوع واحد وسجدتان كسائر النوافل: وهو مذهب أبي حنيفة، وخيَّر ابن حزم بين الكيفيات جميعها (¬4)، وحجة أبي حنيفة ومن وافقه: 1 - حديث أبي بكرة قال: «خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد، وثاب الناس إليه، فصلى بهم ركعتين ... الحديث» (¬5). قالوا: ومطلق الصلاة تنصرف إلى الصلاة المعهودة (!!) وفي رواية النسائي: «فصلى ركعتين كما يصلون». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1046)، ومسلم (901). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1047)، ومسلم (901). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (904)، وأبو داود (1179)، والنسائي (1/ 217)، وأحمد (3/ 374). (¬4) «البدائع» (1/ 281)، و «تبيين الحقائق» (1/ 228)، و «المحلى» (5/ 95)، و «بداية المجتهد» (1/ 307). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1063)، والنسائي (3/ 146) والطيالسي (716).

2 - حديث النعمان بن بشير قال: «كشفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت» (¬1). قال ابن حزم: وهذا اللفظ [يعني: تكرار الركعتين] يقتضي ما ذكرنا. اهـ. هيئات أخرى: وقد رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاَّها على صفات أُخَر منها: 3 - في كل ركعة ثلاث ركوعات (¬2). 4 - في كل ركعة أربع ركوعات (¬3). قال ابن القيم: «ولكن كبار الأئمة لا يصححون ذلك، كالإمام أحمد والبخاري والشافعي ويرونه غلطًا ...» اهـ (¬4). قلت: وأصح الكيفيات: أنها في كل ركعة ركوعان، كما ذهب إليه الجمهور، لتصريح الأحاديث الصحيحة بذلك، وأما أدلة أبي حنيفة ومن وافقه فذكر الركعتين فيهما مطلق، فيقيَّد بأحاديث الفريق الأول. وأما حديث النعمان بن بشير في صلاة ركعتين ركعتين، فقال الحافظ في الفتح في «المجلد الثالث»: إن كان هذا الحديث محفوظًا احتمل أن يكون معنى قوله (ركعتين) أي: ركوعين ... وقوله: (ويسأل عنها) يحتمل أن يكون السؤال بالإشارة فلا يلزم التكرار» اهـ قلت: وقد تقدم أنه ضعيف فلا نحتاج إلى شيء من التأول. وأما الروايات في الزيادة على الركوعين في الركعة، فقال شيخ الإسلام (18/ 17 - 18): «... فإن هذا ضعَّفه حُذَّاق أهل العلم، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، ومعلوم أن إبراهيم لم يمت مرتين، ولا كان له إبراهيمان، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الكسوف يومئذٍ ركوعين في كل ركعة ...» اهـ. وقال العلامة الألباني -نضَّر الله وجهه- في «الإرواء» (3/ 132): «... وخلاصة القول في صلاة الكسوف أن الصحيح الثابت فيها عن رسول الله ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1193)، وأحمد (4/ 267)، والطحاوي (1/ 330)، وانظر «الإرواء» (3/ 131). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (901)، وأبو داود (1177)، والنسائي (3/ 129) عن عائشة!!. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (908)، وأبو داود (1183). (¬4) «زاد المعاد» (1/ 453) ط. الرسالة.

صلى الله عليه وسلم إنما هو ركوعان في كل ركعة من الركعتين، جاء ذلك عن جماعة من الصحابة في أصح الكتب والطرق والروايات، وما سوى ذلك: إما ضعيف أو شاذ لا يحتج به» اهـ. خلاصة صفة صلاة الكسوف: أكمل صفة لهذه الصلاة: 1 - أن يكبِّر، ويستفتح، ويستعيذ، ويقرأ الفاتحة، ويقرأ نحوًا من سورة البقرة. 2 - يركع ركوعًا طويلاً. 3 - يرفع من الركوع، ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. 4 - لا يسجد، بل يقرأ الفاتحة وسورة دون الأولى. 5 - يركع مرة أخرى ركوعًا طويلاً، هو دون الركوع الأول. 6 - يرفع من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمد، ربنا ولك الحمد. 7 - يسجد ثم يجلس ثم يسجد. 8 - يقوم إلى الركعة الثانية، ويفعل مثل ما فعل في الأولى. هل يجهر بالقراءة فيها أو يُسِرُّ؟ السنة أن يجهر بالقراءة في صلاته وبه قال أحمد وإسحاق وصاحبا أبي حنيفة خلافًا للجمهور (¬1)، ويدل على ذلك: 1 - حديث عائشة قالت: «جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبَّر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يُعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» (¬2). 2 - أنها نافلة شرعت لها الجماعة، فكان من سنتها الجهر كصلاة العيد والتراويح والاستسقاء. وقد قال الجمهور: لا يجهر إلا في خسوف القمر، وأما كسوف الشمس فلا، واحتجوا بما يلي: 1 - ما في حديث ابن عباس المتقدم: «... فقام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة» لكن هذا لا يلزم منه عدم الجهر، فيحتمل أنه سمع منه سورًا قدَّرها بنحو البقرة، أو أنه كان في مكان لا يصله فيه الصوت. ¬

(¬1) المراجع السابقة في كيفية الصلاة. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1065).

صلاة الاستسقاء

2 - ما رُوى عن عائشة أنها قالت: «حزرت قراءة رسول الله» (¬1) قالوا: ولو جهر لم يحتج إلى الظن والتخمين، وأجيب: بأن هذا لا يثبت عن عائشة ثم هو مخالف لما صح عنها من الجهر. 3 - حديث سمرة بن جندب: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خسوف الشمس، فلم أسمع له صوتًا» (¬2). ويرد على هذا ما تقدم في حديث ابن عباس، فلا يُرَدُّ لأجله الحديث الصحيح. والله أعلم. هل يُصلَّى لغير الكسوف من الآيات كالزلازل ونحوها؟ لأهل العلم في هذه المسألة أربعة أقوال (¬3): الأول: تستحب الصلاة لكل آية وفزع كالزلزلة والريح الشديدة والصواعق ونحو ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد وبه قال ابن حزم. الثاني: لا يصلى للآيات مطلقًا سوى الكسوفين: وهو مذهب مالك. الثالث: لا يصلى لشيء من الآيات سوى الكسوفين والزلزلة الدائمة: وهو المذهب عند الحنابلة. الرابع: لا يصلى لغير الكسوفين جماعة، بل يصلى ويتضرع في بيته: وهو مذهب الشافعي قلت: ولعل الأخير أقربها، والله أعلم. صلاة الاستسقاء تعريفها: الاستسقاء: طلب السُّقْيا من الله تعالى بإنزال المطر عند الجدب، وقد أجمع العلماء على أنه سنَّة سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما اختلفوا في الصلاة للاستسقاء كما سيأتي. حكم الصلاة للاستسقاء: إذا قحط الناس وأجدبت الأرض واحتبس المطر، فيستحب -عند الجمهور- ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1187)، والبيهقي (3/ 335). (¬2) ضعيف: أخرجه الترمذي (562)، وأبو داود (1184)، والنسائي (5/ 19)، وابن ماجه (1264). (¬3) «البدائع» (1/ 282)، و «مواهب الجليل» (2/ 200)، و «الأم» (1/ 246)، و «كشاف القناع» (2/ 65)، و «المغنى» (2/ 429)، و «المحلى» (5/ 95 وما بعدها).

أن يخرج الإمام ومعه الناس إلى المصلى على صفة تأتي، ويصلى بهم ركعتين، لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن عبَّاد بن تميم عن عمه قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي، واستقبل القبلة فصلَّى ركعتين، وقَلَب رِدَاءه: جعل اليمن على الشمال» (¬1). وخالف في هذا أبو حنيفة (¬2) فقال: لا تُسَنُّ صلاة للاستسقاء ولا الخروج لها واستدل لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى بدون صلاة كما سيأتي. والحديث حجة عليه، وفعله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء بدون صلاة لا يمنع أن يكون فعل الأمرين إذ لا تنافي بينهما. من سنن الاستسقاء: [1] خروج الناس مع الإمام إلى المصلى متبذِّلين متواضعين متضرِّعين: فعن ابن عباس قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتذلاً متواضعًا متضرِّعًا، حتى أتى المصلى فرقى المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرُّع والتكبير، ثم صلَّى ركعتين كما يصلي في العيد» (¬3). [2] أن يخطبهم الإمام قبل الصلاة أو بعدها على منبر يوضع له: وقد اتفق القائلون بسُنية الصلاة للاستسقاء على أن لها خُطْبة، إلا رواية في مذهب أحمد. وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه وأكثر أهل العلم إلى أن الخطبة بعد الصلاة (¬4)، واحتجوا بما يلي: 1 - حديث عبد الله بن زيد قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى فاستسقى وحوَّل رداءه حين استقبل القبلة وبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم استقبل القبلة ودعا» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1027)، ومسلم (894) واللفظ للبخاري. (¬2) «ابن عابدين» (2/ 184)، و «فتح القدير» (2/ 57). (¬3) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (1165)، والترمذي (555)، والنسائي (1/ 226)، وانظر «الإرواء» (665). (¬4) «الدسوقي» (1/ 406)، و «الأم» (1/ 221)، و «المجموع» (5/ 77)، و «المغنى» (2/ 433)، و «كشاف القناع» (2/ 69). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (4/ 41)، وأصله في البخاري (1027)، لكن ليس فيه التصريح بموضع الشاهد منه.

2 - حديث أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يستسقي فصلَّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله عز وجل، وحوَّل رداءه فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» (¬1). وذهب مالك وأحمد في رواية ثانية عنهما إلى أن الخطبة قبل الصلاة، وحجتهم: حديث عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجَّه إلى القبلة يدعو، وحوَّل رداءه، ثم صلَّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (¬2). والظاهر أن الأمر في هذا واسع فيجوز أن يخطب قبل الصلاة أو بعدها، وهذا التخيير رواية ثالثة في مذهب أحمد واختاره الشوكاني وغيره. ويستحب أن تكون خطبته مناسبة للحديث، مشتملة إظهار الافتقار والندم والتوبة إلى الله تعالى، كما قال العباس حينما استسقى به عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: «وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث» (¬3) ونحو ذلك مما سيأتي بعضه. [3] أن يدعو الإمام ويكثر المسألة قائمًا مستقبل القبلة رافعًا مبالغًا في رفعهما جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، ويرفع الناس أيديهم، ويحوِّل الإمام رداءه: فعن عبد الله بن زيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي بهم، فقام فدعا الله قائمًا، ثم توجَّه قِبَل القبلة وحوَّل رداءه، فأُسقوا» (¬4). وعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يُرى بياض إبطيه» (¬5). وعن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء» (¬6). وفي لفظ أبي داود: «كان يستسقي هكذا، ومدَّ يديه -وجعل بطونهما مما يلي الأرض- حتى رأيته بياض إبطيه». ¬

(¬1) إسناده لين: أخرجه أحمد (2/ 326)، وابن ماجه (1268). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1024)، ومسلم (894). (¬3) ذكره الحافظ في «الفتح» (2/ 497)، وعزاه إلى الزبير بن بكار في «الأنساب». (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1023)، والدارمي (1534). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1031)، ومسلم (895). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (896)، وأبو داود (1171)، وأحمد (3/ 153).

«قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء». اهـ. وقال غير: الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرًا لبطن، كما قيل في تحويل الرداء، أو هو إشارة إلى صفة المسئول وهو نزول السحاب إلى الأرض» (¬1) اهـ. وأما رفع الناس أيديهم، فلما في حديث أنس -في استسقائه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر-: «... فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون ...» (¬2) الحديث وسيأتي وأما تحويل الإمام رداءه الوارد في حديث عبد الله ابن زيد، فمعناه: أن يجعل ما على يمينه -من ردائه- على يساره والعكس، واستحبه الجمهور، وقيل: يستحب أن يقلب ظهر رداءه لبطنه وبطنه لظهره، لحديث ابن زيد: «استسقى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقة» (¬3). والحمة في ذلك التفاؤل بتحويل الحال، ومحلُّ هذا التحويل عند الفراغ من الخطبة. [4] من مأثور الدعاء في الاستسقاء: (أ) عن جابر قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم بَوَاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا نافعًا غير ضارٍّ عاجلاً غير آجل» فأطبقت عليهم السماء (¬4). (ب) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال: «اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأَحْيِ بلدك الميت» (¬5). (جـ) وفي حديث عائشة أنه لما قحط الناس ووعدهم الخروج: «... فقعد ¬

(¬1) «فتح الباري» (3/ 601). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1029). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 41)، وأبو داود (1164)، والبيهقي (3/ 351)، وانظر «الإرواء» (3/ 142). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1169)، والحاكم (1/ 327)، ومن طريقه البيهقي (3/ 355). (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (1176).

على المنبر فكبَّر وحمد الله عز وجل ثم قال: «إنكم جَدْب دياركم واستئخار المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله سبحانه أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم» ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني، ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين» الحديث (¬1) وسيأتي دعاء آخر في الاستسقاء في خطبة الجمعة. [5] أن يصلي بهم ركعتين كصلاة العيد، ويجهر فيهما: لما تقدم في حديث ابن عباس: «... وصلى ركعتين كما يصلي العيد» (¬2). وتقدم في حديث عبد الله بن زيد: «... ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (¬3). الاستسقاء بدون الخروج للصلاة: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أوجه للاستسقاء بدون الخروج للصلاة، فمن ذلك: 1 - الاستسقاء (الدعاء بالسقيا) في خطبة الجمعة: فعن أنس: أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة -ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحابة ولا قزعة، ولا بيننا وبين سَلعٍ من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرس، فلما توسَّطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس ستًّا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبله قائمًا، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس ...» (¬4). ¬

(¬1) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (1173)، والحاكم (1/ 328)، وانظر «الإرواء» (668). (¬2) حسنه الألباني: وقد تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897).

وفيه من الفوائد (¬1): إدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر من غير تحويل فيه ولا استقبال للقبلة، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء، وجواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة. [2] الاستسقاء في المسجد في غير جمعة ومن غير صلاة: كما في حديث جابر قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم بواك -وهي جمع باكية- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا نافعًا غير ضارٍّ عاجلاً غير آجل» فأطبقت عليهم السماء (¬2). [3] الاستسقاء خارج المسجد: فعن عمير مولى أبي اللحم أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبل وجهه لا يجاوز بهما رأسه» (¬3). ما يقال ويفعل إذا نزل المطر: [1] يستحب -إذا نزل المطر- أن يدعو بالمأثور، ومن ذلك: (أ) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر، قال: «اللهم صيِّبًا نافعًا» (¬4). (ب) وعنها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: «رحمةٌ) (¬5). [2] ويجب أن يعتقد أنهم مُطِروا بفضل الله وبرحمته، لا بالنجوم والأنواء: فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثْر سماء (¬6) كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال بكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبايد مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي ¬

(¬1) «فتح الباري» (2/ 589) ط. السلفية. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (1168)، والترمذي (557)، والنسائي (3/ 159)، وأحمد (5/ 223). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1032)، وابن ماجه (3889). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (899)، في جزء من حديث. (¬6) أي: بعد مطر.

سجود التلاوة

كافرٌ بالكواكب، وأما من قال: مُطِرنا بِنَوْء (¬1) كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» (¬2). فإذا اعتقد أن للنواء تأثيرًا في إنزال المطر فهذا كفر، لأنه أشرك في الربوبية، وإن لم يعتقد ذلك -بل قاله على سبيل المجاز مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط النجم- فهو من الشرك الأصغر، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببًا لإنزال المطر فيه، وإنما هو من فضل الله ورحمته، يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء (¬3). [3] يستحب أن يدعو عند المطر، فإنه مظنة الإجابة (إن صح الحديث): لما رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اطلبوا استجابة الدعاء عند: التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث» (¬4). [4] ويستحب أن يتعرض ببعض بدنه للمطر: فعن أنس قال: أصابنا -ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- مطرٌ، فَحَسَر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: «لأنه حديثُ عهد بربِّه تعالى» (¬5). [5] وإذا كثر المطر وخيف الضرر منه: فيستحب أن يدعو رافعًا يديه -بما في حديث أنس المتقدم في الاستسقاء على المنبر يوم الجمعة-: «اللهم حوالَيْنا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» (¬6). والآكام: دون الجبل وأعلى من الرابية، والظِّراب: الجبال المنبسطة غير العالية. سجود التلاوة (*) تعريفه: سجود التلاوة: هو السجود الذي سببه تلاوة أو سماع آية من آيات السجود في القرآن الكريم. ¬

(¬1) سقوط نجم من المنازل، وكانت العرب تنسب الأمطار والريح إلى النجم الساقط. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71). (¬3) «فتح المجيد» (ص: 455 - 459) بتصرف واختصار. (¬4) صححه الألباني: وانظر «السلسلة الصحيحة» (1469)، و «صحيح الجامع» (1026). (¬5) أخرجه مسلم (898)، وأبو داود (5100). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897). (*) لشيخنا أبي عمير مجدي بن عرفات -رفع الله قدره- «فتح الرحمن بأحكام ومواضع سجود القرآن» وقد استفدت منه.

فضله: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا وَيلَه (¬1)، أُمِر بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرتُ بالسجود فعصيتُ فلي النار» (¬2). وقد ثبت في فضل السجود عمومًا أحاديث كثيرة، منها: حديث أبي هريرة في البعث والشفاعة وفيه: «حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يُخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيَخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود» (¬3). وحديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الله به الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئة» (¬4). وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة، فقال: «أعنِّي على نفسك بكثرة السجود» (¬5). حُكْمه: أجمع العلماء على مشروعية سجود التلاوة، للآيات والأحاديث الواردة فيه كحديث ابن عمر: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا موضعًا لجبهته» (¬6) ثم اختلفوا في الوجوب على قولين: الأول: أنه واجب، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (¬7). ¬

(¬1) هذا دعاء على نفسه بالويل وهو الهلاك. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (81)، وابن ماجه (1052)، وأحمد (9336). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (488)، والترمذي (388)، والنسائي (2/ 238)، وابن ماجه (1423). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (489)، وأبو داود (1320)، والنسائي (2/ 227)، وأحمد (4/ 59). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1075)، ومسلم (575). (¬7) «فتح القدير» (1/ 382)، و «ابن عابدين» (2/ 103)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 139 - 155)، و «الإنصاف» (2/ 193).

الثاني: أنه مستحب وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور: مالك والشافعي والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وابن حزم، وبه قال عمر بن الخطاب وسلمان وابن عباس وعمران بن حصين من الصحابة (¬1). واحتج الموجبون بما يأتي: 1 - قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (¬2). قالوا: والذم لا يتعلق إلا بترك واجب. 2 - قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬3). 3 - قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬4). 4 - ما في حديث أبي هريرة المتقدم: «أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة» (¬5). 5 - قول عثمان: «إنما السجود على من استمع» (¬6). وأجاب الجمهور بما يأتي: 1 - أن الذم في آية الانشقاق متعلق بترك السجود إباءً واستكبارًا فيتناوله مَن تركه غير معتقد فضله ولا مشروعيته. 2 - أن الاستدلال بالآيتين الأخريين موقوف على أن يكون الأمر فيهما للوجوب، وعلى أن يكون المراد بالسجود سجدة التلاوة وهما ممنوعان (¬7). قلت: فعن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ} يسجد فيها» وفي رواية: «فلم يسجد منا أحد» (¬8). ¬

(¬1) «المجموع» (4/ 61)، و «كشاف القناع» (1/ 445)، و «المواهب» (2/ 60)، و «التمهيد» (19/ 133)، و «المحلى» (5/ 105). (¬2) سورة الانشقاق، الآية: 21. (¬3) سورة النجم، الآية: 62. (¬4) سورة العلق، الآية: 19. (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4220)، وعبد الرزاق (5906)، والبيهقي (2/ 324). (¬7) «تحفة الأحوذي» (3/ 172). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (1072)، ومسلم (577).

«وقد حُمل الأمر في الآيتين الأخريين على الندب أو على أن المراد به سجود الصلاة، أو أنه في الصلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجود التلاوة على الندب على قاعدة الشافعي في حمل المشترك على معنييه» (¬1). 3 - عن عمر بن الخطاب أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة فنزل فسجد، فسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة، قرأ بها حتى إذا جاء السجدة، قال: «يا أيها الناس، إنما نمرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه» (¬2). وقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم فكان إجماعًا منهم. قلت: ولشيخ الإسلام مناقشات على أدلة الجمهور، فليراجعها من شاء، والأصح قول الجمهور، والله أعلم. هيئة سجود التلاوة: 1 - اتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة يحصل بسجدة واحدة. 2 - يكون السجود على هيئة السجود في الصلاة تمامًا، من وضع اليدين والركبتين والقدمين والأنف والجبهة، ومجافاة المرفقين عن الجنبين والبطن عن الفخذين وتوجيه الأصابع للقبلة وغير ذلك مما تقدم. 3 - ولا يشرع فيه -على الأصح- تحريم (تكبيرة إحرام) ولا تسليم، قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (23/ 165): .. هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه عامة السلف، وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين .. اهـ. قلت: وقد نقل ابن عبد البر في التمهيد (19/ 134) عدم التسليم عن مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة. ثم قال (23/ 166): والمروي فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم تكبيرة واحدة، فإنه لا ينتقل من عبادة إلا عبادة. اهـ. قلت: يشير إلى حديث ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجد كبَّر، وسجد وسجدنا» (¬3) وهو حديث ضعيف. ¬

(¬1) «فتح الباري» (2/ 648) بنحوه. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1077). (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1413)، والبيهقي (2/ 325)، وعبد الرزاق (5911)، وانظر «الإرواء» (472).

لكن يمكن أن يُستدل لمشروعية التكبير عند السجود والرفع منه، بحديث وائل ابن حُجْر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير، ويكبِّر كلما خفض وكلما رفع» (¬1). وقد استحب الجمهور التكبير عند السجود والرفع منه، قلت: ويشرع رفع اليدين مع التكبير كذلك إن شاء، والله أعلم. 4 - الأفضل أن يقوم من أراد السجود للتلاوة في غير الصلاة، ثم يهوى لسجود التلاوة، وهو مذهب الحنابلة وبعض متأخري الحنفية ووجه عند الشافعية واختاره شيخ الإسلام (¬2). قالوا: لأن الخرور: سقوط من قيام وقد قال تعالى: {... إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} (¬3). وإن لم يفعل وسجد من قعود فلا بأس، ومذهب الشافعي وجمهور أصحابه: أنه لا يثبت في هذا القيام شيء يعتمد عليه، قالوا: فالاختيار تركه (¬4). هل تشترط الطهارة واستقبال القبلة لسجود التلاوة؟ ذهب جماهير العلماء إلى أن سجود التلاوة يشترط فيه ما يشترط للصلاة، فاشترطوا له الطهارة، واستقبال القبلة وسائر الشروط (¬5). بينما ذهب ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم اشتراط شيء من ذلك لأن السجود ليس بصلاة، بل هو عبادة، ومعلوم أن جنس العبادة لا تشترط له الطهارة، وهو مذهب ابن عمر والشعبي والبخاري، وهو الصحيح. ومما يدل على ذلك حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» (¬6). ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد (4/ 316)، والدارمي (1252)، والطيالسي (1021)، وانظر «الإرواء» (2/ 36). (¬2) «البدائع» (1/ 192)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 586)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 173). (¬3) سورة الإسراء، الآية: 107. (¬4) «المجموع» (4/ 65). (¬5) «ابن عابدين (2/ 106)، و «الدسوقي» (1/ 307)، و «المجموع» (4/ 63) النبي صلى الله عليه وسلم و «المغنى» (1/ 650). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1071)، والترمذي (575).

قال البخاري (2/ 644 - فتح): والمشرك نجس ليس له وضوء. اهـ. وقال الشوكاني: «ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدلُّ على اعتبار أن يكون الساجد متوضئًا، وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وسلم من حضر تلاوته، ولم ينقل أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعًا متوضئين، وأيضًا قد كان يسجد معه المشركون كما تقدم وهم أنجاس لا يصح وضوؤهم ... وأما ستر العورة والاستقبال مع الإمكان، فقيل: إنه معتبر اتفاقًا» (¬1) اهـ. قلت: ما دام السجود ليس بصلاة فلا يشترط فيه استقبال القبلة كذلك كما تقدم عن ابن حزم وابن تيمية، لكن لا شك في أن السجود على طهارة مستقبلاً القبلة هو الأفضل والأكمل، ولا ينبغي ترك ذلك لغير عذر، أما الاشتراط فلا، والله أعلم. كيف يسجد الماشي والراكب؟ من قرأ أو سمع آية سجدة وكان ماشيًا أو راكبًا، وأراد السجود، فإنه يومئ برأسه على أي اتجاه كان، فعن ابن عمر أنه سئل عن السجود على الدابة؟ فقال: «اسجد وأَوْمِ» رواه ابن أبي شيبة (4210) بسند صحيح، وصحَّ الإيماء للماشي عن طائفة من السلف من أصحاب ابن مسعود وغيره. ما يقال في سجود التلاوة: 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل، يقول في السجدة مرارًا: «سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعَه وبصرَه بحوله وقوَّته» (¬2). 2 - وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ، فسجدتْ الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: «اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضَعْ عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها منيِّ كما تقبلتها من عبدك داود» ... قال ¬

(¬1) «نيل الأوطار» (3/ 125) ط. الحديث. (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1414)، والترمذي (580)، والنسائي (2/ 222)، وفي سنده اختلاف وهو على كل الأحوال ضعيف، وانظر «فتح الرحمن» لشيخنا أبي عمير (ص/ 99). قلت: وقد صح نحوه عن عليِّ مرفوعًا في سجود الصلاة رواه مسلم.

ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة، ثم سجد، فسمعته وهو يقول مثلما أخبره، الرجل عن قول الشجرة (¬1). قلت: وهذان الحديثان ضعيفان على الأرجح -وقد صُحِّحا، والأوَّل قد صح نحوه في سجود الصلاة. وقد أشار الإمام أحمد -رحمه الله- إلى عدم ثبوت ذلك حينما قال: «أما أنا فأقول: سبحان ربي الأعلى» فإذا كان كذلك فإن المشروع في سجود التلاوة، الأذكار التي تقدمت في سجود الصلاة، ومنها بمثل حديث عائشة المتقدم، والله أعلم. إلى مَنْ يتوجَّه حكم سجود التلاوة؟ أجمع العلماء على أن حكم سجود التلاوة يتوجَّه إلى القارئ لآية السجدة، سواء كان في الصلاة أو خارجها. ثم اختلفوا في السامع: هل عليه سجود أم لا؟ على قولين (¬2): الأول: يسجد السامع مطلقًا وإن لم يسجد القارئ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك. الثاني: لا يسجد إلا إذا قصد الاستماع، وإذا سجد القارئ، وكان ممن تصح إمامته، وهو مذهب أحمد ورواية عن مالك، وحجتهم: 1 - حديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته» (¬3). 2 - ما رُوى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: قرأ فلان عندك السجدة فسجدت، وقرأتُ عندك السجدة فلم تسجد؟ فقال: «كنتَ إمامًا فلو سجدتَ سجدنا» (¬4) وهو ضعيف. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه الترمذي (5790)، وابن ماجه (1053) وغيرهما وله شاهد لا يزيده إلا ضعفًا ومع هذا فقد صححه الشيخ أبو الأشبال -رحمه الله- وانظر «فتح الرحمن» (ص/ 100). (¬2) «البدائع» (1/ 192)، و «الدسوقي» (1/ 307)، و «بداية المجتهد» (1/ 329)، و «المجموع» (4/ 72)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 582). (¬3) صحيح: تقدم في «حكم سجود التلاوة». (¬4) ضعيف: أخرجه الشافعي في «مسنده» (359)، وعنه البيهقي (2/ 324)، وانظر «الإرواء» (473).

3 - وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم -وهو غلام- لما قرأ سجدة: «اسجد فأنت إمامنا فيها» (¬1). فدلَّ كل هذا على أن السنة للمستمع أن يسجد بسجود القارئ، فإن لم يسجد فلا يتأكد في حقه، وإن كان الأَوْلى أن يسجد، والله أعلم. سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة: يجوز سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة من غير كراهة -في أظهر قولي العلماء- لما تقدم من أن السجود ليس بصلاة، والأحاديث الواردة بالنهي مختصة بالصلاة، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم (¬2). وقد رُوى عن ابن عمر كراهته وسنده ضعيف، والله أعلم. تكرار تلاوة أو سماع آية السجدة: إذا قرأ أو استمع آية السجود أكثر من مرة، فله أن يؤخر السجود فيسجد مرة واحدة، فإن سجد ثم قرأ آية السجود، فالأولى أن يسجد مرة أخرى وهو مذهب الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (¬3). فوات سجود التلاوة: يستحب للقارئ والمستمع له السجود عقب آية السجدة، ولو تأخَّر قليلاً، فإن طال الفصل بين السجود وسببه لم يسجد لفوات محله، وهو مذهب الشافعية والحنابلة (¬4). سجود التلاوة في الصلاة: عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد، فقلت له: ما هذا؟ قال: «سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» (¬5). ¬

(¬1) حسن بطرقه: علَّقه البخاري (2/ 647 - فتح)، ووصله سعيد بن منصور والبخاري في «التاريخ الكبير» كما في «التغليق» (2/ 210) وله شاهد عنه البيهقي وعبد الرزاق وبه حسَّنه شيخنا في «فتح الرحمن» (ص/ 114). (¬2) «المغنى» (1/ 623)، و «المحلى» (5/ 105)، و «بداية المجتهد» (1/ 328). (¬3) «فتح القدير» (2/ 22)، و «الدسوقي» (1/ 311)، و «مغنى المحتاج» (1/ 446)، و «الإنصاف» (2/ 196). (¬4) «المجموع» (4/ 71 - 72)، و «كشاف القناع» (1/ 445). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (766)، ومسلم (578) نحوه.

وعن أبي هريرة: «أن عمر سجد في «النجم» وقام فوصل إليها سورة» (¬1). وفيهما أنه يستحب لمن قرأ آية السجدة في صلاته من غير فرق بين الفريضة والنافلة، وهو مذهب الجمهور، وسواء كان منفردًا أو في جماعة، في سرية أو جهرية. لكن يُكره أن يقرأ بها الإمام في الصلاة السِّرِّيَّة لما يُخشى من التخليط على المأمومين، وبه قال الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة (¬2)، وقال الشافعية: لا يكره، لكن يستحب تأخير السجود إلى الفراغ من اصلاة لئلا يشوِّش عى المأمومين، ومحلُّه إذا لم يطل الفصل (¬3). هل يجوز مجاوزة آية السجدة في الصلاة؟ يُكره للمصلي أن يقرأ الآيات ويَدَع آية السجدة ويجاوزها حتى لا يسجد، وهذا منقول عن طائفة من السلف كالشعبي وابن المسيب وابن سيرين والنخعي وإسحاق، وكرهه جمهور العلماء (¬4). وهذا يسمى: «اختصار السجود». فائدة: وكذلك يكره جمع آيات السجود فيقرأ بها ويسجد (¬5). إذا كانت السجدة آخر السورة، ماذا يفعل؟ إذا قرأ السجدة في الصلاة وكانت آخر السورة، فهو مخيَّر بين ثلاثة أمور: 1 - أن يسجد ثم يقوم فيصل بها سورة أخرى ثم يركع: وقد فعله عمر رضي الله عنه، فقد «قرأ في الفجر بيوسف فركع، ثم قرأ في الثانية بالنجم، فسجد، ثم قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (¬6) (¬7)» وهذا هو الأَوْلى. 2 - أن يركع ويجزئه عن السجود: (أ) فعن نافع «أن ابن عمر كان إذا قرأ النجم يسجد فيها، وهو في الصلاة، فإن لم يسجد ركع» (¬8). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5880)، والطحاوي (1/ 355). (¬2) «البدائع» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 449)، و «مواهب الجليل» (2/ 65). (¬3) «المجموع» (4/ 72)، و «نهاية المحتاج» (2/ 95). (¬4) «البدائع» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 449)، و «الدسوقي» (1/ 309). (¬5) «الكافي» لابن قدامة (1/ 160)، و «المدونة» (1/ 111 - 112)، و «روضة الطالبين» (1/ 323). (¬6) سورة الانشقاق، الآية: 1. (¬7) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (2882)، والطحاوي (1/ 355). (¬8) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5893).

(ب) وسئل ابن مسعود عن السورة تكون في آخرها سجدة: أيركعه أو يسجد؟ قال: «إذا لم يكن بينك وبين السجدة إلا الركوع فهو قريب» (¬1). قلت: ومحلُّ هذا إذا كان منفردًا، أو كان إمامًا وعلم أن هذا لا يخلط على المأمومين، فإن خشي التخليط على المأمومين بحيث يسجد بعضهم ويركع الآخرون، فلا ينبغي فعله، والله أعلم. 3 - أن يسجد ثم يكبِّر فيقوم، ثم يركع من غير زيادة قراءة. إذا قرأ آية سجدة على المنبر (¬2): فإن شاء نزل ليسجد، ويسجد معه الناس، وإن ترك السجود فلا حرج لما تقدم من فعل عمر رضي الله عنه (¬3). ولو أمكنه السجود على المنبر سجد عليه كذلك، ويسجد الناس لسجوده فإن لم يسجد الخطيب، لم يشرع للمأمومين السجود. مواضع السجود (آيات السجدات): مواضع (آيات) السجود في القرآن الكريم خمسة عشر موضعًا، وقد ورد هذا في حديث مرفوع لكنه ضعيف، عن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصَّل، وفي سورة الحج سجدتان» (¬4). وهذه المواضع منها عشرة مُجْمعٌ عليها: وأربعة مختلف فيها إلا أنه قد صحت الأحاديث بها وموضعٌ واحد لم يصح فيه حديث مرفوع إلا أنَّ عمل بعض الصحابة على السجود فيه مما يستأنس به على مشروعيته. [أ] المواضع المتفق على السجود فيها (¬5): 1 - (الأعراف): عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (¬6). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4371). (¬2) «ابن عابدين» (1/ 525)، و «جواهر الإكليل» (1/ 72)، و «روضة الطالبين» (1/ 324)، و «كشاف القناع» (2/ 37). (¬3) صحيح: تقدم في «حكم السجود». (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1401)، وابن ماجه (1057)، و «الحاكم» (1/ 223)، والبيهقي (2/ 314). (¬5) «شرح المعاني» للطحاوي (1/ 359)، و «التمهيد» (19/ 131)، و «المحلى» (5/ 105 وما بعدها). (¬6) سورة الأعراف، الآية: 206.

2 - (الرعد) عند قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (¬1). 3 - (النحل) عند قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬2). وقد ثبت أن عمر قرأها على المنبر يوم الجمعة ثم نزل فسجد (¬3) وقد تقدم الحديث فيه. 4 - (الإسراء) عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (¬4). 5 - (مريم) عند قوله تعالى: {... إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (¬5). 6 - (الحج) عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ ... إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬6). 7 - (الفرقان) عند قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (¬7). 8 - (النمل) عند قوله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬8). 9 - (السجدة) عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬9). ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 15. (¬2) سورة النحل، الآيتان: 49، 50. (¬3) صحيح: تقدم في «حكم السجود». (¬4) سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109. (¬5) سورة مريم، الآية: 58. (¬6) سورة الحج، الآية: 18. (¬7) سورة الفرقان، الآية: 60. (¬8) سورة النمل، الآيتان: 25، 26. (¬9) سورة السجدة، الآية: 15.

10 - (فصلت) عند قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ... وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} (¬1) والجمهور على السجود عند {لا يَسْأَمُونَ}، والمشهور عند المالكية عند {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. [ب] المواضع المختلف فيها، وصحَّ دليلها: 11 - (ص): عند قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (¬2). وهي موضع سجود عند أبي حنيفة والثوري وأحمد -في رواية- وإسحاق وأبي ثور (¬3)، ويدلُّ لقولهم: 1 - حديث ابن عباس قال: «ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها» (¬4). 2 - وعن مجاهد - في سجدة ص- قال: سألت ابن عباس: من أين سُجدة؟ فقال: «أو ما تقرأ {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬5). فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬6). 3 - وعن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي «ص» سجود؟ قال: نعم، ثم تلا: {وَوَهَبْنَا} حتى بلغ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قال: قال: هو منهم، وقال ابن عباس: «ورأيت عمر قرأ «ص» على المنبر، فنزل فسجد فيها، ثم رقى على المنبر» (¬7). 4 - وعن السائب بن يزيد قال: «رأيت عثمان سجد في ص» (¬8). ¬

(¬1) سورة فصلت، الآيتان: 37، 38. (¬2) سورة ص، الآية: 24. (¬3) «التمهيد» (19/ 131)، و «البدائع» (1/ 193)، و «الدسوقي» (1/ 308)، و «المجموع» (4/ 60)، و «المغنى» (1/ 618). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1069)، وأبو داود (1409)، والترمذي (577). (¬5) سورة الأنعام، الآيات: 84 - 90. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (4807)، وأحمد (3215)، والبيهقي (2/ 319). (¬7) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4267)، وعبد الرزاق (5862)، والبيهقي (2/ 319). (¬8) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4257)، وعبد الرزاق (5864)، والبيهقي (2/ 319).

سجدات المُفَصَّل الثلاث: وهي مواضع سجود عند أبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد (¬1). 12 - (النجم): عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬2). ويدل لثبوتها: 1 - حديث ابن مسعود: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ...» (¬3) وقد تقدم نحوه عن ابن عباس. 2 - تقدم سجود عمر فيها، وسنده صحيح. فائدة: وقد ثبت كذلك ترك السجود فيها، فعن زيد بن ثابت أنه «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (والنجم) فلم يسجد فيها» (¬4). 13 - (الانشقاق): عند قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (¬5). 1 - ما تقدم من سجود أبي هريرة فيها وقوله: «سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» (¬6). 2 - وعنه قال: «سجد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} و {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ومن هو خير منهما» (¬7). 3 - وصح عن ابن عمر وابن مسعود وعمار (¬8). 14 - (العلق): عند قوله تعالى: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬9). وقد تقدم قبله حديث أبي هريرة في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ¬

(¬1) «التمهيد» (19/ 131)، و «البدائع» (1/ 193)، و «المجموع» (4/ 62)، و «المغنى» (1/ 617). (¬2) سورة النجم، الآية: 62. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1070)، ومسلم (576). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1072)، ومسلم (577). (¬5) سورة الانشقاق، الآيتان: 20، 21. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (766)، ومسلم (578). (¬7) صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (1037)، والطيالسي (2499)، وعبد الرزاق (5886). (¬8) انظر الآثار عنهم في «فتح الرحمن بأحكام ومواضع سجود القرآن» لشيخنا أبي عمير - حفظه الله (69، 70). (¬9) سورة العلق، الآية: 19.

سجود الشكر

[جـ] الموضع المختلف فيه، ولم يصح فيه شيء مرفوع: 15 - (الحج): عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). وهي موضع سجود عند الشافعي وأحمد (¬2)، وقد ورد فيها حديث عقبة بن عامر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي الحج سجدتان؟ قال: «نعم، ومن لم يسجدها فلا يقرأها» (¬3). وهو ضعيف، لكن قال به جمع من الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب وعليٌّ وابن عمر وابن عباس وابن مسعود وأبو موسى وأبو الدرداء وعمار ابن ياسر رضي الله عنهم. وكذا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وزر بن جيش، قال ابن قدامة: لم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم. اهـ. قلت: فهذا مما يُستأنس به على مشروعيتها والله أعلم. سجود الشكر تعريفه: سجود الشكر: سجدة يفعلها الإنسان عند هجوم نعمة، أو اندفاع نقمة (¬4). مشروعيته: ثبت في حديث كعب بن مالك، الطويل «أنه لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه سجد» (¬5). وقد ورد جملة أحاديث -في أسانيدها مقال- عن أكثر من اثني عشر صحابيًّا، تُثبت بمجموعها سجود النبي صلى الله عليه وسلم للشكر، ومنها حديث أبي بكرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر سرور -أو بُشِّر به- خرَّ ساجدًا شاكرًا لله» (¬6). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 77. (¬2) «التمهيد» (19/ 131)، و «المجموع» (4/ 62)، و «المغنى» (1/ 618). (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1402)، والترمذي (578)، وأحمد (4/ 151). (¬4) «شرح المنهاج وحاشية القليوبي» (1/ 208). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769). (¬6) أخرجه أبو داود (2774)، والترمذي (1578)، وابن ماجه (1394) وغيرهم بسند ليِّن وقد استوفيت شواهده في «تعظيم قدر الصلاة» فراجعها إن شئت.

سجود السهو

وإلى هذا ذهب الجمهور: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وصاحبا أبي حنيفة (¬1). هيئته: كهيئة سجود الصلاة على نحو ما تقدم في سجود التلاوة. ولا يشترط له الطهارة ولا استقبال القبلة: لأنه ليس بصلاة، وإنما يستحب ذلك. ولا يكره في أوقات النهي: كما تقدم في سجود التلاوة. هل يشرع سجود الشكر في الصلاة؟ لا يُشرع أن يسجد للشكر وهو في الصلاة، لأن سببها خارج عن الصلاة، فإن سجد في الصلاة بطلت صلاته، إلا أن يكون جاهلاً أو ناسيًا فلا تبطل، كما لو زاد في الصلاة سجدةَ نسيانًا، وبهذا صرَّح الشافعية، والحنابلة، وعند الحنابلة قول بأنه لا بأس به في الصلاة!! (¬2) وهو ضعيف، والله أعلم. سجود السَّهْو تعريفه: السهو لغة: السهو لغة: نسيان الشيء والغفلة عنه، وذهاب القلب عنه إلى غيره (¬3). وسجود السهو اصطلاحًا: هو ما يكون في آخر الصلاة أو بعدها لجبر خلل بترك مأمور به أو فعل بعض منهي عنه دون تعمد (¬4). مشروعيته: اتفقت المذاهب على مشروعية سجود السهو لمن وقع له في الصلاة ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوه على وجه السهو (¬5). وقد صحَّ في مشروعية سجود السهو عدة أحاديث عليها مدار أحكامه، أسوقها ههنا ليسهل الإحالة عليها في مسائل الباب: ¬

(¬1) «روضة الطالبين» (1/ 324)، و «المغنى» (1/ 627)، و «الفتاوى الهندية» (1/ 135). (¬2) «المجموع» (40/ 68)، و «الفروع» (1/ 505). (¬3) «لسان العرب» مادة: (سها). (¬4) «الإقناع» للشربيني (2/ 89). (¬5) «نظم الفرائد، لما في حديث ذي اليدين من الفوائد» للحافظ العلائي (ص/ 405).

1 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نُودي بالأذان أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثَّوب أدبر، فإذا قضى التثويب أقبل، يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلَّى، فإذا لم يَدْرِ أحدكم كم صلَّى، فليسجد سجدتين وهو جالس» (¬1). 2 - حديث أبي هريرة قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتَيْ العشى -إما الظهر وإما العصر- فسلَّم في الركعتين ثم أتى جزعًا في قبل المسجد، فاستند إليها، وخرج سَرَعان الناس، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينًا وشمالاً، فقال: «ما يقول ذو اليدين؟!» قالوا: صدق، لم تصلِّ إلا ركعتين، فصلَّى ركعتين وسلَّم ثم كبَّر وسجد ثم كبَّر ورفع» (¬2). 3 - حديث عمران بن حصين بنحو حديث أبي هريرة السابق وفيه: «... وسلَّم من ثلاث ركعات، فلما قيل له، صلَّى ركعة، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم» (¬3). 4 - حديث عبد الله بن بُحَيْنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قام من صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتمَّ صلاته سجد سجدتين يكبِّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلِّم، وسجدهما الناس معه، مكان ما نسى من الجلوس» (¬4). 5 - حديث ابن مسعود قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال إبراهيم: زاد أو نقص] فلما سلَّم، قيل له يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلَّم، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1231)، ومسلم (389). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1229)، ومسلم (573). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (574)، والنسائي (1/ 26)، وابن ماجه (1018). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1224)، ومسلم (570). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1226)، ومسلم (572).

وفي لفظ للبخاري «ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين» وفي رواية: انه صلاَّها خمسًا فسجد سجدتين. 6 - حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلَّى أثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك ولْيَبْنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان» (¬1) ونحوه عن عبد الرحمن بن عوف. أسباب سجود السهو: يُشرع سجود السهو في الصلاة لثلاثة أسباب: [1] النقص: إذا وقع في الصلاة نقص لغفلة أو سهو فلا يخلو المتروك من أن يكون ركنًا أو واجبًا أو مستحبًا: (أ) فإن ترك ركنًا في ركعة -سهوًا- ثم ذكره قبل شروعه في القراءة في الركعة التي بعدها لزمه أن يعود إليه فيأتي به وبما بعده، ثم يلزمه سجود السهو في آخر صلاته على ما سيأتي تحرير موضعه. وإن لم يذكر الركن إلا بعد شروعه في قراءة الركعة التي بعدها، بطلت الركعة التي نقص منها وعليه إلغاؤها وإتمام صلاته ثم يسجد للسهو (¬2). وإن نسي ركعة أو أكثر من صلاته، فإني يأتي بتمام صلاته، ثم يسجد للسهو، والأصل في هذا حديث أبي هريرة -في قصة ذي اليدين- وعمران بن حصين. (ب) وإن ترك واجبًا من واجبات الصلاة -كالتشهد الأوسط مثلًا- فإن أمكنه استدراكه قبل مفارقة محلِّه أتى به ولا شيء عليه، وإن ذكره بعد مفارقة محله وقبل أن يصل إلى الركن الذي يليه رجع فأتى به ثم يكمل صلاته ولا سهو عليه، وإن ذكره بعد مفارقة محلِّه وبعد أن يصل إلى الركن الذي سقط عنه فلا يرجع إليه، ويستمر في صلاته، ويسجد للسهو. والأصل في هذا حديث عبد الله بن بجينة المتقدم. وعن زياد بن علاقة قال: «صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (571)، وأبو داود (1024)، والنسائي (3/ 27)، وابن ماجه (1210). (¬2) بهذا صرَّح الحنابلة، ومذهب المالكية والشافعية قريب منه. وانظر: «الدسوقي» (1/ 293)، و «المجموع» (4/ 116)، و «كشاف القناع» (1/ 402)، و «المغنى» (2/ 6).

ولم يجلس، فسبح به من خلقه، فأشار إليهم: أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلَّم، وسجد سجدتين وسلَّم، وقال: «هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم». وفي رواية قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استتم أحدكم قائمًا فليصلِّ وليسجد سجدتي السهو، وإن لم يستتم قائمًا فليجلس ولا سهو عليه» (¬1). (جـ) وإن ترك مستحبًّا، فقيل: لا سهو عليه لأن المستحبات لا حرج في تركها، وقيل: بل يستحب السجود لمسنون -ولا يجب لئلا يزيد الفرع على أصله- لحديث: «لكل سهو سجدتان» (¬2). لكنه ضعيف لا يُحتجُّ به. [2] الزيادة: إذا سها المصلي فزاد ركعة أو أكثر في صلاته، فإن ذكر في أثنائها، فعليه أن يجلس -على أي وضع كان- ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو ويسلِّم، فإن لم يذكر إلا بعد السلام، فإنه يسجد للسهو ويسلِّم. لحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: «وما ذاك؟» قال: صليت خمسًا، فسجد سجدتين بعد ما سلَّم» (¬3). [3] الشك: إذا شك المصلي -أي تردَّد- هل صلى ثلاثًا أو أربعًا مثلًا، فإنه يتحرى صلاته (¬4) فإن ترجَّح عنده أحد الأمرين بنى عليه وسجد بعد السلام، كما في حديث ابن مسعود المتقدم. وإذا لم يترجَّح له أحدهما، فإنه يبني على اليقين (وهو الأقل منهما) ويسجد قبل السلام، لحديث أبي سعيد المتقدم، وحديث عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أم ¬

(¬1) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (1036)، والترمذي (365)، وأحمد (4/ 247)، والطحاوي في «المعاني» (1/ 439)، وانظر «الإرواء» (388). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1038)، وابن ماجه (1219)، وأحمد (5/ 285)، وعبد الرزاق (3533)، والطيالسي (997)، والبيهقي (2/ 337)، والطبراني (2/ 92) وفي سنده اختلاف، وفيه ضعف وانقطاع. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) معنى التحري: أن يتذكر مثلًا أنه قرأ الفاتحة وسورة مرتين فيعلم أنه صلى ركعتين لا ركعة، أو يتذكر أنه تشهد التشهد الأول فيعلم أنه صلى ركعتين لا واحدة، ونحو ذلك، فإذا تحرَّى الذي هو أقرب إلى الصواب أزال الشك، ولا فرق في هذا بين أن يكون إمامًا أو منفردًا كما اختار شيخ الإسلام (13/ 23) خلافًا للمشهور في مذهب أحمد، وانظر «المغنى» (1/ 378)، و «كشاف القناع» (1/ 406). وأما الجمهور فعندهم يبني على اليقين مطلقًا!!

اثنتين فلْيَبْن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثًا فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا فليبن على ثلاث، ولسجد سجدتين قبل أن يسلِّم» (¬1). تنبيه: لا يُلْتفت إلى الشك في العبادة في ثلاث حالات (¬2): 1 - إذا كان مجرد وهم لا حقيقة له، كالوسواس. 2 - إذا كثر مع الشخص بحيث لا يفعل عبادة إلا حصل له فيها شك. 3 - إذا كان الشك بعد الفراغ من العبادة فلا يلتفت إليه ما لم يتيقَّن فيعمل بما تيقن. حكم سجود السهو: لأهل العلم في حكم سجود السهو في الصلاة عند وجود سببه، قولان (¬3): الأول: أنه واجب: وهو ذهب الحنفية وقول عبد المالكية والمعتمد عند الحنابلة والظاهرية واختاره شيخ الإسلام، وحُجَّتهم: 1 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم به في الأحاديث المتقدمة، وفي بعضها لمجرد الشك. 2 - مداومته صلى الله عليه وسلم على سجدتي السهو -عند وقوع سببها- وعدم تركهما في السهو المقتضي لهما قط. الثاني: أنه مستحب: وهو المشهور عن المالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة، وحجتهم: - ما جاء في حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان، وإن كانت ناقصة كانت الركعة تمامًا لصلاته، وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان» (¬4). ¬

(¬1) فيه لين: أخرجه الترمذي: (398)، وابن ماجه (1209)، والحاكم (1/ 325)، والبيهقي (2/ 332)، وفيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس. (¬2) «سجود السهو» للشيخ محمود غريب -حفظه الله- (ص/ 17). (¬3) «فتح القدير» (1/ 502)، و «القوانين» (67)، و «المجموع» (4/ 152)، و «المغنى» (2/ 36)، و «كشاف القناع» (1/ 408)، و «المحلى» (4/ 159)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 27). (¬4) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (1024)، وابن ماجه (1210)، وأصله في مسلم لكن بدون ذكر لفظ (السجدتان نافلة).

قالوا: فدلَّ على أن السجدتين نافلة أي سنة وليستا واجبتين!! والراجح: الوجوب، وأما حجة المخالفين فقد رد عليها شيخ الإسلام بأمرين: 1 - أن هذا اللفظ (كانت الركعة والسجدتان نافلة) ليس في الصحيح ولفظ الصحيح: «فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتي قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان» وهو يقتضي وجوبهما، وجوب الركعة والسجدتين. 2 - على فرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، فمعناه: أنه مأمور بذلك مع الشك، فعلى تقدير أن تكون صلاته تامة في نفس الأمر، لم ينقص منها شيء يكون ذلك زيادة في عمله، وله فيه أجر كما في النافلة. موضع سجود السهو (قبل السلام أو بعده؟): اختلف أهل العلم في سجود السهو: يكون قبل السلام أو بعده؟ بناء على الأحاديث الثابتة في هذا الباب، بعد الاتفاق على أنه يجزئ على كل حال -على تسعة أقوال (¬1): الأول: سجود السهو كله قبل السلام: وبه قال أبو هريرة ومكحول والزهري وابن المسيب وربيعة والأوزاعي والليث، وهو مذهب الشافعي الجديد. الثاني: سجود السهو كله بعد السلام: وبه قال سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأنس وابن الزبير وابن عباس، وهو مروي عن عليٍّ وعمار، والحسن والنخعي والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. الثالث: يسجد للزيادة بعد السلام، وللنقص قبله: وهو مذهب مالك والمزني وأبي ثور وقول للشافعي. الرابع: يستعمل كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء سجد قبل السلام: وهو مذهب أحمد وابن أبي خيثمة واختاره ابن المنذر. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (1/ 495)، و «المبسوط» (1/ 219)، و «القوانين» (67)، و «الدسوقي» (1/ 274)، و «روضة الطالبين» (1/ 315)، و «المجموع» (4/ 154)، و «المغنى» (2/ 22)، و «الكافي» (1/ 209) النبي صلى الله عليه وسلم و «الأوسط» (3/ 307)، و «بداية المجتهد» (1/ 279)، و «نيل الأوطار» (3/ 132 - 135).

الخامس: يستعمل كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء سجد بعد السلام إن كان لزيادة، وقبله إن كان لنقص: وهو مذهب إسحاق بن راهوية. السادس: كالسابق، لكن يخيَّر فيما لم يرد فيه شيء: وهو اختيار الشوكاني. السابع: الباني على الأقل يسجد قبل السلام: والمتحرِّي يسجد بعد السلام: وهو مذهب ابن حبان. الثامن: أنه مخيَّر في السجود قبل السلام أو بعده مطلقًا: وهو محكي عن عليٍّ، والشافعي في قول والطبري. التاسع: أنه بعد السلام إلا في موضعين يكون فيهما مخيَّرًا: أحدهما إذا قام ولم يجلس للتشهد الأول، والثاني: أن لا يدري أصلى ركعة أم ثلاثًا أو أربعًا فيبني على الأقل ويخيَّر في السجود، وإليه ذهب ابن حزم وأهل الظاهر. والصحيح الذي تجتمع عليه النصوص المتقدمة: التفريق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحرِّي والشك مع البناء على اليقين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) وقال: وهذا إحدى الروايات عن أحمد، ومذهب مالك قريب منه وليس مثله، فإن هذا مع ما فيه من استعمال النصوص كلها، ففيه الفرق المعقول، وذلك أنه: 1 - إذا كان في نقص -كترك التشهد الأول- احتاجت الصلاة إلى جبر، وجابرها يكون قبل السلام لتتم به الصلاة، فإن السلام هو تحليل من الصلاة. 2 - وإذا كان من زيادة -كركعة- لم يجمع في الصلاة بين زيادتين، بل يكون السجود بعد السلام، لأنه إرغام للشيطان، بمنزلة صلاة مستقلة جبر بها نقص صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السجدتين كركعة. 3 - وكذلك إذا شك وتحرَّى فإنه أتم صلاته، وإنما السجدتان لترغيم الشيطان فيكون بعد السلام. 4 - وكذلك إذا سلَّم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها فقد أتمها، والسلام منها زيادة، والسجود في ذلك بعد السلام، لأنه إرغام للشيطان. 5 - وأما إذا شك ولم يتبين له الراجح، فهنا إما أن يكون صلى أربعًا أو خمسًا، فإن كان صلى خمسًا فالسجدتان يشفعان له صلاته، ليكون كأنه قد صلى ستًّا لا خمسًا، وهذا إنما يكون قبل السلام. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (23/ 24 - 25).

قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فهذا القول الذي نصرناه هو الذي يستعمل فيه جميع الأحاديث، لا يترك منها حديث، مع استعمال القياس الصحيح فيما لم يرد فيه نص، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص» اهـ. إذا سها عن سجود السهو، وحصل فصل أو نقض للوضوء: فهل يبنى على صلاته ويسجد للسهو؟ أم يستأنف الصلاة من جديد؟ (أ) أما إذا وقع فصل طويل -ما لم ينتقض الوضوء- فللعلماء فيه قولان: الأول يستأنف الصلاة من جديد: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد (¬1)، قالوا: لأنها صلاة واحدة فلم يجز بناء بعضها على بعض مع طول الفصل، كما لو انتقض وضوؤه. الثاني: يبني على صلاته ويسجد للسهو ما لم ينتقض الوضوء: وهو قول لمالك والقديم للشافعي وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري والليث والأوزاعي وابن حزم وابن تيمية إلا أنه خصَّه بما كان بعد السلام (¬2). قالوا: لأن طول الفصل ليس له حد منضبط، وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم ساهيًا وتكلَّم وراجع وخرج من المسجد ودخل بيته ثم عرف فخرج فأتم ما بقي من صلاته وسجد لسهوه سجدتين. ولأنه مأمور بإتمام صلاته وسجوده للسهو فوجب، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من نسى صلاة أو نام عنها فكفَّارتها أن يصليها إذا ذكرها» (¬3). قلت: وهذا مذهب قوي، لكن من أراد أن يحتاط لنفسه فيعيد الصلاة، فله ذلك والله أعلم. (ب) وأما إذا انتقض وضوؤه بعد ما سلم من صلاته الناقصة، بطلت صلاته بالاتفاق. فإن كان سها عن السجود -بعد السلام- لزيادة في صلاته، جاز أن يسجدها وإن حدث (نقض للوضوء) لأنهما ترغيم للشيطان، كما قال ابن تيمية (¬4) قلت: يعني يتوضأ ويسجد للسهو، وهذا قوي ومتجه. ¬

(¬1) «المبسوط» (1/ 224)، و «المدونة» (1/ 135)، و «المجموع» (4/ 156)، و «المغنى» (2/ 13). (¬2) «المدونة» (1/ 135)، و «المحلى» (4/ 166)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 32 - 35). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (684)، والنسائي (614)، وعند البخاري (597) نحوه. (¬4) «مجموع الفتاوى» (23/ 36).

تكرار السهو في نفس الصلاة (¬1): إذا تكرر السهو للمصلي في الصلاة، فإنه لا يتكرر لذلك سجود السهو، فلا يلزمه إلا سجدتان، عند جمهور العلماء، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم كرَّروا السجود لتكرار السهو، مع أن تكرار السهو ممكن من كل مصلٍّ. ولأنه لو لم تتداخل لسجد النبي صلى الله عليه وسلم عقب السهو، فلما أخَّر إلى آخر صلاته دلَّ على أنه إنما أخر ليجمع كل سهو في الصلاة. قلت: وأما حديث ثوبان مرفوعًا: «لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم» (¬2) فضعيف لا يصح، كما تقدم. سجود السهو في صلاة التطوع (¬3): جمهور العلماء على أنه يسجد للسهو في صلاة التطوع كالفرض، لعموم ذكر الصلاة في أحاديث الباب من غير تفريق بين فريضة ونافلة، ولعدم الدليل على التفريق. وعن أبي العالية قال: «رأيت ابن عباس يسجد بعد وتره سجدتين» (¬4). وعن عطاء عن ابن عباس قال: «إذا أوهمت في التطوع فاسجد سجدتين» (¬5). من أحكام السهو في صلاة الجماعة: قد يحصل السهو في الصلاة للإمام أو المأموم. [1] إذا سها الإمام في الصلاة: (أ) يشرع للمأموم تنبيه إمامه إذا سها: ويكون ذلك بتسبيح الرجال، وتصفيق ¬

(¬1) «رد المحتار» (1/ 497)، و «مواهب الجليل» (2/ 15)، و «شرح المنهاج» (1/ 204)، و «المغنى» (2/ 39). (¬2) ضعيف: تقدم تخريجه. (¬3) «شرح مسلم» (5/ 60)، و «فتح الباري» (3/ 125 - 126)، و «الأوسط» (3/ 325). (¬4) إسناده صحيح: علَّقه البخاري (3/ 125 - فتح)، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 81) بسند صحيح. (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي المنذر في «الأوسط» (3/ 325).

النساء -عند الجمهور خلافًا لمالك- (¬1) لحديث سهل بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله» (¬2). وفي لفظ: «إذا نابكم أمر فليسبِّح الرجال» (¬3). وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» (¬4). وعند المالكية: يسبِّح الرجال والنساء على سواء، ويُكره تصفيق النساء في الصلاة!! والحديث حجة عليهم، ومعنى التصفيق أو التصفيح: أن تضرب ببطن كفِّها على ظهر الأخرى لتنبيه الإمام. (ب) استجابة الإمام لتنبيه المأمومين ومتابعتهم (¬5): ذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الإمام إذا زاد في صلاته وكان على يقين أو غلب على ظنه أنه مصيب، والمأمومون يرون أنه في الخامسة مثلًا- لم يستجب لهم. وعند المالكية أنه إن كثر عددهم بحيث يفيد العلم الضروري، فإن الإمام يترك يقينه ويرجع لهم فيما أخبروه. وهذا إذا كان الإمام قد غلب على ظنه أو تيقن صواب فعله، فإن كان في شك، فيلزمه الاستجابة للمأمومين، لحديث ذي اليدين المتقدم، وبهذا قال الجمهور في الشك، خلافًا للشافعية، فإنهم يرون أنه يبني على اليقين ولا يلتفت للمأمومين!! قلت: وقول الجمهور أولى لأن شهادة المأمومين -الثقات- هي نوع من التحري، فغن ترجَّح له صواب إخبار المأمومين عمل به، والله أعلم. (جـ) إذا سها الإمام وسجد للسهو وجب على المأموم اتباعه: سواء سها المأموم معه أو انفرد الإمام بالسهو، قال ابن المنذر في «الأوسط» (3/ 322): «أجمع كل ¬

(¬1) «فتح القدير» (1/ 356)، و «مواهب الجليل» (2/ 29)، و «نهاية المحتاج» (2/ 44)، و «المغنى» (2/ 19). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1218)، والنسائي (784). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (7190)، والنسائي (793)، وأبو داود (940). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1203)، ومسلم (422). (¬5) «ابن عابدين» (1/ 507)، و «نهاية المحتاج» (2/ 75)، و «الخرشي» (1/ 322)، و «المغنى» (2/ 20).

من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المأموم إذا سها الإمام في صلاته وسجد أن يسجد معه، وحجتهم فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» (¬1) ولأن المأموم تابع للإمام، وحكمه حكمه إذا سها، وكذلك إذا لم يَسْه. (د) إذا سها الإمام ولم يسجد للسهو؟ فهل يسجد المأموم؟ (¬2). اختلف أهل العلم في هذا، فذهب عطاء والحسن والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه إن لم يسجد لم يسجدوا لما فيه من مخالفة الإمام. وذهب ابن سيرين وقتادة والأوزاعي ومالك والليث والشافعي وأبو ثور ورواية عن أحمد، إلى أنهم يسجدون وإن لم يسجد الإمام، قالوا: ذلك أن هذا شيء وجب عليهم وعليه، فلا يزول عنهم بتركه ما وجب عليه، وذلك أن الكل مؤدٍّ فريضة وما وجب عليه، فلا يزول عنه إلا بأدائه. (هـ) هل يسجد للسهو المسبوق مع الإمام؟ إذا أدرك الرجل بعض (¬3) صلاة الإمام، وعلى الإمام سجود السهو، فللعلماء فيه أربعة أقوال: الأول: يسجد مع الإمام ثم يقوم ليقضي ما عليه: وبه قال الشعبي وعطاء والنخعي والحسن، وأحمد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه (¬4). الثاني: يقضي، ثم يسجد لسهو إمامه، وبه قال ابن سيرين وإسحاق بن راهويه (¬5). الثالث: يسجد مع الإمام ثم يقضي ثم يسجد بعد فراغه من الصلاة، وهو مذهب الشافعي (¬6). ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه. (¬2) «الأوسط» (3/ 322)، و «ابن عابدين» (1/ 499)، و «الخرشي» (1/ 331)، و «المجموع» (4/ 134) النبي صلى الله عليه وسلم و «المغنى» (1/ 41). (¬3) اختلف العلماء في مقدار الإدراك الذي يلزم به متابعة الإمام في سجود السهو، فقال الجمهور: إذا أدرك معه ركنًا قبل سجوده للسهو وجب متابعته سواء كان السهو قبل الاقتداء أو بعده، وقال المالكين: إذا لم يدرك معه ركعة لم يسجد. قلت: وهو الأظهر، لكن إن سها مع الإمام فعليه أن يسجد لسهو نفسه لا لسهو إمامه، والله أعلم. (¬4) «الأوسط» (3/ 323)، و «مسائل أحمد» لأبي داود (55)، و «الأصل» (1/ 234). (¬5) «الأوسط» (3/ 323). (¬6) «الأم» للشافعي (1/ 132).

الرابع: إن سجد الإمام قبل التسليم سجد معه، وإن سجد بعد التسليم قام فقضى صلاته ثم يسجدها. وهو مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد (¬1). قلت: ولعل هذا الأخير هو الأقرب لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا سجد فاسجدوا» وقد تقرر -فيما مضى- أن السجود قبل التسليم يكون جبرًا للنقص فوجب المتابعة فيه. وأما ما يسجد فيه بعد السلام فإنه ترغيم للشيطان، فيقوم يتم ما عليه ثم يسجد لسهو إمامه لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتموا» (¬2) ويكون بهذا قد ائتم بالإمام من جهة أن الإمام سجد في آخر صلاته فكذلك هو. [2] إذا سها المأموم خلف إمامه (¬3): إذا سها المأموم خلف الإمام فإن الإمام يحمل عنه سهوه، وليس عليه سجود للسهو، عند أكثر أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد ورد في هذا حديث مرفوع عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو، وإن سها خلف الإمام فليس عليه سهو والإمام كافيه» (¬4) لكنه ضعيف لا يصح لكن عليه العمل عند الأكثرين. وخالف في هذا ابن سيرين وداود وابن حزم فقالوا: يسجد كما لو كان منفردًا أو إمامًا لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من أوهم في صلاته بسجدتي السهو لم يخص إمامًا ولا منفردًا من مأموم. قلت: مذهب الجمهور أرجح لا للحديث المرفوع، وإنما لما ذكره العلامة الألباني -رحمه الله- حيث قال (¬5): «نحن نعلم يقينًا أن الصحابة الذين كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم كانوا يسهون وراءه سهوًا يوجب السجود عليهم لو كانوا منفردين، هذا الأمر لا يمكن لأحد إنكاره، فإذا كان كذلك فلم ينقل أن أحدًا منهم سجد بعد سلامه صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعًا لفعلوه، ولو فعلوه لنقلوه، فإذا لم ينقل، دلَّ ¬

(¬1) «الأوسط» (3/ 323)، و «المدونة» (1/ 139). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (635)، ومسلم (602). (¬3) «الأوسط» (3/ 320)، و «المحلى» (4/ 167). (¬4) ضعيف: أخرجه الدارقطني (1/ 377)، والبيهقي (2/ 352). (¬5) «إرواء الغليل» (2/ 132).

على أنه لم يشرع، وهذا ظاهر -إن شاء الله تعالى- وقد يؤيد ذلك ما مضى في حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه تكلم في الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم جاهلاً بتحريمه، ثم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بسجود السهو» اهـ. صفة سجود السهو: سجود السهو سجدتان كالسجدتين في الركعة تمامًا يكبِّر عند كل خفض ورفع ثم يسلِّم، سواء كانه السجود قبل التسليم أو بعده. فأما التكبير: ففي حديث ابن بجينة: «فلما أتم صلاته سجد سجدتين: يكبِّر في كل سجدة وهوجالس قبل أن يسلم ....» (¬1) وهذا قبل السلام. وأما بعد السلام، فهو ثابت في حديث أبي هريرة: «... فصلى ركعتين وسلَّم، ثم كبَّر وسجد، ثم كبَّر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر فرفع» (¬2). هل لسجود السهو تكبيرة إحرام؟ ظاهر الأحاديث أنه يكفي بتكبير السجود وبه قال الجمهور (¬3)، وقال مالك: لابد من تكبيرة إحرام قبل السجود، لزيادة وردت في حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين: «أنه كبر وسجد، وقال هشام -يعني ابن حسان-: كبر ثم كبر وسجد» وهي زيادة شاذة لا تثبت. قال ابن عبد البر (¬4): «سلامه ساهيًا لا يخرجه من صلاته عندنا وعند جمهور العلماء ولا يفسدها عليه، وإذا كان في صلاته بنى عليها، فلا معنى للإحرام، لأنه غير مستأنف لصلاة بل هو متمم لها بانٍ فيها، وإنما يؤمر بتكبيرة الإحرام من ابتدأ صلاته وافتتحها» اهـ. وأما التسليم بعد السجدتين: فهو ثابت في خبر ذي اليدين، وحدث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى خمسًا، وحديث عمران بن حصين وفيه: «... فصلى ركعة ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: تقدم في أوب الباب. (¬2) صحيح: تقدم في أوب الباب. (¬3) «فتح الباري» (3/ 99). (¬4) «الاستذكار» (4/ 345). (¬5) صحيح: تقدم في أوب الباب.

الصلاة في السفر

هل يتشهَّد بعد سَجْدَتَيْ السهو؟ لأهل العلم في هذه المسألة أربعة أقوال (¬1) أصحُّها أنه لا يتشهد بعد سجدتي السهو لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اعتمد من قال به على ما رُوى من حديث عمران بن حصين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم» (¬2) وهو شاذ لا يصح، ولذا قال شيخ الإسلام (23/ 48): «.... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه سجد بعد السلام غير مرة كما في حديث ابن مسعود لما صلى خمسًا، وفي حديث أبي هريرة -حديث ذي اليدين- وعمران بن حصين ... وليس في شيء من أقواله أمر بالتشهد بعد السجود، ولا في الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول: أنه يتشهد بعد السجود، بل هذا التشهد بعد السجدتين عمل طويل بقدر السجدتين أو أكثر ومثل هذا مما يُحفظ ويُضبط، وتتوفَّر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان قد تشهد لذكر ذلك من ذكر أنه سجد، وكان الداعي إلى ذكر ذلك أقوى من الداعي إلى ذكر السلام وذكر التكبير عند الخفض والرفع، فإن هذه أقوال خفيفة، والتشهد عمل طويل، فكيف ينقلون هذا ولا ينقلون هذا» اهـ. الصلاة في السفر السفر لغةً: قطع المسافة، وخلاف الحضر (أي الإقامة). والسفر اصطلاحًا: خروج الإنسان من وطنه قاصدًا مكانًا يستغرق المسير إليه مسافة ما، اختلف الفقهاء في تقديرها كما سيأتي. أولاً: قصر الصلاة: تعريفه: القصر لغةً: الحبس، وعدم بلوغ الشيء مداه ونهايته. والقصر شرعًا: أن تصير الصلاة الرباعية ركعتين في السفر، سواء في حالة الخوف أو الأمن. ¬

(¬1) «الأوسط» لابن المنذر (3/ 314 - 317) وقد حكى القول بإثباته، وبمنعه، وبالتخيير، وبالتفريق بين ما كان بعد السلام فيتشهد وما كان قبله لا يتشهد. (¬2) شاذ: أخرجه أبو داود (1039)، والترمذي (395)، وابن الجارود (247) وغيرهم، وقد ضعَّفه البيهقي وابن عبد البر وابن تيمية وغيرهم، وكذا العلامة الألباني كما في «الإرواء» (403).

مشروعيته: ثبتت مشروعية القصر في السفر بالكتاب والسنة والإجماع، وستأتي الأدلة خلال مباحث هذا الباب، إن شاء الله. وقد اتفق العلماء على مشروعية القصر للصلاة في السفر، وعلى أن الفجر والمغرب لا تُقصران، واختلفوا في حكم قصر الصلاة: هل هو واجب أو رخصة؟ كما اختلفوا في شروط القصر، وفي غير ذلك، وفيما يلي بيان هذه المسائل: حُكْمُ قَصْرِ الصلاة في السفر: اختلف أهل العلم في حكم قصر الصلاة الرباعية في السفر على قولين: الأول: أن القصر رخصة (جائز) وهو مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة (¬1)، ثم اختلف هؤلاء في: هل الأفضل القصر أو الإتمام أو هو مخيَّر؟. الثاني: أن القصر عزيمة (واجب) ولا يجوز الإتمام: وهو مذهب الحنفية وقول عند المالكية، ومذهب الظاهرية (¬2)، ثم اختلفوا فيما إذا أتم: تبطل صلاته أم لا؟ أدلة الفريقين ومناقشاتها: [أ] أدلة القائلين بعدم الوجوب: 1 - قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} (¬3). قالوا: نفى الجناح يقتضي رفع الإثم، والإباحة لا الوجوب والعزيمة. وأجاب الموجبون من وجوه ثلاثة: الأول: أنه لا يُسلَّم بأن نفي الجناح خاص بالمباح، بل يستعمل كذلك في الواجب، ومن ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬4). فنفى الجناح في الآية جاء في السعي بين الصفا والمروة في الحج وهو فرض. ¬

(¬1) «الشرح الكبير في حاشية الدسوقي» (1/ 358)، و «المجموع» (4/ 337)، و «كشاف القناع» (1/ 324)، و «المغنى» (2/ 197)، و «بداية المجتهد» (1/ 241)، و «نيل الأوطار» (3/ 239)، و «الحاوي» للماوردي (2/ 363 - 365). (¬2) «البدائع» (1/ 91)، و «فتح القدير» (1/ 395)، و «بداية المجتهد» (1/ 241)، و «المنتقى» للباجي (1/ 260)، و «المحلى» (4/ 264)، و «معالم السنن» (1/ 48)، و «نيل الأوطار» (3/ 239). (¬3) سورة النساء، الآية: 101. (¬4) سورة البقرة، الآية: 158.

وأُجيب: بأن الآية نزلت لتبين أن السعي من الشعائر، وذلك لما تحرَّج المسلمون منه لأن العرب كانت تفعله في الجاهلية، ولم تنزل الآية لبيان حكم السعي!! والوجه الثاني: أن المراد بالقصر في الآية: قصر هيئة الصلاة في الخوف من ترك القيام والركوع، وأُجيب: بأن المراد بالقصر: إنقاص عدد الركعات بحيث تصير الرباعية ثنائية، بدليل حديث يعلى بن أمية الآتي قريبًا وفيه أنه أشكل عليه إنقاص عدد الركعات في السفر في حالة الأمن كما أشكل على عمر فقال صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (¬1). والوجه الثالث: أن في الآية اشتراط تحقق الخوف، فلماذا لم تقولوا به لجواز القصر وأجزتموه في الأمن؟ وأُجيب: بأن القصر في السفر قد أكدته السنة. 2 - واستدل الجمهور: بحديث يعلى بن أميَّة قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس!! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» (¬2) قالوا: والتعبير عن القصر بالصدقة يدل على الجواز، لأن الشأن في الصدقة التطوع لا الإلزام والوجوب. وأجاب الموجبون: بأن الحديث دليل لنا لا لكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقبول هذه الصدقة والأمر للإيجاب، وكل إحسان إلينا صدقة. وأجيب: بأنه توجد أكثر من قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب!! ومن ذلك أن لفظ «صدقة» إذا أطلق يراد به الصدقة التطوعية لا الواجبة. 3 - واستدل الجمهور: بما رُوى عن عائشة أنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمتُ، وقصر وأتممتُ، فقلت: بأبي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال: «أحسنتِ يا عائشة» (¬3). ¬

(¬1) صحيح: وانظر الآتي بعده. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (686)، وأبو داود (1199)، والترمذي (3037)، وابن ماجه (1065). (¬3) ضعيف: أخرجه الدارقطني (2/ 188)، والبيهقي (3/ 142)، ورجَّح الدارقطني في «العلل» إرساله.

وأجاب الموجبون عنه بأجوبة: أحدها: أن الحديث ضعيف لا يحتج به، والثاني: أن في متنه نكارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات ليس منهن شيء في رمضان، بل في ذي القعدة (¬1). والثالث: قال شيخ الإسلام (¬2): «وهذا حديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون، ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: «فرضت الصلاة ركعتين ...» فكيف يظن بها أنها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟!» اهـ. 4 - واستدل الجمهور: بما يُروى عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم» (¬3). وأجاب الموجبون: بأنه محمول على أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم، كقول عمر: «صلاة السفر ركعتان تمام من غير قصر» وأجيب: بأن التمام في خبر عائشة يدل على جواز صلاة الرباعية أربع ركعات في السفر، أما الإتمام في خبر عمر فيدل على التمام في الأجر، فلا يُحمل خبر عائشة على كلام عمر رضي الله عنهما قلت: الحديث منكر فلا حاجة إلى شيء من التأويل. 5 - واستدل الجمهور: بحديث عبد الرحمن بن يزيد قال: «صلَّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان» (¬4). قالوا: يعني: ليت عثمان صلى ركعتين بدل أربع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان في صدر خلافته يفعلون، ومقصوده كراهة مخالفة ما كان عليه ¬

(¬1) وأجيب عن هذا الوجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في رمضان: عمرة القضاء، وفي فتح مكة وكلاهما في رمضان. (¬2) نقله في «زاد المعاد» (1/ 472) ط. الرسالة. (¬3) منكر: أخرجه الدارقطني (2/ 242)، (2/ 189)، والشافعي (518)، والبيهقي (3/ 141، 142) وسنده تالف، وقال شيخ الإسلام: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ، وانظر «الإرواء» (3/ 3 - 9). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1084)، ومسلم (695).

النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه، ومع هذا فقد وافق ابن مسعود على جواز الإتمام، وإلا لم يجز أن يُتَّم وراء أحد (¬1). وأجاب الموجبون من وجوه: (أ) أن عثمان أتم بمنى لأنه نوى الإقامة في مكة بعد الحج، وأتم من كان معه من الصحابة لأنهم يقيمون بإقامته، وأجيب: بأن الإقامة بمكة كانت حرامًا على المهاجرين، وكيف يقيم وصح عن عثمان أنه كان يودِّع النساء إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته، وثبت أنه -لما حاصروه- قيل له: اركب رواحلك إلى مكة، قال: لن أفارق دار هجرتي» (¬2). (ب) وقيل: إن عثمان أتَّم بمنى لأنه تزوج بمكة، بدليل أنه لما أنكر الناس عليه صلاته بمنى أربعًا، قال: «أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تأهلَّ في بلد فليصلِّ صلاة المقيم» (¬3) وأجيب بان الحديث قد أعل بالانقطاع فلا يحتج به. (جـ) وقيل: إن عثمان أتمَّ لأنه إمام المسلمين، وكل موضع نزل فيه يعتبر مقيمًا فيه ودارًا له!! وأجيب: بأن الأولى بهذا الحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والثابت عنه أنه كان يقصر في كل سفر. 6 - واستدل الجمهور: بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلَّى أربعًا بالاتفاق، ولو كان فرضه القصر لم يأتم مسافر بمقيم. وأجاب الموجبون: بأن فرض المسافر ركعتان لم يتغير باقتدائه بالمقيم، لكن تكون الركعتان الأخريان نافلة، بدليل أنه إذا لم يقعد بعد الركعتين الأوليين تبطل صلاته لتركه القعود الذي هو فرض في حقِّه. وأجيب: بأنه لا يسلَّم أن الركعتين الأخيرتين نافلة، ولو كانتا كذلك لما وجب عليه الإتمام خلف الإمام المقيم. 7 - واستدل الجمهور بالقياس على الصوم للمسافر في نهار رمضان بجامع السفر في كلٍّ، فالإفطار له رخصة وليس بواجب، فكذلك القصر!! ¬

(¬1) «شرح مسلم» للنووي (5/ 204). (¬2) «فتح الباري» (2/ 665) ط. السلفية. (¬3) ضعيف: أخرجه أحمد (1/ 62) بسند ضعيف وأعلَّه البيهقي بالانقطاع.

وأجاب الموجبون: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، لأن الصوم يُقضى فيتركه إلى بدل، بخلاف الركعتين في الرباعية فإن المسافر يتركهما إلى غير بدل. [ب] أدلة القائلين بالوجوب: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» (¬1). وأجاب الجمهور من وجهين: (أ) أن المراد: فرضت الصلاة ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأُقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار. أو أنَّ المراد: أن ابتداء فرض الصلاة كان ركعتين ثم أتمت فصارت أربعًا، ولذلك كانت عائشة تتم في السفر. (ب) أن الحديث موقوف على عائشة فليس بحجة لا سيما وأنها لم تشهد زمن فرض الصلاة!! وأجيب: بأن الموقوف إذا لم يكن للعقل فيه مجال فله حكم الرفع، وهو هنا كذلك. 2 - واستدل الموجبون: بحديث ابن عباس قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيِّكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (¬2). وأجاب الجمهور: بأن الحديث لا يحمل على ظاهره!! وأن المراد: أن صلاة السفر ركعتان في حالة الاقتصار عليهما للمسافر، أما إذا أراد الإتمام فلا حرج جمعًا بين الأدلة!! 3 - واستدل الموجبون: بحديث عمر بن الخطاب قال: «صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام من غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم» (¬3). وأجاب الجمهور بأن المراد بالتمام أنها تامة في فضلها وأجرها غير ناقصة الفضيلة والأجر، وإنما وجب هذا التأويل لأن ظاهر الحديث يقتضي أن تكون ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (350)، ومسلم (685). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (687)، وأبو داود (1247)، والنسائي (3/ 169). (¬3) صحيح: أخرجه النسائي (3/ 118)، وابن ماجه (1064)، وأحمد (1/ 37).

صلاة الركعتين في السفر غير مقصورة وهذا مخالف لنص القرآن الكريم في تسميتها بالقصر!!! 4 - واستدل الموجبون: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (¬1) وقد تقدم الكلام عليه. 5 - واستدل الموجبون: بحديث ابن عمر قال: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2)» (¬3). وأما ما تقدم من إتمام عثمان الصلاة بمنى، فالذي يظهر أنه ما كان يتم إلا بمنى خاصة، لحديث ابن عمر قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعدُ أربعًا» (¬4). وأجاب الجمهور: بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته لا تدل على الوجوب. 6 - واستدل الموجبون: بأن الركعتين الأخيرتين يجوز تركهما إلى غير بدل، فلم يجز زيادتهما على الركعتين المفروضتين، كما لو زادهما على صلاة الصبح. وأجاب الجمهور: بأن القياس على صلاة الصبح قياس مع الفارق، لأن صلاة الصبح ركعتان لا تقبل زيادة بحال، بخلاف صلاة المسافر فإنها تقبل الزيادة بعد الاقتداء بالمقيم. الراجح في المسألة: بعد هذا العرض لأدلة الفريقين ومناقشاتهما، فلا يسلم من أدلة الجمهور إلا فعل عثمان وعائشة متأولين في مقابل ظواهر أحاديث عائشة وعمر وابن عباس ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه على القصر في السفر. ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (689). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1082)، ومسلم (694).

فالذي يظهر أن القول بالوجوب قوي ومتجه، ويستثنى من ذلك من صلى خلف المقيم، ولو ذهب أحدٌ إلى القول بأنه سنة مؤكدة لا ينبغي تركه وأن الإتمام مكروه، لم يبعُد كذلك، وهما منقولان عن شيخ الإسلام، والله أعلم. حدُّ السفر (المسافة التي يقصر فيها): اختلف أهل العلم في تحديد المسافة التي يجوز فيها قصر الصلاة على ثلاث أقوال: الأول: مسافة القصر (48) ميلاً بما يساوي (85) كيلو متر: وبه قال ابن عمر وابن عباس والحسن البصري والزهري، وهو مذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور (¬1) وحجتهم ما يلي: 1 - ما رُوى عن ابن عباس مرفوعًا: «يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد (¬2) من مكة إلى عسفان» (¬3) وهو منكر لا يصح. 2 - ما ثبت أن «ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما كانا يقصران ويفطران في أربعة برد» (¬4) وهي ستة عشر فرسخًا. 3 - أن مسافة أربعة برد تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسافة الثلاث، ولم يجز فيما دونها. الثاني: مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بمشي الإبل: وبه قال ابن مسعود وسويد بن غفلة والشعبي والنخعي والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة (¬5) وحجتهم ما يلي: 1 - حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي مَحْرَم» (¬6). ¬

(¬1) «القوانين» (100)، و «الدسوقي» (1/ 358)، و «المجموع» (4/ 322)، و «الحاوي» (2/ 361)، و «المغنى» (2/ 90)، و «كشاف القناع» (1/ 504). (¬2) البرد: جمع بريد وهو مسافة أربع فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل حوالي (1. 8) كيلو متر. (¬3) منكر: أخرجه الدارقطني (148)، وعنه البيهقي (3/ 137) وانظر «الإرواء» (565). (¬4) صحيح: علقه البخاري (2/ 659 - فتح)، ووصله البيهقي (3/ 137)، وانظر «الإرواء» (568). (¬5) «ابن عابدين» (2/ 122)، و «الهداية» (1/ 80)، و «نيل الأوطار» (3/ 246)، و «بداية المجتهد» (1/ 243). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1086)، ومسلم (1338).

2 - حديث علي بن أبي طالب -في المسح على الخفين-: «جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم» (¬1). قالوا: فتعلق حكم المسافر في الحديثين بمن سافر ثلاثة أيام فلا يتعلق القصر بأقل من ذلك!! 3 - من المعقول: أن الثلاثة أقل الكثير وأكثر القليل، ولا يجوز القصر في قليل السفر!! فوجب أن يكون أقل الكثير -وهو الثلاث- حدًّا له!! الثالث: ليس للقصر مسافة محددة، بل يقصر في كل ما يطلق عليه «السفر»: وهو مذهب الظاهرية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (¬2) وحجتهم ما يلي: 1 - قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (¬3). فظاهر الآية يدل على أن القصر يتعلق بكل ضرب في الأرض دون تحديد مسافة معينة. 2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدَّ القصر بحد زماني أو مكاني، بل علق الشارع الحكم بمسمى «السفر» المطلق، فلا يجوز أن يفرق بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية، بل الواجب أن يطلق ما أطلقه الشارع ويقيد ما قيَّده، والتقدير -لمسافة القصر- بابه التوقيف فلا يصار إليه برأي مجرد. 3 - أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر فيما دون المسافات المحدودة آنفًا: (أ) فعن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلَّى ركعتين» (¬4) فهو يدل صراحة على أن القصر يتعلق بمطلق السفر ولو كان ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، قال الحافظ: هو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه. اهـ. وقد أجاب الجمهور عنه: بأنه محمول على المسافة التي يبتدئ القصر منها لا غاية السفر!! قال الحافظ: «ولا يخفى بُعْد هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن زيد -راويه عن أنس- قال: سألت أنسًا عن ¬

(¬1) صحيح: تقدم في «المسح على الخفين». (¬2) «المحلى» (5/ 10)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 12 - 35)، و «زاد المعاد» و «فتح الباري» (2/ 660)، و «المغنى» (2/ 44). (¬3) سورة النساء، الآية: 101. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (691).

قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أخرج، فقال أنس: فذكر الحديث، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يُبتدأ القصر منه» اهـ. (ب) وعن أنس قال: «صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين» (¬1) وبينهما ثلاثة أميال: (أ) أنه قد ثبت عنهما خلاف هذا التحديد بأسانيد صحيحة، وكذا خالفهما غيرهما من الصحابة. (ب) ولو سلِّم أنه لم يثبت عنهما إلا ما احتج به الجمهور وأنه ليس لهما مخالف، فلا حجة فيه كذلك لمخالفته ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم. 5 - وأما حديث (لا تسافر المرأة ثلاثًا ...) فليس فيه أن السفر لا يطلق إلا على ثلاثة أيام، وإنما فيه أنه لا يجوز أن تسافر المرأة بغير محرم هذا السفر الخاص، وقد صح من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم» (¬2) وليس شيء من هذا حدًّا للسفر. الراجح: هو القول الثالث بأن يقصر في كل ما يُطلق عليه مسمى «السفر» سواء كان قصيرًا أو طويلاً وليس له حد في اللغة، فرجع إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة لما يطرأ من التطور في وسائل المواصلات، وضابطه: أن يقول القائل: إني مسافر إلى البلد الفلاني، لا إني ذاهب، وأن يكون فيه ما يعد به في العُرف سفرًا، مثل التزود له ونحو ذلك، والله أعلم. هل يشترط في السفر الذي يقصر فيه أن يكون سفر طاعة؟ ذهب جمهور العلماء: مالك والشافعي وأحمد (¬3)، إلى أنه لا يشرع القصر إلا في السفر الواجب أو المباح ولا يجوز في سفر المعصية كقطع الطريق ونحوه، وهذا مبناه على قولهم بأن القصر رخصة والمقصود منها التخفيف على المكلف، وهو إنما شرع ليُستعان به على تحصيل المصالح، فلا يكون إلا لمن يبذله في الطاعة، لا أن يتوصل به إلى ما يغضب الله. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (189)، ومسلم (690)، وزيادة (العصر) له. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1939). (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 244)، و «المجموع» (4/ 201)، و «المغنى» (2/ 101)، و «كشاف القناع» (1/ 324).

بينما ذهب القائلون بوجوب القصر: (أبو حنيفة وابن حزم وابن تيمية، وغيرهم) إلى أنه يقصر في كل سفر ولو في معصية، لأن فرضه ركعتان لا أربع، وإن كان عاصيًا بسفره، وهذا قول عند المالكية (¬1). قلت: فمن ترجَّح عنده أن القصر رخصة منع القصر في سفر المعصية، ومن أوجب القصر لم يفرِّق بين سفر الطاعة والمعصية، وهو الأرجح، والله أعلم. الموضع الذي يبدأ منه المسافر قصر الصلاة: أجمع أهل العلم على أن المسافر يجوز له أن يبدأ قصر الصلاة بعد مفارقة عمران بلدته (¬2). ثم اختلفوا في جواز القصر قبل ذلك على قولين، أصحُّهما أنه لا يجوز أن يقصر قبل مغادرة العمران، وهو مذهب الجمهور (¬3)، ويدل عليه: حديث أنس بن مالك قال: «صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين» (¬4). وهو ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ القصر بعد خروجه من المدينة. مدة القصر، إذا أقام في بلد السفر: المسافر لا يزال يقصر الصلاة ما دام في طريق سفره مهما طالت المدة، فإذا وصل إلى البلد الذي أراده، فما المدة التي يُشرع له القصر فيها؟ هذا أمر مسكوت منه في الشرع، وليس فيه حديث صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس على التحديد ضعيف عند أهل العلم، ولذا اختلف العلماء في هذه المسألة على نحو من أحد عشر قولاً، أشهرها أربعة أقوال رام أصحابها أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام فيها مُقصرًا، أو أنه جعل لها حكم المسافر (¬5)، وأشهر هذه الأقوال ما يلي: ¬

(¬1) «فتح القدير» (1/ 47) النبي صلى الله عليه وسلم و «الخرشي» (1/ 57)، و «المحلى» (4/ 267)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 110). (¬2) «الإجماع» لابن المنذر (39)، و «المغنى» (2/ 260). (¬3) «ابن عابدين» (2/ 121)، و «الذخيرة» (2/ 365)، و «المجموع» (4/ 202)، و «كشاف القناع» (1/ 325). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) «بداية المجتهد» (1/ 245) ط. العلمية.

[أ] إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام لم يقصر: وهو مذهب الجمهور: (المالكية والشافعية والحنابلة) إلا أن المالكية والشافعية قالوا: أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، والحنابلة حدودها بإحدى وعشرين صلاة (¬1). واستدلوا بما يلي: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلَّى الصبح في اليوم الثاني، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد عزم على إقامتها (¬2). وأجيب عنه: بأنه ليس فيه أن هذه المدة هي أدنى مدة للإقامة، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام أكثر من تلك المدة يقصر الصلاة كما سيأتي. 2 - حديث العلاء بن الحضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» (¬3) قالوا: فدلَّ على أن من أقام ثلاثة أيام ليس في حكم المقيم، بل هو في حكم المسافر. وأجيب عنه: بأن معنى الحديث أن من هاجر من مكة قبل الفتح يحرم عليه الاستيطان بمكة إلا أن يقيم بعد فراغه من نسكه ثلاثة أيام لا يزيد، وأما المسافر فلا يكره له الزيادة على ثلاثة أيام في مكة فكيف يقاس عليه!! ثم ليس فيه إشارة على المدة التي إذا أقامها المسافر أتمَّ؟! ثم إن في الحديث أن ما زاد على ثلاثة أيام للمهاجر يكون داخلاً تحت المسافر لا المقيم، وعندهم أن ما زاد على الثلاثة للمسافر فإقامة صحيحة، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم بخلاف قولهم (¬4). 3 - أثر عمر بن الخطاب: «أنه ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة ¬

(¬1) «الدسوقي» (1/ 364)، و «المجموع» (4/ 361)، و «الحاوي» (2/ 372)، و «المغنى» (2/ 132)، و «كشاف القناع» (1/ 330). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري معناه (1564)، ومسلم (1240)، من حديث ابن عباس، ومسلم (1218) من حديث جابر. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1352). (¬4) «المحلى» (5/ 24).

ثلاث ليال يتسوَّقون بها، ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال» (¬1) قالوا: دلَّ الأثر على أن الثلاث حدُّ السفر وما فوقها حد الإقامة، فأجيب: بأنه لا يدل على حدِّ السفر بثلاث، كما بينَّا في الذي قبله. 4 - أن ضيافة المسافر ثلاثة أيام، فإذا زاد اعتبر مقيمًا!! وأجيب: بأنه لا يدلُّ على أقل مدة للإقامة كما هو واضح. [ب] إذا نوى الإقامة خمسة عشر يومًا لم يقصر: وهو مذهب أبي حنيفة والثور والمزني (¬2) واستدلوا بما يأتي: 1 - حديث أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة» قيل له: أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: «أقمنا بها عشرًا» (¬3). وفي لفظ «أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أيام نقصر الصلاة» ويجاب عنه: بمثل ما تقدم في حديث جابر وابن عباس. 2 - وعن ابن عباس قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة» (¬4). 3 - ما جاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يومًا أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها» (¬5). قالوا: هذا التحديد لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع!! وأجيب: بأنه قول صحابي قد خالفه غيره فلا يكون حجة، ثم إن الثابت عن ابن عباس وابن عمر خلافه: ¬

(¬1) إسناده ثقات: أخرجه البيهقي (3/ 147 - 9/ 209) بسند رجاله ثقات إلا أنهم تكلموا في سماع يحيى بن بكير من مالك. (¬2) «البدائع» (1/ 97، 98)، و «الهداية» (1/ 81)، و «المجموع» (4/ 364). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1081)، ومسلم (693)، واللفظ الآخر له. (¬4) ضعيف بهذا اللفظ: أخرجه أبو داود (1231)، وابن ماجه (1076) وقد صح بلفظ «تسعة عشر» وسيأتي قريبًا. (¬5) ذكره الترمذي عن ابن عمر عقب الحديث (548) بغير إسناد.

فقال ابن عباس: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا» (¬1). [جـ] أن المسافر يقصر أبدًا ما لم ينو إقامة دائمة: وهو مذهب الحسن وقتادة وإسحاق واختاره ابن تيمية (¬2)، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث ابن عباس قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذ سافرنا فأقمنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا» (¬3). 2 - حديث جابر قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة» (¬4). 3 - ما رُوى عن عمران بن حصين قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: «يا أهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سَفْر» (¬5). قالوا: دلت هذه الأحاديث على أن حقيقة المسافر لا تتعلق بمدة معينة وإنما قصر النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانية عشر وتسعة عشر وعشرين، لأنه كان مسافرًا. فائدة: عند أصحاب المذاهب الثلاثة المتقدمة أن المسافر إذا أقام ببلد، ولم ينو الإقامة، ولم يَدْرِ متى يخرج ومتى تقضي حاجته فيه فإن يقضي أبدًا، ومستندهم أن على هذا فعل السلف: (أ) فعن ابن عمر أنه «أقام بأذربيجان ستة أشهر أرتج (¬6) عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1080). (¬2) «المجموع» (4/ 365)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 18)، و «المحلى» (5/ 23). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صححه الألباني: أخرجه أحمد (3/ 295)، وأبو داود (1236)، وقد أُعِلَّ، وانظر «الإرواء» (574). (¬5) ضعيف: تقدم تخريجه. (¬6) أي: دام عليهم الثلج وأطبق. (¬7) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 152)، وأحمد (2/ 83)، 154) بنحوه مطولاًا بسند حسن وانظر «الإرواء» (577).

(ب) وعن أبي المنهال العنزي قال: قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير؟ قال: «صلِّ ركعتين» (¬1). (جـ) وعن الحسن أن «أنس بن مالك أقام بنيسابور سنة أو سنتين، وكان يصلي ركعتين ثم يسلِّم، ثم يصلي ركعتين، ولا يُجَمِّع» (¬2). (د) وعنه أن عبد الرحمن بن سمرة «شتا بكابل شتوة أو شتوتين، لا يُجمِّع، ويصلي ركعتين» (¬3). (هـ) وعن أنس قال: «أقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برام هرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة» (¬4). (و) وعن أبي وائل قال: «كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين حتى انصرف» (¬5). ومجموع هذه الآثار يثبت هذا الأصل. [د] أن المسافر يقصر عشرين يومًا بلياليها ثم يُتمُّ بعد ذلك، نوى الإقامة أو لم ينو: وهو مذهب أبي محمد ابن حزم، وتبعه الشوكاني إلا أنه فرَّق بين من نوى الإقامة فقال: لا يقصر فوق أربعة أيام، وبين من لم ينو ولم يعرف متى يخرج فإنه يقصر عشرين ثم يُّتم، وهذا قول عند الشافعية (¬6). واستدلوا بأدلة المذهب الثالث، إلا أنهم نظروا إلى أمرين: الأول: أنه لا اعتبار لنية الإقامة هنا، لأن النيات لا دخل لها في الأعمال التي لم يأمر الله تعالى بها، كالسفر والإقامة، وإنما تجب النيات في الأعمال التي أمر الله بها، فلا يجوز أن تؤدى بغير نية (¬7). الثاني: مراعاة الأصل وهو الإتمام، قالوا: «والحق أن الأصل في المقيم الإتمام، لأن القصر لم يشرعه الشارع إلا للمسافر، والمقيم غير المسافر، فلولا ما ثبت عنه ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 207). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5099)، وعنه ابن المنذر (ت/ 1736). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 13). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 152)، وانظر «الإرواء» (576). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 208)، وعبد الرزاق (4357). (¬6) «مغنى المحتاج» (1/ 262). (¬7) وقد وافقهم على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر: «المحلى» (5/ 29)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 41).

صلى الله عليه وسلم من قصره بمكة وتبوك مع الإقامة لكان المتعيِّن هوالإتمام، فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلا بدليل، وقد دلَّ الدليل على القصر مع التردد على عشرين يومًا كما في حديث جابر، ولم يصحَّ أنه صلى الله عليه وسلم قصر في الإقامة أكثر من ذلك، فيقصر على هذا المقدار، ولا شك أن قصره صلى الله عليه وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها، ولكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك ...» اهـ (¬1). الراجح في المسألة: ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا مقيم ومسافر، وأما المستوطن في غير بلده فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون حطَّ رحله فيه واتخذ مسكنًا خاصًّا به وأثثه وأقام فيه مطمئنًا فهذا مقيم لا يُشرع له القصر، لا أربعة أيام ولا أكثر منها، ولا يعكر على هذا قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بمكة أربعة أيام وهو يعلم أنه سيمكث فيها هذه المدة، لما تقدم من أن العبرة في السفر والإقامة بطبيعة السكن والاستقرار به، لا بالمدة وأما أن ينزل بمكان لا يشعر فيه بالاستقلال والاستقرار -كما هو الحال في دار الإقامة- فهذا مسافر يقصر ما دام كذلك ولو فوق العشرين يومًا. فقد يسافر رجل من المنصورة -مثلًا- إلى القاهرة لحاجة يعلم أنها تقضي في شهر، لكن يبيت أسبوعًا عند قريب وأسبوعًا عند صديق وهكذا، فهذا لا يكون مقيمًا، بل هو مسافر، فله القصر ما شاء حتى يرجع أو يكون له مكان يستقر فيه بحيث يكون له دار إقامة. هذا هو الذي يترجَّح لدي في المسألة وهو الذي تجتمع عليه الأدلة المتقدمة كلها، وهو قريب من المذهب الثالث، ويليه في القوة المذهب الرابع، والله أعلم. فائدة: السكنى بالمدينة الجامعية: إقامة وليست سفرًا، لما تقدم من اعتبار طبيعة السكنى، وعليه فلا يشرع للطالب أن يقصر بالمدينة الجامعية إذا استقر بها على النحو المتقدم والله أعلم. القصر لا يشترط فيه النية: وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقصر بأصحابه، ولا يعلمهم قبل دخول الصلاة أنه يقصر، ولا يأمرهم بنيَّة القصر، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد (¬2) وقد تقدم تحرير هذا في «اختلاف نية الإمام والمأموم». ¬

(¬1) «نيل الأوطار» (3/ 251). (¬2) «مجموع الفتاوى» (24/ 16 - 21)، و «الهداية» (1/ 81)، و «الشرح الصغير» (1/ 174 - مع بغية السالك)، و «المغنى» (2/ 105).

صلاة المسافر خلف المقيم: إذا دخل المسافر في صلاة رباعية خلف إمام مقيم، فلو يخلو من ثلاث حالات: الأول: أن يدرك مع الإمام ثلاث أو أربع ركعات: فيلزمه الائتمام به وإتمام الصلاة أربعًا خلف إمامه عند الجمهور خلافًا لابن حزم (¬1) واستدل الجمهور بما يلي: 1 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ...» (¬2). 2 - حديث موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلِّ مع الإمام؟ فقال: «ركعتين، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬3). وفي لفظ: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا، فإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين؟ قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬4). 3 - وعن ابن عمر أنه «كان يقيم بمكة عشرًا فيقصر الصلاة، إلا أن يشهد الصلاة مع الناس فيصلي بصلاتهم» (¬5) وفي لفظ: «كان إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا، وإذا صلاها وحده صلَّى ركعتين» (¬6). الثانية: أن يدرك مع الإمام ركعة أو ركعتين: فللعلماء فيه قولان: الأول: أنه يتمُّ أربعًا ولابد، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة وغيرهم وهو قول ابن عمر وابن عباس، وجماعة من التابعين، واستدلوا بالأدلة المتقدمة، وبحديث أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم [يعني: المقيمين] أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك، وقال: «يصلي بصلاتهم» (¬7). الثاني: أنه تجزئه ركعتان فقط: وهو قول إسحاق وطاووس والشعبي وتميم بن حذلم (صاحب ابن مسعود) وأبي محمد ابن حزم. قلت: ولعلَّ الإتمام أصحُّ لأنه قول ابن عمر وابن عباس ولا يُعلم لهما مخالف من الصحابة، ولأنه أدرك الجماعة مع إمام مقيم فيلزمه إتمامها، لكن قد ¬

(¬1) «المغنى» (2/ 151)، و «المحلى» (5/ 31)، و «فتح المالك بترتيب التمهيد» (3/ 132). (¬2) صحيح: تقدم تخريجه. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (688)، والنسائي (3/ 119)، وابن خزيمة (951). (¬4) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 216)، وابن خزيمة (952)، والبيهقي (3/ 153) من طرق. (¬5) إسناد صحيح: أخرجه مالك (196)، وعبد الرزاق (4381). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (694). (¬7) صححه الألباني: أخرجه البيهقي (3/ 157)، وانظر «الإرواء» (3/ 22).

يقال: لو نوى القصر خلف المتم فأدرك معه الركعتين -ولا يشترط اتفاق نية الإمام والمأموم كما تقدم- فيجزئان؟ قلت: هذا موضع اجتهاد، ومذهب الصحابيين أولى بالاتباع والله أعلم. الثالثة: أن يدرك معه أقل من ركعة: فذهب الحسن والنخعي والزهري وقتادة ومالك -رحمهم الله- إلى أنه يقصر، خلافًا للجمهور، وحجتهم: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة» (¬1) فهذا لم يدرك حكم الجماعة. 2 - أن من أدرك من الجمعة ركعة أتمها، ومن أدرك أقل من ذلك لا يلزمه فرضها، بل يصلي أربعًا، كما سيأتي في «الجمعة». قلت: وهذا متجه وقوي، والله أعلم. صلاة المقيم خلف المسافر: إذا صلى المقيم الرباعية خلف مسافر فأجمع العلماء على أنه يلزمه أن يتم صلاته أربعًا بعد تسليم الإمام (¬2)، ويستحب للإمام بعد تسليمه أن يقول لهم: «أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْر». 1 - فعن ابن عمر «أن عمر رضي الله عنهما كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سَفر» (¬3). وقد ورد نحوه مرفوعًا من حديث عمران بن حصين في قصة «الفتح» ولا يصح (¬4)، لكن فعل عمر رضي الله عنه كان في جمع العلماء من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، ولا يعلم له مخالف فيه، فكان العمل عليه. 2 - ولأن الصلاة واجبة عليه أربعًا فلم يكن له ترك شيء من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر. فائدة: إذا أَمَّ مسافر قومًا -فيهم مسافرون ومقيمون- ثم أحدث بعد ركعة، فاستخلف مقيمًا (¬5): ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) «المغنى» (2/ 152). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه مالك (195)، وابن أبي شيبة (1/ 419)، وعبد الرزاق (4369)، والبغوي (1024). (¬4) ضعيف: أبو داود (1229)، والترمذي (545)، وأحمد (4/ 430). (¬5) «فتح المالك» بتبويب التمهيد على موطأ مالك (3/ 133).

(أ) فقيل: يصلي المقيم تمام صلاة الأول، ثم يشير إلى من خلفه بالجلوس، ثم يقوم وحده فيتم صلاته أربعًا ثم يقعد للتشهد ويسلم من خلفه من المسافرين، ويقوم من خلفه من المقيمين فيتموا لأنفسهم، وهو قول مالك. (ب) وقيل: يتم المستخلف صلاة الأول، ثم يتأخر ويقدم مسافرًا يسلم بهم، فيسلم معه المسافرون ويقوم المقيمون، فيقضون وحدانًا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري. (جـ) وقيل: يتمون كلهم صلاة مقيم، وبه قال الشافعي والأوزاعي والليث. هل تُصلَّى النوافل في السفر؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، لاختلاف ظواهر الآثار الواردة في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، على خمسة أقوال (¬1): 1 - المنع من صلاة النافلة في السفر مطلقًا: ويستدل له بحديث ابن عمر قال: «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يُسبِّح في السفر، وقال الله -جل ذكره- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}» (¬2). ويقول ابن عمر لما رأى الناس يتنفلون في السفر: «لو كنتُ مسبَّحًا لأتممت» (¬3). 2 - الجواز مطلقًا: وبه قال الجمهور، واستدلوا بالأحاديث العامة في ندب مطلق النوافل والرواتب، وبصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الضحى يوم الفتح، وركعتي الفجر حين ناموا حتى طلعت الشمس. 3 - جواز مطلق التطوع والمنع من الرواتب: وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو مذهب ابن عمر، فحملوا نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم النافلة في السفر على الرواتب دون غيرها، عدا ركعتي الفجر، لما ثبت عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبِّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، ويومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله» (¬4). ¬

(¬1) «فتح الباري» (2/ 674)، و «نيل الأوطار» (3/ 261)، و «زاد المعاد» (4738)، و «الفروع» لابن مفلح (2/ 59). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1101)، ومسلم (689). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (689)، والترمذي (544). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1105)، ومسلم (700) بنحوه.

4 - منع التطوع بالنهار دون الليل: واستدل له بحديث عبد الله بن عامر أن أباه أخبره «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى السُّبحة بالليل من السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به» (¬1). وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الوتر في الحضر والسفر، قلت: لكن يعكر على هذا القول صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ضحَّى!! 5 - منع التطوع بعد الفريضة، وجوازه قبلها وفي النوافل المطلقة: وهو مذهب البخاري في «صحيحه» واستظهره الحافظ، وقال: «والفرق بين ما قبلها وما بعدها أن التطوع قبلها لا يُظن أنه منها لأنه منفصل عنها بالإقامة وانتظار الإمام غالبًا ونحو ذلك، بخلاف ما بعدها فإنه في الغالب يتصل بها، فقد ظن أنه منها» اهـ. قلت: والأصل في هذا ثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للركعتين قبل الفجر في السفر. ثانيًا الجمع بين الصَّلاتَيْن: تعريفه: الجمع بين الصَّلاتين: هو أن يصلي الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما، جمع تقديم أو جمع تأخير. مشروعيته: والجمع بين الصلاتين جائز بإجماع العلماء، إلا أنهم اختلفوا في مُسوَّغات الجمع وصفته، على ما سيأتي تفصيله: [1] الجمع في السفر: اختلف أهل العلم في حكم الجمع بين الصلاتين في السفر على قولين: القول الأول: لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة بعرفة، وليلة المزدلفة بها: وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن مالك، وبه قال الحسن وابن سيرين (¬2)، واستدلوا بما يأتي: 1 - قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (¬3). وأن المواقيت ثبتت بالتواتر، فلا يجوز تركها لخبر الآحاد!! ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1104)، ومسلم (689) بنحوه. (¬2) «المبسوط» (1/ 235)، و «شرح المعاني» (1/ 162)، و «المدونة» (1/ 116)، و «المغنى» (2/ 200). (¬3) سورة النساء، الآية: 103.

2 - حديث ابن مسعود قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها» (¬1). 3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في نوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة» (¬2) قالوا: فجعل مناط التفريط وعدمه اليقظة والنوم، ولا دخل فيهما للإقامة والسفر، فاستوى المسافر والمقيم. القول الثاني: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء: وهو مذهب مالك [وقيَّده باشتداد السير به] والشافعي وأحمد والثوري وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وهو مروي عن طائفة من الصحابة منهم معاذ وأبو موسى وابن عباس وابن عمر (¬3)، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخرَّ الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب» (¬4). 2 - حديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدَّ به السَّيْر» (¬5). 3 - حديث ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سَيْرٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء» (¬6). 4 - حديث معاذ بن جبل «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء [فأخَّر الصلاة يومًا ثم خرج فصلَّى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج فصلَّى المغرب والعشاء جميعًا]» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1682)، ومسلم (1289). صحيح: تقدم تخريجه. (¬2) صحيح: تقدم تخريجه. (¬3) «المدونة» (1/ 116)، و «بداية المجتهد» (1/ 248)، و «المجموع» (4/ 225)، و «المغنى» (2/ 200)، و «نيل الأوطار» (3/ 253). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1111)، ومسلم (704). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1106)، ومسلم (45). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1107). (¬7) حسن: أخرجه مسلم (706)، وابن ماجه (1070)، بدون الزيادة، وأبو داود (1201)، والنسائي (1/ 285).

فهذه الأحاديث -وغيرها- تدل بظاهرها وعمومها على جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، سواء كان الجمع جمع تقديم أو تأخير. وقد حملها أصحاب القول الأول على «الجمع الصوري» وهو أن يؤخر المغرب مثلًا إلى آخر وقتها ويُعجِّل العشاء أوَّل وقتها!! وتُعُقِّب: بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة، وأيضًا فإن الأخبار جاءت صريحة في وقت إحدى الصلاتين، وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع» (¬1). وأما قولهم: لا نترك الأخبار المتواترة لهذه الأحاديث، فنقول: لا نتركها وإنما نخصصها بها، وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع (¬2). وأما حديث ابن مسعود، فإن ظاهره غير مراد بالإجماع من وجهين: أنه صلى الله عليه وسلم قد جمع بين الظهر والعصر بعرفة، فلم يصح هذا الحصر، وأن أحدًا لم يقل بظاهره من إيقاع الصبح قبل وقتها، بل المراد: بالغ في تعجيلها. ثم إن غير ابن مسعود قد حفظ جمعه صلى الله عليه وسلم في السفر بغير عرفة والمزدلفة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وهو قد نفى وغيره أثبت، والمثبت مقدَّم على النافي على أنه جاء عن ابن مسعود قوله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر» (¬3). [2] الجمع في الحَضَر: لا يختص الجمع بين الصلاتين بحال السفر، بل يجوز الجمع في الحضر للأسباب الآتية: (أ) الجمع في المطر: يجوز جمع الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، في الحضر بسبب المطر عند الجمهور، إلا أن مالكًا خصَّ جوازه بالليل دون النهار!! لما يأتي: 1 - حديث ابن عباس قال: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة في غير خوف ولا مطر» (¬4) وهو يُشعر أن الجمع للمطر ¬

(¬1) «فتح الباري» (2/ 675) ط. السلفية. (¬2) «المغنى» (2/ 201). (¬3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو يعلى (5413)، والطبراني في «الكبير» (10/ 39)، و «الطحاوي» في «شرح المعاني» (1/ 160). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (705)، وانظر «الإرواء» (579).

كان معروفًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن كذلك لما كان ثمة فائدة من نفي المطر كسبب مبرر للجمع (¬1). 2 - عن نافع «أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم» (¬2). 3 - عن هشام بن عروة «أن أباه عروة وسعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين ولا ينكرون ذلك» (¬3). 4 - عن موسى بن عقبة: «أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر ...» (¬4). (ب) الجمع للحاجة العارضة: فعن ابن عباس قال: «صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قال [أبو كريب أو سعيد]: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته» (¬5). وفي هذا رخصة لأهل الأعذار فيما يرفع عنهم الحرج دون غير أرباب الأعذار وهذا مذهب ابن سيرين، وأشهب من أصحابه مالك، وحكام الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر وابن تيمية (¬6). قال شيخ الإسلام: «... والصُّنَّاع والفلاَّحون، إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم: مثل أن يكون الماء بعيدًا في فعل الصلاة، وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطَّل العمل الذي يحتاجون إليه، فلهم أن يصلُّوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين» اهـ (¬7). ¬

(¬1) «إرواء الغليل» (3/ 40). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مالك (333)، وعنه البيهقي (3/ 168). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 168)، وانظر «الإرواء» (3/ 40). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 168)، وانظر «الإرواء» (3/ 40). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (705)، وأحمد (1/ 223). (¬6) «مجموع الفتاوى» (24/ 25)، و «شرح مسلم» للنووي (2/ 3509)، و «القوانين» (75)، و «معالم السنن» (2/ 55). (¬7) «مجموع الفتاوى» (21/ 458).

ويجمع المريض: الذي يجد المشقة في الإتيان بكل صلاة في وقتها لحديث ابن عباس المتقدم، وقياسًا على المستحاضة، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حمنة بنت جحش وكانت تستحاض حيضة كثيرة شديدة بقوله: «فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتُعجِّلي العصر، ثم تغتسلين حين تطهرين، وتُصلِّين الظهر والعصر جميعًا، ثم تؤخرين المغرب، وتُعجلِّين العشاء، ثم تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين فافعلي ...» (¬1). وقد أجاز الجمع للمريض مالك وأحمد واختاره شيخ الإسلام، ومنعه الشافعي (¬2) والقول بالجواز ظاهر، والله أعلم. هل تشترط الموالاة بين الصلاتين المجموعتين؟ (¬3). 1 - إذا صلاَّهما في وقت الثانية (جمع التأخير): فإنه لا يشترط أن يوالي بين الصلاتين المجموعتين، بل له أن يفصل بينهما، فيصلي الظهر مثلًا في أول وقت العصر ثم يؤخر العصر قليلاً فيصليه قبل خروج وقته، وهذا مذهب الجمهور خلافًا لبعض الحنابلة. 2 - إذا صلاَّهما في وقت الأولى (جمع تقديم): فذهب الجمهور إلى أنه يُشترط أن يصليهما من غير فصل، وخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية: فقال: لا يشترط كذلك، وهو رواية عن أحمد وقول عند الشافعية، وهو الأقرب. قال شيخ الإسلام: لا تشترط الموالاة بين المجموعتين بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة ... والسنة جاءت بأوسع من هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جمع في أول الوقت كما جمع بعرفة، وتارة جمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة، وفي بعض أسفاره، وتارة جمع بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية. ¬

(¬1) حسَّنه الألباني: أخرجه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (627)، وانظر «الإرواء» (188) والظاهر أن في تحسينه نظرًا. (¬2) «القوانين» (75)، و «المغنى» (2/ 112)، و «المجموع» (4/ 370). (¬3) «الخرشي» (2/ 70)، و «المجموع» (3/ 375)، و «الإنصاف» (2/ 342)، و «المغنى» (2/ 123)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 54 - 56).

وقد تقع هذه في هذا، وهذه في هذا، وكل هذا جائز، لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك، والتقديم والتوسط بسبب المصلحة. الجمع بأذان وإقامتين: السنة في الجمع بين الصلاتين الاقتصار على أذان واحد، والإقامة لكل واحد من الصلاتين، ففي حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين، وأتى المزدلفة فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما، ثم اضطجع حتى طلع الفجر ...» (¬1). وعن ابن مسعود: «... فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبًا من ذلك، فأمر رجلاً فأذَّن وأقام ثم صلَّى المغرب ..» وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتغشَّى ثم أمر أُرى فأذن وأقام ثم صلى العشاء ركعتين ...» الحديث (¬2). وإلى هذا ذهب الشافعي في القديم، وهو رواية عن أحمد، وابن حزم. بينما ذهب الشافعي في الجديد والثوري وأحمد في رواية إلى أنه يجمع بين الصلاتين بإقامتين فقط، وتمسكوا بحديث أسامة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبع الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلَّى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصلِّ بينهما شيئًا» (¬3). والحق ما قاله الأوَّلون لأن حديث جابر مشتمل على زيادة الأذان وهي زيادة غير نافية فيتعيَّن قبولها (¬4) والله أعلم. الترتيب بين الصلاتين المجموعتين: يشترط الترتيب بين الصلاتين المجموعتين، لأن الشرع جاء بترتيب الأوقات في الصلوات فوجب أن تكون كل صلاة في المحل الذي رتبها الشارع فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي». لكن ... لو نسي إنسان أو جهل، أو حضر قومًا يصلون العشاء -وقد نوى جمع التأخير- فصلى معهم العشاء ثم صلى المغرب، فهل تجزئه؟ قال الفقهاء: لا، ولا تصح منه العشاء، فيصلي العشاء ثانية بعد المغرب (¬5). ¬

(¬1) صحيح: سيأتي بتمامه وتخريجه في «الحج» إن شاء الله. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1675)، ومسلم (1289) بنحوه. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1672)، ومسلم (1280)، وأحمد (5/ 263). (¬4) «نيل الأوطار» (3/ 263) ط. الحديث. (¬5) «الشرح الممتع» (4/ 572) بنحوه.

صلاة الخوف

صلاة الخَوْف تعريفها (¬1): الخوف: توقُّع مكروه عن أمارة مظنونة أو متحققة، والمراد هنا: قتال العدو ونحوه مما يخافه. وصلاة الخوف ليست صلاة مستقلة، كصلاة العيد والكسوف ونحو ذلك، وإنما المرد: الصلوات المفروضة بشروطها وأركانها وسننها وعدد ركعاتها كما في الأمن إلا أنها تؤدَّى بكيفية مختلفة إذا صلِّيت جماعة، وأنها تحتمل أمورًا لم تكن تحتملها في الأمن، وعلى هذا يمكن تعريف صلاة الخوف بأنها: «الصلاة المكتوبة، يحضر وقتها والمسلمون في مقاتلة العدو أو في حراستهم». مشروعيتها: صلاة الخوف ثابتة بقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ... مُّهِيناً} (¬2). وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاَّها كما ستأتي الأحاديث بذلك، وقد اتفق أهل العلم على هذا، ثم اختلفوا في مشروعيتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فذهب الجمهور -خلافًا لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة (¬3) - إلى مشروعيتها إلى يوم القيامة وأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته ما لم يقم دليل على اختصاصه، وتخصيص بالخطاب لا يقتضي تخصيصه بالحكم، ثم: 1 - لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «.. وصلوا كما رأيتموني أصلي» (¬4). 2 - ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على صلاة الخوف بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (¬5)، وممن رُوى عنه أنه فعلها (¬6): (أ) علي بن أبي طالب، فقد صلاَّها ليلة وقعة صفين أو الهرير. ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 243)، و «حاشية العدوي» (1/ 296)، و «روضة الطالبين» (2/ 49)، و «المغنى» (2/ 402). (¬2) سورة النساء، الآية: 102. (¬3) «البدائع» (1/ 242)، و «المدونة» (1/ 161)، و «الأم» (1/ 186)، و «المغنى» (2/ 400). (¬4) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬5) نقل الإجماع الحافظ في «الفتح» (2/ 498)، وابن قدامة في «المغنى» (2/ 400). (¬6) انظر بعض الآثار عنهم وتخريجها في «إرواء» (3/ 42 - 45).

(ب) أبو موسى الأشعري، صلاَّها بأصحابه بأصبهان. (جـ) حذيفة بن اليمان، صلاَّها بالصحابة -ومعهم سعد بن أبي وقَّاص- بطبرستان. ورأى المزني من الشافعي أن صلاة الخوف كانت مشروعة ثم نُسخت!! واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته صلوات يوم الخندق، ولو كانت صلاة الخوف جائزة لفعلها، ويجاب عنه: بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف كما في حديث أبي سعيد: «حُبسنا يوم الخندق ... وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف ..» وقد تقدم في مسألة (الترتيب في قضاء الفوائت). كيفيات صلاة الخوف: ثبت في صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفيات كثيرة، أصولها ستٌّ، وليس بين أهل العلم اختلاف في أن العمل بأيٍّ منها مجزئ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في مرات وأيام مختلفة وأشكال متباينة، يتحرَّى في كلِّها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة في المعنى (¬1)، ومن هذه الكيفيات: [أ] إذا كان العدو في غير القبلة: 1 - يقسم الجيش إلى فرقتين: فرقة تُجعل في وجه العدو، وفرقة ينحاز بها إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو، فيفتتح الإمام بهم الصلاة ويصلي بهم ركعة (في الثنائية) أو ركعتين (في الثلاثية والرباعية) ثم يثبت قائمًا، ويتمُّ المقتدون به وينصرفون وجاه العدو، وتأتي الفرقة الأخرى فيصلي بهم ما تبقى، فإذا جلس للتشهد، قاموا وأتموا صلاتهم -والإمام ينتظرهم- فإذا لحقوه سلَّم بهم (¬2). والأصل فيها: حديث صالح بن خوَّات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرِّقاع صلاة الخوف: «أن طائفة صفَّت معه، وصفَّت طائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفُّوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 342)، و «مغنى المحتاج» (1/ 301)، و «المغنى» (2/ 412)، و «نيل الأوطار» (3/ 376 - وما بعدها). (¬2) بهذا قال الجمهور، وقال مالك: يسلم الإمام ولا ينتظرهم، فإذا سلَّم قضوا ما فاتهم اعتمادًا على حديث موقوف.

جالسًا حتى أتموا لأنفسهم ثم سلَّم بهم» (¬1). وفي لفظ صالح بن خوَّات عن سهل ابن أبي حتمة أنه ينتظرهم جالسًا لا قائمًا، وهو في الصحيح كذلك. وبهذه الصفة أخذ الشافعي وأصحابه. 2 - يصلي بالفرقة الأولى ركعة، والأخرى تجاه العدو، ثم تنصرف الفرقة التي صلت معه الركعة فتقوم تجاه العدو، وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة، ثم تقضي كل فرقة لنفسها ركعة. والأصل فيها: حديث ابن عمر قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فوازينا العدو فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه تصلِّي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين (¬2)، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصلِّ، فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلَّم، فقام كل واحدٍ منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين» (¬3). وظاهره أنهم أتموا في حالة واحدة، ويحتمل أن الطائفة الثانية أتمت بعد تسليمة، ثم رجع أولئك إلى مقامهم فأتموا الركعة، وهو الأرجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده، ويرجحه رواية ابن مسعود: «ثم سلَّم وقام هؤلاء [أي الطائفة الثانية] فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلَّموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلَّموا» (¬4) وبهذه الكيفية أخذ الحنفية خلا أبا يوسف. 3 - يصلي الإمام بطائفة ركعتين ويسلِّم، ثم يصلي بالأخرى ويسلِّم. والأصل فيها: حديثا جابر وأبي بكرة: فعن جابر قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرِّقاع، وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4130)، ومسلم (842). (¬2) يعني: ركعة كاملة. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (942)، ومسلم (839). (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1244)، والطحاوي (1/ 184)، والدارقطني (187)، وانظر «الإرواء» (3/ 49). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (4136)، ووصله مسلم (843)، وانظر «التغليق» (4/ 120).

وفي لفظ: «صلَّى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بآخرين ركعتين ثم سلَّم» (¬1). ويؤيده حديث أبي بكرة قال: «صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم، فصار للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان ركعتان» (¬2). فائدة: الحديثان يدلان على جواز اقتداء المفترض بالمتنفِّل، لأن الركعتين الآخرتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة، وللطائفة الثانية فرضًا. 4 - يصلي الإمام بطائفة ركعة واحدة -والأخرى قِبل العدو- ثم ينصرفون مكانهم، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة واحدة، ويكتفي كل من الطائفتين بركعة واحدة لا يقضون الأخرى. والأصل فيها: حديث ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى بذي قَرَد، فصفَّ الناس خلفه صفين: صفٌّ خلفه، وصفٌّ موازي العدو، فصلَّى بالصف الذي يليه ركعة، ثم رجع هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، فصلَّى بهم ركعة ولم يقضوا» (¬3). ونحوه حديث أبي هريرة (¬4)، وزيد بن ثابت (¬5)، وحذيفة (¬6). ويدلُ على صحة الاكتفاء بالركعة: حديث ابن عباس قال: «فرض الله -جل وعلا- الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم: في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (¬7). ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه الشافعي (506)، والنسائي (3/ 178)، والدارقطني (186)، والبيهقي (3/ 259). (¬2) ضعيف: أخرجه النسائي (3/ 179)، وأبو داود (1248)، والبيهقي (3/ 260)، والطحاوي (1/ 315). (¬3) صحيح: أخرجه النسائي (3/ 169)، وابن حبان (2871)، وأحمد (1/ 232) لكن ليس عنده (ولم يقضوا)!!. (¬4) أخرجه الترمذي (3035)، وأحمد (2/ 522)، والنسائي (3/ 174) وسنده حسن. (¬5) أخرجه النسائي (3/ 168)، وأحمد (5/ 183) وسنده حسن في الشواهد. (¬6) أخرجه أبو داود (1246)، والنسائي (1/ 227)، وأحمد (5/ 385) وسنده صحيح كما في «الإرواء» (3/ 44). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (687)، وأبو داود (1247)، وأحمد (1/ 237).

5 - يقسم الجيش فرقتين: فرقة تصف خلف الإمام والأخرى في مقابلة العدو، وتدخل الفرقتان جميعًا معه في الصلاة وتركع معه التي تليه ثم تسجد معه -والأخرى قيام قبل العدو كما هم- ثم يأخذ الذين صلوا معه الركعتين أسلحتهم فيرجعون قِبل العَدو، ويُقبل الآخرون خلفه فيصلون لأنفسهم ركعة والإمام قائم، ثم يصلي بهم الركعة الثانية ثم يأتي المقابلون للعدو فيصلون لأنفسهم ركعة، والإمام والطائفة الأخرى قاعدون -ثم يسلم بهم جميعًا. والأصل فيها: حديث أبي هريرة -وسئل عن صلاة الخوف- فقال: «كُنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزاة، قال: فَصَدعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس صَدْعَيْن، قامت معه طائفة، وطائفة أخرى مما يلي العدوَّ وظهورهم إلى القبلة، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرَّوا جميعًا -الذين معه والذي يقابلون العدو- ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة، فركع معه الطائفة التي تليه، ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلي العدو، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذت الطائفة التي صلَّت معه أسلحتهم، ثم مشوا القهقرى على أدبارهم حتى قاموا مما يلي العدو، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو، ثم قاموا، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى فركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت تقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه، ثم كان السلام، فسلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّموا جميعًا، فقام القوم وقد شركوه في الصلاة» (¬1). [ب] إذا كان العدو جهة القبلة: 6 - يقسمهم الإمام فرقتين: فيفتح الصلاة بهم جميعًا، ويقرأ ويركع ويعتدل بهم جميعًا، ثم يسجد بإحداهما وتحرس الأخرى حتى يقوم الإمام من سجوده، ثم يسجد الآخرون، ويلحقونه في قيامه، ويفعل كذلك في الركعة الثانية، ولكن يحرس فيها من سجد معه الركعة الأولى، ثم يتشهد ويسلم بهم جميعًا. والأصل فيها: حديث جابر قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفَّنا صفَّين: صفٌّ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم -والعدو بيننا وبين القبلة- فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (1241)، والنسائي (3/ 173)، وأحمد (2/ 320).

السجود وقام الصف الذي يليق، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدَّم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الكوع، ورفعنا جيمعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحو العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم وسلَّمنا جميعًا» (¬1). وثبت مثله من حديث أبي عيَّاش الزُّرقى (¬2). الصلاة إذا اشتد الخوف (¬3): 1 - إذا اشتد الخوف حتى منعهم من صلاة الجماعة على صفة مما تقدم، ورجوا انكشافه قبل خروج الوقت المختار بحيث يدركون الصلاة فيه، أخروا استحبابًا. 2 - فإذا بقي من الوقت ما يسع الصلاة صلوا إيماءً، وإلا صلوا فرادى بقدر استطاعتهم، فإن قدروا على الركوع والسجود فعلوا ذلك، أو صلوا مشاةً أو ركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ثم لا إعادة عليهم إذا أمنوا، لا في الوقت ولا بعده: والأصل في هذا قول تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (¬4). وعن ابن عمر قال: «فإن كان خوف أشد من ذلك صلَّوا رجالاً قيامًا على أقدامهم، أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها» (¬5) زاد البخاري: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر قال ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن عجزوا عن الركوع والسجود أومأوا بهما، ويكون السجود أخفض من الركوع قلت: وتجزئه ركعة والله أعلم. 3 - فإن شُغلوا بلقاء العدو حتى خرج وقت الصلاة: فلا حرج ويصلونها متى ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (840). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (1236)، والنسائي (3/ 176)، وأحمد (4/ 59) وغيرهم. (¬3) «البدائع» (1/ 244)، و «روضة الطالبين» (2/ 60)، و «المغنى» (2/ 416)، و «كشاف القناع» (1/ 18). (¬4) سورة البقرة، الآية: 239. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4535)، وابن ماجه (1258)، ومالك (442).

أمكنهم، كما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فشُغل وأصحابه عن صلاة العصر وصلوها بعد المغرب، وقد تقدم الحديث في «قضاء الفوائت». هل تصح صلاة الخوف في الحضر؟ من حضره خوف من عدو ظالم كافر، أو باغٍ من المسلمين، أو من سيل، أو نارٍ، أو سبع، أو غير ذلك، ولو في الحضر، فله أن يصلي صلاة الخوف، وهو قول أكثر أهل العلم: أبي حنيفة ومالك -في المشهور عنه- والشافعي وأحمد والأوزاعي وابن حزم (¬1)، قالوا: لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} (¬2). فلم يخصَّ ذلك بالسفر (¬3). فإن قيل: الأحاديث المتقدمة كلها كانت في السفر؟ فيجاب: بأن السفر وصف طردي ليس بشرط ولا سبب، وإلا لزم ألا يصلي إلا عند الخوف من العدو الكافر!! فائدة: إذا صلى الخوف في الحضر، فإنه يصليها كاملة في عدد ركعاتها -سواء في حق الإمام أو المأموم- بإحدى الكيفيات الواردة. لكن، هل يقال: يجزئ أن يصلي ركعة واحدة -في الحضر- على ظاهر حديث ابن عباس: «فرض الله عز وجل الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم: في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» (¬4)؟ وهل يؤيده جواز فعلها إيماءً في الخوف الشديد؟ هذا موضع نظر، وابن حزم على ظاهريَّته لم يُجز الاقتصار على الركعة إلا في السفر، فلتحرر!! ¬

(¬1) «الأم» (1/ 186)، و «المدونة» (1/ 161)، و «المغنى» (2/ 302)، و «طرح التثريب» (3/ 141)، و «نيل الأوطار» (3/ 377 - 378)، و «المحلى» (5/ 33 - 34). (¬2) سورة النساء، الآية: 102. (¬3) إلا عند من يقول: إن قوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ ...} المراد به: صلاة الخوف، لا قصر الصلاة، فيشكل عنده أنه مقيد بالضرب في الأرض، أي: السفر؟! (¬4) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.

صلاة الجماعة

صلاة الجماعة تعريفها: المقصود بصلاة الجماعة: فعل الصلاة في جماعة (¬1). فضلها وأهميتها وفوائدها: (أ) لصلاة الجماعة فضائل عظيمة، ولذا حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن فضلها في جملة أحاديث، نذكر منها: 1 - عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضلُ صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» (¬2). 2 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة في جماعة تعدل خمسًا وعشرين صلاة، فإذا صلاَّها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة» (¬3). 3 - وعن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاَّها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد، غفر الله له ذنوبه» (¬4). 4 - وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: «... وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يَخْطُ خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطَّ عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاَّه، اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة» (¬5). 5 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا» (¬6). ¬

(¬1) «جواهر الإكليل» (1/ 76). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (645)، ومسلم (650). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (560)، ابن ماجه (788)، والحاكم (1/ 208). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (232)، والنسائي (2/ 111)، وأحمد (1/ 67). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (647)، ومسلم (649). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437).

صلاة الجماعة في الفرائض

6 - وعن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» (¬1). (ب) وصلاة الجماعة معنى الدين، وشعار الإسلام، حتى لو تركها أهل مصرٍ قوتلوا، وأهل حارة جُبروا عليها وأكرهوا (¬2). صلاة الجماعة في الفرائض حكم صلاة الجماعة للرجال: اختلف أهل العلم في حكم صلاة الجماعة -للرجال- على أقوال يمكن تلخيصها في قولين: القول الأول: صلاة الجمعة واجبة على الأعيان، إلا لعذر: وهو مروي عن ابن مسعود وأبي موسى، وبه قال عطاء والأوزاعي وأبو ثور، وهو مذهب أحمد وابن حزم وهو اختيار شيخ الإسلام، على اختلاف بينهم: هل هي شروط في صحة الصلاة أو لا؟ (¬3)، واستدلوا بما يأتي: 1 - قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ ...} (¬4). قالوا: إن الله أمر بصلاة الجماعة في حال الخوف، ففي حال الأمن أولى وآكد. ثم إنه اغتفرت -في صلاة الخوف- أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك. 2 - قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬5). وذلك يكون في حال المشاركة في الركوع، فكان أمرًا بإقامة الصلاة بالجماعة، ومطلق الأمر لوجوب العمل. 3 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (656)، وأبو داود (555)، والترمذي (221)، وأحمد (1/ 58). (¬2) «المغنى» (2/ 176)، و «المجموع» (4/ 193). (¬3) «المغنى» (2/ 176)، و «كشاف القناع» (1/ 454)، و «البدائع» (1/ 155)، و «المحلى» (4/ 188)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 239). (¬4) سورة النساء، الآية: 102. (¬5) سورة البقرة، الآية: 43.

الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرِّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» (¬1). قالوا: وهو ظاهر في كونها فرض عين، لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه. وقد أجيب عن الاستدلال بهذا الحديث على وجوبها على الأعيان بأجوبة: منها أن المراد المنافقون لا المؤمنون، ومنها: أنه همَّ ولم يفعل، ولو كان واجبًا ما عفا عنهم، ومنها: أن المراد صلاة الجمعة كما في الرواية الأخرى، وغير ذلك، وأجاب الموجبون عن هذه الأوجه كلها بما يطول ذكره ههنا فليراجع (¬2). 4 - حديث أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخِّص له فيصلي في بيت، فرخَّص له، فلما ولَّى دعاه، فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» فقال: نعم، قال: «فأجب» (¬3). 5 - حديث مالك بن الحويرث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا -وقد أتيته في نفر من قومي-: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» (¬4). 6 - حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل القاصية» (¬5). 7 - ما رُوى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع النداء فلم يُجب، فلا صلاة له إلا من عذر» (¬6) والصواب أنه موقوف. 8 - وعن عبد الله بن مسعود قال: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (644)، ومسلم (651). (¬2) انظر «فتح الباري» (2/ 148 - 151)، و «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (1/ 166)، و «المحلى» (4/ 191). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (653)، والنسائي (2/ 109) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674). (¬5) تقدم في «حكم الأذان». (¬6) أُعِلَّ بالوقف: أخرجه أبو داود (551)، وابن ماجه (793)، والحاكم (1/ 245)، والبيهقي (3/ 57، 174)، ورجَّح وقفه وهو الصواب، والله أعلم.

الصلاة» وقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه» (¬1). وأجيب: بأنه قول صحابي ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة وعدم التخلف عنها، ولا يستدل بمثل هذا على الوجوب، ثم فيه دليل لمن خصَّ الوعيد بالتحريق في حديث أبي هريرة بالمنافقين. القول الثاني: صلاة الجماعة لا تجب موجوبًا عينيًّا: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك والشافعي، على اختلاف بينهم هل هي سنة أو سنة مؤكدة أو فرض كفاية؟ (¬2) واستدلوا بما يلي: 1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» وبما في معناه، قالوا: فالتفضيل يدل على اشتراكهما في أصل الفضل، وهذا يدلُّ على عدم وجوبها على الأعيان، إذ لا يقال: الإتيان بالواجب أفضل من تركه، ولا يقال: إن لفظه «أفعل» قد تَرِدُ لإثبات صفة في إحدى الجهتين ونفيها عن الأخرى، و «أفضل» المضافة إلى صلاة الفذ كذلك، لأن هذا إنما يصح في «أفعل» مطلقًا غير مقرون بـ «مِنْ»، على أن في بعض ألفاظه عند مسلم: «تزيد عن صلاته وحده» وفيه التصريح بصحة الصلاة وحده (¬3). وأجاب الأوَّلون: بأن التفاضل إنما هو على صلاة المعذور التي تجوز -جمعًا بين الأدلة- وهي دون صلاة الجماعة في الفضل. 2 - حديث يزيد بن الأسود في قصة الرجلين اللذين صليا في رحالهما وأتيا المسجد فلم يصليا فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفعلا، إذ صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» (¬4) قالوا: فلم ينكر عليهما صلاتهما في رحالهما. وأجيب: بأنها واقعة عين يحتمل أن يكون لهما عذر في ترك الجماعة. 3 - حديث أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم الناس أجرًا في الصلاة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (654)، وأبو داود (505)، والنسائي (2/ 108)، وابن ماجه (777)، بسياق أطول. (¬2) «البدائع» (1/ 155)، و «ابن عابدين» (1/ 371)، و «القوانين» (69)، و «الخرشي» (2/ 16)، و «المجموع» (4/ 184)، و «مغنى المحتاج» (1/ 229). (¬3) «طرح التثريب» للعراقي. (¬4) صحيح: تقدم في «أوقات النهي عن الصلاة».

أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام» (¬1) وفي لفظ لمسلم: «حتى يصليها مع الإمام في جماعة ..». وهو صريح في اشتراك المنفرد والمصلي في جماعة في أصل الأجر، قلت: وهذا أقوى أدلتهم في نظري. 4 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: «من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا» (¬2) وما في معناه، قالوا (¬3): يلزمه أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحًا، وصلاة الجماعة غير واجبة على الأعيان، أو تكون الجماعة واجبة على الأعيان ويمتنع أكل هذه الأشياء، والجمهور على إباحتها (يعني: البصل والثوم ونحوهما) فتكون الجماعة غير واجبة على الأعيان لجواز تركها لأكل هذه الأشياء، وأجيب بأن الجماعة واجبة ولا تتم إلا بترك أكل الثوم فيجب ترك أكله عند الصلاة. 5 - ويمكن الاستدلال بحديث الرجل الذي صلى خلف معاذ فأطال القراءة، فتنحى وصلى منفردًا ثم شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه (¬4) وقد يجاب عنه: بأن تطويل الإمام عذر في ترك الجماعة. الراجح في المسألة: لا شك أن الجمع بين الأحاديث المتقدمة ما أمكن هو المتعيِّن، والذي تجتمع عليه النصوص السابقة -في نظري- ولا يهدر شيئًا منها أن يقال: إن صلاة الجماعة فرض كفاية، كقول الشافعي -رحمه الله- وهذا أعدل الأقوال وأصوبها، على أنه ينبغي أن يُعلم أنه لا يفرِّط فيها ويخلُّ بملازمتها -لغير عذر- إلا محروم مشئوم، والله تعالى أعلم. حكم صلاة الجماعة للنساء (¬5): لا تجب صلاة الجماعة على النساء بإجماع العلماء، لكن يُشرع لهنَّ الجماعة -إجمالاً- عند الجمهور. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (651)، ومسلم (662). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (853)، ومسلم (561). (¬3) «إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق العيد (1/ 119). (¬4) صحيح: تقدم «اختلاف نية الإمام والمأموم» من شروط صحة الصلاة. (¬5) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 146 - 149) بتصرف، وانظر «البدائع» (1/ 155)، و «الشرح الصغير» (1/ 156)، و «مغنى المحتاج» (1/ 229)، و «المغنى» (2/ 202).

وصلاة المرأة في جماعة تكون على نوعين: 1 - أن تأتمَّ بامرأة أخرى: وهذا مشروع لأمور ثلاثة: (أ) عموم الأحاديث المتقدمة في فضل صلاة الجماعة، والأصل في «النساء شقائق الرجال» (¬1). (ب) عدم ورود النهي عن صلاة المرأة بالنساء. (جـ) فعل بعض الصحابيات كأم سلمة وعائشة رضي الله عنها. فعن ريطة الحنفية: «أن عائشة أمَّتهنَّ وقامت بينهن في صلاة مكتوبة» (¬2). وعن عمار الدهني عن امرأة من قومه يقال لها حجيرة عن أم سلمة: «أنها أمَّتهنَّ فقامت وسطًا» (¬3). وهذا الفعل من الصحابيات مع عدم وجود المخالف يدل على مشروعية إمامة المرأة للنساء. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر أم ورقة بأن تجعل لها مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها أن تؤمَّ أهل دارها» (¬4) لكنه ضعيف، وبهذا قال الشافعية والحنابلة. 2 - أن تأتمَّ برجل: سواء ائتمَّت به وحدها أو مع جماعة نساء أو خلف جماعة الرجال وهذا مشروع كذلك، لأحاديث كثيرة، منها: حديث أنس قال: «صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمِّي -أم سلمة- خلفنا» (¬5). وحديث أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث هو في مقامه يسيرًا ...» (¬6). ¬

(¬1) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (236)، والترمذي (113)، وأحمد (6/ 256). (¬2) صحيح لشواهده: أخرجه عبد الرزاق (3/ 141)، والدارقطني (1/ 404)، والبيهقي (3/ 131). (¬3) صحيح لشواهده: أخرجه عبد الرزاق (3/ 140)، والدارقطني (1/ 405)، والبيهقي (3/ 131). (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (592)، وابن خزيمة (3/ 89)، والبيهقي (3/ 130)، والدارقطني (1/ 403). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (727)، ومسلم (658). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (870)، وأبو داود (1040)، والنسائي (2/ 66)، وابن ماجه (932).

تنبيهات: 1 - يجوز أن ينفرد الرجل بزوجته أو إحدى محارمه فيصلي بها، لأنه يباح له الخلوة بها في غير الصلاة. 2 - لا يجوز أن يؤم الرجل امرأة أجنبية بمفردها، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يخلونَّ رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» (¬1). 3 - يجوز أن يؤم الرجل مجموعة من النساء، لأن اجتماعهن ينفي الخلوة، ولعدم ورود النهي عن ذلك، ولورود عن بعض السلف: لكن هذا محلُّه حيث تؤمن الفتنة، أما إذا وجدت الفتنة فلا يجوز، فإن الله لا يحب الفساد. وسيأتي مزيد من الأحكام المتعلقة بجماعة النساء فيما يأتي إن شاء الله. العدد الذي تنعقد به الجماعة: اتفق الفقهاء على أن أقل عدد تنعقد به الجماعة اثنان، وهو أن يكون مع الإمام واحد، فيحصل لهما فضل الجماعة: 1 - لحديث مالك بن الحويرث قال: أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أنتما خرجتما فأدِّنا، ثم أقيما، ثم ليؤمكما أكبركما» (¬2). 2 - وفي حديث ابن عباس -في قصة مبيته مع النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة-: «... وقام يصلي، فتوضأتُ نحوًا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحوَّلني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع ...» (¬3). 3 - وعن أبي سعيد الخدري: «أن رجلاً جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من يتصدَّق على هذا؟» فقام رجل فصلَّى معه» (¬4). 4 - وقد تقدم في «صلاة الليل» صلاة ابن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك حذيفة رضي الله عنه. ثم اختلف أهل العلم في انعقاد الجماعة -في الفريضة- بالصبي المميِّز مع الإمام؟! ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (1171)، وأحمد (172). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (630)، ومسلم (674). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (138)، ومسلم (763). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (574)، والترمذي (220)، والدارمي (1368)، وأحمد (10980).

والصحيح أنها تنعقد لحديث ابن عباس، ولأنه لا دليل على المنع من انعقادها، ولا دليل على التفريق بين صلاة النفل والفرض في ذلك، ولأن الصبيَّ المميِّز يصح أن يكون إمامًا -كما سيأتي- وهو متنفِّل، فجاز أن يكون مأمومًا بالمفترض البالغ، وهذا مذهب الحنفية والشافعية ورواية عن أحمد (¬1). أين تُقام صلاة الجماعة؟ تجوز إقامة صلاة الجماعة في أي مكان طاهر، في البيت أو الصحراء أو المسجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ» (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتُما مسجد جماعة، فصليِّا معهم، فإنها لكما نافلة» (¬3). إلا أن الجماعة للفرائض في المسجد أفضل منها في غير المسجد، لحديث زيد ابن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلُّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» (¬4) ولأن إقامتها في المسجد فيه إظهار الشعائر وكثرة الجماعة، ولأن بإقامتها يحصل له فضل المشي على المسجد، وسيأتي ذكره قريبًا. الأعذار المرخِّصة في التخلُّف عن الجماعة: الأعذار التي تبيح التخلف عن شهود صلاة الجماعة في المسجد: منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص، وبيان ذلك فيما يلي: [أ] الأعذار العامة: 1، 2 - المطر والوَحْل: الذي يشقُّ معه الخروج إلى المسجد، فعن نافع أن ابن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر، يقول: صلوا ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 156)، و «مغنى المحتاج» (1/ 229)، و «المغنى» (2/ 178)، وانظر «حاشية الدسوقي» (1/ 319)، و «جواهر الإكليل» (1/ 76)، فقد فرق المالكية بين الفرض والنفل!! وحديث أبي سعيد المتقدم حجة عليهم. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر. (¬3) صحيح: تقدم تخريجه. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (731)، ومسلم (781).

في الرحال» (¬1). وعن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال: «ليصلِّ من شاء منكم في رحله» (¬2). لكن إن خرج للجماعة فهو أفضل: لحديث أبي سعيد الخدري قال: «جاءت سحابة فمطرت حتى سال السقف -وكان من جريد النخل- فأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته» (¬3) فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم الجماعة رغم المطر والطين حتى سجد فيهما. 3 - البرد الشديد: هو الذي يخرج عن الحد الذي ألفه الناس، وقد تقدم حديث ابن عمر في هذا قريبًا. وعن نعيم النحَّام أنه: نودي بالصبح في يوم بارد وهو في مرط امرأته، فقال: ليت المنادي ينادي: ومن قعد فلا حرج، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أذانه: «ومن قعد فلا حرج» وذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أذانه» (¬4). وقد ألحق أهل العلم بهذه الأعذار: الظلمة الشديدة التي لا يبصر الإنسان طريقه إلى المسجد فيها. فائدة: قال النووي: «قال أصحابنا: تسقط الجماعة بالأعذار سواء قلنا أنها سنة أم فرض كفاية أم فرض عين، لأنا وإن قلنا أنها سنَّة فهي متأكدة يُكره تركها، كما سبق بيانه، فإذا تركها لعذر زالت الكراهة، وليس معناه أنه إذا ترك الجماعة لعذر تحصل له فضيلتها، بل لا تحصل له فضيلتها بلا شك، وإنما معناه سقوط الإثم والكراهة ...» اهـ (¬5). [ب] الأعذار الخاصَّة: 5 - المرض: الذي يشقُّ معه الإتيان إلى المسجد لصلاة الجماعة، قال ابن المنذر لا أعلم خلافًا بين أهل العلم أن للمريض أن يتخلَّف عن الجماعات من ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (666)، ومسلم (697). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (698)، وأبو داود (1065)، والترمذي (409). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (669)، ومسلم (1167). (¬4) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 220)، وعبد الرزاق (1927) والبيهقي (1/ 398). (¬5) «المجموع» للنووي.

أجل المرض، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مرض تخلَّف عن المسجد وقال: «مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس» (¬1). «فإن كان مرضٌ يسير لا يشق معه القصد، كوجع ضرس وصداع يسير وحمَّى خفيفة فليس بعذر، وضبطوه بأن تلحقه مشقة كمشقة المشي في المطر» (¬2). فإن أخذ بالعزيمة -إن قدر- فأتى مع مرضه فهو أفضل: فعن ابن مسعود قال: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقُه أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة ....» (¬3). 6 - العلَّة، كالعَمَى ونحوه: فقد رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم لعتبان بن مالك أن يصلي في بيته لمَّا قال: «يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا أصليِّ لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم ...» الحديث (¬4). فاجتمع له العمى مع المطر، وفي لفظ من حديث أنس: «قال رحل من الأنصار إني لا أستطيع الصلاة معك، وكان رجلاً ضخمًا ... الحديث» (¬5)، وقد عدَّ بعض العلماء ضخامة الرجل وكونه سمينًا من الأعذار. والشاهد أن الأعمى إن لم يجد قائدًا يقوده إلى المسجد كان هذا مبيحًا لتخلُّفه عن الجماعة عند الجمهور خلافًا للحنفية فعذروه مطلقًا ولو كان له قائد (¬6). 7 - الخوف: كأن يخاف على نفسه من سلطان أو ظالم أو عدو أو لص ونحو ذلك، أو يخاف على ماله، أو على أهله ومن يلزمه الذبُّ عنه، فإن ذلك عذر في التخلف عن الجماعة عند العلماء على اختلاف بينهم في بعض التفصيلات (¬7). والعمدة في هذا ما رُوى عن ابن عباس مرفوعًا: «من سمع النداء، فلم يمنعه ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (664)، ومسلم (418). (¬2) «المجموع» للنووي (4/ 205). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (654)، وغيره وقد تقدم. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (670)، وأبو داود (657). (¬6) «ابن عابدين» (1/ 373)، و «الدسوقي» (1/ 391)، و «كشاف القناع» (1/ 497). (¬7) «ابن عابدين» (1/ 374)، و «مغنى المحتاج» (1/ 235)، و «المغنى» (1/ 631).

من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلَّى» (¬1). وقد تقدم أنه لا يصح مرفوعًا. 8 - حضور الطعام عند من له فيه حاجة: فعن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وُضع عَشاءُ أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعَشاء ولا يَعْجل حتى يفرغ منه» وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة الإمام (¬2). وقد حمل الجمهور قوله (فابدءوا بالعشاء) على الندب ثم اختلفوا، فمنهم من قيَّده بمن كان محتاجًا إلى الأكل وهو المشهور عند الشافعية، ومنهم من لم يقيده وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وعليه يدل فعل ابن عمر، وأفرط ابن حزم فقال: تبطل الصلاة!! (يعني: إذا قدَّمها على العشاء) ومنهم من اختار البداءة بالصلاة لمن لم يكن متعلق النفس به، وهو منقول عن مالك وأصحابه، قالوا: فإن أعجله عن صلاته وبدأ بالطعام استحب له الإعادة!! (¬3). قلت: أما استحباب الإعادة، فلا دليل عليه، وأما كون الأمر بتقديم الطعام على الصلاة على الندب لا على الوجوب، فدليله حديث عمرو بن أمية قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ذراعًا يجتزُّ منها، فدعى إلى الصلاة فقام وطرح السِّكين، فصلِّي ولم يتوضأ» (¬4). 9 - مدافعة الأخبثين: أي البول والغائط، لحديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (¬5). وعن عبد الله بن الأرق: أنه خرج حاجًّا أو معتمرًا ومعه الناس، وهو يؤمهم، فلما كان ذات يوم أقام الصلاة -صلاح الصبح- ثم قال: ليتقدم أحدكم -وذهب الخلاء- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد أحدكم أن يذهب الخلاء، وقامت الصلاة، فليبدأ بالخلاء» (¬6). ¬

(¬1) ضعيف مرفوعًا: تقدم تخريجه في «حكم صلاة الجماعة». (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (673)، ومسلم (559). (¬3) «فتح الباري» (2/ 188) بتصرف يسير. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (675)، ومسلم (355). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (560)، وأبو داود (89)، وأحمد (6/ 43). (¬6) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (88)، والنسائي (2/ 110)، والترمذي (142)، وابن ماجه (616) وغيرهم.

ومدافعة البول والغائط عذران يسقط كل واحد منهما الجماعة بالاتفاق، لما تقدم، ولأن القيام إلى الصلاة مع مدافعة أحدهما يبعده عن الخشوع فيها ويكون مشغولاً عنها. 10 - أكل البصل والثوم والكرات ونحوهاإذا بقي ريحها: فإنه عذر للتخلف عن الجماعة، لئلا يتأذى به الناس والملائكة، فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل هذه البقلة: الثوم» -وقال مرة: «من أكل البصل والثوم والكرات- فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما تأذى منه بنو آدم» (¬1). والمراد: أكل هذه الأشياء نيئة، فإن أكلها مطبوخة فلا حرج لزوال علة التأذي بالرائحة، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال على المنبر: «... ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخًا» (¬2). وقد ألحق أهل العلم بهذا من كانت حرفته لها رائحة مؤذية، كالجزار والزيات ونحوهما وكذلك من كان به مرض يُتأَذى به، كجذام أو برص (¬3)، قلت: وأولى من يلحق بهذا المُدخِّنون أصحاب (السجائر) الذين عمَّت بهم البلوى في هذا الزمان، فإن التأذي عنهم أعظم من التأذي من آكل البصل والثوم، هذا على أن الأصل في البصل والثوم أنه حلال بخلاف تعاطي الدخان والله أعلم. فائدة: عدَّ الفقهاء من الأعذار في التخلف عن الجماعة: أن لا يجد ما يستر به عورته، بل قال الشافعية وبعض المالكية: إن وجد ما يليق بأمثاله لبسه خرج للجماعة وإلا فلا (¬4). تنبيه: هل يعذر العروس في عدم الخروج للجماعة لزفافه؟ يرى الفقهاء الشافعية والحنابلة أن زفاف الزوجة إلى زوجها عذر يبيح له المقام عندها وعدم خروجه للجماعة سبًا للبكر وثلاثًا للثيب؟!! وقيَّده الشافعية بالتخلُّف عن الصلوات الليلية فقط!! (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (854)، ومسلم (564) واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (567)، والنسائي (2/ 43) مختصرًا. (¬3) «الدسوقي» (1/ 389»، و «مغنى المحتاج» (1/ 236)، و «كشاف القناع» (1/ 497). (¬4) «الدسوقي» (1/ 390»، و «مغنى المحتاج» (1/ 236)، و «كشاف القناع» (1/ 496). (¬5) «مغنى المحتاج» (1/ 236)، و «كشاف القناع» (1/ 497).

قلت: هذا غلط، والذي نصَّ عليه الشافعي -رحمه الله- كراهته، ومنشأ هذا الغلط هو عدم الفهم لحديث أنس على الوجه الصحيح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من السُنَّة إذا تزوَّج الرجل البكرَ على الثيب أقام عندها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوَّج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قسم» (¬1). وهو واضح في أن معناه: إذا تزوَّج البكر على الثيب فإنه يبيت عندها سبعًا ثم يقسم بين زوجاته بالسوية وليس فيه تعرض لعدم الخروج إلى الصلوات، وكذلك إذا تزوج الثيب على البكر أقام ثلاثًا. ومما يوضح أن هذا هو المراد بالإقامة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوَّج أم سلمة أقام عندها ثلاثًا وقال: «إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبَّعتُ لك، وإن سبَّعتُ لك سبَّعتُ لنسائي» (¬2). من آداب الخروج إلى الصلاة وما يُفعل قبل الصلاة: 1 - ترك الأعمال عند حضور الصلاة: عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -أي: خدمتهم- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة» (¬3). 2، 3 - التطهُّر والمشي إلى المسجد وتكثير الخُطا واحتسابها: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطهَّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه: إحداهما تحطُّ خطيئة والأخرى ترفع درجة» (¬4). وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ...» (¬5) وعن أنس قال: أراد بنو سلمة أن يتحوَّلوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، وقال: «يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم؟» فأقاموا (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5214)، ومسلم (1461). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1460)، وأبو داود (2122)، وابن ماجه (1917)، ومالك (1123). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (676)، والترمذي (2489)، وأحمد (6/ 49). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (666). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (651)، ومسلم (662). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1887)، وابن ماجه (784)، وأحمد (3/ 106).

وفي لفظ من حديث جابر: فنهانا وقال: «إن لكم بكل خطوة درجة» (¬1). وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدركم على ما يمحو الله به الخُطا ويرفع به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطايا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» (¬2). وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أوراح، أعدَّ الله له نزلاً من الجنة كلما غدا أو راح» (¬3). 4 - المبادرة إلى المسجد والتبكير إلى الصلاة: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا، ولو يعلمون ما في الصف المقدَّم لاستهموا» (¬4). وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «... وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ...» (¬5). 5 - المشي إلى المسجد بسكينة وعدم الإسراع: فعن أبي قتادة: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبَةَ رجال، فلما صلَّى قال ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: «فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا» (¬6). وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (¬7). 6 - الذِّكر بما ثبت عند خروجه إلى المسجد وعند دخوله المسجد: فيقول إذا خرج: «اللهم اجعل لي في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، واجعل في سمعي نورًا، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (664)، وأحمد (3/ 336). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (251)، والترمذي (51)، والنسائي (1/ 89)، وأحمد (2/ 235). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (662)، ومسلم (669). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (720)، ومسلم (437). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (477)، ومسلم (649). مختصرًا (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (635)، ومسلم (603). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (636)، ومسلم (602).

واجعل لي في بصري نورًا، واجعل لي من خلفي نورًا ومن أمامي نورًا، واجعل من فوقي نورًا ومن تحتي نورًا، اللهم أعطني نورًا» (¬1). ويقول إذا دخل المسجد بيمينه: «بسم الله، اللهم صل على محمدٍ» (¬2) و «اللهم افتح لي أبواب رحمتك» (¬3). 6 - عدم تشبيك الأصابع في المسجد إلا لحاجة: لأنه في حكم المصلي ما دام منتظرًا الصلاة والمصلي لا يجوز له التشبيك -كما تقدم في مكروهات الصلاة- وفي هذا المعنى حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبَّك بين أصابعه» (¬4) وهو مختلف فيه، ولتحسينه وجه قوي. وأما ما أورده البخاري تحت باب: (تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس، ... وشبَّك النبي صلى الله عليه وسلم ...» (¬5) ونحوه -فالتحقيق أنه ليس بينهما تعارض، إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث إنما هو المقصود التمثيل وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس، أو يقال: إن النهي مقيَّد بما إذا كان في صلاة أو منتظرًا لها لأنه في حكم المصلى، وحديث ابن عمرو وأمثاله خالية من ذلك والله أعلم (¬6). 7 - صلاة ركعتي تحية المسجد: وقد تقدم الكلام عليها مفصلاة في «صلاة التطوع». 8 - عدم التنفُّل إذا أقيمت الصلاة: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة في صلاة إلا المكتوبة» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6316)، ومسلم (763). (¬2) حسن لغيره: أخرجه ابن السني (88)، وله شواهد وانظر «تصحيح الكلم الطيب» (63). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (713)، وأبو داود (465)، والنسائي (3/ 53)، والترمذي (314)، وابن ماجه (722). (¬4) حسن بطرقه: أخرجه الحاكم (1/ 206)، وله شواهد عند أحمد (3/ 42)، والدارمي (1406)، وابن خزيمة (439) وغيرهم. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (466)، وأبو داود (4342)، وابن ماجه (3957). (¬6) انظر «فتح الباري» (1/ 566) ط. المعرفة. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (710)، وأبو داود (1266)، والنسائي (2/ 116)، والترمذي (421)، وابن ماجه (1151).

وعن عبد الله بن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً -وقد أقيمت الصلاة- يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلصبح أربعًا؟ آلصبح أربعًا؟» (¬1). وفي لفظ: «يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا». فإذا أحرم بالنافلة قبل الإقامة، ثم أقيمت وهو في الصلاة، فأعدل الأقوال أن يقال: إن علم أنه يُنهي صلاته قبل تكبيرة الإحرام للإمام، أتمَّ صلاته، وإلا قطعها لهذه الأحاديث والله أعلم (¬2). 9 - عدم الخروج من المسجد بعد الأذان وقبل صلاة الفريضة إلا لضرورة: فعن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة، فأذَّن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬3). فإن كانت ضرورة تحتم الخروج فلا بأس حينئذ، فعن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، وقد أقيمت الصلاة وعُدِّلت الصفوف، حتى إذا قام في مُصلاَّه انتظرنا أن يكبِّر، انصرف، قال: «على مكانكم» فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطُف رأسُه ماءً، وقد اغتسل» (¬4). 10 - عدم القيام - إذا أقيمت الصلاة- إلا إذا رأى الإمام: فعن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني» (¬5). وقد تقدم فقه المسألة في «أبواب الأذان». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (663 - 711)، والنسائي (2/ 117)، وابن ماجه (1153). (¬2) انظر لمذاهب العلماء: «ابن عابدين» (1/ 479)، و «جواهر الإكليل» (1/ 77)، و «مغنى المحتاج» (1/ 252)، و «المغنى» (1/ 456). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (655)، وأبو داود (536)، والنسائي (2/ 29)، والترمذي (204)، وابن ماجه (733). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (639)، ومسلم (605). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (637)، ومسلم (604).

ومن الآداب الخاصة بالنساء: 11 - استئذان الزوج في الخروج للمسجد، وعدم منعه لها: فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استأذنت المرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها» (¬1). وعنه قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لمَ تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (¬2). وهذا الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد -إذا لم يكن في خروجهن ما يدعو إلى الفتنة من التبرج والتطيب والتزيُّن -واجب على الرجال لظاهر النهي عن المنع، فإن وجد شيء من ذلك لم يجب الإذن ويحرم عليهن الخروج (¬3). وقد يُقال: إن الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان لأنه لا يتحقق إلا إذا كان المستأذَن مُخيرًّا في الإجابة أو الرد (¬4)، والله أعلم. 12 - اجتنابُهنَّ الطِّيب والزينة وما يفتتن به: فعن زينب امرأة عبد الله [بن مسعود] قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد، فلا تمسَّ طيبًا» (¬5). وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجْنَ تَفِلات» (¬6). ومعنى تفلات: غير متطيِّبات. 13 - عدم الاختلاط بالرجال في دخول المسجد والخروج منه: ولأجل هذه العلة كان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسرعن بالانصراف بعد انتهاء الصلاة، فعن ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5238)، ومسلم (442). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442) مختصرًا وغيرهما. (¬3) «جامع أحكام النساء» لشيخنا -حفظه الله- (1/ 279). (¬4) «فتح الباري» (2/ 404) ط. السلفية. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (443)، والنسائي في «الكبرى» (9425). (¬6) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (2/ 438)، وأبو داود (565).

الإمامة وأحكامها

أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرًا قبل أن يقوم، نرى -والله أعلم- أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يُدركهن أحد من الرجال» (¬1). الإمامة وأحكامها فضل الإمامة: عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة» (¬2). من الأحقُّ بالإمامة؟ الأقرأ أم الأفقه؟ لأهل العلم في هذه المسألة مذهبان (¬3): الأول: الأقرأ أولى بالإمامة: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وحجتهم: 1 - حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» (¬4). 2 - حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا، ولا يَؤُمَّنَّ الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» (¬5). 3 - وفي حديث عمرو بن سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... صلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (870). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (156)، وأحمد (3/ 384). (¬3) «المبسوط» (1/ 41)، و «المدونة» (1/ 83)، و «المجموع» (4/ 180)، و «المغنى» (2/ 134). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (672)، والنسائي (2/ 77)، وأحمد (3/ 24). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (673)، وأبو داود (582)، والترمذي (235)، والنسائي (2/ 76)، وابن ماجه (980).

وليؤمكم أكثركم قرآنًا» فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، لما كنت أتلقَّى من الرُّكبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين ... الحديث (¬1). 4 - وعن ابن عمر قال: «لما قدم المهاجرون الأوَّلون العصبة -موضع بقباء- قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنًا» (¬2) وكان سالم حينئذ عبدًا لمَّا يُعتقْ فتقدمهم مع شرفهم. المذهب الثاني: الأفقه أولى من الأقرأ: وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية عن أبي حنيفة وأحمد. وحجتهم: 1 - أنه قد ينوبه في الصلاة ما لا يدري ما يفعل فيه إلا بالفقه فيكون أولى، كالإمامة الكبرى والحكم. 2 - أجابوا عن الأحاديث المتقدمة بأن الأقرأ من الصحابة هو الأفقه، لأنهم ما كانوا يقرأون عشر آيات حتى يفهموا معانيها وما فيها من العلم والعمل وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة» فيه دليل على تقديم الأقرأ مطلقًا. 3 - تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ليصلي بالناس -في مرضه- ولم يكن أقرأهم، وأجيب: بأن تقديم أبي بكر كان إشارة إلى استخلافه على الناس، والخليفة أحق بالإمامة وإن كان غيره أقرأ منه. والراجح: أن الأقرأ هو الأحق بالإمامة لكن بشرط «أن يكون عارفًا بما يتعيَّن معرفته من أحوال الصلاة، فأما إن كان جاهلاً بذلك فلا يُقدَّم اتفاقًا» (¬3). ثم تبقى مسألة: ما المراد بالأقرأ؟ فقال الجمهور: أحسنهم قراءة، وقال بعض الحنابل: الأكثر حفظًا، قلت: نعم، الأكثر حفظًا لظاهر الأحاديث المتقدمة لكن بشرط صحة القراءة وتمامها وخروج كل حرف من مخرجه. تنبيه: لا ينبغي تقديم من لا يستحق الإمامة، لأجل تَعَنِّيه بالقراءة: فعن عابس الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّف على أمته ستَّ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4302)، وأبو داود (585)، والنسائي (2/ 80)، وأحمد (3/ 475). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (692)، وأبو داود (588). (¬3) «فتح الباري» (2/ 171) ط. المعرفة.

خصال: «إمرة الصبيان، وكثرة الشُّرَط، والرشوة في الحكم، وقطيعة الرحم، واستخفاف بالدم، ونشو يتخذون القرآن مزامير يقدِّمون الرجل ليس بأفقههم ولا أفضلهم يغنيِّهم غناءً» (¬1). والمراد بالتغني المذموم هنا ما كان متكلفًا زائدًا على قواعد اللغة والتجويد، وما يكون من التمطيط والتطريب والقراءة بالألحان مما كرهه الأئمة. لا يتقدَّم أحد على الإمام الراتب إلا بإذنه: لقول النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث أبي مسعود المتقدم قريبًا-: «... ولا يؤمَنَّ الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه» (¬2) وإمام المسجد المُوَلَّى من قبل المسئولين سلطانه، فلا يجوز أن يؤم أحد فيه إلا بإذنه، وإلا أدى إلى الفوضى والتنازع، لكن ينبغي على الجانب الآخر أن لا يُعيَّن في المساجد إلا الكفء للإمامة!! وألا يُوَلَّى فيها المرتزقة من الحفظة الذين لا يحسنون الصلاة ولا يعرفون أحكامها!! الحاصل في الأَوْلى بالإمامة: أن يصلي الإمام الراتب إن كان للمسجد إمام راتب، وإلا فيقدَّم الأقرأ العالم بفقه الصلاة، فإذا تساووا فأفقههم وأعلمهم بالسنة، فإذا تساووا فأقدمهم هجرة (¬3)، فإذا تساووا فأكبرهم سنًّا، وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ومن كان معه لما أرادوا الرجوع إلى أهليهم: «... وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» (¬4). ولا يشترط إمامة الأَوْلى: بل تجوز إمامة كلِّ من تصح إمامته لمن هو أولى منه، كما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه (¬5)، وصلَّى -عليه الصلاة والسلام- خلف عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية من الصبح (¬6). ¬

(¬1) حسن بطرقه: أخرجه الطبراني في «الكبير» (18/ 37)، وأحمد (3/ 494)، والبخاري في «التاريخ» (7/ 80) وله شواهد تقويه. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) المراد: الهجرة من دار الكفر إلى دار السلام، وهي ماضية إلى يوم القيامة لا تنقطع. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (684). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم من حديث المغيرة.

من تصح إمامتهم: 1 - إمامة الأعمى: فعن محمد بن الربيع «أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال: يا رسول الله، إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، فصلِّ يا رسول الله في بيتي مكانًا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين تحب أن أصلي؟» فأشار إلى مكان البيت، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «استخلف ابن أم مكتوم على المدينة يصلي بالناس» (¬2). فائدة: تصح إمامة المعذور للصحيح على الأرجح إذا لا فرق بينه وبين الأعمى، والله أعلم (¬3). 2 - إمامة العبد والمولى: فعن ابن عمر قال: «لما قدم المهاجرون الأوَّلون العُصبة -موضع بقباء- قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنًا» (¬4). ووجه الدلالة منه: إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقديم سالم عليهم وكان حينها عبدًا لما يُعْتقً. وعن نافع بن عبد الحارث أن عمر قال له: «من استعملت على أهل الوادي»؟ فقال: ابن أبزى، قال: «ومن ابن أبزى؟» قال: مولى من موالينا، قال: «فاستخلفت عليهم مولى؟» قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: «أما إني سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين» (¬5). ولهذا ذهب الجمهور -خلافًا لمالك- إلى صحة إمامة العبد. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (667)، ومسلم (33). (¬2) صحيح لغيره: أخرجه ابن حبان (2134)، وأبو يعلى (4456) وله شاهد من حديث ابن عباس. (¬3) انظر «السيل الجرار» (1/ 253). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (817)، وابن ماجه (218)، وأحمد (1/ 35).

3 - إمامة الصبي المميِّز: وقد تقدم أن عمرو بن سلمة أَمَّ قومه وهو ابن ست أو سبع سنين لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمهم أكثرهم قرآنًا. وإلى صحة إمامة الصبي المميز ذهب الشافعي خلافًا للجمهور، والحديث حجة عليهم، «ومن قال: إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم ولم يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فما أنصف، لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبو سعيد وجابر العزل بكونهم فعلوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان منهيًّا عنه لنهى عنه القرآن» (¬1). 4 - إمامة الفاسق: تصح إمامة الفاسق -في أصح قولي العلماء- وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد (¬2)، ويدلُّ على ذلك: (أ) عموم الأحاديث المتقدمة في تقديم الأقرأ لكتاب الله. (ب) حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم» (¬3). (جـ) حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: «إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرَّج، فقال: «الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم» (¬4). (د) وصلى الصحابة ومنهم ابن عمر خلف الحجاج بن يوسف وهو من أفسق الناس (¬5). لكن تُكره الصلاة خلفه: لحديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» (¬6). ¬

(¬1) «فتح الباري» (8/ 23) ط. المعرفة. (¬2) «المبسوط» (1/ 40)، و «المجموع» (4/ 134)، و «الإنصاف» (2/ 252). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (294)، وأحمد (2/ 355). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (695)، وعبد الرزاق (1991). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1660)، والنسائي (5/ 254). (¬6) صحيح: أخرجه الترمذي (2229)، وأبو داود (4252)، وأحمد (6/ 278).

فإن أمكن الصلاة خلف غير الفاسق فينبغي ترك الصلاة خلفه، وإن لم يمكن وكان في تركه تعطيلاً للجماعات جازت الصلاة خلفه كما تقدم، والله أعلم. فائدة: لا تصح الصلاة خلف الكافر: لأن صلاته لا تصح لنفسه ولم يصح الاقتداء به، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} (¬2). 5 - إمامة مستور الحال: تصح الصلاة خلف من لا يُعلم منه بدعة ولا فسق باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال (¬3). لقوله صلى الله عليه وسلم: «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم» (¬4). وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» (¬5). قال ابن حزم (¬6): «فإن صلى خلف من يظنُّه مسلمًا، ثم علم أنه كافر أو أنه عابث أو انه لم يبلغ -فصلاته تامة، لأنه لم يكلفه الله تعالى معرفة ما في قلوب الناس ... وإنما كلفنا ظاهر أمرهم فأمرنا إذا حضرت الصلاة أن يؤمنا بعضنا في ظاهر أمره، فمن فعل ذلك فقد صلَّى كما أُمِر ...» اهـ. وقال الجمهور: عليه الإعادة إذا علم كفر إمامه بعد الصلاة. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 65. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 23. (¬3) «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام (23/ 351). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1/ 391)، وأبو داود (2641)، والترمذي (2608)، والنسائي (2/ 105). (¬6) «المحلى» (4/ 51).

6 - إمامة المرأة لجماعة النساء: وتقدم في «حكم الجماعة للنساء» فِعل عائشة وأم سلمة لذلك، وصلاتهما بالنساء. وأما صلاة الرجل والصبي خلف المرأة فلا تجوز ولا تصح عند جماهير السلف والخلف، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة» (¬1). ولنه «لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة الرجل أو الرجال شيء، ولا وقع في عصره صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوفهن بعد صفوف الرجال وذلك لأنهن عورات، وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يفيد هذا، ولا يقال: الأصل الصحة!! لأنا نقول: قد ورد ما يدل على أنهن لا يصلحن لتولي شيء من الأمور، وهذا من جملة الأمور بل هو أعلاها وأشرفها» (¬2). من أَمَّ قومًا وهم له كارهون: عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» (¬3). وهذا الوعيد مختص بمن كرهه القوم في دينه أو مخالفته السنة أو غير ذلك مما ابتلي به كثير من أئمة هذا الزمان الذين جُلُّ هَمِّهم إثبات الحضور لأجل الحصول على الراتب، ثم هو بعد ذلك جاهل بدين الله كلُّ بلاء فيه وفي أهل بيته، نعوذ بالله من الخذلان. وأما من أقام السنة فإنما الإثم على من كرهه، فعن ابن عمر قال: «أَمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4425)، والترمذي (2262)، والنسائي (8/ 227). (¬2) «السيل الجرار» (1/ 250). (¬3) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (360)، وله شاهد عند أبي داود (593)، وابن ماجه (970). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4250)، ومسلم (2426).

موقف الإمام والمأموم

موقف الإمام والمأموم [1] صلاة واحد مع الإمام: إذا صلَّى الرجل وحده مع الإمام فإنه يقف عن يمينه محاذيًا له -غير متأخر قليلاً كما يقول الشافعية- لما في قصة ابن عباس في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم: «... ثم قام يصلي [أي النبي صلى الله عليه وسلم] فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها، فصلَّى ...» (¬1) وفي رواية (¬2): «... فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة خنست، فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف، قال لي: «ما شأني أجعلك حذائي فتنخسُّ ...» الحديث. وفي قصة صلاة جابر معه صلى الله عليه وسلم: «... فجاء فتوضأ ثم قام فصلَّى في ثوب واحد خالف بين طرفيه، فقمتُ خلفه فأخذ بأذني فجعلني عن يمينه» (¬3). وفي قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم -في مرض موته- بجانب أبي بكر، قالت عائشة: «... فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر» (¬4). [2] صلاة اثنين فأكثر مع الإمام: إذا صلَّى مع الإمام رجلان فإنهما يقفان وراءه صفًّا باتفاق العلماء من الصحابة ومن بعدهم غير ابن مسعود وصاحبيه، لحديث جابر الذي فيه: «.. ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدينا جميعًا فدفعنا حتى أقامنا خلفه ...» الحديث (¬5). وعن أنس قال: «صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأمي -أم سليم- خلفنا» (¬6). وأما ابن مسعود فكان يرى أن يقف أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله: فعن الأسود وعلقمة أنهما صليا مع عبد الله بن مسعود في داره قالا: «... ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (183)، ومسلم (763). (¬2) أخرجها أحمد (1/ 330) بسند صحيح لكن الظاهر أنها شاذة. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (766)، وأحمد (3/ 351). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (683)، ومسلم (418). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (3006)، في حديث طويل وابن ماجه (974)، وأحمد (3/ 421). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (727)، ومسلم (658).

وذهبنا لنقوم خلفه فأخذ بأيدينا فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فلما ركع وضعنا أيدينا على ركبنا قال: فضرب أيدينا وطبَّق بين كفَّيه ثم أدخلهما بين فخذيه ... ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). لكن ذكر جماعة من العلماء منهم الشافعي أن حديث ابن مسعود هذا منسوخ، لأنه تعلم هذه الصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفيها التطبيق وأحكام أخر هي الآن متروكة وهذا الحكم من جملتها، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تركه، وعلى فرض عدم علم التاريخ، لا ينتهض هذا الحديث لمعارضة الأحاديث المتقدمة (¬2). وإذا صلى مع الإمام ثلاثة فأكثر، فإنهم يقفون وراءه بإجماع العلماء والأحاديث في بيان هذا أكثر من أن تحصر. ولا يجوز أن يتقدم المأموم على الإمام، لأنه لا يصح الائتمام بالإمام إلا إذا كان مقدمًا عليهم، وقد ذهب الجمهور إلى أن من تقدم على الإمام بطلت صلاته، وذهب مالك وإسحاق وأبو ثور وداود إلى جوازه إذا ضاق المكان وقيل مطلقًا (¬3). [3] الصلاة إلى جنب الإمام لمن لم يجد مكانًا في المسجد: من دخل المسجد فوجد المسجد ممتلئًا والصفوف تامة، فله أن يتخلل الصفوف حتى يقف بجانب الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه مع أبي بكر حين أمَّ الناس: «... فلما رآه أبو بكر استأخر، فأشار إليه أن كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه» (¬4). وفي لفظ في قصة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم وصلاة أبي بكر بالناس: «.. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلَّص حتى وقف في الصف ...» (¬5) وفي لفظ لمسلم «فخرَّق الصفوف حتى قام عند الصف المتقدم». [4] صلاة المرأة مع الإمام: المرأة إذا صلت مع الإمام، فإنها تقف خلف صفوف الرجال حتى ولو لم ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (534)، وأبو داود (613)، والنسائي (2/ 49). (¬2) «نيل الأوطار»، و «المحلى». (¬3) «ابن عابدين» (1/ 551)، و «الدسوقي» (1/ 331)، و «مغنى المحتاج» (1/ 49)، و «كشاف القناع» (1/ 485)، و «الإنصاف» (2/ 280). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (684)، ومسلم (421).

يكن معها امرأة أخرى، فتقف وحدها في الصف الأخير، وكذلك لو صلَّت وحدها مع الإمام فإنها تقف خلفه لا عن يمينه: فعن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرًا قبل أن يقوم نرى -والله أعلم- أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال» (¬1). وعن أنس قال: «صليت أنا ويتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأمي أم سليم خلفنا» (¬2). وقال ابن مسعود: «كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة لها الخليل تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فأُلقي عليهن الحيض» فكان ابن مسعود يقول: «أخروهن حيث أخَّرهنَّ الله» (¬3). وإذا صلَّى مع الإمام رجل واحد وامرأة، فإن الرجل يقف حذاءه عن يمينه وتقف المرأة وحدها وراءهما، فعن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَّهُ والمرأة معهم فجعله عن يمينه، والمرأة أسفل من ذلك» (¬4). فائدة: إذا خالفت المرأة فتقدمت على بعض الرجال أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة!! قلت: الأصح أن تفسد صلاتها هي لحديث «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» وسيأتي، وبضميمة وقوف أم سليم وحدها خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأنس واليتيم، فدل هذا على بطلان صلاتها أمام الرجال أو معهم، لكن محل هذا عدم الضرورة، كما لا يخفى. [5] صلاة المرأة بالنساء: إذا صلت المرأة بجماعة النساء فإنها تقف وسطهن ولا تتقدم على الصف الأول منهنَّ، وهذا أستر لها، فعن ربطة الحنفية: «أن عائشة أمَّتهنَّ وقامت بينهن في صلاة مكتوبة» (¬5) وعن حجيرة عن أم سلمة: «أنها أمتهن فكانت وسطًا» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (870)، وأبو داود (1040)، والنسائي (2/ 66)، وابن ماجه (932). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5115)، والطبراني (9384). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (269)، وابن أبي شيبة (2/ 88). (¬5) صحيح لشواهد: أخرجه عبد الرزاق (3/ 141)، والدارقطني (1/ 404)، والبيهقي (3/ 131). (¬6) صحيح لشواهد: أخرجه عبد الرزاق (3/ 140)، والدارقطني (1/ 405)، والبيهقي (3/ 131).

فإذا صلَّت المرأة بهنَّ متقدمة عليهن فالأظهر أن الصلاة صحيحة مجزئة لعدم الدليل على بطلانها، لكن خلاف الأولى والله أعلم. [6] أين يقف الصبيان في الصلاة؟ رُوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يجعل الرجال قدام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان» (¬1) لكنه ضعيف لا يصح. قال الإمام الألباني -نضرَّ الله وجهه-: «وأما جعل الصبيان وراءهم فلم أجد فيه سوى هذا الحديث، ولا تقوم به حجة، فلا أرى بأسًا من وقوف الصبيان مع الرجال إذا كان في الصف متَّسع، وصلاة اليتيم مع أنس وراءه صلى الله عليه وسلم حجة في ذلك» (¬2). قلت: قد تقدم حديث أنس وصلاة اليتيم معه خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان يُمنع الصبيان من الصفِّ مع الرجال، لقام أنس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم واليتيم خلفهما وأم سليم خلفهم، والله أعلم. صلاة الإمام أو المأموم في مكان مرتفع: 1 - ارتفاع الإمام عن المأمومين: يُكره للإمام أن يصلي أعلى من المأمومين، وهو مذهب الجمهور، سواء كان هذا العلو لحاجة أو لا. فعن همام: «أن حذيفة أمَّ الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود (الأنصاري) بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني» (¬3). وقال الشافعي: أختار للإمام الذي يُعلَّم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع فيراه من خلفه فيقتدون به. وهو رواية عن أحمد، لحديث سهل بن سعد لما سئل عن المنبر قال: «... ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى عليها (يعني أعواد المنبر) وكبَّر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقري، فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا، ولتعلموا صلاتي» (¬4). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (677)، وأحمد (5/ 341) عن أبي مالك الأشعري. (¬2) «تمام المنة» (ص/ 282). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (597)، وابن خزيمة (1523)، والحاكم (1/ 210)، والبيهقي (3/ 108) وليس فيه إلا ما يخشى من عنعنة الأعمش. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (917)، ومسلم (544).

قلت: فإن وجدت مصلحة من قيام الإمام على المكان المرتفع كتعليم الناس ونحوه فلا بأس لهذا الحديث، وكذلك إذا دعت الحاجة، كأن يمتلئ الطابق العلوي من المسجد والإمام فيه، فيصلي بعضهم في الطابق الأسفل. 2 - ارتفاع المأمومين عن الإمام: لا دليل يمنع ارتفاع المأموم عن الإمام في الصلاة، لا سيما إذا دعت الحاجة إليه، كأن يمتلئ المسجد فيصلي بعضهم في الطابق العلوي منه، لكن ينبغي أن يكون على وجه يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام ليقتدي به، ويكون مُسامتًا لما خلف الإمام، لا متقدمًا عليه إلا لعذر، ويعضد هذا أن أبا هريرة: «كان بظهر البناء على ظهر المسجد، فيصلي بصلاة الإمام» (¬1). وعن سعيد بن سليم قال: «رأيت سالم بن عبد الله صلى فوق ظهر المسجد صلاة المغرب ومعه رجل آخر، يعني ويأتم بالإمام» (¬2). الاقتداء بالإمام من وراء حائل: إذا صلى المأموم خلف الإمام خارج المسجد، أو في المسجد وبينهما حائل: فإن كانت الصفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة (¬3). فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته (¬4) وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته ...» الحديث (¬5). وعن جبلة بن أبي سليمان قال: (رأيت أنس بن مالك يصلي في دار أبي عبد الله، يشرف على المسجد، له باب إلى المسجد، فكان يجمع فيه ويأتم بالإمام» (¬6). ,إذا صفُّوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه أو نهر تجري فيه ¬

(¬1) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 223)، وعبد الرزاق (4888)، والبيهقي (3/ 111). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 233). (¬3) «مجموع الفتاوى» (23/ 407). (¬4) حصير كان يحتجره بالليل في المسجد، كما في بعض روايات الحديث. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (729)، ومسلم (782). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 223)، وعبد الرزاق (5455)، والبيهقي (3/ 111).

الصفوف وأحكامها

السفن ففيه قولان هما روايتان عن أحمد: أحدهما: المنع كقول أبي حنيفة، والثاني: الجواز كقول مالك والشافعي (¬1)، وهو الأظهر لأنه لا نص ولا إجماع في منع ذلك، وقد قال الحسن: «لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر» (¬2). لكن ينبغي أن يكون على وجه يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام كسماع التكبير أو رؤية الصف المتقدم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في أصحابه تأخرًا: «تقدموا فائتموا بي، وليأتمَّ بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» (¬3). ولذا قال أبو مجلز: «يأتم بالإمام، وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الإمام» (¬4). قلت: وليس يخفى أن محلِّ هذا كله الحاجة كامتلاء المسجد والرحاب المتصلة، وإلا فالأصل اتصال الصفوف وتقاربها، والله أعلم. تنبيه: لا تصح الصلاة اقتداءً بإمام تُنفل صلاته بالمذياع «الراديو». الصفوف وأحكامها خيرُ صفوف الرجال والنساء: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أوَّلُها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» (¬5). قلت: وكون خير صفوف النساء آخرها إنما محلُّه إذا كُنَّ يصلين خلف صفوف الرجال، فإن كُنَّ يصلين خلف امرأة، أو مع الإمام في مكان منفصل عن الرجال، فالظاهر أن خير صفوفهن الأُوَل، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلوُّن على الصفوف الأُوَل» (¬6) والله أعلم. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (23/ 407)، و «المغنى». (¬2) أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 250 - فتح)، ووصله عبد الرزاق (5453)، وابن أبي شيبة (2/ 149). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (438)، وأبو داود (480)، والنسائي (2/ 83)، وابن ماجه (978). (¬4) إسناده صحيح: علقه البخاري (2/ 250 - فتح)، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 223) بسند صحيح. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (440)، وأبو داود (678)، والترمذي (224)، والنسائي (2/ 93)، وابن ماجه (1000). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (664)، والنسائي (2/ 90)، وابن ماجه (997).

فضل الصف الأَوَّل: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ولو يعلمون ما في الصف المقدَّم لاستهموا» (¬1). وفي لفظ لمسلم: «.. لكانت القُرعة». فضل ميامن الصفوف: فعن البراء قال: «كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه ...» (¬2). وقد جاء عن عائشة مرفوعًا: «إن الله وملائكته يصلُّون على ميامن الصفوف» (¬3) لكنه بهذا اللفظ غير محفوظ. من يلي الإمام: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليليني منكم أولو الأرحام والنهُّى، ثم الذين يلونهم ثلاثًا، وإيَّاكم وهيشات الأسواق» (¬4). وأولو الأرحام: هم العقلاء، وقيل: البالغون، والنُّهى: العقول، «وفي الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام، لأنه يتفطَّن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلِّموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم. ولذا «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا منه» (¬5). وعن قيس بن عُباد قال: بينا أنا في المسجد في الصف المقدَّم فجبذني رجل من خلفي جبذة فنحَّاني وقام مقامي، فوالله ما عقلت صلاتين فلما انصرف فإذا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (720)، ومسلم (437 - 439). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (709)، وأبو داود (615)، والنسائي (2/ 94)، وابن ماجه (1006). (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (676)، وابن ماجه (1005)، وأعلَّ البيهقي (3/ 103) متنه وقال أنه غير محفوظ، وأقره الألباني في «تمام المنة» (ص: 228) وهو كما قالا، والله أعلم. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (432)، وأبو داود (675)، والترمذي (228). (¬5) صحيح: أخرجه ابن ماجه (977)، وأحمد (3/ 100) وغيرهما.

هو أُبيُّ بن كعب، فقال: «يا فتى، لا يسؤك الله، إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه ...» الحديث (¬1). إتمام الصفوف الأول ثم الذي يليه: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتموا الصف الأول ثم الذي يليه، وإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر» (¬2). وعن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنهما أذناب خيل شُمس؟ اسكنوا في الصلاة» قال: ثم خرج علينا فرآنا حِلقًا فقال: «ألا تَصفُّون كما تصف الملائكة عند ربها؟» فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربِّه؟ قال: «يُتمُّون الصفوف الأول، ويتراصُّون في الصف» (¬3). وجوب تسوية الصفوف، وسدُّ الخلل: وقد صحَّ في هذا جملة كثيرة من الأحاديث فمن ذلك: 1 - حديث النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتسوُّنَّ صفوفكم، أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم» (¬4). ومعنى: «ليخالفن الله بين وجوهكم»: يوقع بينكم العداوة والبغضاء، واختلاف القلوب، لأن اختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيد هذا المعنى: 2 - حديث أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم ...» (¬5). 3 - وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقيمة صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري» وكان أحدنا يُلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 88)، وأحمد (5/ 140). (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 93)، وأبو داود (671). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (430)، وأبو داود (661)، والنسائي (2/ 92)، وابن ماجه (992). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (432)، وأبو داود (674)، والنسائي (2/ 87)، وابن ماجه (976). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (725)، ومسلم (434).

4 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُصُّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، والذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف» (¬1). 5 - وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله» (¬2). 6 - وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة» (¬3) وفي لفظ لمسلم: «.. من تمام الصلاة». وينبغي أن يتولى الإمام تسوية الصفوف بنفسه أو يأمر بذلك المأمومين، وأن لا يشرع في صلاته حتى تعتدل الصفوف: فعن ابن عمر قال: «كان عمر لا يكبِّر حتى تعتدل الصفوف، يوكِّل بذلك رجالاً» (¬4). فائدة: قال النووي في «المجموع» (1/ 297): «إذا وجد الداخل في الصف فرجة أو سعة دخلها، وله أن يخرق الصف المتأخر إذا لم يكن فيه فرجة وكانت في صفٍّ قدامة لتقصيرهم بتركها» اهـ. كراهة الصف بين السواري (الأعمدة): عن عبد الحميد بن محمود قال: «صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدفعنا إلى السواري فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس: كنا نتَّقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (667)، والنسائي (2/ 92)، وأحمد (3/ 260) ومعنى الحذف: غنم سود صغار. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (666)، والنسائي (2/ 93)، وأحمد (2/ 97). (¬3) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ البخاري (723)، وبالآخر مسلم (433) وغيره. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (2439). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (673)، والنسائي (2/ 94)، والترمذي (229)، وأحمد (3/ 131) وقد ضعِّف بما لا يسلَّم به.

ويشهد له حديث معاوية بن مرة عن أبيه قال: «كنا نُنهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونطرد عنها طردًا» (¬1). ولذا يكره للمأمومين أن يقفوا بين السواري لأنها تقطع صفوفهم، فإن كان الصف صغيرًا قدر ما بين الساريتين لم يكره، لأنه لا ينقطع بها، وقد كرهه ابن مسعود والنخعي وراءه ابن المنذر عن حذيفة وابن عباس، بينما رخَّص فيه ابن سيرين ومالك وأصحاب الرأي، قالوا: لعدم الدليل على المنع (¬2)!! ولا شك أن حديث أنس له حكم الرفع ويؤيده حديث قرة بن قيس، والله أعلم. وأما الإمام المنفرد: فلا يكره لهما الصلاة بين الساريتين للمعنى المتقدم، ويؤده حديث ابن عمر قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال، فأطال ثم خرج، كنت أول الناس دخل على إثره، فسألت بلالاً: أين صلى؟ قال: بين العمودين المقدمين» (¬3). صلاة المنفرد خلف الصف: الأصل في صلاة الجماعة أن يكون المأمومون صفوفًا متراصَّةً كما تقدم بيانه، فإذا صلى المأموم خلف الصفوف وحده، فقد اختلف أهل العلم في حكم صلاته على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا تصح صلاته، وهو مذهب أحمد وإسحاق والنخعي وابن أبي شيبة وابن المنذر (¬4) واستدلوا بما يلي: 1 - حديث علي بن شيبان قال: خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلَّينا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة فرأى رجلاً فردًا يصلي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف قال: «استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف» (¬5). ¬

(¬1) إسناده لين: أخرجه ابن ماجه (1002)، وابن خزيمة (1567)، وابن حبان (2219)، والحاكم (1/ 218) ويشهد له ما قبله. (¬2) «الأوسط» لابن المنذر (4/ 181 - 182). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (504)، ومسلم (1329). (¬4) «الأوسط» (4/ 183)، و «المغنى» (2/ 211)، و «الممتع» (4/ 376). (¬5) صحيح بما بعده: أخرجه ابن ماجه (1003)، وأحمد (4/ 23)، وابن حبان (2202).

2 - حديث وابصة بن معبد «أن رجلاً صلَّى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة» (¬1). قالوا: ولولا أن صلاته فاسدة ما أمره بالإعادة، لأن الإعادة إلزام وتكليف في أمر قد فُعل وانتهى منه، ولولا فساده ما كلَّفه بإعادته. القول الثاني: صلاته صحيحة، ويَكره لغير عذر، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والشافعي (¬2)، وحجتهم: 1 - حديث أبي بكرة: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ» (¬3). قالوا: أتى أبو بكرة بجزء من الصلاة خلف الصف ولم يؤمر بالإعادة، وإنما نُهي عن العود إلى ذلك فكأنه أرشد إلى ما هو الأفضل، واستدلوا بذلك على أن الأمر بالإعادة في حديث وابصة للاستحباب، جمعًا بين الدليلين. وأجاب الأوَّلون: بأنه يمكن الجمع بينهما بوجه آخر (¬4): وهو أن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفردًا خلف الصف، ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة كما في حديث أبي بكرة، وإلا فتجب على عموم حديث وابصة وعلى بن شيبان. 2 - أن ابن عباس لما أداره النبي صلى الله عليه وسلم من يساره إلى يمينه -وقد تقدم الحديث مرارًا- انفرد خلفه بجزء يسير؟! قالوا: والمفسد للصلاة يستوي فيه الكثير والقليل!! وأُجيبَ: بمثل ما تقدم من حديث أبي بكرة من أن هذه الصورة اليسيرة من الانفراد قبل الوقوف في الصف لا تضر. 3 - حملوا النفي في قوله «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» على نفي الكمال لا نفي الصحة وأجيب: بأن الأصل نفي الوجود -وهو ممتنع- ثم نفي الصحة حتى ¬

(¬1) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (230، 231)، وأبو داود (682)، وابن ماجه (1004)، وأحمد (4/ 228)، وانظر «الإرواء» (541). (¬2) «البدائع» (1/ 218)، و «مغنى المحتاج» (1/ 247)، و «جوهر الإكليل» (1/ 80)، و «الأوسط» (4/ 183). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (783)، وأبو داود (683)، والنسائي (2/ 118)، وأحمد (5/ 39). (¬4) «فتح الباري» (2/ 314) ط. السلفية، و «مجموع الفتاوى» (23/ 397).

يدل الدليل على منعه فيتجه إلى نفي الكمال، وهنا لا دليل كذلك، ثم هذا مردود بأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة كما تقدم. 4 - صلاة أم سليم وحدها في الصف خلف أنس واليتيم، مؤتمِّين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأجيب بأنها حجة ضعيفة لا تقاوم حجة النهي، فإن وقوف المرأة خلف صف الرجال سنة مأمور بها، ولو وقفت في صف الرجال لكان ذلك مكروهًا فلا يصح القياس، ثم إن المرأة وقفت خلف الصف لأنه لم يكن لها من تصافه، ولو كان معها امرأة أخرى لكان عليها أن تقف معها وكان حكمها حكم الرجل المنفرد خلف الصف (¬1). القول الثالث: التفصيل: فإن انفرد لعذر صحت صلاته وإلا بطلت، وهو قول الحسن البصري وقول عند الحنفية واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، ورجَّحه العلامة ابن عثيمين (¬2) -رحم الله الجميع- وحجتهم أدلة القول الثاني لكنهم قالوا: إن نفي الصحة لا يكون إلا بفعل محرم أو ترك واجب، والقاعدة أنه لا واجب مع العجز. قلت: ولعلَّ هذا أعدل الأقوال ويليه القول الأول، والله أعلم. رَايٌ: الذي يقع في نفسي أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» هو من يصلي خلف صفوف المصلين غير مؤتم بالإمام، وحينئذ لا يكون في الحديث إشكال، لكن لم أجد سلفًا في هذا الفهم -مع قوة احتمال السياقات له وموافقته أصول الشريعة- فلا أجسر على الجزم به، والله أعلم. من جاء وقد اكتملت الصفوف، ماذا يصنع؟ (¬3). ينبغي تجنُّب الصلاة منفردًا خلف الصف قدر الإمكان، حتى تنتفي الكراهة على قول الجمهور، وتصح الصلاة على قول الحنابلة: ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (23/ 395). (¬2) «البدائع» (1/ 218)، و «الإنصاف» (2/ 289)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 396)، و «إعلام الموقعين» (2/ 41)، و «تهذيب السنن» (2/ 266 - العون)، و «الممتع» (4/ 383). (¬3) «البدائع» (1/ 218)، و «فتح القدير» (1/ 309)، و «جواهر الإكليل» (1/ 80)، و «مغنى المحتاج» (1/ 248) و «المجموع» (4/ 297)، و «كشاف القناع» (1/ 490)، و «الإنصاف» (2/ 289)، و «المغنى» (2/ 216)، و «الأوسط» (4/ 185)، و «الممتع» (4/ 383).

مسائل تتعلق بصفة صلاة الجماعة

1 - فإن وجد فُرجة في الصف الأخير وقف فيها. 2 - وإن وجد الفُرجة في صف متقدم فله أن يخترق الصفوف ليصل إليها، لتقصير المصلين في تركها، فإن لم يجد إلا أن يصف بجنب الإمام فله ذلك، وقد تقدمت الأدلة على كل هذا. 3 - فإن لم يتيسَّر ذلك وعلم أنه سيأتي آخر يصُف معه، صلَّى وحده. 4 - فإن لم علم بمجيء أحد يصف معه، فهل يجذب واحدًا من الصف ليصف معه؟ اختلف أهل العلم في هذا: فأجازه الحنفية -في قول- والشافعية في الأصح، والحنابلة، وهو مروي عن عطاء والنخعي، لأن الحاجة داعية إليه، وقيَّده الشافعية بمراعاة موافقة المجرور منعًا للفتنة، ورأى أحمد وإسحاق تنبيهه للرجوع وعدم جذبه. قلت: الأصل في جواز جذب الرجل من الصف، حديث أُبي بن كعب المتقدم «لما جذب الرجل وقام مقامه، فلما انصرف قال: إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه ..» (¬1) لكن فيه محاذير أخرى تأتي. وكره مالك أن يجذب أحدًا وقال: يصلي منفردًا، ولا يطيعه المجذوب، وهو مروي عن الأوزاعي وهو اختيار شيخ الإسلام، لأن في هذا الجذب محاذير: 1 - التشويش على الرجل المجذوب. 2 - فيه جناية على المجذوب بنقله من المكان الفاضل إلى المفضول. 3 - فتح فرجة في الصف وربما كان هذا من باب قطع الصف وقد تقدم الوعيد فيه. 4 - فيه جناية على الصف كله، لتحركهم لأجل سدِّ الفرجة. قلت: الأولى أن لا يجذب أحدًا، وليصلِّ وحده لأجل العذر، والله أعلم. مسائل تتعلق بصفة صلاة الجماعة سترةُ الإمام سترةٌ للمأمومين: ذهب الجماهير من أهل العلم إلى أن سترة الإمام سترة لمن خلفه ومعنى هذا أمران: 1 - أنه إذا لم يحل بين الإمام وسترته شيء يقطع الصلاة، فصلاة المأمومين ¬

(¬1) صحيح: تقدم في «من يلي الإمام».

صحيحة لا يضرها مرور شيء بين أيديهم في بعض الصف، ولا فيما بينهم وبين الإمام، ففي حديث ابن عباس قال: «أقبلت راكبًا على حمار أتان والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمرت بين يدي بعض الصف، فنزلتُ فأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر عليَّ أحد» (¬1). 2 - أنه إذا مر ما يقطع الصلاة بين الإمام وسترته، قطع صلاته وصلاتهم: فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنيَّة أذاخر، فحضرت الصلاة يعني فصلَّى إلى جدار فاتخذه قبلة، ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار، ومرَّت من ورائه» (¬2) فلولا أن سترته سترة لهم لم يكن بين مرورها بين يديه وخلفه فرق، والله أعلم. حكم جهر الإمام بالبسملة في الجهرية: هذه المسألة «من أعلام المسائل، ومعضلات الفقه، ومن أكثرها دَوَرانًا في المناظرة، وجَوَلانا في المصنفات» (¬3) ولذا أفردها بالتصنيف جماعة من أهل العلم. والخلاصة أن للعلماء في هذه المسألة قولين: الأول: يُسَنٌّ الإسرار بها، وهو مذهب الحنابلة وأصحاب الرأي وهو اختيار شيخ الإسلام وقال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين: منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وذكره ابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وعمار رضي الله عنهم أجمعين، وبه قال الأوزاعي والثوري وابن المبارك (¬4)، وحجتهم: 1 - حديث أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (76)، ومسلم (504). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (708) / وابن ماجه (3603)، وأحمد (2/ 196). (¬3) «نصب الراية» (1/ 336). (¬4) «المبسوط» (1/ 15)، و «المغنى» (1/ 345)، و «كشاف القناع» (1/ 335). قلت: وأما الإمام مالك فلا يقرأ البسملة في أول الصلاة، وانظر «المدونة» (1/ 64). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (743)، ومسلم (399).

وفي رواية لمسلم عنه: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» (¬1). وتُعقِّب الاستدلال: بأن معنى قوله في الرواية الأولى «يستفتحون بالحمد لله رب العالمين» أي: بسورة الفاتحة قبل غيرها، فليس فيه تعرُّض لنفي البسملة ولا إثباتها. وأما الرواية الأخرى فهي وإن كانت صحيحة وإسناد إلا أن بعض العلماء تكلم فيها من جهة أنها من تصرف الراوي في الرواية الأولى فأخطأ، والمحفوظ الرواية الأولى (¬2). 2 - حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3). قالوا: وهو ظاهر في عدم الجهر بالبسملة، ومؤيد لحديث أنس. 3 - واستدلوا بما يُروى عن ابن عبد الله بن المغفل، قال: سمعني أبي وأنا أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: «محدث، إياك والحدث، ولم أر واحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام -يعني منه- فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا صليت فقل: «الحمد لله رب العالمين» (¬4) وأجيب: بأنه ضعيف لا يحتج به. 4 - قوله الله عز وجل في الحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي ... الحديث» (¬5). وقد احتج به من قال: لا تقرأ البسملة أصلاً في الصلاة. 5 - لا ريب أنه صلى صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بها دائمًا في كل يوم وليلة خمس ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (399). (¬2) انظر «فتاوى الباري» (2/ 266 - 267). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (498). (¬4) ضعيف: أخرجه الترمذي (244)، والنسائي (2/ 135). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (395)، وأبو داود (821)، والترمذي (2953)، والنسائي (2/ 135)، وابن ماجه (838).

مرات أبدًا حضرًا ولا سفرًا، ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين، وعلى جُمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة (¬1). القول الثاني: يُسَنُّ الجهر بها، وهو مشهور مذهب الشافعي، وحجَّته: 1 - ما رواه نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فقال: آمين، فقال الناس: آمين ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر، وإذا سلَّم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2) وأجيب عنه: باحتمال أن يكون أبو هريرة أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها على أنه قد رواه جماعة عن نعيم عن أبي هريرة بدون ذكر البسملة، فالحديث ليس صريحًا في كون النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالبسملة. 2 - حديث قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كانت مدًّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ويمدُّ بالرحمن، ويمد بالرحيم» (¬3). ويجاب عنه: بأنه غير صريح بأنه سمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، بل الثابت عنه عدم الجهر كما تقدم. 3 - ما رُوى عن ابن عباس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم» (¬4). وأجيب: بأنه ضعيف لا يحتج به، ثم هو محتمل للإسرار والجهر. الراجح: مما سبق نرى أنه ليس في الجهر بالبسملة في الصلاة حديث صحيح صريح يكافئ في دلالته حديث أنس في عدم الجهر، فعليه فالأولى الإسرار بالبسملة، «ومع هذا، فالصواب: أن ما لا يجهر به قد يُشرع الجهر به لمصلحة راجحة، فيشرع للإمام أحيانًا لمثل تعليم المأمومين ... ويسوغ أيضًا أن ¬

(¬1) «زاد المعاد» (1/ 206 - 207). (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 134)، وأحمد (2/ 497)، وابن خزيمة (499)، وابن حبان (1797). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5046). (¬4) ضعيف: أخرجه الترمذي (245) وغيره، وانظر أحاديث أخرى في بابه لا تخلو من مقال في «نصب الراية» (1/ 328).

يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة، خوفًا من التنفير عما يصلح ...» (¬1). تنبيه: ثم ليُعلم أن الخلاف في هذه المسألة قريب فلا ينبغي التعصُّب لها ولا المبالغة في قدرها، ولذا قال شيخ الإسلام: «وأما التعصُّب لهذه المسألة ونحوها، فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نُهينا عنه، إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدًّا، لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعائر الفرقة» اهـ (¬2). قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام: فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: الأول: لا يقرأ المأموم في السرية ولا في الجهرية: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه (¬3)، وحجتهم: 1 - ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة» (¬4). وهو ضعيف من جميع طرقه لا يحتج به. 2 - حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه: سبِّح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف قال: «أيكم قرأ، أو: أيكم القارئ؟» فقال رجل: أنا، فقال: «لقد ظننتُ أن بعضكم خالجنيها» (¬5) وغاية ما فيه النهي عن رفع الصوت بالقراءة خلفه في السرية كما هو واضح!! 3 - أن قراءة الفاتحة ليست بواجبة أصلاً -عندهم- فلم تجب على المأموم!! وهو مردود كما لا يخفى. القول الثاني: يقرأ في السرية دون الجهرية، وهو مذهب الجمهور: الزهري ومالك وابن المبارك والشافعي في القديم ومحمد صاحب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، واختيار شيخ الإسلام (¬6) وحجة هذا القول: ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (22/ 436)، وانظر «نصيب الراية» (1/ 328). (¬2) «مجموع الفتاوى» (22/ 405). (¬3) «المبسوط» (1/ 200)، و «البدائع» (1/ 103). (¬4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (850)، وأحمد (14116)، و «فتح القدير» (1/ 339). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (398)، والنسائي (917)، وأبو داود (828). (¬6) «المغنى» (1/ 330)، و «كشاف القناع» (1/ 464)، و «مواهب الجليل» (1/ 537)، و «مجموع الفتاوى».

1 - قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1). 2 - حديث: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، [وإذا قرأ فأنصتوا]» (¬2). 3 - حديث ابن شهاب عن ابن أكيمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟» فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: «إني أقول ما لي أُناررعِ القرآن؟» قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). قال بعضهم: هذا الحديث ناسخ للقراءة خلف الإمام في الجهرية؟!! 4 - حديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» (¬4) قالوا: المراد في الجهرية. القول الثالث: يقرأ في السرية والجهرية ولابد، وهو مذهب الشافعي -في الجديد- وأصحابه، وابن حزم، واختاره الشوكاني وابن عثيمين (¬5)، وهو الراجح، لما يلي: 1 - حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬6). 2 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلَّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج -ثلاثًا- غير تمام» قال: فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟! فقال: اقرأ بها في نفسك ...» الحديث (¬7). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 204. (¬2) أعلَّ الحفاظ هذه الزيادة. أخرجه بها مسلم (404)، وأبو داود (603)، والنسائي (931). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (826)، والترمذي (312)، والنسائي (2/ 140)، وابن ماجه (848). (¬4) ضعيف: تقدم قريبًا. (¬5) «الأم» (1/ 93)، و «المجموع» (3/ 322)، و «المحلى» (3/ 236)، و «الفروع» (1/ 428)، و «نيل الأوطار» (2/ 250)، و «الممتع» (4/ 247). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (395)، وأبو داود (821)، والترمذي (2953)، والنسائي (2/ 135)، وابن ماجه (838).

والحديثان يخصصان عموم الآية الكريمة وحديث: «وإذا قرأ فأنصتوا» بما عدا قراءة المأموم الفاتحة، هذا على أن زيادة «وإذا قرأ فأنصتوا» مما اختلف الحفاظ في صحته، وقال أبو داود: ليست بمحفوظة، وكذا قال ابن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني وأبو علي النيسابوري، واجتماع هؤلاء الحفاظ على تضعيفها مقدَّم على تصحيح مسلم، لا سيما ولم يروها مسندة في صحيحه، والله أعلم (¬1). ومما يؤيد هذا التخصيص المذكور: 3 - حديث عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة فلما فرغ، قال: «لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟» قلنا: نعم هذا يا رسول الله، قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» (¬2). 4 - وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلكم تقرءون خلف الإمام، والإمام يقرأ؟» قالوا: إنا لنفعل ذلك، قال: «فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بأم الكتاب، أو قال: فاتحة الكتاب» (¬3). 5 - وأما ما ادَّعوه من أن حديث أبي هريرة ناسخ لأحاديث الأمر بالقراءة، فقد ادَّعى الحازمي في «الاعتبار» (ص/ 72 - 75) عكسه، فجعل أحاديث الوجوب ناسخة لأحاديث النهي، والحق أنه لا دليل على هذا أو ذاك، فوجب الرجوع إلى قواعد الجمع أو الترجيح، هذا على أن قوله (فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر ...) مدرج من قول الزهري كما في رواية أحمد (2/ 240) وغيره، واتفق على هذا البخاري في «تاريخه» وأبو داود، ويعقوب بن يوسف والذهلي والخطابي وغيرهم، وقال النووي: هذا مما لا خلاف فيه بينهم، قلت وإذا كان كذلك فلا حجة فيه، فسقطت جميع المعارضات، والله أعلم. متى يقرأ المأموم الفاتحة خلف إمامه؟ (¬4). تقرر أن قراءة الفاتحة ركن لابد منه في كل ركعة سواء في ذلك الإمام والمنفرد ¬

(¬1) «شرح مسلم» للنووي (4/ 123) ط. إحياء التراث العربي. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (823)، والبخاري في «جزء القراءة» (63، 64)، والترمذي (311) وغيرهم. (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 60)، والبخاري (63) في «جزء القراءة»، والبيهقي (2/ 166). (¬4) «نيل الأوطار» (2/ 251) ط. الحديث، بتصرف يسير.

والمأموم، فمتى يقرأ المأموم في الجهرية؟ قيل: إذا سكت الإمام بين الفاتحة والسورة، وقيل: يقرأها خلف الإمام آية آية، وهو الأولى من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الاستعاذة عن محلها الذي هو بعد الاستفتاح، أو تكريرها عند إرادة قراءة الفاتحة إن فعلها في محلها أولاً وأخَّر الفاتحة إلى حال قراءة الإمام السورة، ومن جهة الاكتفاء بالتأمين مرة واحدة عند فراغه -وفراغ الإمام- من قراءة الفاتحة. جهر الإمام والمأموم بالتأمين في الجهرية: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه» (¬1). وعن وائل بن حُجر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فقال: آمين، ومد بها صوته» (¬2). قال الترمذي: ... وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، يرون أن الرجل يرفع صوته بالتأمين ولا يخفيها، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. اهـ. وعن ابن جريج عن عطاء قال: «قلت له: أكان ابن الزبير يؤمِّن على إثر أم القرآن؟ قال: نعم، ويؤمِّن من وراءه حتى إن للمسجد للجَّة» (¬3). هل يؤمِّن المأموم مع الإمام أو بعده؟ ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يؤمن إلا بعد تأمين الإمام لظاهر حديث: «إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به» وحديث: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا ...». والراجح أن يؤمِّن بعد قول الإمام {وَلاَ الضَّالِّينَ} لأنه قد جاء هذا صريحًا ففي حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فإذا كبرَّ فكبروا، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، يُحْبكُم الله ....» (¬4). وكذلك ليتوافق تأمين الإمام مع تأمين المأمومين مع تأمين الملائكة، فَيُغفر للمؤمِّن بإذن الله. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (780)، ومسلم (410). (¬2) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (248)، وأبو داود (932)، وأحمد (4/ 315)، وأحمد (4/ 315) وغيرهم وله طرق. (¬3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (2640)، والشافعي كما في مسنده (230). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (404)، وأبو داود (972)، والنسائي (2/ 196)، وابن ماجه (901).

يُكره تطويل الإمام إذا شق على بعض المأمومين: فعن أبي مسعود قال: قال رجل يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبًا منه يومئذ، ثم قال: «يا أيها الناس، إن منكم مُنَفِّرين، فمن أَمَّ الناس فليتجوَّز، فإن خلفه الضَعيف والكبير وذا الحاجة» (¬1). ولما صلَّى الرجل خلف معاذ بالبقرة أو النساء شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاذ، أفتَّان أنت -ثلاث مرار- فلولا صليت بسبح اسم ربك والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى» (¬2). قلت: وهذا إذا كان يشق على بعض المأمومين، فإن علم رضاءهم فلا يكره التطويل، والمقصود -على كل حال- أن يراعى حال المأمومين، ففي حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالتخفيف ويؤمُّنا بالصافات» (¬3). وعن جابر بن سمرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور» (¬4). وقد ذكر ابن مسعود عشرين سورة من المفصَّل «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة» (¬5). فالضابط في التطويل والتقصير حال المأمومين ورضاهم، وإتمام الصلاة وعدم النقص من أركانها، فعن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها» (¬6). وعنا قال: «ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أُمُّه» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (704)، ومسلم (466). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (705)، ومسلم (465). (¬3) حسن: أخرجه النسائي (2/ 95)، وأحمد (2/ 26) وغيرهما. (¬4) حسن: أخرجه أحمد (5/ 104)، وابن خزيمة (531)، وعبد الرزاق (2720) وغيرهم. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (775)، ومسلم (722). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (706)، ومسلم (469). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (708)، ومسلم (469).

الفتح على الإمام إذا التبست عليه القراءة: إذا التبست القراءة على الإمام، فللمأموم أن يلقِّنه، واستحبَّه جمهور العلماء، لحديث المسور بن يزيد الأسدي المالكي قال: «شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فترك شيئًا لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله، تركت آية كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلاَّ أكذرتنيها»؟ (¬1). ويشهد له حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة فقرأ فيها فلُبس عليه، فلما انصرف قال لأُبيٍّ: «أصليت معنا؟» قال: نعم، قال: «ما منعك؟» (¬2). تنبيه: إذا أخطأ الإمام في القراءة، فلا ينبغي تلقينه إلا إذا كان خطؤه مُحيلاً للمعنى، فعن أُبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أُقرئتُ القرآن على سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت غفورًا رحيمًا، أو قلت سميعًا عليمًا، أو قلت: عليمًا سميعًا، فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب» (¬3). يكره تشويش المأمومين بعضهم على بعض بالقراءة والتكبير: فعن أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: «ألا كلكم مناج ربَّه، فلا يؤذينَّ بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة، أو قال: في الصلاة» (¬4). وتقدم حديث عمران بن حصين في الرجل الذي قرأ خلفه: سبح اسم ربك الأعلى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننتُ أن بعضكم خالجنيها» (¬5) أي نازعنيها. وجوب متابعة الإمام، وتحريم مسابقته: عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر ¬

(¬1) حسن لغيره: أخرجه أبو داود (907)، والبخاري في «جزء القراءة» (194)، وابن خزيمة (1648)، وله شواهد. (¬2) حسن لغيره: أخرجه أبو داود (907)، وابن حبان (1/ 316 - إحسان) بسند جيد وصوَّب أبو حاتم (1/ 77) إرساله ويشهد له ما قبله. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (5/ 41، 51)، وأبو داود (1477) النبي صلى الله عليه وسلم والضياء في «المختارة» (1173). (¬4) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (1332)، وأحمد (3/ 94) وغيرهما، وانظر «الصحيحة» (1597، 1603). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (398)، وغيره وتقدم قريبًا.

فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون» (¬1). وفي لفظ لمسلم: «لا تبادروا الإمام، وإذا كبَّر فكبروا ....» الحديث. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار؟!» (¬2). فدلَّت هذه الأحاديث على تحريم مسابقة الإمام في الصلاة، وقال الجمهور يأثم فاعله وتجزئ صلاته، وقال أحمد وأهل الظاهر: تبطل صلاته، وبه قال ابن عمر (¬3). ولا يجوز مساواته كذلك: فعن البراء قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده» (¬4). وأما التخلُّف عن الإمام: فإن كان لعذر كمرضٍ ونحوه فلا حرج، وإن تعمَّد التأخر كُره، وقال بعض العلماء: إن تأخر بأكثر من ركن عن الإمام بطلت صلاته، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به ...» والله أعلم. هل يُتابع الإمام إذا زاد في الصلاة؟ كأن يسهو الإمام فيقوم إلى خامسة ويسبح به ولا يلتفت لقولهم، ظانًّا أنه لم يَسْهُ، فقال شيخ الإسلام: إن قاموا معه جاهلين لم تبطل صلاتهم، لكن مع العلم لا ينبغي لهم أن يتابعوه بل ينتظروه حتى يسلِّم بهم، أو يسلموا قبله، والانتظار أحسن. اهـ. قلت: ولقائل أن يقول: يتابعونه لعموم الأدلة الآمرة بمتابعته، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى خامسة قام الصحابة ولم يأمرهم إذا قام الإمام للخامسة أن يقعدوا، والمسألة موضع اجتهاد، فلتحرر، والله أعلم. إذا صلَّى الإمام قاعدًا لعذر: تقدم أن صلاة الصحيح خلف المعذور تصح، فإذا صلَّى القادرون على القيام خلف إمام قاعد لعذر، فهل يصلون قيامًا أو قعودًا؟ لأهل العلم في هذا قولان: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (734)، ومسلم (414، 416). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (691)، ومسلم (427). (¬3) «فتح الباري» (2/ 215). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (690)، ومسلم (474).

الأول: يجب عليهم أن يصلوا قعودًا كذلك، وهو مذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي وابن المنذر وداود وابن حزم، وهو مروي عن جابر وأبي هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف (¬1)، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصلَّى جالسًا، وصلَّى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا» (¬2) ونحوه حديث أنس وأبي هريرة. 2 - حديث جابر قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّينا وراءه، وهو قاعد وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلَّم قال: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم: يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا» (¬3). القول الثاني: لا يجوز لهم أن يصلُّوا قعودًا، بل يصلوا قيامًا، وإليه ذهب الأكثرون، منهم أبو حنيفة والشافعي (¬4)، واستدلوا بما يأتي: 1 - الجواب عن أدلة الأوَّلين، ولهم في هذا ثلاث طرق: (أ) ادِّعاء كونها منسوخة، قالوا: والناسخ لها حديث عائشة في صلاة أبي بكر بالناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «... ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو [قائم] بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد ...» (¬5). ¬

(¬1) «المغنى» (2/ 162)، و «الفروع» (2/ 578)، و «الأوسط» (4/ 205)، و «المحلى»، و «نيل الأوطار» (3/ 203). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (688)، ومسلم (412). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (413)، وأبو داود (606)، والنسائي (3/ 9)، وابن ماجه (1240). (¬4) «فتح القدير» (1/ 261)، و «المبسوط» (1/ 218)، و «شرح المعاني» (1/ 406)، و «الأم» (1/ 151)، و «المجموع» (4/ 164)، و «الأحكام» لابن دقيق العيد (1/ 225)، و «طرح التثريب» (2/ 334). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (687)، ومسلم (418).

قالوا: وكان هذا في مرضه صلى الله عليه وسلم الذي توفى فيه وقد صلى خلفه أبو بكر والناس قيامًا فدلَّ على نسخ الحكم الأول، وأُجيب عن هذا من أوجه منها: 1 - أن أبا بكر كان هو الإمام والنبي صلى الله عليه وسلم مقيد به كما في بعض الروايات، وتُعقِّب بأن هذه الروايات لو صحَّت لحُملت على تعدد الصلوات، فقد كان مرضه صلى الله عليه وسلم اثنى عشر يومًا فيه ستون صلاة. 2 - قال الإمام أحمد: ليس فيه حجة، لأن أبا بكر كان ابتدأ الصلاة قائمًا، وإذا ابتدأ الصلاة قائمًا صلوا قيامًا، فأشار إلى الجمع بين الحديثين، بحمل الأول على ما إذا ابتدأ الصلاة جالسًا، والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائمًا ثم اعتلَّ فجلس، قال: ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب ولم يحمل على النسخ. وتُعقِّب: بأنه يردُّه ما في حديثي جابر وعائشة من إشارته صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بالقعود بعد أن كانوا ابتدءوا الصلاة قيامًا، وأجيب عن هذا التعقُّب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ابتدأ قاعدًا فكان قد لزمهم الجلوس لجلوسه بخلاف اقتدائهم بالصدِّيق فإن إمامهم في ابتدائه الصلاة كان قائمًا فكان القيام لازمًا لهم فاستمروا عليه. 3 - أن الحديث ليس فيه أن غير أبي بكر كانوا قيامًا فلعلَّهم كانوا قعودًا، ويدُّ عليه أن الناس كانوا يقتدون بصلاة أبي بكر، ولو كانوا قيامًا لما اقتدى بصلاته إلا الصف الأول لأن بقية الصفوف يحجبهم عنه الصف الأول، قاله ابن حزم، وتعقَّبه العراقي من أوجه سلم له بعضها، من ذلك: أن الصحابة كانوا أول صلاتهم قيامًا خلف أبي بكر فمن زعم تغيرهم عن هذه الحال فهو محتاج إلى دليل، بل الظاهر أنه لو وقع لنُقل، ومنها أن المراد باقتدائهم بأبي بكر، اقتداؤهم بصوته لا بمشاهدته. 4 - على فرض ثبوت صلاة الصحابة قيامًا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، فإنه لا يدلُّ على النسخ، بل على الإباحة فقط وبيان أن أمرهم المتقدم بالقعود للندب لا للوجوب، وأجيب بأن هذا مردود بأن الأمر لا يكون على الندب مع تأكيده صلى الله عليه وسلم له بإشارته به وهو في الصلاة ثم تصريحه بذلك بعد سلامه ثم تشبيه فعلهم بفعل الكفرة المجوس، فهذه قرائن تدل على أن النهي للتحريم. (ب) ادِّعاء أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم: وهذا هو المشهور من قول

مالك (¬1) وجماعة من أصحابه، وأيَّدوه بما يُروى مرفوعًا: «لا يؤمَّنَّ أحد بعدي جالسًا» (¬2) وبأن الخلفاء لم يؤمَّ أحد منهم جالسًا؟!! وأُجيب عنه: بأن الأصل عدم الخصوصية حتى يقوم الدليل على ذلك، والحديث المروي ضعيف لا يصح، وأما الاستدلال بترك الخلفاء الإمامة عن قعود فأضعف، فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، فلعلَّهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين. (جـ) تأويل قوله: «فصلوا جلوسًا» فقالوا: هو محمول على معنى (إذا جلس للتشهد فتشهدوا قعودًا)!! وأجيب: بأن هذا تحريف للخبر عن عمومه بغير دليل، وسياق الأحاديث في الجملة يمنع من سبق الفهم إلى هذا التأويل، ومن ذلك إشارته صلى الله عليه وسلم لهم بالجلوس، وكذلك التعليل بموافقة الأعاجم. 2 - (من أدلة المانعين) أن القيام ركن قدر عليه المأموم، فلم يجز له تركه كسائر الأركان. 3 - أن لكل منهم فرضه ففرض الإمام القعود، وفرضهم القيام. الراجح في المسألة: لا شك أن كلا القولين له وجه معتبر، وإن كان الأظهر القول الأول مع اعتبار حال الإمام عند ابتداء الصلاة، فإن ابتدأها جالسًا لزمهم الجلوس، وإن ابتدأها قائمًا لزمهم القيام، فإن طرأ عليه القعود لعذر، فهل يقعدون أو يقومون؟ هذا موضع اجتهاد، وإن كان التعليل بمشابهة الأعاجم يقوِّي جلوسهم. وأما المصير إلى النسخ فلا أراه قويًّا لبعض الأوجه المتقدمة، ولأن القول به يستلزم النسخ مرتين: لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدًا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدًا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين وهو بعيد، بل هو خلاف قاعدة الأحكام. ويردُّ دعوى النسخ كذلك أنه فعله أربعة من الصحابة -وقيل ستة- ولم يُعلم لهم منهم مخالف حتى قال ابن حبان: وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته. اهـ. ¬

(¬1) لأجل هذا فإن مذهب مالك أنه لا تصح صلاة القادر على القيام خلف القاعد أصلاً، وانظر «المدونة» (1/ 81)، و «مواهب الجليل» (2/ 97). (¬2) إسناده تالف. أخرجه الدارقطني (1/ 398).

تبليغ تكبير الإمام للحاجة: يشرع أن يبلغ شخص تكبير الإمام عند الحاجة كأن يكون المسجد كبيرًا ولا يصل الصوت إلى الصفوف المتأخرة، والأصل في مشروعيته عند الحاجة فعل أبي بكر رضي الله عنه لما صلى بالناس في مرض موته صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة: «... فتأخَّر أبو بكر رضي الله عنه وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، وأبو بكر يُسمعُ الناس التكبير» (¬1). «أما التبليغ خلف الإمام لغير حاجة فهو بدعة غير مستحبة باتفاق الأئمة» (¬2) اهـ. والله أعلم. استخلاف الإمام غيره: إذا عرض للإمام -وهو في الصلاة- عذر كأن أحدث أو ذكر أنه محدث ونحو ذلك، فإن له أن يستخلف من المأمومين من يتمُّ بهم الصلاة والأصل في هذا: 1 - حديث سهل بن سعد في قصة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم وصلاة أبي بكر بالناس، وفيه: «... فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة ... ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ...» الحديث (¬3). 2 - حديث عمرو بن ميمون -في قصة طعن عمر بن الخطاب وهو في الصلاة- وفيه: «... فما هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني -أو أكلني- الكلب، حين طعنه ... وتناول عمرُ يَدَ عبد الرحمن بن عوف فقدَّمه ... فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة ..» الحديث (¬4). وكان هذا بحضرة الصحابة وأقروا عمر على استخلاف عبد الرحمن ليتم بهم ولم ينكر منهم أحد فكان إجماعًا. 3 - وعن خالد بن اللجلاج أن عمر بن الخطاب «صلى يومًا للناس فلما جلس في الركعتين الأوليين أطال الجلوس، فلما استقبل قائمًا نكص خلفه وأخذ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (712)، ومسلم (418). (¬2) «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام (23/ 403). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (684)، ومسلم (431). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3700).

بيد رجل من القوم فقدمه مكانه ...» (¬1) وذكر أنه مرَّ بامرأة من أهله ثم وجد في الصلاة بللاً. 4 - وعن أبي رزين قال: «أمَّنا عليٌّ فرعف، فأخذ رجلاً فقدَّمه، وتأخر» (¬2). وهنا مسألتان: [1] من استخلفه الإمام، يصلي تمام صلاته أم صلاة إمامه الذي استخلفه؟ (¬3). وفائدة هذه المسألة تظهر إذا كان من استخلفه الإمام مسبوقًا بركعة -مثلًا- واستُخلف في الثانية، فالأظهر أنه يتم تلك الركعة بهم، ثم إذا سجد سجدتيها أشار إليهم فجلسوا، وقام هو إلى ثانيته، فإذا أتمها جلس وتشهد، ثم قام وقاموا معه فأتم بهم الركعتين أو الركعة (في المغرب) فإن كانت الصبح فكذلك ويسلم ويسلمون معه، وكذا. وقال أبو حنيفة ومالك: بل يصلي بهم الإمام المستخلَف على حكم صلاة الذي استخلفه، والمعنى على مثالنا السابق: أن يصلي بهم الركعة الأولى له (الثانية لهم) ثم يجلس للتشهد على حكم صلاة الإمام الأول!! ثم يتم بهم الصلاة، وفيه نظر لأن الإمام الأول الذي خرج قد بطلت إمامته، وهم إنما يتبعون الإمام المستخلَف ولا يصلي هو إلا صلاة نفسه، فيتبعونه فيما يلزمهم، ولا يتبعونه فيما لا يلزمهم، بل يقفون على حالهم، ينتظرونه حتى يبلغ إلى ما هم فيه فيتبعونه حينئذ، والله أعلم. [2] إذا صلى الإمام بهم ثم ذكر أنه كان محدثًا بعد ما سلَّم: فقال الجمهور، منهم مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والمزني وغيرهم: يعيد هو ولا يعيدون، وقالت طائفة منهم أبو حنيفة وأصحابه والثوري وغيرهم: يعيد ويعيدون. وبالقول الأول أقول، وهو المروي عن عمر وابنه عبد الله، وعثمان وعلي (¬4). ¬

(¬1) إسناده لين: أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 241)، والبيهقي (3/ 114). (¬2) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (3670)، وابن المنذر (4/ 242)، والبيهقي (3/ 114). (¬3) انظر «المحلى» لابن حزم (4/ 220). (¬4) «الأوسط» لابن المنذر (4/ 212).

أحكام المسبوق

أحكام المَسْبُوق إدراك الجماعة: إدراك الجماعة على نوعين: [1] إدراك فضيلة الجماعة: وهو يحصل باشتراك المأموم مع الإمام في جزء من صلاته، ولو في القعدة الأخيرة قبل السلام، وهذا مذهب الجمهور: الحنفية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية وبعض المالكية (¬1). وهو الصحيح لأنه لو لم يدرك فضل الجماعة بذلك لمنع من الاقتداء، لأنه يكون حينئذ زيادة بلا فائدة، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فأتموا» (¬2). وعن رجل من أهل المدينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «سمع خفق نعلَيَّ وهو ساجد، فلما فرغ من صلاته قال: «من هذا الذي سمعتُ خفق نعليه» قال: أنا يا رسول الله، قال: «فما صنعت؟» قال: وجدتك ساجدًا فسجدت، فقال: «هكذا فاصنعوا، ولا تعتدُّوا بها، من وجدني راكعًا أو قائمًا أو ساجدًا، فليكن معي على حالي التي أنا عليها» (¬3). لكن ثوابه يكون دون ثواب من أدركها من أولها، والله أعلم. [2] إدراك حكم الجماعة وما يترتَّب عليها: المراد بإدراك حكم الجماعة: ثبوت الأحكام المترتبة على اعتباره مؤتمًّا بالإمام كسجوده لسهو الإمام، وكصلاته الجمعة ركعتين، ونحو ذلك. وأظهر أقوال العلماء: أن حكم الجماعة لا يثبت إلا بإدراك ركعة كاملة مع الإمام (¬4) لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (¬5). وهو مذهب المالكية واختاره شيخ الإسلام (¬6). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (1/ 483)، و «الدسوقي» (1/ 320)، و «مغنى المحتاج» (1/ 231)، و «كشاف القناع» (1/ 460). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (636)، وغيره وقد تقدم. (¬3) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 284) بسند صحيح، وله شاهد عند الترمذي (591) بسند ضعيف، وآخر عند أبي داود. (¬4) على الخلاف المشهور فيما تُدرك به الركعة، وسيأتي تحريره قريبًا. (¬5) صحيح: تقدم تخريجه وهو متفق عليه. (¬6) «الدسوقي» (1/ 320)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 330ن 331).

إدراك الركعة: اختلف أهل العلم في القدر الذي يكون به المأموم مدركًا الركعة معتدًّا بها مع إمامه، على قولين مشهورين: القول الأول: تدرك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام: وهو مذهب الجماهير: الأئمة الأربعة وغيرهم (¬1)، وبه قال ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة، وحجة هذا القول: 1 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (¬2) وحملوا لفظ «ركعة» على أن المراد الركوع. 2 - وأيَّدوا هذا الحمل برواية ابن خزيمة لحديث أبي هريرة بلفظ «من أدرك ركعة من الصلاة [قبل أن يقيم الإمام صلبه] فقد أدرك» (¬3) قالوا: فدلَّ على أن المراد بالركعة الركوع!! 3 - ما رُوى عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدُّوها شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة» (¬4). 4 - حديث أبي بكرة أنه: انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ» (¬5). قالوا: هو ظاهر في أنه اعتدَّ بها، ولم يؤمر بإعادتها، ولا يمكن أنه قرأ الفاتحة فيها، وأما قوله «فلا تعد» فهو نهي عن الدخول في الصلاة قبل بلوغ الصف. ¬

(¬1) «المبسوط» (2/ 95)، و «فتح القدير» (1/ 483)، و «المدونة» و «الأم» (1/ 135)، و «المجموع» (4/ 111)، و «المغنى» (1/ 299)، و «الفروع» (1/ 587)، و «طرح التثريب» (2/ 365)، و «حكم من أدرك الركوع» للصنعاني. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (580)، ومسلم (607). (¬3) منكر بهذا اللفظ: أخرجه ابن خزيمة (1595)، والبيهقي (2/ 89)، والدارقطني (1/ 346)، والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 398)، وجعل الزيادة من كلام الزهري، وأخرجه البخاري في «جزء القراءة» (ص: 47) من نفس الطريق بدونها. (¬4) منكر: أخرجه أبو داود (893)، والدارقطني (1/ 347)، والحاكم (1/ 216)، والبيهقي (2/ 89) وفي سنده يحيى بن أبي سليمان، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم مضطرب الحديث ليس بالقوي، وقد قواه الألباني في «الإرواء» (2/ 261)، و «الصحيحة» (1188) بما لا يسلَّم له فليراجع. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (783) وغيره.

5 - عن ابن عمر قال: «إذا جئتَ والإمام راكع فوضعتَ يديك على ركبتيك قبل أن يرفع رأسه، فقد أدركت» (¬1). 6 - وعن زيد بن وهب قال: خرجت مع عبد الله بن مسعود من داره إلى المسجد، فلما توسَّطنا المسجد ركع الإمام، فكبَّر عبد الله ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا راكعين حتى انتهينا إلى الصف، حتى رفع القوم رءوسهم، قال: فلما قضى الإمام الصلاة قمتُ أنا -وأنا أرى لم أُدرك- فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني وقال: «إنك قد أدركتَ» (¬2). 7 - وعن أبي أمامة بن سهل قال: «رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والناس ركوع، فمشى حتى أمكنه أن لا يصل إلى الصف وهو راكع، كبَّر فركع، ثم دبَّ وهو راكع حتى وصل الصف». وفي لفظ عن خارجة بن زيد: «... ثم يعتدُّ بها، إن وصل إلى الصف أو لم يصل» (¬3). القول الثاني: لا يعتد بالركعة التي لا يقرأ فيها المسبوق الفاتحة خلف الإمام: وهو مذهب البخاري وابن حزم، وتقي الدين السبكي من الشافعية ورجَّحه الشوكاني والعلامة المعلَّمي اليماني وغيرهم (¬4)، واستدلوا بما يلي: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (¬5). قالوا: فمن أدرك الركوع فقد فاتته الوقفة وقراءة أم القرآن وكلاهما فرض لا تتم الصلاة إلا به، وهو مأمور بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء ما سبقه وإتمام ما فاته، فلا يجوز تخصيص شيء من ذلك بغير نصٍّ آخر، ولا سبيل إلى وجوده. 2 - أما حديث: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» فهو حق وهو ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 243)، والبيهقي (2/ 90). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 255)، والطحاوي (1/ 397)، والبيهقي (2/ 90). (¬3) صحيح: أخرج الرواية الأولى الطحاوي (1/ 398)، والثانية البيهقي (2/ 91) وغيره، وانظر «الإرواء» (2/ 264). (¬4) «القراءة خلف الإمام» (164)، و «المحلى» (3/ 243)، و «نيل الأوطار» (2/)، و «هل يدرك المأموم الركعة» للمعلمي (ص: 43). (¬5) صحيح: تقدم تخريجه.

حجة عليهم، لأنه مع ذلك لا يسقط عنه قضاء ما لم يدرك من الصلاة بلا خلاف، وليس في الحديث أنه إن أدرك الركوع فقد أدرك الوقفة، قلت: فحملوا لفظ «ركعة» على الركعة الكاملة وهذا حقيقة اللفظ. 3 - أما زيادة «قبل أن يقيم الإمام صلبه» فلا تصح، وغاية الأمر أن يكون أحد الرواة توهَّم أن معنى الحديث: من أدرك مع الإمام الركوع فقد أدرك الركعة، فزاد هذه الزيادة تفسيرًا في زعمه وقد جوَّز بعضهم أن تكون من زيادة الزهري فربما التبس على بعض الضعفاء. 4 - وكذلك حديث: «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود .... الحديث» فضعيف لا يحتج به. 5 - وأما حديث أبي بكرة فلا حجة لهم فيه أصلاً، لأنه ليس فيه أنه اجتزأ بتلك الركعة وأنه لم يقضها. 6 - وأما الآثار عن الصحابة فهي معارضة بقول أبي هريرة «أنه لا يعتد بالركعة حتى يقرأ بأم القرآن» وليس قول بعضهم بحجة على الآخر. الراجح في المسألة: بعد مطالعة أدلة الفريقين فالذي يظهر لي أن أدلة الجمهور لا يُطمأنَّ بمثلها إلى إسقاط رُكني القيام وقراءة الفاتحة، والأصلُ بقاءُ النصوص على عمومها، واشتغالُ الذِّمة بالصلاة كاملة، نعم، لا يُنكر أن للقول بالإدراك قوةً ما لذهاب جماعة من علماء الصحابة إليه فلا لوم على من قَوِيَ عنده ذلك، وأما أنا فلا أزال متوقفًا، وأرى أن من دخل فوجد الإمام راكعًا، ينتظر حتى يرفع من ركوعه ثم يدخل معه ولا يعتد بها؛ خروجًا من الخلاف واحتياطًا لدينه، والله تعالى أعلم. فوائد تتعلق بالمسألة السابقة (على مقتضى مذهب الجمهور): [1] هل يركع دون الصف لإدراك الركوع؟ قد تقدم أن أبا بكرة لما ركع دون الصف قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ» (¬1) فنهاه عن العود إلى الركوع دون الصف. وأما حديث عبد الله بن الزبير أنه قال على المنبر: «إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعًا حتى يدخل في الصف، فإذن ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا.

ذلك السنة» (¬1) فإنه على ما في إسناده من كلام يسير، وما في قوله (ذلك سنة) من الخلاف في رفعه، فإنه على كل حال لا يقوى على معارضة حديث أبي بكرة الصحيح، نعم قد ثبت هذا من فعل ابن مسعود وغيره، لكن قد ثبت النهي عنه عن غيره من الصحابة كأبي هريرة، وأُبيِّ بن كعب. فالأولى أن لا يركع دون الصف لصحة النهي وعدم قوة المعارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (¬2) والله أعلم. [2] هل يشترط الاطمئنان في الركوع لإدراك الركعة؟ (¬3). قال بعض الفقهاء: يشترط أن يطمئن المأموم في الركوع قبل ارتفاع الإمام عن حدِّ الركوع المجزئ وأن يجتمع معه في الاطمئنان، وقال كثير منهم: يدرك الركعة بالركوع إن اطمأَّن هو. وبعضهم أطلق، فلم يتعرض لاشتراط الاطمئنان. [3] إذا شك في إدراك الركوع مع الإمام (¬4): فالصحيح أنه لا يُدرك لأن الأصل عدمه، ولأن الحكم بالاعتداد بالركعة بإدراك الركوع -عند من يقول به- رخصة، فلا يصار إليه إلا بيقين. وقيل: يكون مدركًا لأن الأصل بقاء ركوع الإمام وعدم الارتفاع حتى يثبت ارتفاعه بيقين. [4] هل تجزئه تكبيرة واحدة عند إدراك الركوع؟ (¬5). إذا أدرك الإمام في حال الركوع، فإنه تجزئه تكبيرة واحدة، فيكبِّر للإحرام، فيجزئه عن تكبيرة الركوع، ولو كبَّر تكبيرتين: إحداهما للإحرام والأخرى للركوع لكان أحسن. فائدة: لابد أن يأتي بتكبيرة الإحرام قائمًا، فإن أتى بها أو ببعضها بعد أن انحنى لم تجزئه لأنه أتى بها في غير محلها ولأن القيام فيها ركن. ¬

(¬1) رجاله ثقات: أخرجه الحاكم (1/ 214)، وابن خزيمة (1571)، والبيهقي (3/ 106) من طريق ابن جريج عن عطاء، وابن جريج مدلس وقد عنعنه، على أن بعضهم يحمل روايته عن عطاء على الاتصال. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «المبدع» (2/ 48)، و «الإنصاف» (2/ 224)، و «المجموع» (4/ 113). (¬4) «الإنصاف» (2/ 224)، و «المجموع» (4/ 114). (¬5) «الإنصاف» (2/ 224)، و «المجموع» (4/ 112)، و «قواعد ابن رجب» (القاعدة 18).

[5] هل ينتظر الإمام إذا أحسَّ بالداخل ليدرك الركوع أو الجماعة؟ يُشرع للإمام أن يطوِّل الركعة الأولى أكثر من الثانية، ليدرك الناس الركعة الأولى، كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم: فعن أبي قتادة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأولين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانًا، ويطوِّل في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح [فظننا أنه يريد أن يدرك الناس الركعة الأولى» (¬1). وعن أبي سعيد قال: «لقد كانت الصلاة تُقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضَّأ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطوِّلها» (¬2). ومن هنا أخذ بعض القائلين، بإدراك الركعة بالركوع: أن الإمام إذ أحس بداخل -وهو في الركوع- فإنه ينتظره ليدرك الركعة، ما لم يشقَّ انتظاره عليهم، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق (¬3). تكرار الجماعة في المسجد الواحد (¬4): المسجد لا يخلو من أن يكون له أحد وصفين: [1] مسجد في السوق، أو في طريق الناس وممرِّهم: يتعاقب عليه الناس فوجًا بعد فوج، فهذا يجوز تكرار الجماعة فيه بالاتفاق، من غير كراهة. [2] مسجد حيٍّ له إمام راتب: فهذا هو محل الخلاف بين العلماء (¬5)، والتحقيق أن يقال: إن تكرار الجماعة فيه له حالتان: الأولى: أن يكون أمرًا عارضًا، والأصل أن الجميع - إلا من تأخر لعذر- يصلون مع الإمام الراتب، فأحيانًا يدخل اثنان أو أكثر وقد سلَّم الإمام، فيُشرع ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (776)، ومسلم (451)، وأبو داود (798)، والزيادة له. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (454)، والنسائي (2/ 164)، وابن ماجه (825). (¬3) «المغنى» (1/ 236)، و «نيل الأوطار» (3/ 166). (¬4) «ابن عابدين» (1/ 331)، و «البدائع» (1/ 153)، و «الدسوقي» (1/ 332)، و «المغنى» (2/ 180)، و «كشاف القناع» (1/ 457)، و «المجموع» (4/ 221)، و «الأم» (1/ 180)، و «الأوسط» (4/ 215). (¬5) فأجازه عطاء والحسن والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق من غير كراهة، وكرهه الجمهور في الجملة على اختلاف بينهم في تقييد هذه الكراهة.

لهم أن يقيموا جماعة أخرى من غير كراهة، والأصل في هذا حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» (¬1). وقد فعله أنس بن مالك، فعن أبي عثمان قال: «أتانا أنس ابن مالك في مسجد بني ثعلبة فقال: «صليتم؟» -وذلك صلاة الغداة- فقلنا: نعم، فقال لرجل: أذِّن، فأذَّن وأقام ثم صلى في جماعة» (¬2). وعن سلمة بن كهيل أن «ابن مسعود دخل المسجد» وقد صلوا، فجمع بعلقمة والأسود ومسروق» (¬3). ولا يُعرف لهما مخالف من الصحابة، ولأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد كما تقدم. الحالة الثانية: أن يكون أمرًا معتادًا راتبًا متواطأ عليه، كأن يتفق كل طائفة (أصحاب مذهب أو نحو ذلك) على أن يصلوا في ناحية من المسجد أو في وقت محدد غير وقت الطائفة الأخرى، فهذا لا شك في كراهته لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدر الأول، ولما فيه من تفرُّق كلمة المسلمين، ولما فيه من الدعوة إلى الكسل عن الجماعة الأولى بحجة انتظار الثانية، فيحصل التواني عن الحضور. وهذا هو ملحظ مالك والشافعي حينما كرها تكرار الجماعة في المسجد الواحد، كما صرَّحا به، والله أعلم. من صلى منفردًا ثم أتى مسجد جماعة فليصلِّ معهم: وهذا مستحب لتحصيل فضل الجماعة، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين رآهما خلف الصف لم يصليا -وقد صليا في رحالهما-: «فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكما نافلة» (¬4). وعن أبي ذرٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون ¬

(¬1) صحيح بطرقه: أبو داود (574)، والترمذي (220)، وأحمد (3/ 5، 45) وغيرهم. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 321)، وعبد الرزاق (3417)، وابن المنذر (4/ 215). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 323)، وابن المنذر (4/ 216)، وله شاهد عند عبد الرزاق (2884). (¬4) صحيح: تقدم مرارًا.

ما يفعل بعد انقضاء الصلاة

الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فَصَلِّ، فإنها لك نافلة» (¬1). وعلى استحباب الإعادة مع الجماعة اتفق أهل العلم، ولهم تفصيلات محلُّها كتب الفروع، ومن ذلك استثناء المغرب -عند الحنفية والمالكية والحنابلة (¬2) - قالوا: فلا تعاد لأنها وتر النهار وكذلك الوتر، وقد تقدم تحريره. فإن كان صلَّى الفرض في جماعة فهل يعيده إذا أتى الجماعة؟ (¬3). الظاهر أنه يستحب كذلك، وبه قال الشافعية والحنابلة، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين: «صليتما» يصدق بالانفراد والجماعة، ولعموم قوله: «فإنها لكما نافلة» وقوله لأبي ذر: «فإنها لك نافلة». وقد منع الإعادة المالكية واستثنوا من ذلك المسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس لفضل تلك البقاع، والأول أظهر، والله أعلم. ما يُفْعَل بعد انقضاء الصلاة استقبال الإمام الناس بعد التسليم ومكثه يسيرًا قبل انصرافه: عن سمرة بن جندب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى أقبل علينا بوجهه» (¬4). قيل: الحكمة في استقبال المأمومين أن يعلمهم ما يحتاجون إليه، كما في حديث زيد بن خالد الجهني قال: صلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» ... الحديث (¬5). وقيل غير ذلك، وعلى كل حال فهذه هي السنة الحَرِيَّة بالتأسي. ويستحب أن يكون في استقباله لهم إلى جهة يمينه أقرب، فعن البراء قال: «كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه ... الحديث» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (648)، وقد تقدم. (¬2) «ابن عابدين» (1/ 479)، و «البدائع» (1/ 287)، و «الدسوقي» (1/ 320)، و «المواهب» (2/ 84)، و «المغنى» (2/ 111)، و «كشاف القناع» (1/ 458). (¬3) المراجع السابقة مع «المهذب» (1/ 102)، و «أسنى المطالب» (1/ 212). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (845)، ومسلم (2275). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (709)، وأبو داود (615).

فائدة: يستحب للإمام -قبل استقبال الناس- أن يمكث مستقبلاً القبلة مقدار ما يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم (592) عن عائشة وعن البراء بن عازب قال: «رَفَقْتُ الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتُ قيامه، فركعته فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف، قريبًا من السواء» (¬1). وعن أم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مكانه يسيرًا ...» (¬2). سرعة انصراف النساء عقب الصلوات: عن أم سلمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مكانه يسيرًا» قال ابن شهاب: فنرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء» (¬3). وعنها: «أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنَّ إذا سلَّمْنَ من المكتوبة قُمْنَ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرِّجال» (¬4). «وهذا محلُّه إذا صلى النساء خلف الرجال مباشرة، وكان خروجهم جميعًا من باب واحد، أما إذا كان هناك باب مستقلٌ للنساء، وهنَّ محتجبات عن الرجال فلهنَّ أن يبقَيْن في مصلاَّهن يسبِّحن ويحمدن ويكبرن ويهلِّلن بالأذكار المعهودة دبر كل صلاة فإن الملائكة تصلي عليهن ما دُمْن في مصلاَّهن ما لم يُحدثن» (¬5). قلت: والمستحب أن يكون للنساء باب خاص -لا سيما في زمان الفتنة- فلا يدخل منه الرجال، والأصل في هذا قول عمر بن الخطاب: «لو تركنا هذا الباب للنساء» فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (471)، وأبو داود (854)، والنسائي (3/ 66)، وأحمد (4/ 294). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (849)، وأبو داود (1040)، والنسائي (3/ 67)، وابن ماجه (932). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (849)، وأبو داود (1040)، والنسائي (3/ 67)، وابن ماجه (932). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (866) وغيره. (¬5) نحوه في «جامع أحكام النساء» لشيخنا -حفظه الله- (1/ 287) وانظر كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 156). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (463)، عن نافع عن عمر بهن وهو محمول على أنه أخذه عن ابن عمر والله أعلم.

طرق من أحكام المساجد

ما يقال عند الخروج من المسجد: عن أبي حميد أو أبي أسيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» (¬1). طرق من أحكام المساجد أفضل المساجد: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاةٌ في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (¬2). وأفضل المساجد: المسجد الحرام ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى لهذا الحديث والآتي بعده. لا تُشدُّ الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» (¬3). فضل بناء المساجد: عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدًا، يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتًا في الجنة» (¬4). كراهة زخرفة المساجد والمبالغة في رفعها فوق الحاجة: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد» (¬5). وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرت بتشييد المساجد» (¬6) [قال ابن عباس: لتُزَخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى]» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (713)، وأبو داود (465)، والنسائي (3/ 53). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1190). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (450)، ومسلم (533). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (449)، والنسائي (689)، وابن ماجه (739)، وأحمد (11931). (¬6) يعني: المبالغة برفع بنائها فوق قدر الحاجة. (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (448)، وابن حبان (1615)، والبيهقي (2/ 438)، وأبو يعلى (2454)، وعبد الرزاق (5127).

وعن عمر أنه أمر ببناء المساجد فقال: «أَكِنَّ الناس من المطر، وإيَّاك أن تُخَمِّر أو تُصفِّر فتفتن الناس» (¬1). تنظيف المساجد وتطييبها: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر ببناء المساجد في الدور، وأمر بها أن تُنظَّف وتُطيَّب» (¬2). وعن أبي هريرة «أن رجلاً أسود -أو امرأة سوداء- كان يقمُّ المسجد، فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه ...» الحديث (¬3). وفي لفظ عنه: «إن امرأة كانت تلتقط الخرق والعيدان في المسجد» (¬4). وعن أنس قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمَّر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكَّته، وجعلت مكانها خلوقًا (¬5) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحسن هذا» (¬6). صيانتها عن القذر والأوساخ: عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله وقراءة القرآن» (¬7). وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها» (¬8). وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُرضت عليَّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يُماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها: النخامة تكون في المسجد لا تُدفن» (¬9) قال النووي في شرحه: ¬

(¬1) علَّقه البخاري في «باب بنيان المسجد» بصيغة الجزم. (¬2) مرسل: أخرجه أبو داود (455)، والترمذي (594)، وابن ماجه (759)، وفي طرقه اختلاف على هشام بن عروة، والصواب -كما قال الدارقطني في «العلل» - عن هشام عن أبيه دون ذكر عائشة، وانظر «الإصابة» (5/ 361). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (458)، ومسلم (956). (¬4) حسن: أخرجه ابن خزيمة (1300) وغيره. (¬5) الخلوق: نوع من الطيب مركب من زعفران وغيره. (¬6) حسن: أخرجه النسائي (2/ 25)، وابن ماجه (762). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (537) في قصة الرجل الذي بال في المسجد. (¬8) صحيح: أخرجه مسلم (552)، وأبو داود (475)، والترمذي (572)، والنسائي (2/ 51). (¬9) صحيح: أخرجه مسلم (553).

«هذا ظاهره أن هذا القبح والذم لا يختص بصاحب النخامة، بل يدخل فيه هو وكل من رآها ولا يزيلها بدفن أو حكٍّ أو نحوه» اهـ. ويؤيد هذا حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقًا في جدار القبلة فحكَّه» (¬1). فائدة: من اضطُرَّ إلى التنخُّم في الصلاة ماذا يصنع؟ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس فقال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتخَّع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يُستقبل فيُتنخَّع في وجهه؟ فإذا تنخَّع أحدكم فيتنخَّع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا» فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض (¬2). منع نشد الضالة في المسجد: المساجد أماكن للعبادة والذكر والطاعة فلا يجوز أن تنشد فيها الضالة (¬3)، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا» (¬4). منع البيع والشراء في المسجد: فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه الشِّعر، وأن ينشد فيه الضالة، وعن الحِلق يوم الجمعة قبل الصلاة» (¬5). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم ن يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك ...» (¬6). وقد حمل الجمهور النهي في هذه الأحاديث على الكراهة. فائدة: أما البيع على باب المسجد -خارجه- فجائز لا كراهة فيه، يدلُّ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (406)، ومسلم (547). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (550)، والنسائي (1/ 163)، وابن ماجه (1022). (¬3) نشد الضالة: طلب الشيء الضائع المفقود. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (568)، وأبو داود (4790)، وابن ماجه (767). (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (1079)، والترمذي (322)، والنسائي (2/ 47)، وابن ماجه (766). (¬6) حسن: أخرجه الترمذي (1321).

على هذا حديث ابن عمر «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلَّة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتَ هذه فلبستَها يوم الجمعة؟ ....» الحديث (¬1). النهي عن إنشاد الشعر القبيح في المسجد: قد تقدم حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن يُنشد فيه الشعر ...». وهذا النهي مختص بإنشاد الشعر القبيح، وبما يخرج عن حد الاعتدال بحيث يُخرج المسجد عما بُني له، فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت هجاء المشركين في المسجد: فعن أبي هريرة قال: مرَّ عمر بحسَّان وهو ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟» قال: نعم (¬2). النهي عن رفع الصوت في المسجد: ففي حديث السائب بن زيد أن عمر رأى رجلين من أهل الطائف يرفعان أصواتهما فقال: «لو كنتا من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3). وقد تقدم قريبًا نهي المصلين عن التشويش على بعضهم ورفع الأصوات ولو بقراءة القرآن. قلت: وهذا محمول على ما إذا تفاحش ارتفاع الصوت، وأما إذا لم يتفاحش فيباح للمصلحة كطلب الحق ونحوه، كما في حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دَيْنًا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما ...» (¬4). الحديث، وفيه أنه لم ينههما عن ذلك، وكذلك يباح رفع الصوت بالعلم والخير. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (886)، ومسلم (2068). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (453)، ومسلم (2485). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (470). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (457).

جواز التحدُّث بالكلام المباح في المسجد: فعن جابر بن سمرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاَّه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام» قال: «وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم» (¬1). جواز الأكل والشرب والنوم في المسجد: فعن عبد الله بن الحارث قال: «كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الخُبز واللَّحم» (¬2). وقد ثبت أن امرأة سوداء كانت تسكن في المسجد (¬3)، وكذلك أهل الصُّفَّة (¬4). وعن ابن عمر: «أنه كان ينام -وهو شاب أعزب- في المسجد» (¬5). جواز اللعب في المسجد لمصلحة: فعن عائشة قالت: «جاء حبش يزفنون في المسجد في يوم عيد، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فوضعت رأسي على منكبيه، فجعلت أنظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا التي انصرفت» (¬6). النهي عن تشبيك الأصابع في المسجد: وقد تقدم تحريره. جواز إدخال المشرك المسجد للمصلحة، عدا المسجد الحرام: لحديث أبي هريرة في قصة ربط ثمامة بن أثال -وكان إذ ذاك مشركًا- في سارية من سواري المسجد، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإطلاقه في اليوم الثالث «فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فأسلم» (¬7). وأما المسجد الحرام فلا يحلُّ للمشرك دخوله لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (670). (¬2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (330). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (439). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6452)، والترمذي (479). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (7031)، ومسلم (2479) وغيرهما بنحوه. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5190)، ومسلم (892) واللفظ له. (¬7) صحيح: تقدم تخريجه في «الغُسل». (¬8) سورة التوبة، الآية: 28.

صلاة الجمعة

وهذا مذهب الشافعي وابن حزم (¬1). تحريم بناء المساجد على القبور: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬2). وعن جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» (¬3). صلاة الجمعة (¬4) من فضائل يوم الجمعة: 1 - يوم الجمعة أفضل الأيام عند الله تعالى: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة» (¬5). وقد أقسم الله تعالى به في كتابه فقال سبحانه: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} (¬6). وقال أبو هريرة: «اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة» (¬7). 2 - وقد أوقع الله تعالى فيه أمورًا عظيمة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي يوم الجمعة مصيخة (¬8) حتى تطلع ¬

(¬1) «المحلى» (4/ 243). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (531). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (532)، والنسائي في «الكبرى» (11123)، وأحمد (1/ 195). (¬4) هذا الباب مُستَلٌّ باختصار من كتابي: «اللمعة في آداب وأحكام الجمعة». (¬5) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (2/ 457)، وعبد الرزاق (5563)، وابن حبان (2759)، والبغوي (1062)، وله شواهد. (¬6) إسناده صحيح: أخرجه ابن جرير (30/ 82)، والحاكم (2/ 519)، والبيهقي (3/ 170) وقد روى مرفوعًا ولا يصح. (¬7) سورة البروج، الآية: 3. (¬8) أي: مستمعة مصغية.

الشمس شفقًا من الساعة، إلا ابن آدم، وفيه ساعة لا يصادفها مؤمن وهو [قائم] يصلي فيسأل الله فيها شيئًا إلا أعطاه إياه» (¬1). 3 - أنه يوم عيد للمسلمين، أكمل الله فيه دينه وأتم نعمته: فعن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال: أيُّ آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (¬2). قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة» (¬3). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبر يل بمثل المرآة البيضاء، فيها نكتة سوداء، قلت: يا جبريل، ما هذه؟ قال: هذه الجمعة، جعلها الله عيدًا لك ولأمَّتِك ...» (¬4). 4 - أن في صلاة الجمعة وفي شهودها فضائل عظيمة: يأتي طرف منها في موضعه إن شاء الله. ما يُفعل ليلة الجمعة ويومها: 1 - يُكره تخصيص ليلة الجمعة بالقيام أو يومها بالصيام: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخصوا ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (854) مختصرًا، ومالك (1/ 108)، ومن طريقه أبو داود (1046)، والترمذي (491). (¬2) سورة المائدة، الآية: 3. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (45)، ومسلم (3017)، والترمذي (3043)، والنسائي (8/ 114). (¬4) حسن: أخرجه أبو يعلى (4213) وغيره بسند حسن. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1144)، والنسائي في «الكبرى» (2751)، وأحمد (2/ 444)، وأصله في البخاري (1985) بدون ذكر الصلاة.

2 - يستحب أن يقرأ في صلاة فجرها بالسجدة والإنسان: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة بـ «آلم تنزيل» [السجدة] في الركعة الأولى، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} (¬1) (¬2). تنبيهان (¬3): (أ) يظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدهم بهذه السورة قرأ سورة أخرى فيها سجدة، وهذا غلط، والحق أن السجدة جاءت تبعًا وليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها. (ب) لا يستحب أن يقرأ فيها سجدة أخرى، باتفاق الأئمة. 3 - ويُستحب الإكثار يوم الجمعة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: فعن أوس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خُلق آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ». فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أَرَمْتَ (أي: بليت) قال: «إن الله عز وجل حرَّم على الأرض [أن تأكل] أجساد الأنبياء» (¬4). 4 - ويستحب قراءة سورة الكهف: لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين» (¬5). 5 - الإكثار من الدعاء رجاء موافقة ساعة الإجابة: فقد تقدم في حديث أبي هريرة مرفوعًا: «فيه ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه ...» (¬6). ¬

(¬1) سورة الإنسان، الآية: 1. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (891)، ومسلم (880) وغيرهما. (¬3) «مجموع الفتاوى» (24/ 205)، و «زاد المعاد» (1/ 375). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1047)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1085)، وأحمد (4/ 8) وغيرهم. (¬5) صحيح: أخرجه الحاكم (2/ 368)، والبيهقي (3/ 249). (¬6) صحيح: تقدم قريبًا.

وساعة الإجابة آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة على الراجح: لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم الجمعة اثنتا عشرة -يريد ساعة- لا يوجد مسلم يسأل الله عز وجل شيئًا إلا أتاه الله عز وجل، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» (¬1). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوا الساعة التي تُرجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس» (¬2). حكم صلاة الجمعة: صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم مكلف إلا من استثناه الدليل، والأصل في فضلها الكتاب والسنة وإجماع الأمة: 1 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬3). 2 - عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رواح الجمعة واجب على كل محتلم وعلى من راح الجمعة، الغُسل» (¬4). 3 - وعن ابن عمر وأبي هريرة سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعود منبره: «لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجُمُعات، أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين» (¬5). 4 - وعن أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك ثلاث جُمع تهاونًا بها، طبع على قلبه» (¬6). 5 - وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: «لقد ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1046)، والنسائي (3/ 99) واللفظ له. (¬2) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (489)، ومن طريقه البغوي (1051)، وانظر «صحيح الترغيب» (793). (¬3) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬4) صحيح: أخرجه النسائي (3/ 89)، وأبو داود (342)، وابن الجارود (287)، والبيهقي (3/ 172). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (865)، والنسائي (3/ 88)، وابن ماجه (794)، والدارمي (1570). (¬6) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (1052)، والترمذي (500)، والنسائي (3/ 88)، وابن ماجه (1125).

هممتُ أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أُحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» (¬1). 6 - وقد أجمع المسلمون على وجوب الجمعة، وإنما الخلاف: هل هي من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات (¬2)، وقد ظهر من الأدلة السابقة أنها فرض على الأعيان، والله أعلم. ويستثنى من وجوب الجمعة عليه: الصبي، والمرأة، والعبد المملوك، والمريض، والمسافر وسائر أصحاب الأعذار، فإن صلاَّها أحدهم صحَّت منه وأسقطت عنه فرض الظهر. فعن طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق واجب على كل محتلم إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض» (¬3). وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك» (¬4). ومن الأعذار التي ترخص للمسلم التخلف عن الجمعة: البرد والمطر، لحديث ابن عباس: «أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، قال: فكأنَّ الناس استنكروا ذاك فقال: أتعجبون من ذا؟ قد فعل ذا من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض» (¬5). الاستعداد لصلاة الجمعة: الغُسْل لصلاة الجمعة: يجب على من جاء إلى صلاة الجمعة -من المخاطبين بها- أن يغتسل في ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (4398)، والنسائي (2/ 100)، والدارمي (2/ 171)، وابن ماجه (2041)، وأحمد (6/ 100). (¬2) «المغنى» (2/ 111) ط. الفكر، و «بدائع الصنائع» (1/ 256). (¬3) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (1067)، والدارقطني (2/ 3)، والبيهقي (3/ 183)، وانظر «الإرواء» (3/ 57). (¬4) حسن لشواهده: أخرجه الدارقطني (2/ 3)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 2425)، وانظر «الإرواء» (3/ 57). (¬5) تقدم تخريجه.

أصح قولي العلماء، للأدلة التي تقدم ذكرها في «موجبات الغُسل»، ومن ذلك: حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم محتلم» (¬1)، وحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» (¬2). ومفهومه أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة وبه قال الجمهور، فلا معنى لاغتسال من يرخَّصُ له في التخلف عن الجمعة (¬3). فائدتان: 1 - من أحدث بعد الاغتسال: فيجزئه الوضوء، فإن الحدث إنما يؤثر في الطهارة الصغرى، ولا يؤثر في المقصود من الغسل وهو التنظيف وإزالة الرائحة، ولأنه غسل كغسل الجنابة فلا يؤثر الحدث في إبطاله (¬4). 2 - من أَجْنب يوم الجمعة يجزئه غسل واحد: إذا أصابت الإنسان جنابة يوم الجمعة، فإنه يجزئه غسل واحد عن الجنابة والجمعة إذا نواهما، وهو قول أكثر أهل العلم، قالوا: وجدنا وضوءًا واحدًا وتيممًا واحدًا يجزئ عن جميع الأحداث الناقضة للوضوء، وغسلاً واحدًا يجزئ عن جنابات كثيرة، وغسلاً واحدًا يجزئ عن حيض أيام، وطوافًا واحدًا يجزئ عن عمرة وحج في القران، فوجب أن يكون كذلك كل ما يوجب الغسل. وخالف في هذا ابن حزم فقال بوجوب تعدد الغسل لتعدد أسبابه وأطال في نقد مذهب الجمهور فليراجعه من شاء (¬5). ما يستحب قبل الذهاب إلى الجمعة: 1 - مسُّ الطيب -إن وجده- إلا المحرم والمرأة: فعن سلمان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل الرجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طُهر، ويدهن من دهنه، ويمسُّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (879)، ومسلم (846). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (877)، ومسلم (844). (¬3) «فتح الباري» (2/ 417)، و «الأوسط» (4/ 48). (¬4) «المغنى» (2/ 99). (¬5) «الأوسط» (4/ 43)، و «المجموع» (4/ 365)، و «المغنى» (2/ 99)، و «المحلى» (2/ 45).

اثنين ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (¬1). وأما المحرم فلا يجوز له استعمال الطيب كما سيأتي في «الحج». وأما المرأة فالأدلة كثيرة ومتضافرة في تقرير تحريم خروجها متطيبة ولو للصلاة، ومن ذلك حديث زينب الثقفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شهدت إحداكن العشاء (وفي رواية: المسجد) فلا تطيَّب تلك الليلة» (¬2). 2 - دلك الأسنان بالسواك ونحوه: لحديث أبي سعيد مرفوعًا: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستَنَّ وأن يمسَّ طيبًا إن وجد ...» (¬3) والاستنان: دلك الأسنان بالسواك. ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة» (¬4). 3 - التزين بلبس أحسن الثياب، وأفضلها البياض: فعن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة ... كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها» (¬5) وخير الثياب البياض، لقوله صلى الله عليه وسلم: «البسوا من الثياب البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم» (¬6). 4 - اجتناب ما يُتأذى برائحته: كأكل البصل والثوم ونحوهما والتدخين، وقد تقدم الكلام على هذا في صلاة الجماعة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (883)، وأبو داود (1113)، والدارمي (1541)، والبغوي (1058). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (443)، والنسائي (2/ 260). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (887)، ومسلم (578). (¬5) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (343)، وأحمد (3/ 81)، والحاكم (1/ 283)، وابن حبان (2767). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (3878)، والترمذي (994)، والنسائي (8/ 205)، وابن ماجه (1472)، وأحمد (1/ 247).

أفعال المأمومين حال الخطبة

أفعال المأمومين حال الخُطبة 1، 2 - التبكير إلى المسجد، والدنو من الإمام: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر» (¬1). وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (¬2). وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها» (¬3). 3 - المشي إلى الجمعة، وعدم الركوب لها إلا لحاجة: عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة وغسَّل، وغدا وابتكر، ومشى ثم لم يركب، ودنا من الإمام، وأنصت ولم يلغ: كان له بكل خطوة عمل سنة صيامها وقيامها» (¬4). وعن عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار» (¬5). 4 - صلاة تحية المسجد قبل الجلوس: فعن جابر قال: دخل رجل يوم الجمعة -والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب- فقال: «أصليت؟» قال: لا، قال: «فصلِّ ركعتين» (¬6) وفي لفظ «قم فاركع ركعتين ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3211)، ومسلم (850). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (1108)، وأحمد (5/ 10). (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (496)، والنسائي (3/ 95)، وأبو داود (345)، وابن ماجه (1087). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (907). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (930)، ومسلم (875).

وتجوز فيهما» وفيه أنه إذا جلس ولم يصلِّ فيستحب أن يقوم ليصليهما -ولو كان الإمام يخطب- ويخففهما وله أن يزيد من التنفُّل ما شاء قبل خروج الإمام عند جمهور العلماء (¬1) لحديث سلمان المتقدم مرارًا: «... ثم يُصلِّي ما كتب اله ثم يُنصت إذا تكلَّم الإمام غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (¬2). فائدة: ليس للجمعة سنة قبلية: فإذا انتهى الأذان لم يجز أن يقوم الناس لصلاتها البتة (¬3) وهذا أصح قولي العلماء، وبه قال الحنفية ومالك والشافعي وأكثر أصحابه -خلافًا للنووي وغيره- وهو المشهور في مذهب أحمد (¬4)، وعليه تدلُّ السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته فإذا رقى المنبر أخذ بلال في أذان الجمعة، فإذا أكمله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل، وهذا كان رأي عين فمتى كانوا يصلون السنة؟ ومن ظن أنهم إذا فرغ بلال من الأذان قامُوا كلهم فركعوا ركعتين فهو أجهل الناس بالسنة. ومما يؤيد هذا حديث ابن عمر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة» (¬5). فهذا نص صريح في أن الجمعة عند الصحابة مستقلة بنفسها عن الظهر، فلما لم يذكر لها سنة إلا بعدها، عُلم أنه لا سنة لها قبلها، والله أعلم. وقد ذهب قوم من الشافعية -منهم النووي- إلى إثبات السنة القبلية للجمعة ولهم جملة استدلالات جمعتها والردود عليها في كتاب «اللمعة». 4 - عدم التحلُّق أو الاجتماع لدرس قبل الجمعة: لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تُنشد فيه الضالة، وأن ينشد فيه الشِّعر، ونهى عن التحلق مثل الصلاة يوم الجمعة» (¬6). ¬

(¬1) «شرح مسلم» للنووي (3/ 385). (¬2) صحيح: تقدم تخريجه. (¬3) إلا إذا جاء بعد انتهاء الأذان فله أن يصلي تحية المسجد ثم يجلس أو كان ناسيًا لها كما تقدم. (¬4) «الفتاوى الكبرى» لشيخ الإسلام (2/ 351)، و «زاد المعاد» (1/ 433)، و «طرح التثريب» (3/ 41). (¬5) صحيح: تقدم في «السنن الرواتب». (¬6) حسن: أخرجه أبو داود (1079) وغيره.

أذان الجمعة

ولهذا التحلق معنيان، لغوي وشرعي: فأما اللغوي، فمن الحلقة، وهي الجمعة من الناس مستديون كحلقة الباب والتحلُّق تفعُّل منها، وهو أن يتعمدوا ذلك. وأما الشرعي: فهو الاجتماع للدرس ولو من غير تحلُّق، وكلاهما داخل في النهي الوارد في الحديث (¬1)، والله أعلم. أذان الجمعة الأذان إذا جلس الخطيب على المنبر: عن السائب بن يزيد قال: «إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان خلافة عثمان رضي الله عنه -وكثروا- أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك، فلم يعب الناس ذلك عليه، وقد عابوا عليه حين أتَّم الصلاة بمنى» (¬2) وفي هذا الحديث فائدتان: الأولى: أن الأذان يوم الجمعة يكون جلوس الإمام على لمنبر. الثانية: أن السنة الأذان الواحد للجمعة حين جلوس الإمام، وأما فعل عثمان رضي الله عنه فلا يحسن الاقتداء به في عصرنا، فهو إنما زاد الأذان الأول لعلة معقولة وهي كثرة الناس وتباعد منازلهم عن المسجد النبوي فأراد إعلامهم بدخول وقت الصلاة قياسًا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، فمن صرف النظر عن هذه العلة، وتمسك بأذان عثمان مطلقًا لا يكون مقتديًا به صلى الله عليه وسلم بل هو مخالف له حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة التي لولاها لما كان لعثمان أن يزيد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه. ولا يخفى أن هذا الإعلام حاصل في عصرنا بدون زيادة هذا الأذان، إذ لا يكاد المرء يمشي خطوات حتى يسمع أذان الجمعة من على المنارات وقد وضع عليها الآلات المكبرة للأصوات مع انتشار «ساعات ضبط الوقت» ونحو ذلك (¬3). ¬

(¬1) انظر: «اللمعة في حكم الاجتماع للدرس قبل الجمعة» لمحمد موسى نصر. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (916)، وأبو داود (1087)، والترمذي (516)، والنسائي (3/ 101)، وابن ماجه (1135). (¬3) انظر: «الأجوبة النافعة» للألباني -رحمه الله- (ص: 28).

ومع هذا فقد كان ابن عمر ينكر على عثمان الأذان الأول، فيقول: «إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر، أذَّن بلال، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته أقام الصلاة، والأذان الأول بدعة» (¬1). وعلى كلٍّ فإن وجد السبب المقتضي للأخذ بأذان عثمان رضي الله عنه، وضع في مكان الحاجة والمصلحة وإلا فلا يزاد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، والله أعلم. لأذان الجمعة وقتان: (أ) عند الزوال وعند جلوس الإمام على المنبر: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن وقت الجمعة وقت الظهر بعد الزوال لأن الجمعة بدل عن الظهر (!!) إلا أنهم استحبوا تعجيلها في أول وقتها بعد الزوال واستدلوا: 1 - بحديث سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء» (¬2). 2 - وحديث أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (¬3). (ب) قبل الزوال إذا جلس الإمام على المنبر: وقد أجازه الإمام أحمد -رحمه الله- واستدل بالحديثين السابقين، فظاهرهما أن الصلاة هي التي كانت حين الزوال فدلَّ ذلك على أن الأذان قبل ذلك، وأصرح منهما: 3 - حديث جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا، فنزيحها حين تزول الشمس، يعني: النواضح» (¬4). وقد صحت عدة آثار عن الصحابة رضي الله عنهم تفيد جواز الأذان للجمعة قبل الزوال، منها: ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 48). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4168)، ومسلم (860). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (904)، وأبو داود (1084)، والترمذي (503)، وأحمد (3/ 128). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (858)، والنسائي (3/ 100)، وأحمد (3/ 331).

خطبة الجمعة وأحكام الخطيب

4 - عن أبي رزين قال: «كنا نصلي مع عليٍّ الجمعة، فأحيانًا نجد فيئًا وأحيانًا لا نجده» (¬1). 5 - عن عبد الله بن سلمة قال: «صلى بنا عبد الله (يعني: ابن مسعود) الجمعة ضحىً، وقال: خشيت عليكم الحر» (¬2). 6 - عن بلال العبسي: «أن عمَّارًا صلى بالناس الجمعة والناس فريقان: بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تزل» (¬3). 7 - وعن سماك بن حرب قال: «كان النعمان بن بشير يصلي بنا الجمعة بعد ما تزول الشمس» (¬4). يحرم البيع بعد أذان الجمعة: لقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ...} (¬5). والنهي -عند الجمهور- يشمل البيع والنكاح وسائر العقود، وقال الحنابلة، ووافقهم ابن حزم: لا يحرم غير البيع. وهل يصح البيع بعد الأذان؟ قولان للعلماء مبنيان على أن النهي هل يقتضي الفساد مطلقًا أم لا؟ والجمهور من الحنفية والشافعية وبعض المالكية على صحته لأن المنع منه لمعنى في غير البيع خارج عنه وهو ترك السعي، فكان البيع في الأصل جائزًا لكنه يكره تحريمًا. والمشهور عند المالكية والحنابلة أن البيع فاسد غير منعقد. خطبة الجمعة وأحكام الخطيب حكمها: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن خطبة الجمعة شرط لصحة الجمعة (¬6) واستدلوا بما يأتي: ¬

(¬1) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 18). (¬2) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 17)، وفي عبد الله بن سلمة كلام لكن لا يخشى فيه روايته لما حضره وشاهده. (¬3) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 18). (¬4) إسناده حسن: ذكره البخاري إشارة (2/ 449)، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 18). (¬5) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬6) «البدائع» (1/ 262)، و «ابن عابدين» (1/ 567)، و «المغنى» (2/ 74).

1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬1) والذكر في الآية: الخطبة، لأمرين: (أ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (¬2) فسمَّى الخطبة ذكرًا، وعليه فإذا كان السعي للخطبة واجبًا وهو وسيلة فيلزم منه وجوب الخطبة وهي الغاية. (ب) أن الله تعالى أمر بالسعي إلى ذكر الله من حين النداء، وبالتواتر القطعي كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أذن المؤذن خطب، فعُلم أن السعي إلى الخطبة واجب. 2 - مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على الخطبة في كل جمعة، ولم يصلها مرة بدونها. 3 - تحريم الكلام حين الخطبة ووجوب الاستماع للخطبة. فإن قيل: هذه الأدلة لا تدل على الشرطية؟! فيقال: هذه الصلاة وجبت بهذه الصفة التي واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قصر بها عما كان عليه العمل فإنه لم يؤدِّ ما وجب عليه، وهو واضح في الشرطية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (¬3) أي مردود باطل، ويدلُّ على هذا أنه إن لم يخطب يصلي أربعًا، والجمعة لا تكون أربعًا، فهي إذن ظهر. ويجب أن يخطب خطبتين واقفًا يجلس بينهما إلا لعذر: وهو مذهب الجمهور خلافًا للحنفية، ووجوبه ظاهر -كما تقدم- من المواظبة على الفعل الذي هو بيان لصفة هذه الصلاة الواجبة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتفى بخطبة واحدة وأنه خطب جالسًا، فعن جابر بن سمرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا ثم يجلس ثم يقوم فيخطب فمن نبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب، فقد -والله- صليت معه أكثر من ألفي صلاة». وفي رواية: «فما رأيته إلا قائمًا». وعن كعب بن عجرة أنه: «دخل المسجد -وعبد الله بن أم الحكم يخطب ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) صحيح: علَّقه البخاري (2697)، ووصله مسلم (1718) وغيره. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (862)، وأبو داود (1093)، والنسائي (3/ 109، 110)، والترمذي (507)، وأحمد (5/ 87).

قاعدًا- فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (¬1) (¬2). الحدُّ المجزئ في الخطبة: اختلفت أقوال العلماء في الحد المجزئ في الخطبة، والتحقيق أن يقال (¬3): «ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاد الرسول صلى الله عليه وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت، وأما اشتراط الحمد لله أو الصلاة على رسول الله أو قراءة شيء من القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاق مثل ذلك في خطبته لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم، ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه، وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقامًا ويقول مقالاً شرع بالثناء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أحسن هذا وأولاه، ولكن ليس هو المقصود بل المقصود ما بعده، ولو قال قائل إن من قام في محفل من المحافل خطيبًا ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولاً، بل كل طبع سليم يمجه ويرده، وإذا تقرر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتم وأحسن» اهـ. قلت: وهو السنة كما سيأتي إن شاء الله. ما يستحب في الخطبة: 1 - ابتداؤها بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله والتشهد: عن جابر قال: «كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، يحمد الله ويثني عليه [بما هو أهله ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله]» (¬4). ¬

(¬1) سورة الجمعة، الآية: 11. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (864)، والنسائي (3/ 102)، وابن أبي شيبة (2/ 112). (¬3) «الروضة الندية» (ص: 137). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (867).

وفي حديث أبي حميد الساعدي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد» (¬1). ويستحب أن يبدأ بخطبة الحاجة: فعن ابن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: «الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، [ثم قرأ ثلاث آيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬2) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (¬3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬4)» (¬5). وعن جابر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: «بُعثت أنا والساعة كهاتين» ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل ضلالة في النار ....» الحديث (¬6). وقد صح عن عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يستفتحان بهذا خطبة الجمعة وغيرها. 2 - تفخيم أمر الخطبة ورفع الصوت: وقد تقدم في حديث جابر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (926). (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬3) سورة النساء، الآية: 1. (¬4) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (6/ 89)، وابن ماجه (1892). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (867)، والنسائي (3/ 188)، وابن ماجه (45)، وأحمد (3/ 319). (¬7) صحيح: تقدم قريبًا.

3 - تقصير الخطبة وتطويل الصلاة: عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئينَّةٌ من فقهه، فأطيلوا هذه الصلاة، وأقصروا هذه الخطبة، فإن من البيان لسحرًا» (¬1) والمئنة: العلامة والمظنة. وعن جابر بن سمرة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا». وفي رواية: «لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، وإنما هنَّ كلمات يسيرات» (¬2). قلت: في تقصير الخطبة فائدتان: عدم الملل، وأنها أوعى للسامع وأحفظ له، لكن قد يستدعي فقه الخطيب وذكاؤه -أحيانًا- إطالة الخطبة لاقتضاء الحال ذلك، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة (ق) وبـ (تبارك) وهذا مع ترتيله والوقوف على كل آية يطيل الخطبة ولابد، فالمقصود مراعاة حال الناس وحاجتهم، والله أعلم. 4 - قراءة آيات من القرآن في الخطبة: (أ) عن جابر بن سمرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين الخطبتين، ويذكر الناس ويقرأ آيات من القرآن» (¬3). (ب) وعن صفوان بن يعلي عن أبيه: «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} ...» (¬4). (جـ) عن أم هشام قالت: «ما حفظت سورة (ق) إلا من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة» (¬5). 5 - النزول من على المنبر للسجود إذا قرأ بآية سجدة: وهذا ثابت عن عمر بن الخطاب وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر، وقد تقدم في «سجود التلاوة». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (869)، وأحمد (4/ 263)، والدارمي (1556) وغيرهم. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (866)، وأبو داود (1107)، والرواية الأخرى له، والترمذي (507)، والنسائي (3/ 110)، وابن ماجه (1106). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (862)، وأبو داود (1094). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3266)، ومسلم (871). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (872)، وأحمد (6/ 463).

6 - الدعاء للمسلمين في الخطبة: يُروى عن سمرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة» (¬1) لكنه ضعيف جدًّا لا يحتج به، وإن كان العمل عليه عند أهل العلم. وعلى كلٍّ فإنه يستفاد استحباب الدعاء في الخطبة من حديث عمارة بن رؤيبة: أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه [يدعو] فقال: «قبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة» (¬2). ففيه فائدتان: 1 - إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في خطبته. 2 - كراهة رفع الإمام يديه إذا دعا على المنبر، وأن السنَّة أن يشير بإصبعه السبابة، ويؤيده حديث سهل بن سعد قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهرًا يديه قطُّ يدعو على منبره ولا على غيره، ولكن رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعقد الوسطى والإبهام» (¬3). وهذا أحد الوجهين عند الحنابلة واختاره شيخ الإسلام (¬4). تنبيه: يستثنى مما تقدم دعاؤه في الاستسقاء فالثابت فيه -خاصة- رفع اليدين كما تقدم في الاستسقاء، والله أعلم. ما يباح للخطيب في الخطبة: 1 - الاعتماد على عصا أو نحوها في الخطبة: ففي حديث الحكم بن حزين الكلفي -في قصة وفوده على النبي صلى الله عليه وسلم-: «.. فأقمنا بها أيامًا شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام متوكئًا على عصا أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه ... الحديث» (¬5). ¬

(¬1) ضعيف جدًّا: أخرجه البزار كما في «المجمع» (2/ 190) وفي سنده متروك. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (874)، والنسائي (3/ 108)، وأبو داود (1104)، والترمذي (515)، وابن ماجه (1103). (¬3) حسن بما قبله: أخرجه أبو داود (1105) بسند لين ويشهد له ما قبله. (¬4) «الاختيارات» (ص: 80). (¬5) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (1096)، وأحمد (4/ 212)، وأبو يعلى (12/ 204)، وابن خزيمة (1452) وله شواهد.

وفي حديث فاطمة بنت قيس -في قصة الجساسة-: ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وطعن بمخصرته في المنبر-: «هذه طيبة ...» الحديث (¬1) والمخصرة: ما يمسكه الإنسان من عصا أو عكازة. 2 - أن يكلِّم من شاء من الحاضرين لحاجة: كأن يأمر الداخل بصلاة ركعتي التحية أو أن يأمر من يتخطى الرقاب بالجلوس، أو أن يسأل أحدهم عن شيء، أو أن يجيب من سأله، أو يأمر أحدهم بالدخول ونحو ذلك. وكل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله تقدم بعض ذلك ويأتي بعض إن شاء الله. 3 - حث الناس على التصدق على فقير إذا رآه: عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل يوم الجمعة -والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب- بهيئة بذة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصليت» قال: لا، قال: «صلِّ ركعتين» وحث الناس على الصدقة، فألقوا ثيابًا، فأعطاه منها ثوبين ...» (¬2). تنبيه: التصدق على الفقير في الخطبة محمول على ما إذا سكت الإمام عن الكلام، وأما ما انتشر في مساجد المسلمين من قيام خادم المسجد بالمرور على المصلين بصندوق يجمع فيه صدقاتهم - والإمام يخطب- فلا شك في أنه غير مشروع، لعموم الأدلة الآمرة بالإنصات للخطبة وتحريم الكلام والعبث أثناءها كما سيأتي. 4 - قطع الخطبة لاشتغال تعرض له ثم يعود لخطبته: وفي هذا أحاديث منها: حديث جابر بن عبد الله -في قصة اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم المنبر بعد أن كان يخطب على جذع نخلة-: «.. فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمَّه إليه، يئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها» (¬3). وحديث أبي رفاعة قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2942)، وأبو داود (4326)، والترمذي (2253)، وابن ماجه (4074). (¬2) حسن: أخرجه النسائي (3/ 106). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3584).

أفعال المأمومين حال الخطبة

رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إليَّ فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدًا، قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها» (¬1). 5 - الفصل بين الخطبة والصلاة للاشتغال بالحاجة تعرض له: فعن أنس قال: «لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما تقام الصلاة يكلِّمه الرجل يقوم بينه وبين القبلة، فما زال يكلمه، فلقد رأيت بعضنا ينعس من طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم له» (¬2). أفعال المأمومين حال الخُطبة 1 - الدُّنُو من الإمام: عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخَّر في الجنة وإن دخلها» (¬3). وعن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وغدا وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام وأنصت ولم يلغُ، كان له بكل خطوة عمل سنة» (¬4). 2 - استقبال الإمام بوجوههم وهو يخطب: يستحب للمأمومين أن يستقبلوا الإمام بوجوههم وهو يخطب، ولا يصح في هذا شيء مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ثبت عن ابن عمر أنه «كان لا يقعد الإمام حتى يستقبله» (¬5). وعن أنس أنه «جاء يوم الجمعة فاستند إلى الحائط، واستقبل الإمام» (¬6). قال الترمذي (2/ 283): «والعمل على هذا عند أهل العلم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يستحبون استقبال الإمام إذا خطب» اهـ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (876)، والنسائي (8/ 220). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (643)، ومسلم (376). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (1108) وغيره. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (345)، والترمذي (496)، والنسائي (3/ 95)، وابن ماجه (1087). (¬5) حسن: أخرجه عبد الرزاق (5391)، ومن طريق ابن المنذر (4/ 74)، والبيهقي (3/ 199). (¬6) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 118)، وعنه ابن المنذر (4/ 74).

3 - الإنصات للخطبة، وعدم الكلام في أثنائها: تقدم في حديث سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغتسل الرجل يوم الجمعة ... ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (¬1). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت -والإمام يخطب فقد لغوت» (¬2). وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «... ومن لغا وتخطَّى رقاب الناس، كانت له ظهرًا» (¬3) يعني: نقص أجره، ولم تكن له جمعة كاملة. وقد ذهب الجمهور إلى تحريم كلام الحاضرين مع بعضهم. فائدتان: الأولى: إذا تكلم بعض الحاضرين، فيجوز إسكاته إشارةً، فعن أنس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا قائمًا يخطب على المنبر، قام رجل فقال: متى قيام الساعة يا نبي الله؟ فسكت عنه، وأشار الناس إليه: أن اجلس، فأبى ...» الحديث (¬4). قلت: ويلحق بهذا رد السلام على من سلَّم، فلا يكون إلا إشارة. الثانية: أن الكلام مع الإمام (الخطيب) جائز أثناء الخطبة للحاجة، سواء ابتدأه بالكلام أو ردَّ على تكليمه له، ففي حديث أنس قال: «أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة فقال: يا رسول الله، هلكت الماشية ...» الحديث (¬5). وفي قصة سليك الغطفاني لما دخل المسجد فجلس -والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب- قال صلى الله عليه وسلم: «هل صليت ركعتين؟» قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (934)، ومسلم (851). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (347)، وابن خزيمة (1810). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6167)، وابن المنذر (1807)، وابن خزيمة (1796). (¬5) صحيح: تقدم في «الاستسقاء». (¬6) صحيح: تقدم تخريجه.

4 - لا يجوز تخطِّي رقاب الناس، ولا التفريق بين اثنين: فعن عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطَّى رقاب الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس، فقد آذيت وآنيت» (¬1). وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو: «... ومن لغا وتخطَّى رقاب الناس كانت له ظهرًا» (¬2). ويستثنى من الوعيد ما إذا وجد فرجة بين اثنين، لأن التفريط يكون منهم وليس من المتخَطي فلا حرمة لهم، وكذلك من عرضت له حاجة فخرج ثم أراد أن يعود إلى مكانه. وفي حديث سلمان مرفوعًا «... ثم راح فلم يفرِّق بين اثنين، فصلى ما كُتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (¬3). والتفريق بين اثنين يتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه وقد يطلق على مجرد التخطِّي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رءوسهما وكتفيهما. 5 - لا يقيم الرجل ويقعد مكانه: فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: أفسحوا» (¬4). وقوله (أفسحوا) ما لم يكن الإمام يتكلم، وإلا أشار إليه. 6 - من نعس فليتحول من مجلسه: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا نعس أحدكم [في مجلسه يوم الجمعة] فليتحول من مجلسه ذلك [إلى غيره]» (¬5). والحكمة في الأمر بالتحول: أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه (¬6). ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (1118)، والنسائي (3/ 103)، وأحمد (4/ 188). (¬2) حسن: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2177)، وأحمد (3/ 295) ونحوه في الصحيحين عن ابن عمر. (¬5) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (1119)، والترمذي (526)، وأحمد (2/ 22) وغيرهم. (¬6) «نيل الأوطار» (3/ 298).

أفعال في صلاة الجمعة

7 - هل يجوز الاحتباء في الخطبة؟ ورد عن معاذ بن أنس عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب» (¬1). والحديث مختلف فيه، والأرجح ضعفه، ولذا رخَّص في الحبوة أكثر أهل العلم. والاحتباء: هو أن ينصب الرجل ساقيه، ويدير عليهما ثوبه، أو يعقد يديه على ركبتيه معتمدًا على ذلك، قال ابن الأثير: نهى عنها لأن الاحتباء يجلب النوم فلا يسمع الخطبة، ويعرض طهارته للانتقاض. قلت: إن كان كذلك، فتركه أولى وإن لم يصحَّ الحديث، والله أعلم. 8 - إذا تذكر -أثناء الخطبة- صلاة فرض كان نسيها أو نام عنها: أن يقوم ويقضيها والإمام يخطب، لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة [أو نام عنها] فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» (¬2). أفعال في صلاة الجمعة صلاة الجمعة ركعتان أصلاً: فليست أربعًا مقصورة، لحديث عمر بن الخطاب قال: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم» (¬3). وقد أجمع أهل العلم على أن صلاة الجمعة ركعتان. ما يستحب القراءة به في الصلاة: عن أبي رافع أن أبا هريرة صلى الجمعة فقرأ بعد سورة الجمعة، في الركعة الآخرة: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة: «إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة» (¬4). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1110)، والترمذي (514)، وأحمد (3/ 439). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684). (¬3) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1063)، وأحمد (1/ 37)، وانظر «الإرواء» (3/ 106). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (877)، والترمذي (519)، وأبو داود (1121)، وابن ماجه (1118).

وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» (¬1). المسبوق في صلاة الجمعة: من جاء إلى الجمعة، دخل مع الإمام في صلاته على أي وضع كان، فإن أدرك مع الإمام ركعة واحدة [على الاختلاف المتقدم في إدراك الركعة] فإنه يضيف إليها أخرى بعد ما يسلم إمامه، فإن لم يدرك الركعتين كأن وجدهم سجودًا أو قعودًا [أو ركوعًا عند من لا يرى الاعتداد بالركعة] في الثانية، فإنه يقضي أربعًا، بهذا أفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعن ابن عمر قال: «إذا أدرك الرجل يوم الجمعة ركعة: صلى إليها أخرى، وإن وجدهم جلوسًا صلى أربعًا» (¬2). وعن ابن مسعود قال: «من أدرك الركعة فقد أدرك الجمعة، ومن لم يدرك الجمعة فليصلِّ أربعًا» (¬3). وقد حكاه شيخ الإسلام كذلك عن أنس، قال: «ولا يُعلم لهم في الصحابة مخالف، وحكى غير واحد أن ذلك إجماع الصحابة» اهـ. وهو قول الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. الزحام في صلاة الجمعة: 1 - من زوحم يوم الجمعة: فإن قدر على الركوع والسجود كيف أمكنه فعل، ولو على ظهر أخيه، أو إيماءً، ويجزئه، لأن هذا غاية وسعة، ولا فرق بين العجز عن الركوع والسجود بمرض أو خوف أو بمنع الزحام، وقال عمر بن الخطاب: «إذا اشتد الزحام، فليسجد أحدكم على ظهر أخيه» (¬4). وهذا قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (878)، والترمذي (533)، وأبو داود (1122)، والنسائي (3/ 112). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5471)، وابن أبي شيبة (2/ 37)، والبيهقي (3/ 204). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5477)، وابن أبي شيبة (2/ 37)، والبيهقي (3/ 204). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5469)، والطيالسي (70)، ومن طريقه أحمد (1/ 32) والبيهقي (3/ 183).

مسائل متفرقة

2 - وإن ضاق المسجد وامتلأت الرحاب واتصلت الصفوف، فتجوز الصلاة في الدور والبيوت المتصلة بالصفوف وعلى ظهر المسجد، ولو حال بينه وبين الإمام حائط أو نحوه لم يضره، وقد تقدم تحريره في «صلاة الجماعة». السُّنة بعد الجمعة: يستحب -بعد صلاة الجمعة- أن يصلي ركعتين أو أربعًا، وهي في البيت أفضل: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كن منكم مصليًا بعد الجمعة، فليصلِّ بعدها أربعًا [فإن عجل بك شيء فصلِّ ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت]» (¬1). وعن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته» (¬2). مسائل متفرقة العدد الذي تصح به الجمعة (¬3): صلاة الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه، وشعار من شعائر الإسلام، وصلاة من الصلوات، فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة، فعليه الدليل، ولا دليل، والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد حتى بلغت إلى خمسة عشر قولاً (¬4)، ليس على شيء منها دليل يستدل به قط، إلا قول من قال: تنعقد بما ينعقد به سائر الجماعات، أي: بواحد مع الإمام، كيف والشروط إنما ثبتت بأدلة خاصة تدل على انعدام المشروط عند انعدام الشرط؟! فإثبات هذه الشروط بما ليس بدليل أصلاً مجازفة بالغة، وجرأة على التقوُّل على الله وعلى رسوله وعلى شريعته. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (822)، وأبو داود (1131)، والترمذي (523)، والنسائي (3/ 113)، وابن ماجه (1132). (¬2) صحيح: أخرجه الحميدي (976)، وعنه ابن المنذر (1878)، وأصلهُ في البخاري (937)، ومسلم (882). (¬3) انظر «الأوسط» (4/ 29)، و «الموعظة الحسنة» لصديق خان عن «الأجوبة النافعة» (ص: 76 - 78). (¬4) ذكرها الحافظ في «الفتح» (2/ 490).

ولو كان لله تعالى في عدد دون عدد مراد، لبيَّن ذلك في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. السُّنة أن لا تتعدد الجمعة في البلد الواحد إلا لحاجة: كعدم استاع المسجد الواحد لعدد المصلين ونحو ذلك، وإلا فإنه لم يُختلف أنه لم تكن الجمعة تُصلى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعطل سائر المساجد. وأما ما نراه في هذه الأيام من الإفراط في تكثير المساجد التي تقام فيها الجُمَع بحيث تقام في المساجد الصغيرة في الشوارع والحارة المتقاربة مع إمكان الاستغناء عنها بكبار المساجد، فلا شك أنه مما يقسم الأمة تقسيمًا يُرثى له، ويخرج الجمعة عن موضوعها (¬1). إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد: إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد، فللعلماء فيمن صلى العيد يومئذ قولان: القول الأول: تجب عليه الجمعة كذلك، وهو قول أكثر الفقهاء (¬2)، لكن الشافعية أسقطوها عن أهل القرى دون الأمصار، وحجة هذا القول: 1 - عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬3). 2 - الأدلة المتقدمة في وجوب صلاة الجمعة. 3 - ولأنهما صلاتان واجبتان (على خلاف في وجوب صلاة العيد) فلم تسقط إحداهما بالأخرى كالظهر مع العيد. 4 - أن الرخصة في ترك الجمعة ممن صلى العيد مختصة بمن تجب عليهم الجمعة من أهل البوادي، فعن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع ¬

(¬1) انظر: «الأوسط» (4/ 116)، و «إصلاح المساجد» للقاسمي (ص: 60 - 62)، و «المغنى» (2/ 92)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 208). (¬2) «المدونة» (1/ 153)، و «المجموع» (4/ 320)، و «تبيين الحقائق» (1/ 224)، و «التمهيد» (10/ 272)، و «الأوسط» (4/ 291)، و «المحلى» (3/ 303). (¬3) سورة الجمعة، الآية: 9.

عثمان بن عفان، وكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: «يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له» (¬1). القول الثاني: تسقط عنه الجمعة: لكن يستحب للإمام أن يقيمها ليشهدها من شاء ومن لم يصلِّ العيد، وهو قول جمهور الحنابلة، وهو مروي عن عمر وعثمان وعليٍّ وابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم (¬2) واستدل لهذا المذهب بحديثين مرفوعين ضعيفين، وجملة آثار صحيحة. 1 - ما رُوى عن إياس بن أبي رملة قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم قال: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخَّص في الجمعة، قال: «من شاء أن يصلي فليصلِّ» (¬3). 2 - ما رُوى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمِّعون» (¬4). 3 - أثر عثمان المتقدم وفيه: «... ومن أحب أن يرجع فقد أذنتُ له» وأما قول الفريق الأول بأن هذا خاص بأهل البوادي ممن لا تجب عليهم الجمعة، فيقال: إذا كان كذلك فما فائدة قوله «أذنت له»؟! 4 - عن عطاء قال: «صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج، فصلينا وحدنا، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا له ذلك، فقال: «أصاب السنة» [فبلغ ذلك ابن الزبير ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5572)، ومالك (1/ 146)، وعنه الشافعي في «الأم» (1/ 239)، وعبد الرزاق (5732). (¬2) «المغنى» (2/ 265)، و «الإنصاف» (2/ 403)، و «كشاف القناع» (2/ 41)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 211). (¬3) ضعيف جدًّا: أخرجه أبو داود (1070)، والنسائي (3/ 194)، وابن ماجه (1310)، وأحمد (4/ 372). (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1073)، وابن ماجه (1/ 13)، والحاكم (2/ 288)، وأعلَّه غير واحد من أهل العلم كأحمد والدارقطني وابن عبد البر، وله شاهد عند ابن ماجه (1312) عن ابن عمر وسنده ضعيف.

فقال: رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا]» (¬1) وقول الصحابي: أصاب السنة، له حكم الرفع على الراجح. 5 - وفي تمام قصة ابن الزبير من طريق هشام بن عروة عن وهب بن كيسان، قال هشام: فذكرت ذلك لنافع، فقال: «ذكر لابن عمر فلم ينكره» (¬2). 6 - وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: اجتمع عيدان في عهد عليٍّ فصلى بهم العيد ثم خطب على راحلته، فقال: «أيها الناس، من شهد منكم العيد فقد قضى جمعته إن شاء الله» وفي رواية: «من أراد أن يجمع فليجمع ومن أراد أن يجلس فليجلس [قال سفيان: يعني: يجلس في بيته]» (¬3). 7 - قالوا: لا يُعرف لهؤلاء الصحابة مخالف في هذا الحكم. وقد أجاب الجمهور: عن هذه الآثار بأنها محمولة على أهل البوادي ممن لا تجب عليهم الجمعة!! قال ابن عبد البر: «وإذا احتملت هذه الآثار من التأويل ما ذكرنا، لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه ...» اهـ. قلت: والراجح أن الجمعة تسقط عمن صلى العيد للآثار المتقدمة عن الصحابة وعدم ورود ما يخالفه عن أحدهم، وهذا لا شك يعضِّد المرفوع، على أن قول ابن عباس «أصاب السنة» له حكم الرفع، وأما حمل جميع هذه الآثار على من لا تجب عليه الجمعة، فلا يخفى تكلفه، ولئن سلم في أثر عثمان فلا يسلم في غيره كما هو واضح والله أعلم. ويستحب أن يقيم الإمام الجمعة: ليشهدها من شاء ومن لم يصلِّ العيد، ويستفاد هذا من حديث النعمان بن بشير المتقدم في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين والجمعة بالأعلى والغاشية، قال: «وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1071)، وعن عطاء، والنسائي (3/ 194)، وابن خزيمة (1465) عن وهب بن كيسان وقد جاء في بعض الطرق «أصاب» بدون لفظ السنة، وإثباتها يحتاج إلى تحرير، وعلى كلٍّ فإنا نستدل بفعل الصحابة حيث لا مخالف منهم. (¬2) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 7). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 7)، وعبد الرزاق (5731)، وابن المنذر (4/ 290). (¬4) صحيح: تقدم تخريجه.

صلاة العيدين

من صلى العيد وتخلَّف عن الجمعة فهل يلزمه الظهر؟ جاء في أثر عطاء -في قصة ابن الزبير-: «فصلَّى الجمعة ركعتين بكرة صلاة الفطر، ثم لم يزد عليهما حتى صلى العصر، قال: فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك، وأما من لم يفقه فأنكر ذلك عليه، قال: ولقد أنكرت أنا ذلك عليه وصليت الظهر يومئذ حتى بلغنا أن العيدين كانا إذا اجتمعا كذلك صليا واحدة» (¬1). قال الشوكاني «ظاهره أنه لم يصلِّ الظهر، وفي أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوِّغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر ... والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة، الأصل، وأنت خبير بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دلي يصلح للتمسك به على ذلك فيما أعلم» اهـ (¬2). قلت: أما إسقاط الظهر عمن لم يصلِّ الجمعة وقد صلى العيد فلا أعلم أن أحدًا من الصحابة وافقه عليه، على أنه قد جاء عن عطاء -نفسه- قال: «اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير فصلى بهم العيد، ثم صلى بهم الجمعة صلاة الظهر أربعًا» (¬3). فالنفس لا تطمئن لإسقاط الظهر، بل والأفضل أن يحضر الجمعة كذلك خروجًا من الخلاف، والله أعلم. إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة: فإن الحجيج لا يُصلون الجمعة، وإنما يصلوُّن الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ويخطبهم الإمام قبل ذلك خطبة عرفة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في «الحج» إن شاء الله. صلاة العيدين الحكمة في مشروعية العيدين: أن كل قوم لهم يوم يتجملون فيه، ويخرجون من بيوته بزينتهم (¬4). عن أنس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم، ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في ¬

(¬1) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (5725)، وأبو داود (1072) مختصرًا. (¬2) «نيل الأوطار» (3/ 336). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 7). (¬4) «حجة الله البالغة» للدهلوي (2/ 23).

الجاهلية، فقال: «قدمتُ عليكم، ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم النحر ويوم الفطر» (¬1). «أي: لأن يومي الفطر والنحر بتشريع الله تعالى، واختياره لخلقه، ولأنهما يعقبان أداء ركنين عظيمين من أركان الإسلام، وهما: الحج والصيام، وفيهما يغفر الله للحجيج والصائمين، وينشر رحمته على جميع خلقه الطائعين، وأما النيروز والمرجان، فإنهما باختيار حكماء ذاك الزمان لما فيهما من اعتدال الزمن والهواء ونحو ذلك من المزايا الزائلة، فالفرق بين المزيَّتين ظاهر لمن تأمر ذلك» (¬2). حكم صلاة العيدين: اختلف أهل العلم في حكم صلاة العيدين على ثلاثة أقوال: الأول: أنها واجبة على الأعيان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد أقوال الشافعي ورواية عن أحمد وبه قال بعض المالكية واختاره شيخ الإسلام (¬3)، وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬4)، والأمر للوجوب. 2 - قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬5). والأمر بالتكبير في العيدين أمر بالصلاة المشتملة على التكبير الراتب والزائد بطريق الأولى والأحرى. 3 - ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الصلاة في العيدين، وعدم تركها في عيد من الأعياد، ومداومة خلفائه والمسلمين من بعده عليها. 4 - أمر الناس بالخروج إليها حتى النساء وذوات الخدور والحيَّض -وأمرهنَّ أن يعتزلن المصلى- حتى أمر من لا جلباب لها أن تلبسها صاحبتها، وسيأتي الحديث بهذا. 5 - أنها من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة فكانت واجبة كالجمعة، ولذلك يجب قتال الممتنعين من أدائها بالكلية. 6 - أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد كما تقدم، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجبًا. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1134)، والنسائي (3/ 179)، وأحمد (3/ 103) والبغوي (1098) وغيرهم. (¬2) «الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد» للبنا (6/ 119). (¬3) «البدائع» (1/ 274)، و «ابن عابدين» (2/ 116)، و «الدسوقي» (1/ 396)، و «الإنصاف» (2/ 240)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 161)، و «السيل الجرار» (1/ 315). (¬4) سورة الكوثر، الآية: 2. (¬5) سورة البقرة، الآية: 185.

الثاني: أنها واجبة على الكفاية: فلو قام بها بعضهم سقطت عن الباقين، وهو مذهب الحنابلة وبعض الشافعية (¬1)، وحجتهم أدلة الفريق الأول، لكنهم قالوا: لا تجب على الأعيان لأنه لا يشرع لها الأذان، فلم تجب على الأعيان كصلاة الجنازة ولَوَجبت خطبتها، ووجب استماعها كالجمعة. الثالث: أنها سنة مؤكدة وليست بواجبة: وهو مذهب مالك والشافعي وأكثر أصحابهما (¬2) وحجتهم: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما ذكر الصلوات الخمس فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوَّع» (¬3) وما في معناه. 2 - أنها صلاة ذات ركوع وسجود (!!) لم يشرع لها أذان، فلم تجب بالشرع كصلاة الضحى. والراجح: القول الأول لما تقدم من الأدلة، وأما القول بأنها سنة مؤكدة فضعيف، وأما حديث الأعرابي فلا حجة فيه، لأنه خصَّ الخمس بالذكر لتأكيدها ووجوبها على الدوام، وتكررها في كل يوم وليلة وغيرها يجب نادرًا كصلاة الجنازة والنذر وغير ذلك. وأما القول بأنها فرض كفاية فلا ينضبط، ثم هو إنما يكون فيما تحصل مصلحته بفعل البعض، كدفن الميت، وقهر العدو، وليس يوم العيد مصلحة معينة يقوم بها البعض، بل صلاة العيد شرع لها الاجتماع أعظم من الجمعة، فإنه أمر النساء بشهودها ولم يؤمرن بالجمعة وأذن لهن فيها وقال: «صلاتكن في بيوتكن خير لكنَّ»، والله أعلم. وقت صلاة العيدين: يبتدئ وقت صلاة العيد بعد ارتفاع الشمس قيد رمح (أي: بعد مضي وقت الكراهة) وينتهي بزوال الشمس، وبهذا قال الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (¬4): فعن عبد الله بن بسر -صاحب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه خرج مع الناس يوم فطرٍ أو ¬

(¬1) «المغنى» (2/ 304)، و «كشاف القناع» (2/ 50)، و «المجموع» (5/ 2) وادَّعى النووي الإجماع على أنها ليست فرض عين، وهو منقوض بما تقدم. (¬2) «الدسوقي» (1/ 396)، و «جواهر الإكليل» (1/ 101)، و «المجموع» (5/ 2). (¬3) صحيح: تقدم مرارًا. (¬4) «ابن عابدين» (1/ 583)، و «الدسوقي» (1/ 396)، و «كشاف القناع» (2/ 50)، وأجاز الشافعي الصلاة أول طلوع الشمس.

أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: «إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه» وذلك حين التسبيح (¬1). فائدة: الأفضل أن تُصلى صلاة الأضحى في أول الوقت ليتفرغ المسلمون بعدها لذبح أضاحيهم، ويستحب تأخيرها قليلاً عن هذا الوقت في صلاة الفطر، ليتمكن الناس من إخراج زكاة الفطر (¬2). حكمها إذا فات وقتها: لفوات صلاة العيد عن وقتها ثلاث صور (¬3): الأولى: أن لا يعلموا بالعيد إلا بعد زوال الشمس: فهذا عُذْر يجوِّز تأخيرها إلى اليوم الثاني سواء كان العيد عيد الفطر أو الأضحى، وبهذا قال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) لحديث أبي عمير بن أنس عن عمومةٍ له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون: «أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» (¬4). الثانية: أن يؤخروا -جميعًا- صلاة العيد عن وقتها لغير العذر المتقدم: فإن كان العيد عيد فطر سقطت أصلاً ولم تُقضى، وإن كان عيد أضحى جاز تأخيرها إلى ثالث أيام النحر، أي: يصح قضاؤها في اليوم الثاني، وإلا ففي اليوم الثالث من ارتفاع الشمس إلى أول الزوال سواء كان لعذر أو لغير عذر، لن تلحقهم الإساءة إن كان لغير عذر. الثالثة: أن تؤدى في وقتها من اليوم الأول لكنها تفوت بعض الأفراد: فعند الحنفية والمالكية لا يُشرع قضاؤها لأنها صلاة لم تشرع إلا في وقت معين وبقيود خاصة فلابد من تكاملها جميعًا ومنها الوقت. وأجاز الشافعية قضاءها في أي وقت شاء وكيفما كان منفردًا أو جماعة، بناء على أصلهم في مشروعية قضاء كل النوافل. ¬

(¬1) صحيح: علَّقه البخاري (2/ 456)، ووصله أبو داود (1135)، وابن ماجه (1317)، والحاكم (1/ 295)، والبيهقي (3/ 282). (¬2) المصادر الفقهية السابقة. (¬3) «البدائع» (1/ 276)، و «الدسوقي» (1/ 396 - 400)، و «بداية المجتهد» (1/ 321)، و «المجموع» (5/ 27)، و «المغنى» (2/ 324)، و «مجمع الأنهر» (1/ 169). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1157)، والنسائي (3/ 180)، وابن ماجه (1653).

ومنع الحنابلة قضاءها لكن قالوا: مخيَّر، إن شاء صلاها أربعًا إما بسلام واحد أو بسلامين. قلت: وهذا الأخير ضعيف، أو مبناه على التشبيه بالجمعة!! الراجح الذي يظهر لي في الصور الثلاث جميعًا أن من فاتته صلاة العيد، فإن كان لعذر جاز أداؤها في اليوم التالي، وإن لم يكن لعذر لم يقض على ما تقدم في قضاء الفوائت، والله أعلم. مكان أدائها: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأولَّ شيء يبدأ به الصلاة ...» (¬1). «والسُّنَّة الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المصلى [في الصحراء أو في مفازة واسعة] لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (¬2)، ثم هو مع هذه الفضيلة العظيمة، خرج صلى الله عليه وسلم وتركه ...» (¬3). إلا أن يكون هناك عذر كمطر (¬4) ونحوه، أو أن يضعف بعض الناس -لمرض أو كبر سنٍّ- عن الخروج فلا حرج حينئذٍ في الصلاة في المسجد. وليُعلم أن الهدف من الصلاة اجتماع المسلمين في مكان واحد، فلا ينبغي تعدد المصليَّات من غير حاجة في الأماكن المتقاربة كما تراه في بعض المدن الإسلامية «بل قد أصبحت بعض (المصليَّات) منابر حزبية لتفريق كلمة المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله» (¬5). فائدة: صلاة العيد بمكة: الأفضل الصلاة في المسجد الحرام، فإن الأئمة لم يزالوا يصلون العيد بمكة بالمسجد الحرام، وهو أفضل من الخروج إلى المصلى (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (956)، ومسلم (889)، والنسائي (3/ 187). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394). (¬3) «المدخل» لابن الحاج (2/ 283). (¬4) وفيه حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في المسجد لما أصابهم المطر وهو ضعيف. (¬5) «أحكام العيدين» (ص: 24)، للشيخ علي حسن عبد الحميد، حفظه الله. (¬6) «المجموع» للنووي (5/ 524).

الخروج إلى المصلى وآدابه: 1 - يستحب الغُسل قبل الخروج: فعن نافع أن ابن عمر: «كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى» (¬1). سئل علي بن أبي طالب عن الغسل فقال: «يوم الجمعة، يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر» (¬2). 2 - التجمُّل ولبس أحسن الثياب: والأصل في استحباب هذا حديث ابن عمر قال: أخذ عمر جُبَّةً من إستبرق تُباع في السوق، فأخذها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اتْبَع هذه، تجمَّل بها للعيد والوفود ...» (¬3) الحديث «ومنه عُلم أن التجمل يوم العيد عادة متقررة بينهم، ولم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم فعلم بقاؤها» (¬4). وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يلبس يوم العيد بردة حمراء» (¬5). 3 - الأكل قبل الخروج إلى المصلى في عيد الفطر خاصة: عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» (¬6). وعن بريدة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ويوم النحر لا يأكل حتى يرجع فيأكل من نسيكته» (¬7). والحكمة في الأكل قبل خروجه في عيد الفطر أن لا يظن ظانٌ لزوم الصوم حتى يُصلى العيد، فكأنه سدَّ هذه الذريعة، وفي الأضحى يؤخر حتى يكون فطره على أضحيته. وقيل: الحكمة إيقاع الأكل في العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما (¬8). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (426)، وعنه الشافعي (73)، وعبد الرزاق (5754). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي (114)، ومن طريقه البيهقي (3/ 278). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (886، ومواضع)، ومسلم (2068) وغيرهما. (¬4) «حاشية السندي على النسائي» (3/ 181). (¬5) صححه الألباني. وانظر «الصحيحة» (1279). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (953)، والترمذي (543)، وابن ماجه (1754)، وأحمد (3/ 126). (¬7) حسن: أخرجه الترمذي (542)، وابن ماجه (1756)، وأحمد (5/ 352). (¬8) «الفتح» (2/ 447)، و «المغنى» (2/ 371)، و «زاد المعاد» (1/ 441).

4 - التكبير في العيدين من حين الخروج: قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «كان يخرج يوم الفطر فيكبِّر حتى يأتي المصلى، وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير» (¬2). وعن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله والعباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن ابن أم أيمن رضي الله عنهم رافعًا صوته بالتهليل والتكبير» (¬3). فيشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد باتفاق الأئمة الأربعة (¬4)، لكن بيَّنه بعض العلماء على أنه لا يُشرع في التكبير الاجتماع على صوت واحد كما يفعله الناس اليوم (¬5). قلت: وقد يستدل على مشروعية هذا الاجتماع بما علَّقه البخاري بصيغة الجزم عن ابن عمر أنه «كان يكبِّر في قبَّته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرًا ... وكنَّ النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد ...» فالمسألة محل اجتهاد ونظر ولا ينبغي النزاع والشقاق لأجلها. صيغة التكبير: لم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مرفوع في صيغة التكبير لكن ثبت عن ابن مسعود أنه كان يقول: «الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» (¬6). وكان ابن عباس يقول: «الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر على ما هدانا» (¬7). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 185. (¬2) مرسل وله شواهد. أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 487)، وانظر «الصحيحة» (170). (¬3) حسَّنه الألباني. أخرجه البيهقي (3/ 279)، وانظر «الإرواء» (3/ 123). (¬4) «مجموع الفتاوى» (24/ 220). (¬5) وممن يقول بهذا العلامة الألباني -كما في «الصحيحة» (1/ 121) - وابن باز وابن عثيمين، رحم الله الجميع. (¬6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 168). (¬7) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 315).

وكان سلمان رضي الله عنه يقول: «كبِّروا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا» (¬1). وأما ما زاده العامة ومتبوعوهم في هذا الزمان على التكبير مما هو مسموع ومعروف، فمُختَرع لا أصل له، قال الحافظ في «الفتح» (2/ 536): «وقد أُحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها» اهـ. قلت: كانت في زمانهم (زيادة) وعندنا الآن أهازيج وأناشيد، فالله المستعان!! فائدة: وقت التكبير في عيد الأضحى: أن يكبِّر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، وعلى هذا جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة (¬2). ويقيِّده بعضهم بالتكبير «عقب الصلوات» لكن لا دليل على هذا فقد علَّق البخاري (2/ 461) بصيغة الجزم قال: «وكان ابن عمر يكبِّر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعًا». 5 - يخرج النساء -حتى الحُيَّض- والصبيان: عن أم عطية: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق، والحُيَّض، وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: «لتلبسها أختها من جلبابها» (¬3). ويجب عليهن التزام آداب الخروج، من عدم التطيب والتزين كما هو معلوم. وأما الصبيان، فقد سئل ابن عباس: أشهدتَ العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته» (¬4). لكن ينبغي أن يكون معهم من يضبطهم عن اللعب واللهو ونحوهما سواءً صلوا أم لا. 6 - مخالفة الطريق إلى المصلى: عن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق» (¬5). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 316). (¬2) «مجموع الفتاوى» (24/ 220)، وانظر «إرواء الغليل» (3/ 125). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (971)، ومسلم (890). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (977). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (986).

وعن أبي هريرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد رجع في غير الطريق الذي خرج فيه» (¬1) فاستحب أكثر أهل العلم الذهاب إلى المصلى من طريق والرجوع من طريق آخر، تأسيًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم. 7 - يستحب المشي إلى المصلى وعدم الركوب إلا لحاجة: فعن عليٍّ رضي الله عنه قال: «من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا» (¬2) وفيه ضعف، ويشهد له حديث لابن عمر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيد ماشيًا ويرجع ماشيًا» (¬3). وهذا إذا كان المصلى قريبًا لا يشق المشي إليه، فإن احتاج للركوب فلا حرج والله أعلم. 8 - يستحب التبكير إلى المصلى: بعدما يصلُّوا الصبح لأخذ مجالسهم، ويكبِّرون حتى يخرج الإمام للصلاة (¬4). وهذا إذا كان المصلى قريبًا لا يشق المشي إليه، فإن احتاج للركوب فلا حرج، والله أعلم. لا سُنَّة قبل صلاة العيد ولا بعدها: عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين، لم يُصلِّ قبلها ولا بعدها» (¬5). قال ابن العربي: التنفُّل في المصلى لو فُعل لنُقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة ومن تركه رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى. اهـ. قال الحافظ: وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص، إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام، والله أعلم. اهـ (¬6). قلت: ورأى بعض الفضلاء أن مصلى العيد مسجد، فإذا دخله الإنسان فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، واستدل بمنع الرسول صلى الله عليه وسلم الحيَّض أن يمكثن فيه، ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (1301)، والدارمي (1613)، وأحمد (8100)، وابن خزيمة (1468)، وابن حبان (2815)، والبيهقي (3/ 308)، وذكره البخاري (943) متابعة لحديث جابر المتقدم -وهو من نفس الطريق!! - وقال: «وحديث جابر أصح». (¬2) حسنه الألباني: وانظر «صحيح الترمذي» (1/ 164) للألباني. (¬3) حسنه الألباني: وانظر «صحيح ابن ماجه» (1071) للألباني. (¬4) انظر «شرح السنة» للبغوي (4/ 302). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (989)، والترمذي (537)، والنسائي (3/ 193)، وابن ماجه (1291). (¬6) «فتح الباري» (2/ 552).

وأمرهن باعتزاله (¬1) وفيه نظر، فأما الاستدلال بمنع الحيض فيردُّه أن المراد اعتزالهن الصلاة كما تقدم في أبواب «الطهارة»، ثم إن الأرض كلَّها مسجد أفيشرع تحية المسجد عند إرادة الصلاة في أي بقعة منها؟! وعلى كلٍّ لو كان الصحابة يصلون التحية في المصلى لنُقل كما تقدم عن ابن العربي، والله أعلم. لكن لو صلوا في المسجد فلا شك في مشروعية التحية. ليس للعيد أذان ولا إقامة: عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهما قالا: «لم يكن يؤذَّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى (¬2). وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة، ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة» (¬3). قال ابن القيم: «وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة. والسنة أن لا يُفعل شيء من ذلك» اهـ. وعلى هذا فإن النداء للعيدين بدعة، والله أعلم. كيفية صلاة العيد: صلاة العيد ركعتان، لحديث عمر رضي الله عنه قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم» (¬4). وتصلى على الصورة الآتية: 1 - يبدأ الركعة الأولى -كسائر الصلوات- بتكبيرة الإحرام. 2 - ثم يكبِّر بعدها سبع تكبيرات أخرى قبل أن يبدأ القراءة، ولم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات العيد لكن قال ابن القيم: «وكان ابن عمر - مع تحرِّيه للاتباع- يرفع يديه مع كل تكبيرة» (¬5). قلت: فمن رأى أن ابن عمر لا يفعل هذا إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم فله أن يرفع يديه وإلا فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) يقول بهذا العلامة ابن عثيمين، رحمه الله. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (960)، ومسلم (886). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (887)، وأبو داود (1148)، والترمذي (532). (¬4) صحيح: أخرجه النسائي (3/ 183)، وأحمد (1/ 37) وقد تقدم. (¬5) «زاد المعاد» (1/ 441).

3 - ولم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر معين في سكوته بين هذه التكبيرات، لكن قال ابن مسعود: «بين كل تكبيرتين حمد لله عز وجل، وثناء على الله» (¬1). 4 - ثم يبدأ بقراءة الفاتحة -بعد التكبيرات- ثم سورة، ويستحب أن يقرأ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} على أن يكون في الركعة الثانية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) وربما قرأ فيهما {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (¬3). 5 - وبعد القراءة يأتي بباقي الركعة على هيئتها المعتادة. 6 - ويكبِّر للقيام إلى الركعة الثانية. 7 - ثم يكبِّر بعدها خمس تكبيرات على نحو ما تقدم في الركعة الأولى. 8 - ويقرأ الفاتحة والسورة التي تقدم ذكرها. 9 - ثم يتم صلاته ويسلِّم. وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم في صفة صلاة العيدين: عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبِّر في الفطر والأضحى: في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمسًا، سوى تكبيرتي الركوع» (¬4). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد: سبعًا في الأولى، ثم قرأ، ثم كبَّر فركعوا، ثم سجد، ثم قام فكبَّر خمسًا، ثم قرأ ثم كبر فركع، ثم سجد» (¬5). الخطبة بعد الصلاة والتخيير في حضورها: والسنة أن يخطب الإمام بعد الصلاة خطبة واحدة -لا خطبتين (¬6) - واقفًا على الأرض لا على منبر، كذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده: ¬

(¬1) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (3/ 291). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (891)، والنسائي في الكبرى (11550)، والترمذي (534)، وابن ماجه (1282). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (878)، وغيره عن النعمان بن بشير وقد تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1150)، وابن ماجه (1280)، وأحمد (6/ 70). (¬5) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (1152)، وابن ماجه (1278)، وانظر «الإرواء» (3/ 108 - 112). (¬6) وما ورد في أنهما خطبتان فضعيف جدًّا، والله أعلم.

1 - فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلُّهم كانوا يُصلُّون قبل الخطبة» (¬1). 2 - وعن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» (¬2). 3 - وعن أبي سعيد الخدري قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس -والناس جلوس على صفوفهم- فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف» قال أبو سعيد: «فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان -وهو أمير المدينة- في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلَّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذتُ بثوبه، فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلتُ له: غيَّرتم والله، فقال: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلمُ والله خيرٌ مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتُها قبل الصلاة» (¬3). وحضور هذه الخطبة لا يجب ويستحب للإمام أن يُخير في حضورها تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم فعن عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة قال: «إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» (¬4). فائدة: خطبة العيد كسائر الخطب، تُفتتح بالحمد والثناء على الله تعالى، ولم يصح حديث في افتتاحها بالتكبير. هل يهنئون بعضهم بالعيد؟ قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (24/ 253): «أما التهنئة يوم العيد بقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: (تقبَّل الله منا ومنكم) و (أحال عليك) ونحو ذلك، فهذا قد رُوى عن طائفة من الصحابة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (962)، ومسلم (884). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (963)، ومسلم (888). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (956)، ومسلم (889). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1155)، والنسائي (3/ 185)، وابن ماجه (1290).

أنهم كانوا يفعلونه (¬1) ورخَّصَ فيه الأئمة كأحمد وغيره، لكن قال أحمد: أنا لا أبتدئ أحدًا، فإن ابتدأني أحد أجبتُه، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس مأمورًا بها، ولا هو أيضًا مما نُهي عنه، ممن فعله فله قدوة، ومن تركه له قدوة، والله أعلم» اهـ. «ولا ريب أن هذه التهنئة من مكارم الأخلاق، ومحاسن المظاهر الاجتماعية بين المسلمين، ولها أثر طيب في تقوية الصلات والوشائج، وإشاعة روح المحبة بين المسلمين، فأقل ما يقال فيها أن تهنئ من هنَّأك، وتسكت إن سكت» (¬2). ¬

(¬1) قال الحافظ في «الفتح» (2/ 517): «ورونا في «المحامليات» بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد، يقول بعضهم لبعض: تقبَّل الله منا ومنك» اهـ. ونقل ابن قدامة في «المغنى» (2/ 259) نحوه عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونقل عن أحمد تجويده حديث أبي أمامة، وانظر «تمام المنة» (ص: 354 - 356). (¬2) «وقفات للصائمين» للشيخ سلمان العودة -حفظه الله- (ص: 99) عن «أحكام العيدين» لهشام البرغش (ص: 57).

3 - كتاب الجنائز

3 - كتاب الجنائز

ما يفعله الحاضرون للمحتضر

ما يفعله الحاضرون للمُحْتَضَر: 1 - تلقينه الشهادة: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله» (¬1) والمراد: ذكِّروا من حضره الموت (لا إله إلا الله) فتكون آخر كلامه، كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من بني النجار يعوده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خال، قل لا إله إلا الله» فقال: أَوَخال أنا أو عم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، بل خال» فقال له: «قل لا إله إلا الله»، قال: هو خير لي؟ قال: «نعم» (¬2). وذلك رجاء أن يكون آخر كلامه قبل موته: (لا إله إلا الله) فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة» (¬3). وقد أجمع العلماء على هذا التلقين، وينبغي أن يكون في لطف ومدارة وألا يكرر عليه لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه، فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق، وإذا قالها مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعدها بشيء آخر، فيعاد تلقينه لتكون (لا إله إلا الله) آخر كلامه (¬4). تنبيه: استحب الفقهاء قراءة سورة س عند المحتضر (¬5)، استنادًا لما رُوي مرفوعًا: «اقرءوا على موتاكم سورة يس» لكنه حديث ضعيف، فلا يشرع ذلك، والله أعلم. 2 - توجيهه إلى القبلة: فقد جاءت جملة أحاديث مرسلة، تتقوى بمجموعها وترقى إلى الحُسْن، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور، فقالوا: توفى، وأمر بثلثه لك يا رسول الله، وأوصى أن يوجَّه إلى القبلة لما احتُضر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (916)، وأبو داود (3117)، والنسائي (4/ 5)، والترمذي (976)، وابن ماجه (1445). (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 152، 154، 268). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (3100). (¬4) «شرح مسلم» للنووي (2/ 580)، و «المجموع» (5/ 110)، و «المغنى» (2/ 450). (¬5) «ابن عابدين» (2/ 191)، و «الدسوقي» (1/ 423)، و «مغنى المحتاج» (2/ 5)، و «كشاف القناع» (2/ 82).

«أصاب الفطرة» وقد رددت ثلثه على ولده» ثم ذهب فصلى عليه فقال: «اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك، وقد فعلت» (¬1). وفي رواية لهذه القصة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال: «وكان البراء بن معرور أول من استقبل القبلة حيًّا وميتًا». وهذا التوجيه مستحب عند جماهير العلماء، بل نقل النووي الإجماع عليه، لكن أنكره سعيد بن المسيب -رحمه الله- فإنهم لما أرادوا أن يوجهوه إلى القبلة، غضب وقال: «أولست على القبلة»؟ (¬2) لكنه قد عورض بقوله غيره، ثم إنه لم يجزم بكون التلقين بدعة!! ولا حرامًا، ثم إن فعلهم ذلك بسعيد دليل على أنه كان مشهورًا بينهم يفعله المسلمون كلهم بموتاهم (¬3). كيفية توجيهه إلى القبلة: للعلماء في هذه الكيفية وجهان: 1 - أن يستلقي على ظهره وقدماه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلاً ليصير إلى القبلة. 2 - أن يضطجع على جنبه الأيمن مستقبلاً بوجهه القبلة (¬4)، وهذا هو الأرجح، ومما يؤيده: قول النبي صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب: «إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن ... فإن مت، مت على الفطرة» (¬5). قلت: ويشهد له كذلك حديث أم سلمة في قصة وفاة فاطمة رضي الله عنها وفيه: «.. فاضطجعت واستقبلت القبلة، وضعت يدها تحت خدها» (¬6) وهذا لا يكون إلا وهي على جنبها. والله تعالى أعلم. ما يفعله الحاضرون إذا مات، وأسلم الروح: 1 - تغميض عينيه: فعن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقَّ بصرُه فأغمضهُ، ثم قال: «إن الروح إذا قُبض تبعه البصر ....» (¬7). ¬

(¬1) حسن بطرقه: أخرجه الحاكم (1/ 353)، والبيهقي (3/ 384)، وحسنَّه شيخنا في «الغسل والكفن» (ص: 22). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (3/ 391). (¬3) «المغنى» (2/ 451)، و «الغسل والكفن» (ص: 25). (¬4) «المجموع» (5/ 116). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (244)، ومسلم (2710). (¬6) إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 461) وفي سنده ضعف. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (920)، وأبو داود (3102) مختصرًا.

والحكمة فيه: ألا يقبح بمنظره لو ترك إغماضه. 2 - أمور أخرى ذكرها الفقهاء (¬1): (أ) أن يَشُد تحت لحييه عصابة عريضة تربط من فوق رأسه كيلا يسترخي لحيه الأسفل فينفتح فوه وييبس فلا ينطبق. (ب) تليين مفاصله وأصابعه، بأن يرد ساعده لعضده وساقه لفخذه وفخذه لبطنه ويردَّها لتلين ويسهل غسله وإدْراجه. (جـ) خلعُ ثيابه، لئلا يخرج منه شيء يفسد به ويتلوث بها إذا نزعت عنه. (د) أن يوضع الميت على سرير ونحوه ليكون أحفظ له، ولا يترك على الأرض لأنه أسرع لفساده. (هـ) وضع شيء ثقيل على بطنه لئلا ينتفخ. 3 - الدعاء له: لتمام حديث أم سلمة السابق: «... فضجَّ ناس من أهله فقال: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنِّون على ما تقولون» ثم قال: «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره ونوِّر له فيه». 4 - تغطية جميع بدنه بثوب: فعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفى سُجِّي ببرد حبرة» (¬2). 5 - المبادرة بتجهيزه وإخراجه: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخيرٌ تقدمونها عليه، وإن تكن غير ذلك، فَشَرٌّ تضعونه عن رقابكم» (¬3). والإسراع بالجنازة يدخل فيه سرعة تغسيله وتكفينه وتجهيزه، والإسراع في حملها إلى القبر. 6 - المبادرة إلى قضاء دَيْنِه: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نفس المؤمن معلقة بِدَيْنه حتى يُقضى عنه» (¬4). ¬

(¬1) «البدائع» (1/ 300)، و «ابن عابدين» (2/ 194)، و «مواهب الجليل» (2/ 222)، و «الأم» (1/ 248)، و «المغنى» (2/ 451)، و «الفروع» (2/ 192). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1241)، ومسلم (942) واللفظ له. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1315)، ومسلم (944). (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (1078)، وغيره، وصححه الألباني في «المشكاة» (2915).

وعن سلمة بن الأكوع قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقالوا: يا رسول الله، صلِّ عليها، قال: «هل ترك عليه دينًا؟» قالوا: نعم، قال: «هل ترك من شيء؟» قالوا: لا، قال: «صلوا على صاحبكم» قال رجل من الأنصار يقال له أبو قتادة: صلِّ عليه وعليَّ دينه، فصلى عليه» (¬1). ما يجوز للحاضرين وغيرهم تجاه الميِّت: 1 - كشف وجهه وتقبيله: فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فكشف عن وجهه ثم أكبَّ عليه فقبَّله، وبكى، حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه» (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن أبا بكر قبلَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته» (¬3). 2 - البكاء على الميت ما لم يكن مصحوبًا بالصياح والعويل والتسخط واللطم ونحوها: ففي حديث أنس -في قصة موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم: «... فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى فقال: «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (¬4). ولما مرض سعد بن عبادة: «بكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال: «ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أَوْ يرحم، وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (¬5). وكشف جابر بن عبد الله رضي الله عنه الثوب عن وَجه أبيه وبكى عليه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2291)، والنسائي (1961) واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (3147)، والترمذي (994)، وابن ماجه (1456). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4457)، والنسائي (4/ 11)، وأحمد (6/ 55). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1303). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1304)، ومسلم (924). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

فائدتان: 1 - مجرد البكاء على الميت لا حرج فيه، وإنما يمنع التكلم باللسان بما فيه تسخُّط على قدر الله تعالى والنياحة المحرمة، لكن لا بأس أيضًا بالتوجع للميت عند احتضاره بمثل قول فاطمة -عليهما السلام- في احتضار النبي صلى الله عليه وسلم: «واكرب أباه» فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» (¬1) فعلم أن هذا ليس من النياحة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك (¬2). 2 - هل يُعذَّب الميت ببكاء أهله ونياحتهم عليه؟ في هذا خلاف بين أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، فكان عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وغيرهما يرون أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وخالفتهم عائشة رضي الله عنها فقالت: «إنما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: «إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذَّب في قبرها» (¬3). وذهب الجمهور إلى أن الذي يُعذب ببكاء أهله عليه هو من أوصى أن يُبكى ويناح عليه بعد موته، فنفذت وصيته، فأما من ناح عليه أهله من غير وصية منه فلا يعذب، وقيل: بل يعذب لتقصيره في تعليم أهله مما أدى بهم إلى إحداث ذلك فهو مسئول عن رعيته (¬4). ما يجب على أقارب الميت -وخصوصًا النساء- إذا جاءهم خبر وفاته: الصبر والاسترجاع والرضا بقضاء الله: قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬5). واعلمي أختي المؤمنة «أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4462)، وابن ماجه (1630). (¬2) «فتح الباري» (7/ 756) سلفية. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1289)، ومسلم (932). (¬4) جامع أحكام النساء (1/ 462) باختصار. (¬5) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157. (¬6) نقله في فتح الباري (3/ 149) عن الخطابي.

فعن أنس قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري» قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (¬1). وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها» (¬2). ما يحرم على النساء من أقارب الميت وغيرهن: 1 - النياحة: وهي مُحرَّمة، لأنها تهيِّج الحزن، وترفع الصبر، وفيها مخالفة للتسليم للقضاء والإذعان لأمر الله تعالى (¬3). فعن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة» وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جَرَب» (¬4). وعن أم عطية قالت: أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة ....» (¬5). 2، 3 - ضرب الخدود، وشق الجيوب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (¬6). ¬

(¬1) البخاري (1283)، ومسلم (926). (¬2) مسلم (918)، وأبو داود (3115). (¬3) شرح مسلم للنووي (2/ 598). (¬4) مسلم (934)، وأحمد (5/ 342)، والحاكم (1/ 383)، والبيهقي (4/ 63). (¬5) البخاري (1306)، ومسلم (936). (¬6) البخاري (1294)، ومسلم (103).

غسل الميت

وشق الجيب هو شق المرأة ثوبها من فتحة الصدر، ودعوى الجاهلية هي النياحة ونُدبة الميت (¬1) والدعاء بالويل. 4، 5 - حلق الشعر، ونشره وتفريقه: فعن أبي بردة بن أبي موسى قال: «وَجِع أبو موسى وجعًا فغُشى عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا فلما أفاق قال: أنا برئ مما بريء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة» (¬2). والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة. وعن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه: وأن لا نخمش وجهًا، ولا ندعو بويل، ولا نشق جيبًا، وأن لا ننشر شعرًا» (¬3). ونشر الشعر: هو نفشه ونشره وتفريقه عند المصيبة، وهذا وما سبق كله حرام، فلينتبه لذلك. غسل الميت: حكمه (¬4): ذهب جمهور العلماء إلى أن غسل الميت فرض كفاية، بل نقل النووي الإجماع على ذلك!! قال الحافظ: وهو ذهول شديد، فإن الخلاف فيه مشهور جدًا عند المالكية ... اهـ، واستدل الجمهور بما يلي: 1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية والنسوة اللواتي غسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا ...» (¬5). ¬

(¬1) الندبة هي التعديد المعروف عند النساء كقول إحداهن: يا سبعي، يا جملي مما هو مشهور، وفي البخاري (4268) «أن عبد الله بن رواحة أغمى عليه فجعلت أخته تبكي: واجبلاه واكذا، تُعَدِّد عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات لم تبك عليه». (¬2) البخاري تعليقًا (1296)، ومسلم (104). (¬3) أبو داود (3131) بسند قريب من الحسن. (¬4) «المجموع» (5/ 128)، و «الأم» (1/ 243)، و «المحلى» (5/ 113)، و «الفتح» (3/ 125). (¬5) صحيح: يأتي تخريجه.

2 - قوله صلى الله عليه وسلم -في المحرِم الذي وقصته دابته فمات-: «اغسلوه بماء وسدر ...» (¬1). ومقتضى الأمر في الحديثين الوجوب، ولا صارف له إلى الندب، فلا يلتفت إلى من قال بالاستحباب. 3 - عمل المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن. قلت: يستوى في هذا كل من مات من المسلمين ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، حرًّا أو عبدًا، إلا من قتل شهيدًا في المعركة في قتال الكفار كما سيأتي. هل يُغَسَّل السقط؟ إذا أسقطت المرأة ولدها لأكثر من أربعة أشهر غُسِّل وصُلِّي عليه، فإن لم يأت له أربعة أشهر فإنه لا يُغَسَّل ولا يُصلى عليه، ويلف في خرقة ويدفن، وذلك لأنه تنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، وقبل ذلك لا يكون نسمة فلا يصلى عليه كالجمادات والدم (¬2). لا يُغَسَّل شهيد المعركة: عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغسَّلوا ولم يصلَّ عليهم» (¬3). والعلَّة في ترك غسل الشهيد ما في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أُحد: «لا تغسلوهم، فإن كل جرح -أو كل دم- يفوح مسكًا يوم القيامة» ولم يصل عليهم (¬4). والشهيد الذي يُغسَّل هو من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال، سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاح نفسه، أو سقط عن فرسه، أو وطئته دابته أو دواب المسلمين أو غيرهم، أو وجد قتيلاً عند انكشاف ¬

(¬1) صحيح: يأتي تخريجه. (¬2) «المجموع» (5/ 256)، و «المغنى» (2/ 522). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1343)، وأبو داود (3135)، وأحمد (3/ 128). (¬4) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 399)، وله شاهد عند البيهقي (4/ 11).

الحرب ولم يعلم سبب موته، سواء كان عليه أثر دم أم لا، وسواء مات في الحال أو بقي زمنًا ثم مات قبل انقضاء الحرب (¬1). إذا قُتل الشهيد وهو جُنُب، فلا يُغَسَّل كذلك في أصح أقوال العلماء (¬2) لأمرين: 1 - عموم الأدلة -السابقة- على ترك تغسيل الشهيد. 2 - ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغسيل حنظلة بن أبي عامر لما قتل وقوله: «إن صاحبكم تغسله الملائكة» فسأله صاحبته عنه، فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب (¬3). وقد استدل به على مشروعية تغسيله لفعل الملائكة، ولا يخفى أن الحجة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغسيله لا في تغسيل الملائكة، لأن المقصود منه تعبُّد الآدمي به ولو كان غسله واجبًا لما سقط بغسل الملائكة. هل يُغسَّل شهيد غير المعركة؟ الشهيد بغير قتل كالمبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم يُغسَّلون ويصلى عليهم كسائر الموتى، وهذا قول جماهير أهل العلم (¬4). لا يجب تغسيل الكافر: سواء كان ذميًّا أو غيره، لأنه ليس من أهل العبادة ولا من أهل التطهير. لكن يجوز للمسلم تغسيل ذوي قرابته من المشركين أو زوجته الذمية واتباع جنائزهم ودفنهم لكن لا يصلى عليهم، وأقاربه الكفار أحق به من أقاربه المسلمين (¬5)، وأما ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا أن يُغَسل أباه، فطرقه كلها واهية لا تثبت (¬6). ¬

(¬1) «المجموع» (5/ 261). (¬2) «المجموع» (5/ 26)، و «المغنى» (2/ 530). (¬3) حسن: أخرجه الحاكم (3/ 204)، والبيهقي (4/ 15)، وانظر «الصحيح المسند من فضائل الصحابة» لشيخنا، حفظه الله. (¬4) «المغنى» (2/ 536) فإن خيف عليه تقطعه بالماء لم يغسل بل ييمم إن أمكن، والله أعلم. (¬5) «المجموع» (5/ 144)، و «الأم» (1/ 235). (¬6) انظر «الغسل والكفن» لشيخنا مصطفى بن العدوي -رفع الله قدره- (ص: 120).

من أولى الناس بغسل الميت؟

من أولى الناس بغسل الميت؟ يستحب أن يقوم أولى الناس من أهل الميت بتغسيله -إذا توفَّر فيه الصلاة والخبرة بالغسل- «لأن الذي غسَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم هم عليٌّ وأهل قرابته» (¬1). وعن سالم بن عبيد الأشجعي أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأبي بكر: يا صاحب رسول الله، من يُغسِّله؟ قال: «رجال أهل بيته الأدنى فالأدنى» قالوا: فأين ندفنه؟ قال: «ادفنوه في البقعة التي قبضه الله فيها، لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه» (¬2). ويجوز أن يتولى الغُسل غير قرابته -لا سيما إن كانوا أعلم بشئونه- فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أقارب ابنته زينب بتغسيلها، بل غسَّلتها أم عطية وغيرها كما سيأتي الحديث. يجوز للزوج تغسيل زوجته (¬3): لحديث عائشة قالت: «رجع إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، قال: «ما ضرَّك لو متِّ قبلي فغسَّلتك وكفَّنتك، ثم صليت عليك ودفنتك» قلت: لكني -أو: لكأني- بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه» (¬4). ولأن الله تعالى سمى المرأة بعد موتها زوجة فقال سبحانه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (¬5) فلما لم يكن مانع من تغسيلها في حياتها، كان ذلك باقيًا على التحليل بعد موتها من غير فرق إلا بنص، ولا سبيل إليه. وقد ذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أن الرجل لا يغسل امرأته لأنه لو شاء تزوج أختها حين ماتت! وفيما تقدم حجة عليهما. ¬

(¬1) صحيح: أخرج معناه ابن ماجه (1467)، والحاكم (1/ 362)، والبيهقي (3/ 388). (¬2) أخرجه البيهقي (3/ 395) وفي سنده سوادة بن سلمة بن بنيط، قال شيخنا: لم أقف على ترجمته. اهـ. (¬3) «المحلى» (5/ 174)، و «المجموع» (5/ 132)، و «الأم» (242). (¬4) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (6/ 228)، وابن ماجه (1465)، والدارمي (1/ 37) وغيرهم. (¬5) سورة النساء، الآية: 12.

يجوز للمرأة تغسيل زوجها (¬1): لحديث عائشة قالت: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما غسَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه» (¬2). قال البيهقي (3/ 398): فتلهَّفتْ على ذلك، ولا يُتلَهَّفُ إلا على ما يجوز. اهـ. وقد صحَّ بمجموع الطرق أن «نساء أبي بكر قُمْنَ بتغسيله بوصية منه» (¬3). هل يُغَسل الرجل ابنته؟ (¬4) تقدم أن أم عطية هي التي غسلت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وسيأتي الحديث فيه- لكن إذا لم توجد نساء يقمن بذلك، أو كنَّ قليلات الخبرة بالغُسل، فلم يرد مانع من أن يغسل الرجل ابنته، ولأنها كالرجل بالنسبة إليه في العورة والخلوة، وقد ورد هذا عن بعض السلف: فعن أبي هاشم أن «أبا قلابة غسَّل ابنته» (¬5). وبه قال الأوزاعي ومالك والشافعي. يجوز للنساء تغسيل الصبي (¬6): قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمرأة أن تغسل الصبي الصغير .. اهـ. وثبت عن الحسن أنه كان «لا يرى بأسًا أن تغسل المرأة الغلام إذا كان فطيمًا وفوقه شيء» وكذلك عن ابن سيرين (¬7). قلت: وهذا الجواز محلُّه إذا لم يبلغ الصبي حدًّا يشتهى فيه، وإلا لم يغسله النساء، وبذا ضبطه النووي، رحمه الله. إذا مات رجل بين نساء، أو امرأة بين رجال؟ فللعلماء في تغسيله قولان: الأول: يُغسل من فوق الثياب. ¬

(¬1) المصادر الفقهية السابقة. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (3141)، والبيهقي (3/ 398). (¬3) مصنف عبد الرزاق (6117 - 6119 - 6123 - 6124)، وابن أبي شيبة (3/ 249)، وانظر «جامع أحكام النساء» (1/ 466). (¬4) «المجموع» (5/ 151)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا (1/ 475) وعنه كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 186). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 251). (¬6) «المغنى» (2/ 455)، و «المجموع» (5/ 149). (¬7) إسنادهما صحيح: أخرجهما ابن أبي شيبة (3/ 251).

صفة المغسل

الثاني: يُيَمَّمُ ولا يغسل لأنه بمنزلة من لم يجد الماء. وقد ورد مرسلاً عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الرجل مع النساء، والمرأة مع الرجال فإنهما يُيَمَّمان ويُدفنان وهما بمنزلة من لم يجد الماء» (¬1). ويشهد له حديث سنان بن غرفة -وكانت له صحبة- عن النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة تموت مع الرجال ليسوا بمحارم قال: «تُيَمَّم، ولا تغسَّل، وكذلك الرجل» (¬2). صفة المُغَسِّل (¬3): ينبغي أن يتوفر فيمن يقوم بغسل الميت أمران: 1 - الصلاح: لأن أهل الصلاح أعرف بحدود الله وشرائع دينه فيسترون على الميت، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (¬4) ولا يتعرضون له بسبٍّ ونحوه فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا» (¬5). ويحفظون سرَّه ولا يغتابونه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغيبة: «ذكرك أخاك بما يكره» وقال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه» (¬6). وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غسَّل ميتًا فكتم عليه، غُفر له أربعين مرة، ومن كفَّن ميتًا كساه الله من السندس وإستبرق الجنة، ومن حفر لميت قبرًا فأجنَّه فيه أرجى له من الأجر كأجر مسكن أسكنه إلى يوم القيامة» (¬7). 2 - الخبرة بالغسل: فإن العالم بأمر الغسل يقيم فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحسن إلى الميت ويحسن تغسيله، ولذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم عطية لتغسل ابنته وقد ذكر النووي -وجزم به ابن عبد البر- أن أم عطية كانت غاسلة الميتات. ويؤيد هذا أن عليًّا لما أراد تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم: «ذهب يلتمس منه ما يلتمس ¬

(¬1) مرسل. أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 413)، والبيهقي (3/ 398). (¬2) ذكره البيهقي (3/ 398). (¬3) «الغسل والكفن» لشيخنا -حفظه الله- (ص: 62 - 65) بتصرف يسير. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1393). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (2589). (¬7) حسن: أخرجه الحاكم (1/ 354 - 362)، والبيهقي (3/ 395).

صفة غسل الميت

من الميت فلم يجده، فقال: بأبي الطيب، طبتَ حيًّا وطبت ميتًا» (¬1) وفيه دليل على أنه كان على علم بالغسل وما يكون من الميت، والله أعلم. فائدة: يجوز أن يقوم الجنب أو الحائض بغسل الميت: لعدم الدليل على المنع منه (¬2). صفة غُسل الميت: العمدة في هذا الباب حديث أم عطية رضي الله عنها لأنها شهدت غسل ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكت ذلك فأتقنت، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت، وكذلك عوَّل عليه الأئمة في غسل الميت. عن أم عطية رضي الله عنها قالت: دخل علنيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته [هي: زينب] فقال: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورًا، فإذا فرغتن فآذنني» فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه (¬3) فقال: «أشعرنها (¬4) إياه». وفي لفظ: «اغسلنها وترًا» وفيه: «ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا» وفيه: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» وفيه أن أم عطية قالت: «ومشطناها ثلاثة قرون» (¬5). ويمكن تلخيص أفعال غسل الميت على ما ورد في حديث أم عطية وغيره مما ذكره أهل العلم فيما يأتي (¬6): 1 - أن يجرد الميت من ثيابه، ويضع على عورته سترة: فعن عائشة -في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: «لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1467)، والحاكم (1/ 362)، والبيهقي (3/ 388). (¬2) «المجموع» للنووي (5/ 187). (¬3) المراد هنا: إزاره. (¬4) أي: اجعلنه شعارها وهو الثوب الذي يلي الجسد، يريد أن تُلَفَّ فيه. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1254)، ومسلم (939)، وأبو داود (3142)، والنسائي (4/ 32)، وابن ماجه (1458)، وفي الباب حديث طويل في سياق صفة الغسل عن أم سليم مرفوعًا عند البيهقي (4/ 4) لكنه ضعيف، بل قال أبو حاتم في «العلل» (1/ 361): كأنه باطل يشبه أن يكون كلام ابن سيرين ومع هذا فقد عوَّل عليه كثير من الشراح!!. (¬6) «الغسل والكفن» لشيخنا (ص: 67 - 105) بتصرف واختصار.

قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرِّد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ ... الحديث» (¬1). وفيه أنهم كانوا يجردون الموتى. لكن ينبغي أن يستر عورته بسترة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة ...» (¬2). ولذا ذهب ابن سيرين وأبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنه يستر العورة (بين السرة والركبة) (¬3). 2 - أن تنقض ضفائر المرأة الميتة (إن كان لها): لقول أم عطية - في رواية البخاري (1260) وغيره-: «جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون نقضنه ثم غسلنه ثم جعلنه ثلاثة قرون». 3 - أن يلتزم الرفق في أعمال الغُسل كلها: لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (¬4). ولأن حرمة الميت كحرمة الحي، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت، ككسر عظم الحي» (¬5). 4 - أن يضع مع الماء -في الغسلات الأُوَل- السدر (أو الصابون ونحوه): لقوله صلى الله عليه وسلم: «اغسلنها بماء وسدر». وإذا كان في تسخين الماء مصلحة كإزالة وسخ ونحوه فُعِل الأنفع له. 5 - أن يبدأ بغسل الميامن ومواضع الوضوء منه بعد النية والتسمية: لقوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء فيها». ويدخل في هذا مضمضة الميت، فإن خيف وصول الماء إلى جوفه فيفضي إلى المثلة به أو خروجه من أكفانه، فالأولى أن يمسح أسنانه وأنفه بخرقة مبللة حتى ينظفهما. ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (3141)، وأحمد (6/ 267)، والحاكم (3/ 59)، والبيهقي (3/ 387). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (338). (¬3) «المغنى» (2/ 453). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2594). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3207)، وابن ماجه (1616)، وأحمد (6/ 58).

6 - يغسل الرأس جيدًا بالماء والسدر (الصابون) حتى يصل إلى منابت الشعر، وتسريحه برفق (¬1): لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غسل الجنابة يحتفن ثلاث حفنات ويخلل رأسه حتى يصل إلى منابت الشعر كما تقدم في «الطهارة». 7 - يغسل الجانب الأيمن من الجسد: من صفحة عنقة اليمنى صبًّا إلى قدمه اليمنى، ويغسل في ذلك شق صدره وجنبه وفخذه وساقه الأيمن كله، يحركه له غيره ليتغلغل الماء ما بين فخذيه ويمر يده فيما بينهما، ثم يأخذ الماء يامنة ظهره (¬2). 8 - يصنع بالجانب الأيسر مثل ما صنع بالأيمن. 9 - يحرفه على جنبه فيغسل القفا والظهر والإليتين، وما يتبع ذلك مما لم يتيسر غسله من الأمام. 10 - يمشط الرأس، ويُضفَّر رأس الميتة ثلاث ضفائر: كل جانب من جانبي الرأس ضفيرة والناصية ضفيرة ويلقى شعر الميتة خلفها، ويكون التضفير في الغسلة الأخيرة. ففي حديث أم عطية عند البخاري (263): «.. فضفرناها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها». 11 - يُكرر الغسل عدة مرات حتى يحصل الإنقاء والتنظيف لقوله صلى الله عليه وسلم: «أو أكثر إن رأيتن» ويستحب أن يكون وترًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «واغسلنها وترًا». 12 - يضاف الكافور (أو المسك ونحوه) في الغسلة الأخيرة: لقوله صلى الله عليه وسلم: «واجعلن في الآخرة كافورًا» إلا أن يكون الميت مُحْرِمًا فإنه لا يُمس طيبًا كما سيأتي. 13 - ويرى بعض العلماء (¬3): بعد الفراغ من الغسل أن تُرد اليدان والرجلان فيلصقا بالجنبين، ويُحف القدمان، ويلصق أحد الكعبين بالآخر، ويُضم الفخذان، ثم يخفف بثوب، ورأوا كذلك أن يمسح على البطن أثناء الغسل ليخرج ما به، وأن يُقعد عند آخر كل غسلة. ¬

(¬1) «الأم» (1/ 249)، و «المغنى» (2/ 458). (¬2) «الأم» (1/ 249). (¬3) «الأم» (1/ 249)، و «المجموع» (5/ 168).

14 - ولا يمسَّ الغاسل عورة الميت بيده مباشرة إلا لضرورة: فيلف على يده خرقة يمسحه بها لئلا يمس عورته لأن النظر إليها حرام، فاللمس أولى (¬1). هل تُقَلُّم أظفار الميت أو يؤخذ من شعر عانته؟ (¬2) للعلماء في هذا قولان: أحدهما: يُفعل ما كان فطرة في الحياة، ولأنه تنظف فشرع في حقه لإزالة الوسخ، وبه قال الشافعي في الجديد. وقد يُستدل له بحديث أبي هريرة -في قصة مقتل خبيب رضي الله عنه- وفيه: «.. فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها فأعارته ...» (¬3) فكأنه استحدَّ استعدادًا للموت إذ هو بين قوم من المشركين لن يفعلوا معه ذلك بعد موته. وعن أبي قلابة: «أن سعدًا غسَّل ميتًا فدعا بموسى فحلقه» (¬4) وصحَّ نحوه عن بكر بن عبد الله المزني. الثاني: أنه يكره، لأنه قطع جزء منه فهو كالختان، وبه قال المزني من الشافعية وعن ابن سيرين: «أنه كان يعجبه إذا ثقل المريض أن يؤخذ من شاربه وأظفاره وعانته، فإن هلك لم يؤخذ منه شيء» (¬5). قلت: الأظهر أنه إذا رؤي من الميت شعر فاحش مما يسنُّ إزالته فلا مانع من أخذه، فالمردُّ في هذا إلى مصلحة الميت، والله أعلم. فائدة: ما يؤخذ من شعر الميت أو ظفره، أو ما يسقط من ذلك ماذا يُصنع به؟ قال عدد من أهل العلم: إنها تجعل معه وتدفن معه، وفي هذا جملة آثار عن السلف عند ابن أبي شيبة (3/ 247) فلتراجع. إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين حي: إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين، فإن كانت ترجى حياته فإنه يُشَقُّ بطنها ¬

(¬1) «الأم» (1/ 249)، و «المغنى» (2/ 457). (¬2) «الغسل والكفن» (ص: 97)، و «الأم» (1/ 248)، و «المجموع» (5/ 178). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3989)، وأحمد (2/ 294)، وأبو داود (2660) وغيرهم. (¬4) رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 247)، ورجاله ثقات ليس فيه إلا ما يخشى من إرسال أبي قلابة. (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 246).

لإخراجه فإن لم تُرجَ حياته لم يشق، وهو مذهبا الحنفية والشافعية والمتجه عند الحنابلة، وبعض المالكية (¬1). إذا ماتت المرأة وهي حائض أو جنب تُغسَّل غسلاً واحدًا: لأنها إذا ماتت خرجت من أحكام التكليف ولم يبق عليها عبادة واجبة، وإنما الغسل للميت تعبُّد، وليكون في حال خروجه من الدنيا على أكمل حال من النظافة والنضارة، وهذا يحصل بغسل واحد، ولأن الغسل الواحد يجزئ من وجب في حقه موجبان له كما لو اجتمع الحيض والجنابة (¬2). من غسَّل ميتًا، هل يغتسل؟ رُوى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غسَّل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (¬3) وهو حديث مضطرب ضعفه أئمة الحديث: ابن المديني وأحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى والشافعي وابن المنذر والبيهقي وغيرهم. ورُوى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة وغسل الميت» (¬4) وهو ضعيف كذلك. وفي حديث ناجية بن كعب -في قصة موت أبي طالب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: «اذهب فَوارِ أباك ثم لا تحدثن شيئًا حتى تأتيني» قال: فذهبت فواريته وجئته، فأمرني، فاغتسلت ودعا لي» (¬5) وهو مختلف في تحسينه، على أنه ليس فيه أن عليًّا غسلَّه. ومما سبق يتضح أنه لا يثبت حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيجاب الغسل على من غسَّل الميت، بل ورد عنه خلافه: فعن ابن عباس قال: قال رسول الله ¬

(¬1) «الفتاوى الهندية» (1/ 157)، و «غاية المنتهى» (1/ 254)، و «بلغة السالك» (1/ 232). (¬2) «المغنى» لابن قدامة (2/ 463) بتصرف يسير. (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3161)، وأحمد (2/ 433)، والبيهقي (1/ 303) وغيرهم وطرقه كلها معلولة، انظر «الغسل والكفن» (ص: 110 وما بعدها) ومع هذا فقد صححه العلامة الألباني -رحمه الله- ولكلٍّ وجهة. (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3160)، وضعَّفه، وضعفه البخاري كما في البيهقي (1/ 302). (¬5) في سنده لين: أخرجه أبو داود (3214)، والنسائي (4/ 79)، وأحمد (1/ 97) وسنده لين، وهل يحسَّن بمجموع الطرق؟ محلُّ نظر، وقد صححه الألباني.

صلى الله عليه وسلم: «ليس عليكم في غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم» (¬1) لكنه معلول كذلك والصواب وقفه على ابن عباس. وعلى كل حال فإن جمهور أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم لا يرون وجوب الاغتسال من غسل الميت، وإنما يرونه مستحبًّا (¬2). وهذا ثابت عن ابن عباس وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم بأسانيد صحيحة (¬3). على أن بعض أهل العلم كأبي داود قد قال بعد إيراد حديث أبي هريرة: وهذا منسوخ. إذا عُدم الماء أو تعذَّر استعماله يُيَمَّم الميت (¬4): إذا تعذر غسل الميت لفقد الماء، أو خيف من غسله أن يتهرى لحرق ونحوه، يُيمم، وهذا التيمم واجب لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة نجاسة فوجب الانتقال فيه عند العجز عن الماء إلى التيمم كغسل الجنابة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا إذا لم نجد الماء» (¬5). إذا دفن الميت دون أن يُغَسَّل؟ فذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وداود وابن حزم إلى أنه يجب نبشه ليغسَّل ما لم يتغيَّر. وقال أبو حنيفة: لا يجب ذلك بعد إهالة التراب عليه!! (¬6) قلت: يدلُّ على جواز إخراج الميت من قبره لغرض صحيح: حديث جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته، فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه» (¬7). ¬

(¬1) أُعِلَّ بالوقف. أخرجه الحاكم (1/ 386)، والبيهقي (1/ 306) وضعَّفه والصواب وقفه على ابن عباس. (¬2) «الأم» (1/ 235)، و «المجموع» (5/ 185)، و «معالم السنن» (3/ 512). (¬3) انظر «الغسل والكفن» (ص: 120 - 125). (¬4) «المجموع» (5/ 178)، و «المحلى» (5/ 122). (¬5) صحيح: تقدم في «التيمم». (¬6) «المجموع» (5/ 300)، و «المحلى». (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1350)، ومسلم (2773).

تكفين الميت

تكفين الميِّت حكمه: أجمع العلماء على أن تكفين الميت بما يستره فرض كفاية، وقد دلَّت النصوص على ذلك: 1 - فعن ابن عباس أن رجلاً وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبين، ولا تُمسَّوه طِيبًا، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيًا» (¬1). 2 - وفي حديث خباب بن الأرت قال: «هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئًا منهم مصعب بن عمير -ومنا من أينعت له ثمرته فهو يُهْدبِها- قُتل يوم أُحد فلم نجد ما نكفِّنه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر» (¬2). 3 - وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يومًا فذكر رجلاً من أصحابه قُبِضَ فكُفِّن في كفن غير طائل، وقُبر ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقْبَر الرجل بالليل حتى يُصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كفَّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه» (¬3). على من تكون تكاليف الكفن (¬4)؟ ذهب أكثر أهل العلم إلى أن قيمة الكفن وتكاليف الغسل والدفن من رأس مال الميت، واستدلَّ بعضهم بحديث عبد الرحمن بن عوف «أنه أتُي يومًا بطعامه فقال: قُتل مصعب بن عمير -وكان خيرًا مني- فلم يوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بردة ....» الحديث (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1267)، ومسلم (1206). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1276)، ومسلم (940). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (943)، وأبو داود (3148)، والنسائي (4/ 33)، والمراد بإحسان الكفن: نظافته وكثافته وستره ونحوه، لا أن المراد السرف فيه والمغالاة ونفاسته (أفاده النووي). (¬4) «الأم» (1/ 236)، و «المجموع» (5/ 188)، و «المحلى» (5/ 121)، و «الغسل والكفن» (ص: 150). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1274)، وغيره.

وقال أكثرهم: يُبدأ بالكفن ثم بالدَّين ثم بالوصية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي وقصه بعيره: «وكفنوه في ثوبين» ولم يستفصل هل عليه دين أم لا؟ فدلَّ على تقديم الكفن على الدين، فليس لغرمائه ولا لورثته منع ذلك، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمهم نفقته فإن لم يكن ففي بيت المال فإن لم يكن وجب على المسلمين يوزعه الإمام على أهل اليسار وعلى من يراه .. وقيل: بل يقدَّم الدين، لأن الله تعالى لم يجعل ميراثًا ولا وصية إلا فيما يخلفه المرء بعد دينه فصحَّ أن الدين مقدَّم، فإن لم يكن له مال وجب على المسلمين تكفينه، وأما الاستدلال بحديث من وقصه بعيره فيرد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تكفل بديون من مات من المسلمين لقوله: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته» (¬1) وهو قول أبي محمد بن حزم. وأما تكاليف المرأة المزوَّجة: فقال بعض أهل العلم: يُلزم زوجها بتكاليف كفنها وسائر مؤن تجهيزها (¬2)، وقيل: بل يُخصم من رأس مالها إن تركت مالاً ولا يلزم زوجها، لأن أموال المسلمين محظورة إلا بنص قرآن أو سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» (¬3) وإنما أوجب تعالى على الزوج النفقة والكسوة والإسكان، ولا يسمى في اللغة التي خاطبنا الله تعالى بها الكفن كسوة، ولا القبر إسكانًا» (¬4). قلت: وهذا هو الأظهر والله أعلم. فائدة: يجوز للشخص تجهيز كفنه قبل الموت: فعن سهل بن سعد «أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتُها ... قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان، فقال: اكسنيها ما أحسنها، قال القوم: ما أحسنتَ، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يردُّ؟! ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6731)، وغيره. (¬2) «المجموع» (5/ 188)، وانظر كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 189) ط. التوفيقية. (¬3) صحيح: يأتي بطوله وتخريجه في «الحج». (¬4) «المحلى» لابن حزم (5/ 122).

صفة الكفن

قال: إني والله ما سألتهُ لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه (¬1). صفة الكفن: (أ) كفن الرجال: عن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفِّن في ثلاثة أثواب يمانية بيض سَحُولِيَّة (¬2) من كُرْسُف (¬3) ليس فيهن قميص ولا عمامة» (¬4). ويؤخذ من هذا الحديث ومن غيره أنه يستحب في الكفن ما يأتي: 1 - أن يكون أبيض: ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنه خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» (¬5). 2 - أن يكفَّن الرجل في ثلاثة أثواب. 3 - أن تكون من القطن. 4 - أن لا يكون فيها قميص ولا عمامة، وإن كفِّن في قميص فلا بأس وإن كان الأولى تركه، فعن ابن عمر أن عبد الله بن أُبَيٍّ لما تُوفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفِّنه فيه وصلِّ عليه واستغفِر له، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ... الحديث» (¬6) قال الشافعي في «الأم» (1/ 236): وإن كفن في قميص، جعل القميص دون الثياب والثياب فوقه ... اهـ. 5 - أن يكون أحد هذه الأثواب ثوب حبرة: أي مُخططًا أو ملونًا، فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توفى أحدكم فوجد شيئًا، فليكفن في ثوب حَبِرَة» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1277)، وابن ماجه (3555). (¬2) ثياب بيض نقية منسوبة إلى قرية سحول باليمن. (¬3) الكرسف هو: القطن. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1264)، ومسلم (941). (¬5) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (3878)، والترمذي (994)، وابن ماجه (1472) وغيرهم. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1269)، ومسلم (2774). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (3150)، والبيهقي (3/ 403)، وقد أعلَّه ابن معين بما رُدَّ عليه، وقد ورد نحوه عند أحمد (3/ 335)، وابن أبي شيبة (3/ 266) من وجهين آخرين فصحَّ الحديث، وهو في «صحيح الجامع» (455).

6 - أن يُطيَّب الكفن: فعن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أجمرتم الميت، فأجمروه ثلاثًا» (¬1). وقد استحب هذا طائفة من أهل العلم، قالوا: ولأن هذا عادة الحي عند غسله وتجديد ثيابه أن يجمر بالطيب والعود فكذلك الميت (¬2). إذا لم يَكْفِ الثوب لتغطية جميع الجسد؟ تقدم في حديث خباب أن مصعب بن عمير «... قُتل يوم أُحد فلم نجد ما نكفنه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر» (¬3). ويستفاد منه أنه إذا لم يوجد ساتر البتة أنه يغطى جميعه بالإذخر فإن لم يوجد فبما تيسر من نبات الأرض (¬4). تكفين المُحِرْم في ثياب إحرامه، وعدم تغطية رأسه: لما تقدم في حديث ابن عباس قال: بينا رجل واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين -أو قال: في ثوبيه- ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة يُلبِّي» (¬5). تكفين الشهيد في ثيابه التي قتل فيها أو في غيرها: عن عبد الله بن ثعلبة بن صفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحد: «زملوهم في ثيابهم» (¬6). ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد (3/ 331)، وابن أبي شيبة (3/ 265)، والحاكم (1/ 355)، والبيهقي (3/ 405). (¬2) «المغنى» (2/ 464)، وانظر «المجموع» (5/ 197). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1276)، وقد تقدم. (¬4) «فتح الباري» (3/ 142). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1849) وقد تقدم. (¬6) حسن بطرقه: أخرجه بهذا اللفظ أحمد (5/ 431) بسند لين، وقد ضعفه بعض أهل العلم بأنه مخالف لسائر رواياته عند أحمد (5/ 431)، والنسائي (4/ 87 - 6/ 28) بلفظ «زملوهم بكلومهم ودمائهم» قلت: لا مخالفة، لأن مؤدى اللفظين واحد كما هو واضح، ثم للحديث شاهد من حديث جابر عند أبي داود (3133)، وآخر عن ابن عبس (3134) وابن ماجه (1515) وغيرهما، والله أعلم.

وقد اتفق أهل العلم على استحباب تكفين الشهداء في ثيابهم التي قتلوا فيها، وقال أكثرهم: ينزع عنهم من لباسهم ما لم يكن من عادة لباس الناس من الجلود والفراء والحديد (¬1). ومما يدل على أن تكفين الشهداء في ثيابهم مستحب وليس بواجب مُحتَّم: حديث الزبير في أن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفِّن فيهما حمزة رضي الله عنه، فكفنه في أحدهما، وكفن في الآخر الأنصاري الذي لم يكن له كفن (¬2). فدلَّ على أن الخيار للولي. وكذلك تقدم حديث تكفين مصعب بن عمير، وقد قتل في أُحد. (ب) كفن المرأة: كفن المرأة ككفن الرجل، إلا أن المستحب -عند أكثر أهل العلم- أن يكون خمسة أثواب، وقد ورد في هذا حديث ضعيف الإسناد أن ليلى بنت قائف الثقفية قالت: «كُنت فيمن غسَّل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِقو، ثم الدِّرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعدُ في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب، معه كفنها يناولناه ثوبًا ثوبًا» (¬3). قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفَّن المرأة في خمسة أثواب، وإنما استحب ذلك لأن المرأة تزيد في حال حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته، فكذلك بعد الموت. اهـ (¬4). تكفين المرأة في الحرير: جائز، لأنه يجوز لبسه في الحياة، لكن يكره تكفينها فيه لأن فيه سرفًا، ويشبه إضاعة المال، بخلاف اللبس في الحياة فإنه يجمل للزوج (¬5). ¬

(¬1) «المغنى» (2/ 531). (¬2) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد (1/ 165)، والبيهقي (3/ 401) وغيرهما. (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3157) بسند ضعيف. (¬4) «المغنى» (2/ 470)، وانظر «المجموع» (5/ 205). (¬5) «المجموع» للنووي (5/ 197).

حمل الجنازة واتباعها

حمل الجنازة واتبَّاعها حمل الجنازة واتِّباعها من حقوق الميت على المسلمين، لحديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق المسلم على المسلم خمس: ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» (¬1). وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُودوا المريض، واتَّبِعوا الجنائز تذكركم الآخرة» (¬2). وقد أجمع أهل العلم على أن حمل الجنازة فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وذهب جمهورهم إلى أن اتباعها وتشييعها سنة (¬3)، لحديث البراء بن عازب قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز» (¬4) قالوا: والمر هنا للندب لا للوجوب؛ للإجماع!! قلت: إن ثبت الإجماع فذاك، وإلا فلا فرق بين حكم الحمل والتشييع، والظاهر أن كليهما فرض كفاية، والله أعلم. حمل الجنازة على أعناق الرجال: السنة أن تُحمل الجنازة على أعناق الرجال، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وُضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها، أين تذهبون بها؟! يسمع صوتها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سمعه صعق» (¬5). وفيه أنه لا يشرع للنساء حمل الجنازة سواء كان الميت ذكرًا أو أنثى، ولا خلاف في هذا، لأن النساء يضعفن عن الحمل، وربما انكشف منهن شيء لو حملن، ويضاف إلى هذا ما يتوقع منهن من الصراخ عند حمله ووضعه، ولأن الجنازة لابد أن يشيعها الرجال، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال فيفضي إلى الفتنة (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1240)، ومسلم (2162). (¬2) حسن: أخرجه أحمد (3/ 27)، والبخاري في «الأدب المفرد» (518)، وابن أبي شيبة (4/ 73) وغيرهم. (¬3) «ابن عابدين» (1/ 624)، و «الفتاوى الهندية» (1/ 159)، و «الفتح» (3/ 112)، و «شرح مسلم» (1/ 188). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1239)، ومسلم (2066). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1314)، والنسائي (1/ 270)، وأحمد (3/ 41). (¬6) «المجموع» (5/ 270)، و «الفتح» (3/ 217)، و «جامع أحكام النساء» (1/ 535).

الإسراع بالجنازة: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدَّمونها إليه، وإن يك سوى ذل فشرٌّ تضعونه عن رقابكم» (¬1). والمراد بالإسراع: الزيادة على المشي المعتاد، لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة للميت أو مشقة على الحامل أو المشيِّع. تنبيه: لا يُشرع حمل الجنازة على سيارة والاكتفاء بذلك عن حملها على الأعناق لأمور (¬2): 1 - أن هذا من عادات الكفار وقد أُمرنا بمخالفتهم. 2 - أنها بدعة في عبادة مع معارضتها للسنة العملية في حمل الجنازة. 3 - أنها تفوِّت الغاية من حملها وتشييعها، وهي تَذكر الآخرة. 4 - أنها سبب لتقليل المُشيِّعين لها لا سيما إن كان المشيعون لها في سياراتهم!! 5 - أن هذه الصورة لا تتفق مع ما عُرف عن الشريعة المطهرة السمحة من البعد عن الشكليات والرسميات، لا سيما في مثل هذا الأمر الخطير: الموت. قلت: وقد نصَّ الفقهاء على كراهة حمل الجنازة على ظهر الدابة بلا عذر، أما إذا كان عذر كأن كان المحل بعيدًا يشق حمله على الرجال، فيجوز (¬3)، وأقوال: ينبغي حينئذ أن يوقفوا العربات ويحملوا الجنازة مسافة مناسبة تحقيقًا للسنة وغايتها. اتباع الجنازة مرتبتان: 1 - اتباعها من عند أهلها حتى الصلاة عليها. 2 - اتباعها من عند أهلها حتى يُفرغ من دفنها، وكلاهما فعله النبي صلى الله عليه وسلم (¬4). ولا شك أن المرتبة الثانية أفضل، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد الجنازة [من بيتها] حتى يُصَلَّى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن، فله قيراطان [من الأجر]» قيل: يا رسول الله، وما القيراطان؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين، وفي رواية: كل قيراط مثل أُحُد» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1315)، ومسلم (944). (¬2) انظر «أحكام الجنائز» للإمام الألباني -رحمه الله- (ص: 99) ط. المعارف. (¬3) «ابن عابدين» (1/ 623)، و «المجموع» (5/ 270). (¬4) انظر: «أحكام الجنائز» (ص: 87، 88). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1325)، ومسلم (945).

نهي النساء عن اتباع الجنازة: هذا الفضل -المتقدم- في اتباع الجنائز إنما هو للرجال دون النساء، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباعها: فعن أم عطية قالت: «نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزم علينا» (¬1). وقد حمل جمهور العلماء هذا النهي على الكراهة لا على التحريم (¬2) لقولها: «ولم يُعزم علينا». لكن ... قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (24/ 355): «قد يكون مرادها: لم يؤكد النهي، وهذا لا ينفي التحريم، وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهي تحريم، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا في ظنِّ غيره» اهـ. أين يمشي المُشيِّعون للجنازة؟ يجوز المشي خلف الجنازة وأمامها، وعن يمينها ويسارها قريبًا منها، فعن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعُمر، كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها» (¬3). لكن الأفضل المشي خلفها لأنه مقتضى الأدلة الآمرة باتباع الجنائز، ويؤيده قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذًّا» (¬4) وهذا مذهب الأوزاعي وأبي حنيفة وإسحاق خلافًا للجمهور (¬5). ويجوز ركوب المشيِّعين، لكن خلف الجنازة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الراكب يسير خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها ...» (¬6). وإن كان الأفضل المشي لأنه المعهود عنه صلى الله عليه وسلم، وروى ثوبان رضي الله عنه: «أن رسول الله أُتي بدابة -وهو مع الجنازة- فأبى أن يركبها، فلما انصرف أُتي بدابة فركب، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1278)، ومسلم (938). (¬2) «المجموع» (5/ 277)، و «فتح الباري» (2/ 599)، و «ابن عابدين» (1/ 208). (¬3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1483)، والطحاوي (1/ 278)، وهو عند أبي داود (3179)، والترمذي (1077)، والنسائي (4/ 56) بدون (وخلفها)، وانظر «الإرواء» (739). (¬4) حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 101)، وأحمد (1/ 97)، والبيهقي (4/ 25)، وحسنه الحافظ وقال: له حكم الرفع. (¬5) «الأم» (1/ 240)، و «بداية المجتهد» (1/ 344)، و «فتح الباري» (3/ 219). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (3180)، والترمذي (1031)، والنسائي (1/ 275)، وأحمد (4/ 247).

من آداب اتباع الجنائز

فقيل له، فقال: «إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبتُ» (¬1). من آداب اتباع الجنائز: 1 - عدم اتباعها بمبخرة أو نار: فقد اتفق الفقهاء على أن الجنازة لا تتبع بنار في مجمرة (مبخرة) ولا شمع ونحوه إلا لحاجة ضوء أو نحوه، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُتَّبع الجنازة بصوت ولا نار» (¬2). وفي سنده مقال، إلا أنه يتأيد بما صحَّ عن عمرو بن العاص أنه قال في وصيَّته: «فإذا أنا مِتُّ، فلا تصحبني نائحة ولا نار» (¬3). وعن أبي هريرة أنه قال حين حضره الموت: «لا تضربوا عليَّ فسطاطًا، ولا تتبعوني بمجمر (وفي رواية: بنار)» (¬4). وعن أبي موسى أنه أوصى حين حضره الموت قال: «إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي، ولا تتبعوني بمجمر ...» (¬5). 2 - الصمت عند اتباع الجنازة: فلا يجوز رفع الصوت مع الجنازة لا بالذكر ولا بغيره، فعن قيس بن عُبَاد قال: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز» (¬6). ولأن فيع تشبُّهًا بالنصارى، فإنهم يرفعون أصواتهم بشيء من أناجيلهم وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين. قال النووي في «الأذكار» (ص: 203): «واعلم أن الصواب المختار، وما كان عليه السلف رضي الله عنهم السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يُرفع صوتٌ بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي انه أسكنُ لخاطره، وأجمعُ لفكره ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3177)، والحاكم (1/ 355)، والبيهقي (4/ 23)، وانظر أحكام الجنائز (ص: 97). (¬2) قواه الألباني بشواهد: أخرجه أبو داود (3171)، وأحمد (2/ 427)، وانظر «أحكام الجنائز» (ص 91). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (121)، وأحمد (4/ 199). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2/ 292). (¬5) إسناده حسن: أخرجه ابن ماجه (1487)، وأحمد (4/ 397)، والبيهقي (3/ 395). (¬6) رجاله ثقات: أخرجه البيهقي (4/ 74)، وابن المبارك في «الزهد» (83).

فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترَّ بكثرة من يخالفه ....» اهـ. قلت: وأما ما اعتاده الناس في زماننا من الذكر أمام الجنازة، وقول أحدهم «وحِّدوه!!» ورد المشيِّعين عليه. أو قوله «اشهدوا له!!» فبدعة نص الفقهاء على نحوها (¬1). قال الألباني (¬2) -رحمه الله-: «وأقبح من ذلك تشييعها بالعزف على الآلات الموسيقية أمامها عزفًا حزينًا كما يفعل في بعض البلاد الإسلامية تقليدًا للكفار، والله المستعان» اهـ. 3 - عدم جلوس المشيِّعين قبل وضع الجنازة: عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع» (¬3) والمراد حتى توضع على الأرض عن الأعناق، وقيل: حتى توضع في اللحد. وقد قال باستحباب القيام حتى توضع الجنازة، أكثر الصحابة والتابعين -كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وهو المختار عند الشافعية (¬4). 4 - هل يقوم عند مرور الجنازة؟ (¬5) عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلِّفكم [أو توضع]» (¬6). وعن جابر بن عبد الله قال: مرَّ بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم، فقمنا به، قلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا» (¬7). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (1/ 608)، و «الشرح الصغير» (1/ 229)، و «مغنى المحتاج» (1/ 247). (¬2) «أحكام الجنائز» (ص: 92) ط. المعارف (1412 هـ - 1992 م). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1310)، ومسلم (959). (¬4) «فتح الباري» (3/ 213)، و «المجموع» (5/ 280)، و «الاعتبار» للحازمي (ص: 138). (¬5) «فتح الباري» (3/ 216)، و «المجموع» (5/ 280)، و «الاعتبار» (ص: 138)، و «الفتاوى الهندية» (1/ 160)، و «المحلى» (5/). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1307)، ومسلم (958). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1311)، ومسلم (960).

صلاة الجنازة

وفي لفظ عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد: «أليست نفسًا؟» (¬1). لكن .. ذهب أكثر أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم إلى أن القيام للجنازة منسوخ بحديث علي بن أبي طالب قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنازة فقمنا، ثم جلس فجلسنا» (¬2). وفي لفظ: «... ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس» (¬3). ذهب ابن حزم وابن حبيب وابن الماجشون من المالكية وبعض الشافعية -واختاره النووي- إلى أن قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام لبيان الجواز وأن الأمر كان للندب، وأن النسخ لا يُصار إليه إلا إذا تعذَّر الجمع وهو هنا ممكن. صلاة الجنازة حكمها: الصلاة على الجنازة فرض كفاية -إذا فعله بعض المسلمين سقط عن الباقين- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه فضلاً؟ فإن حُدِّث أنه ترك وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: «صلوا على صاحبكم» (¬4). وعن زيد بن خالد الجهني: «أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفى يوم خيبر فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صلوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله» ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز اليهود لا يساوي درهمين (¬5). فضلها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد الصلاة حتى يصلى ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1312)، ومسلم (961). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (962)، وابن ماجه (1544)، وأحمد (1/ 13). (¬3) جوَّده الألباني: أخرجه أحمد (1/ 82)، والطحاوي (1/ 282)، وانظر «أحكام الجنائز» (ص: 101). (¬4) أخرجه البخاري (1251)، والنسائي (1960). (¬5) صححه الألباني. أخرجه مالك في الموطأ (2/ 14)، وأبو داود (2710)، والنسائي (4/ 64)، وابن ماجه (2848)، وأحمد (4/ 114، 5/ 192)، وانظر «الإرواء» (726).

عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى يدفن فله قيراطان. قيل وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين» (¬1). وعن عبد الله بن عباس: «أنه مات ابن له بقديد -أو بعسفان- فقال: يا كريب انظر ما اجتمع له من الناس. قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته. فقال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم. قال: أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه» (¬2). وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه» (¬3). موقف الإمام من الجنازة: القول الأول: أن يقف الإمام حذاء رأس الرجل، وحذاء وسط المرأة. وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق (¬4)، وقد اختاره بعض الحنفية (¬5). قال الشوكاني: «وهو الحق». واحتجوا بحديث أنس بن مالك: أن أبا غالب الخياط قال شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه [وفي رواية: رأس السرير] فلما رفع، أتى بجنازة امرأة من قريش -أو من الأنصار- فقيل له: يا أبا حمزة هذه جنازة فلانة ابنة فلان فصلِّ عليها، فصلى عليها، فقام وسطها [وفي رواية: عند عجيزتها، وعليها نعش أخضر] وفينا العلاء بن زياد العدوي. فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة قال: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم، قال: فالتفت إلينا العلاء فقال: احفظوا (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (945). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (948). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (947). (¬4) «المجموع» للنووي (5/ 225). (¬5) الهداية (1/ 462)، وشرح المعاني (1/ 284). (¬6) صححه الألباني. أخرجه أبو داود (3194)، والترمذي (1034)، وحسنه، وابن ماجه (1494)، وأحمد (3/ 118، 204)، والبيهقي (4/ 33)، والطيالسي (2149)، وانظر: أحكام الجنائز للعلامة الألباني (ص: 138).

وحديث سمرة بن جندب قال: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها (¬1). القول الثاني: أن يقف عند صدر الميت سواء في ذلك الرجل والمرأة وقد أجابوا عن حديث أنس المتقدم بأن وقوفهم عند وسط المرأة إنما كان من أجل الستر حيث لم تكن النعوش، واستشهدا بزيادة رواها أبو داود من حديث أنس المتقدم وهي: «قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس في قيامه على المرأة عند عجيزتها. فحدثوني أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش، فكان يقوم الإمام حيال عجيزتها يسترها من القوم (¬2). وقد أجاب الشيخ العلامة: الألباني على ما ذهب إليه الأحناف فقال: فهذا التعلي مردود من وجوه: الأول: أنه صادر من مجهول، وما كان كذلك فلا قيمة له. الثاني: أنه خلاف ما فعله راوي الحديث نفسه وهو أنس رضي الله عنه فإنه وقف وسطها مع كونها في النعش، ودل ذلك على بطلان ذلك التعليل ... إلخ (¬3). وقال ابن حزم في المحلى: ويصلي على الميت بإمام يقف ويستقبل القبلة والناس وراءه صفوف، ويقف من الرجل عند رأسه ومن المرأة عند وسطها ... إلخ (¬4). يستحب أن يصفوا وراء الإمام ثلاثة صفوف وإن قلوا: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ميت يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب» (¬5). وكلما كثر الجمع كان أفضل للميت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1332)، ومسلم (964) واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (3194). (¬3) انظر: أحكام الجنائز وبدعها للألباني ص 139 في الهامش. (¬4) المحلى لابن حزم (5/ 123). (¬5) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (3150)، والترمذي (1033)، وابن ماجه (1490). (¬6) صحيح: مسلم (947)، والترمذي (1034)، والنسائي (4/ 75).

اجتماع جنائز الرجال والنساء: إذا اجتمع أكثر من ميت من الرجال والنساء، فإن للإمام أن يصلي على كل جنازة على حدة، ويجوز له كذلك أن يصلي عليهم صلاة واحدة، ويصف الجنائز واحدًا بعد الآخر ليكونوا جميعًا بين يدي الإمام، ويكون الرجال أمام والنساء (الأموات) مما يلي القبلة: فعن نافع أن ابن عمر صلى على تسع جنائز جميعًا فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القبلة، فصفهن صفًّا واحدًا، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت على امرأة عمر بن الخطاب وابن لها يقال له: زيد، وُضعا جميعًا والإمام يومئذ سعيد بن العاص وفي الناس ابن عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد وأبو قتادة فوضع الغلام مما يلي الإمام فقال رجل: فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة» (¬1). يجوز للنساء الصلاة على الجنازة: يجوز للنساء الصلاة على الجنازة إذا لم يتبعن الجنازة بل تَوافَق وجودهن حيث يصلى عليها: فعن عبد الله بن الزبير: «أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرى ما نسى الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد» (¬2). فائدة: في هذا الحديث أنه يجوز الصلاة على الجنازة في المسجد، لكن الأفضل الصلاة عليها خارج المسجد في مكان مُعَد للصلاة على الجنائز، فقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم والغالب من فعله (¬3). هل يصلى على بعض أجزاء الميت؟ قد وردت آثار تدور بين الضعف والإرسال عن بعض الصحابة أنهم صلوا على بعض أجزاء الميت: ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه النسائي (4/ 71)، والدارقطني (2/ 79)، والبيهقي (4/ 33)، وعبد الرزاق (6337). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (973)، وأبو داود (3173)، والنسائي (4/ 68). (¬3) الوجيز (ص: 174).

- فعن خالد بن معدان أن أبا عبيدة صلى على رءوس بالشام (¬1). - وروى عن أبي أيوب أنه صلى على رِجْل (¬2). - وعن عمر أنه صلى على عظام بالشام (¬3). وجملة الأقوال في هذه المسألة ثلاثة أقوال عن أهل العلم: الأول: أنه يصلى عليه سواء قل البعض أم كثر وهو قول الشافعي وأحمد (¬4) وبه قال ابن حزم (¬5). الثاني: إن وجد أكثر من نصفه غسل وصلى عليه وإن وجد النصف فلا غسل ولا صلاة وهو قول أبي حنيفة. وقول مالك قريب من ذلك فذهب إلى أنه لا يصلى على اليسير منه (¬6). الثالث: أنه لا يصلى عليه مطلقًا وهو قول داود (¬7). قلت: والذي تميل إليه النفس أنه إن لم يكن قد صلى عليه فإنه يغسل ويصلى على ذلك الجزء ويدفن. وإن كان قد صلى على الميت ثم وجد جزء منه فلا يصلى عليه ولكن يغسل ويدفن. والله تعالى أعلم. لا يصلى على شيء من أجزاء الحي: وذلك لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أنهم صلوا على ما فصل عن الحي، مع تواتر الأخبار بأنه أقيمت الحدود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعد وقطعت أيدٍ فلم يذكر أنهم غسلوا وصلوا على شيء منها، والله تعالى أعلم. الصلاة على السقط والطفل: أولا: الطفل: ونعني به من لم يبلغ الحلم، فإنه تشرع الصلاة عليه؛ فعن عائشة قالت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من صبيان الأنصار، فصلى عليه، قالت عائشة: فقلت: طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءًا، ولم ¬

(¬1) مرسل: أخرجه ابن أبي شيبة (4013)، والبيهقي (4/ 18). (¬2) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 40). (¬3) مرسل: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 41). (¬4) المجموع للنووي (5/ 214). (¬5) المحلى لابن حزم (5/ 138 المسألة: 580). (¬6) المجموع للنووي (5/ 214). (¬7) المجموع للنووي (5/ 214).

يدرك، قال: أو غير ذلك يا عائشة؟ خلق الله عز وجل الجنة، وخلق لها أهلاً، وخلقهم في أصلاب آبائهم وخلق النار، وخلق لها أهلاً، وخلقهم في أصلاب آبائهم» (¬1). ثانيًا: الصلاة على السقط: لا خلاف بين أهل العلم أن السقط إذا استهل صارخًا أو عاطسًا صُلى عليه. قال ابن المنذر (¬2): وأجمعوا على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل صُلي عليه اهـ. وإنما وقع الخلاف في السقط إذا لم يستهل: فذهب قوم إلى أنه لا يُصلَّى عليه، يروى ذلك عن جابر بن عبد الله وابن عباس، وبه قال الزهري، وهو قول الثوري، والأوزاعي، ومالك والشافعي، وأصحاب الرأي (¬3). ويستدلون بما رواه جابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرث الصبي حتى يستهل صارخًا» (¬4). وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استهل المولود ورث» (¬5). وذهب قوم إلى أنه يصلى عليه، يروى ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة وبه قال ابن سيرين، وابن المسيب وهو قول أحمد وإسحاق (¬6). واستدلوا بحديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2662)، والنسائي (1/ 76)، واللفظ له، وأحمد (6/ 208). (¬2) الإجماع ص30. (¬3) شرح السنة للبغوي (5/ 373). (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (1032)، والنسائي في «الكبرى» (6358، 6359)، وابن ماجه (1508، 2750، 2751)، والدارمي (4126)، وابن أبي شيبة (11603)، وعبد الرزاق (6608)، وابن حبان (6032)، والحاكم (4/ 348)، (1/ 363)، والبيهقي (4/ 8). (¬5) في إسناده ضعف: أخرجه أبو داود (2920). (¬6) شرح السنة للبغوي (5/ 373). (¬7) صحيح: أخرجه الترمذي (1031)، والنسائي (4/ 358، 360)، وابن ماجه (1507)، وأحمد (4/ 247، 248) وغيرهم.

وقد أجاب إسحاق عن استدلال الفريق الأول فقال: إنما الميراث بالاستهلال، أما الصلاة فإنه يصلى عليه لأنه نسمة كتب عليه الشقاء والسعادة (¬1). وقد نقل الخطابي (¬2) عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أنهما قالا: كل ما نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر وعشر صلى عليه اهـ. قال النووي -رحمه الله-: «والظاهر أن السقط إنما يصلى عليه إذا كان قد نفخت فيه الروح، وذلك إذا استكمل أربعة أشهر، ثم مات، فأما إذا سقط قبل ذلك فلا، لأنه ليس بميت كما لا يخفى. وأصل ذلك حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إله ملكًا ... ينفخ فيه الروح (¬3). الصلاة على أهل البدع والكبائر والمعاصي: حاصل كلام أهل العلم أنه يُصلَّى على كل مسلم ولو كان من أهل الكبائر والفُساق، أو من أهل البدع -ما لم يكفَّ- ببدعته- لكن إن ترك أئمة الدين وأهل الفضل الذي يُقتدى بهم الصلاة على أحدهم زجرًا لأمثالهم فهو حسن، كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على قاتل نفسه (¬4) وقال لأصحابه: «صلوا عليه». وقد قال بهذا مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة (¬5). الصلاة على من عليه دين: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت، عليه الدين، فيسأل: «هل ترك لدينه من قضاء». فإن حدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال «صلوا على صاحبكم»، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفى وعليه دين فعليَّ قضاؤه ومن ترك مالاً فهو لورثته» (¬6). ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي (5/ 373). (¬2) «معالم السنن» للخطابي (1/ 268 - 269). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (978) وغيره. (¬5) «المدونة» (1/ 165)، و «المغنى» (2/ 355)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 289). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (2298)، ومسلم (1619).

قال النووي -رحمه الله-: إنما كان يترك الصلاة عليه ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فلما فتح الله عليه عاد يصلي عليهم ويقضي دين من لم يخلف وفاء اهـ (¬1). وعلى هذا فلا ينبغي لأحد من المسلمين أن يدع الصلاة على المدين من أجل دينه. والحمد لله رب العالمين. الصلاة على قاتل نفسه: للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصلى عليه وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، والأوزاعي (¬2) وحجتهم حيث جابر بن سمرة قال: أتُي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص (¬3) فلم يصلِّ عليه (¬4). القول الثاني: يُصلَّى عليه وبه قال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء، وقد أجابوا عن حديث جابر المتقدم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجرًا للناس على مثل فعله، وصلَّت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه دين زجرًا لهم عن التساهل في الاستدانة وعن إهمال وفائه وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا على صاحبكم». وقال القاضي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا (¬5). القول الثالث: أن يتجنب أهل الفضل والصلاة الصلاة عليه وهو مروي عن مالك وغيره (¬6). وهو الأظهر. وإليه جنح ابن تيمية حيث قال: «فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه، وأما ¬

(¬1) مسلم شرح النووي (11/ 60). (¬2) مسلم شرح النووي (7/ 47). (¬3) المشاقص: جمع مشقص وهو نصل السهم. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (978). (¬5) انظر «النووي» شرح مسلم (7/ 47). (¬6) «النووي» شرح مسلم (7/ 47).

أئمة الدين الذين يقتدى بهم فإذا تركوا الصلاة عليه زجرًا لغيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا حق، والله أعلم اهـ (¬1). هل يصلى على شهيد المعركة؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا يصلى عليه وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق وإحدى الروايات عن أحمد (¬2). وقد استدلوا بجملة أدلة منها: 1 - حديث جابر في قتلى أُحد مرفوعًا وفيه قال: «وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلِّ عليهم» (¬3). 2 - حديث أنس أن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم [غير حمزة] (¬4). 3 - حديث أبي برزة في مقتل جليبيب وفيه قال: «فوضعه على ساعديه ليس له سرير إلا ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم قال: فحر له ووضع في قبره ولم يذكر غسلاً» (¬5). القول الثاني: أنه تجب الصلاة على الشهيد وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وابن المسيب والحسن وإليه ذهب العترة (¬6) واستدلوا بجملة أدلة، منها: حديث شداد بن الهاد أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وفي الحديث: «فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهو هو؟» قالوا: نعم. قال: «صدق الله فصدقه» ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (24/ 289). (¬2) «نيل الأوطار» (4/ 54)، الأفنان الندية (2/ 295). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1343). (¬4) حسنه الألباني: أخرجه أبو داود (3137) والزيادة له، والحاكم (1/ 520)، والبيهقي (4/ 10 - 11) وانظر «أحكام الجنائز» للألباني (73). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2472)، والطيالسي (942)، وأحمد (4/ 421، 422، 425)، والبيهقي (4/ 21). (¬6) «نيل الأوطار» (4/ 54)، و «الأفنان الندية» (2/ 295).

فكان فيما ظهر من صلاته اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا أنا شهيد على ذلك (¬1). حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أُحد بعد ثماني سنين صلاته على الميت كالمودع للأحياء والأموات (¬2). ولهم جملة أدلة أخرى لا تصفو أسانيدها من انتقاد. القول الثالث: وهو الأظهر والذي تميل إليه النفس وهو: أنه يجوز الفعل والترك فإن صلى على قتيل المعركة فحسن، وإن لم يصل عليه فحسن وهذا رأس ابن حزم (¬3) وهو إحدى الروايات عن أحمد واستصوبه ابن القيم (¬4). وفيه العمل بجميع النصوص الثابتة. فائدة: وأما شهيد غير المعركة فإنه يغسل ويصلى عليه كسائر الموتى. والله تعالى أعلم. الصلاة على الغائب: للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أنه تجوز الصلاة على الغائب وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه (¬5) وعمدتهم في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم «نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى، وكبر أربع تكبيرات» (¬6). الثاني: أنه لا يجوز الصلاة على الغائب؛ وأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي خاصة لا تعمم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة (¬7). الثالث: وفيه تفصيل أنه تجوز الصلاة على الغائب الذي مات في أرض لم يُصلِّ عليه فيها أحد، وإن صلى عليه حيث مات لم يُصلَّ عليه صلاة الغائب لأن ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي (4/ 60)، وعبد الرزاق في «المصنف» (9597)، والحاكم في «المستدرك» (3/ 595 - 596)، والبيهقي (4/ 15 - 16). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4042)، ومسلم (2296). (¬3) «المحلى» لابن حزم (5/ 115). (¬4) انظر «الأفنان الندية» (2/ 294). (¬5) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 197). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (951)، من حديث أبي هريرة مرفوعًا. (¬7) «المحلى» لابن حزم (5/ 139).

الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه. وهو مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) رحمه الله، واختاره العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- وحجتهم: أنه لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على غائب إلا على النجاشي لأنه مات بين أمة مشركة ليسوا أهل صلاة، ولو كان منهم من آمن فلا يعرف عن كيفية الصلاة شيئًا (¬2). لا يجوز الصلاة على الكافر: لا يجوز الصلاة على الكافر لقول الله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬3). وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} (¬4). الصلاة على أطفال المشركين: لا يجوز الصلاة على أطفال المشركين، لأن لهم حكم آبائهم إلا من حكمنا بإسلامه، مثل: أن يسلم أحد أبويه، أو يموت أو يسبى منفردًا من أبويه -فإنه يصلى عليه (¬5). الحكم لو وجد ميت فلم يعلم أمسلم هو أم كافر: الظاهر من أقوال أهل العلم في المسألة أن ينظر إلى العلامات من الختان والثياب والخضاب وغيرها من علامات المسلمين، فإن وجدت غسل وصلى عليه، وإن لم توجد علامات وكان في دار الإسلام غسل وصُلى عليه، وإن كان في دار الكفر لم يغسل، ولم يصل عليه. وقد نص عليه أحمد (¬6). لو اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار: اختلف العلماء في ذلك على قولين: ¬

(¬1) «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 197). (¬2) «الشرح الممتع» لابن عثيمين (5/ 439). (¬3) سورة التوبة، الآية: 84. (¬4) سورة التوبة، الآية: 113. (¬5) «المغنى» لابن قدامة (3/ 507، 508). (¬6) «المغنى» لابن قدامة (3/ 478)، وانظر «المبسوط» للسرخسي (1/ 54)، و «المجموع» للنووي (5/ 213).

أين يصلى على الجنازة؟

الأول: أنه إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين فلم يميزوا صلى عليه جميعهم ينوي المسلمين وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد (¬1). الثاني: أنه إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، فإن كانت الغلبة للمسلمين غسلوا وصلى عليهم مع الغالب إلا من عرف أنه كافر، وإن كانت الغلبة لموتى الكفار لا يصلى عليهم إلا من عرف أنه مسلم بالسيما، فإذا استويا لم يصل عليهم لأن الصلاة على الكفار منهي عنها، ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين. وهو مذهب أبي حنيفة (¬2). أين يصلى على الجنازة؟ الصلاة على الجنازة في المصلى: ويستحب الصلاة على الجنازة في المصلى لأن الغالب من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الجنائز كان في المصلى في مكان مُعد لذلك كما ورد: - عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقًا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية جهة المشرق (¬3). - وفي حديث أبي هريرة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي قال أبو هريرة: «إن النبي صلى الله عليه وسلم صف بهم بالمصلى فكبر عليه أربعًا» (¬4). - وعن عبد الله بن عمر: «أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريبًا من موضع الجنائز عند المسجد» (¬5). قال ابن حجر: ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان مُعد للصلاة عليها (¬6). الصلاة على الجنازة في المسجد: للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: ¬

(¬1) «المغنى» لابن قدامة (3/ 477). (¬2) «المغنى» لابن قدامة (3/ 477)، و «المبسوط» للسرخسي (1/ 54 - 55). (¬3) «فتح الباري» (3/ 237). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1328)، ومسلم (952). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1329). (¬6) «فتح الباري» (3/ 237).

صلاة الجنازة على القبر

الأول: وهو الكراهة، وإليه ذهب الحنفية والمالكية (¬1) وحجتهم ما أوردناه من أدلة في مسألة الصلاة على الجنازة في المصلى كما يستدلون بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له» (¬2). الثاني: الجواز وهو مذهب الحنابلة (¬3) واستدلوا بحديث عائشة أنها قالت: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد» (¬4). الثالث: الندب إذا أمن تلويث المسجد وهو مذهب الشافعية (¬5) واستدلوا بحديث عائشة المتقدم، وبأن الصلاة عليه في المسجد أشرف. صلاة الجنازة على القبر: اختلف أهل العلم في صلاة الجنازة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة على ثلاثة أقوال (¬6): الأول: يُصلَّى عليه، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وابن حزم وغيرهم، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى على قبر بعد ما دفن فكبر عليه أربعًا» (¬7). 2 - حديث أبي هريرة: «أن أسود -رجلاً أو امرأة- كان يقم المسجد فمات، ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته فذكره ذات يوم فقال: «ما فعل ذلك الإنسان؟» قالوا: مات يا رسول الله، قال: «أفلا آذنتموني؟» فقالوا: إنه كان كذا وكذا -قصته- ¬

(¬1) «فتح الباري» (3/ 224). (¬2) صححه الألباني. أخرجه أبو داود (3191)، وابن ماجه (1517)، وأحمد (2/ 444، 455، 505)، وانظر السلسلة الصحيحة (2352). (¬3) الموسوعة الفقهية (16، 36). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (973). (¬5) الموسوعة الفقهية (16، 36). (¬6) «الأم» (1/ 414)، و «المجموع» (5/ 210)، و «المدونة» (1/ 170)، و «المغنى» (3/ 500)، و «نيل المآرب» (1/ 66)، و «سنن الترمذي» رقم (1037)، و «المحلى» (5/ 139)، و «البدائع» (1/ 314). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري مطولاً (1247)، ومسلم (954) واللفظ له.

قال: فحقَّروا شأنه، قال: «فدلوني على قبره» فأتى قبره فصلَّى عليه» (¬1). وما في معناهما. والقائلون بهذا القول منهم من أجاز الصلاة على القبر إلى ثلاثة أيام لا يصلَّى بعدها، ومنهم من أجازه إلى شهر، ومنهم: ما لم يبل جسده، ومنهم من أجازها أبدًا. الثاني: لا تجوز الصلاة على القبر مطلقًا. الثالث: لا تجوز الصلاة على القبر إلا إذا دفن قبل الصلاة عليه: والقولان مرويان عن النخعي وأبي حنيفة ومالك وحجتهم: 1 - أدلة النهي عن الصلاة في المقبرة وإلى القبور. 2 - احتجوا بزيادة وردت في حديث أبي هريرة - في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل أو المرأة السوداء- أنه قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينوِّرها بصلاتي عليهم» (¬2). فقالوا: الصلاة على القبر من خصائصه صلى الله عليه وسلم. الراجح: الأدلة ثابتة في الصلاة على القبر ثبوتًا لا يُقابل بغير القبول، فأمل فيمن لم يُصلَّ عليه فالأمر أوضح من أن يخفى ولا تزال الصلاة مشروعة عليه ما عَلم الناس أنه لم يُصلِّ عليه أحد، وأما فيمن قد صُلِّي عليه فلمثل حديث السوداء المتقدم، ومعلوم أن الميت لا يدفن في عصره صلى الله عليه وسلم بدون صلاة عليه (¬3). وأما أدلة النهي عن الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبور فإنها مخصصة بما سوى صلاة الجنازة بلا شك، فإن الذي نهى عن ذلك هو الذي صلَّى على القبر، فهذا قوله وهذا فعله ولا يناقض أحدهما الآخر (¬4). وأما دعوى الخصوصية فلا تنهض، لأنها خلاف الأصل ولا تثبت إلا بدليل، والزيادة التي احتجوا بها فالصواب أنها مدرجة في هذا الإسناد وهي من مراسيل ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1337). (¬2) أخرجه بهذه الزيادة مسلم (956) من طريق أبي الربيع وأبي كامل ثنا حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة. (¬3) «الروضة الندية» (1/ 171). (¬4) «المحلى» (5/ 139)، و «زاد المعاد» (1/ 195).

أفعال صلاة الجنازة

ثابت، بيَّن ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، ولذا لم يُخرج البخاري هذه الزيادة (¬1). ثم على فرض ثبوتها، فإن مجرد كون الله ينور القبور بصلاته صلى الله عليه وسلم على أهلها لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر لغيره لا سيما بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي» (¬2) هذا، على أنه قد صلَّى بعض الصحابة على القبر خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم، فالصواب أنه تجوز الصلاة على القبر لمن لم يُصلِّ على الميت لا سيما إن كان من أهل الفضل والصلاح، والله أعلم. أفعال صلاة الجنازة: 1 - التكبير: (أ) عدد التكبيرات: قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير عدة صور: الأولى: أربع تكبيرات: - فعن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات» (¬3). - وعن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعًا» (¬4). - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مات رجل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فدفنوه بالليل، فلماأصبح أعلموه، فقال: ما منعكم أن تعلموني؟ قالوا: كان الليل، وكانت الظلمة فكرهنا أن نشق عليك، فأتى قبره فصلى عليه وكبر أربعًا» (¬5). وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي وابن أبي أوفى، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وابن عامر، ومحمد ابن الحنفية، وعطاء، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، ومالك وأصحاب الرأي، وابن المبارك، والشافعي (¬6). ¬

(¬1) «فتح الباري» (عقب حديث (458)، و «سنن البيهقي» (4/ 47). (¬2) «نيل الأوطار» (4/ 64) ط. الحديث. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1333)، ومسلم (951). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1334). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (954)، والنسائي (1/ 284). (¬6) «المجموع» للنووي (5/ 189)، و «شرح السنة» للبغوي (5/ 342، 343)، و «الأم» للشافعي (1/ 413)، و «الدسوقي» (1/ 414)، و «كشاف القناع» (2/ 112).

الثانية: خمس تكبيرات: - فعن عبد الرحمن بن أبي يعلى قال: كان زيد يكبر على جنائزنا أربعًا، وإنه كبر على جنازة خمسًا فسألته فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها (¬1). - وروى عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستًّا، وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وعلى سائر الناس أربعًا (¬2). قال الإمام الترمذي عن التكبير خمسًا: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، رأوا التكبير على الجنازة خمسًا (¬3). الثالثة: سبع تكبيرات: وقد ورد فيها حديث ضعيف وإنما ذكرتها إشارة إلى ضعف حديثها: - فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد بالقتلى فجعل يصلى عليهم فوضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم سبعًا حتى فرغ منهم» (¬4). الرابعة: تسع تكبيرات: - فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أُحد بحمزة فسجي ببردة ... ثم صلى عليه فكبر تسع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يصفون ويصلى عليهم وعليه معهم (¬5). فائدة: قد ورد عن الصحابة -رضوان الله عليهم- آثار صحيحة في التكبير على الجنازة ثلاثًا، وأربعًا، وخمسًا، وستًّا، وسبعًا (¬6). وقد أشار النووي -رحمه الله- إلى هذا الخلاف ثم قال: «.. ثم انقرض ذلك الخلاف وأجمعت الأمة الآن على أنه أربع تكبيرات بلا زيادة ولا نقص» (¬7) اهـ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (957). (¬2) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (11454). (¬3) انظر الحديث رقم (1023). (¬4) ضعيف: أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 503). (¬5) إسناده حسن: أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 503). (¬6) «الأوسط» (5/ 429)، و «ابن أبي شيبة» (1/ 497)، و «شرح المعاني» (1/ 497)، و «المحلى» (5/ 128). (¬7) «المجموع» (5/ 187) وقد كذَّب ابن حزم هذا الإجماع في «المحلى» (5/ 126) بنحو ما ذكرته أعلاه.

قلت: لا يُحتج بإجماع يخرج منه عليٌّ وابن مسعود وأنس وابن عباس والصحابة بالشام والتابعون، والصحيح أنه يُعمل بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُلتفت إلى إنكار من أنكر، وإن كان الذي يظهر من أحاديث الباب أن الزيادة في التكبير على أربع إنما يُخصُّ بها أهل العلم والفضل كما بوب عليها الطحاوي رحمه الله، والله تعالى أعلم. إذا ترك تكبيرة مما نواه (¬1): من ترك تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الجنازة: فإن تركها سهوًا فإنه يكبِّرها ثم يسلِّم، فعن أنس أنه كبَّر على جنازة ثلاثًا ثم انصرف ناسيًا، فتكلم وكلم الناس، فقالوا: يا أبا حمزة، إنك كبرت ثلاثًا؟ قال: «فصُفُّوا» ففعلوا فكبَّر الرابعة (¬2). وإن تركها الإمام عمدًا بطلت صلاته، ولا يُشرع سجود السهو على أي حال. هل يرفع يديه مع التكبيرات؟ لم يصحَّ في هذا الباب حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم فيه فريقان (¬3): الأول: قالوا: يرفع يديه في التكبيرة الأولى فقط، وهو مذهب الثوري ورواية عن أبي حنيفة ومالك وابن حزم واختاره الألباني، رحمهم الله جميعًا، وحجتهم: 1 - ما يروى عن أبي هريرة مرفوعًا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى» (¬4) وسنده تالف. 2 - ما يروى عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود» (¬5) وسنده ضعيف. 3 - أنهم أجمعوا على الرفع في الأولى، ولم يأت فيما سواها شيء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجز فعله. الثاني: قالوا: يرفع يديه في جميع التكبيرات: وبه قال أكثر أهل العلم: الشافعي وأحمد وإسحاق وهو رواية عن أبي حنيفة ومالك، وحجتهم: ¬

(¬1) «المغنى» (3/ 451)، و «ابن عابدين» (1/ 613)، و «الدسوقي» (1/ 411). (¬2) في إسناده كلام. أخرجه عبد الرزاق (6417) من طريق معمر عن قتادة وفيها كلام. (¬3) «المبسوط» (2/ 46)، و «المدونة» (1/ 160)، و «المجموع» (5/ 232)، و «كشاف القناع» (2/ 72)، و «الأوسط» (5/ 426)، و «المحلى» (5/ 128)، و «رفع اليدين» للبخاري (ص: 175)، و «أحكام الجنائز» (ص: 148). (¬4) ضعيف جدًّا: أخرجه الترمذي (1077)، والدارقطني (2/ 75)، والبيهقي (4/ 38). (¬5) ضعيف: أخرجه الدارقطني (2/ 75)، والعقيلي (3/ 449).

1 - ما يروى عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلَّى على الجنازة رفع يديه في كل تكبيرة» (¬1) والصواب وقفه على ابن عمر، وهو الآتي بعده. 2 - ما ثبت عن ابن عمر: «أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة، وإذا قام من الركعتين» (¬2). 3 - ونحوه عن ابن عباس، أشار إليه الحافظ في «التلخيص» (2/ 147) وصححه. قلت: الأمر في هذا واسع وإن كان الأقوى القول الثاني لفعل ابن عمر -وهو أشد الصحابة اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم- لاسيما عند من يرى أنه لا يفعله إلا بتوقيف، والله أعلم. وهل يُشرع الاستفتاح في صلاة الجنازة؟ (¬3): ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يشرع الاستفتاح في صلاة الجنازة، بل قال الشافعية والحنابلة: يكبر ثم يستعيذ ثم يقرأ. وقال الثوري: يستفتح فيها، ورُوي عن أحمد مثله، قلت والظاهر أنه لا مانع منه. قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة: لأهل العلم في حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة قولان (¬4): الأول: تجب قراءتها: وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن حزم، وبه قال ابن عباس وأبو أمامة، ودليلهم: 1 - عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬5) قالوا: واسم الصلاة يتناول صلاة الجنازة. 2 - عن أبي أمامة قال: «السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مُخافتة، ثم يكبِّر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة» (¬6). ¬

(¬1) أعلَّ بالوقف. أخرجه الدارقطني في «العلل». (¬2) إسناده صحيح: أخرجه البخاري في «رفع اليدين» (110)، والبيهقي (4/ 44). (¬3) «المجموع» (5/ 193)، و «المغنى» (3/ 410). (¬4) «المجموع» (5/ 191)، و «المغنى» (3/ 411)، و «المحلى» (5/ 131)، و «ابن عابدين» (1/ 611)، و «زاد المعاد» (1/ 192)، و «بداية المجتهد» (1/ 188). (¬5) صحيح: تقدم مرارًا في «الصلاة». (¬6) إسناده صحيح: أخرجه النسائي (4/ 75)، وعبد الرزاق (6428)، والبيهقي (4/ 39).

3 - عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: «صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: لتعلموا أنها سنة» (¬1). وعند شيخ الإسلام أن قراءتها في الجنازة مستحبة لا واجبة. الثاني: لا يقرأ في الجنازة بشيء من القرآن: وهو مذهب الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك وبه قال ابن عمر وعبادة بن الصامت من الصحابة، وحجتهم: 1 - أن عمل أهل المدينة أنه لا يقرأ في الجنازة (عند مالك). 2 - ما ثبت عن ابن عمر أنه: «كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة» (¬2). 3 - وعن أبي هريرة أنه سأل عبادة بن الصامت عن الصلاة على الميت؟ فقال: أنا والله أخبرك: «تبدأ فتكبِّر ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: اللهم إن عبد الله فلانًا كان لا يشرك بك شيئًا، أنت أعلم به، إن كان محسنًا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده» (¬3). قلت: والقول الأول أرجح لما تقدم، وأما أثر ابن عمر فيمكن حمله على أنه لا يقرأ غير أم القرآن، وكذلك أثر عبادة ليس فيه حجة لا سيما ولم يذكر باقي التكبيرات ولا التسليم، فهل يقال: لا تجب؟! فالصواب أنها تقرأ، والله أعلم. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية: يستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية لحديث أبي أمامة أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: «أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات الثلاث لا يقرأ في شيء منهن ثُم يسلم سرًّا في نفسه» (¬4). والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أكملها الصيغة التي في التشهد. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1335)، وأبو داود (3182)، والترمذي (1032)، والنسائي (4/ 75)، وابن ماجه (2495). (¬2) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11404). (¬3) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (4/ 40). (¬4) الشافعي في «الأم» (1/ 270)، والبيهقي (4/ 39) وصحح الحافظ إسناده.

إخلاص الدعاء للميت بعد سائر التكبيرات: يستحب إخلاص الدعاء للميت بعد سائر التكبيرات، فعن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صليتم على الجنائز فأخلصوا لها الدعاء» (¬1). من صيغ الدعاء في صلاة الجنازة: - «اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، أو: من عذاب النار» (¬2). - «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده» (¬3). فائدة: الإسرار بالقراءة والدعاء: ويسر بالقراءة والدعاء في صلاة الجنازة، وإن روى عن ابن عباس (¬4) أنه جهر بفاتحة الكتاب إلا أن ذلك كان للتعليم كما قال أحمد: إنما جهر ليعلمهم (¬5). التسليم: اختلف أهل العلم: هل يسلم تسليمة واحدة أم تسليمتين؟ أولاً: القائلون بالتسليمة: صح عن ابن عمر (¬6) وواثلة بن الأسقع (¬7) أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة. كما روى ذلك عن علي وابن عباس وجابر وأبي هريرة وأنس بن مالك وابن أبي أوفى، وبه قال سعيد بن جبير، والحس، وابن سيرين، وأبو أمامة بن سهل، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3197)، وابن ماجه (1497)، والبيهقي (4/ 40)، وابن حبان (3077). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (963). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (3201)، والترمذي (1024)، وابن ماجه (1498). (¬4) البخاري (1335) وقد تقدم. (¬5) «المغنى» لابن قدامة (3/ 412). (¬6) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (11491). (¬7) سنده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (11505).

والقاسم بن محمد، والحارث، وإبراهيم النخعي، والثوري، وابن عيينة، وابن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، ومالك، وأحمد، وإسحاق (¬1). وهو قول مروي عن الشافعي (¬2). ثانيًا: القائلون: يسلم تسليمتين: ذهب إلى ذلك الشافعي وأصحاب الرأي، وهو ما اختاره القاضي (¬3). وإليه ذهب أبو حنيفة (¬4). وحجتهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وحديث عبد الله بن أبي أوفى «أنه صلى على ابنته فكبر أربعًا ...» وفيه «ثم سلم عن يمينه وعن شماله» (¬5) وقد رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهو حديث ضعيف. المسبوق ببعض التكبير: ذهب بعض أهل العلم إلى أن المأموم إذا سُبق بشيء من التكبير فإنه يقضي ما فاته، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وعطاء، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، وقتادة، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وابن حزم (¬6). واختلفوا: إذا قضى هل يدعو بين التكبير أم لا؟ فمذهب أبي حنيفة أن يدعو بين التكبير المقضي، وذهب مالك والشافعي إلى أنه يقضيه نسقًا (¬7). وحجة القائلين بالقضاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (¬8). وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يقضي ما فاته من تكبير، صح ذلك عن الحسن (¬9) وعن ابن عمر أنه لا يقضي وإن كبر متتابعًا فلا بأس (¬10). ¬

(¬1) «المغنى» لابن قدامة (3/ 418)، و «المدونة الكبرى» (1/ 170). (¬2) «المجموع» للنووي (5/ 198 - 200). (¬3) «المغنى» لابن قدامة (3/ 418). (¬4) الموسوعة الفقهية (16/ 28). (¬5) ضعيف: أخرجه البيهقي في سننه (4/ 43). (¬6) «المغنى» لابن قدامة (3/ 423)، و «المحلى» لابن حزم (5/ 179). (¬7) «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 190). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (635)، ومسلم (602). (¬9) صحيح: عبد الرزاق (5/ 64). (¬10) «المغنى» لابن قدامة (3/ 423).

دفن الميت، وما يتبعه

وعن أحمد قال: إذا لم يقض لم يبال (¬1). دفن الميت، وما يتبعه حكم دفن الميت: دفن الميت فرض على الكفاية حتى لو كان الميت كافرًا: 1 - لحديث أبي طلحة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طُوىً من أطواء بدر ....» الحديث (¬2). 2 - وتقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ لما مات أبو طالب -كافرًا-: «... اذهب فَوارِهِ» (¬3). لا يدفن مسلم مع كافر، ولا كافر مع مسلم: بل يُدفن المسلم في مقابر المسلمين، والكافر في مقابر المشركين، كذلك كان الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر إلى عصرنا هذا (¬4). إذا ماتت امرأة كتابية وهي حامل من رجل مسلم، أين تُدفن؟ قال الإمام أحمد: تدفن بين مقبرة المسلمين ومقبرة أهل الكتاب، فهي كافرة لا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذوا بعذابها، ولا تُدفن في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم فيتأذى بعذابهم، فتدفن منفردة، قالوا: ويجعل ظهرها إلى القبلة على جانبها ليكون وجه الجنين إلى القبلة على جانبه الأيمن، لأن وجه الجنين إلى ظهرها (¬5). السنَّة: الدفن في المقبرة (¬6): لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت الأخبار بذلك، ولم يُنقل عن أحد من السلف أنه دُفن في غير المقبرة إلا ما تواتر أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم [وصاحبيه] دفنوا في حجرة عائشة رضي الله عنهان وهذا خاص بهم. ¬

(¬1) السابق. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2875). (¬3) إسناده ليِّن: تقدم تخريجه. (¬4) انظر أدلة ذلك في «أحكام الجنائز». (¬5) «المغنى» (2/ 563). (¬6) «أحكام الجنائز» (ص: 173 وما بعدها).

صفة القبر

ويستثنى كذلك شهداء المعركة: فإنهم يُدفنون في مواطن استشهادهم، ولا ينقلون إلى المقابر، لحديث جابر أنه لما جاءت عمته بأبيه وخاله -وقد استشهدا- لتدفنهما في المقابر «.. إذ لحق رجل ينادى: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعت بهما فدفناهما حيث قُتلا» (¬1). يُكره دفن الميت في هذه الأوقات إلا لضرورة: 1، 2، 3 - وقت طلوع الشمس، واستوائها، وغروبها: لحديث عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نُصلِّي فيهن، أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب» (¬2). 4 - الدفن ليلاً من غير ضرورة: لحديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من أصحابه قُبض فكُفِّن في كفن غير طائل وقُبر ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقبر الرجل بالليل حتى يُصلَّى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك» (¬3). وذلك لأن الدفن في الليل مظنة قلة المصلين على الميت فنهى عن الدفن ليلاً حتى يصلى عليه نهارًا، لأن الناس في النهار أنشط في الصلاة عليه، فإن اضطروا لدفنه ليلاً خوف تغيره بسبب الحر أو نحوه، فيجوز الدفن ليلاً ولو مع استعمال المصباح والنزول في القبر، لحديث ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل رجلاً قبره ليلاً، وأسرج في قبره» (¬4). صفة القبر: 1 - يستحب إعماق القبر وتوسيعه وتحسينه: لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أُحد: «.. احفروا وأوسعوا وأعمقوا وأحسنوا ...» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3149)، والنسائي (4/ 79)، والترمذي (1771)، وأحمد (3/ 397). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (831)، وأبو داود (3176)، والترمذي (1035)، والنسائي (1/ 275)، وابن ماجه (1519). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (943)، وأبو داود (3148)، وأحمد (3/ 295 - 329). (¬4) حسنه الألباني: أخرجه الترمذي (1063). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (1399)، والترمذي (1766)، والنسائي (4/ 8).

من الذي يقوم بالدفن؟

2 - يجوز في القبر اللحد والشق، والأول أفضل: اللَّحد: هو الشق عرض القبر (جانبه) من جهة القبلة. الشَّق: هو الضريح أو الحفرة التي تحفر لأسفل (كالنهر). وقد جرى العمل عليهما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. واللحد أفضل وهو الذي اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: «لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يَلْحد، وآخر يُضَرِّح، فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأُرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1). وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «ألحدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ اللَّبن نصبًا، كما صُنع برسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). قال النووي: «أجمع العلماء أن الدفن في اللَّحد والشقِّ جائزان، لكن إن كانت الأرض صُلبة لا ينهار ترابها فاللَّحد أفضل، لما سبق من الأدلة، وإن كانت رخوة تنهار فالشق أفضل» اهـ (¬3). من الذي يقوم بالدَّفن؟ 1 - لا يجوز للنساء القيام بدفن الموتى (¬4): فإن المعهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي جرى عليه عمل المسلمين حتى اليوم أن يتولى الرجال الدفن، ولأن الرجال أقوى على ذلك، ثم لو تولته النساء لأفضى ذلك إلى انكشاف شيء من أبدانهن أمام الأجانب وهو غير جائز، وأصرح من هذا كله أن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّم أبا طلحة لدفن ابنته - وهو أجنبي عنها- كما سيأتي، ولم يقدِّ النساء، والله أعلم. 2 - من الأحق بدفن الميت؟ أولياء الميت وذوو رحمه أحق بإنزاله إلى قبره، لعموم قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬5). ولحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «غسَّلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبتُ أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئًا، وكان طيبًا حيًّا وميتًا، ووَلَىَ دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: ¬

(¬1) حسن: أخرجه ابن ماجه (1557)، وأحمد (3/ 99). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (966)، والنسائي (1998)، وابن ماجه (1556). (¬3) «المجموع شرح المهذب» (5/ 287). (¬4) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 198) ط. التوفيقية. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 75.

عليٌّ والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحد لرسول الله لحدًا، ونصب عليه اللبن نصبًا» (¬1). 3 - ومن يدخل المرأة قبرها؟ (أ) محارمها: لعموم الآية الكريمة السابقة، ولحديث عبد الرحمن بن أبزى: «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كبَّر على زينب بنت جحش أربعًا، ثم أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: من يُدخل هذه قبرها؟ فقلن: من كان يدخل عليها في حياتها» (¬2). (ب) زوجها: وهو أحق من الغريب، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «وددت أن ذلك كان وأنا حي، فهيأتك ودفنتك ...» (¬3). 3 - يشترط فيمن يدفن الميت ألا يكون قد جامع أهله في تلك الليلة: حتى إنه يُقدَّم الرجل الغريب الأجنبي في الدفن على المحرم والزوج إذا كان جامع أهله تلك الليلة. فعن أنس قال: «شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل في قبرها» فنزل في قبرها فقبرها» (¬4). وعن أنس: أن رقية لما ماتت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة» (¬5). ومعنى قارف أهله: جامع زوجته. صفة وضع الميت في القبر: 1 - السنة إدخال الميت من جهة رِجلى القبر: لحديث أبي إسحاق قال: «أوصى الحارق أن يُصلِّي عليه عبد الله بن زيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قِبَل رجلى القبر، وقال: هذا من السنة» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الحاكم (1/ 362)، وعنه البيهقي (4/ 53) وله شواهد. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 324)، والبيهقي (4/ 53). (¬3) صحيح: تقدم تخريجه في غسل الرجل زوجته. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1342)، وأحمد (3/ 126). (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 370)، والحاكم (4/ 47) بسند صحيح. (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (3195)، بسند صحيح.

2 - يُجعل الميت في قبره على جنبه الأيمن، ووجهه إلى القبلة: وعلى هذا جرى عمل أهل الإسلام من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا (¬1). 3 - يقول الذي يضعه في لحده: «بسم الله، وعلى سنة (أو على ملة) رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). 4 - هل يُستر قبر المرأة بثوب عن أعين الناظرين حتى تدفن؟ قد ورد في هذا حديث ضعيف، لكن قال ابن قدامة في المغنى (2/ 501): والمرأة يخمر قبرها بثوب؟ لا نعلم في استحباب هذا بين أهل العلم خلافًا [ثم أورد آثارًا بهذا عن عمر وأنس، ثم قال:] لأن المرأة عورة ولا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون ... اهـ. 5 - يستحب أن يحثو من التراب ثلاث حثوات بيده بعد الفراغ من سد اللحد: لحديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى على جنازة، ثم أتى الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا» (¬3). 6 - رفعُ القبر عن الأرض قليلاً نحو شبر ليتميز فَيُصان، وجَعْلُه مسنَّمًا: لحديث جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أُلحد له لحد، ونصب عليه اللبن نصبًا، ورفع قبره من الأرض نحوًا من شبر» (¬4). وعن سفيان التمار قال: «رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنَّمًا» (¬5). 7 - تعليم القبر بحجر أو نحوه، ليدفن إليه من يموت من أهله: لحديث المطلب بن حنطب قال: «لما مات عثمان بن مظعون أخرجه بجنازته فدُفن، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر ذراعيه ... ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: «أتعلَّم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» (¬6). ¬

(¬1) «المحلى» (5/ 173). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (3197)، والترمذي (1051)، وابن ماجه (1550) بسند صحيح. (¬3) صححه الألباني. أخرجه ابن ماجه (1565)، وصححه في «الإرواء» (751). (¬4) حسن: أخرجه ابن حبان (2160)، والبيهقي (3/ 410) بسند حسن. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1390). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (3205)، والبيهقي (3/ 412).

تعزية أهل الميت

يجوز دفن اثنين أو أكثر في القبر للضرورة: فعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الرجلين من قتلى أُحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم» (¬1). وفيه: أنه إذا دفن اثنان فأكثر يقدَّم أفضلهم. وتُدفن المرأة مع الرجل للضرورة: فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: «أنه كان إذا دفن الرجال والنساء جميعًا يجعل الرجل في القبر مما يلي القبلة، ويجعل المرأة وراءه في القبر» (¬2). قال الشافعي في «الأم» (1/ 245): «ولا أحب أن تدفن المرأة مع الرجل على حال، وإن كان ضرورة ولا سبيل إلى غيرها كان الرجل أمامها وهي خلفه، ويجعل بين الرجل والمرأة في القبر حاجزًا من تراب» اهـ. تعزية أهل الميت يشرع للناس -الرجال والنساء- تعزية أهل الميت بما يُسليِّهم ويكفُّ من حزنهم، ويحملهم على الرضا والصبر، مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا يستحضرونه، وإلا فبما تيسَّر مما يحقق الغرض ولا يخالف الشرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عزَّى أخاه المؤمن في مصيبة، كساه الله حُلَّة خضراء يُحبَر بها يوم القيامة» قيل: يا رسول الله، ما يُحبر؟ قال: «يُغبط» (¬3). ومما ثبت في التعزية: «لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عند بأجل مسمَّى، ... فلتصبر وتحتسب» (¬4). تنبيه: يُكره الاجتماع للعزاء في مكان خاص «المأتم» (¬5): ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1343)، والنسائي (1/ 277)، والترمذي (1036)، وأبو داود (3138)، وابن ماجه (1514). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6378)، وثمة آثار أخرى تنظر في «جامع أحكام النساء» (1/ 556). (¬3) حسنه الألباني. وانظر «الإرواء» (764). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1224)، ومسلم (923). (¬5) «الأم» للشافعي (1/ 248)، و «فقه السنة للنساء» (ص: 202).

ما ينتفع به الميت بعد موته

فإنه يجدد الأحزان، ويكلِّف المؤنة، وقد ورد فيه حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة» (¬1) فلا يتفق على مثل هذا الاجتماع، وإنما حسبما تيسَّرت التعزية قدِّم العزاء. وأما ما يسمى بالخميس والأربعين والسنوية ونحو ذلك، فإنها من البدع المحدثة المخالفة لدين الله سبحانه وتعالى. صناعة الطعام لأهل الميت. السنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه الطعام لأهل الميت، وقد ورد عن عبد الله ابن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد أتاهم أمر يشغلهم» (¬2). وفيه ضعف، لكنه يتأيَّد بحديث عائشة أنها كانت إذا مات الميت من أهلها: «.. أمرت ببرمة من تلبينة» (¬3) فطُبخت ثم صُنع ثريد، فصبَّت التلبينة عليها، ثم قالت: كُلْنَ منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التلبينة مُجِمَّةُ (¬4) لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن» (¬5). تنبيه: وأما ما اعتاده الناس من عكس هذه السنة وصناعة أهل الميت الطعام للمعزِّين فمكروه لأنه خلاف السنة، ولحديث جرير المتقدم. ما ينتفع به الميت بعد موته 1 - دعاء المسلمين له: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬6). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ...» (¬7). ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3132)، والترمذي (998)، وابن ماجه (1610) ويشهد له ما بعده. (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1612)، وأحمد (2/ 204). (¬3) طعام يتخذ من دقيق وربما جعل فيها عسل. (¬4) مجمة: أي مريحة. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5417)، ومسلم (2216). (¬6) سورة الحشر، الآية: 10. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (2733) وغيره.

2 - قضاء الدين عنه من أي شخص: لما تقدم من قضاء أبي قتادة لدين الرجل الذي مات (¬1). 3 - قضاء وليه الصوم عنه: لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صوم، صام عنه وليُّه» (¬2) وهذا عام في قضاء رمضان وقضاء صيام النذر، وهذا أصح أقوال العلماء كما سيأتي تحريره في «الصيام» إن شاء الله. 4 - قضاء النذر عنه صومًا كان أو غيره: فقد استفتى سعد بن عبادة، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: «اقض عنها» (¬3). 5 - ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة: قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (¬4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» (¬5). 6 - ما يَخَلِّفه من آثار صالحة وصدقات جارية: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬6). ما حكم إهداء ثواب قراءة القرآن للميت؟ قال الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (¬7) فالأصل أن لا ينتفع الميت بشيء من فعل الأحياء إلا ما خصَّه الدليل من هذا العموم مما تقدم ذكره، وأما ما عدا ذلك فإنه باقٍ على العموم كما هو مقرر في الأصول. ¬

(¬1) صحيح: تقدم في أول الباب. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2761)، ومسلم (1638). (¬4) سورة النجم، الآية: 39. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3511)، والترمذي (1369)، والنسائي (7/ 241)، وابن ماجه (2137). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1631)، وأبو داود (2863)، والترمذي (1390)، والنسائي (6/ 251). (¬7) سورة النجم، الآية: 39.

زيارة القبور وما يتعلق بها

ولهذا لم يحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم الأمة على إهداء ثواب القراءة للأموات، ولم يرشدهم إلى ذلك، ولم يُنقل هذا عن أحد الصحابة -فيما نعلم- وإنما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم للاستغفار للميت فقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل» (¬1). فعُلم أن القراءة لا يستفيد بها الميت، وهذا مذهب الشافعي خلافً للجمهور. زيارة القبور وما يتعلق بها تشرع زيارة القبور للاتِّعاظ بها وتَذَكُّر الآخرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها [تذكركم الآخرة]» (¬2). هل تشرع زيارة النساء للقبور؟ للعلماء في هذا ثلاثة أقوال: أحدها: التحريم، والثاني: يكره، والثالث: مباح من غير كراهة وهو رواية عن أحمد وبه قال مالك وبعض الأحناف (¬3)، وهو الراجح بشرط أن تكون الزيارة لأجل تذكر الموت والآخرة مع تجنب المحرمات، وذلك لأمور: 1 - لحديث أنس -الذي تقدم- «مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: «اتقي الله واصبري ...» (¬4) فلم ينهها عن الزيارة. 2 - ولزيارة عائشة قبر أخيها، فعن ابن أبي مليكة «أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها» (¬5). 3 - لقول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: «كيف أقول يا رسول الله؟ [تعني إذا أتت المقابر] قال: «قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3221)، وغيره. (¬2) صحيح: يأتي تخريجه. (¬3) «تهذيب السنن» لابن القيم (9/ 58 - عون المعبود) بتصرف. (¬4) صحيح: البخاري (1283)، ومسلم (926). (¬5) صحيح: الحاكم (1/ 376)، والبيهقي (4/ 78)، وأصله عند ابن ماجه (1569) مختصرًا وهو صحيح. (¬6) صحيح: مسلم (974)، وأحمد (6/ 221)، وعبد الرازق (6712)، والبيهقي (4/ 79).

من الأذكار الثابتة عند زيارة القبور

4 - ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «كُنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورورها ...» (¬1). تنبيهات (¬2): 1 - إذا عُلم من حال النساء أنهن إذا ذهبن إلى القبور يصحن ويندُبن وينُحْن ويعددن على الأموات، ويفعلن البدع والمحرمات، فتحرم حينئذ زيارتهن للقبور. 2 - إذا عُلم من أحوالهن أنهن يذهبن إلى قبور من يطلقون عليهم الصالحين أو الأولياء، يلتمسن عندهم تفريج الكربات وقضاء الحاجات وكشف الغمات، فهذا شرك وتحرم حينئذ الزيارة بلا شك. 3 - إذا خصص النساء يومًا لزيارة القبور فيه، كما يحدث في أيام الجمع والأعياد ونحو ذلك فهذا من البدع. 4 - لا يجوز خروج النساء إلى المقابر وغيرها متبرجات متزينات متعطرات كما لا يخفى. من الأذكار الثابتة عند زيارة القبور: 1 - «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم وما توعدون غدًا مؤجَّلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل (ويسمي المقابر)» (¬3). 2 - «السلام عليكم أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله [بكم] للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» (¬4). 3 - «السلام على أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: مسلم (977)، وأبو داود (3235) مختصرًا، والنسائي (4/ 89)، والترمذي (1054). (¬2) «جامع أحكام النساء» (1/ 581) بتصرف وعنه كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 204). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (974)، والنسائي (1/ 287) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (975)، والنسائي (2040)، وابن ماجه (1547). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (974)، وأحمد (6/ 221).

صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة أعده أبو مالك كمال بن السيد سالم مع تعليقات فقهية معاصرة فضيلة الشيخ/ ناصر الدين الألباني فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين الجزء الثاني

4 - كتاب الزكاة

4 - كتاب الزكاة

حكم الزكاة ومنزلتها

تعريف الزكاة: الزكاة لغة: مصدر «زكا الشيء»: إذا نما وزاد، فالزكاة هي: البركة والنماء والطهارة والصلاح (¬1). والزكاة شرعًا: حصة مقدرة، من مال مخصوص، في وقت مخصوص، يصرف في جهات مخصوصة. وسميت هذه الحصة المخرجة من المال «زكاة» لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه وتوفره في المعنى، وتقيه الآفات (¬2)، ولأنها تزكى نفس المتصدق (¬3) كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (¬4). حكم الزكاة ومنزلتها الزكاة فرض عين على كل من توفرت فيه شروط وجوبها، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقد تضافرت آياته في إيجاب الزكاة والعناية بها، حتى أنها قُرنت بالصلاة في اثنتين وثمانين آية، منها قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬5). وقال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (¬6). وعظَّم الوعيد على الشح في إخراجها، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬7). وقد صح عن ابن عمر وجابر بن عبد الله أنهما قالا: «ما أُدى زكاته فليس بكنز» (¬8). وأما السنة فقد جاءت بتأكيد وجوب الزكاة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب، ¬

(¬1) «المعجم الوسيط» (1/ 398). (¬2) «المجموع» للنووي (5/ 324). (¬3) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (25/ 8) بمعناه. (¬4) سورة التوبة: 103. (¬5) سورة البقرة: 110. (¬6) سورة التوبة: 103. (¬7) سورة التوبة: 34، 35. (¬8) مصنف عبد الرزاق (4/ 107) بسندين صحيحين.

من فضائل وفوائد الزكاة

فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله عز وجل افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة من أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (¬1). وقد اتفق الإجماع على فرضية الزكاة لم يخالف أحد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. وأما منزلتها من الدين: فالزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهي ثالثة دعائم الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً» (¬2). ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ على الصحابة البيعة عليها: فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» (¬3). وأمر صلى الله عليه وسلم بقتال مانعي الزكاة: فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ....» (¬4). من فضائل وفوائد الزكاة 1 - أنها من صفات الأبرار أصحاب الجنة: قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (57)، ومسلم (56). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22). (¬5) سورة الذاريات: 15 - 19.

2 - أنها من صفات المؤمنين المستحقين لرحمة الله: قال سبحانه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (¬1). 3 - أن الله ينميها ويربيها لصاحبها: قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يُرَبِّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل» (¬3). 4 - أن الله تعالى يظل صاحبها من حر يوم القيامة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ...» (¬4). 5 - أنها تزكي المال وتنميه وتفتح لصاحبها أبواب الرزق: فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال ...» (¬5). 6 - أنها سبب لنزول الخيرات: ومنعها سبب في منعها، ففي الحديث: «... وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا» (¬6). 7 - أنها تكفر الخطايا والذنوب: ففي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» (¬7). 8 - أنها دليل على صدق إيمان المزكي: وذلك أن المال محبوب للنفوس، والمحبوب لا يبذل إلا ابتغاء محبوب مثله أو أكثر، بل ابتغاء محبوب أكثر منه، ¬

(¬1) سورة التوبة: 71. (¬2) سورة البقرة: 276. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1410)، ومسلم (1014). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2588). (¬6) ابن ماجه (4019) وغيره وصححه الألباني في «الصحيحة» (105) لشواهده. (¬7) الترمذي (609)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (5/ 531) وهو محتمل للتحسين.

حكم منع الزكاة وعقوبة مانعها

ولهذا سميت الزكاة صدقة، لأنها تدل على صدق طلب صاحبها لرضا الله عز وجل (¬1). 9 - أنها تزكي أخلاق المزكي، وتشرح صدره: فالزكاة تنتشل صاحبها من زمرة البخلاء، وتدخله في زمرة الكرماء، وهي تشرح صدره، فإن الإنسان إذا بذل ماله -عن طيب نفس وسخاء- فإنه يجد في نفسه انشراحًا (¬2) 10 - أنها تصون المال وتحصنه من تطلع الفقراء وامتداد أيدي الآثمين. 11 - أنها عون للفقراء والمحتاجين: تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاء إن كانوا قادرين، وتساعدهم على ظروف العيش الكريم إن كانوا عاجزين، فتحمي المجتمع من مرض الفقر، والدولة من الإرهاق والضعف (¬3). 12 - أنها مساهمة من المسلم بواجبه الاجتماعي في رفد الدولة الإسلامية بالعطاء عند الحاجة، وتجهيز الجيوش، وصد العدوان، وفي إمداد الفقراء إلى حد الكفاية (¬4). 13 - أنها شكر لنعمة المال (¬5). حكم منع الزكاة وعقوبة مانعها 1 - اتفق العلماء على أن من جحد وجوب الزكاة وأنكر فرضيتها، فهو كافر بالإجماع، لأنه مكذِّب بالقرآن والسنة، ومنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة (¬6). 2 - وأما من أقَرَّ بوجوبها، وامتنع من أدائها: (أ) فرُوى عن أحمد أنه قال: «تاركها بخلاً يكفر كتارك الصلاة كسلاً» وقوَّى هذه الرواية بعض الحنابلة (¬7) واستدلوا لها بقوله تعالى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬8). ¬

(¬1) «الشرح الممتع» (6/ 12). (¬2) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (2/ 25). (¬3) «الفقه الإسلام وأدلته» (2/ 732). (¬4) «الفقه الإسلام وأدلته» (2/ 732). (¬5) «الذخيرة» للقرافي (3/ 7). (¬6) «المغنى» (2/ 572)، و «المجموع» (5/ 334). (¬7) «الشرح الكبير» مع الإنصاف (3/ 43)، و «المبدع» (1/ 308) و «الشرح الممتع» (6/ 7). (¬8) سورة التوبة: 11.

قالوا: فالأخوة في الدين لا تنتفي إلا بخروج الإنسان من الملة، وقد رتب الله ثبوت الأخوة على هذه الأوصاف الثلاثة: التوبة من الشرك، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. (ب) بينما ذهب جمهور العلماء إلى أن من منع الزكاة بخلاً من غير جحود لفرضيتها، فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر، وإثم عظيم، وواقع تحت الوعيد الشديد بالعذاب الأليم يوم القيامة، ولكنه لا يخرج بهذا من الملة ما دام مقرًّا بوجوبها. وهذا هو الصواب، ويؤيده ما في حديث أبي هريرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر مانع زكاة الذهب والفضة، وذكر عقوبته، قال بعد ذلك: «ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (¬1). ولو كان كافرًا لم يكن له سبيل إلى الجنة، والله أعلم. وأما عقوبة مانع الزكاة في الدنيا: فقدرية، وشرعية: فالقدرية (¬2): أن يبتلى الله تعالى كل من يبخل بحق الله وحق الفقير في ماله بالمجاعة والقحط، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» (¬3). وفي رواية: «إلا حبس عنهم القطر». والشرعية: (أ) أنه إذا كان مانع الزكاة في قبضة الحاكم، فإنه تؤخذ منه الزكاة قهرًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» ومن حقها الزكاة، قال أبو بكر رضي الله عنه بمحضر الصحابة «الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ...» (¬4). وذهب الجمهور إلى أن مانع الزكاة إذا أخذت منه قهرًا لا يؤخذ معها شيء من ماله مستدلين بحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (987). (¬2) «فقه الزكاة» (1/ 92). (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط (4577)، والحاكم (2/ 136)، والبيهقي (3/ 346) وحسنه الألباني. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20). (¬5) ابن ماجه (1789) بسند ضعيف.

وذهب الشافعي في القديم وإسحاق وبعض أصحاب أحمد، إلى أنه يؤخذ منه شطر ماله مع الزكاة عقوبة له (¬1). واحتجوا بحديث: «.. ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله» (¬2). وأجاب الأولون عن هذا الحديث بأنه منسوخ، وتعقب هذا بأن دعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ. (ب) وإذا كان مانع الزكاة خارجًا عن قبضة الحاكم، فعلى الحاكم أن يقاتله، لأن الصحابة قاتلوا الممتنعين من أدائها. وأما عقوبة مانع الزكاة في الآخرة: فقد وردت فيه عدة نصوص، منها: 1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬3). 2 - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آتاه الله مالاً، فلم يؤدِّ زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول: أنا كنزك، أنا مالك» ثم تلا هذه الآية: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ ..... بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬4) (¬5). 3 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أُحمى عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاته، إلا بُطح لها بقاع قرقرٍ، كأوفر ما كانت تستن عليه، كلما مضى عليه أخراها رُدَّت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بُطح لها بقاع قرقرٍ، كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان ¬

(¬1) «نيل الأوطار» (4/ 147)، و «الموسوعة الفقهية» (23/ 231) الكويت. (¬2) أبو داود (1560)، والنسائي (5/ 15 - 17)، وأحمد (5/ 4) بسند حسن. (¬3) سورة التوبة: 34، 35. (¬4) سورة آل عمران: 180. (¬5) البخاري (1403).

شروط وجوب الزكاة

مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ....» (¬1). شروط وجوب الزكاة لا تجب الزكاة في الأموال إلا بشروط، فمن حكة الله عز وجل في فرض شرائعه، أنه جعل لها شروطًا أي: أوصافًا معينة لا تجب إلا بوجودها، لتكون الشرائع منضبطة. إذ لو لم يكن هناك شروط لكان كل شيء يحتمل أنه واجب أو غير واجب ثم هناك موانع أيضًا تمنع وجوب الزكاة مع وجود الشروط، وجميع الأشياء لا تتم إلا بتوفر شروطها، وانتفاء موانعها (¬2). وهذه الشروط على قسمين: شروط في من تجب في ماله الزكاة، وشروط في المال نفسه. الشرط التي يجب توفرها في صاحب المال لتجب الزكاة عليه: يشترط في صاحب المال الذي تجب فيه الزكاة شرطان: 1 - الحرية: فلا تجب الزكاة على العبد، لأنه لا يملك، والسيد مالك لما في يده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من باع عبدًا له مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» (¬3). ولقول ابن عمر رضي الله عنهما: «ليس في مال العبد زكاة حتى يعتق» (¬4). وعن كيسان بن أبي سعيد المقبري قال: «أتيت عمر بزكاة مالي مائتي درهم -وأنا مكاتب- فقال: هل عتقت؟ قلت: نعم، قال: اذهب فاقسمها» (¬5). 2 - الإسلام: فلا زكاة على الكافر بالإجماع، لأنها عبادة مطهِّرة، والكافر لا طهرة له ما دام على كفره، وإنَّما نقول لا تجب في ماله زكاة، ونعني أننا لا نلزمه بها حتى يسلم، فإنها لا تقبل منهم، فلا فائدة في إلزامهم بها، وقد قال تعالى: ¬

(¬1) مسلم (987)، وأبو داود (1642). (¬2) «الشرح الممتع» (6/ 18). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1173). (¬4) البيهقي (4/ 108) بسند صحيح، وانظر «الإرواء» (3/ 252). (¬5) مصنف ابن أبي شيبة بسند جيد كما في «الإرواء» (3/ 252).

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ....} (¬1). وليس معنى هذا أنه لا يحاسب على تركها، فإن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على المعتمد في الأصول، والله أعلم. هذا في الكافر الأصلي، أما المرتد -والعياذ بالله- (¬2) فإن كانت الزكاة قد وجب عليه في حال إسلامه فلا تسقط عنه بالردة -عند الشافعية والحنابلة- لأنها حق ثبت وجوبه فلم يسقط بردته كغرامة المتلفات. وذهب الحنفية إلى أنها تسقط بالردة. هل تجب الزكاة في مال الصغير والمجنون؟ للعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران: الأول: لا تجب الزكاة في مالهما إما مطلقًا أو في بعض الأموال (¬3): وبهذا قال الحنفية، وهو مروي عن بعض السلف. قالوا: لأن الزكاة عبادة محضة كالصلاة، فهي تفتقر إلى نية، والصبي والمجنون لا تتحقق منهما النية. ولأن الصبي والمجنون قد سقط عنهما التكليف فلا تجب عليهما. ولأن الزكاة طهرة للمزكي، والتطهير إنما يكون من أرجاس الذنوب، ولا ذنب للصبي والمجنون. ولأن في عدم الأخذ من مالهما حفاظًا على هذا المال، مع عدم استطاعتهما استثماره. القول الثاني: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون مطلقًا (¬4): وهو قول الجمهور، وهو قول عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعائشة وجابر بن عبد الله (¬5)، ولا يُعلم لهم من الصحابة مخالف إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس لا يحتج بها. ¬

(¬1) سورة التوبة: 54. (¬2) «الموسوعة الفقهية» (23/ 233 - الكويت)، و «فقه الزكاة» (1/ 115). (¬3) «المغنى» (2/ 622)، و «بدائع الصنائع» (2/ 4 - 5)، و «المجموع» (5/ 329)، و «المحلى» (5/ 205)، و «فقه الزكاة» (1/ 125). (¬4) «المحلى» (5/ 201)، و «المجموع» (5/ 329)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 17)، و «الموسوعة» (23/ 232)، و «الشرح الممتع» (6/ 26). (¬5) انظر مصنف عبد الرزاق (6986 إلى 6992)، ومصنف ابن أبي شيبة (3/ 149)، و «سنن البيهقي» (4/ 107)، و «المحلى» (5/ 208)، والأموال لأبي عبيد (ص 448).

ويؤيد هذا القول: - عموم النصوص الدالة على وجوب الزكاة في مال الأغنياء وجوبًا مطلقًا، ولم تستثنِ صبيًّا ولا مجنونًا. - ما ورد عن عمر بن الخطاب قال: «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة» (¬1). أن مقصود الزكاة سد خلة الفقراء من مال الأغنياء، شكرًا لله تعالى، وتطهيرًا للمال، ومال الصبي والمجنون قابل لأداء النفقات والغرامات، فلا يضيق عن الزكاة. أن الزكاة حق الآدمي فاستوى في وجوب أدائها المكلف وغير المكلف. وهذا القول هو الراجح، وعليه فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة. شروط المال لتجب الزكاة فيه؟ يشترط في المال حتى تجب فيه الزكاة شروط: 1 - أن يكون من الأصناف التي تجب فيها الزكاة: وستأتي تفصيلاً فيما بعد. 2 - أن يبلغ النصاب: وهو القدر الذي رتب الشارع وجوب الزكاة على بلوغه، فمن لم يملك هذا القدر وملك ما دونه، أو لم يملك شيئًا أصلاً فلا زكاة عليه، وهو يختلف باختلاف المال، كما سيأتي. 3 - أن يكون هذا المال مملوكًا ملكًا تامًّا: والدليل على هذا الشرط (¬2): إضافة الأموال إلى أربابها في القرآن والسنة في مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬3)، وقوله {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} (¬4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض عليهم في أموالهم ...». ولأن الزكاة هي تمليك المال للمستحقين له، والتمليك فرع عن الملك. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه الترمذي (641)، وموطأ مالك (بلاغًا)، والدارقطني (2/ 111)، وعبد الرزاق (6989) بسند ضعيف وانظر «الإرواء» (788). (¬2) «فقه الزكاة» للقرضاوي (1/ 150). (¬3) سورة التوبة: 103. (¬4) سورة المعارج: 24.

زكاة الديون

فلابد في الزكاة من الملك، واختلف: أهو ملك اليد (الحيازة) أم ملك التصرف؟ أم أصل الملك؟ (¬1). زكاة الديون وعلى هذه الأوجه الثلاثة اختلف في زكاة الدَّيْن: هل يكون على الدائن باعتباره المالك الحقيقي للمال؟ أم يكون على المدين باعتباره المتصرف فيه والمنتفع به؟ أم يُعفى كلاهما لأن ملك كل منهما غير تام؟ وأعدل الأقوال في زكاة الدَّيْن أن يقال: إن الدين نوعان: 1 - دين مرجو الأداء، بأن يكون على موسر مقر بالدين، فهذا يعجل زكاته مع ماله الحاضر في كل حول. رواه أبو عبيد في الأموال (ص 432) عن عمر وعثمان وابن عمر من الصحابة وغيرهم من التابعين. 2 - دين غير مرجو الأداء، بأن يكون على معسر لا يرجى يساره، أو على جاحد ولا بيَّنة، فقيل: يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنين (وهو مذهب علي (¬2) وابن عباس (¬3". وقيل: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة (وهو مذهب مالك). وقيل: لا زكاة عليه لشيء مضى من السنين ولا زكاة لسنته أيضًا (وهو مذهب أبي حنيفة). قال شيخ الإسلام (25/ 48): «وأقرب الأقوال: قول من لا يوجب فيه شيئًا بحال، حتى يحول الحول، أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض، فهذا القول له وجه، وهذا وجه» اهـ. وقد صح عن عثمان بن عفان أنه قال: «هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة» (¬4). ¬

(¬1) انظر «مجموع الفتاوى» (25/ 45). (¬2) إسناده صحيح: رواه عنه أبو عبيد في الأموال (431/ 1220)، وعنه البيهقي (4/ 150) بسند صحيح. (¬3) إسناده ضعيف: رواه أبو عبيد في الأموال وضعفه الألباني في «الإرواء» (786). (¬4) صحيح: أخرجه مالك (591)، وعنه الشافعي (1/ 237)، والبيهقي (4/ 148)، وهو صحيح كما في «الإرواء» (789).

وقالت عائشة: «ليس في الدين زكاة [حتى يقبضه]» (¬1). فائدة: من كان في يده مال تجب فيه الزكاة، وهو مدين، فإن كان هذا الدين مما يستغرق النصاب أو ينقص المال عن النصاب فلا زكاة فيه. وإن كان الدين ينقص المال لكن لما فوق النصاب، فإنه يخرج ما يفي بدينه ويزكى الباقي، فمثلاً إذا كان ماله ثلاثون دينارًا وعليه خمسة، زكى خمسة وعشرين. 4 - أن يمر على الملك -عند المالك- عام هجري كامل: (حَوَلان الحَوْل). وهذا يشترط في زكاة الذهب والفضة والماشية، أما الزروع والثمار فلا، فإن حولها عند اكتمالها واستوائها وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار (¬2). وهاهنا يرد سؤال وهو: حكم «المال المستفاد» في أثناء الحول؟ المال المستفاد أثناء الحول على ثلاثة أقسام (¬3): 1 - إذا كان المال المستفاد من ربح المال الذي عنده (من جنسه) كربح مال التجارة ونتاج الماشية، فهذا يجب ضمُّه إلى أصله، فيعتبر حوله بحول الأصل، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا (¬4). 2 - إذا كان المال المستفاد من غير جنس المال الذي عنده، كأن يكون ماله إبلاً، فيستفيد ذهبًا من إرث أو نحوه، فهذا المستفاد يُعتبر له حول من يوم استفادته إن كان نصابًا، وليس متعلقًا بحول المال الأصلي. 3 - إذا كان المال المستفاد من جنس المال الذي عنده -الذي بلغ النصاب- لكن ليس هذا المال المستفاد من نماء المال الأول، ومثاله: أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول، فيشترى أو يوهب له مائة أخرى، فهنا مذهبان: ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 32) من طريقين في كل منهما ضعف، وحسنه الألباني في «الإرواء» (784) بهما. (¬2) «بداية المجتهد» (2/ 261 - 262)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 14). (¬3) «المغنى» (2/ 626)، (3/ 32)، و «فتح القدير» لابن الهمام (1/ 510)، و «الموسوعة الفقهية» (23/ 244). (¬4) الظاهر أن ابن حزم يخالف في هذا، انظر «المحلى» (6/ 83) وما بعدها.

الأصناف التي تجب فيها الزكاة

الأول: أنه يضم المستفاد إلى المال الأول في النصاب وليس في الحول، فيزكى كلاًّ منهما باعتبار حوله الخاص. (وهو مذهب الشافعية والحنابلة). الثاني: أنه يضم المستفاد إلى المال الأول -ويزكيهما جميعًا- عند تمام حول الأول (وهو مذهب الأحناف). الأصناف التي تجب فيها الزكاة اختلف أهل العلم في أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة اختلافًا كبيرًا، بين مضيِّق هذه الأصناف على ما وردت به النصوص الصريحة (¬1)، وبين مُوسِّع حتى يشمل كل مالٍ نامٍ، حتى إنه لم يشترط النصاب في بعضها!! (¬2). ما وجهة «المضيِّقين» فيما ذهبوا إليه؟ نظرية ابن حزم ومن تبعه في قصر وجوب الزكاة على الأصناف الثمانية التي أخذ منها النبي صلى الله عليه وسلم، تقوم على أصلين (¬3): 1 - حرمة مال المسلم التي ثبتت بالنصوص، فلا يجوز أن يؤخذ شيء من ماله إلا بنص. 2 - أن الزكاة تكليف شرعي، والأصل براءة الذمم من التكاليف إلا ما جاء به النص، حتى لا نشرِّع في الدين ما لم يأذن به الله. أما القياس، فلا يجوز إعماله، وخاصة في باب الزكاة. ما وجهة «الموسِّعين» فيما ذهبوا إليه؟ أما الموسِّعون في الأصناف التي تجب فيها الزكاة، فأقاموا منهجهم على أصول منها: 1 - الاستدلال بعمومات نصوص الكتاب والسنة في أن كل مال فيه حق أو صدقة. 2 - أن كل غنى وكل مال في حاجة لأن يتزكى ويتطهر. 3 - اعتبار النماء والربح، قالوا: فمالك العمارات والمصانع التي قد تدر من الأرباح أضعاف ما تدره الأرض الزراعية، أولى بدفع الزكاة. ¬

(¬1) كأبي حزم ثم الشوكاني وصديق خان، رحمهم الله. (¬2) كأبي حنيفة، رحمه الله. (¬3) انظر «فقه الزكاة» (1/ 165).

زكاة الذهب والفضة

4 - اعتبار المصلحة العامة لسد حاجة الفقير والمسكين وإقامة المصالح العامة للمسلمين. الأصناف المتفق على وجوب الزكاة فيها اتفق أهل العلم على وجوب الزكاة في تسعة أصناف: 1، 2 - الذهب والفضة (النقدين). 3، 4، 5 - الإبل والبقر والغنم (الماشية). 6، 7، 8، 9 - الحنطة والشعير والتمر والزبيب (¬1) (الزروع والثمار). زكاة الذهب والفضة إذا تحققت في الذهب والفضة ومالكهما الشروط التي تقدمت الإشارة إليها، فبلغا النصاب وحال عليهما الحول ونحو ذلك، فإنه يجب حينئذٍ إخراج الزكاة فيهما وتكون مرة واحدة في كل عام. نصاب كل من الذهب والفضة ومقدار الزكاة فيهما جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول ففيهما خمسة دراهم، وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارًا، فإذا كانت لك عشرون دينارًا، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار» (¬2). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أَواق من الوَرق صدقة، ...» (¬3). ويستفاد منهما أمور: الأول: أن نصاب الفضة (5) أوراق (¬4) = (200) درهمًا من الفضة الخالصة = (595) جرامًا من الفضة. ¬

(¬1) الزبيب لم يثبت عند ابن حزم الحديث فيه، فلم يقل به، وقال بالثمانية الآخرين. وانظر «المحلى» (5/ 209). (¬2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (1558)، والترمذي (616)، والنسائي (5/ 37)، وابن ماجه (1790)، وأحمد (1/ 121)، وقد صححه البخاري -كما نقله الترمذي عنه- وحسنه الحافظ في الفتح، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1391). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1484)، ومسلم (979). (¬4) أواق: جمع أوقية وهي تساوي أربعين درهمًا بالاتفاق، فتكون الخمس أواق مساوية مائتي درهم.

وأن نصاب الذهب (20) دينارًا = (20) مثقالاً = (85) جرامًا من الذهب عيار (24) = (97) جرامًا من الذهب عيار (21) = (113) جرامًا من الذهب عيار (18) الثاني: أنه لابد من مرور الحول (السنة الهجرية الكاملة) على النصاب فما فوق حتى تجب فيه الزكاة. الثالث: أن مقدار الزكاة في كل من الذهب والفضة = 2.5% = 1/ 40. مثال توضيحي: رجل يملك (1/ 2) كيلو جرام من الذهب عيار (24)، فما مقدار الزكاة فيه إذا حال عليه الحول؟ فنقول: بما أن مقدار الذهب والمملوك يعتبر أكثر من النصاب (85جم) فإنه يجب فيه ربع العشر، فيكون المقدار الواجب إخراجه = 500 جرامًا × 1/ 40 = 12.5 جرامًا. هل يُضم الذهب إلى الفضة لتكميل النصاب؟ إذا ملك رجل مقدارًا من الذهب دون النصاب، ومقدارًا من الفضة دون النصاب، فللعلماء في هذه المسألة قولان: الأول: أنه يضم الذهب إلى الفضة ليكمل النصاب ثم يخرج الزكاة، وهو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية وهو رواية عن أحمد وقول الثوري والأوزاعي) (¬1). واستدلوا بأن نفعها متحد، من حيث إنهما ثَمنان، يقصد بهما الشراء. والثاني: أنه لا يضم أحدهما إلى الآخر، وهو مذهب الشافعية ورواية عن أحمد، وقول أبي عبيد وابن أبي ليلى وأبي ثور (¬2) وابن حزم (¬3) واختاره الألباني (¬4) وابن عثيمين (¬5) وهو الراجح، إن شاء الله. ¬

(¬1) «الموسوعة الفقهية» (23/ 267). (¬2) السابق. (¬3) «المحلى» (6/ 83). (¬4) «تمام المنة» (ص: 360). (¬5) «الشرح الممتع» (6/ 107).

واستدلوا لهذا بما يأتي: 1 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة» (¬1) وقوله: «ليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارًا» (¬2). فإنهما يدلان على أن من جمع الذهب إلى الفضة يكون قد أوجب زكاة كل منهما دون نصابه. 2 - القياس على البقر والغنم -وسيأتي بيانه- فإنه لا يكمل نصاب أحدهما بالآخر، مع أن المقصود واحد وهو التنمية، وكذلك لا يضم الشعير إلى البر حتى عند القائلين بضم الذهب إلى الفضة؟!! فإن الجنس لا يضم إلى غيره، والله أعلم. فائدة: يستثنى من هذا، أموال الصيارف، فإنه يضم فيها الذهب إلى الفضة، لا ضم جنس إلى جنس، ولكن لأن المراد بهما التجارة، فهما عروض تجارة (¬3). على القول بالضم، فهل يضم بالأجزاء أو القيمة؟ اختلف القائلون بضم الذهب إلى الفضة على قولين: 1 - فذهب مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية إلى أن الضم يكون بالأجزاء (¬4): بمعنى أن من كان عنده نصف نصاب من ذهب، ونصف نصاب من فضة وجبت عليه الزكاة، وكذلك لو كَان عنده ربع من هذا وثلاثة أرباع من هذا، وهكذا. ثم يخرج من كل من الذهب والفضة ربُع عشْره. 2 - وذهب أبو حنيفة إلى أن يضم أحدهما إلى الآخر بالتقويم في أحدهما بالآخر بما هو أحظ للفقراء، أي يضم الأكثر إلى الأقل (¬5). فمثلاً: لو كان عنده نصف نصاب فضة، وربع نصاب ذهب، وكان ربع نصاب الذهب تساوي قيمته نصف نصاب فضة، فعليه الزكاة. ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) «الشرح الممتع» (6/ 109)، وانظر «المغنى» (3/ 2 - 3). (¬4) «الموسوعة الفقهية» (23/ 267). (¬5) «الموسوعة الفقهية» (23/ 267).

الزكاة في الأوراق النقدية «البنكنوت»

الزكاة في الأوراق النقدية «البنكنوت» تكييفها الفقهي: نظرًا لقلة تعامل الناس في هذه الأيام بالنقدين «الذهب والفضة» وتعاملهم بدلاً منهما بالعملات الورقية المعروفة «بأورق البنكنوت» فقد واجهت الفقهاء مشكلة «التكييف الفقهي للنقود الورقية» وانبرى علماء الشريعة لإطلاق الأحكام على هذا النوع الجديد من النقود على ضوء تكييفهم وتصنيفهم لهذه النقود. وقد وقفت لأهل العلم في هذا الشأن على خمسة أقوال (¬1): 1 - أن هذه النقود سندات دَيْن على الجهة التي أصدرتها: واعتمدوا على أن هذا هو وضعفها الحقيقي حسبما تقتضيه صيغة الإقرار بالمديونية المسجلة على كل ورقة نقدية، وبذلك طبقوا عليها أحكام التعامل بأسناد الديون (¬2). ومن سلبيات هذا التكييف: أنه سيخضع هذه النقود للخلاف الذي تقدم بين العلماء في زكاة الدين فمن لا يرى إخراج زكاة الدين سيمنع إخراجها من هذه النقود. وكذلك إذا كانت هذه النقود سندات دين، فلا يجوز البيع بها دينًا، للإجماع على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين، أضف إلى ذلك أنها إذا كانت سندات دين مغطاة بالذهب والفضة، فلا يجوز أن يشترى بها الذهب أو الفضة أصلاً، لأنه يشترط هنا التقابض وهو منعدم. 2 - أنها عرض من عروض التجارة وسلعة من السلع (¬3): واعتمدوا على وصفها بأنها مال متقوم تختلف فيه الرغبات ويخضع لقانون العرض والطلب في ثبات قيمته، وبالتالي حاولوا تطبيق الأحكام الفقهية المتعلقة بعروض التجارة -والتي سيأتي بعضها- على هذه العملات. ¬

(¬1) «النقود .. وظائفها الأساسية وأحكامها الشرعية» لعلاء الدين زعتري (ص: 329 وما بعدها) وهي دراسة قيمة. (¬2) وممن قال بهذا: مشيخة الأزهر، والعلامة الشنقيطي في «أضوءا البيان» (1/ 257). (¬3) ممن قال بهذا: السعدي -رحمه الله - كما في «الفتاوى السعدية» (ص: 338 - 339) ولم يوافقه تلميذه ابن عثيمين، رحمه الله.

ومن سلبيات هذا التكييف: أنه سيفتح الباب للربا؛ فإن اعتبار هذه النقود عروضًا سيجيز بيع بعضها ببعض متفاضلاً ولو كانت من جنس واحد!! وهذا عين الحرام. وكذلك فكونها من عروض التجارة فلا يجب فيها الزكاة إذا لم تكن معدة للتجارة والنماء!! 3 - أنها تشبه الفلوس المسكوكة من غير الذهب والفضة (كالنحاس والنيكل ...) (¬1). فقالوا كأنها فلوس مسكوكة من الورِق، وهذه الفلوس تعتمد في قيمتها على العرف لا على قيمة المادة المصنوعة منها. وهذه الفلوس ينظر إلهيا باعتبارين: باعتبار الأصل هي (عرض) لأن أصل النحاس والنيكل ونحوهما من العروض التي تباع وتشترى، وباعتبار ما صارت إليه هي (ثمن). فمن نظر إلى الأصل ففيها السلبيات التي تقدمت في عروض التجارة. ومن نظر إلى ما صارت إليه وأنها ثمن، بقيت عنده مشكلة وهي اختلاف الفلوس عن هذه العملات الورقية من عدة أوجه (¬2) مما يمنع إلحاق النقود الورقية بالفلوس التي تقل عنها درجة وكفاءة. 4 - أنها متفرعة من الذهب والفضة (¬3): وقالوا: هي بديل عنهما، واعتمدوا على أن إصدار النقود الورقية يقتضي تغطيتها بالذهب أو الفضة، فإن كان غطاء العملة ذهبًا فحكمها حكم الذهب، وإن كان فضة فحكمها حكم الفضة. ومن سلبيات هذا التكييف: أنه لا يوجد في العالم الآن عملتان متساويتان في القيمة، مع أنهما متفرعتان من جنس الذهب، فيلزم من هذا أنه لا يجوز التفاضل عند إبدال دينار كويتي بدينار ليبي -مثلًا- بل لابد من التماثل -على أساس أن جنسهما واحد- وبينهما فارق كبير!! ثم إن افتراض وجود غطاء كامل ذهبي أو ¬

(¬1) ممن قال بهذا: مصطفى الزرقا، كما نقله ابن منيع في «الورق النقدي» (ص 147). (¬2) تنظر في «النقود» للزعتري (ص: 346 وما بعدها). (¬3) ممن قال بهذا: الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية.

نصاب الأوراق النقدية

فضي للعملات الورقية منقوض بحكم الواقع الذي يؤكد أن النقود تعتمد كثيرًا على قوة الدولة ونفوذ سلطانها. 5 - أن النقود الورقية نقد قائم بذاته (¬1): قالوا: لأن كل مال متقوَّم اعتمد عليه الناس في أداء وظائف النقود، فإنه يأخذ صفة الثمنية، وبالتالي يصلح أن يكون نقدًا، لاسيما وأنه لم يرد في الشرع حصر الثمنية في الذهب والفضة. وقد لمَّح شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الناس لو اصطلحوا على جعل شيء ثمنًا أن يأخذ حكم الأثمان، فقال: «فإذا صارت الفلوس أثمانًا، وصار فيها المعنى، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل» (¬2). وأكد -رحمه الله- أن الثمنية غير محصورة أو مقصورة على الذهب والفضة، وأن المرجع في هذا إلى العُرف والاصطلاح فقال: «وأما الدرهم والدينار فما يُعرف له حد طبيعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به ...» (¬3). قلت: ولعل هذا القول الأخير، بأن النقود الورقية ثمن يجري عليها أحكام الأثمان هو الصواب والذي تنظم معه المعاملات المالية المختلفة. نصاب الأوراق النقدية من العلماء المعاصرين من رأى أن يعتبر زكاة الأوراق النقدية بنصاب الفضة، لكونه مجمعًا عليه، ولأن التقدير به أنفع للفقراء. بينما ذهب آخرون إلى أن نصابها نصاب الذهب، لأن الفضة قد تغيرت قيمتها بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده حتى لم تعد لها قيمة تذكر، بخلاف الذهب فإن قيمته تعتبر ثابتة إلى حد كبير. ثم إن نصاب الذهب مقارب لباقي الأنصبة في الزكاة كخمس من الإبل، أربعين من الغنم ونحو ذلك، إذ كيف يعقل أن لا يوجب الشرع الزكاة على ¬

(¬1) وبهذا قالت هيئة كبار العلماء بالسعودية (قرار (10) تاريخ 17/ 4/ 1393 هـ) والدكتور القرضاوي وغيرهم. (¬2) «مجموع الفتاوى» (30/ 472). (¬3) «مجموع الفتاوى» (19/ 251).

زكاة الحلي

من يملك أربعًا من الإبل أو تسعًا وثلاثين من الغنم ويعتبره فقيرًا، ثم يوجب الزكاة على من يملك نصاب الفضة الذي لا يشتري به شاة واحدة ويعدُّه غنيًّا؟! (¬1). ولا شك أن هذا المذهب أعدل، والله أعلم. مثال توضيحي: شخص يمتلك (2000) جنيه، وآخر يمتلك (100000) جنيه فما مقدار الزكاة في مال كل منهما إذا حال عليهما الحول؟ والجواب: نحتاج أولاً على أن نعرف مقدار النصاب -وهو نصاب الذهب كما تقدم [85 جرامًا] فإذا فرض أن ثمن الجرام من الذهب = (30) جنيهًا، فيكون النصاب = 85 × 30 = 2550 جنيه وبما أن ما يمتلكه الشخص الأول أقل من النصاب فلا زكاة عليه إلا أن يتصدق. وأما الشخص الآخر فيمتلك مبلغًا أكبر من النصاب فيجب عليه زكاة ربع العُشر: مقدار الزكاة = 100000 × 40 = 2500 جنيه. زكاة الحلي اختلف أهل العلم من السلف والخلف في زكاة الحلي من الذهب والفضة على أقوال، أشهرها قولان: الأول: أنه لا زكاة في حُلي الذهب والفضة المعتاد للمرأة (الملبوس): وهو مذهب جمهور العلماء (¬2) وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة وأسماء بنت أبي بكر من الصحابة، وحجة القائلين به: 1 - حديث: «ليس في الحُلي زكاة» (¬3) وهو حديث باطل مرفوعًا، والصواب وقفه على جابر. ¬

(¬1) انظر: «فقه الزكاة» للقرضاوي (1/ 286 وما بعدها)، و «الفقه الإسلامي وأدلته» (2/ 760). (¬2) الدر المختار (2/ 41)، وبداية المجتهد (1/ 242)، والمجموع (6/ 29)، والمغنى (3/ 9 - 17). (¬3) ابن الجوزي في «التحقيق» وحكم عليه البيهقي وغيره بالبطلان، وانظر «الإرواء» (817).

2 - عن نافع أن ابن عمر «كان يُحلِّي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج منه الزكاة» (¬1). 3 - وقول ابن عمر: «ليس في الحلي زكاة» (¬2). 4 - قول جابر بن عبد الله: لما سئل عن الحلي أفيه زكاة؟ قال جابر: «لا»، فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار؟ فقال جابر: «كثير» (¬3) وفي رواية قال: «يُعار ويُلبس». 5 - عن عائشة أنها «كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة» (¬4). 6 - عن أسماء: أنها «كانت لا تزكي الحُلي» (¬5). 7 - قالوا: الزكاة إنما تكون في المال النامي المغل، والحلي المباح لا نماء فيه فهو كالثياب، بخلاف ما إذا ادخر واتخذ كنزًا أو أعد للتجارة، فتكون فيه الزكاة. تنبيه: أصحاب هذا القول يشترطون أن يكون الحلي ما يباح، فإذا كان محرمًا كاتخاذ الرجل الذهب مثلًا ففيه الزكاة عندهم. القول الثاني: أن حلي الذهب والفضة تجب فيه الزكاة مطلقًا إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول: سواء كان ملبوسًا أو مدخرًا أو معدًّا للتجارة (¬6). وحجة هذا القول (¬7): 1 - العمومات الواردة في الكتاب العزيز، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ...} (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مالك (585)، والبيهقي (4/ 138) بسند صحيح. (¬2) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4/ 82)، ونحوه ابن أبي شيبة (3/ 154)، والدارقطني (2/ 109) بسند صحيح. (¬3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4/ 82)، والبيهقي (4/ 138) بسند صحيح والرواية لابن أبي شيبة (3/ 155). (¬4) صحيح: أخرجه مالك (584)، وعبد الرزاق (4/ 83)، وهو صحيح. (¬5) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 155) بسند صحيح. (¬6) وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد وابن حزم انظر «فتح القدير» (1/ 524)، و «الدر المختار» (2/ 41)، و «المحلى» (6/ 78) وهو قول ابن مسعود وعمر وعبد الله بن عمرو ورواية عن عائشة. (¬7) انظر «جامع أحكام النساء» (2/ 143) وما بعدها لشيخنا مصطفى بن العدوي -حفظه الله-. (¬8) سورة التوبة: 34.

2 - الأحاديث العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم الآمرة بإخراج زكاة الذهب والفضة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب لا يؤدي ما فيها إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها ...» (¬1). 3 - الأحاديث الخاصة الواردة بخصوص إخراج زكاة الحلي والوعيد لمن لم يخرجها ومنها: (أ) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا، قال: «أيسرُّك أن يُسَوِّرك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟» قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله (¬2). (ب) حديث عبد الله بن شداد قال: دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من وَرِق، فقال: «ما هذا يا عائشة؟» فقلت: صنعتهن أتزيَّن لك يا رسول الله، قال: «أتؤدين زكاتهن؟» قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: «هو حسبك من النار» (¬3). (جـ) حديث أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها أسورة من ذهب فقال لنا: «أتعطيان زكاته؟» قالت: فقلنا: لا، قال: «أما تخافان أن يسِّوركما الله أسورة من نار؟ أدِّيا زكاته» (¬4). 4 - الآثار الواردة عن بعض الصحابة مثل: (أ) أثر ابن مسعود: أن امرأة سألته عن زكاة الحلي؟ فقال: «إذا بلغ مائتي درهم فزكِّيه، قالت: إن في حجري يتامى لي أفأدفعه إليهم؟ قال: «نعم» (¬5). ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (1563)، والنسائي (5/ 38)، والترمذي (637)، وأحمد (2/ 178). (¬3) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (1565)، والدارقطني (2/ 105)، والحاكم (1/ 389)، والبيهقي (4/ 139) وفي إسناده مقال ينجبر بما قبله. (¬4) حسن لشواهده: أخرجه أحمد (6/ 461)، والطبراني في «الكبير» (24/ 181) وسنده حسن لشواهده المتقدمة. (¬5) صحيح لغيره: أخرجه عبد الرزاق (4/ 83)، والطبراني (9/ 371) بسند صحيح لغيره.

(ب) أثر عمر: أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أن «اؤمر مَن قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهن [وفي رواية: أن يزكي الحلي] ولا يجعلن الهداية والزيادة تعارضًا بينهن» (¬1). (جـ) أثر عبد الله بن عمرو: «أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة» (¬2). (د) أثر عائشة: أنها قالت: «لا بأس بلبس الحلي إذا أعطى زكاته» (¬3). وقد صح هذا المذهب عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، وعبد الله بن شداد، وسفيان الثوري وغيرهم، كما نقله شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (2/ 156 - 157). الترجيح: وبعد عرض أدلة الفريقين، فالذي يترجح -عندي- والعلم عند الله تعالى أن القول بوجوب إخراج الزكاة من حلي الذهب والفضة على كل حال ما دام بلغ النصاب وحال عليه الحول هو الأقوى دلالة، والأحوط عملاً، وبه يخرج من الخلاف. لا تجب الزكاة في الحلي من اللؤلؤ والجواهر لا تجب الزكاة فيما دون الذهب والفضة كاللؤلؤ والمرجان والزبرجد والياقوت ونحوها بالاتفاق، إذ لا دليل على ذلك (¬4). لكنها إذا كانت عروضًا معدَّة للاتِّجار فيها ففيها الزكاة كسائر العروض -عند الجمهور- وسيأتي هذا في موضعه، إن شاء الله. إذا كان عند المرأة خواتيم من ذهب وبها فصوص من الجوهر، فكيف تزكيه؟ إن كان يمكنها نزع الجوهر دون إفساد للخاتم فإنها تزكي خواتيم الذهب -دون الجوهر- إذا كانت بلغت النصاب وحال عليها الحول، وإن لم يمكنها نزعه إلا ¬

(¬1) ابن أبي شيبة (3/ 153)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 217)، والبيهقي (4/ 139) وسنده مرسل. (¬2) سنن الدارقطني (2/ 107) بسند حسن. (¬3) الدارقطني (2/ 107)، والبيهقي (4/ 139) وسنده حسن. (¬4) انظر «موطأ» مالك (1/ 250)، و «الأم» للشافعي (2/ 36)، و «المجموع» (6/ 6).

الزكاة في الرواتب وكسب الأعمال

بفساد فإنه يُقدر ويخرج زكاة الذهب منه، وإن كانت هذه الخواتيم معدة للتجارة فإنه يخرج كذلك الزكاة عن قيمة الجواهر كعروض التجارة عند الجمهور. هل تخرج الزكاة في الأواني والتحف الذهبية والفضية؟ استعمال الأواني من الذهب والفضة -لا سيما في الأكل والشرب ونحو ذلك- مُحرَّم لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (¬1). ولا خلاف بين أهل العلم -حتى القائلين بعدم وجوب الزكاة في الحلي الملبوس والمستعمل- أن ما حُرِّم استعماله واتخاذه من الذهب والفضة تجب فيه الزكاة، سواء في ذلك الرجال والنساء لأن المعنى المقتضي للتحريم يعمها، وهو الإفضاء إلى السرف والخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، فيستويان في التحريم ... وإنما أبيح للنساء التحلي لحاجتهن إليه، للتزين للزوج، وليس هذا بموجود في الآنية ونحوها فتبقى على التحريم. والتماثيل محرَّمة، ولو كانت من فضة أو ذهب تضاعفت حرمتها. إذا ثبت هذا، فإن فيها الزكاة، بغير خلاف بين أهل العلم، ولا زكاة فيها حتى تبلغ نصابًا بالوزن أو يكون عنده ما يبلغ نصابًا بضمها إليه (¬2). [يعني من جنسه]. الزكاة في الرواتب وكسب الأعمال الشخص الموظف أو العامل الذي يتقاضى مرتبًا شهريًّا أو أسبوعيًّا أو نحو ذلك لا يخلو من أحد أمرين: الأول: أن يكون عنده مال بلغ النصاب ثم يستفيد مال الراتب كل شهر زيادة عليه: فهذه هي الحالة الثالثة -التي تقدمت- من أحوال المال المستفاد في الحول (¬3) فلهذا المالك أن يجعل لنفسه جدول حساب لكسبه يخص فيه كل مبلغ من المبالغ التي يوفرها من الراتب ويضيفها على ماله ويخرج زكاة كل مبلغ بعد مضي الحول عليه من تاريخ امتلاكه إياه. وإن أراد الراحة وسلك طريق السماحة، وطابت نفسه أن يؤثر جانب الفقراء ¬

(¬1) البخاري (5633)، ومسلم (2067). (¬2) «المغنى» لابن قدامة (3/ 15 - 16). (¬3) راجع حكم المال المستفاد.

زكاة الصداق

وغيرهم من مستحقي الزكاة على جانب نفسه، زكى جميع ما يملكه من النقود، حينما يحول الحول على أول نصاب ملكه منها، وهذا أعظم لأجره، وأرفع لدرجته، وأوفر لراحته. وحينئذ يكون ما أضافه إلى المال بعد اكتمال أول نصاب عنده، قد دفعت زكاته معجلة قبل تمام حولها، وتعجيل الزكاة قبل تمام الحول جائز لا سيما إذا دعت الحاجة أو المصلحة إليه (¬1). وله أن يفعل شيئًا ثالثًا: وهو أن يخرج زكاة الصافي [بعد ما يلزم معيشته ومن يعولهم] شهريًّا في كل شهر (¬2)، ثم يخرج زكاة ماله الذي كان عنده إذا حال حوله. الثاني: أن لا يكون عنده مال بالغًا النصاب، وهو يستفيد هذا الراتب شهريًّا: فإذا كان يدخر كل شهر مبلغًا معينًا فلا تجب عليه الزكاة، حتى يبلغ النصاب أو يكمل مع ماله المدخر نصابًا، فحينئذ يبدأ في حساب الحول، ويكون كالحالة التي تقدمت. زكاة الصداق صداق المرأة (المهر) مال كسائر الأموال، فيفعل فيه ما يفعل في الأموال: 1 - فإذا كانت المرأة قبضت مهرها، وكان مما يؤخذ منه الزكاة، وبلغ النصاب أو أكثر، فإذا حال عليه الحول أخرجت زكاته. 2 - إذا كان صداقها مؤجلاً (مؤخرًا)، فله حكم الديون -وقد تقدمت- فإن كان زوجها موسرًا وفيًّا وجب عليها إخراج الزكاة في صداقها الذي هو في ذمة زوجها، لأنه مرجو الأداء، وإن كان معسرًا، فلا يجب عليها إخراج زكاته على الراجح، فإذا قبضت مهرها أخرجت الزكاة لسنة واحدة. 3 - إذا قبضت المرأة صداقها، ثم طُلقت قبل الدخول، وكان حال عليه الحول، وهو بالغ النصاب، فإنها تخرج الزكاة عن نصف الصداق ويخرج زوجها عن النصف الآخر، والله أعلم (¬3). ¬

(¬1) من فتاوى اللجنة الدائمة، وفتاوى العلامة ابن باز -رحمه الله- «فتاوى إسلامية» جمع المسند ص 76. (¬2) «فقه الزكاة» للقرضاوي (1/ 549). (¬3) انظر «المغنى» (3/ 52)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 165)، وكتابي «فقه السنة للنساء» (ص 217).

زكاة المواشي

زكاة المواشي أصناف الحيوان التي تؤخذ منها الزكاة: أجمع العلماء أن الزكاة تؤخذ من الإبل والبقر والغنم، واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة يأتي بعضها في موضعه، إن شاء الله. ثم اختلفوا في الخيل (¬1): فذهب الجمهور -ومنهم صاحبا أبي حنيفة- إلى أن الخيل التي ليست للتجارة لا زكاة فيها- ولو كانت سائمة واتخذت للنماء- سواء كانت عاملة أو غير عاملة. ويؤيد مذهبهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة» (¬2) بينما ذهب أبو حنيفة وزفر إلى أن الخيل إذا كانت سائمة ذكورًا وإناثًا ففيها الزكاة وليس في ذكورها منفردة زكاة لأنها لا تتناسل، وكذلك في الإناث المنفردات!! واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ... [وفيه] ولم ينس حق الله في رقابها، ولا ظهورها» (¬3). قال: فحق الرقاب الزكاة. أما سائر الحيوان كالبغال والحمير وغيرها، فليس فيه زكاة، ما لم تكن للتجارة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث «الخيل لرجل آخر ....» لما سئل عن الحمير قال: «لم ينزل عليَّ فيها إلا هذه الآية الفاذَّة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (¬4) (¬5). شروط وجوب الزكاة في المواشي: يشترط في المواشي لتجب فيها الزكاة ثلاثة شروط: 1 - النصاب: وسيأتي بيانه. 2 - حولان الحول: لحديث: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (¬6). ¬

(¬1) «المغنى» (2/ 620)، و «فتح القدير» (1/ 502)، و «شرح المنهاج» (2/ 3)، و «الموسوعة» (23/ 262). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1464)، ومسلم (628). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2371)، ومسلم (987). (¬4) سورة الزلزلة: 7. (¬5) الحديث السابق. (¬6) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1792) وهو ضعيف وإن كان صححه الألباني في «صحيح الجامع» (7497) لكن العمل على مقتضاه في الماشية، وانظر «المحلى» (5/ 267).

زكاة الإبل

3 - أن تكون سائمة: أي راعية في الكلأ المباح أكثر العام. المواشي أربعة أقسام: يمكن تقسيم المواشي (الإبل والبقر والغنم) إلى أربعة أقسام هي (¬1): 1 - أن تكون سائمة: وهي أن تكون راعية في كلأ مباح أكثر العام، وتكون معدة للدر والنسل، كما قال تعالى {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (¬2). فهذه التي فيها الزكاة. 2 - أن تكون معلوفة: وإن كانت متخذة للدر والنسل لكن صاحبها يشتري لها العلف أو يحصده لها، فليس فيها زكاة. 3 - أن تكون عاملة: كالإبل التي يؤجرها صاحبها للحمل على ظهورها والركوب عليها وكبقر الحرث والسقي، ولا زكاة فيها عند الجمهور (¬3) خلافًا للمالكية. 4 - أن تكون معدَّة للتجارة: فهذه فيها زكاة كعروض التجارة، فقد تجب الزكاة في بعير واحد إذا كانت قيمته تساوي النصاب، سواء كانت سائمة أو معلوفة أو مركوبة. زكاة الإبل أنصبة الزكاة في الإبل والقدر الواجب فيها: من ملك أقل من خمس من الإبل -ذكورًا أو إناثًا، صغارًا أو كبارًا- فليس عليه زكاة. فعن أبي سعيد الخُدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ من الإبل صدقة» (¬4). أما ما زاد على الخمس، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المقادير الواجبة في زكاتها في حديث أنس في كتاب أبي بكر إليه، وها هو بنصه لكثرة الحاجة إليه بعد ذلك: عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سُئلها من المسلمين على وجهها فليُعطِها، ومن ¬

(¬1) «الشرح الممتع على زاد المستنقع» (6/ 52 - 53). (¬2) سورة النحل: 1. (¬3) شرح «فتح القدير» (1/ 509)، و «المغنى» (2/ 576). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (979) وقد تقدم.

سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة، إذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستًّا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت -يعني ستًّا وسبعين إلى تسعين- ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها» (¬1). وبناء على هذا الحديث، تؤخذ الزكاة من الإبل حسب الجدول التالي: عدد الإبل المملوكة ... مقدار الواجب فيها من ... إلى 1 ... ليس فيها زكاة 5 ... 14 ... (1) شاة واحدة ... 10 ... 19 ... (2) شاتان ... 15 ... 24 ... (3) ثلاث شياه ... 20 ... (4) أربع شياه 25 ... (1) بنت مخاض (¬2) [وهي أنثى الإبل التي أتمت سنة ودخلت في الثانية، وسميت بذلك لأن أمها لحقت بالمخاض وهي الحوامل] 36 ... (1) بنت لبون [وهي أنثى الإبل التي أتمت سنتين ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك لأن أمها وضعت غيرها وصارت ذات لبن] 46 ... (1) حقَّة [وهي أنثى الإبل التي أتمت ثلاث سنين ودخلت الرابعة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل] ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1454)، وأبو داود (1567)، والنسائي (5/ 18). (¬2) فإن لم توجد، فيجزئ عنها ابن لبون ذكر -كما سيأتي-.

61 ... (1) جذعة [وهي أنثى الإبل التي أتمت أربع سنين ودخلت في الخامسة] 76 ... 120 ... (2) بنتا لبون 91 ... (2) حقتان قلت: هذه هي الأعداد والمقادير هي التي وردت في حديث أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انعقد الإجماع عليها (¬1). وأما إذا زاد عدد الإبل عن مائة وعشرين، فالمعمول به عند أكثر العلماء -خلافًا للحنفية (¬2) والنخعي والثوري- يمثله الجدول التالي، ومضمونه: أن في كل خمسين: حقة، وفي كل أربعين: بنت لبون، وهو الوارد في الحديث السابق: عدد الإبل المملوكة ... مقدار الواجب فيها من ... إلى 121 ... 139 ... (3) بنات لبون 130 ... 149 ... (1) حقة + (2) بنتا لبون 140 ... 159 ... (2) حقة + 1 بنت لبون 150 ... 169 ... (3) حقاق 160 ... 179 ... (4) بنات لبون 170 ... 189 ... (3) بنات لبون + (1) حقة 180 ... 199 ... (2) بنتا لبون + (2) حقتان 190 ... 209 ... (3) حقاق + (1) بنت لبون 200 ... (4) حقاق + (5) بنات لبون وهكذا: ما دون العشر عفو، فإذا كمُلت عشرًا انتقلت الفريضة ما بين الحقائق وبنات اللبون على أساس ما ذكرنا أن في كل (50): حقة، وفي كل (40) بنت لبون (¬3). ¬

(¬1) «المجموع» (5/ 400)، و «الأموال» لأبي عبيد (ص: 363)، و «المغنى» (2/ 577). (¬2) فذهب الحنفية إلى أن الفريضة تستأنف بعد (120) ففي كل خمس مما زاد عليها: شاة، بالإضافة إلى الحقتين، فإذا بلغ الزائد ما فيه بنت مخاض أو بنت لبون، وجبت إلى أن يبلغ الزائد ما فيه حقة فتجب [انظر «فتح القدير» (1/ 497)]. (¬3) انظر «فقه الزكاة» للدكتور يوسف القرضاوي -حفظه الله- (1/ 195).

تنبيه: الأعداد المذكورة في الجدول يجمع فيها كل أنواع الإبل من بُخت (ما لها سنامان) وعراب وغيرها لأن مسمى الإبل يصدق عليها جميعًا. من وجب عليه إخراج سنِّ معينة حسبما تقدم ولم تكن عنده ماذا يفعل؟ من وجبت عليه سنٌّ معينة، فلم يكن في إبله ذلك السن، فله أن يخرج من السن الذي تحته -مما يجزئ في الزكاة (¬1) - ويعطى الساعي فوقها شاتين أو عشرين درهمًا [والمقصود بالدرهمين التقويم لا التعيين بمعنى أنها ثمن الشاتين] أو أن يخرج من السن التي فوقه، ويأخذ من الساعي [الذي يجمع الزكاة] شاتين أو عشرين درهمًا، هذا عن كل واحدة مما وجب عليه. فعن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: «من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل من الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل من الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطى شاتين أو عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطى معها عشرين درهمًا أو شاتين» (¬2). ويستنبط من الحديث كذلك (¬3) أنه إذا لم يجد ما وجب عليه، لكن وجد ما هو أرفع بدرجتين أو أدنى بدرجتين فإن يدفعه ويكون الفارق أربعين درهمًا وأربع شياه جبرانًا وهكذا. ويستثنى من القاعدة السابقة: أنه إذا وجب عليه بنت مخاض، ولم يكن عنده ابنة لبون، بل كان عنده ابن لبون ذكر، فإنه يجزئ عن بنت المخاض دون أن يدفع أو يأخذ معه شيئًا. لحديث أنس أيضًا في كتاب أبي بكر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة، وفيه: «فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه وليس معه شيء» (¬4). ¬

(¬1) وهي على الترتيب: بنت مخاض، ثم بنت لبون، ثم الحقة، ثم جذعة الإبل. (¬2) البخاري (1453)، وابن ماجه (1800). (¬3) انظر «فتح الباري» (3/ 371). (¬4) البخاري (1448)، والنسائي (2447).

زكاة البقر

هل يجزئ إخراج فوق الذي يجب عليه؟ إخراج ما فوق الواجب له حالتان: الأولى: أن يتطوع المزكي فيخرج ستًّا أعلى من السن التي تجب عليه، كأن يخرج بدل بنت المخاض: بنت لبون أو حقة أو جذعة، فهذا جائز بلا خلاف (¬1). ويدل عليه حديث أبي كعب، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قدم ناقة عظيمة سمينة- وقد وجب في إبله بنت مخاض-: «ذاك الذي عليك، وإن تطوعت بخير قبلناه منك، وآجرك الله فيه» (¬2). الثانية: أن يُخرج بدل الشاة ناقة، وكذا عما يجب من الشياه -فيما دون خمس وعشرين من الإبل-، فهذا فيه خلاف: فذهب أبو حنيفة والشافعي، وهو الأصح عند المالكية، أنه يجزئه. وذهب الحنابلة إلى أنه لا يجزئ، لأنه أخرج عن المنصوص عليه غيره من غير جنسه فلم يجزئه (¬3)، وذهب بعضهم إلى قول الجمهور (¬4)، ولعله هو الراجح إن شاء الله فإن الشارع أسقط الإبل فيما دون خمس وعشرين رفقًا بالمالك، وليس ذلك للتعييب، إذ لا يعقل أن تجزئ بنت مخاض في خمس وعشرين من الإبل، ولا تجزئ في عشرين؟! (¬5). زكاة البقر أنصبة البقر، ومقدار الزكاة فيها: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من البقر، من كل أربعين مُسنة، ومن كل ثلاثين: تبيعًا أو تبيعة» (¬6). ¬

(¬1) «المغنى» (2/ 582)، و «نيل الأوطار» (4/ 161). (¬2) أبو داود (1583)، وأحمد (5/ 142) وسنده حسن. (¬3) «المغنى» (2/ 578)، و «روضة الطالبين» (2/ 154). (¬4) «الإنصاف» (3/ 49). (¬5) «الشرح الممتع» (6/ 56). (¬6) صححه الألباني. أخرجه الترمذي (619)، وأبو داود (1561)، والنسائي (5/ 26)، وابن ماجه (1803).

زكاة الغنم

وهذا العدد يجمع فيه الجاموس إلى البقر، لأن الجاموس صنف من البقر بالإجماع فينضم إليه (¬1). وأنت ترى أن الحديث ليس فيه تحديد لأقل النصاب، لكن ذهب جمهور العلماء إلى أنه ليس فيما دون الثلاثة زكاة، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة (جذع أو جذعة، وهو ما له سنة) ثم على حسب الجدول التالي: عدد البقر ... مقدار الواجب إخراجه من ... إلى 1 ... 39 ... ليس فيها زكاة 30 ... 59 ... تبيع أو تبيعة (وهي ما له سنة) 40 ... 69 ... مُسنَّة (وهي ما له سنتان) 60 ... 79 ... (2) تبيعان 70 ... 89 ... تبيع ومسنة 80 ... 99 ... (2) مسنتان 90 ... 109 ... (3) أتبعة 100 ... تبيعان ومسنة وهكذا: في كل ثلاثين: تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعية مُسنة. فإذا بلغت (120) فهل يكون فيها الأتبعة أو المسنات؟ فالظاهر أنه في هذه الحالة يخيَّر بين إخراج (4) أتبعة، أو (3) مُسنات (¬2)، والله أعلم. زكاة الغنم الأنصبة في الغنم ومقدار الواجب فيها: أجمع العلماء على وجوب الزكاة في الغنم على ما جاء في حديث أنس في كتاب أبي بكر الذي تقدم، وأجمعوا كذلك على أن الغنم تشمل الضأن والمعز، فيضم بعضه إلى بعض، باعتبارهما صنفين لنوع واحد (¬3). ¬

(¬1) «المحلى» (6/ 2)، و «المغنى» (2/ 594)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 27 - 35). (¬2) انظر «مجموع الفتاوى» (25/ 37). (¬3) انظر «المجموع» (5/ 417)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 30 - 35).

مسائل عامة في زكاة المواشي

وبناء على حديث أنس، تؤخذ الزكاة في الغنم طبقًا للجدول التالي: عدد الإبل الغنم ... مقدار الواجب فيها من ... إلى 1 ... 120 ... لا زكاة فيها 40 ... 200 ... (1) شاة 121 ... 339 ... (2) شاتان 201 ... 499 ... (3) شياه 400 ... 599 ... (4) شياه 500 ... (5) شياه وهكذا ما زاد عن (300): في كل مائة شاة: شاة، عند جمهور العلماء. فائدة: الشاة التي تدفع في الزكاة تجزئ سواء كانت من الضأن أو المعز، ذكرًا أو أنثى، وهو قول الحنفية والمالكية، وابن حزم، وهو الصواب (¬1). مسائل عامة في زكاة المواشي هل في صغار المواشي زكاة؟ اختلف أهل العلم في زكاة الفصلان [جمع فصيل وهو صغير الإبل]، والعجاجيل [وهي صغار البقر]، والحملان [جمع حمل: وهو صغير الغنم] (¬2). 1 - فقال بعضهم: تحسب الصغار من النصاب، وتجب فيها الزكاة، ولو كانت صغارًا ويخرج واحدة منها، وقال بعضهم: يكلَّف شراء السن الواجبة من غيرها. 2 - وقال آخرون: تحسب الصغار من النصاب، ولا تجب الزكاة فيها إلا أن يكون معها أمهاتها، سواء بلغت الأمهات النصاب وحدها أو لا. واستدل الفريقان بما جاء عن عمر أنه قال لساعيه -سفيان بن عبد الله الثقفي-: «اعتدَّ بالسخلة، التي يرد بها الراعي على يده ولا تأخذها» (¬3). ¬

(¬1) انظر «المحلى» (5/ 268)، و «المجموع» (5/ 422)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 19). (¬2) «بدائع الصنائ» (2/ 31)، و «فتح القدير» (1/ 504)، و «الدر المختار» (2/ 26)، و «المغنى» (2/ 602) وغيرها. (¬3) حسن: أخرجه مالك (600)، والشافعي في «المسند» (651)، وابن حزم (5/ 275) بسند حسن.

والسخلة: الذكر والأنثى من أولاد الضأن والمعز ساعة تولد. 3 - وقال آخرون: إذا بلغت الأمهات نصابًا، فما زاد عن النصاب من الصغار اعتد به، وهو مذهب الجمهور (¬1). 4 - وقال ابن حزم (¬2): «ما صغر عن أن يسمى شاة لكن يسمى خروفًا أو جديًا أو سخلة لم يجز أن يؤخذ في الصدقة الواجبة، ولا أن يعد فيما تؤخذ منه الصدقة، إلا أن يتم سنة، فإذا أتمها عُدَّ، وأخذت الزكاة منه» اهـ. واستدل الآخرون بحديث سويد بن غفلة قال: «أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إليه، فسمعته يقول: إن في عهدي أن لا نأخذ من راضع لبن» (¬3). فحمله الجمهور على أن المراد: لا يؤخذ هو -أي الراضع- في الزكاة، فلا مانع من أن يحسب في النصاب. وتعقبهم ابن حزم فقال: لو أراد أن لا يؤخذ هو في الزكاة لقال: «أن لا نأخذ راضع لبن» لكن لما منع أخذ الزكاة من راضع لبن -وراضع لبن اسم للجنس- صح بذلك أن لا تعد الرواضع فيما يؤخذ منه الزكاة. اهـ (¬4). وقال -رحمه الله-: وأيضًا فقد أجمعوا على أن لا يؤخذ خروف ولا جدي في الواجب في الزكاة عن الشاء، فأقروا بأنه لا يسمى شاة ولا له حكم الشاء، فمن المحال أن يؤخذ منها زكاة، فلا تجوز هي في الزكاة بغير نص في ذلك (¬5) اهـ. الصفات التي تُراعى في المأخوذ في زكاة الماشية: ينبغي أن يكون المأخوذ في زكاة الماشية: الوسط، وهذا يقتضي أمرين، أحدهما على الساعي [وهو الموظف المخصص من الحاكم لجمع الزكاة] والآخر على المالك: [1] أن يتجنب الساعي أخذ خيار المال المزكى، ما لم يخرجه المالك عن طيب نفس: فقال قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أمره أن يأخذ الزكاة من أهل اليمن: ¬

(¬1) نقله عنهم شيخ الإسلام في الفتاوى (25/ 38). (¬2) «المحلى» (5/ 274). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (1579)، والنسائي (5/ 28)، وأحمد (4/ 315) وسنده حسن على الأقل. (¬4) «المحلى» (5/ 278 - 279). (¬5) «المحلى» (5/ 278 - 279).

«إياك وكرائم أموال الناس، واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مُرَّ على عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة، فرأى فيها شاة حافلاً ذات ضرع، فقال: ما هذه الشاة؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا خَزَرات المسلمين، نكبوا عن الطعام» (¬2). [2] أن لا يعطى المالك شرار المال: كالمعيبة أو مريضة أو كسيرة أو هرمة -وهي الكبيرة التي سقطت أسنانها- أو بها عيب ينقص منفعتها وقيمتها. فقد قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (¬3). وجاء في حديث عبد الله بن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان: .... وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولا يعطى الهرمة ولا الدرنة (¬4) ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة (¬5)، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره» (¬6). هل الزكاة واجبة في عين المال أم في ذمة المزكي؟ وفائدة هذه المسألة: للعلماء في هذه المسألة رأيان (¬7): الأول: أن الزكاة تجب في عين المال: وبهذا قال الجمهور، ومما يتفرع على هذا: (أ) أنه إذا هلك المال بعد وجوب الزكاة فيه، فإن الزكاة تسقط بهلاكه. (ب) أن من كان عنده أربعون -شاة مثلًا- ففيها شاة، فإذا لم يخرج الزكاة سنة وبقيت عنده الأربعون، لزمته هذه الشاة ولم يجب عليه شاة عن الحول الآخر، لأن هذه الأربعين في حكم التسع والثلاثين. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19). (¬2) صحيح: أخرجه مالك (602)، وعنه الشافعي في «مسنده» (654) وسنده صحيح. (¬3) سورة البقرة: 267. (¬4) الدرنة: الجرباء. (¬5) الشَرَط: صغار المال وشراره، واللئيمة: البخيلة باللبن. (¬6) أبو داود (1582) ورجاله ثقات. (¬7) «الدر المختار» (2/ 27)، و «المجموع» (5/ 341)، و «المغنى» (2/ 678)، و «المحلى» (5/ 262).

والثاني: أن الزكاة تجب في الذمة: وبهذا قال الحنابلة وابن حزم ويتفرع على قولهم: (أ) أنه لا تسقط الزكاة إذا هلك المال بعد وجوبه لأنه تعلق بذمة المالك. (ب) أن من لم يخرج زكاة الأربعين شاة بعد الحول الأول، لزمه في الحول الآخر أن يخرج شاتين، لأن الشاة الأولى بقيت في ذمته، ولزمه أن يخرج أخرى عن الأربعين. إذا كانت الماشية لشريكين فكيف تخرج الزكاة فيها؟ الخلطة (الشركة) -سواء كانت خلطة أعيان، أو خلطة أوصاف (¬1) - تجعل المالين كالمال الواحد، لحديث: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة [وما كان من خيطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية]» (¬2). وتجب الزكاة في مال الشركة كما تجب في مال الرجل الواحد بشروط (¬3): 1 - أن يكون الشريكان من أهل وجوب الزكاة (مسلم حر، تام الملك ...). 2 - أن يكون المال المختلط نصابًا. 3 - أن يمضي عليها حول كامل، وإلا زكى كل منهما على انفراد بحسب مضي حوله. 4 - أن لا يتميز مال أحدهما عن مال الآخر في ستة أوصاف: المسرح، والمبيت، والمشرب، والمحلب، والفحل، والراعي (¬4). معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ...». 1 - الشركة [التي تجعل المالين كالمال الواحد] قد تفيد الشريكين تخفيفًا، كأن ¬

(¬1) خلطة الأعيان: أن يشتركا في ماشية فيكون لكل منهما منها نصيب مشاع، كأن يكون ورثا هذه الماشية، وخلطة الأوصاف: أن يتميز مال كل واحد عن الآخر ولكنها تشترك في المسرح والمبيت ... وغيرها مما سيأتي. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (145)، وابن ماجه (1801) بدون زيادة، وهي عند النسائي (2447)، وأبو داود (1567)، والترمذي (621). (¬3) انظر «الفقه الإسلامي وأدلته» (2/ 851). (¬4) وذهب الحنفية وابن حزم في «المحلى» (6/ 51 وما بعدها) إلى أنه ليس للخلطة تأثير، وأنها لا تجعل المالين واحدًا.

زكاة الزروع والثمار

يكون لكل منهما أربعون شاة، فإذا ضم مالهما صار ثمانين، فالواجب فيهما شاة واحدة عليهما -بخلاف ما إذا لم يكونا شريكين، فيكون على كل منهما شاة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتال الرجلان فيشتركا تهربًا من الصدقة وتخفيفًا لها. 2 - وقد يكون في الشركة تثقيلاً على الشريكين، كأن يكونا شريكين (40) شاة، فتجب عليهما شاة، بخلاف، ما إذا كانا متفرقين فليس على أحدهما شيء فنُهى الشركاء عن تفريق مالهما تهربًا من الزكاة. هل للخلطة تأثير في الأموال غير المواشي؟ مذهب الحنابلة (¬1) أن الخلطة لا تؤثر في غير بهيمة الأنعام، قالوا: لأن الخلطة في الماشية يكون فيها منفعة أحيانًا وضرر أحيانًا، أما غير الماشية فلا يتصور فيها غير الضرر برب المال، لأنه تجب فيها الزكاة فيما زاد على النصاب بحسابه، فلا أثر لجمعها، وعليه فإذا كان لكل من الشريكين مال غير الماشية يبلغ نصف النصاب فليس عليهما شيء. ومذهب الشافعي (¬2): أن الخلطة تؤثر في غير المواشي كذلك كالزروع والثمار والدراهم والدنانير ونحوها. زكاة الزروع والثمار الزكاة في الزروع والثمار -في الجملة- واجبة، وقد ثبت فرضيتها بالكتاب والسنة والإجماع، وإن اختلفوا في التفاصيل (¬3). وستأتي أدلة الكتاب والسنة أثناء بحثنا فيما بعد. الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة اتفق أهل العلم على وجوب إخراج الزكاة في الأصناف التي أخذ منها النبي صلى الله عليه وسلم وهي (القمح والشعير، والتمر والزبيب)، ثم حصل بينهم خلاف فيما عدا المنصوص عليه، فنجمل أقوالهم فيما يأتي: [1] أنه لا زكاة إلا في الأصناف الأربعة، ولا شيء فيما عداها (¬4): ¬

(¬1) «الإنصاف» (3/ 83). (¬2) «مغنى المحتاج» (2/ 76). (¬3) «بدائع الصنائع» (2/ 54). (¬4) «المحلى» (5/ 209) وما بعدها، و «نيل الأوطار» (4/ 170)، و «الأموال» لأبي عبيد (469/ 1378)، و «تمام المنة» (ص 372 - 373)، و «فقه الزكاة» (1/ 377).

وهذا مذهب ابن عمر (¬1)، والحسن البصري (¬2)، والثوري، والشعبي، وابن سيرين، وابن المبارك، وأبي عبيد وغيرهم من السلف، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب ابن حزم غير أنه لم يصح عنده في الزبيب حديث فلم يقل به، وهو مذهب الشوكاني ثم الألباني. واحتج أصحاب هذا القول: بما روى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن -يعلمان الناس أمر دينهم- فأمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب» (¬3). وبأن غير هذه الأربعة، لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الافتيات بها، وكثرة نفعها ووجودها، فلم يصح قياسه عليها، ولا إلحاقه بها، فيبقى على الأصل. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين خصَّ هذه الأصناف الأربعة للصدقة، وأعرض عما سواها، قد كان يعلم أن للناس أقواتًا وأموالاً، مما تخرج الأرض سواها، فكان تركه ذلك وإعراضه عنه عفوًا منه كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق. [2] أن الزكاة في كل ما يقتات ويُدَّخر (¬4): (وهو مذهب مالك والشافعي). والمقتات هو: ما يتخذه الناس قوتًا يعيشون به في حال الاختيار، لا في الضرورة، كالقمح والشعير والذرة والأرز ونحوها، ولا تجب في الجوز واللوز والفستق ونحوها، فهي وإن كانت مما يدخر، فليست مما يقتات الناس به. واحتج أصحاب هذا القول: بحديث معاذ بن جبل وفيه: «فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬5). ¬

(¬1) روى أبو عبيد (469/ 1378) بسند صحيح عن ابن عمر قال في صدقة الزروع والثمار: «ما كان من نخل او عنب أو حنطة أو شعير» ونحوه في «مسند الشافعي» (656) بسند صحيح. (¬2) رواه عنه أبو عبيد (469/ 1379 - 1380)، وابن زنجويه (1030/ 1899) بأسانيد صحيحة عنه. (¬3) الحاكم (1/ 401)، والبيهقي (4/ 125)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (879). (¬4) «الموطأ» (1/ 276 - ط. الحلبي)، و «المهذب» (5/ 493 - مع المجموع)، و «فقه الزكاة» (1/ 378). (¬5) ضعيف: أخرجه البيهقي (4/ 129)، والحاكم (1/ 558)، والدارقطني (2/ 97)، وانظر «التلخيص» (837).

وبأن الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية. [3] أن الزكاة في كل ما ييبس ويبقى ويُكال (¬1): (وهو أشهر الروايات عن أحمد) وهذا يدخل فيه الحبوب والثمار المكيلة المدخرة والقطاني (الفول والحمص والعدس ...) والتمر والزبيب واللوز والفستق وغيرها لاجتماع هذه الأوصاف فيها. ولا زكاة في سائر الفواكه كالجوز والتفاح ونحوهما ولا في الخضروات واحتج القائلون بهذا القول: 1 - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (¬2) قالوا: فيه اعتبار التوسيق، فدل على أن الزكاة إنما تكون فيما يُوسق ويكال. 2 - وبقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس في حب ولا تمر صدقة، حتى يبلغ خمسة أوسق ...» (¬3). قالوا: وهذا يدل على وجوب الزكاة في الحب والتمر وانتفائها عن غيرهما. واختار ابن تيمية أن المعتبر هو الادخار لا غير، لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه بخلاف الكيل فإنه تقدير محض والوزن في معناه. [4] أن الزكاة في كل ما أخرجت الأرض مما يزرعه الآدمي (¬4): وهو قول عمر بن عبد العزيز وهو مذهب أبي حنيفة وداود الظاهري، ورجحه ابن العربي وأطال في تأييده، واختاره القرضاوي. واحتجوا لمذهبهم بما يأتي: 1 - عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ...} (¬5). قالوا: فلم يفرق بين مخرج ومخرج. 2 - قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬6). بعد ذكر أنواع المأكولات من الجنات والنخل والزرع والزيتون والرمان. ¬

(¬1) «المغنى» (2/ 690)، و «شرح منتهى الإرادات» (1/ 388)، و «فقه الزكاة» (1/ 381). (¬2) البخاري (1447)، ومسلم (979). (¬3) مسلم (979)، والنسائي (2485). (¬4) «المحلى» (5/ 212)، و «الهداية» (2/ 502)، و «عارضة الأحوذي» (3/ 135). (¬5) سورة البقرة: 267. (¬6) سورة الأنعام: 141.

3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سُقى بالنضح نصف العشر». قالوا: فلم يفرق بين مقتات وغير مقتات، ومأكول وغير مأكول، وما يبقى وما لا يبقى، قال ابن العربي: «وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلاً، وأحوطها للمساكين، وأولاها قيامًا بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث». اهـ. وطعن هؤلاء في الأحاديث التي حصرت الزكاة في الأصناف الأربعة، قالوا: وعلى فرض صحتها فهي مؤولة بأنه لم يكن ثمت غير هذه الأربعة؟! القول الراجح مما سبق؟ لا يشترط الحول في زكاة الزروع والثمار: لا يشترط الحول في زكاة الزروع والثمار، باتفاق العلماء، لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1). ولأن الخارج نماء في ذاته فوجبت فيه الزكاة، بخلاف سائر الأموال الزكوية، فإنما اشترط فيها الحول ليمكن فيه الاستثمار (¬2). متى تجب الزكاة في الزروع والثمار؟ ومتى تُخرج؟ تجب الزكاة عند بدو صلاح الزروع، باشتداد الحب، لأنه حينئذ طعام، وهو قبل ذلك بقل، كما تجب عند حلول الحلو أو التلون في التمر والعنب، وهو قبل ذلك بلح وحصرم. وأما وقت إخراجها، فيجب إخراج الزكاة من الحبوب بعد التصفية، ومن الثمار بعد الجفاف، لأنه وقت الكمال وحالة الادخار. ويتفرع على هذا أن الزرع لو تلف قبل وجوبه -قبل بدو الصلاح- فلا شيء عليه، ولو تلف بعد بدو صلاحه لكن قبل حفظه وتخزينه فلا ضمان عليه (¬3). هل يشترط نصاب للزرع والثمار؟ وما مقداره؟ يشترط في وجوب الزكاة بلوغ النصاب عند الجمهور ومقداره: خمسة أوسق من الحب المصفَّى من التين. ¬

(¬1) سورة الأنعام: 141. (¬2) «المغنى» (6/ 696). (¬3) «المغنى» (2/ 702)، و «شرح منتهى الإرادات» (1/ 390).

لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (¬1). وهذا المقدار يساوي (¬2): (50) كلية مصرية. وتساوي (4 وسدس) أردب وهو يساوي أيضًا ملء الإناء الذي يتسع لحوالي (647 كيلو جرام) من القمح. فإذا نقص المحصول عن هذا النصاب لم يجب فيه الزكاة عند الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة، أما أبو حنيفة فأوجب الزكاة في القليل والكثير مستدلاً بعموم الحديث: «فيما سقت السماء العشر ....» (¬3) ولأنه لا يعتبر الحول له، فلم يعتبر له النصاب. لكن الحديث: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (¬4) لا يجوز معارضته بالحديث السابق، فإن هذا خاص محكم مبين، وذاك عام متشابه مجمل، وهذا مبين للنصاب، وذاك إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فلا معارضة بينهما والله أعلم (¬5). كيف يقدر النصاب في غير المكيلات عند من يوجب الزكاة فيها؟ أما ما لا يقدر بالكيل كالقطن مثلًا -عند من يوجب الزكاة فيه- فاختلف في تقدير نصابه على أقوال (¬6): 1 - يعتبر فيه القيمة، فإذا بلغت قيمته أدنى نصاب مما يوسق ففيه الزكاة وإلا فلا. 2 - يعتبر خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ذلك الشيء. 3 - يعتبر فيه نصاب النقود. 4 - لا يعتبر فيه النصاب ويزكى قليله وكثيره. يقدر بالوزن على ما تقدم بأنه (647) كيلو جرام. ورجح الأخير ابن قدامة في المغنى (2/ 697) وقال معقبًا على الأقوال الأخرى: «ولا أعلم لهذه الأقوال دليلاً ولا أصلاً يعتمد عليه، ويردها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» اهـ. ¬

(¬1) متفق عليه وقد تقدم. (¬2) «فقه الزكاة» (1/ 400). (¬3) يأتي تخريجه قريبًا. (¬4) متفق عليه، وقد تقدم. (¬5) انظر «المغنى» (2/ 695)، و «إعلام الموقعين» (3/ 229). (¬6) انظر: «فقه الزكاة» (1/ 401).

واختار القرضاوي اعتبار القيمة. أما مقيده -عفا الله عنه- فلست أرى فيها الزكاة أصلاً. هل يُضم المحاصيل بعضها إلى بعض لتكميل النصاب؟ أظهر أقوال العلماء «أنه يُضم الأنواع من الجنس الواحد بعضها إلى بعض ولا تضم الأجناس، فلا تضم حنطة إلى شعير، ونحو ذلك، ولا يضم أجناس القطنية بعضها إلى بعض، فلا يضم الحمص إلى الباقلاء والعدس ونحو ذلك ....» (¬1) وهذا مذهب جمهور السلف. «أما أصناف القمح فيضم بعضها إلى بعض، وكذلك تضم أصناف الشعير بعضها إلى بعض، وكذلك أصناف التمر بعضها إلى بعض» (¬2) وإن اختلف أسماؤها، ولو تباعدت البساتين التي يملكها الرجل. ومن العلماء من أجاز ضم القمح والشعير، وضم القطاني: «الفول والحمص والعدس والبازلاء ونحوها، لتكميل النصاب من مجموعها، وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام (¬3). قلت: لكن هذا القول لا أعلم عليه دليلاً، فالظاهر الأول، والله أعلم. هل تضم محاصيل العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب؟ إذا كان عند إنسان بستان بعضه يُجنى مبكرًا، وبعضه يتأخر، فإنه يُضم بعضه إلى بعض لتكميل النصاب ما دام في عام واحد، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬4). لكنا نقيد هذا بما تقدم من اشتراط أن يكون المحصول من نفس الصنف أما ثمرة عامين فلا تضم بعضها إلى بعض. خرص النخيل والأعناب ينبغي للسلطان (الحاكم) إذا بدا صلاح الثمار أن يرسل ساعيًا يخرصها -أي يقدر كم سيكون مقدارها بعد الجفاف- ليعرف قدر الزكاة الواجبة على أصحابها، ويعرفهم بها، ويخيرهم بين حفظها إلى الجفاف، وبين الأكل منها -رطبًا- وضمان ¬

(¬1) «المجموع» للنووي (5/ 511 - 513). (¬2) «المحلى» لابن حزم (5/ 253). (¬3) «المغنى» (2/ 560)، و «المدونة» (1/ 288)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 23 - 24). (¬4) «مجموع الفتاوى» (25/ 23)، وانظر «المغنى» (2/ 733).

حق الفقراء، فإن اختار حفظها حتى جفاف الثمر، فعليه حينئذ زكاة ما حفظه بعد جفافه قلَّ أو كثر، وإن اختار -أصحاب الثمر- الأكل منها فإنه يخرج حصة الفقراء بحساب الخرص. فعن أبي حميد السادي رضي الله عنه قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى، إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اخرصوا»، وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، فقال لها: أحصى ما يخرج منها ... فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: كم جاء حديقتك؟ قالت: عشرة أوسق، خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه، ثم يخيِّر يهود: يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص، لكي يحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق» (¬2). هل يجوز الأكل من الزرع قبل حصاده؟ وهل يحسب عليه؟ يجوز لصاحب الزرع أن يأكل منه ما يحتاج إليه قبل الحصاد، وله أن يتصدق منه حين الحصاد، ولا يحسب هذا عليه، وإنما يزكي ما صفى بعد هذا، لأن الزكاة لا تجب إلا حين إمكان الكيل، فما خرج عن يده قبل ذلك، فقد خرج قبل وجوب الصدقة فيه. وبهذا قال الشافعي والليث وابن حزم (¬3). ما مقدار الزكاة الواجبة في الزروع والثمار إذا بلغت النصاب؟ يختلف القدر الواجب في زكاة الزروع والثمار باختلاف طرق السقى (الري): فما سُقى بدون استعمال الآلات -من السواقي أو الماكينات- فيُخرج فيه العُشر (1/ 10). وما سُقى باستعمال الآلة أو بماء مُشترى، ففيه نصف العشر (1/ 20) والدليل على هذا: ¬

(¬1) البخاري (1482)، ومسلم (1392). (¬2) أبو داود (1606)، وأبو عبيد في «الأموال» (483/ 1438)، والبيهقي (4/ 123)، وأحمد (6/ 163) وهو حسن لشواهده كما في «الإرواء» (805). (¬3) «المحلى» (5/ 259).

1 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا (¬1) العُشر، وفيما سُقى بالنضح نصف العُشر» (¬2). 2 - وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيما سقت الأنهار والغيم: العُشور، وفيما سقى بالسانية: نصف العشور» (¬3). «فإن سقيت الأرض نصف الوقت بكلفة ونصفها بغير كلفة: فالزكاة ثلاثة أرباع العشر اتفاقًا. وإن سقيت بأحدهما أكثر من الآخر فالجمهور على اعتبار الأكثر، ويسقط حكم الأقل، وقيل: يعتبر كل منهما بقسطه. وإن جهل المقدار الغالب يخرج العشر احتياطًا، لأن الأصل وجوب العشر، وإنما يسقط بوجود الكلفة» (¬4). هل تُطرح تكاليفُ ونفقاتُ الزراعة والديُّونُ من الخارج ثم يزكى الباقي؟ 1 - أما الديون التي تكون على صاحب الزرع أو الثمر: فلا تخلو من أحد أمرين: الأول: أن يكون استدانها للنفقة على الزرع كثمن البذر والسماد وأجرة العمال ونحوها فهذه تطرح من الخارج من الأرض ثم يزكى الباقي، وهذا مذهب ابن عمر وجماعة من السلف منهم سفيان الثوري ويحيى بن آدم والإمام أحمد. والثاني: أن يكون استدانها للنفقة على نفسه وأهله: فذهب ابن عمر إلى أنها تطرح [تقضى] ثم يزكى ما بقي. وذهب ابن عباس إلى أنه لا يطرح دينه عن الخارج إلا أن يكون أنفقه على ثمره كما تقدم: فعن ابن عمر قال: يبدأ بما استقرض فيقضيه، ويزكى ما بقي. ¬

(¬1) العثرى: ما يصيبه ماء المطر أو ماء النهر بغير سقى. (¬2) البخاري (1483)، وأبو داود (1581)، والترمذي (635)، والنسائي (5/ 41)، وابن ماجه (1817). (¬3) مسلم (981)، وأبو داود (1582)، والنسائي (5/ 42). (¬4) انظر «المغنى» (2/ 699).

وقال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة ثم يزكى ما بقي (¬1). وعن الإمام أحمد روايتان كقول كل منهما. ورجَّح أبو عبيد مذهب ابن عمر ومن وافقه في رفع كل الديون من الخارج، إذ الذي عليه دين يحيط بماله ولا مال له، هو من أهل الصدقة، فكيف تؤخذ منه الصدقة وهو من أهلها؟ وكيف يكون غنيًّا فقيرًا في حالة واحدة؟ (¬2). قلت: وهذا هو الراجح، وعليه فمن أخرجت أرضه - (20) وسقًا مثلًا من القمح- وكان مدينًا بما يعادل (17) وسقًا فإنه يقضيها ويبقى له (3) أوسق فليس فيها زكاة لأنها دون النصاب، والله أعلم. 2 - وأما النفقات على الزرع إذا لم تكن دَيْنًا: كتكاليف البذر والسماد والحرث والحصاد ونحوها، فللعلماء فيها قولان: الأول: أنها لا تُطرح من الخارج قبل أخذ العشر أو نصفه: وهو مذهب الحنفية وابن حزم (¬3). قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة، ولو رفعت المؤنة لكان الواجب بنفس المقدار، لأنه لم ينزل العشر إلى نصفه إلا المؤنة، والفرض أن الباقي بعد رفع قدر المؤنة لا مؤنة فيه. والثاني: أنها تطرح من الخارج ويزكى ما بقي: وهو مذهب الحنابلة ورجحه ابن العربي (¬4) وهذا هو الأرجح والأشبه بروح الشريعة ويؤيده أمران (¬5): 1 - أن للكلفة والمؤنة تأثيرًا في نظر الشارع، فقد تقلل مقدار الواجب، كما في السقى بآلة، وقد تمنع الزكاة أصلاة كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب في إسقاط ما يقابلها من الخارج من الأرض. 2 - أن حقيقة النماء هو الزيادة، ولا يعد المال زيادة وكسبًا إذا أنفق مثله في الحصول عليه. ¬

(¬1) أخرجه عنهما أبو عبيد في «الأموال» (ص 509)، ويحيى بن آدم في «الخراج» (ص 162) بسند صحيح. (¬2) «الأموال» لأبي عبيد (ص 510). (¬3) «حاشية ابن عابدين» (2/ 49)، و «فتح القدر» (2/ 8 - 9)، و «المحلى» (5/ 258). (¬4) «المغنى» (2/ 698)، و «عارضة الأحوذي» (3/ 143). (¬5) «فقه الزكاة» (1/ 424).

الأراضي نوعان: عُشرية وخَراجِيَّة الأرض العُشرية: هي الأرض التي أسلم أهلها طوعًا، أو فتحت عُنْوة وقسمت بين الفاتحين، أو أحياها المسلمون. والأرض الخراجيَّة: هي التي فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين، وتركت في أيدي أهلها، أو صولح أهلها نظير خراج معلوم. وهذا الخراج نوعان: 1 - خراج وظيفة: وهو ضريبة مفروضة على الأرض سواء استغلها صاحبها أم تركها، وقد وظفه عمر رضي الله عنه. 2 - خراج مقاسمة: وهو ضريبة مقطوعة من الناتج الزراعي، كأن يؤخذ نصف الخارج أو ثلثه أو ربعه، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر. زكاة الخارج من الأرض الخراجية إذا أخرجت الأرض الخراجية ما تجب فيه الزكاة من الزروع: فذهب الجمهور أن يؤدَّى الخراج أولاً، ثم يزكى ما بقي، واستدلوا: 1 - بعموم الآيات والأحاديث المتقدمة التي تدل على الوجوب من غير تفريق بين العشرية والخراجية. 2 - وبكتاب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوف -عامله على فلسطين- فيمن كانت في يده أرض بجزيتها من المسلمين: أن يقبض جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية (يعني الخراج) (¬1). 3 - وعن سفيان الثوري قال فيما أخرجت الخراجية: «أرفع دَيْنك وخراجك، فإن بلغ خمسة أوسق بعد ذلك فزكِّها» (¬2). 4 - بأن الخراج والعشر حقان مختلفان ذاتًا ومحلاًّ وسببًا ومصرفًا ودليلاً وقد خالف الحنفية في هذا فمنعوا اجتماع الخراج والعشر في الأرض واحتجوا بحديث باطل وهو «لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم» (¬3) وقول الجمهور أقوى والله أعلم. ¬

(¬1) «الأموال» لأبي عبيد (ص 88). (¬2) «الخراج» ليحيى بن آدم (ص 163). (¬3) «الكامل» لابن عدي (7/ 2155) قال ابن حبان: ليس هذا الحديث من كلام النبوة، وقال شيخ الإسلام (25/ 55): «كذب باتفاق أهل الحديث» اهـ.

كيف تخرج الزكاة في الخارج من الأرض المستأجرة، وهل تكون على المالك أو المستأجر؟ ذهب جمهور العلماء (المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة) إلى أن من استأجر أرضًا فزرعها، فالزكاة على المستأجر. وذهب أبو حنيفة إلى أن العُشر على المؤجر (المالك). وسبب اختلافهم (¬1): هل العشر حق الأرض أو حق الزرع؟ قلت: والأظهر أنه حق الزرع، فيجب على المستأجر لا على المالك -كقول الجمهور- لكن بعد أن يطرح الإيجار من الخارج، لأنه أشبه بالخراج. فمثلاً (¬2): إذا كان إيجار الأرض (20) جنيهًا، وأخرجت من القمح (10) أرادب، وكان الإردب يساوي خمسة جنيهات، فيكون مقدار الخارج (10 × 5= 50 جنيهًا) فإنه يخرج عن (6) أرادب فقط، والأربعة تطرح مقابل الإيجار ولو كان المتبقي دون النصاب فليس فيه زكاة. أما مالك الأرض فإنه يزكي أجرة أرضه على حسب ما تقدم في زكاة المرتبات الشهرية والمكاسب المهنية. وقد اختار القرضاوي -حفظه الله- أن يزكي ما دفع إليه بدلاً من الزرع وهو الأجرة التي يقبضها بشرط أن تبلغ قيمة نصاب من الزرع القائم بالأرض لأنها بدل عنه (¬3). هل تجب الزكاة في العسل؟ العلماء في مسألة زكاة العسل: طرفان ووسط: 1 - فذهب الجمهور (منهم مالك والشافعي وابن أبي ليلى وابن المنذر) إلى أنه لا زكاة فيه لأمرين: (أ) أنه ليس في وجوب الزكاة فيه خير يثبت ولا إجماع، والسنن ثابتة فيما يؤخذ منه، فكان العسل عفوًا. ¬

(¬1) «بداية المجتهد» (1/ 239)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 55). (¬2) «فقه الزكاة» (1/ 430). (¬3) «المجموع» (5/ 478)، و «المغنى» (2/ 713)، و «ابن عابدين» (2/ 334)، و «مواهب الجليل» (2/ 278).

(ب) أنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن، واللبن لا زكاة فيه بالإجماع. 2 - وذهب الحنفية وأحمد إلى أن العسل تؤخذ منه الزكاة واحتجوا بأمرين: (أ) بعض الآثار الواردة في هذا: كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه أخذ من العسل العشر» (¬1). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «جاء هلال -أحد بني متعان- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي له واديًا يقال له سلبة فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي، فلما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر رضي الله عنه: إن أدَّى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحمِ له سلبته، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء» (¬2). قلت: والذي يظهر لي أن الرواية الثانية هي الصواب وأنها تُعِلُّ الأولى، فإن الرواية الأولى من طريق ابن لهيعة والأخرى من طريق عمرو بن الحارث (ثقة ففيه حافظ) والمخرج متحد، والعجب من ابن القيم -رحمه الله- حيث قال: «هذه الآثار يقوي بعضها بعضًا، وقد تعددت مخارجها! واختلفت طرقها، ومرسلها يعضد بمسندها»؟! (¬3). هذا على أن الرواية الأخرى اختلف في وصلها وإرسالها. وعلى فرض ثبوتها وأنها موصولة فلا حجة فيها، لأن الظاهر أن أخذ العشر من العسل لم يكن زكاة، وإنما كان في مقابلة الحمى (¬4)، ولو كان زكاة واجبة لم يكن لعمر الفقه المحدَّث أن يخيِّر فيها. والله أعلم. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1824)، وأبو عبيد في «الأموال» (497/ 1489) وسنده ضعيف. (¬2) أبو داود (1600)، والنسائي (1/ 346) وغيرهما بسند صحيح واختلف في وصله وانظر «الإرواء» (810). (¬3) «زاد المعاد» (1/ 312). (¬4) وأشار إلى هذا الحافظ في «الفتح» (3/ 348) وقبله ابن زنجويه في «الأموال» (1095)، ثم الخطابي في «معالم السنن» (1/ 208)، ثم رأيت الألباني في «تمام المنة» (ص 374) مال إلى هذا.

زكاة عروض التجارة

(ب) قالوا: والعسل يتولد من نَور الشجر والزهور، ويكال ويدَّخر، فوجبت فيه الزكاة كالحب والتمر، ولأن الكلفة فيه دون الكلفة في الزروع والثمار (¬1). وهؤلاء الموجبون للزكاة في العسل أوجبوا فيه العُشر، واشترط الحنفية في العسل المزكَّى: أن لا يكون في أرض خراجية، وأن يكون مملوكًا. ولم يحددوا له نصابًا، بل رأوا الزكاة في كثيره وقليله. بينما قال الحنابلة: نصاب العسل عشرة أفراق [حوالي 64.68 كيلو جرام] ورجح الدكتور القرضاوي -حفظه الله- أن يكون النصاب خمسة أوسق [647 كيلو جرام]. 3 - وتوسط أبو عبيد في «الأموال» (ص 506) فقال: «وأشبه الوجوه في أمره [يعني العسل] أن يكون أربابه يؤمرون بصدقته، ويُحثون عليها، ويكره لهم منعها، ولا يؤمن عليهم المأثم في كتمانها من غير أن يكون ذلك فرضًا عليهم كوجوب صدقة الأرض والماشية ... وذلك أن السنة لم تصح فيه كما صحت فيهما» اهـ. قلت: وهذا هو الأرجح أنه لا تجب الزكاة في العسل، وإن كان لا يخلو إخراجها فيه من كونها خيرًا، فإنه إن كان واجبًا فقد أدى ما وجب، وأبرأ ذمته، وإن لك يكن واجبًا فهو صدقة. ولذا فإن ابن مفلح (¬2) [وهو من أعلم الناس بفقه شيخ الإسلام] كان يرى أنه لا زكاة في العسل. زكاة عروض التجارة عُروض التجارة هي: كل ما عدا النقدين (الذهب والفضة) من الأمتعة والعقارات وأنواع الحيوان والزروع والثياب والآلات والجواهر ونحو ذلك مما أعد للتجارة. وعرَّفها بعضهم بأنها: ما يُعد للبيع والشراء بقصد الربح. ¬

(¬1) «زاد المعاد» (1/ 314). (¬2) «الفروع» (2/ 450).

حكم الزكاة في عروض التجارة: اختلف العلماء في زكاة عروض التجارة على قولين (¬1): 1 - أنها تجب فيها الزكاة: وهو قول جمهور العلماء، وحكى بعضهم أنه إجماع الصحابة والتابعين كما سيأتي. واستدلوا بالكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين، وبالقياس: (أ) فمن القرآن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} (¬2). وبوَّب عليها البخاري في كتاب الزكاة في «صحيحه» قال: (باب صدقة الكسب والتجارة) ومعنى قوله (ما كسبتم) يعني: التجارة (¬3). (ب) ومن السنة: استدلوا بحديث سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع» (¬4). وبحديث أبي ذر مرفوعًا: «في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته» (¬5). والبز: الثياب، فهو يشمل الأقمشة والمفروشات والأواني ونحوها، وهذه إذا كانت للاستمتاع الشخصي فلا زكاة فيها بلا خلاف، فبقي أن المراد إذا كانت للاستغلال والتجارة. غير أن الحديثين ضعيفان، لكن يمكن أن يستدل للزكاة في عروض التجارة بدخولها في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «... أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة من أموالهم ...» الحديث وقد تقدم. ¬

(¬1) انظر «فقه الزكاة» (1/ 340) وما بعدها، وغير ذلك من المراجع التي أشير إلهيا فيما بعد. (¬2) سورة البقرة: 267. (¬3) انظر «تفسير الطبري» (5/ 555)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 235) وغيرهما. (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1562)، وعنه البيهقي (1/ 97)، والدارقطني (ص 214) وغيرهم بسند ضعيف وانظر «الإرواء» (827). (¬5) ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 179)، والبيهقي (4/ 147)، الدارقطني (2/ 101)، وانظر الضعيفة (1178).

إذ عروض التجارة مال بلا شك، هذا بضميمة قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات ...» (¬1). فإن هذا التاجر لو سئل: ماذا تريد بالتجارة؟ لقال: الذهب والفضة؟! (¬2) ويستدل لهذا أيضًا بحديث أبي هريرة في منع خالد بن الوليد الزكاة وشكوى الناس ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «... وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله ...» (¬3). فكأنهم ظنوا أنها للتجارة فطالبوه بزكاة قيمتها، فأعلمهم -عليه الصلاة والسلام- بأنه لا زكاة عليه فيما حبس (¬4). ومن آثار الصحابة والسلف: 1 - عن ابن عبد القاري قال: «كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء، جمع أموال التجار ثم حسبها، شاهدها وغائبها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب» (¬5). 2 - عن ابن عمر قال: «ليس في العروض زكاة، إلا ما كان للتجارة» (¬6). 3 - عن ابن عباس قال: «لا بأس بالتربص حتى يبيع والزكاة واجبة فيه» (¬7). 4 - عن عطاء قال: «لا صدقة في اللؤلؤ، ولا زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عرض، ولا شيء لا يدار (أي لا يتاجر به) وإن كان شيئًا من ذلك يدار ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع» (¬8). 5 - وكتب عمر بن عبد العزيز إلى زريق: «انظر من مرَّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات من كل أربعين دينارًا دينارًا ....» (¬9). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907). (¬2) مستفاد من «الشرح الممتع» (6/ 141). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1468)، ومسلم (983). (¬4) انظر «فتح الباري» (3/ 392) وقال: وهذا يحتاج لنقل خاص فيكون فيه حجة. اهـ. (¬5) «الأموال» و «مصنف ابن أبي شيبة» و «المحلى» وصححه ابن حزم وتأوله. (¬6) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 68)، وعبد الرزاق (4/ 97)، والبيهقي (4/ 147) بسند صحيح. (¬7) «الأموال» (ص 426)، وابن حزم في «المحلى» (5/ 234) وصحح إسناده لكن تأوله. (¬8) إسناد صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7061)، وابن أبي شيبة (3/ 144) بسند صحيح. (¬9) إسناد صحيح: أخرجه مالك (594)، والشافعي في «الأم» (2/ 68).

ولم ينقل عن واحد من الصحابة ما يخالف قول عمر وابنه وابن عباس، بل استمر العمل والفتوى على ذلك في عهد التابعين وفي زمان عمر بن عبد العزيز، وكذلك اتفق فقهاء التابعين ومن بعدهم على القول بوجوب الزكاة في أموال التجارة. حتى نقل ابن المنذر وأبو عبيد الإجماع على ذلك، إلا قولاً ذكره أبو عبيد ولم ينسبه لقائل ثم قال عقبه: «وأما القول الآخر فليس من مذاهب أهل العلم عندنا» اهـ. (ء) وأما القياس: فالعروض المتخذة للتجارة: مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي تجب فيها الزكاة (النقدين، والماشية، والزروع). (هـ) وأما من جهة النظر والاعتبار: -فإن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقود معنى، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها، إلا في كون النصاب يتقلب ويتغير بين الثمن وهو النقد، والمثمن وهو العروض، فلو لم تجب الزكاة في التجارة، لأمكن لجميع الأغنياء أو أكثرهم أن يتجروا بنقودهم، ويتحروا ألا يحول الحول على نصاب من النقدين أبدًا، وبذلك تعطل الزكاة فيهما عندهم (¬1). ثم إن أحوج الناس إلى تطهير أنفسهم وأموالهم وتزكيتها هم التجار، فإن طرائقهم في الكسب لا تسلم من شوائب وشبهات: وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة» (¬2). فائدة (¬3): قد نقل الإجماع على وجوب الزكاة في عروض التجارة: ابن المنذر وأبو عبيد وعنهما جماعة من أهل العلم وفيه نظر، لأن الخلاف في المسألة قديم -كما ذكر الشافعي وغيره- وخالف فيها الظاهرية كما سيأتي. ¬

(¬1) «تفسير المنار» لرشيد رضا (10/ 591). (¬2) أبو داود (3326)، والترمذي (1208)، والنسائي (3797)، وابن ماجه (2145) وهو صحيح. (¬3) «الإجماع» (14)، و «الأموال» (429)، وانظر «المجموع» (6/ 47)، و «بداية المجتهد» (1/ 254)، و «الروضة الندية» (1/ 286)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 36، 44) ط. الفكر.

القول الثاني: أنها لا تجب فيها الزكاة: وهو مذهب الظاهرية -ومن تابعهم كالشوكاني وصدق خان ثم الألباني، وقد تبنى قولهم ابن حزم ودافع عنهم في «المحلى» وأطال النفس في نقض مذهب الجمهور بما لا يسلم له، ومما تعلقوا به: 1 - حديث: «ليس على مسلم في عبده ولا فرسه صدقة» (¬1). وظاهره عدم الوجوب سواء كانت للتجارة أو لغيرها. وأجاب الجمهور بأن المراد نفي الزكاة عن عبده الذي يخدمه، وفرسه الذي يركبه، وهما من الحوائج الأصلية المعفاة من الزكاة بالإجماع. 2 - أن الأصل في مال المسلم الحرمة وبراءة الذمم من التكاليف. وهذا الأصل إنما يصار إليه عند عدم الدليل، وقد تقدم إجماع الصحابة على القول بوجوب الزكاة عروض التجارة. 3 - حديث قيس بن أبي غرزة قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبيع الرقيق نسمي السماسرة، فقال: «يا معشر التجار، إن بيعكم هذا يخالطه لغو وحلف فشوبوه بالصدقة أو بشيء من صدقة» (¬2). قال ابن حزم: فهذه صدقة مفروضة غير محدودة، ولكن ما طابت به أنفسهم وتكون كفارة لما يشوب البيع مما لا يصح من لغو وحلف. اهـ. إلى غير ذلك من الحجج والتشغيبات التي شغبَّ بها ابن حزم -رحمه الله- في «المحلى» (5/ 233) وما بعدها، وقول الجمهور هو الصواب، والله أعلم. شروط الزكاة في مال التجارة (¬3) يشترط في المال المعد للكسب والتجارة لتجب الزكاة فيه شروط: 1 - أن لا تكون العروض مما يجب الزكاة فيه أصلاً، كالماشية والذهب والفضة ونحوها. لأنه لا تجتمع زكاتان إجماعًا، بل يكون فيها زكاة العين -على الراجح- لأن ¬

(¬1) البخاري (1464)، ومسلم (628). (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (4/ 6)، والنسائي (7/ 14)، وأبو داود، والترمذي (1208)، وابن ماجه (2154) وغيره. (¬3) ويشترط لاعتبار المال مال تجارة: أن يملكه صاحبه بفعله كالشراء، وأن ينوي به التجارة.

زكاة العين أقوى ثبوتًا من زكاة التجارة لانعقاد الإجماع عليها ومن كان يتاجر فيما دون نصاب العين فإنه يخرج زكاة التجارة (¬1). 2 - أن يبلغ النصاب: وهو نصاب النقد (85 جرامًا من الذهب). 3 - حولان الحول. متى يعتبر النصاب في مال التجارة؟ في وقت اعتبار النصاب في أموال التجارة ثلاثة أقوال: 1 - في آخر الحول (وهو قول مالك والشافعي). 2 - في جميع الحول: بحيث لو نقص النصاب لحظة انقطع الحول (مذهب الجمهور). 3 - في أول الحول وآخره دون ما بينهما (مذهب أبي حنيفة). كيف يزكي التاجر ثورته التجارية؟ إذا حلَّ موعد الزكاة فإن على التاجر أن يضم ماله بعضه إلى بعض، وهذا المال يشمل: 1 - رأس المال والأرباح والمدَّخرات وقيمة بضائعه. 2 - الديون المرجوة الأداء. فيقوِّم قيمة البضائع ويضيفها إلى ما لديه من نقود، وإلى ما له من ديون مرجوة الأداء، ويطرح منها ما عليه من ديون. ثم يخرج عن هذا كله ربع العُشر (2.5%) بحسب سعرها وقت إخراج الزكاة، لا بحسب سعر شرائها. هذا هو رأي جمهور الفقهاء، ووافقهم مالك فيه في التاجر المدير الذي يبيع ويشتري. لكن قال في التاجر «المحتكر» الذي يشتري السلعة أو العقار ثم يتربص مدة من الزمن، ويرصد السوق، حتى ترتفع الأسعار، فيبيع، قال: لا يزكي إلا إذا باع السلعة فيزكيها لسنة واحدة وإن بقيت أعوامًا. هل تخرج الزكاة من عين البضائع أم من قيمتها؟ ذهب الجمهور إلى وجوب إخراج القيمة، وأنه لا يجوز الإخراج من عين ¬

(¬1) انظر «المجموع» (6/ 50)، و «المغنى» (3/ 34).

زكاة الركاز والمعادن

العروض، لأن النصاب معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال. وعند أبي حنيفة والشافعي -في أحد أقواله- أن التاجر مخيَّر بين إخراج السلعة أو القيمة (¬1). واختار شيخ الإسلام التفصيل بحسب مصلحة الآخذ للزكاة (¬2). زكاة الركاز والمعادن الركاز لغة: من الركز، فهو الشرع المركوز في باطن الأرض من معدن أو مال مدفون. وهو شرعًا: دفن الجاهلية (الكنز) الذي يؤخذ من غير أن يطلب بمال ولا يتكلف له كثير عمل، سواء كان ذهبًا أو فضة أو غيرهما. وأما المعدن لغة: من العدن وهو الإقامة، ومركز كل شيء معدنه. وشرعًا: كل ما خرج من الأرض مما يُخلق فيها من غيرها مما له قيمة. والمعادن إما أن تكون جامدة تذوب وتنطبع بالنار كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والزئبق. أو أن تكون مائعة كالبترول والقار (الزفت) ونحوه. والركاز والمعدن بمعنى واحد عند الحنفية، والجمهور على التفريق بينهما، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «... والمعدن جبار، وفي الركاز الخُمس» (¬3). ففرَّق بين المعدن والركاز. من وجد كنزًا، كيف يصنع فيه؟ من وجد كنزًا لا يخلو من أحد خمس حالات: [1] أن يجده في أرض موات أو لا يُعلم لها مالك: فهو له، ويخرج خُمسه، ويكون له أربعة أخماسه. ¬

(¬1) «البدائع» (2/ 21)، و «المغنى» (3/ 31). (¬2) «مجموع الفتاوى» (25/ 80). (¬3) البخاري (1499)، ومسلم (1710).

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -في كنز وجده رجل في خربة جاهلية-: «إن وجدته في قرية مسكونة أو في سبيل ميتاء (¬1) فعرِّفه، وإن وجدته في خربة جاهلية، أو في قرية غير مسكونة، ففيه، وفي الركاز الخمس» (¬2). [2] أن يجده في طريق مسلوكة أو قرية مسكونة: فهذا يعرَّفه، فإن جاء صاحبه فهو له، وإلا كان من حقه، للحديث السابق. [3] أن يجده في ملك غيره: وللعلماء فيه ثلاثة أقوال (¬3): 1 - أنه لصاحب الملك: وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وقياس قول مالك، ورواية عن أحمد. 2 - أنه لواجده: وهو رواية أخرى عن أحمد واستحسنه أبو يوسف. قالوا: لأن الكنز لا يملك بملك الدار، فيكون لمن وجده. 3 - التفريق: فإن اعترف به مالك الدار فهو له، وإن لم يعترف به فهو لأول مالك وهذا مذهب الشافعي. [4] أن يجده في ملكه المنتقل إليه ببيع أو نحوه (¬4): ففيه قولان: 1 - أنه لواجده في ملكه: وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والمشهور عن أحمد إن لم يَدِّعه المالك الأول. 2 - أنه للمالك قبله إذا اعترف به وإلا فللذي قبله وهكذا، فإن لم يعرف له مالك فكالمال الضائع: أي يكون لقطة. وهذا قول الشافعي. [5] أن يجده في دار حرب: فإن ظهر عليه بجمع من المسلمين فهو غنيمة حكمه حكمها. ¬

(¬1) سبيل ميتاء: أي طريق مسلوك، وميتاء مفعال من الإتيان. (¬2) أبو داود (1710)، والشافعي في «مسنده» (673)، وأحمد (2/ 207)، والبيهقي (4/ 155) وسنده حسن. (¬3) المبسوط (2/ 214)، وفتح القدير (2/ 183)، والمغنى (3/ 49)، و «الأم» (2/ 41)، والمجموع (6/ 41). (¬4) المبسوط (2/ 212)، والمدونة (1/ 290)، والمغنى (3/ 49)، والأم (2/ 44)، والمجموع (6/ 40).

وإن قدر عليه بنفسه دون مساعدة أحد: فللعلماء فيه قولان (¬1): 1 - أنه لواجده: وهو مذهب أحمد، قياسًا على ما وجد في أرض موات. 2 - إذا كان عرف مالك الأرض وكان حربيًّا يذب عنها، فهو غنيمة، وإذا لم يعرف ولم يكن يذب عنها، فهو ركاز، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفصيلات بينهم. لا يشترط النصاب والحول في الركاز: لا يشترط النصاب ولا الحول في الركاز، وتجب الزكاة فيه بمجرد العثور عليه، فيخرج الخُمس، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخُمس» (¬2) وهذا قول جمهور العلماء. إلى من يصرف الخمس في الركاز؟ اختلف العلماء في بيان مصرف الخُمس على قولين (¬3): 1 - أن مصرف الخمس هو مصرف الزكاة: وهو قول الشافعي وأحمد إلا أنه قال: وإن تصدق به على المساكين أجزأه. وحجتهم: ما رُوى عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن رجل من قومه يقال له حجمة قال: «سقطت عليَّ جرة من دير قديم بالكوفة عند جبانة بشر، فيها أربعة آلاف درهم، فذهبت بها إلى علي بن أبي طالب فقال: اقسمها خمسة أخماس فقسمتها، فأخذ عليٌّ منها خمسًا، وأعطاني أربعة أخماس، فلما أدبرت دعاني، فقال: في جيرانك فقراء ومساكين؟ قلت: نعم، قال: فخذها فاقسمها بينهم» (¬4). ولأنه مستفاد من الأرض، فأشبه الزرع. 2 - أن مصرفه مصرف الفيء: وهو قول أبي حنيفة ومالك ورواية في مذهب أحمد وصححهما ابن قدامة. وحجتهم: ما رُوى عن الشعبي: «أن رجلاً وجد ألف دينار مدفونة خارجًا من المدينة، فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ منها الخمس مائتي دينار، ودفع إلى ¬

(¬1) المغنى (3/ 50)، والمدونة (1/ 291)، والمبسوط (2/ 215)، والمجموع (6/ 40). (¬2) متفق عليه، وقد تقدم قريبًا. (¬3) «الأم» (2/ 44)، و «المغنى» (3/ 51)، و «المدونة» (1/ 292)، و «المبسوط» (2/ 212). (¬4) أخرجه عبد الرزاق (7179)، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 304)، والبيهقي (4/ 157) بسند ضعيف.

الرجل بقيتها، وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضره من المسلمين إلى أن أفضل منها فضلة، فقال: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه، فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك» (¬1). والشاهد: أنها لو كانت زكاة لخص بها أهلها، ولم يرده على واجده. قالوا: ولأنه يجب على الذمي، والزكاة لا تجب عليه، ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر [على اعتبار أنه دفن الجاهلية] فأشبه خمس الغنيمة. قلت: الدليلان لا يصلحان للاحتجاج بهما، ولذا قال الألباني (¬2) -رحمه الله تعالى-: «وليس في السنة ما يشهد صراحة لأحد القولين على الآخر، ولذلك اخترت في (أحكام الركاز) أن مصرفه يرجع إلى رأي إمام المسلمين، يضعه حيثما تقتضيه مصلحة الدولة، وهو الذي اختاره أبو عبيد في (الأموال)» اهـ. هل تدخل المعادن في حكم الركاز؟ 1 - ذهب مالك -في إحدى الروايتين- والشافعي -في قوله الثاني- إلى أن المعادن لا يجب فيها شيء إلا الأثمان (الذهب والفضة). 2 - وذهب الجمهور إلى أن المعادن على اختلاف أنواعها من ذهب وفضة ونحاس وحديد ورصاص ... وبترول، كالركاز يجب فيه حق، على خلاف في مقداره (¬3) وهذا هو الأرجح لعموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} (¬4). ولا شك أن النفط (البترول) الذي يعرف بالذهب الأسود هو من أثمن الأثمان فلا يصح أن يخرج من هذا الحكم، والله أعلم. مقدار الواجب في المعدن: ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وأبو عبيد، وغيرهم إلى أن الواجب في المعدن الخمس كالركاز. بينما ذهب الجمهور إلى أن فيه ربع العشر قياسًا على النقدين وسبب الخلاف، اختلافهم في معنى الركاز، وهل يشمل المعدن أم لا؟ ¬

(¬1) «الأموال» لأبي عبيد (874) بسند ضعيف. (¬2) «تمام المنة» (ص: 378). (¬3) المبسوط (2/ 295)، و «المدونة» (1/ 292)، و «الأم» (2/ 45)، و «المغنى» (3/ 50). (¬4) سورة البقرة: 267.

أحكام عامة في الركاز

وفرَّق بعض الفقهاء، فقال: إن كان الخارج كثيرًا بالنسبة إلى العمل والتكاليف فالواجب الخمس، وإن كان قليلاً بالنسبة إليهما فالواجب هو ربع العشر (¬1) ولقائل أن يقول: ليس في المعدن زكاة -غير الذهب والفضة- «والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» (¬2) بناء على أن المراد بقوله (المعدن جبار) أي: لا زكاة فيه بدليل اقترانه بقوله (وفي الركاز الخمس)، ولأنه -أي الركاز- مال مجموع يؤخذ بغير كلفة ولا تعب، بخلاف المعدن لأنه يحتاج إلى كلفة وتعب في استخراجه فأسقطت الزكاة منه. وإن كان يمكن أن يكون المراد بقوله (المعدن جبار): أن من استأجر من يحفر له معدنًا فسق عليه فقتله فهو جبار، ويؤيده اقترانه بقوه (البئر جبار -والعجماء جبار). أحكام عامة في الركاز هل يجزئ إخراج القيمة بدل العين الواجبة في الزكاة؟ للعلماء في إخراج القيمة من الزكوات مذهبان: الأول: أن ذلك لا يجوز، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود (¬3)، وحجتهم: 1 - أن الشرع نص على الواجب في الزكاة فلا يجوز العدول عنه كما لا يجوز في الأضحية، ولا في المنفعة، ولا في الكفارة. 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون» (¬4). قالوا: ولو جازت القيمة لبيَّنها. 3 - قوله صلى الله عليه وسلم فيمن وجبت عليه جذعة: «تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين أو عشرين درهمًا» (¬5). ¬

(¬1) انظر «فقه الزكاة» (1/ 471) وما بعدها. (¬2) متفق عليه وقد تقدم. (¬3) المدونة (1/ 258)، والمجموع (5/ 428 - 429)، والمغنى (2/ 565). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سبق تخريجه.

قالوا: ولو كانت القيمة مجزئة لم يقدره، بل أوجب التفاوت بحسب القيمة. 4 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير ...» (¬1). قالوا: ولم يذكر القيمة، ولو جازت لبينها فقد تدعو الحاجة إليها. 5 - قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر» (¬2). 6 - أن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير، وشكرًا لنعمة المال، والحاجات متنوعة، فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تندفع به حاجته، ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به. الثاني: أنه يجوز إخراج القيمة، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والظاهر من مذهب البخاري، ووجه في مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وحجتهم (¬3): 1 - ما رُوى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لأهل اليمن: «ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس مكان الشعير والذرة آخذه منكم، فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة» (¬4). 2 - استدلوا بإجزاء ابن اللبون عن بنت المخاض، وإجزاء الحقة مع عشرين درهمًا عن الجذعة (وهما الدليلان الثاني والثالث لأصحاب القول الأول). قالوا: ففي هذا اعتبار القيمة. 3 - أن المقصود بأداء الزكاة إغناء الفقير، والإغناء يحصل بأداء القيمة، كما يحصل بأداء العين، وربما سد الخلة بأداء القيمة أظهر. وقد اجتهد كل فريق في الجواب عن أدلة الفريق الآخر وإظهار مذهبه. والذي يترجح عندي، هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬5). من التوسط ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1504)، ومسلم (984). (¬2) أخرجه أبو داود (1599)، وابن ماجه (1814)، والحاكم (1/ 546)، والبيهقي (4/ 112)، والدارقطني (2/ 99) وفي سنده لين. (¬3) المبسوط (2/ 156)، والمجموع (2/ 429). (¬4) علَّقه البخاري (3/ 336) ... ووصله الحافظ في «التغليق» (3/ 12) سنده ضعيف لانقطاعه. (¬5) مجموع الفتاوى (25/ 80 - 82).

في هذا الباب، فلم يجز مطلقًا ولم يمنع مطلقًا، بل رأى جواز إخراج القيمة مقيدًا له بالحاجة والمصلحة والعدل. فإذا لم تكن حاجة، ولا مصلحة راجحة، فالأظهر أن إخراج القيمة ممنوع منه وهذا الذي ذهب إليه هو مقتضى الجمع بين الأدلة، والله أعلم. ما حكم تعجيل الزكاة قبل حولان الحول؟ قد علمت أن المال إذا بلغ النصاب، فإنه لا تجب فيه الزكاة حتى يحول عليه الحول، لكن إذا أراد صاحب المال أن يخرج زكاته قبل الحول، فللعلماء في هذا قولان: الأول: الجواز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماعة من السلف (¬1) واحتجوا بما يأتي: 1 - ما رُوى أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل «فرخَّص له في ذلك» (¬2). 2 - ما رُوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «إنا كنا تعجلنا صدقة العباس لعامنا هذا عام أول» (¬3). 3 - أنه تعجيل لمال وجد سبب وجوبه (وهو كمال النصاب) قبل وجوبه فجاز، كتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله، وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وكفارة القتل بعد الجرح قبل الزهوق. القول الثاني: المنع، وهو مذهب مالك -وأجازه إذا بقى من الحول الشيء اليسير -وهو قول ربيعة وداود وابن حزم (¬4)، وحجتهم: 1 - حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (¬5). ¬

(¬1) المبسوط (2/ 176)، و «الأم» (2/ 20)، والمجموع (6/ 86)، والمغنى (2/ 470). (¬2) أبو داود (1624)، والترمذي (678)، وابن ماجه (1795) وغيرهم من أوجه فيها مقال وحسنها الألباني في «الإرواء» (857). (¬3) انظر السابق. (¬4) المدونة (1/ 284)، وبداية المجتهد (1/ 232)، والمحلى (6/ 95). (¬5) الترمذي (631)، وأبو داود (1573)، وابن ماجه (1792)، والدارقطني (198)، والبيهقي (4/ 104)، وصححه الألباني في «الإرواء» (787).

مصارف الزكاة

2 - حديث أبي بكر الصديق: «أنه كان لا يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول» (¬1). 3 - أن الحول شرط في وجوب الزكاة، فلم يجز تقديم الزكاة عليه كالنصاب. 4 - أن للزكاة وقتًا، فلم يجز تقديمها عليه كالصلاة. والراجح: أنه يجوز إخراج الزكاة قبل حولان الحلو لعدم الدليل على المنع، أما حديث «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» فغاية ما يفيده أن لا يجب إخراج الزكاة قبل الحول، وليس فيه ما يمنع تعجيلها. وأما قولهم (إن للزكاة وقتًا فلم يجز تقديمها)، فنقول: إذا دخل الوقت في الشيء رفقًا بالإنسان كان له أن يعجله ويترك الإرفاق بنفسه، كالدين المؤجل. وأما القياس على الصلاة فلا يصح لأن العبادات لا يقاس بعضها على بعض، والتوقيت في الصلاة غير معقول، فيجب أن يقتصر عليها. والله أعلم. مصارف الزكاة مصارف الزكاة محصورة في ثمانية أصناف، والأصناف الثمانية قد نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). و {إِنَّمَا} التي صدرت بها الآية أداة حصر، فلا يجوز صرف الزكاة لأحد -أو في وجه غير داخل في هذه الأصناف. هل يجب استيعاب هذه الأصناف الثمانية؟ أم يجوز دفعها إلى بعضها؟ ذهب جمهور العلماء (الحنفية والمالكية والحنابلة، وجماعة من السلف منهم عمر، وابن عباس) إلى أنه لا يجب استيعاب هذه الأصناف في صرف أموال الزكاة، بل يجوز الدفع إلى واحد منها، وإعطاؤه الصدقة مع وجود الباقين. واحتجوا بما يأتي: 1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» (¬3). قالوا: والفقراء صنف واحد من أصناف أهل الزكاة الثمانية. ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق (7024). (¬2) سورة التوبة: 60. (¬3) متفق عليه وتقدم كثيرًا.

2 - بما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أفرادًا الزكاة، كحديث قبيصة بن مخارق لما تحمل حمالة وأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله في الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» (¬1). وغير هذه الواقعة مما تقدم بعضه. بينما ذهب الشافعي وجماعة إلى أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية في القسم وقال أبو ثور، وأبو عبيد: إن أخرجها الإمام وجب استيعاب الأصناف، وإن أخرجها المالك جاز أن يجعلها في صنف واحد (¬2). [1، 2] الفقراء والمساكين: الفقراء والمساكين هم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما يكفيهم، وإذا أطلق لفظ (الفقراء) وانفرد دخل فيهم (المساكين)، وكذلك عكسه، وإذا جمع بينهما في كلام واحد، كما في آية مصارف الزكاة، تميز كل منهما بمعنى. وقد اختلف الفقهاء في أيهما أشد حاجة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الفقير أشد حاجة من المسكين، واحتجوا بأن الله تعالى قدم ذكرهم في الآية، وذلك يدل على أنهم أهم، وبقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (¬3)، فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون سفينة ويحصلون نولاً، واستأنسوا لذلك أيضًا بالاشتقاق، فالفقير لغة: فعيل بمعنى مفعول، وهو من نزعت بعض فقار صلبه، فانقطع ظهره، والمسكين مفعيل من السكون، ومن كسر صلبه أشد حالاً من الساكن، وذهب الحنفية والمالكية إلى أن المسكين أشد حاجة من الفقير، واحتجوا بأن الله تعالى قال: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬4). وهو المطروح على التراب لشدة جوعه، وبأن أئمة اللغة قالوا ذلك، منهم الفراء وثعلب وابن قتيبة، وبالاشتقاق أيضًا، فهو من السكون، كأنه عجز عن الحركة فلا يبرح. ونقل الدسوقي قولاً أن الفقير والمسكين صنف واحد، وهو من لا يملك قوت عامه، سواء كان لا يملك شيئًا أو يملك أقل من قوت العام. واختلف الفقهاء في حد كل من الصنفين (¬5): فقال الشافعية والحنابلة: الفقير ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1044) وغيره وقد تقدم. (¬2) المجموع (6/ 185)، والمغنى (2/ 668)، والأموال لأبي عبيد (ص: 692). (¬3) سورة الكهف: 79. (¬4) سورة البلد: 16. (¬5) «الموسوعة الفقهية» (23/ 312).

من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته، كمن حاجته عشرة فلا يجد شيئًا أصلاً، أو يقدر بماله وكسبه وما يأتيه من غلة وغيرها على أقل من نصف كفايته. فإن كان يجد النصف أو أكثر ولا يجد كل العشرة فمسكين. وقال الحنفية والمالكية: المسكين من لا يجد شيئًا أصلاً فيحتاج للمسألة وتحل له. واختلف قولهم في الفقير، فقال الحنفية: الفقير من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب، فإذا ملك نصابًا من أي مال زكوي فهو غني لا يستحق شيئًا من الزكاة، فإن ملك أقل من نصاب فهو غير مستحق، وكذا لو ملك نصابًا غير نامٍ وهو مستغرق في الحاجة الأصلية، فإن لم يكن مستغرقًا منع، كمن عنده ثياب تساوي نصابًا لا يحتاجها، فإن الزكاة تكون حرامًا عليه، ولو بلغت قيمة ما يملكه نصابًا فلا يمنع ذلك كونه من المستحقين للزكاة إن كانت مستغرقة بالحاجة الأصلية كمن عنده كتب يحتاجها للتدريس، أو آلات حرفة، أو نحو ذلك. وقال المالكية: الفقير من يملك شيئًا لا يكفيه لقوت عامه. الغِنى المانع من أخذ الزكاة بوصف الفقر أو المسكنة: الأصل أن الغني لا يجوز إعطاؤه من الزكاة، وهذا اتفاق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حظ فيها لغني» (¬1). ولكن اختلف في الغنى المانع من أخذ الزكاة: فقال الجمهور من المالكية والشافعية وهو رواية عن أحمد قدمها المتأخرون من أصحابه: إن الأمر معتبر بالكفاية، فمن وجد من الأثمان أو غيرها ما يكفيه ويكفي من يمونه فهو غني لا تحل له الزكاة، فإن لم يجد ذلك حلت له ولو كان ما عنده يبلغ نُصُبًا زكوية، وعلى هذا، فلا يمنع أن يوجد من تجب عليه الزكاة وهو مستحق للزكاة. وقال الحنفية: هو الغنى الموجب للزكاة، فمن تجب عليه الزكاة لا يحل له أن يأخذ الزكاة. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم». ومن ملك نصابًا من أي مال زكوي كان فهو غني، فلا يجوز أن تدفع إليه الزكاة ولو كان ما عنده لا يكفيه لعامه، ومن لم يملك نصابًا كاملاً فهو فقير أو مسكين، فيجوز أن تدفع إليه الزكاة، كما تقدم. وفي رواية أخرى عند الحنابلة عليها ظاهر المذهب: إن وجد كفايته، فهو غني، وإن لم يجد وكان لديه خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب خاصة، فهو غني كذلك ولو كانت لا تكفيه، لحديث «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1633)، والنسائي (2598).

خموش أو خدوش أو كدوح. قالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب» (¬1). وإنما فرقوا بين الأثمان وغيرها اتباعًا للحديث. هل يجوز إعطاء الفقير والمسكين القادرين على الكسب؟ من كان من الفقراء والمساكين قادرًا على كسب كفايته وكفاية من يمونه، أو تمام الكفاية، لم يحل له الأخذ من الزكاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى» (¬3) وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وهو الراجح. بينما ذهب الحنفية والمالكية إلى جواز إعطائه ما دام فقيرًا أو مسكينًا واحتجوا بما في قصة الحديث المذكور، من أن رجلين سألا النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة، فقلَّب فيهما بصره، فرآهما جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (¬4). قالوا: فإنه أجاز إعطاءهما، وقوله (لا حظ فيها ...) معناه: لا حق ولا حظ لكما في السؤال (¬5). قلت: ولا يخفى ما في هذا التأويل، والظاهر أن قوله (إن شئتما أعطيتكما) ليس المقصود به تجويز إعطائها، وإنما هو للتحذير، كقوله تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬6). القدر الذي يُعطاه الفقير والمسكين من الزكاة يُعطى الفقير والمسكين من الزكاة الكفاية أو تمامها، له ولمن يعول، عامًا كاملاً، ولا يزاد عليه، عند جمهور العلماء. ¬

(¬1) في سنده اختلاف. أخرجه الترمذي (650)، وابن ماجه (1840). (¬2) أبو داود (1617)، والنسائي (5/ 99) وصححه الألباني. (¬3) الترمذي (647)، وأبو داود (1618)، وانظر «صحيح الجامع» (7251). (¬4) سبق تخريجه قريبًا. (¬5) فتح القدير (2/ 28)، والمغنى (6/ 423)، والمجموع (6/ 190)، والموسوعة الفقهية (23/ 316). (¬6) سورة الكهف: 29.

وإنما حددوا العام لأن الزكاة تتكرر كل عام غالبًا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يحبس لأهله قوت سنة» (¬1). وقال بعضهم: فإن كان صاحب حرفة، أُعطى ما يشتري به أدوات حرفته بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته تقريبًا (¬2). [3] العاملون على الزكاة: يجوز إعطاء العاملين على الزكاة منها. ويشترط في العامل الذي يعطى من الزكاة شروط تقدم بيانها. ولا يشترط فيمن يأخذ من العاملين من الزكاة الفقر، لأنه يأخذ بعمله لا لفقره. وقد قال النبي: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة .. فذكر منهم العامل عليها» (¬3). قال الحنفية: يدفع إلى العامل بقدر عمله، فيعطيه ما يسعه ويسع أعوانه غير مقدر بالثمن، ولا يزاد على نصف الزكاة التي يجمعها وإن كان عمله أكثر. وقال الشافعية والحنابلة: للإمام أن يستأجر العامل إجارة صحيحة بأجر معلوم، إما على مدة معلومة، أو عمل معلوم. ثم قال الشافعية: لا يعطى العامل من الزكاة أكثر من ثُمن الزكاة، فإن زاد أجره على الثُمن أتم له من بيت المال. وقيل من باقي السهام. ويجوز للإمام أن يعطيه أجره من بيت المال. وله أن يبعثه بغير إجارة ثم يعطيه أجر المثل. وإن تولى الإمام أو والي الإقليم أو القاضي من قبل الإمام أو نحوهم أخذ الزكاة وقسمتها لم يجُز أن يأخذ من الزكاة شيئًا، لأنه يأخذ رزقه من بيت المال وعمله عام. [4] المؤلفة قلوبهم: المؤلفة قلوبهم ضربان: كفار ومسلمون، وهم جميعًا السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم. المسلمون منهم أربعة أضرب: 1 - سادة مطاعون في قومهم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيعطون تثبيتًا لهم. 2 - قوم لهم شرف ورياسة أسلموا ويعطون لترغيب نظرائهم من الكفار ليسلموا. 3 - صنف يراد بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار، ويحملوا من يليهم من المسلمين. ¬

(¬1) البخاري (5357)، ومسلم (1757). (¬2) المجموع (6/ 194). (¬3) أخرجه أبو داود (1635)، وابن ماجه (1841).

4 - صنف يراد بإعطائهم من الزكاة أن يُجبوا الزكاة ممن لا يعطيها. والكفار على ضربين: 1 - من يرجى إسلامه فيعطى لتميل نفسه إلى الإسلام. 2 - من يخش شره ويرجى بعطيته كف شره وكف غيره معه (¬1). هل انقطع سهم المؤلفة قلوبهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنه لا يزال باقيًا: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين (¬2): الأول: أن سهم المؤلفة قلوبهم باق كغيره من الأصناف المذكورة في كتاب الله: وهو مذهب أحمد، والمعتمد عند المالكية والشافعية، وهو قول الحسن، والزهري. الثاني: أن سهمه قد انقطع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وحجتهم: أن الله قد أعزَّ الإسلام وأغناه عن أن يتألف عليه الرجال. واستدلوا لهذا بأن عمر بن الخطاب لم يُعطِ هذا السهم إلى من كانوا يُعطَونه، وقال: «هو شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم، والآن قد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم ...» (¬3). «والحقيقة أن عمر لم يسقط هذا السهم مطلقًا، وإنما منعهم لزوال الوصف عنهم الذي بموجبه سموا (المؤلفة قلوبهم)، وهذا من قبيل الاجتهاد في توافر شروط تطبيق النص، وليس من قبيل إبطال حكم النص وهذا واضح. وعلى هذا فإذا ظهرت حاجة في إعطاء من يتحقق فيهم معاني وأوصاف (المؤلفة قلوبهم) فإن الإمام يعطيهم من هذا السهم حسب مصلحة المسلمين» (¬4) لا سيما وقد انقلبت عزة المسلمين ذلاًّ وظهر عليهم أعداؤهم، والله أعلم. [5] في الرقاب: وهم ثلاثة أضرب: الأول: المكاتبون المسلمون: فيجوز عند الجمهور الصرف من الزكاة إليهم، إعانة لهم على فك رقابهم، ولم يجز ذلك مالك، كما لم يجز صرف شيء من الزكاة في إعتاق من انعقد له سبب حرية بغير الكتابة، كالتدبير والاستيلاء والتبعيض. فعلى قول الجمهور: إنما يعان المكاتب إن ¬

(¬1) «المغنى» لابن قدامة (2/ 498). (¬2) شرح فتح القدير (2/ 200)، والمدونة (1/ 297)، والمجموع (5/ 144)، والمغنى (2/ 497). (¬3) سنن البيهقي (7/ 20) بنحوه. (¬4) «المفصل» لعبد الكريم زيدان (1/ 433 - 434) بتصرف.

لم يكن قادرًا على الأداء لبعض ما وجب عليه، فإن كان لا يجد شيئًا أصلاً دفع إليه جميع ما يحتاج إليه للوفاء. الثاني: إعتاق الرقيق المسلم، وقد ذهب إلى جواز الصرف من الزكاة في ذلك المالكية وأحمد في رواية، وعليه فإن كانت الزكاة بيد الإمام أو الساعي جاز له أن يشتري رقبة أو رقابًا فيعتقهم، وولاؤهم للمسلمين. وكذا إن كانت الزكاة بيد رب المال فأراد أن يعتق رقبة تامة منها، فيجوز ذلك لعموم الآية {وَفِي الرِّقَابِ} ويكون ولاؤها عند المالكية للمسلمين أيضًا، وعند الحنابلة: ما رجع من الولاء رد في مثله، بمعنى أنه يشتري بما تركه المعتق ولا وارث له رقاب تعتق. وعند أبي عبيد: الولاء للمعتق. وذهب الحنفية والشافعية وأحمد في رواية أخرى إلى أنه لا يعتق من الزكاة، لأن ذلك كدفع الزكاة إلى القن، والقن لا تدفع إليه الزكاة؛ ولأنه دفع إلى السيد في الحقيقة، وقال الحنفية: لأن العتق إسقاط ملك، وليس بتمليك، لكن إن أعان من زكاته في إعتاق رقبة جاز عند أصحاب هذا القول من الحنابلة. الثالث: أن يفتدي أسيرًا مسلمًا من أيدي المشركين، وقد صرح الحنابلة وابن حبيب وابن عبد الحكم من المالكية بجواز لأنه فك رقبة من الأسر، فيدخل في الآية بل هو أولى من فك رقبة من بأيدينا. وصرح المالكية بمنعه. [6] الغارمون: والغارمون المستحقون للزكاة ثلاثة أضرب: الضرب الأول: من كان عليه دين لمصلحة نفسه. وهذا متفق عليه من حيث الجملة، ويشترط لإعطائه من الزكاة ما يلي: 1 - أن يكون مسلمًا. 2 - أن لا يكون من آل البيت، وعند الحنابلة قول بجواز إعطاء مدين آل البيت منها. 3 - واشترط المالكية أن لا يكون قد استدان ليأخذ من الزكاة، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ منها، بخلاف فقير استدان للضرورة ناويًا الأخذ منها. 4 - وصرح المالكية بأنه يشترط أن يكون الدين مما يحبس فيه، فيدخل فيه دين الولد على والده، والدين على المعسر، وخرج دين الكفارات والزكاة. 6 - أن يكون الدين حالاًّ، صرح بهذا الشرط الشافعية، قالوا: إن كان الدين مؤجلاً ففي المسألة ثلاثة أقوال، ثالثها: إن كان الأجل تلك السنة أعطى، وإلا فلا يعطى من صدقات تلك السنة.

7 - أن لا يكون قادرًا على السداد من مال عنده زكوي أو غير زكوي زائد عن كفايته، فلو كان له دار يسكنها تساوي مائة وعليه مائة، وتكفيه دار بخمسين فلا يعطى حتى تباع، ويدفع الزائد في دينه على ما صرح به المالكية، ولو وجد ما يقضي به بعض الدين أعطى البقية فقط، وإن كان قادرًا على وفاء الدين بعد زمن بالاكتساب، فعند الشافعية قولان في جواز إعطائه منها. الضرب الثاني: الغارم لإصلاح ذات البين: الأصل فيه حديث قبيصة قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» (¬1). فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن هذا النوع من الغارمين يعطى من الزكاة سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، لأنه لو اشترط الفقر فيه لقلت الرغبة في هذه المكرمة، وصورتها أن يكون بين قبيلتين أو حيين فتنة، يكون فيها قتل نفس أو إتلاف مال، فيتحمله لأجل الإصلاح بينهم، فيعطى من الزكاة لتسديد حمالته، وقيد الحنابلة الإعطاء بما قبل الأداء الفعلي، ما لم يكن أدى الحمالة من دين استدانه؛ لأن الغرم يبقى، وقال الحنفية: لا يعطى المتحمل من الزكاة إلا إن كان لا يملك نصابًا فاضلاً عن دينه كغيره من المدينين. ولم يصرح المالكية بحكم هذا الضرب فيما اطلعنا عليه. الضرب الثالث: الغارم بسبب دين ضمان وهذا الضرب ذكره الشافعية، والمعتبر في ذلك أن يكون كل من الضامن والمضمون عنه معسرين، فإن كان أحدهما موسرًا ففي إعطاء الضامن من الزكاة خلاف عندهم وتفصيل (¬2). الدين على الميت: إن مات المدين ولا وفاء في تركته لم يجز عند الجمهور سداد دينه من الزكاة. وقال المالكية: يُوفى دينه منها ولو مات، قال بعضهم: هو أحق بالقضاء لليأس من إمكان القضاء عنه، وهو أحد قولين عند الشافعية. [7] في سبيل الله: وهذا الصنف ثلاثة أضرب. الضرب الأول: الغزاة في سبيل الله تعالى، والذين ليس لهم نصيب في الديوان، بل هم متطوعون للجهاد، وهذا الضرب متفق عليه عند الفقهاء من حيث الجملة، فيجوز إعطاؤهم من الزكاة قدر ما يتجهزون به للغزو من مركب وسلاح ونفقة وسائر ما يحتاج إليه الغازي لغزوه مدة الغزو وإن طالت، ولا يشترط عند الجمهور في الغازي أن يكون فقيرًا، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1044)، وأبو داود (1624)، والنسائي (5/ 96). (¬2) «الموسوعة الفقهية» (23/ 322).

بل يجوز إعطاء الغني لذلك، فإنه لا يأخذ لمصلحة نفسه، بل لحاجة عامة المسلمين، فلم يشترط فيه الفقر، وقال الحنفية: إن كان الغازي غنيًّا، وهو من يملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب كما تقدم في صنف الفقراء -فلا يعطى من الزكاة، وإلا فيعطى، وإن كان كاسبًا؛ لأن الكسب يقعده عن الجهاد، وعند محمد: الغازي منقطع الحاج لا منقطع الغزاة، وصرح المالكية بأنه يشترط في الغازي أن يكون ممن يجب عليه الجهاد، لكونه مسلمًا ذكرًا بالغًا قادرًا، وأنه يشترط أن يكون من غير آل البيت. وأما جنود الجيش الذين لهم نصيب في الديوان فلا يعطون من الزكاة، وفي أحد القولين عند الشافعية: إن امتنع إعطاؤهم من بيت المال لضعفه، يجوز إعطاؤهم من الزكاة. الضرب الثاني: مصالح الحرب وهذا الضرب ذكره المالكية، فالصحيح عندهم أنه يجوز الصرف من الزكاة في مصالح الجهاد الأخرى غير إعطاء الغزاة، نحو بناء أسوار للبلد لحفظها من غزو العدو، ونحو بناء المراكب الحربية، وإعطاء جاسوس يتجسس لنا على العدو، مسلمًا كان أو كافرًا، وأجاز بعض الشافعية أن يشتري من الزكاة السلاح وآلات الحرب وتجعل وقفًا يستعملها الغزاة ثم يردونها، ولم يجزه الحنابلة، وظاهر صنيع سائر الفقهاء -إذ قصروا سهم سبيل الله على الغزاة، أو الغزاة والحجاج -أنه لا يجوز الصرف منه في هذا الضرب، ووجهه أنه لا تمليك فيه، أو فيه تمليك لغير أهل الزكاة، أو كما قال أحمد: لأنه لم يؤت الزكاة لأحد، وهو مأمور بإيتائها. الضرب الثالث: الحجاج: ذهب جمهور العلماء (الحنفية والمالكية والشافعية والثوري وأبو ثور وابن المنذر وهو رواية عن أحمد، وقال ابن قدامة: إنه الصحيح) إلى أنه لا يجوز الصرف في الحج من الزكاة؛ لأن سبيل الله في آية مصارف الزكاة مطلق، وهو عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، لأن الأكثر مما ورد من نذكره في كتاب الله تعالى قصد به الجهاد. فتحمل الآية عليه. وذهب أحمد في رواية، إلى أن الحج في سبيل الله فيصرف فيه من الزكاة، لما روى (أن رجلاً جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله» (¬1) فعلى هذا القول لا يعطى من الزكاة من كان له مال يحج به سواها، ولا يعطى إلا لحج الفريضة خاصة، وفي قول عند الحنابلة: يجوز حتى في حج التطوع. وينقل عن بعض فقهاء الحنفية أن مصرف «في سبيل الله» هو لمنقطع الحجاج. إلا أن مريد الحج يعطى من الزكاة عند الشافعية على أنه ابن سبيل كما يأتي. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1974)، والحاكم (1838)، والبيهقي (6/ 164).

[8] ابن السبيل: سُمي بذلك لملازمته الطريق، إذ ليس هو في وطنه ليأوي إلى سكن. وهذا الصنف ضربان: -الضرب الأول: المتغرب عن وطنه الذي ليس بيده ما يرجع به إلى بلده: وهذا الضرب متفق على أنه من أصحاب الزكاة، فيعطى ما يوصله إلى بلده. إلا في قول ضعيف عند الشافعية: أنه لا يعطى؛ لأن ذلك يكون من باب نقل الزكاة من بلدها. لا يعطى من الزكاة إلا بشروط: الشرط الأول: أن يكون مسلمًا، من غير آل البيت. الشرط الثاني: أن لا يكون بيده في الحال مال يتمكن به من الوصول إلى بلده وإن كان غنيًّا في بلده، فلو كان له مال مؤجل أو على غائب، أو معسر، أو جاحد، لم يمنع ذلك الأخذ من الزكاة على ما صرح به الحنفية. الشرط الثالث: أن لا يكون سفره لمعصية. صرح بهذا الشرط المالكية والشافعية والحنابلة، فيجوز إعطاؤه إن كان سفره لطاعة واجبة كحج الفرض، وبر الوالدين، أو مستحبة كزيارة العلماء والصالحين، أو كان سفره لمباح كالمعاشات والتجارات، فإن كان سفره لمعصية لم يجز إعطاؤه منها لأنه إعانة عليها، ما لم يتب، وإن كان للنزهة فقط ففيه وجهان عند الحنابلة: أقواهما: أنه لا يجوز؛ لعدم حاجته إلى هذا السفر. الشرط الرابع: وهو للمالكية خاصة: أن لا يجد من يقرضه إن كان ببلده غنيًّا. ولا يعطى أهل هذا الضرب من الزكاة اكثر مما يكفيه للرجوع إلى وطنه، وفي قول للحنابلة: إن كان قاصدًا بلدًا آخر يعطى ما يوصله إليه ثم برده إلى بلده. قال المالكية: فإن جلس ببلد الغربة بعد أخذه من الزكاة نزعت منه ما لم يكن فقيرًا ببلده، وإن فضل معه فضل بعد رجوعه إلى بلده نزع منه على قول عند الحنابلة. ثم قد قال الحنفية: من كان قادرًا على السداد فالأولى له أن يستقرض ولا يأخذ من الزكاة. الضرب الثاني: من كان في بلده ويريد أن ينشئ سفرًا: فهذا الضرب منع الجمهور إعطاءه، وأجاز الشافعية إعطاءه لذلك بشرط أن لا يكون معه ما يحتاج إليه في سفره، وأن لا يكون في معصية، فعلى هذا يجوز إعطاء من يريد الحج من الزكاة إن كان لا يجد في البلد الذي ينشئ منه سفر الحج ما لا يحج به. والحنفية لا يرون جواز الإعطاء في هذا الضرب، إلا أنَّ مَن كان ببلده، وليس له بيده مال ينفق منه وله مال في غير بلده، لا يصل إليه، رأوا أنه ملحق بابن السبيل (¬1). ¬

(¬1) «الموسوعة الفقهية» (23/ 324).

هل يجوز أن تُعطى الزكاة للابن أو الأب؟ دفع الزكاة إلى الوالدين، أو إلى الأبناء -ممن لا تلزمه نفقتهم- إن كانوا غارمين أو مكاتبين أو غزاة- جائز ومتجه قوي (¬1) وهو مذهب الشافعي (¬2). وأما إن كانوا فقراء، وهو عاجز عن نفقتهم، فالجمهور على منع دفع الزكاة إليهم. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬3) أنه يجوز دفع الزكاة إليهم، إذا عجز عن نفقتهم. وهذا هو الأظهر، لأن منع الجمهور من صرف الزكاة إلى من تلزم نفقتهم، كان لعلتين: (الأولى): أنه غني بالنفقة عليه، و (الثانية): أنه بالدفع إليه يجلب على نفسه نفعًا، وهو منع وجوب النفقة عليه. فإذا كان الرجل عاجزًا عن النفقة عليهم أصلاً، أو لم تكن تلزمه نفقتهم، فقد انتفت العلتان، مع وجود المقتضى، فجاز، والله أعلم (¬4). هل يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها إن كان من أهل الزكاة. اختلف العلماء في دفع المرأة زكاتها إلى زوجها على قولين: [1] لا يجوز دفعها إليه: وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد (¬5). وحجتهم في هذا: - أنه أحد الزوجين فلم يجز للآخر دفع زكاته إليه كالآخر. - وأنها تنتفع بدفعها إليه. ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (25/ 90 - 92)، والمحلى (6/ 151 - 152). (¬2) المجموع للنووي (6/ 229). (¬3) مجموع الفتاوى (25/ 90 - 92). (¬4) قلت: ولعله يؤيد الجواز، حديث معن بن يزيد قال: «.. وكان أبي -يزيد- أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردتُ فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن» رواه البخاري (1422). وهذا يحتمل أن يكون معن ممن يلزم أباه نفقته فيكون حجة لجواز دفع الزكاة إلى الأبناء مطلقًا. وإما أن يكون مستقلاًّ عن نفقة أبيه، فيكون حجة لجواز دفع الزكاة إلى الأبناء الذين لا يلزم الأب النفقة عليهم، والله أعلم. (¬5) المدونة (1/ 298)، وشرح فتح القدير (2/ 209)، والمغنى (2/ 484).

[2] يجوز دفعها إليه: وهذا مذهب الشافعي والرواية الأخرى عن أحمد (¬1). وهو الراجح لموافقته للدليل: - لحديث أبي سعيد أن زينب امرأة ابن مسعود، قالت: يا بني الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حُليٌّ لي فأردت أن أتصدق بها، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحقُّ من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم» (¬2). ولأنه لا تجب على المرأة نفقة زوجها، فلا يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي. أما زكاة الرجل، فلا يجوز أن تُدفع إلى زوجته، لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن أخذ الزكاة، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على هذا (¬3). هل تدفع الزكاة إلى الأقارب ذوي الأرحام؟ يجوز دفع الزكاة إلى الأقارب إذا كانوا من أهل الزكاة، وهو أفضل من دفعها إلى غيرهم. لقوله صلى الله عليه وسلم: «صدقتك على ذي الرحم: صدقة وصلة» (¬4). ويشهد له ما في حديث زينب: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم، ولها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة» (¬5) وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة لما جاء بصدقته إليه: «... وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ...» (¬6). هل يجوز دفع الزكاة إلى الفاسق والمبتدع ومن يستعين بها على المعصية؟ لا يخلو حال المنتسبين إلى الإسلام -والذين قد يكونون مستحقين للزكاة- من ثلاثة أحوال: ¬

(¬1) المجموع (6/ 138)، والمغنى (2/ 484). (¬2) البخاري (1462)، ومسلم (1000)، وابن ماجه (1834). (¬3) المغنى (6/ 649)، والبدائع (2/ 49). (¬4) أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844) وفيه ضعف. (¬5) البخاري (1466)، ومسلم (998). (¬6) البخاري (1461)، ومسلم (998).

1 - أن يكونوا مسلمين طائعين مقيمين للشرائع: فهؤلاء تدفع إليهم الزكاة -إذا كانوا من أهلها- بلا خلاف. 2 - أن يكونوا من أهل البدع المكفِّرة: فهؤلاء تمنع الزكاة عنهم، بلا خلاف، لأنهم خارجون بهذه البدع من الملة، والكفار لا يعطون من الزكاة بالإجماع. 3 - أن يكونوا من أهل البدع والمعاصي: فهؤلاء إن غلب على ظن المعطي أنهم يصرفونها في المعصية فلا يجوز أن يُعطوا من الزكاة (عند الشافعية والحنابلة). ولذا قال شيخ الإسلام، كما في الفتاوى (25/ 87): «فينبغي للإنسان أن يتحرى بزكاته المستحقين من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم من أهل الدين المتبعين للشريعة. ومن أظهر بدعة أو فجورًا فإنه يستحق العقوبة بالهجر وغيره، والاستتابة، فكيف يعان على ذلك؟ كذلك لا ينبغي أن تعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته، فمن لا يصلي لا يُعطى حتى يتوب ويلتزم بأداء الصلاة، ومن كان من هؤلاء منافقًا أو مظهرًا لبدعة تخالف الكتاب والسنة من بدع الاعتقادات والعبادات، فإنه مستحق لعقوبة، ومن عقوبته أن يُحرم حتى يتوب ...» اهـ. وأما إن لم يكونوا يستعينون بمال الزكاة على المعصية: فرأى شيخ الإسلام أنهم لا يعطون كذلك. ورأى غيره أنهم يعطون لأنهم داخلون في عموم آية مصارف الزكاة ولم تفرق بين عاصٍ ومطيع. وعلى كل حال فالأولى تقديم أهل الدين المستقيمين عليه في الاعتقاد والعمل، على من عداهم عند الإعطاء من الزكاة. والله أعلم. قلت: ومما ورد في هذا الباب: 1 - عن قزعة قال: «قلت لابن عمر: إن لي مالاً، فإلى من أدفع زكاته؟

فقال: ادفعها إلى هؤلاء القوم -يعني الأمراء- قلت: إذًا يتخذون بها ثيابًا وطيبًا، فقال: وإن اتخذوا بها ثيابًا وطيبًا، ولكن في مالك حق سوى الزكاة» (¬1). 2 - عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: «أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد إخراج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى؟ قال: ادفعها إليهم، فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد رضي الله عنهم فقالوا مثل ذلك» (¬2). والظاهر من سياق هذه الآثار، أن المراد بالقوم -الذين يدفع إليهم الزكاة رغم عصيانهم- الأمراء ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم، فليس فيه معارضة لما رجحناه من مذهب شيخ الإسلام، والله أعلم. هل تُدفع الزكاة إلى «الهاشميين»؟ بنو هاشم هم: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحارث، وكذلك آل المطلب، على الراجح (¬3). وهؤلاء لا يحل لهم أن يأخذوا من الزكاة المفروضة، بلا خلاف بين أهل العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، وإنما هي أوساخ الناس» (¬4). ومعنى (أوساخ الناس): أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم فهي غسالة الأوساخ. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لا تحل لنا الصدقة» (¬5). وقال صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي لما أخذ تمرة من تمر الصدقة: «كخ كخ (ليطرحها) أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة» (¬6). وقد اختار شيخ الإسلام أنه يجوز لبني هاشم أن يأخذوا من زكاة الهاشميين لا من زكاة الناس، وهذا مروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف (¬7). ¬

(¬1) «الأموال» لأبي عبيد (1798) بسند صحيح ونحوه ابن أبي شيبة (4/ 28). (¬2) «الأموال» (1789)، والبيهقي (4/ 115) بسند صحيح. (¬3) لقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما عند البخاري (40/ 3) وغيره-: «إنا وبني المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد» وشبك بين أصابعه. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1072)، والنسائي (2609). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1069)، وأبو داود (1650). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1491)، ومسلم (1069). (¬7) فتح القدير لابن الهمام (2/ 272)، وانظر «الجامع للاختيارات الفقهية لابن تيمية» د. أحمد موافي (1/ 400).

نقل الزكاة

نقل الزكاة الأصل أن تؤخذ الزكاة من أغنياء البلد، وتردُّ على فقرائهم، فلا تنقل إلى بلد آخر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم» (¬1). لكن إذا استغنى أهل بلد المزكي عن الزكاة، أو كان غيرهم أشد حاجة إليها أو كانوا أقرب للمزكي مع استحقاقهم للزكاة، أو غير ذلك من المصالح الراجحة، فإنه لا حرج في نقل الزكاة إلى بلد آخر، والله أعلم. زكاة الفطر تعريفها: زكاة الفطر (اصطلاحًا): صدقة تجب بالفطر من رمضان. الحكمة من مشروعية زكاة الفطر: حكمة مشروعية زكاة الفطر: الرفق بالفقراء، بإغنائهم عن السؤال في يوم العيد، وإدخال السرور عليهم في يوم يُسر المسلمون بقدوم العيد عليهم، وتطهير من وجبت عليه بعد شهر الصوم من اللغو والرفث (¬2). فعن ابن عباس قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (¬3). حكم زكاة الفطر: زكاة الفطر واجبة على كل مسلم، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (¬4). وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (¬5) «هو زكاة الفطر». ¬

(¬1) متفق عليه وقد تقدم. (¬2) المغنى (3/ 56). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827) وغيرهما بسند حسن. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1503)، ومسلم (984) وغيرهما. (¬5) سورة الأعلى: 14.

وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض (¬1). على من تجب زكاة الفطر: تجب زكاة الفطر على من توفرت فيه الشروط الآتية: [1] الإسلام: لأن زكاة الفطر قُربة من القُرب، وطهرة للصائم من الرفث واللغو -كما تقدم- وليس الكافر من أهلها، وإنما يعاقب على تركها في الآخرة، ولذا قال في حديث ابن عمر المتقدم «... من المسلمين» والإسلام شرط عند جمهور العلماء، خلافًا للشافعية، فالأصح عندهم أنه يجب على الكافر أن يؤديها عن أقاربه المسلمين (¬2). [2] القدرة على إخراج زكاة الفطر: وحدُّ هذه القدرة: أن يكون عنده فضل عن قوته وقوت من في نفقته ليلة العيد ويومه، عند جمهور العلماء (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬3). لأن من كان هذه حاله يكون غنيًّا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار» فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: «أن يكون له شبع يوم وليلة» (¬4). وخالف الحنفية وأصحاب الرأي فقالوا: لا تجب إلا على من يملك نصابًا من النقد أو ما قيمته فاضلاً عن مسكنه (¬5). واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صدقة إلا عن ظهر غني» (¬6) قالوا: والفقير لا غنى له فلا تجب عليه، ولأن الصدقة تحل له فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها. قلت: ورأي الجمهور أرجح، لأمور: ¬

(¬1) «الإجماع» لابن المنذر (ص: 49). (¬2) الدر المختار (2/ 72)، ومغنى المحتاج (1/ 402). (¬3) مغنى المحتاج (1/ 403، 628)، والمغنى (3/ 76). (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (1629) بسند حسن. (¬5) شرح فتح القدير (2/ 218)، وحاشية ابن عابدين (2/ 360). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1426).

1 - أن فرض زكاة الفطر ورد مطلقًا على الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد، ولم يقيدها بغني أو فقير، كما قيد زكاة المال بقول (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم). 2 - أن زكاة الفطر لا تزيد بزيادة المال، فلا يعتبر وجوب النصاب فيها كالكفارة. 3 - أن الاستدلال بحديث: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» لا يسلم لهم، فإننا نقول معهم: إن العاجز عنها لا تجب عليه، بل قدمنا الحديث بأن الإنسان يغنيه شبع يوم وليلة. فائدة: تجب زكاة الفطر على المسلم القادر على أدائها، حتى وإن كان عبدًا مملوكًا -كما ذهب إليه الحنابلة- خلافًا لجمهور الفقهاء، فقد اشترطوا لإيجاب الزكاة الحرية، وقالوا: لا تجب على العبد لأن العبد لا يملك. والصواب أنه يجب على السيد المسلم أن يخرج زكاة الفطر عن عبده، لحديث ابن عمر قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل عبد أو حر، صغيرًا أو كبيرًا» (¬1). والخلاصة: أن زكاة الفطر تجب على كل حر مسلم -يملك قوته وقت عياله يومًا أو ليلة- عن نفسه وعمن تلزمه نفقته: كزوجته وأبنائه وخدمه المسلمين. فعن ابن عمر قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن تمونون» (¬2). وذهب ابن حزم إلى أن زكاة الفطر لا تجب على شخص عن غيره، لا عن أبيه ولا عن أمه ولا عن زوجته ولا عن أحد ممن تلزمه نفقته إلا عن نفسه، وأنه يجب على كل من هؤلاء إخراجها عن نفسه من ماله لظاهر حديث ابن عمر المتفق عليه. فوائد: 1 - لا يلزم الرجل إخراج زكاة الفطر عن زوجته التي لم يدخل بها لأنه لا تلزمه نفقتها. ¬

(¬1) صحيح: وتقدم قريبًا. (¬2) حسن لغيره: أخرجه الدارقطني (220)، ومن طريقه البيهقي (4/ 161)، وانظر «الإرواء» (835).

2 - إذا نشزت المرأة في وقت زكاة، الفطر، ففطرتها على نفسها لا على زوجها. 3 - إذا كانت الزوجة كتابية فلا يخرج عنها زكاة الفطر. الأنواع التي تخرج في زكاة الفطر: تُخرج زكاة الفطر مما يقتاته المسلمون، ولا تُقتصر على ما نص عليه (الشعير والتمر والزبيب) بل تخرج من الأرز والذرة ونحوهما مما يعتبر قوتًا. وهذا أصح أقوال العلماء -وهو مذهب الشافعية والمالكية (¬1) - واختاره شيخ الإسلام، وأما فرض النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، فلأن هذا كان قوت أهل المدينة، ولو كان هذا ليس قوتهم بل يقتاتون غيره، لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتانون، كما لم يأمر بذلك في الكفارات، فقد قال تعالى في الكفارة {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (¬2). وصدقة الفطر من جنس الكفارات، فكلاهما متعلق بالبدن، بخلاف صدقة المال فإنها تجب بسبب المال من جنس ما أعطاه الله (¬3). وأما الحنابلة فقالوا: لا يجزئ إلا التمر والشعير والبر. ما المقدار الواجب عن كل شخص في زكاة الفطر: لأهل العلم في المقدار الواجب عن الشخص مذهبان (¬4): الأول: أن الواجب صاع من أي صنف: وبهذا قال جمهور العلماء -خلافًا لأبي حنيفة وأصحاب الرأي- وحجتهم: 1 - حديث أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية المدينة، فتكلم، فكان مما كلَّم الناس: إني لأرى مُدَّيْن من سمراء الشام [يعني: القمح] تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك [قال أبو سعيد]: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه» (¬5). ¬

(¬1) لكنهم اشترطوا أن تكون من المعشرات. (¬2) سورة المائدة: 89. (¬3) مجموع الفتاوى (25/ 69). (¬4) المدونة (1/ 358)، والمجموع (6/ 48)، والمغنى (3/ 81)، وشرح فتح القدير (2/ 225). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1505)، ومسلم (985)، وأبو داود (1616)، والترمذي والنسائي.

2 - حديث ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر: صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير، فعدل الناس إلى نصف صاع من بُر» (¬1). المذهب الثاني: أن الواجب: الصاع إلا في البر فيجزئ نصف الصاع: وهذا مذهب أصحاب الرأي، والزبيب كالبر عند أبي حنيفة في رواية، وحجتهم: 1 - ما رُوى عن ثعلبة بن أبي صُعير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صاع من بُر أو قمح على كل اثنين» (¬2). 2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديًا في فجاج مكة: «ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم: ذكر أو أنثى أو عبد، صغير أو كبير، مُدَّان من قمح، أو سواهما صاعًا من طعام» (¬3). قال الحافظ في الفتح (3/ 437): «قال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبرًا ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثُر زمنَ الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمة، فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة أنهم رأوا في زكاة الفطر نصف صاع من قمح. اهـ[كلام ابن المنذر] وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية، لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة ...» اهـ (من الفتح). فائدة: الصاع =4 أمداد = 1/ 6 كيلة مصرية = 2.157 كيلو جرام (بالوزن تقريبًا). متى تُخرج زكاة الفطر: يجب إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، ويحرم تأخيرها إلى ما بعدها؛ فعن ابن عمر قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1511)، ومسلم (984). (¬2) ضعيف: أبو داود (1619) بسند صحيح. (¬3) ضعيف: الترمذي (669) بسند لين، وفيه اختلاف، وانظر تحفة الأحوذي (3/ 348). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1509)، ومسلم (986) وغيرهما.

وعن ابن عباس قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (¬1). أما بداية وقت الوجوب فهو: غروب شمس آخر يوم من رمضان (عند الشافعية والحنابلة وقول عند المالكية) وطلوع فجر يوم العيد (عند الحنفية وقول عند المالكية) (¬2). وفائدة الخلاف في بداية وقت الوجوب يظهر فيمن مات بعد غروب الشمس آخر يوم من رمضان، فعلى القول الأول: تخرج عنه زكاة الفطر لأنه كان موجودًا وقت وجوبها، وعلى الثاني: لا يخرج عنه. وكذلك من ولد بعد غروب الشمس آخر يوم من رمضان: فعلى الأول: لا تخرج عنه وعلى الثاني: تخرج عنه. يجوز إخراج زكاة الفطر قبل وقت وجوبها: يجوز تعجيل زكاة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين: فعن نافع قال: «كان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين» (¬3). هل تسقط زكاة الفطر بخروج وقتها: اتفق العلماء على أن زكاة الفطر لا تسقط إذا خرج وقتها، لأنها وجبت في ذمته لمستحقيها، فهي دين لهم لا يسقط إلا بالأداء، لأنها حق للعبد، أما حق الله في التأخير عن وقتها فلا، إلا بالاستغفار والندامة، والله أعلم. هل يجزئ إخراج القيمة في زكاة الفطر: تقدم الكلام (¬4) عن حكم إخراج القيمة في الزكوات عمومًا، وأن الأصل إخراجها على الوجه الذي ورد به النص، ولا يعدل عنه إلى إخراج القيمة إلا لضرورة أو حاجة أو مصلحة راجحة، فيجزئ حينئذ، والله أعلم. ¬

(¬1) حسن: تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) «الموسوعة الفقهية» (23/ 340). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1511)، ومسلم (986). (¬4) راجع ص (....).

مصرف زكاة الفطر

مصرف زكاة الفطر اختلف العلماء في مصرف زكاة الفطر على قولين: الأول: أن مصرفها هو مصارف الزكاة الثمانية: وهو مذهب جمهور العلماء، خلافًا للمالكية (¬1). الثاني: أنها تصرف للمحتاجين (الفقراء والمساكين فقط): وهو مذهب المالكية واختاره شيخ الإسلام (¬2)، وهو الراجح، لمناسبته لمشروعية زكاة الفطر من كونها «طعمة للمساكين ...» (¬3). ولأن صدقة الفطر أشبه بالكفارة، فلا يجزئ إطعامها إلا لمن يستحق الكفارة. ¬

(¬1) الدر المختار (2/ 369)، والمجموع (6/ 144). (¬2) مجموع الفتاوى (25/ 73). (¬3) حسن: وقد تقدم تخريجه.

5 - كتاب الصيام

5 - كتاب الصيام

تعريف الصيام

تعريف الصيام (¬1): الصيام والصوم لغةً: الإمساك والكف عن الشيء، ويستعمل في كل إمساك، قال تعالى إخبارًا عن مريم -عليها السلام-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} (¬2). أي صمتًا وإمساكًا وكفًّا عن الكلام. وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع نية التعبد لله تعالى. من فضائل الصيام وفوائده (أ) الصيام من أعظم الطاعات التي يُتقرَّب بها إلى الله سبحانه، ويثاب المؤمن عليه ثوابًا لا حدود له، وبه تغفر الذنوب المتقدمة، وبه يباعد بين وجهه وبين النار وبه يستحق العبد دخول الجنان من باب خاص أُعدَّ للصائمين، وبه يفرح العبد عند لقاء ربه. 1 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإن كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإنه شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم -مرتين- والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (¬3). 2 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬4). 3 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا» (¬5). 4 - وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة بابًا يقال له الريَّان ¬

(¬1) «اللباب» (1/ 162)، و «المجموع» (6/ 248)، و «المغنى» (3/ 84). (¬2) سورة مريم: 26. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1900)، ومسلم (760) وغيرهما. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2840)، ومسلم (1153) وغيرهما.

أقسام الصيام

يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» (¬1). (ب) والصيام مدرسة خلقية كبرى يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزغات الشيطان التي قد تلوح له، ويتعوَّذُ به الإنسان خلق الصبر على ما قد يُحرم منه وعلى الأهوال والشدائد التي قد يتعرض لها، ويعلم النظام والانضباط، وينمي في الإنسان عاطفة الرحمة والأخوة والشعور بالتضامن والتعاون التي تربط المسلمين (¬2). أقسام الصيام: اعلم أن الصيام على قسمين: 1 - صيام واجب. 2 - صيام تطوع. 1 - الصيام الواجب وأقسامه: الصيام الواجب على ثلاثة أقسام (¬3): (أ) ما يجب للزمان نفسه، وهو صوم (شهر رمضان) بعينه، وهو الذي نتناول أحكامه هنا. (ب) ما يجب لعلَّة، وهو صيام (الكفارات). (جـ) ما يجب لإيجاب الإنسان ذلك على نفسه: وهو (صيام النَّذر). وهذان القسمان (صيام الكفارة والنذر) سنذكره مفرقًا في مواضعه في أبواب الفقه. صيام رمضان حكمه: صيام رمضان واجب على كل مسلم بالغ عاقل صحيح مقيم وهو ركن من أركان الإسلام، دلَّ على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع الأمة: فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1896)، ومسلم (1152) وغيرهما. (¬2) «الفقه الإسلامي وأدلته» (2/ 566 - 568). (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 422).

أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). ومن السنة: 1 - حديث طلحة بن عبد الله رضي الله عنه أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس -وفيه- فقال: أخبرني مما فرض الله عليَّ من الصيام، فقال: «شهر رمضان إلا أن تطوع شيئًا» (¬2). 2 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (¬3). 3 - حديث جبريل المشهور وفيه: قال: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان ...» (¬4) الحديث. - وقد أجمع المسلمون على أن الصوم ركن من أركان الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة بحيث يكفر مُنكره، وأنه لا يسقط عن المكلف إلا بعذر من الأعذار الشرعية المعتبرة (¬5) التي يأتي ذكرها. من فضائل «رمضان» والعمل فيه: 1 - عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شهران لا ينقصان، شهرا عيد: رمضان وذو الحجة» (¬6). وفيه أن رمضان وذو الحجة في الفضل سيَّان، وأن كل ما ورد في فضلهما وأجرهما وثوابهما حاصل بكماله وإن كان الشهر تسعًا وعشرين (¬7). ¬

(¬1) سورة البقرة: 183 - 185. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9). (¬5) «الإفصاح» لابن هبيرة (1/ 232)، و «المغنى» (3/ 285)، و «المجموع» (6/ 252). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1912)، ومسلم (1089). (¬7) «فتح الباري» (4/ 150)، و «المجموع» (6/ 253)، و «صحيح ابن حبان» (8/ 218 - إحسان).

2 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل شهر رمضان، فتحت أبوب السماء، وغُلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» (¬1). 3 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬2). قال أبو حاتم بن حبان: «إيمانًا» يريد إيمانًا بفرضه، و «احتسابًا» يريد به مخلصًا فيه. 4 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (¬3) 5 - أن فيه العشر الأواخر وليلة القدر، وسيأتي فضلها والعمل فيها. بم يجب صيام رمضان (ثبوت الشهر): يجب صيام رمضان بثبوت الشهر، وهو يثبت بأحد أمرين: 1 - رؤية هلال رمضان: قال الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬4). وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له» (¬5). وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» (¬6). معرفة الهلال بالرؤية لا بالحساب: الطريق إلى معرفة الهلال هو الرؤيا لا غيرها، وضبط مكان الطلوع بالحساب لا يصح، فإنا نعلم بالاضطرار -من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم والحج، أو العدة، أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال، بخبر الحاسب لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، منها قوله ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1899)، ومسلم (1079). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (38)، و (4/ 157)، وابن ماجه (1641). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (233). (¬4) سورة البقرة: 185. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1900)، ومسلم (1080). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1907).

صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا ...» (¬1) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين، وقد أجمع المسلمون بذلك عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم -أصلاً- ولا خلاف حديث إلا عن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة في جواز أن يعمل الحاسب -في نفسه- بالحساب، وهذا شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه (¬2). رؤية هلال رمضان تثبت بشاهد عدل (¬3): إذا رأى واحدٌ عدل يوثق به هلال رمضان فإنه يُعمل بخبره عند أكثر أهل العلماء، كأبي حنيفة والشافعي -في أصدق قوليه وهو الصحيح عنده- وأحمد وأهل الظاهر واختاره ابن المنذر. وذهب مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي في قوله الآخر إلى اشتراط شاهدي عدل، قياسًا على الشهادة، والأول أظهر لأن تشبيه رائي الهلال بالراوي، أمثل من تشبيهه بالشاهد، وقد صح في الشرع قبول خبر الواحد، ثم إنه يتشدد في الأموال والحقوق ما لا يتشدد في الأخبار الدينية. ويدل على الاكتفاء بخبر الواحد، حديث ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال، فرأيته، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصام وأمر الناس بصيامه» (¬4). والخبر بهذا من الرجل والمرأة على السواء في أصح قولي العلماء (¬5). وأما هلال شوال: فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يكفي في إثبات هلال شوال شهادة واحد، وإنما لا يقبل فيه إلا شهادة عدلين، وخالف في هذا أبو ثور وابن حزم وأيده ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1913)، ومسلم (1080) وغيرهما. (¬2) انظر «مجموع الفتاوى» (25/ 113، 132، 146)، وحاشية ابن عابدين (2/ 393)، و «المجموع» (6/ 279)، و «بداية المجتهد» (1/ 423). (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 426)، و «المحلى» (6/ 235)، و «المجموع» (6/ 289)، و «المغنى» (3/ 289) ط. الغد، و «نيل الأوطار» (4/ 222). (¬4) صحيح: أبو داود (2342)، والدارمي (2/ 4)، وابن حبان (3447)، وانظر «الإرواء» (908). (¬5) وهو مذهب الحنابلة، كما في «شرح المنتهى» (1/ 440)، وابن حزم في «المحلى» (6/ 350).

الشوكاني، وكأن ابن رشد مال إليه، وقالوا: بل يكفي شهادة الواحد لأنه أحد طرفي شهر رمضان فأشبه الأول. قلت: وحجة الجماهير حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثوه أنه قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (¬1). وهو يدل على عدم جواز شهادة رجل واحد في الصيام والإفطار، فخرج الصيام بدليل حديث ابن عمر المتقدم، وبقي الإفطار حيث لا دليل على جوازه بشهادة واحد، والله أعلم. من رأى الهلال وحده (¬2): من رأى الهلال وحده فرُدَّ قولُه: فللعلماء في صومه أو فطره برؤيتهُ ثلاثة أقوال: الأول: أنه يصوم إذا رأى هلال رمضان، ويفطر لهلال شوال سرًّا لئلا يخالف الجماعة وهذا قول الشافعي ورواية عن أحمد ومذهب ابن حزم، لقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬3). الثاني: يصوم برؤيته، ولا يفطر إلا مع الناس، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمشهور عن أحمد. الثالث: لا يعمل برؤيته، فيصوم مع الناس ويفطر معهم، وهو رواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون» (¬4) ومعناه أن الصوم والفطر يكون مع الجماعة. قلت: والأظهر أنه يعمل برؤيته في الصيام والإفطار -سرًّا- إن خالف الناس، ما لم يزد صيامه على ثلاثين يومًا، والله أعلم. 2 - إكمال عدة شعبان ثلاثين: لأن الشهر الهلالي لا يقل عن تسعة وعشرين ولا يزيد عن ثلاثين يومًا، فإذا لم يروا الهلال -مع صحو السماء وخلوها من الغيم وأي مانع للرؤية -ليلة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي (1/ 300)، وأحمد (4/ 321)، وانظر «الإرواء» (909). (¬2) البدائع (2/ 80)، والمدونة (1/ 193)، والمبدع (3/ 10)، والمجموع (6/ 280)، والمحلى (6/ 350)، ومجموع الفتاوى (25/ 114). (¬3) سورة البقرة: 185. (¬4) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (2324) وغيره، وانظر «الإرواء» (905).

الثلاثين مع شعبان، أتموا شعبان ثلاثين وأصبحوا مفطرين إما وجوبًا وإما استحبابًا على ما يأتي في صيام يوم الشك. إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو نحوه ليلة الثلاثين من شعبان: فللعلماء في هذه المسألة أقوال، أشهرها أربعة (¬1). الأول: لا يجوز صومه، لا وجوبًا ولا تطوعًا: وهو مذهب الجمهور ورواية عن أحمد واستدلوا بما يلي: 1 - حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرين ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» (¬2). 2 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدَّمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم» (¬3). 3 - حديث عمار بن ياسر قال: «من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬4). 4 - أن صيام هذا اليوم على سبيل الاحتياط من التنطُّع في الدين، لأن الاحتياط إنما يكون فيما كان الأصل وجوبه، أما ما كان الأصل عدمه فلا احتياط في إيجابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعِّون» (¬5). الثاني: يجب صومه على أنه من رمضان: وهو المشهور من مذهب الحنابلة وبه قالت طائفة من الصحابة منهم علي وعائشة وابن عمر، وجماعة من السلف، واستدلوا بما يلي: 1 - أن ابن عمر رضي الله عنهما «كان إذا كان يوم الثلاثين من شعبان وحال دونه غيم أو قتر أصبح صائمًا» (¬6) قالوا: وابن عمر هو راوي حديث «فإن غم عليكم ...» فعمله تفسير له. ¬

(¬1) «البدائع» (2/ 78)، و «الخرشي» (2/ 238)، و «المجموع» (6/ 269)، و «الإنصاف» (2/ 269)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 124)، و «زاد المعاد» (2/ 46 - 49). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (2317)، والترمذي (681)، والنسائي (4/ 153)، وابن ماجه (1645)، وانظر «الإرواء» (961). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2670)، وأبو داود (4608) من حديث ابن مسعود. (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (2320)، وأحمد (2/ 5)، وانظر «الإرواء» (904).

2 - أن قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليه فاقدروا له» معناه (ضيِّقوا له) وتضييق العدد بأن يجعل شعبان تسعة وعشرين. 3 - أن قوله «فإن غم عليكم فاقدروا له» إنما هو في حال الصحو لأنه علَّق الصيام على الرؤية، فأما في حال الغيم فله حكم آخر. 4 - أنه يحتمل أن يكون الهلال قد ظهر ومنعه الغيم، فيصوم احتياطًا. الثالث: أن الناس تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر فطروا: وهو رواية عن أحمد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحى الناس» (¬1). قلت: وقول الجمهور بمنع الصيام أظهر للأدلة المتقدمة، وأما فعل ابن عمر فليس فيه ما يدل على أنه كان يعتقد وجوبه حتى يعتبر مفسرًا لما رواه، ويدل على ذلك أنه لو كان واجبًا لأمر الناس به ولو أهله، فغاية ما فيه أنه صامه استحبابًا أو احتياطًا، وهذا هو القول الرابع وهو الذي اختاره ابن تيمية وابن القيم، هذا على أنه قد ثبت عن ابن عمر قوله: «لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يُشك فيه» (¬2). قلت: ثم إن فعل ابن عمر هذا مخالف لفعله صلى الله عليه وسلم الذي روته عائشة رضي الله عنه إذ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ عن شعبان ولا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عدَّ ثلاثين يومًا ثم صام» (¬3). إذا تبيَّن في يوم الشك أنه من رمضان: كأن يكون الذي رأى الهلال لم يحضر عند القاضي إلا في أثناء النهار، أو أن يروا الهلال من النهار -قبل الزوال- ونحو ذلك، فلا يخلو من أحد أربعة: 1 - أن يكون قد صام يوم الشك بنية أنه من رمضان -كما هو مذهب الحنابلة- فهذا يجزئه صيامه بلا خلاف. 2 - أن يكون قد صام هذا اليوم تطوعًا أو بنية معلقة، فذهب الجمهور إلى أنه لا يجزئه لأنه يجب تعيين النية واعتقاد أنه يصوم رمضان (¬4). ¬

(¬1) صححه الألباني: وقد تقدم قريبًا. (¬2) إسناده صحيح: نقله ابن القيم في «الزاد» (2/ 49) هم حنبل في مسائله بسند صحيح. (¬3) أخرجه أبو داود (2325)، وأحمد (6/ 149)، والبيهقي (4/ 206) وسنده مقارب. (¬4) «الخرشي» (2/ 238)، و «المجموع» (6/ 270)، و «الروضة» (2/ 353)، و «المغنى» (3/ 27).

وقال أبو حنيفة: يجزئه -بناء على أصله في عدم اشتراط النية في رمضان- والإجزاء رواية عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام (¬1)، قلت: والأول أظهر من جهة الدليل. 3 - أن يصبح ناويًا الإفطار ثم يتيقن أثناء النهار -وقبل أن يطعم أو يشرب شيئًا- أنه رمضان، فقال الشافعي (¬2): يتم صومه وعليه الإعادة لأنه لم يبيت النية، وقال أبو حنيفة يجزئه. 4 - أن يصبح مفطرًا ثم يتيقن أثناء النهار أنه من رمضان بعد ما طعم وشرب، فيجب عليك الإمساك بقية يومه بلا خلاف، لحديث سلمة بن الأكوع قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم أن أذن في الناس: أن من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإنه اليوم يوم عاشوراء» (¬3) وقد كان واجبًا حينها، ثم عليه قضاء هذا اليوم لأنه لم يبيِّت النية من الليل، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬4) وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5) إلى أنه لا يلزمه -والحالة هذه- أن يقضيه، لأن القضاء يفتقر إلى دليل -لا سيما مع عدم التفريط- وأجاب عن عدم النية بأن النية تتبع العلم، وأن الله تعالى لا يكلف أحدًا أن ينوي ما لم يعلم، والعلم لم يحصل إلا أثناء النهار وهو مذهب وجيه، لكن الأحوط قضاؤه، والله أعلم. إذا رُؤى الهلال في بلد، فهل يلزم سائر البلاد؟ في هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم: الأول: إذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم دون اعتبار اختلاف المطالع: وهذا هو المعتمد عند الحنفية، ومذهب المالكية، وبعض الشافعية، والمشهور عند الحنابلة (¬6). - قالوا: لأن الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتموه فصوموا» لكل المسلمين. ¬

(¬1) «المبسوط» (3/ 60)، و «المغنى» (3/ 27). (¬2) «فتح المالك في ترتيب التمهيد» لابن عبد البر (5/ 97). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2007)، ومسلم (1129). (¬4) «الأم» (2/ 95)، و «الكافي» لابن قدامة (1/ 350). (¬5) «مجموع الفتاوى» (25/ 110)، و «الشرح الممتع» (6/ 342)، و «الاختيارات» (ص: 107). (¬6) «حاشية ابن عابدين» (2/ 393)، و «الشرح الكبير» (1/ 510)، و «المجموع» (6/ 273)، و «الإنصاف» (3/ 273).

- ولأن ذلك أقرب إلى اتحاد المسلمين وتوحيد كلمتهم، ولسهولة الاتصال بين طرفي المعمورة في هذه الأزمان عن طريق الأقمار الصناعية. الثاني: أن لكل بلد -تحت ولاية واحدة- رؤيتهم: وقد نقله ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق (¬1)، ودليلهم حديث كريب -مولى ابن عباس- قال: «قدمت الشام واستهل عليَّ هلال رمضان، وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬3). ومفهومه أن من لم يشهده لا يصوم حتى يراه أو يكمل عدة شعبان. الثالث: أنه يجب الصوم على البلاد التي لا تختلف مطالعها: وهذا أصح الأوجه عند الشافعية ومذهب بعض المالكية والحنفية وقول عند الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام (¬4) وهذا هو القول الوسط في المسألة، فإن المطالع تختلف باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا، وأما القول الأول بعدم اعتبار اختلاف المطالع فهو مخالف لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات، فإنه لو غابت الشمس في المشرق فليس لأهل المغرب الفطر اتفاقًا، وأما حديث كريب فإنما يدل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده -ونحن نقول به- وإنما الخلاف في وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هو في الحديث (¬5) ثم إنه لا يعدو كونه فهم ابن عباس لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصيام والإفطار لرؤية الهلال، والحجة إنما هي في المرفوع، والله أعلم. ¬

(¬1) «المغنى» (3/ 289 - الغد)، و «المجموع» (6/ 274). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1087)، وأبو داود (2332)، والنسائي (4/ 131)، والترمذي (693). (¬3) سورة البقرة: 185. (¬4) «القوانين الفقهية» (103) والمراجع السابقة. (¬5) «المغنى» (3/ 289 - الغد)، وانظر «نيل الأوطار» (4/ 231).

شروط صحة الصيام: يشترط لصحة الصيام أمران: 1 - الطهارة من الحيض والنفاس: وهو شرط لوجوب الأداء وللصحة معًا (¬1)، وسيأتي الكلام على ذلك قريبًا. 2 - النية: فإن صوم رمضان عبادة فلا يصح إلا بالنية كسائر العبادات، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (¬3). ولأن الإمساك قد يكون للعادة أو لعدم الاشتهاء أو لمرض أو رياضة أو غير ذلك، فلا يتعين إلا بالنية، قال النووي: «لا يصح الصوم إلا بنية، ومحلها القلب» (¬4) اهـ. ويشترط لإجزاء النية أربعة شروط: (أ) الجزم: ويشترط قطعًا للتردد، حتى لو نوى ليلة الشك صيام غد، إن كان من رمضان لم يجزه (¬5). (ب) التعيين: فلابد من تعيين النية في صوم رمضان وصوم الفرض والواجب، ولا يكفي مطلق الصوم، ولا تعيين صوم معين غير رمضان عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (¬6). (جـ) التبييت: وهو إيقاع النية في الليل، ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وهذا شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، لحديث ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» (¬7). ¬

(¬1) «فتح القدير» (2/ 234)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 509). (¬2) سورة البينة: 5. (¬3) صحيح: تقدم مرارًا. (¬4) «روضة الطالبين» (2/ 350). (¬5) «الهداية» (2/ 248)، و «الروضة» (2/ 353)، و «كشاف القناع» (2/ 315). (¬6) «روضة الطالبين» (2/ 350)، و «بداية المجتهد» (1/ 435)، و «المغنى» (3/ 22). (¬7) أُعلَّ بالوقف: أخرجه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (4/ 196)، وابن ماجه (1700) بسند صحيح لكن أُعل بالوقف، والذي يظهر أنه مما لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع ثم هو إن كان موقوفًا فهو موافق للأصل إذ لابد من النية قبل الدخول في العبادة وقد صححه الألباني في «صحيح الجامع» (6538).

هل يشترط تبييت النية في صيام التطوع؟ تقدم حديث: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له». وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: «هل عندكم شيء؟» فقلنا: لا، قال: «فإني إذا صائم» ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: يا رسول الله، أهدى لنا حَيْس، فقال: «أرينيه، فلقد أصبحت صائمًا» فأكل (¬1). وقد اختلف أهل العلم، في حكم تبييت النية في صيام التطوع، لهذين الحديثين، فسلك الجمهور مسلك الجمع، فحملوا حديث حفصة على صيام الفرض، وحديث عائشة على صيام التطوع، والنية في صوم النافلة من النهار قبل الزوال، وبعضهم بعده، قال شيخ الإسلام (¬2) بعد حديث عائشة: «وهذا يدل على أنه أنشأ الصوم من النهار، لأنه قال: «فإني صائم»، وهذه الفاء تفيد السبب والعلة، فيصير المعنى: إني صائم لأنه لا شيء عندكم، ومعلوم أنه لو قد أجمع الصوم من الليل، لم يكن صومه لهذه العلة، وأيضًا: فقوله: «فإني إذن صائم»، و (إذن) أصرح في التعليل من الفاء ...» اهـ. وأيدوا استدلالهم بأن هذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت إنشاء نية صوم التطوع من النهار عن: ابن مسعود، وابن عباس، وأبي أيوب، وأبي الدرداء وحذيفة وأبي طلحة رضي الله عنهم. واستدلوا كذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالصوم يوم عاشوراء، وكان مفروضًا قبل فرض رمضان: «من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم» (¬3). وذهب مالك والليث وابن حزم وتبعه الشوكاني مذهب الترجيح، فأخذوا بحديث حفصة، فلم يفرقوا بين صوم النفل والفرض في اشتراط تبييت النية، وقالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث حفصة- «لا صيام» نكرة في سياق النفي فيعم كل صيام، ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط فيه التبييت (¬4). وأجابوا عن حديث عائشة بأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن نوى الصيام من ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1451). (¬2) «شرح العمدة» (1/ 186). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «نيل الأوطار» (4/ 233).

الليل، ولا أنه أصبح مفطرًا ثم نوى الصوم بعد ذلك، لكن فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبح متطوعًا صائمًا ثم يفطر وهذا مباح، فيحتمل أنه نوى من الليل وأراد أن يفطر، ويدل عليه قوله في حديث عائشة: «فلقد أصبحت صائمًا» ولا يجوز ترك اليقين في حديث حفصة للظن للمحتمل في حديث عائشة (¬1). وأجابوا عن حديث (عاشوراء) بأن النية إنما صحت في نهار عاشوراء لكون الرجوع إلى الليل غير مقدور، والنزاع فيما كان مقدورًا فيخص الجواز بمثل هذه الصورة (¬2). قلت: كلا المذهبين يحتمله الدليل واشتراط التبييت في التطوع أحوط والله أعلم. (د) تجديد النية لكل ليلة من رمضان: فيجب تبييت الصيام في كل ليلة من ليالي رمضان -عند الجمهور- لعموم حديث حفصة المتقدم ولأن كل يوم عبادة مستقلة لا يرتبط بعضه ببعض، ولا يفسد بفساد بعضه، ويتخللها ما ينافيها، وهو الليالي التي يحل فيها ما يحرم في النهار، فأشبهت القضاء بخلاف الحج وركعات الصلاة (¬3). وذهب زفر ومالك -وهو رواية عن أحمد- أنه تكفي نية واحدة عن الشهر كله في أوله، كالصلاة، وكذلك في كل صوم متتابع ككفارة الصوم والظهار (¬4). قلت: والأول أرجح لعموم الحديث، وقد أنصف ابن عبد الحكم -من المالكية- فقال بمذهب الجمهور. فائدة: تتحقق النية على الوصف المتقدم بالقيام في وقت السحر وتناول الطعام والشراب في ذلك الوقت لا سيما لمن لم يكن هذا بعادة له في غير أيام الصوم، لأن النية هي القصد إلى الشيء أو الإرادة له، وهذا قد حصل له القصد المعتبر، والله أعلم. ركن الصيام: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى المغرب. قال الله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} (¬5). ¬

(¬1) «المحلى» (6/ 172، 173). (¬2) «نيل الأوطار» (4/ 233). (¬3) «رد المحتار» (2/ 87)، و «المجموع» (6/ 302)، و «كشاف القناع» (2/ 315). (¬4) «القوانين الفقهية» (ص/ 80)، و «الشرح الكبير» (1/ 521). (¬5) سورة البقرة: 187.

فقد أباح الله تعالى هذه الجملة من المفطرات ليالي الصيام، ثم أمر بالإمساك عنها في النهار، فدلَّ على أن حقيقة الصوم وقوامه هو الإمساك (¬1). سنن الصوم وآدابه: 1 - السحور: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تسحَّروا، فإن في السحور بركة» (¬2). وعن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور» (¬3). ويتحقق السحور ولو بجرعة ماء، فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تسحَّروا ولو بجرعة ماء» (¬4). ولو جعل في السحور تمرًا فهو أفضل، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَ سحور المؤمن التمر» (¬5). 2 - تأخير السحور: لحديث أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: «تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة»، قلت: كم بين الأذان والسحور؟ قال: «قدر خمسين آية» (¬6). وعن أُنيسة بنت حبيب قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أذن ابن أم مكتوم، فكلوا واشربوا، وإذا أذَّن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا» فإن كانت الواحدة منا ليبقى عليها الشيء من سحورها، فتقول لبلال: أمهل حتى أفرغ من سحوري (¬7). إذا سمع أذان الفجر وطعامه أو شرابه في يده: فله أن يتم أكلته أو شربته، ¬

(¬1) «تحفة الفقهاء» (1/ 537)، و «بدائع الصنائع» (2/ 90). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1096)، وأبو داود (2343)، والترمذي (709)، والنسائي (4/ 46). (¬4) حسن: أخرجه ابن حبان (3476) وله شاهد عند أحمد (3/ 12)، وأبي يعلى (3340) عن أنس. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2345)، وابن حبان (3475) وله شواهد. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1921)، ومسلم (1097) وغيرهما. (¬7) إسناده صحيح: أخرجه بهذا اللفظ النسائي (2/ 10)، وأحمد (6/ 433)، وابن حبان (3474).

لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمع أحدكم النداء، والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» (¬1). 3 - تعجيل الإفطار: فعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير، ما عجَّلوا الفطر» (¬2). وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر -وهو صائم- فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان، قم فاجدح لنا (¬3) فقال: يا رسول الله، لو أمسيت، قال: انزل فاجدح لنا ... (ثلاثًا) فنزل فجدح لهم، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم» (¬4). 4 - أن يفطر على الرطب أو التمر -إن تيسَّر- أو الماء: فعن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من الماء» (¬5). «فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خُلُوِّ المعدة أدعى إلى قبوله، وانتفاع القُوى به، ولا سيما القوم الباصرة، فإنها تقوى به، ... وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يُبس، فإذا رطبت بالماء، كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده، هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب» (¬6) اهـ. 5 - الدعاء عند الفطر بما يأتي: عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: «ذهب الظمأ وابتلَّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2333)، والحاكم (1/ 426)، وانظر «صحيح الجامع» (607). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1957)، ومسلم (1097). (¬3) الجدح: تحريك الطعام في القدر بعود ونحوه. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1955)، ومسلم (1101). (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (2356)، والترمذي (692)، وانظر «الإرواء» (922)، والصحيحة (2065). (¬6) «زاد المعاد» (2/ 50، 51). (¬7) حسَّنه الألباني: أخرجه أبو داود (2357)، والنسائي في الكبرى (3329 - 10131)، وابن السني (472)، وانظر «الإرواء» (920).

6، 7 - الجود، وقراءة القرآن ومدارسته: فعن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة» (¬1). 8 - الترفُّع عما يحبط ثواب الصوم من المعاصي الظاهر والباطنة: فيجب أن يصون لسانه عن اللغو والهذيان والكذب، والغيبة والنميمة، والفحش والجفاء والخصومة والمراء، ويكف جوارحه عن جميع الشهوات والمحرمات، فإن هذا سر الصوم كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (¬3). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم» (¬4). ويستفاد من الحديثين: أن هذه المعاصي يزيد قبحها في الصيام على غيرها، وأنها تخدش في سلامة الصيام بل ربما اقتضت عدم الثوب عليه (¬5). 9 - أن يقول إذ شُتم: إني صائم. لحديث أبي هريرة السابق، فيستحب لمن شُتم أن يقول لشاتمه في الصوم: (إني صائم) ويستحب أن يجهر بها سواء كان صوم فريضة أو نفل -على المختار (¬6) - وفي هذا فائدتان: الأول: علم الشاتم بأن المشتوم لم يترك مقابلته إلا لكونه صائمًا لا لعجزه. الثانية: تذكير الشاتم بأن الصائم لا يشاتم أحدًا، فيكون متضمنًا نهيه عن الشتم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308). (¬2) سورة البقرة: 183. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1903)، وأبو داود (2345)، والترمذي (702). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151). (¬5) انظر «فتح الباري» (4/ 140، 141 - سلفية). (¬6) وهو اختيار شيخ الإسلام كما في «الاختيارات» (ص: 108).

مبطلات الصيام (المفطرات): يبطل الصوم -بوجه عام- بانتفاء شرط من شروطه، أو اختلال ركن من أركانه، وأصول هذه المفطرات ثلاثة ذكرها الله في كتابه: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} (¬1). وقد أجمع العلماء على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم، والمشروب، والجماع، ثم اختلفوا من ذلك في مسائل منها ما هو مسكوت عنه ومنها ما هو منطوف به (¬2). المبطلات قسمان: [أ] ما يبطل الصيام، ويوجب القضاء: 1، 2 - الأكل والشرب عامدًا ذاكرًا لصومه: فإن أكل أو شرب ناسيًا، فإنه يتم صومه ولا قضاء عليه، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي -وهو صائم- فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» (¬3). ويستوي في ذلك الفرض والنفل -لعموم الأدلة عند الجمهور، خلافًا لمالك (¬4) فخص الحكم بصيام رمضان، وأما لو نسي في غير رمضان فأكل أو شرب فعليه القضاء عنده، والصحيح أنه لا فرق. والأكل هو: إدخال شيء إلى المعدة عن طريق الفم، وهو عام يشمل ما ينفع، وما يضر، وما لا نفع فيه ولا ضرر. إذا أكل أو شرب أو جامع ظانًا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر فظهر خلافه؟ لأهل العلم في هذه المسألة مذهبان: الأول: أن عليه القضاء، وهو مذهب جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة: 187. (¬2) انظر «بداية المجتهد» (1/ 431 - العلمية). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1155). (¬4) «المغنى» (3/ 50)، و «روضة الطالبين» (2/ 356)، و «القوانين الفقهية» (ص 83). (¬5) «البحر الرائق» (2/ 292)، و «المنتقى» للباجي (2/ 292)، و «مغنى المحتاج» (1/ 432)، و «الشرح الكبير» (2/ 31)، و «المغنى» (3/ 354).

الثاني: أنه لا قضاء عليه، وهو مذهب إسحاق ورواية عن أحمد وداود وابن حزم وعزاه إلى جمهور السلف، وبه قال المزني من الشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، وهو الراجح لما يأتي: 1 - لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ...} (¬2). 2 - وقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا ...} (¬3) فقال الله -كما في الحديث: «نعم» (¬4). 3 - حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: «أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس» قيل لهشام [الراوي عن أُمِّه فاطمة عن أسماء]: فأُمروا بالقضاء؟ قال: بُدٌّ من قضاء، وقال معمر: سمعت هشامًا يقول: «لا أدري أقضوا أم لا» (¬5). فحديث أسماء لا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه، وأما كلام هشام فقاله برأيه، ويدل عليه سؤال معمر له. فتحصَّل أنهم لم يؤمروا بالقضاء، ولو كان عليهم قضاء لحفظ، فلما لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأصل براءة الذمة، وعدم القضاء. 4 - قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬6). قد علَّق الإمساك على تبين طلوع الفجر لا على مجرد طلوعه. 5 - أن الجاهل معذور، ففي حديث عدي بن حاتم قال: «لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل، فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: «إنما ذلك سواد الليل والنهار» (¬7) ولم يأمره بالقضاء، لأنه جاهل ولم يقصد مخالفة الله ورسوله، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله فَعُذِر (¬8). ¬

(¬1) «المحلى» (6/ 220، 229)، و «المجموع» (6/ 311)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 231). (¬2) سورة الأحزاب: 5. (¬3) سورة البقرة: 286. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (125). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1959). (¬6) سورة البقرة: 187. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (4509)، ومسلم (1090). (¬8) «الشرح الممتع» (6/ 403).

وهذا القول هو الأصح لموافقته الدليل، على أن يراعى الآتي: 1 - من أفطر قبل أن تغرب الشمس ثم تبين أنها لم تغرب، فيجب عليه الإمساك، لأنه أفطر بناء على سبب، ثم تبين عدمه. 2 - هذا إذا غلب على ظنه غروب الشمس أو طلوع الفجر، أما إذا كان شاكًّا لم يغلب على ظنه: فإن أكل شاكًّا في طلوع الفجر صحَّ صومه لأن الأصل بقاء الليل حتى يتيقن الفجر أو يغلب على ظنه، وإن أكل شاكًّا في غروب الشمس، لم يصح صومه، لأن الأصل بقاء النهار، فلا يجوز أن يأكل مع الشك، وعليه القضاء ما لم يعلم أنه أكل بعد الغروب فلا قضاء حينئذ، والله أعلم. تعمُّد الأكل والشرب يوجب القضاء فقط (¬1): وبهذا قال الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وأهل الظاهر، وكثير من أهل العلم، لعدم ورود نص يوجب الكفارة إلا في الجماع -كما سيأتي- فيقتصر عليه ولا يعدى به إلى غيره لعظم هتك حرمة الشهر، لإمكانه أن يصبر عنه إلى الليل بخلاف ما اعتاده من الأكل والشرب، ولأن الحاجة إلى الزجر عنه أمسُّ والحكم في التعدي به آكد. بينما ذهب مالك وأبو حنيفة وإسحاق وطائفة إلى أن تعمد الأكل والشرب يوجب القضاء والكفارة قياسًا على الجماع لاشتراكهما في انتهاك حرمة الصوم. والأول أصح لعدم النص، والأصل أن الكفارات لا يقاس عليها. والله أعلم. 3 - تعمُّد القيء: فإن غلبه القيء وخرج بنفسه، فلا قضاء عليه ولا كفارة، بلا خلاف، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض» (¬2). 4، 5 - الحيض والنفاس: فمن حاضت أو نفست ولو في اللحظة الأخيرة من النهار، فسد صومها، وعليها قضاء هذا اليوم، بإجماع العلماء. 6 - تعمُّد الاستمناء: وهو تعمد إخراج المني بما دون الجماع، كالاستمناء باليد ¬

(¬1) «شرح فتح القدير» (2/ 70)، و «المدونة» (1/ 219)، و «المجموع» (6/ 329)، و «المغنى» (3/ 130)، و «المحلى» (6/ 185). (¬2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (2380)، والترمذي (716)، وابن ماجه (1676)، وأحمد (2/ 468) وغيرهم، وأعله البخاري وأحمد كما في «نصب الراية» (2/ 448)، وصححه الألباني في «الإرواء» (923)، و «صحيح الجامع» (6243).

أو نحو ذلك بقصد إخراجه بشهوة، فإن أنزل بشيء من ذلك متعمدًا ذاكرًا لصيامه فسد صومه ولزمه القضاء عند الجمهور (¬1). وذهب ابن حزم إلى أنه إن استمنى -بغير جماع- لم يفسد صومه وإن تعمَّد، قال: «ولم يأت بذلك نص ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس» (¬2). قلت: ومذهب الجمهور أرجح، ويُستدل له بقول الله تعالى في الحديث القدسي في شأن الصائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» (¬3) والاستمناء شهوة وكذا خروج المني، ومما يؤكد أن المني يطلق عليه (شهوة) قوله صلى الله عليه وسلم: «وفي بُضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ فقال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام» ... الحديث (¬4) فالذي يوضع هو المني وقد سماه شهوة. أما إذا تفكر أو نظر فأنزل، ولم يتعمد بتفكره أو نظره إلى امرأته ونحو ذلك إنزال المني، لم يفسد صومه. 7 - نيَّة الإفطار (¬5): فإن نوى -وهو صائم- إبطال صومه، وعزم على الإفطار جازمًا متعمدًا ذاكرًا أنه في صوم، بطل صومه، وإن لم يأكل أو يشرب لأن «لكل امرئ ما نوى» ولأن الشروع في الصوم لا يستدعي فعلاً سوى نية الصوم، فكذلك الخروج لا يستدعي فعلاً سوى النية، ولأن النية شرط أداء الصوم، وقد أبدله بضده، وبدون الشرط لا تتأدَّى العبادة. وهذا مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد وأبي ثور والظاهرية وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا: إن عاد فنوى قبل انتصاف النهار أجزأ، بناء على أصلهم أنه تصح النية من النهار. 8 - الرِّدَّة عن الإسلام (¬6): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن من ارتد عن ¬

(¬1) «الدر المختار» (2/ 104)، و «القوانين الفقهية» (81)، و «روضة الطالبين» (2/ 361)، و «الأم» (2/ 86)، و «المغنى» (3/ 48)، و «كشاف القناع» (2/ 352). (¬2) «المحلى» (6/ 203 - 205). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1984)، ومسلم (1151) عن أبي هريرة. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1006) عن أبي ذر. (¬5) «المحلى» (6/ 175)، و «المجموع» (6/ 314)، و «المغنى» (3/ 25)، و «المبسوط» (3/ 87). (¬6) «المغنى» (3/ 25)، و «كشاف القناع» (2/ 309).1

الإسلام في أثناء الصوم أنه يفسد صومه، وعليه القضاء إذا عاد إلى الإسلام، سواء أسلم أثناء اليوم أو بعد انقضائه، لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬1). ولأن الصوم عبادة من شرطها النية فأبطلتها الردة. ما يبطل الصيام، ويوجب القضاء والكفَّارة: - وهو الجماع لا غيره: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله هلكت، قال: «ما لك؟»، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟» قال: لا، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أُتى النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيها تمر، قال: «أين السائل؟» فقال: أنا، قال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها (¬2) -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطعمه أهلك» (¬3). وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن جماع الصائم في نهار رمضان عامدًا مختارًا بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين (القبل أو الدبر المحرم) مفطر، يوجب القضاء والكفارة أنزل أو لم ينزل. قلت (أبو مالك): مستند الجمهور في إيجاب القضاء على المُجامع في رمضان هو زيادة وردت في بعض طرق هذا الحديث وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخره: «وصم يومًا مكانه» (¬4) وهي زيادة ضعيفة لا تثبت، ولذا ذهب ابن حزم -رحمه ¬

(¬1) سورة الزمر: 65. (¬2) يعني: بين طرفي المدينة. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111). (¬4) حديث أبي هريرة المتقدم مروي من طريق الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة به بدون ذكر القضاء، رواه عن الزهري على هذا الوجه -فيما وقفت عليه- أكثر من عشرة من الثقات، في الصحيحين وغيرهما. وخالفهم، هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة (!!) عن أبي هريرة وزاد: «وصم يومًا مكانه» أخرجه الدارقطني (2/ 190)، وهشام بن سعد فيه ضعف. ورواه عبد الجبار بن عمر عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عن أبي هريرة بهذه الزيادة، وأخرجه ابن ماجه (1671) لكن عبد الجبار واهٍ، وعند مناكير كما قال البخاري، فلا يُفرح به، ثم إنه قد رُوى عن ابن المسيب مرسلاً ليس فيه ذكر أبي هريرة، أخرجه البيهقي (4/ 227). وللحديث بهذه الزيادة شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 348) وفي سنده حجاج بن أرطأة، وهو ضعيف كذلك، فالذي يظهر لي أن هذه الزيادة لا تثبت، والله أعلم. وانظر «المحلى» لابن حزم (6/ 180) مسألة رقم (735).

الله- إلى أن عليه الكفارة فقط دون القضاء، وهذا قوي ومتجه، وهو موافق لما تقدم تحريره -في قضاء الصلوات، وما سيأتي في قضاء الصيام- من أنه لا يُشرع القضاء لمن ترك عبادة مؤقتة -بغير عذر- إلا بدليل جديد، والله أعلم. هل تجب الكفارة على المرأة كالرجل؟ في حديث أبي هريرة المتقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بالكفارة، وسكت عن المرأة، ولهذا اختلف أهل العلم في المرأة التي جامعها زوجها، هل عليها كفارة أم لا؟ على أقوال (¬1): أحدها: ليس على المرأة كفارة مطلقًا: وهو مذهب الشافعي، وقول لأحمد، أن يجزيهما كفارة واحدة وأنها على الرجل دونها لما يأتي: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المرأة بكفارة مع أنه جامعها والفعل قد حصل منه ومنها معًا، فدلَّ على أنه لو رأى عليها كفارة لألزمها ذلك ولم يسكت عنها. 2 - وأنه حق مال اختص بالجماع فاختص بالرجل كالمهر. الثاني: أن على المرأة الكفارة كالرجل: وهو قول الجمهور: أبي حنيفة ومالك وقول للشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه، على اختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة، قالوا: 1 - لأنها هتكت صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها الكفارة كالرجل، وقد سوَّت الشريعة بين الناس في الأحكام إلا في مواضع قام الدليل على تخصيصها، فإذا لزمها القضاء لأنها أفطرت بجماع متعمد كما وجب على الرجل، وجبت عليها الكفارة لهذه العلة كالرجل سواء. 2 - وأما عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة بالكفارة، فهذا حكاية حال لا عموم لها وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعذر من مرض أو سفر أو تكون مكرهة أو ناسية لصومها أو نحو ذلك. ¬

(¬1) «فتح القدير» (2/ 336)، و «المجموع» (6/ 370)، و «كشاف القناع» (2/ 325)، و «الإنصاف» (3/ 313).

3 - لأن المرأة لم تستفت النبي صلى الله عليه وسلم كما استفتاه الرجل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكمًا ما لم تعترف. 4 - ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء. الثالث: أن يجزيهما كفارة واحدة إلا إن كانت الكفارة بالصيام فعليهما: وهذا مذهب الأوزاعي. قلت: والأرجح مذهب الجمهور، وقول الشافعي ليس ببعيد كذلك، والله أعلم. تنبيه: المرأة إذا كانت مكرهة أو ناسية أو جاهلة فلا قضاء عليها ولا كفارة على الأصح وكذلك الرجل إذا كان ناسيًا أو جاهلاً، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد (¬1). هل تجب الكفارة على الترتيب؟ ذهب الجمهور (¬2) إلى وجوب الترتيب في الكفارة فلا ينتقل إلى صيام الشهرين المتتابعين إلا إذا عجز عن العتق، ولا يطعم ستين مسكينًا إلا بعد العجز عن الصيام، على ظاهر حديث أبي هريرة المتقدم. وذهب مالك إلى أنها على التخيير لما وقع في رواية مسلم لهذا الحديث عن أبي هريرة: أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفِّر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا» (¬3). قالوا: رواية البخاري للحديث لا يلزم منها الترتيب فإن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير، فيحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفارة، وحمل بعضهم الترتيب على الأولوية والتخيير على الجواز. وأما الجمهور فسلكوا مسلك الترجيح، فرجحوا رواية الترتيب على رواية التخيير بأن الذين رووا الحديث على الترتيب أكثر مع اتحاد المخرج وبأن راوي التخيير تصرف في اللفظ، وبأن الترتيب أحوط لأن الأخذ به مجزئ على القولين، والله أعلم. ¬

(¬1) «المغنى» (3/ 27) ط. إحياء التراث العربي. (¬2) «المغنى» (3/ 344)، و «بداية المجتهد» (1/ 451)، و «فتح الباري» (4/ 198). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1111).

هل تتكرَّر الكفارة بتكرُّر الجماع؟ (¬1): 1 - من جامع في نهار رمضان، ثم كفَّر، ثم وطئ في يوم آخر فعليه كفارة أخرى إجماعًا. 2 - من جامع في يوم واحد مرارًا، فليس عليه إلا كفارة واحدة إجماعًا. 3 - من جامع في نهار رمضان، ولم يُكفِّر ثم جامع في يوم آخر، ففيه قولان: الأول: أن عليه لكل يوم كفارة، لأن كل يوم عبادة منفردة، فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل، وهو قول مالك والشافعي وجماعة. والثاني: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والزهري، قياسًا على الحدِّ، والأول أرجح، والله أعلم. أمور لا تفسد الصيام: 1 - أن يصبح يوم الصيام جُنبًا: فمن نام -وهو صائم- فاحتلم لم يفسد صومه، بل يتمه إجماعًا (¬2)، وكذلك من أجنب ليلاً ثم أصبح صائمًا، فصومه صحيح، ولا قضاء عليه عند الجمهور، لحديث عائشة وأم سلمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم» (¬3). 2 - تقبيل الزوجة ومباشرتها إن أمن الإمناء: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه» (¬4). وعنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلني وهو صائم وأنا صائمة» (¬5). قال ابن حزم (6/ 208): «وكانت عائشة إذ مات عليه السلام بنت ثماني عشرة سنة، فظهر بطلان قول من فرَّق في ذلك بين الشيخ والشاب، وبطلان قول من ¬

(¬1) «بداية المجتهد» (1/ 453)، و «المغنى» (3/ 341)، و «المجموع» (6/ 370). (¬2) «رد المحتار» (2/ 98)، و «القوانين الفقهية» (81). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1926)، ومسلم (1109). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1927)، ومسلم (1106). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2384)، وعبد الرزاق (8410).

قال: إنها مكروهة، وصحَّ أنها حسنة مستحبة وسنة من السنن، وقربة من القرب إلى الله تعالى اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ووقوفًا عند فتياه بذلك» اهـ. قلت: ولا يقال: إن جواز القبلة للصائم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء: 1 - عن عُمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَلْ هذه» لأم سلمة، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له» (¬1). 2 - وعن جابر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هششت يومًا، فقبلت وأنا صائم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لقد صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قال: «وما هو؟» قلت: قبلت وأنا صائم، قال: «أرأيت لو تمضمضت من الماء؟» قلت: إذًا لا يضر، قال: «ففيم؟» (¬2). والمباشرة -وهي مس بشرة الرجل لبشرة المرأة فيما دون الجماع -كالقبلة ولا فرق، وعن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما يحلُّ للرجل من امرأته صائمًا؟ قالت: «كل شيء إلا الجماع» (¬3). وعن عمرو بن شرحبيل: «أن ابن مسعود كان يباشر امرأته بنصف النهار وهو صائم» (¬4). وعن عكرمة قال: «كان سعد بن مالك يفرك قُبُلها بيده وهو صائم» (¬5). قلت: فالصحيح أنه لا يكره أن يقبل أو يباشر، فإن قبَّل أو باشر فأمذى أو أمذت فلا شيء عليهما (¬6)، فإن كان يعلم من نفسه أنه يمني بذلك لم يجز له، فإن فعل وأمنى أو أَمْنت هي فقد أفطر الذي أنزل المني منهما وبطل صومه وعليه القضاء (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1108)، وانظر «شرح النووي» (3/ 163). (¬2) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (2382)، وأحمد (1/ 52)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (21) وهو صحيح لغيره كما قال شيخنا حفظه الله. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8439). (¬4) إسناد صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8442)، وابن أبي شيبة (3/ 63). (¬5) صحيح لغيره: أخرجه عبد الرزاق (8444)، وله شاهد عند ابن أبي شيبة (3/ 63). (¬6) «المجموع» (6/ 323)، وانظر «جامع أحكام النساء» (2/ 361). (¬7) «الأم» (2/ 86)، و «المجموع» (6/ 322)، و «المبسوط» (3/ 65).

3 - الاغتسال، والصب على الرأس للتبرُّد: لما تقدم قريبًا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم». وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر» (¬1). 4 - المضمضة والاستنشاق من غير مبالغة: فعن لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (¬2). فلا بأس بالمضمضة للصائم ولو في غير وضوء أو غسل، ولا يفسد صومه البلل الذي يبقى في الفم بعد المضمضة، إذا ابتلعه مع الريق، لأنه لا يمكن التحرز عنه (¬3). فإن تمضمض أو استنشق فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف فلا شيء عليه في أصح قولي العلماء، وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه، خلافًا لقول أبي حنيفة ومالك بأنه يفطر. 5 - تَذَوُّق الطعام للحاجة ما لم يصِل إلى الجوف: فعن ابن عباس قال: «لا بأس أن يذوق الخل أو الشيء، ما لم يدخل حلقه وهو صائم» (¬4). وقال شيخ الإسلام: «... وذوق الطعام يكره لغير حاجة، لكن لا يفطره، وأما للحاجة فهو كالمضمضة» اهـ (¬5). وفي معنى التذوق: مضغ الطعام للحاجة، فعن يونس عن الحسن قال: «رأيته يمضغ للصبي طعامًا -وهو صائم- يمضغه ثم يخرجه من فيه، يضعه في فم الصبي» (¬6). ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (2348). (¬2) صحيح: تقدم في الطهارة. (¬3) «رد المحتار» (2/ 98). (¬4) حسن لغيره: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 47)، وله شاهد عند البخاري (4/ 153) معلقًا، والبيهقي (4/ 2612). (¬5) «مجموع الفتاوى» (25/ 266)، وانظر «المبسوط» (3/ 93). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7512)، وله شاهد عند ابن أبي شيبة (3/ 47).

فائدة: يُكره للصائم مضغ العِلْك (اللِّبان) الشديد إذا لم يتحلب منه شيء يدخل إلى الجوف ولم يكن له طعم يوجد في الحلق، لأنه يجفف الفم ويعطش، فإذا كان يتحلب منه ما يدخل إلى الجوف، فإنه يفطر عند الجمهور (¬1). 6 - الحجامة (¬2)، والتبرع بالدم، لمن لم يخش الضعف: صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم -من عدة طرق- أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» (¬3). وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم» (¬4). فذهب أحمد وابن سيرين وعطاء والأوزاعي وإسحاق وابن المنذر وابن خُزيمة، واختاره ابن تيمية أن المحتجم يفطر بالحجامة وهو قول عليٍّ وأبي هريرة وعائشة، وحجة هذا المذهب (¬5). 1 - حديث «أفطر الحاجم والمحجوم». 2 - تضعيف الإمام أحمد لحديث ابن عباس المتقدم، وهو في البخاري؟! 3 - قالوا: وعلى فرض صحته فهو منسوخ. وزاد ابن تيمية -عن الحنابلة- أن الحاجم كذلك يفطر إذا مصَّ القارورة. وذهب الجمهور: أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم إلى أن الحجامة لا يفطر بها الحاجم ولا المحجوم، وبه قال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس وأبو سعيد الخدري وطائفة من السلف، وحجتهم (¬6)! 1 - أن حديث عباس ثابت صحيح، وأجابوا عن تضعيف الإمام أحمد، أن مهنا قال: سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس فيه «صائم» إنما هو محرم» ثم ساقه من طرق عن ابن عباس لكن ليس فيها طريق أيوب التي في البخاري، قال الحافظ: «فالحديث صحيح لا مرية فيه» اهـ. ¬

(¬1) «المغنى» (3/ 109)، و «المجموع» (6/ 353)، و «فتح الباري» (4/ 160). (¬2) الحجامة: (¬3) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (774)، وأبو داود (2367) وغيرهما، وانظر «الإرواء» (931). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1939)، وأبو داود (2372)، والترمذي (776). (¬5) «الإنصاف» (3/ 302)، و «الفروع» (3/ 48)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 255). (¬6) «المبسوط» (3/ 56)، و «القوانين الفقهية» (105)، و «المجموع» (6/ 349)، و «فتح الباري» (4/ 209).

2 - قالوا: إن حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» هو المنسوخ، وأطال النووي الكلام على ذلك، وبهذا قال الشافعي والبيهقي وابن عبد البر وغيرهم. 3 - ضعَّفوا حديث «أفطر الحاجم والمحجوم». قلت: والحق أنه ليس على دعوى النسخ من الفريقين برهان لا سيما مع الجهل بالتاريخ، ثم إن الحديثين صحيحان لا مطعن في واحد منهما، فهاهنا مسلكان يجب المصير إلى واحد منهما: (أ) إما أن يقال إن إفطار الحاجم والمحجوم منسوخ بحديث آخر وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم» (¬1). قال ابن حزم (6/ 204): وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدلَّ على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجمًا أو محجومًا. اهـ. (ب) وإما أن يقال النهي عن احتجام الصائم ليس على التحريم، فيحمل حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» على المجاز بمعنى أنه سيأول أمْرهما إلى الفطر ويؤيد هذا ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الحجامة والمواصلة -ولم يحرمهما- إبقاء على أصحابه ...» (¬2) فدلَّ على أنه إنما كره ذلك في حق من كان يضعف به ويؤكده حديث ثابت أنه قال لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «لا، إلا من أجل الضعف» (¬3). قلت: وهذا هو الأولى بالقبول فيترجح مذهب الجمهور بأن الحجامة لا تفطر، لكنها تكره في حق من كان سيضعف بها، وتحرم إذا بلغ به الضعف إلى أن تكون سببًا في إفطاره ويدخل في معنى الحجامة التبرع بالدم، فيقال فيه ما تقدم، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (3241)، والدارقطني (2/ 182)، والبيهقي (4/ 264)، وانظر «الإرواء» (4/ 74). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (2374)، وعبد الرزاق (7535) وجهالة الصحابي لا تضر. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1940).

7 - 10 - الاكتحال (¬1) والحقنة (¬2) والقطرة (¬3) وشم الطيب: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأم الكحل والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة (¬4) فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع إلا بالكحل، ومنهم من فطَّر بالجميع إلا بالتقطير، ومنهم من لا يفطر بالكحل ولا بالتقطير، ويفطر بما سوى ذلك. والأظهر: أن لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك، والحديث الذي ورد في الكحل ضعيف (¬5)» (¬6) اهـ. وقال (¬7): «فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبيَّنه صلى الله عليه وسلم كما بيَّن الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف، ويدخل الدماغ، وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن ¬

(¬1) مذهب الحنفية والشافعية وبعض المالكية أن الكحل لا يفطر سواء وجد طعمه في الحلق أو لا، وهذا مروي عن ابن عمر وأنس وابن أبي أوفى من الصحابة، ومذهب مالك وأحمد أنه يفطر إذا وصل الحلق، انظر: «الهداية» (1/ 126)، و «المجموع» (6/ 348)، و «القوانين» (104)، و «الإنصاف» (3/ 299). (¬2) المراد بالحقنة هنا الشرجية، ومذهب الجمهور أنها تفطر، وذهب داود والحسن بن صالح وقول عند المالكية أنها لا تفطر، انظر: «الهداية» (1/ 125)، و «المجموع» (6/ 320)، و «القوانين» (104)، و «الإنصاف» (3/ 299). (¬3) مذهب الحنفية وظاهر كلام الشافعية أن التقطير لا يفطر، وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يفطر إن وصل إلى الحلق، وانظر: «الفتاوى الهندية» (1/ 203)، و «القوانين» (80)، والمراجع السابقة. (¬4) المأمومة هي الجراحة التي تصل إلى الدماغ، والجائفة هي الجراحة التي تصل إلى الجوف. (¬5) هو حديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم» وهو منكر أخرجه أبو داود (2377). (¬6) «مجموع الفتاوى» (25/ 233 - 234). (¬7) «مجموع الفتاوى» (25/ 242).

ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دلَّ على جواز تطيبه وتبخره وادَّهانه، وكذلك اكتحاله، وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم إما في الجهاد، وإما في غيره، مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين ذلك». وقال -رحمه الله (¬1) -: «والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر ... لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، فأقوى ما احتجوا به قوله: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» (¬2). قال (¬3): «وهو قياس ضعيف، وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه، فحصل بذلك ما يحصل للشارب بفمه ويغذى بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش، ويطبخ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير معتبر، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر، فليس هو مفطرًا، ولا جزءً من المفطر لعدم تأثيره، بل هو طريق إلى المفطر، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة، فإن الكحل لا يغذى البتة، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا فمه، وكذلك الحقنة [يعني الشرجية] لا تغذى، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئًا من المسهلات أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة. والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه ...» اهـ. وقد أطال -رحمه الله- الكلام في إبطال هذا القياس، والذي يتحصل: - أن النص قد أثبت الفطر بالأكل والشرب وهذه الأمور لا تسمى أكلاً ولا شربًا ولا يقصد بها أكل أو شرب، وعليه فإن الحقن المعروف والإبر بأنواعها لا تفطر إلا أن تكون للتغذي فموضع نظر. - أن ما يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب يلحق به. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (25/ 235)، وانظر «المحلى» (6/ 215). (¬2) صحيح: سبق تخريجه. (¬3) «مجموع الفتاوى» (25/ 244).

- أن العلة في التفطير بالأكل والشرب قد لا تكون مجرد التغذية، بل قد تكون مركبة من التغذية والتلذذ بالأكل والشرب، وقد يدل على هذا أن المريض الذي يغذى عن طريق الحقن لمدة أيام يكون في شدة الشوق إلى الطعام (¬1)، فإذا كان كذلك فإن الحقن جميعها لا تفطر وإن كانت للتغذية، والله أعلم. 11 - السواك: السواك مندوب إليه شرعًا -كما تقدم- ولم يرد نص بمنعه للصائم، بل قد وردت أحاديث بعضها يثبت مشروعية الاستياك للصائم وأخرى تحض عليه في الصيام، لكنها ضعيفة لا تثبت فالأصل إباحة السواك ولو كان مفطرًا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولنقله أصحابه مع عموم البلوى. وقد اتفق الفقهاء على جواز السواك للصائم، إلا أن الشافعية والحنابلة استحبوا ترك السواك للصائم بعد الزوال، للإبقاء على رائحة الخلوف التي هي أطيب عند الله من ريح المسك. قلت: والأظهر أنه لا بأس بالسواك في كل وقت، والله أعلم. فائدة: هل يجوز استعمال معجون الأسنان للصائم؟ بناء على ما تقدم فإنه يجوز استعمال الفرشاة والمعجون للصائم إذا أمن نفوذه إلى الحلق، والأولى تركه نهارًا وفعله بالليل، والله أعلم. 12 - ابتلاع النخامة: النخامة: هي ما يخرج من الخيشوم عند التنحنح، أو البلغم الصاعد من الصدر. ومذهب الحنفية والمعتمد عند المالكية ورواية عن أحمد أن النخامة لا تفطر، لأن ابتلاعها في الفم غير واصل من خارج، فأشبه الريق (¬2). وعند الشافعية والحنابلة يجوز ابتلاعها ما لم تصل إلى الفم، فإن وصلت فمه فابتلعها أفطر (¬3). قلت: الأظهر أنه لا حرج في ابتلاعها ولو كانت في فمه ما لم تفحش، أو يقصد الأكل أو الشرب. ¬

(¬1) أفاده العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- كما في «الممتع» (6/ 381). (¬2) «رد المحتار» (2/ 101)، و «المغنى» (2/ 43)، و «وجواهر الإكليل» (1/ 149). (¬3) «روضة الطالبين» (2/ 360)، و «كشاف القناع» (2/ 329).

المفطرون وأحكامهم

13 - ابتلاع ما لا يحترز منه، مثل: (أ) ما يعلق بالأسنان من بقايا الطعام: إذا كان يسيرًا لأنه تبع للريق ولا يمكن الاحتراز منه، بشرط أن لا يقصد ابتلاعه، أو يعجز عن تمييزه ومَجِّه (¬1). (ب) الدم اليسير من اللثة والأسنان: فلو دميت لثته فدخل ريقه حلقه مخلوطًا بالدم ولم يصل إلى جوفه لا يفطر عند الحنفية لأنه لا يحترز منه إلا أن يغلب الدم على الريق فيفطر به عندهم. وعند الشافعية والحنابلة: يفطر بابتلاع الريق المختلط بالدم، والدم نجس -عندهم- لا يجوز ابتلاعه وإذا لم يتحقق أنه بلع شيئًا نجسًا لا يفطر، إذ لا فطر ببلع ريقه الذي لا تخالطه النجاسة!! (¬2) قلت: الأظهر أنه لا يجوز له أن يتعمد بلع الدم لأنه محرم، فإن غلب عليه بلعه أو شقَّ عليه التحرز من بلعه، أو لم يعلم به لم يفطر. (جـ) غبار الطريق والطحين ونحو ذلك: مما لا يمكن الاحتراز منه. 14، 15، 16 - الأكل والشرب والجماع ناسيًا. 17 - القيء غير المتعمد: وقد تقدمت الأدلة على عدم فساد الصيام بهذه الأمور قريبًا. المفطرون وأحكامهم المفطرون في رمضان على ثلاثة أقسام (¬3): (أ) قسم يجوز له الفطر والصوم. (ب) قسم يجب عليه الفطر. (جـ) قسم لا يجوز له الفطر. [أ] من يجوز لهم الفطر والصوم: [1] المريض: المرض هو: كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة (¬4). ¬

(¬1) «رد المحتار» (2/ 98، 112)، و «كشاف القناع» (2/ 32)، و «روضة الطالبين» (2/ 361)، و «القوانين» (80). (¬2) «رد المحتار» (2/ 98)، و «الروضة» (2/ 359)، و «كشاف القناع» (2/ 329). (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 438). (¬4) «المصباح المنير» مادة (مرض).

وقد أجمع العلماء على إباحة الفطر للمريض في الجملة (¬1)، ثم إذا برئ قضاه والأصل فيه قول الله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬2). وعن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬3). كان من أراد أن يفطر، يفطر ويفتدي، حتى أنزلت الآية التي بعدها» (¬4) يعني قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬5). وللمريض ثلاث حالات (¬6): 1 - أن يكون مرضه يسيرًا لا يتأثر بالصوم ولا يكون الفطر أرفق به، كالزكام اليسير، أو الصداع اليسير أو وجع الضرس ونحوه، فهذا لا يجوز له أن يفطر. 2 - أن يزيد مرضه أو يتأخر برؤه ويشق عليه الصوم لكن لا يضره، فهذا يستحب له الفطر ويكره له الصوم. 3 - أن يشق عليه الصوم ويتسبب في ضرر قد يفضي إلى الهلاك، فهذا يحرم عليه الصوم أصلاً، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (¬7). هل يفطر الصحيح الذي يخشى المرض بالصيام؟ (¬8): يُباح للصحيح الذي يخشى المرض بالصيام أن يفطر، لأنه كالمريض الذي يخاف زيادة مرضه أو إبطاء برئه بالصوم، قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (¬9). وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬10). ¬

(¬1) «المغنى» مع الشرح (3/ 16). (¬2) سورة البقرة: 185. (¬3) سورة البقرة: 184. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4507)، ومسلم (1145). (¬5) سورة البقرة: 185. (¬6) أفاده في «الشرح الممتع» (6/ 352، 353)، وانظر: «المجموع» (6/ 258)، و «المغنى» (3/ 16)، و «القوانين الفقهية» (82). (¬7) سورة النساء: 29. (¬8) «المغنى» (3/ 364 - الغد)، و «المحلى» (6/ 228). (¬9) سورة النساء: 29. (¬10) سورة البقرة: 185.

وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» (¬2). [2] المسافر: يشرع للمسافر -سفرًا يُقصر فيه- أن يفطر، لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3). إذا صام المسافر صَحَّ صومه: ذهب جماهير الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة إلى أن الصوم في السفر صحيح مجزئ، ورُوى عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم -وهو مذهب ابن حزم- أنه غير صحيح ويجب القضاء على المسافر إن صام في سفره، وروى القول بكراهته، ومذهب الجماهير أقوى، كما سيأتي. هل الأفضل للمسافر الصوم أو الفطر؟ اختلف أهل العلم في ذلك، والتحقيق في المسألة، وهو الذي تجتمع عليه النصوص أن يقال: إن للمسافر ثلاث حالات: 1 - أن يشق عليه الصوم أو يعوقه عن فعل خير: فالفطر في حقه أولى، ومن هذا ما في حديث جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه فقال: «ما هذا؟» قالوا: صائم، فقال: «ليس من البر الصوم في السفر» (¬4). وحديث أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُوَّام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» (¬5). ¬

(¬1) سورة الحج: 78. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337). (¬3) سورة البقرة: 185. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1119).

وفي حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه -وكانوا في غزوة-: «إنكم مصبحو العدو غدًا والفطر أقوى لكم» (¬1). 2 - أن لا يشق عليه الصيام ولا يعوقه عن فعل الخير، فالأولى له الصيام، لعموم قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} (¬2). وعن أبي الدرداء قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حارٍّ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة» (¬3). وعن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ -وكان كثير الصيام- فقال: «إن شئت فصُم، وإن شئت فأفطر» (¬4). ولأن الصوم -إذا لم يكن فيه مشقة- أسرع في إبراء الذمة، وأسهل على المكلف غالبًا أن يصوم مع الناس من أن يقضي والناس مفطرون. 3 - أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة غير محتملة قد تفضي إلى الهلاك، فهنا يجب الفطر ويحرم الصوم، كما في حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة فسار حتى بلغ كراع الغميم، وصار الناس، ثم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» (¬5). وقت جواز الفطر للمسافر أحوال: الأولى: أن يبدأ السفر قبل الفجر، أو يطلع عليه الفجر وهو مسافر، وينوي الفطر، فيجوز له الفطر إجماعًا، لأنه متصف بالسفر عند وجود سبب الوجوب (¬6). الثانية: أن ينشئ السفر بعد الفجر (أثناء النهار): فهذب الجمهور (أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد) إلى أنه لا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1120). (¬2) سورة البقرة: 184. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1943)، ومسلم (1121). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1114)، ونحوه في البخاري (1948) عن ابن عباس. (¬6) «القوانين الفقهية» لابن جزى (82).

يباح له الفطر ذلك اليوم، ووجه ذلك: أن الصوم عبادة تختلف بالحضر والسفر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة (¬1). وذهب أحمد وإسحاق والحسن -وهو اختيار ابن تيمية، وهو الراجح في المسألة -إلى جواز الفطر في ذلك اليوم (¬2)، لعموم قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3). ولحديث جابر المتقدم قريبًا في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح، وفيه: «... فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه» (¬4). ونحوه حديث ابن عباس ففيه: «.. ثم دعا بماء فرفعه إلى يده ليراه الناس فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان ...» (¬5). ويؤيد هذا المذهب كذلك حديث محمد بن كعب قال: «أتيت -في رمضان- أنس بن مالك، وهو يريد سفرًا، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ فقال: سنة، ثم ركب» (¬6). وعن عبيد بن جبير قال: «ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع ثم قرب غداؤه، ثم قال: اقترب، فقلت: ألست بين البيوت؟ فقال أبو بصرة: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» (¬7). تنبيه: في الحديثين الأخيرين دليل على أن للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد السفر منه، قال ابن العربي: وأما حديث أنس فصحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر، وهذا هو الحق (¬8) اهـ. وقد منع الجمهور من الفطر قبل مغادرة بلده، لأنه قبل المغادرة لا يكون على سفر بل هو ناو للسفر، لكن ... ¬

(¬1) «حاشية ابن عابدين» (2/ 431)، و «القوانين» (106)، و «المجموع» (6/ 261). (¬2) «الإنصاف» (3/ 289)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 212). (¬3) سورة البقرة: 185. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1948). (¬6) صححه الألباني: أخرجه الترمذي (799)، والبيهقي (4/ 247)، والدارقطني (2/ 187)، والضياء في «المختارة» (2602) وغيرهم، وللعلامة الألباني رسالة في تصحيحه فلتراجع. (¬7) أخرجه أبو داود (2412)، وأحمد (6/ 398)، والدارمي (1713)، والبيهقي (4/ 246) وانظر الرسالة المشار إليها قبله. (¬8) «نيل الأوطار» (4/ 271).

الثالثة: أن ينوي الصوم -وهو مسافر- ثم يبدو له أن يفطر: فيجوز له الفطر -إذا بدا له ذلك- للأدلة المتقدمة في الحالة الثانية، وبه قال الجمهور خلافًا للمالكية والحنفية (¬1). انقطاع رخصة الفطر للمسافر: تسقط رخصة الفطر للمسافر بأمرين: [1] إذا نوى الإقامة مطلقًا، أو مدة الإقامة (¬2): عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان وصام، حتى إذا بلغ الكديد الماء الذي بين قديد عُسفان، فلم يزل مفطرًا حتى انسلخ الشهر» (¬3). ومعلوم أن الفتح كان لعشر بقين من رمضان، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بمكة عشرة أيام أو أحد عشر على اختلاف الروايات، ولا شك أن فطره في هذه المدة لا ينفي الفطر فيما زاد عليها. فالحاصل أن من نوى الإقامة في بلده إقامة مطلقة فإنه يصوم ولا يفطر، وإن لم ينو الإقامة لكن أقام لقضاء حاجة له بلا نية الإقامة ولا يدري متى تنقضي فله أن يفطر والله أعلم. [2] إذا عاد إلى بلده: فإذا عاد إلى محل إقامته ليلاً، فإن كان الغد من رمضان وجب عليه الصوم بلا خلاف، أما لو قدم في النهار، فهل يمسك بقية يومه؟ فيه قولان، والأظهر أنه لا يلزمه الإمساك بل يبقى على فطرة وهذا مذهب الشافعي ومالك وصحَّ عن ابن مسعود أنه قال: «من أكل أول النهار فليأكل آخره» (¬4)، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمسك بقية اليوم، قياسًا على من يطرأ عليه في يوم الشك، وفيه نظر، لأن ذاك أكل لموضع الجهل، وهذا أكل لسبب مبيح (¬5). ¬

(¬1) «المغنى» (3/ 19)، و «المجموع» (6/ 260)، و «القوانين» (82)، و «ورد المحتار» (2/ 122). (¬2) مدة الإقامة التي يفطر فيها عند المالكية والشافعية: أربعة أيام، وعند الحنابلة أكثر من أربعة أيام، وعند الحنفية خمسة عشر يومًا؟! وهذه تحديدات ليس عليها دليل وانظر «المحلى» (6/ 244). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4275). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (9343). (¬5) «بداية المجتهد» (1/ 441 - 442).

ويتفرَّع على هذا فائدة وهي: إذا قدم المسافر أثناء النهار -من رمضان- وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت في أثناء النهار من حيض أو نفاس، أو برأت من مرض وهي مفطرة فله أن يجامعها ولا كفارة عليه (¬1). مسألة: رجل لم يصبر -يومًا- عن جماع زوجته، فهل له أن يسافر بها حتى يفطر ويجامعها؟ الظاهر أنه لا بأس بذلك، والله أعلم. [3، 4] الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يُرجى بُرْؤه: أجمع العلماء على أن الشيخ والعجوز العاجزين عن الصوم، يجوز لهما الفطر ولا قضاء عليهما، ثم اختلفوا فيما عليهما إذا أفطرا، فقال الجمهور: يطعمان عن كل يوم مسكينًا، وقال مالك: ليس عليهما إطعام إلا أنه استحبه (¬2) وقول الجمهور أقوى. والأصل في هذا قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬3). وعن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية فقال ابن عباس: «ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعما مكان كل يوم مسكينًا» (¬4)، وجمهور الصحابة -ومنهم ابن عباس على التحقيق كما سيأتي- يرون أنها منسوخة فعن سلمة بن الأكوع قال: «لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها» (¬5). وعلى القول بنسخها، فالآية في محل الاستدلال أيضًا، لأنها إن وردت في الشيخ الفاني -كما ذهب إليه بعض السلف- وإن وردت للتخيير فكذلك، لأن النسخ إنما يثبت في حق القادر على الصوم، فبقي الشيخ الفاني على حاله كما كان (¬6). ¬

(¬1) «المجموع» (6/ 268)، وهو قول الشافعي في «الأم» (2/ 62)، ومالك في «المدونة» (1/ 184). (¬2) «القوانين الفقهية» (82)، و «المجموع» (6/ 258)، و «المغنى» (3/ 79)، و «كشاف القناع» (2/ 309)، و «بداية المجتهد» (1/ 447). (¬3) سورة البقرة: 184. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4505) لكن قرأها ابن عباس (وعلى الذين يطوَّقونه) وهي شاذة وانظر تفسير الطبري (3/ 438). (¬5) أخرجه البخاري (4507). (¬6) «العناية على الهداية» (2/ 227 - مع فتح القدير).

ثم إن وضع الصوم عن الشيخ والعجوز هو الموافق للعمومات القاضية برفع الحرج. والمريض الذي لا يرجى برؤه في حكم الكبير (¬1). [5، 6] الحامل والمرضع: إذا خافت الحامل على الجنين، أو خافت المرضع على رضيعها قلة اللبن أو ضيعته ونحو ذلك بالصوم، فلا خلاف في أنه يجوز لهما الفطر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم» (¬2). لكن اختلف العلماء فيما يجب عليها إذا أفطرتا على خمسة أقوال: الأول: عليهما القضاء والإطعام عن كل يوم مسكينًا: وبه قال مالك والشافعي وأحمد (¬3) وعند الشافعية والحنابلة أنهما إذا أفطرتا خوفًا على نفسيهما فعليهم القضاء فقط!! الثاني: عليهما القضاء فقط: وهو مذهب الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور وأبي عبيد (¬4)، وهؤلاء اعتبروا دلالة اقتران المسافر بالحامل والمرضع في الحديث المتقدم، أو قاسوا الحامل والمرضع على المريض أو المسافر. وقد أُورد على هذا القول أن المسافر إنما لزمه القضاء بنص خارج عن الحديث وهو قوله تعالى {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ ...} (¬5). أما الحامل والمرضع فلا دليل على إيجاب القضاء عليهما، ثم بإمعان النظر في الحديث نرى أن المسافر إذا قصر الصلاة في السفر لا يطالب -بعد رجوعه- بإتمام ما كان قصره من ركعات، فليقل كذلك: إن الحامل والمرضع لا يلزمان بقضاء ما أفطرتاه!! (¬6). الثالث: عليهما الإطعام فقط دون القضاء: وهو عكس السابق، وبه قال ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب إسحاق، وهو اختيار العلامة الألباني، رحمهم الله. ¬

(¬1) «رد المحتار» (2/ 119)، و «المجموع» (6/ 258)، و «الروض المربع» (1/ 138). (¬2) حسن أخرجه أحمد (4/ 347)، وعبد بن حميد «المنتخب» (430) وحسنه شيخنا هناك. (¬3) نقله الترمذي عنهم (3/ 402 - التحفة) وانظر المصادر السابقة. (¬4) «بداية المجتهد» (1/ 446)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 394). (¬5) سورة البقرة: 185. (¬6) «جامع أحكام النساء» (2/ 395).

فعن ابن عباس قال: «رخص للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة في ذلك، وهما يطيقان الصوم، يفطران إن شاءا، ويطعمان كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما، ثم نسخ ذلك في هذه الآية: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1) وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كان لا يطيقان الصوم، والحبلى والمرضع إذا خافتا، وأطعمتا كل يوم مسكينًا» (¬2). وفي قوله: «ثبت» إشعار بأن هذا الحكم في حق من لا يطيق الصوم كان مشروعًا كما كان مشروعًا في حق من يطيق الصوم، فنسخ هذا، واستمر الآخر، وكل من شرعيته واستمراره إنما عرفه ابن عباس من السنة، وليس من القرآن (¬3). ويؤيد هذا أن ابن عباس أثبت هذا الحكم للحبلى والمرضع إذا خافتا، ومن الظاهر جدًّا أنهما ليستا كالشيخ والشيخة في عدم الاستطاعة، بل إنهما مستطيعتان، ولذا كان يأمر وليدة له حبلى أن تفطر ويقول: «أنت بمنزلة الكبير الذي لا يطيق الصيام فأفطري وأطعمي عن كل يوم نصف صاع من حِنْطَة» (¬4). فمن أين أعطاهما ابن عباس هذا الحكم مع تصريحه بأن الآية منسوخة؟! ذلك من السنة بلا ريب. وعن نافع قال: «كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملاً، فأصابها عطش في رمضان، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا» (¬5). الرابع: القضاء على الحامل، والقضاء والإطعام على المرضع: وبه قال مالك، وهو قول عند الشافعية (¬6). الخامس: ليس عليهما قضاء ولا إطعام: وهو مذهب ابن حزم (¬7) قال: وإذا سقط الصوم، فإيجاب القضاء عليهما شرع لم يأذن الله تعالى به، ولم يوجب الله ¬

(¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) صحيح: أخرجه ابن الجارود (381)، والبيهقي (4/ 230)، وانظر «الإرواء» (4/ 18). (¬3) أفاده الألباني -رحمه الله- في ش «الإرواء» (4/ 24) فعليه عن ابن عباس أن الآية منسوخة كما جزم به ابن حزم (6/ 264)، ولا تعارض بينه وبين قول ابن عباس في رواية البخاري «ليست منسوخة». (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7567)، والدارقطني (2/ 206) وصححه. (¬5) إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني (2/ 207)، وانظر «الإرواء» (4/ 20) (¬6) «المحلى» (6/ 265)، و «بداية المجتهد» (1/ 446)، و «المجموع» (6/ 273). (¬7) «المحلى» (6/ 263).

تعالى القضاء إلا على المريض والمسافر والحائض والنفساء ومتعمد القيء ... وأما تكليفهم إطعامًا .. فلا يجوز لأحد إيجاب غرامه لم يأت بها نص ولا إجماع ... اهـ. قلت: وأرجح هذه الأقوال أنهما تفطران وتطعمان عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما وهو قول ابن عباس وابن عمر ولا يُعلم لهما مخالف من الصحابة، ثم إن حديث ابن عباس له حكم الرفع لأنه حديث صحابي جاء في تفسير يتعلق بسبب نزول الآية، فهذا حديث مسند كما تقرر في علم المصطلح (¬1) والله أعلم. [ب] من يجب عليه الفطر وعليه القضاء: 1، 2 - الحائض والنفساء: أجمع العلماء على أن الحائض والنفساء لا يصح صومهما، ولا يجب عليهما، ويَحرُم عليهما، ويجب عليهما -بعد الطهر- قضاؤه (¬2). فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تَصُم؟ فذلك نقصان دينها» (¬3). وعن عائشة قالت: «كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (¬4). مسائل تتعلق بالحائض والصيام (¬5) إذا طهرت أثناء النهار: فإنها تتمادى في فطرها، فتأكل وتشرب وإن قدم زوجها من سفر وهو مفطر فله أن يجامعها، وليس لها أن تمسك بقية اليوم بنية الصيام. إذا طهرت قبل الفجر: ونوت الصيام صح صومها وإن أخرت الغسل لما بعد الفجر، وهذا قول الجمهور. ¬

(¬1) انظر: «تدريب الراوي» (1/ 192 - 193)، و «علوم الحديث» لابن الصلاح (ص 24). (¬2) «المغنى» (3/ 142)، و «المجموع» (6/ 259). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1951). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (335)، وأبو داود (259)، والترمذي (784)، والنسائي (4/ 191). (¬5) مستفاد من «جامع أحكام النساء» لشيخنا (2/ 391 - 393).

قضاء رمضان

هل تتناول المرأة دواءً يقطع الحيضة في رمضان؟ الحيض أمر كتبه الله على بنات آدم، ولم تكن النسوة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلفن ذلك ليصمن رمضان كاملاً، وعليه فلا يستحب ذلك. لكن إذا فعلت ذلك -ولم يكن هذا الدواء يضر بها- فلا بأس به، فإذا تناولته وانقطع دمها كان لها حكم الطاهرة فتصوم ولا إعادة عليها. والله أعلم. المستحاضة لا تمتنع من الصوم: ولا من الصلاة، بل يجبان عليها بإجماع العلماء. 3 - من خشي الهلاك بصومه: فيجب عليه الفطر (¬1). [جـ] من لا يجوز له الفطر: وهو كل مسلم، بالغ، عاقل، صحيح غير مريض، مقيم غير مسافر، والمرأة الطاهرة من الحيض والنفاس. قضاء رمضان 1 - من أفطر بغير عذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن من أفطر متعمدًا يجب عليه القضاء سواء كان بعذر أو بغير عذر، واختلف هؤلاء: فأوجب بعضهم على من أكل أو شرب: القضاء والكفارة قياسًا على الجماع (¬2) (!!) وهو قول ابن المبارك والثوري وإسحاق وأبي حنيفة ومالك وقال الشافعي وأحمد: عليه القضاء دون الكفارة. وذهب ابن حزم (¬3) إلى أنه لا يُشرع له القضاء إذا أفطر متعمدًا بغير عذر على أصله في أن العبادة المؤقتة محددة الطرفين إذا تركت من غير عذر لم يشرع قضاؤها إلا بنص جديد، فإيجاب صيام غير رمضان -الذي افترض عليه صيامه- بدلاً منه، إيجاب شرع لم يأذن به الله تعالى، قلت (أبو مالك): وهو مذهب قوي -كما تقدم تحريره في قضاء الصلوات الفائتة- ويؤيده هنا أنه لم يثبت أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمجامع في رمضان بالقضاء مع ثبوت الكفارة كما تقدم قريبًا، وقد صحَّ عن ¬

(¬1) «المحلى» (6/ 228)، و «المجموع» (6/ 262)، و «الدر المختار» (2/ 116)، و «القوانين الفقهية» (82). (¬2) قد مرَّ قريبًا أن أمر المجامع في رمضان بالقضاء لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬3) «المحلى» (6/ 180) مسألة (735).

ابن مسعود أنه قال: «من أفطر يومًا من رمضان من غير عذر ولا رخصة لم يجزِه صيام الدهر كله» (¬1) ونحوه عن أبي هريرة. قلت: لكن يخرج مما تقدم من تعمد التقيؤ فإنه يقضي لأجل النص فيه كما مرَّ في موضعه، والله أعلم. 2 - قضاء رمضان لا يجب على الفور: قضاء الفوات من رمضان -بعذر شرعي- لا يجب على الفور، وإنما وجوبه على التراخي وجوبًا مُوسَّعًا، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» (¬2). قال الحافظ في «الفتح» (4/ 191): وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان سواء كان [يعني التأخير] لعذر أو لغير عذر. اهـ. لكن يستحب المبادرة بالقضاء، لعموم قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (¬3). فائدة: إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان الذي بعده: فإنه يصوم رمضان الذي ورد عليه -كما أُمر- فإذا أفطر في شوال قضى الأيام التي كانت عليه فقط ولا مزيد على هذا، فلا يجب عليه إطعام ولا غيره، لعدم ثبوت شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة وابن حزم، وهو الراجح وقال مالك: يطعم في القضاء عن كل يوم مُدًّا مُدًّا عددها مساكين إن تعمد ترك القضاء وهو قول الشافعي (¬4). 3 - لا يجب التتابع في القضاء: لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬5). وقال ابن عباس: «لا بأس أن يفرق» (¬6)، ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (9784). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146). (¬3) سورة المؤمنون: 61. (¬4) «المحلى» (6/ 260، 261)، وانظر «المجموع» (6/ 412). (¬5) سورة البقرة: 184. (¬6) إسناده صحيح: علَّقه البخاري، ووصله عبد الرزاق (4/ 43)، والدارقطني (2/ 192)، والبيهقي (4/ 258) بسند صحيح.

وقال أبو هريرة: «يواتره إن شاء» (¬1)، وقال أنس: «إن شئت فاقض رمضان متتابعًا، وإن شئت متفرقًا» (¬2). وأما ما رُوى عن أبي هريرة مرفوعًا: «من كان عليه صوم رمضان، فليسرده ولا يقطعه» (¬3) فضعيف لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذهب إلى التخيير بين المتابعة والتفريق في قضاء الصيام الأئمةُ الأربعة (¬4). 4 - من مات وعليه صوم: اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم، هل يصوم عنه وليه؟ على ثلاثة أقوال: الأول: لا يُصام عنه لا في النذر ولا في قضاء رمضان: وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ومالك وظاهر مذهب الشافعي (¬5) وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (¬6). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬7). 3 - ما يُروى عن عبادة بن نسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مرض في رمضان فلم يزل مريضًا حتى مات لم يطعم عنه، وإن صح فلم يقضه حتى مات أطعم عنه» (¬8) ولا يصح. 4 - حديث عمرة: أن أمها ماتت وعليها صيام من رمضان فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: «لا، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين» (¬9). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني وانظر «الإرواء (4/ 95). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (9115)، والبيهقي (4/ 258). (¬3) ضعيف: أخرجه الدارقطني (2/ 191)، والبيهقي (4/ 259)، وانظر «الإرواء» (4/ 95). (¬4) «المحلى» (6/ 261)، و «مسائل أحمد» لأبي داود (ص 95)، و «المجموع» (6/ 312)، و «المغنى» (3/ 43). (¬5) «تهذيب السنن» (7/ 27 - مع العون)، و «المجموع» (6/ 412)، و «فتح القدير» (2/ 360). (¬6) سورة النجم: 39. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري مسلم (1631)، والترمذي (1376)، وأبو داود (2880)، والنسائي (3651). (¬8) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (7635). (¬9) إسناده ضعيف: أخرجه الطحاوي في «المشكل» (3/ 142)، وابن حزم في «المحلى» (7/ 4).

ورُوى عنها أنها قالت: «لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم» (¬1). قالوا: وهي التي روت قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صوم، صام عنه وليُّه» (¬2) فدل على أن العمل على خلاف ما روته!! 5 - عن ابن عباس أنه قال: «لا يصلِّي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد» (¬3). وهو راوي حديث الصوم عن الأم الذي سيأتي. 6 - تأوَّلوا: حديث «صام عنه وليه» بأن المراد: فعل عنه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام!! قال النووي في المجموع (6/ 419): هو تأويل باطل يرده باقي الأحاديث. 7 - قالت المالكية: عمل أهل المدينة على خلاف ذلك؟!!. الثاني: يُصام عنه النذور والقضاء مطلقًا: وهو مذهب أبي ثور وأحد قولي الشافعي -واختاره النووي- وأصحاب الحديث وابن حزم (¬4) واستدلوا: 1 - بحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليُّه» (¬5). 2 - حديث ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر [وفي رواية: «صوم نذر»] فأقضيه عنها؟ قال: «نعم، فدين الله أحق أن يُقضى» (¬6). 3 - حديث بريدة قال: بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتته امرأة فقالت: يا رسول الله، إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، فقال: «وجب أجرك، وردَّها عليك الميراث»، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها» ... الحديث (¬7). ¬

(¬1) إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه عبد الرزاق، والبيهقي (4/ 256). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (2918)، ومن طريقه ابن عبد البر في «التمهيد» (9/ 27)، والطحاوي في «المشكل» (6/ 176). (¬4) «المحلى» (7/ 2 - وما بعدها)، و «المجموع» (6/ 418)، و «الفتح» (4/ 228). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1149)، والترمذي (667).

4 - حديث ابن عباس «أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرًا فنجاها الله تعالى، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت بنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها» (¬1). 5 - أجابوا عن استدلال المانعين بقوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (¬2). بأن الذي أنزل هذه الآية هو الذي أنزل قوله {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬3) وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصيام دينًا، فعلم أن المراد: ليس للإنسان إلا ما سعى، وما حكم الله ورسوله أن له من سعي غيره عنه والصوم من جملة ذلك. 6 - وأجابوا عن حديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله ...» بأنه لا متعلَّق له بمسألتنا لأن فيه انقطاع عمل الميت، وليس فيه انقطاع عمل غيره عنه ولا المنع منه. 7 - أجابوا في فتوى ابن عباس وعائشة بأن الآثار عنهما فيها مقال، ولو صحت لكانت الحجة فيما روياه مرفوعًا دون فتواهما، كما هو مقرر في الأصول. الثالث: يُصام عنه النذر دون قضاء رمضان: وهو مذهب أحمد وإسحاق وأبي عبيد والليث (¬4) وحجتهم: 1 - أن حديث عائشة عام، وحديث ابن عباس خاص فيحمل عليه، ويكون المراد بالصيام الذي يصومه الولي صيام النذر. 2 - أن الثابت عن عائشة في منعها من الصيام عن الميت إنما هو في قضاء صيام الفرض لا النذر كما تقدم في أثر عمرة عنها وفيه: «إن أمها ماتت وعليها من رمضان ...»، فالظاهر أنها لا تمنع من صيام النذر عن الميت عملاً بما روته من العموم، فيدل على أنها لم تفهم الإطلاق الشامل لصوم رمضان غيره في مَرْويِّها. 3 - أن الثابت عن ابن عباس -وهو راوي الحديث الآخر في الصوم عن الميت- قوله: «إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاءٌ، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه» (¬5) ولا شك أنه الأدرى بمعنى مَرْوِيِّه. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3308)، والنسائي (3816). (¬2) سورة النجم: 39. (¬3) سورة النساء: 11. (¬4) «تهذيب السنن» (7/ 27 - العون)، و «الفتح» (4/ 228). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (2398)، وابن حزم (7/ 7).

4 - أن فرض الصيام جارٍ مجرى الصلاة والإسلام، فكما أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يُسلم أحد عن أحد، فكذلك الصيام، ومقتضى الدليل أن فعلهما عن الميت بعد موته لا يبرئ ذمته، ولا يقبل منه، ولا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله عليه. وأما النذر فإن الشارع لم يلزمه به ابتداءً وإنما ألزم به المكلف نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْن الذي استدانه، فدخلته النيابة. قلت (أبو مالك): والذي يترجح لديَّ أنه يصام عن الميت القضاء والنذر مطلقًا، لأن العام (في حديث عائشة) لا يُخَصَّصُ بأحد أفراده (في حديث ابن عباس) إلا عند التعارض -كما تقرر في الأصول- ولا تعارض هنا، ولذا قال الحافظ في «الفتح» (4/ 228): فحديث ابن عباس صورة مستقلة يسأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة. اهـ. والحاصل: أن من مات وعليه صيام لا يخلو من أحد ثلاثة: 1 - أن يتصل عذره في قضائه حتى يموت وهو غير قادر على قضائه، فهذا لا شيء عليه ولا على ورثته، ولا في تركته لا صيام ولا إطعام (¬1). 2 - أن يزول عذره ويتمكن من قضاء رمضان، ولا يقضيه حتى يموت، فهذا يُصام عنه. 3 - أن يموت وعليه نذر، فيصوم عنه ورثته. فائدتان: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» خبر بمعنى الأمر وتقديره (فليصم عنه وليه) وهذا الأمر للندب لا للإيجاب عند الجمهور (¬2) خلافًا لأهل الظاهر، ويقوي هذا رواية البزار ففيها (فليصم عنه وليه إن شاء) (¬3)، وهذا هو الموافق للقواعد فإن الأصل براءة الذمة وأن المكلف غير ملتزم بأداء ما ثبت في ذمة غيره إلا بدليل صريح. 2 - من مات وعليه صوم، وصام عنه رجال بعدد الأيام التي عليه جاز ذلك. وأما الإطعام فإن جمع وليه مسكين بعدد الأيام التي عليه وأشبعهم، جاز، كذلك فعل أنس بن مالك رضي الله عنه. ¬

(¬1) «المجموع» (6/ 414). (¬2) «فتح الباري» (4/ 228). (¬3) هذا لو صحت، وهي زيادة منكرة وانظر «تمام المنة» (ص: 427).

2 - صيام التطوع

2 - صيام التطوع (¬1) رغب الشرع في صيام أيام غير رمضان وهي: 1 - ستة أيام من شوال: يستحب أن يُتبع رمضان بصيام ست من شوال -لا يشترط تتابعها- لأن هذا يعدل صيام الدهر، فعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر» (¬2). وإنما كان ذلك كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والسنة بشهرين، كما في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان، فشهر بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بعد الفطر، فذلك تمام صيام السنة» (¬3). وقد استحب صيام هذه السنة كثير من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك إلى كراهة صيامها لئلا يُعتقد وجوبه إلحاقًا برمضان، ولا وجه لهذه الكراهة لمعارضتها النص الصحيح الصريح باستحبابها، ثم إن الإلحاق إنما خيف في أوَّل الشهر، أما في آخره فقد فصل بينه وبين غيره بيوم العيد الذي لا يجوز صومه (¬4). من كان عليه قضاء من رمضان، هل يصوم الستة قبل القضاء؟ الظاهر من حديث أبي أيوب المتقدم أن حوز فضيلة ثواب صوم الدهر مشروطة بصيام رمضان ثم إتباعه بست من شوال، فلا يقدم صيام الست على قضاء رمضان (¬5)، قلت: إلا أن يقال إن قوله «ثم أتبعه ستًّا» خرج مخرج الغالب فليس له مفهوم، فيجوز حينئذ صيام الست قبل قضاء رمضان لا سيما لمن ضاق عليه شوال لو قضى، وهذا يحتمله إطلاق حديث ثوبان، والله أعلم. ¬

(¬1) استفدت في هذا الباب مما جمعه أخي الفاضل: أسامة عبد العزيز -أثابه الله- في كتابه «صيام التطوع فضائل وأحكام». (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1164)، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، والنسائي في الكبرى (2862)، وابن ماجه (1716). (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 280)، والنسائي في الكبرى (2860)، وابن ماجه (1715). (¬4) «شرح مسلم» للنووي (3/ 238)، و «شرح العمدة» (2/ 556)، و «المغنى» (4/ 438)، و «فتح القدير» (2/ 349)، و «حاشية ابن عابدين» (3/ 421)، و «الاستذكار» (10/ 259). (¬5) أفاده العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- كما في «الممتع» (6/ 448).

2، 3 - صيام المحرم، وتأكيد التاسع والعاشر (عاشوراء): يستحب الإكثار من الصيام في شهر المحرم، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (¬1). ويتأكد الاستحباب في صيام العاشر من المحرم (عاشوراء)، فعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله» (¬2). وسئل ابن عباس عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: «ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر، يعني رمضان» (¬3). ويستحب أن يصوم قبله يوم التاسع من المحرم، لحديث ابن عباس قال: «حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع» قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬4). وقد ذهب إلى استحباب الجمع بين صيام التاسع والعاشر من المحرم: مالك والشافعي وأحمد حتى لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر (¬5). تنبيه: ذهب بعض العلماء إلى استحباب صيام الحادي عشر مع التاسع والعاشر مستدلين بما رُوى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا قبله يومًا وبعده يومًا» (¬6) لكنه حديث ضعيف جدًّا فليس فيه حجة لاستحباب صيام الحادي عشر، فلينتبه، والله أعلم. 4 - الإكثار من الصيام في شعبان: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه كله إلا قليلاً، فعن عائشة قالت: «كان رسول الله ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1163)، والنسائي في «الكبرى» (2905)، وابن ماجه (1742). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1162). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2006)، ومسلم (1132). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1134). (¬5) «شرح الزرقاني» (2/ 237)، و «المجموع» (6/ 383). (¬6) ضعيف جدًّا: أخرجه أحمد (2418)، والحميدي (485)، وابن خزيمة (2095) وغيرهم.

صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يُفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان» (¬1). تنبيهان: الأول: تخصيص صيام يوم النصف من شعبان بدعة: فمن لم يكن من عادته الإكثار من صيام شعبان أو صيام الأيام الثلاثة البيض، فخص يوم الخامس عشر من شعبان بالصيام معتقدًا اختصاصه بفضيلة، ففعله بدعة إذ لا يصح في فضل النصف من شعبان ولا صيامه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما ورد في هذا فهو شديد الضعف أو موضوع كحديث على مرفوعًا: «إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها ...» (¬2). الثاني: لا يثبت النهي عن الصيام بعد انتصاف شعبان: اختلف العلماء في صيام التطوع بعد انتصاف شعبان، فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب الشافعية إلى كراهته، مستدلين بحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» (¬3) لكنه ضعيف -على الراجح وقد أنكره الأئمة الذين يُدان بقولهم في هذا الشأن، فلا حرج في الصيام بعد انتصاف شعبان، ويؤيد هذا الأحاديث الصحيحة، كحديث عائشة المتقدم في صيام النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر شعبان، وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدمنَّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم» (¬4) ففيه النهي عن صوم يوم أو يومين فقط من آخر شعبان خشية أن يزاد في الشهر ويلحق به ما ليس منه، إلا أن يكون صومًا اعتاده فلا بأس، وعن أم سلمة قالت: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156). (¬2) ضعيف جدًّا: أخرجه ابن ماجه (1388). (¬3) منكر: أخرجه أبو داود (2337)، والترمذي (738)، والنسائي في «الكبرى» (2911)، وابن ماجه (1651)، وأحمد (2/ 442) وقد أنكره عبد الرحمن بن مهدي وأحمد ويحيى ابن معين وأبو زرعة وغيرهم، وقد تكلمت عليه في تعليقي على «شرح البيقونية» لابن عثيمين (ص 22 - 24)، وقد صححه العلامة الألباني رحمه الله!!. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082). (¬5) صحيح: أخرجه الترمذي (726)، والنسائي (4/ 150)، وابن ماجه (1648)، وأحمد (6/ 293).

5 - صيام يوم عرفة لغير الحاج: يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة، لحديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» (¬1). وتكفير السنتين إما أن يراد به أن الله تعالى يغفر له ذنوب سنتين [إذا اجتنبت الكبائر] أو أنه يعصمه في هاتين السنتين، فلا يعصى فيهما (¬2). لا يستحب للحاج صيام عرفة: فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، الفطر يوم عرفة بعرفة، فعن ميمونة رضي الله عنها: «أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب -وهو واقف في الموقف- فشرب منه، والناس ينظرون» (¬3). وسئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة بعرفة، فقال: «حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمر بصومه، ولا أنهي عنه» (¬4). والأفضل للحاج أن يفطر يوم عرفة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ولما فيه ن التقوية على الدعاء والذكر في هذا الموقف، وهذا مذهب جمهور العلماء (¬5). 6 - صيام الاثنين والخميس: فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس» (¬6). وسأل أسامة بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامه الاثنين والخميس، فقال صلى الله عليه وسلم: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1162). (¬2) «المجموع» للنووي (6/ 381) بنحوه. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1989)، ومسلم (1124). (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (751)، والنسائي في «الكبرى» (2826)، وأحمد (2/ 47). (¬5) «المجموع» (6/ 380)، و «التمهيد» (21/ 158)، و «شرح العمدة» لشيخ الإسلام (2/ 762). (¬6) صحيح: أخرجه الترمذي (745)، والنسائي (2186)، وابن ماجه (1739). (¬7) حسن: أخرجه النسائي (2357)، وأحمد (5/ 201)، والبيهقي في «الشعب» (3821).

7 - صيام ثلاثة أيام من كل شهر: فعن أب هريرة قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «... وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر ...» (¬2). ويستحب أن تكون الثلاثة البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر، صيام الدهر، أيام البيض صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة» (¬3). 8 - صوم يوم وفطر يوم (صوم داود عليه السلام): وهذا أفضل الصيام، وأعدله، وأحبه إلى الله عز وجل، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصوم إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا» (¬4) وفي رواية «وهو أعدل الصيام» (¬5). لكن هذا مشروط بمن لم يضيع ما أوجب الله عليه بسبب الصيام، فإن ضيع الفرائض أو انشغل به عن مؤنة أهله كان منهيًّا عنه (¬6). فائدة: يستحب أن لا يخلى شهرًا من صوم. عن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لعائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا معلومًا سوى رمضان؟ قالت: «والله إن صام شهرًا معلومًا سوى رمضان حتى مضى لوجهه، ولا أفطر حتى يصيب منه» (¬7). فيستحب أن لا يخلى شهرًا من صيام، فإن النفل غير مختص بزمان معين، بل السنة كلها صالحة له إلا ما نهى عن صومه وإن كان الأفضل الصيام من الأيام التي رغب الشرع في صيامها. والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1981)، ومسلم (821). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159). (¬3) صحيح لشواهده: أخرجه النسائي (2419)، وأبو يعلى (7504)، والطبراني في «الكبير» (2/ 2499) عن جرير، وله شواهد عن أبي ذر وقتادة بن ملحان. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159). (¬6) مستفاد من «الشرح الممتع» لابن عثيمين -رحمه الله- (6/ 474). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1156).

مسائل تتعلق بصيام التطوع

مسائل تتعلق بصيام التطوع 1 - تبييت النية من الليل: تقدم في «شروط صحة الصيام» أن مذهب الجمهور جواز إنشاء نية صيام التطوع أثناء النهار (¬1) لمن لم يأكل أو يشرب وأراد أن يصوم، وأنه لا يشترط تبييتها من الليل كصيام الفرض، لكن تبييتها قبل الفجر أحوط لاحتمال الأدلة. 2 - المتطوع أمير نفسه إن شاء أتم صومه وإن شاء أفطر ولا قضاء عليه: من دخل في صوم تطوع، فإن المستحب له أن يُتمَّه لكن إن بدا له أن يفطر فله ذلك ولا قضاء عليه وبه قال الشافعي وأحمد (¬2). واحتجوا بما رُوى عن أم هانئ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فأُتى بشراب فشرب، ثم ناولني، فقلت: إني صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المتطوع أمير نفسه، فإن شئت فصومي، وإن شئت فأفطري» (¬3). قلت: وهذا حديث ضعيف، لكن يشهد لمعناه حديث أبي جحيفة قال: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سليمان وأبي الدرداء، ... فصنع [أي سلمان] له طعامًا، فقال: كُلْ، قال: إني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، ... ، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حق، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان» (¬4). وفيه أن أبا الدرداء أفطر، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء. وحديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «يا عائشة، هل عندكم شيء؟ قالت: فقلت: يا رسول الله ما عندنا شيء، قال: «فإني صائم»، قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، أو جاءنا زور، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله أهديت لنا هدية أو جاءنا زور، وقد خبأت لك شيئًا، قال: ما ¬

(¬1) عند أبي حنيفة والشافعي في المشهور عنه: لا تصح النية إلا قبل الزوال، وعند أحمد وقول للشافعي أنه يصح في أي وقت من النهار وهذا قول أكثر السلف وهو الأعدل، والله أعلم. (¬2) «المجموع» (6/ 393)، و «شرح العمدة» (2/ 601). (¬3) ضعيف: أخرجه الترمذي (732)، والنسائي في «الكبرى» (3302)، وأحمد (6/ 341). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1968).

هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئت به، فأكل، ثم قال: «قد كنت أصبحت صائمًا» (¬1). وهذا نص في جواز الإفطار بعد إجماع الصيام، وقد ثبت هذا عن ابن عباس وابن مسعود وجابر بأسانيد صحيحة (¬2). وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن من أصبح متطوعًا فأفطر متعمدًا فعليه القضاء (¬3)، واحتجوا بما رُوى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ولحفصة لما كانتا صائمتين فأكلتا: «اقضيا يومًا آخر مكانه» (¬4) وهو ضعيف. واحتجوا بزيادة وردت في حديث عائشة -في فطره صلى الله عليه وسلم بعد صيامه- وهي قوله: «إني كنت أردت الصوم، ولكن أصوم يومًا مكانه» (¬5) وهي شاذة، وقاسوا إتمام صيام التطوع على إتمام الحج والعمرة، وهذا قياس مع الفارق، فإن من أفسد صلاته أو صيامه كان عاصيًا لو تمادى فيه فاسدًا، أما في الحج فهو مأمور بالتمادي فيه فاسدًا، ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده ثم يقضيه وليس كذلك الصوم والصلاة، فلا يقاس على الحج (¬6)، ثم هو ههنا قياس في مقابل النص فلا يعتبر به. 3 - هل يجوز صيام التطوع قبل قضاء رمضان؟ تقدم أن مذهب جماهير السلف والخلف جواز تأخير قضاء رمضان -لمن أفطر بعذر- مطلقًا وعدم اشتراط المبادرة بعد أول الإمكان. ثم اختلفوا في جواز التطوع قبل قضاء رمضان، فذهب الحنفية، ورواية عن أحمد إلى الجواز، وكرهه المالكية، واستحب الشافعية القضاء قبل التطوع، وعن أحمد رواية أخرى بعدم الجواز (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1154) وقد تقدم. (¬2) انظر «مصنف عبد الرزاق» (7767 - 7768 - 7771)، و «سنن البيهقي» (4/ 277). (¬3) «شرح معاني الآثار» (2/ 111)، و «المدونة» (1/ 183). (¬4) ضعيف: أخرجه الترمذي (735)، والنسائي في «الكبرى» (3291)، وأحمد (6/ 263). (¬5) شاذ: أخرجه النسائي في «الكبرى» (3300)، وعبد الرزاق (7793)، والدارقطني (2/ 177)، والبيهقي (4/ 275)، وقال النسائي: هذا خطأ، وقال البيهقي: وهو عند أهل العلم بالحديث غير مفحوظ. (¬6) نقله في «التمهيد» (12/ 77) عن الشافعي. (¬7) «البدائع» (2/ 104)، و «مواهب الجليل» (2/ 417)، و «المجموع» (6/ 375)، و «المغنى» (4/ 401).

قلت: لا يصح دليل في المنع من صيام التطوع قبل القضاء، بل يدل على الجواز أن الله تعالى أطلق القضاء بقوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). ويدل عليه كذلك حديث عائشة قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» (¬2). ولا شك أنها كانت تتطوع في أثناء العام، وكان هذا بعلم النبي صلى الله عليه وسلم فهو إقرار منه، ثم إن القضاء واجب يتعلق بوقت موسع، فجاز التطوع في وقته قبل فعله كالصلاة يتطوع في أول وقتها. والله أعلم. 4 - المرأة تستأذن زوجها في الصيام: لا يجوز للمرأة أن تصوم صيام تطوع في حضور زوجها بغير إذنه، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه» (¬3). وسبب هذا أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه منه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي (¬4). فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الفجر حتى تطلع الشمس، فقال صفوان: يا رسول الله، أما قولها يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتنا، قال: فقال: «لو كانت سورة واحدة لكفت الناس» وأما قولها: يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها» ... الحديث (¬5). فإذا كان زوجها غائبًا عنها فصومها التطوع جائز بلا خلاف، لمفهوم الحديث ولزوال معنى النهي (¬6). والله أعلم. ¬

(¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5192)، ومسلم (1026). (¬4) «البدائع» (2/ 107)، و «المدونة» (1/ 186)، و «شرح مسلم» للنووي (3/ 65). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2459)، وأحمد (3/ 84)، والبيهقي (4/ 303). (¬6) «المجموع» للنووي (6/ 392).

الأيام المنهي عن صيامها

الأيام المنهي عن صيامها 1، 2 - يوما العيدين: أجمع العلماء على تحريم صوم يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى بكل حال، سواء صامها عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك (¬1). لحديث أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» (¬2). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر» (¬3). 3 - أيام التشريق (¬4): ولا يجوز صومها تطوعًا في قول أكثر أهل العلم، لحديث نُبَيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب» (¬5). وعن أبي مرة مولى أم هانئ: أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو ابن العاص، فقرب إليهما طعامًا فقال: «كُل، فقال: إني صائم، فقال عمرو: «كُلْ، فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نفطرها، وينهانا عن صيامها» (¬6). لكن: يُرخَّص للحاج الذي لم يجد الهدي أن يصوم فيها -كما سيأتي- فعن عائشة وابن عمر قالا: «لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي» (¬7). 4 - صوم يوم الجمعة منفردًا: لا يجوز صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يومًا قبله، أو يومًا بعده، أو كان يصوم يومًا ويفطر يومًا فصادف صيامه الجمعة فلا بأس بذلك. ¬

(¬1) «شرح مسلم للنووي» (3/ 207)، و «المغنى» (4/ 424)، و «فتح الباري» (4/ 281). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1990)، ومسلم (1137). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1991)، ومسلم (1138). (¬4) هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر (يوم عيد الأضحى) وهي ثاني وثالث ورابع أيام عيد الأضحى. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1141). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (2418)، وأحمد (4/ 197). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1997 - 1998).

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده» (¬1). وعن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال: «أَصُمت أمس؟» قالت: لا، قال: «تريدين أن تصومي غدًا؟». قالت: لا، قال: «فأفطري» (¬2). وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وخالف في هذا أبو حنيفة ومالك فقالوا: لا يكره (¬3) واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر، وقلما يفطر يوم الجمعة» (¬4). ويجاب عنه بأجوبة: منها أن الأظهر أنه ضعيف، وعلى فرض صحته فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يومًا قبله أو بعده معه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال (¬5)، ثم إن هذا فعل وذاك قول، والقول مقدم، على الفعل عند التعارض وعدم إمكان الجمع. وأما مالك -رحمه الله- فلم يبلغه النهي، ومن علم حجةٌ على من لم يعلم. فائدة: إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة فلا حرج في إفراده بالصيام، فإن النهي إنما هو عن تعمده بعينه، والله أعلم (¬6). 5 - صيام يوم الشك: لا يجوز أن يستقبل رمضان بصيام يوم أو يومين على نية الاحتياط لرمضان، وهذا لمن لم يصادف عادة له (¬7)، أو يصله بما قبله، فإن لم يصِل ولا صادف عادة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (1144). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1984)، ومسلم (1143). (¬3) «حاشية ابن عابدين» (3/ 336)، و «الموطأ» (1/ 330)، و «شرح مسلم» (3/ 210)، و «المغنى» (4/ 427). (¬4) إسناده لين: أخرجه أبو داود (2450)، والترمذي (742)، والنسائي (2367)، وابن ماجه (1725) من طريقة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وعاصم له أوهام وروايته عن زر فيها مقال. (¬5) «التلخيص» (2/ 216)، و «سبل السلام» (2/ 347). (¬6) «شرح العمدة» (2/ 652)، و «الزاد» (2/ 86). (¬7) كأن تكون عادته صوم يوم وفطر يوم، أو صوم الاثنين أو الخميس ونحوه.

فهو حرام، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم» (¬1). وعن عمار بن ياسر قال: «من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬2). 6 - صيام الدهر: عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنه يسرد الصوم قال له: «لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد» (¬3). وفي حديث أبي قتادة: قال عمر: يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: «لا صام ولا أفطر» (¬4). فيكره صوم الدهر، وإن لم يجد مشقة أو ضعفًا، وكذلك لو لم يصم الأيام المنهي عن صيامها، فإن صامها كذلك فيحرم عليه. والله أعلم. هل يُشرع صيام رجب؟ لم يصح في فضل صيام رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة مكذوبة (¬5). فلا يجوز تحري صيام رجب خاصة أو تخصيص أوله بصيام، وقد كان عمر يضرب على صيامه، فعن خرشة بن الحر قال: «رأيت عمر يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كان يعظمه أهل الجاهلية» (¬6). وعن محمد بن زيد قال: «كان ابن عمر إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كره ذلك» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (2334)، والترمذي (681)، والنسائي (4/ 153)، وابن ماجه (1645). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1977)، ومسلم (1159). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1162). (¬5) «مجموع الفتاوى» (25/ 290)، و «لطائف المعارف» (ص 228)، و «السيل الجرار» (2/ 143). (¬6) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 102)، وابن كثير في «مسند الفاروق» (1/ 285). (¬7) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 102).

وعن عطاء قال: «كان ابن عباس ينهى عن صيام رجب كله، لأن لا يتخذ عيدًا» (¬1). وذهب بعض أهل العلم إلى استحباب صيام رجب لكونه من الأشهر الحرم (¬2). قلت: الأشهر الحرم قد خصها الله تعالى بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها وإن كان منهيًّا عنه في كل زمان قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} (¬3). فهذا نهي عن ارتكاب الذنوب في هذه الأشهر لعظم حرمتها عند الله تعالى وأن العقاب قد يضاعف فيها على الذنوب، وكذلك يُضاعف الثواب على العمل الصالح، لكن هل يعني هذا أن تخصص هذه الأشهر بصيام من بين الشهور، لا سيما ولا يصح في هذا شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الباهلي: «صم من الحرم واترك» (¬4) وهو ضعيف؟ هذا على أن لتفسير الآية الكريمة وجهًا آخر، وهذا أن المراد بقوله تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}: لا تُصيِّروا حرام هذه الأشهر حلالاً، وحلالها حرامًا (¬5). فالثابت هو الصيام في المحرم كما تقدم بيانه، أما صيام رجب وتخصيصه بذلك -لا سيما مع اعتقاد أفضليته- فلا يجوز، فإن صام منه غير معظم لأمر الجاهلية، من غير أن يجعله حتمًا، أو يخص منه أيامًا يواظب على صومها أو ليالٍ معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنه سنة، إن خلا صيامه من هذا فلا بأس حينئذ والله أعلم (¬6). حكم إفراد السبت بالصوم: عن عبد الله بن بُسر عن أخته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة، أو عود شجرة فليمضغه» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7854). (¬2) «المجموع» (6/ 386)، و «مقدمات ابن رشد» (1/ 242)، و «نيل الأوطار» (4/ 293). (¬3) سورة التوبة: 36. (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (2428)، والنسائي في «الكبرى» (2743)، وأحمد (5/ 28). (¬5) «تفسير الطبري» (6/ 366). (¬6) انظر «تبيين العجب بما ورد في فضل رجل» للحافظ بن حجر (ص: 70). (¬7) أعلَّه الأئمة: أخرجه أبو داود (2421)، والترمذي (744)، والنسائي في «الكبرى» (2762)، وابن ماجه (1726)، وأحمد (6/ 368)، وقال مالك: كذب، وقال أبو داود: منسوخ، وقال الحافظ: مضطرب، وقال الطحاوي: شاذ، وكذا شيخ الإسلام وغيرهم وقد تكلمت عليه في تعليقي على «شرح المنظومة البيقونية» لابن عثيمين (ص: 24).

وقد اختلف أهل العلم في فقه هذا الحديث على قولين: الأول: جواز صيام السبت تطوعًا ولو مفردًا: وهذا مذهب مالك، ويفهم من كلام أحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم (¬1)، وهؤلاء ضعَّفوا الحديث، وقدموا عليه الأحاديث الصحاح التي تحث على صيام عرفة وست من شوال وعاشوراء وصيام ثلاثة أيام البيض وصيام يوم وإفطار يوم، فلابد أن يوافق أحد هذه الأيام يوم السبت!! وكذلك حديث صيام يوم قبل الجمعة أو يومًا بعده، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لجويرية لما صامت الجمعة: «أتريدين أن تصومي غدًا»؟ ... وكل هذا تقدم. الثاني: كراهة إفراد السبت بالصيام: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والحنابلة (¬2)، وقد حملوا هذا الحديث على المنع من إفراده بالصوم لأنه تشبه باليهود، وأيدوا هذا بما رُوى عن ابن عباس أن أم سلمة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، كان يقول: «إنهما عيدان للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم» (¬3). قلت: أما حديث عبد الله بن بسر فقد تضافرت أقوال الأئمة على إعلاله، وعليه فلا حرج في صيامه لا سيما إن وافق يومًا ندب الشرع إلى صيامه، والله أعلم. كراهة وِصال الصوم: يكره مواصلة الصوم ومتابعة بعضه بعضًا دون فطر أو سحور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والوصال» -قالها ثلاثًا- قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: «إنكم لستم في ذلك مثلي، إني ابيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون» (¬4) لكن إذا لم تكن هناك مشقة فلا بأس بالوصال إلى السحر فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر» (¬5). ¬

(¬1) «الإنصاف» (3/ 347)، و «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 575)، و «مختصر السنن» (3/ 298). (¬2) «المجموع» (6/ 440)، و «البدائع» (2/ 79)، و «المغنى» (4/ 428). (¬3) ضعيف: أخرجه النسائي في «الكبرى» (2776)، وأحمد (6/ 323) وغيرهما بسند ضعيف. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1966)، ومسلم (1103) عن أبي هريرة. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1967)، وأبو داود (2344).

ليلة القدر

ليلة القدر فضلها: قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬1). وقد انتظمت هذه السورة الكريمة جملة فضائل لهذه الليلة (¬2): 1 - إن الله عز وجل أنزل القرآن في هذه الليلة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (¬3). 2 - أن الله عز وجل عظَّم شأنها بذكرها وبقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}. 3 - أن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. 4 - أن الملائكة تتنزل في هذه الليلة، قيل: تتنزل بالرحمات والبركات والسكينة وقيل: تتنزل بكل أمر قضاه الله وقدَّره لهذه السنة، كما قال سبحانه {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (¬4). 5 - أن الأمن والسلام يحل في هذه الليلة على أهل الإيمان، وتسليم الملائكة يتوالى عليهم فيها. 6 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬5). أي ليلة هي؟ لا شك أن ليلة القدر في رمضان لقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬6). مع قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬7). ¬

(¬1) سورة القدر: 1 - 5. (¬2) «التسهيل لتأويل التنزيل» لشيخنا العدوي (جزء عم 2/ 448). (¬3) سورة الدخان: 3. (¬4) سورة الدخان: 4، 5. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (759). (¬6) سورة القدر: 1. (¬7) سورة البقرة: 185.

وأما تحديدها فقال الحافظ ابن حجر: وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافًا كثيرًا، وتحصَّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً اهـ. [ثم ذكر هذه الأقوال وأدلة أصحابها] (¬1). والأكثرون على أنها في العشر الأواخر من رمضان لحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «... فابتغوها في العشر الأواخر» (¬2). وأكثرهم على أنها في الوتر من العشر الأواخر لقوله صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر» (¬3). وأكثرهم كذلك على أنها ليلة السابع والعشرين وهو قول جماعة من الصحابة وبه جزم أبي ابن كعب وحلف عليه كما في صحيح مسلم (¬4). قلت: الذي يظهر لي أن ليلة القدر في العشر الأواخر وأوتار العشر آكد وأنها تنتقل فيها، وأنها لا تختص بليلة السابع والعشرين، فإن ما جاء عن أُبيٍّ أنها ليلة السابع والعشرين هذا في سنة ولا يعني تعيينها في كل سنة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وافق ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين، كما في حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم فقال: «إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين» ... قال أبو سعيد: مطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه مُبْتَلٌّ طينًا وماءً (¬5). وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها والله أعلم. إخفاء ليلة القدر: وإنما أخفيت ليلة القدر ليجتهد العباد في الطاعة في جميع الليالي، رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر، فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله، فهذا هو السر في عدم تعيينها، ولعله يشير إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني ¬

(¬1) «فتح الباري» (4/ 309 - سلفية). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2018)، ومسلم (1167) عن أبي سعيد. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2017). (¬4) صحيح مسلم (762)، والترمذي (3351). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2018)، ومسلم (1167).

خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرُفعت [يعني: رُفع علمها]، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها ...» (¬1). كيف يتحرى المسلم ليلة القدر؟ هذه الليلة المباركة من حُرِمها فقد حُرِم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم، لذلك ينبغي للمسلم الحريص على طاعة الله أن يحييها إيمانًا وطمعًا في أجرها العظيم، وأن يجتهد في العشر الأواخر أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد ما لا يجتهد في غيرها» (¬2). وعليه أن يكثر من القيام في هذه الليالي وأن يعتزل النساء ويحث أهله على الطاعة فيها، فعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، شدَّ مئزره (¬3)، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» (¬4). حتى يكون حريًّا بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬5). الدعاء فيها: ويستحب الدعاء فيها والإكثار منه لا سيما بالدعاء الوارد في حديث عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن عملت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عَفُوٌّ تحب العفو فاعفُ عني» (¬6). علامات ليلة القدر: ليلة القدر لها علامات تُعرف بها، ومن هذه العلامات ما يكون في الليلة نفسها مثل: 1 - أن يكون الجو مناسبًا والريح ساكنة، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة سمحة، طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2023). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1174). (¬3) أي اعتزل النساء لأجل العبادة، وشمَّر في طلبها وجدَّ في ذلك. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2024)، ومسلم (1174). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) صحيح: أخرجه الترمذي (3760)، وابن ماجه (3850). (¬7) حسن: أخرجه الطيالسي (349)، وابن خزيمة (3/ 231)، والبزار (1034).

الاعتكاف

2 - الطمأنينة والسكينة التي تنزل بها الملائكة، فيحس الإنسان بطمأنينة القلب، ويجد من انشراح الصدر ولذة العبادة في هذه الليلة ما لا يجده في غيره. 3 - قد يراها الإنسان في منامه، كما حصل لبعض الصحابة. ومن العلامات ما يكون لاحقًا مثل: 4 - أن تطلع الشمس في صبيحتها صافية لا شعاع لها، فعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صبيحة ليلة القدر تطلع الشمس لا شعاع لها، كأنها طَسْت، حتى ترتفع» (¬1). تنبيه: للعامَّة حول علامات ليلة القدر خرافات كثيرة، واعتقادات فاسدة، منها أن الشجر يسجد وأن المباني تنام، وأن المالحة تعذب في تلك الليلة وأن الكلاب تكف عن النباح وغير ذلك مما هو ظاهر الفساد والبطلان. الاعتكاف 1 - معناه: الاعتكاف هو الإقامة على الشيء، فقيل لمن لازم المسجد وأقام فيه للعبادة: معتكف وعاكف (¬2). 2 - مشروعيته: يستحب الاعتكاف في رمضان، لحديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قُبض منه اعتكف عشرين يومًا» (¬3). وأفضله آخر رمضان، لما ثبت عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل» (¬4). وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف آخر العشر من شوَّال، قضاءً لاعتكاف رمضان فإنه لم يعتكف ذلك في رمضان (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1174). (¬2) «المصباح المنير» (2/ 424)، و «لسان العرب» (9/ 252). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2044). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2026)، ومسلم (1172). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2041)، ومسلم (1173).

فإن نذر الإنسان أن يعتكف يومًا أو أكثر وجب عليه الوفاء بنذره، فعن عمر بن الخطاب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: «فأوف بنذرك [فاعتكف ليلة] ..» (¬1). 3 - لا يشرع الاعتكاف إلا في المسجد: لقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬2). ولأنه معتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أزواجه، ولو كان يصح الاعتكاف لما اعتكف أزواجه صلى الله عليه وسلم في المسجد مع المشقة في ملازمته، ولو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يشرع الاعتكاف في كل مسجد -على اختلاف بينهم في اشتراط كونه جامعًا ونحوه -لعموم قوله تعالى: {فِي الْمَسَاجِدِ}. وقال قوم: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وبه قال حذيفة وسعيد بن المسيب (¬3)، ومذهب الجمهور أرجح، وأما ما يُروى عن حذيفة مرفوعًا: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» (¬4) فاخُتلف في رفعه ووقفه. 4 - ويُشرع اعتكاف النساء بشرطين: يشرع للنساء الاعتكاف، فعن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها ... الحديث» (¬5). وعنها قالت «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (¬6)، ويشترط لاعتكاف المرأة أمران: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2042)، ومسلم (1656). (¬2) سورة البقرة: 187. (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 466 - الكتب العلمية). (¬4) أخرجه البيهقي (4/ 316)، والإسماعيلي كما في «معجم شيوخه» (3/ 721)، والذهبي في «السير» (15/ 81)، وابن الجوزي في «التحقيق» (1181) من طريق ابن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن حذيفة به مرفوعًا، واختلف على ابن عيينة فرواه عند عبد الرزاق (8016)، ومن طريقه الطبراني (6/ 301 - 302) بسنده عن حذيفة موقوفًا، وتابعه إبراهيم عن حذيفة موقوفًا عند عبد الرزاق (8014)، والطبراني (9/ 301). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2045)، ومسلم (1172). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (2026)، ومسلم (1172).

(أ) إذن زوجها: لأنها لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وقد تقدم في حديث عائشة أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم وكذا حفصة وزينب لأجل الاعتكاف. فائدة: إذا أذن لها الزوج في الاعتكاف، فهل له أن يخرجها منه؟ (¬1). - إذا كان اعتكافها تطوعًا فله أن يخرجها منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذنته عائشة في الاعتكاف وتبعتها حفصة ثم زينب، خاف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه، فأخرجهن وقال: «... آلبر أردت؟ ما أنا بمعتكف ...» (¬2). - وإذا كان اعتكافها واجبًا (كالنذر مثلًا): فإما أن يكون نذرًا متتابعًا (نذرت اعتكاف العشر الأواخر) وأذن زوجها فليس له أن يخرجها منه، وإن لم تكن اشترطت التتابع في نذرها فله أن يخرجها ثم تستدرك فيما بعد بقية النذر (¬3). (ب) أن لا يكون في اعتكافها فتنة: فالمرأة تعتكف ما لم يكن في اعتكافها فتنة، فإن ترتب على اعتكافها فتنة لها أو للرجال، فتمنع ولا تُمكَّن منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع أزواجه من الاعتكاف فيما دون ذلك كما تقدم في حديث عائشة. 5 - هل يشترط الصوم للاعتكاف؟ (¬4) اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين (¬5): الأول: لا يصح الاعتكاف إلا بصوم: وهو مذهب أبي حنيفة (¬6) ومالك وأحمد -في إحدى الروايتين- وهو مروي عن عائشة وابن عباس وابن عمر، وحجتهم: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في رمضان، ولم يعرف مشروعية الاعتكاف إلا بصوم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه أنهم اعتكفوا بغير صوم. ¬

(¬1) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 247) عن «جامع أحكام النساء» (2/ 416) بتصرف. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «المجموع» للنووي (6/ 476). (¬4) فائدة هذا محلُّها: إذا اعتكف في غير رمضان لنذر أو نحوه، أو كان مفطرًا في رمضان بعذر وأراد أن يعتكف. (¬5) «بداية المجتهد» (1/ 470)، و «تهذيب السنن» (7/ 104 - 109 - مع عون المعبود). (¬6) اشتراط الصوم للاعتكاف عند أبي حنيفة خاص باعتكاف النذر فقط.

2 - اقتران الاعتكاف مع الصوم في آية واحدة. 3 - حديث عائشة قالت: «السُّنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة ولا يمسَّ امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بُدَّ منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (¬1) وقد رُوى عنها مرفوعًا ولا يصح. الثاني: لا يشترط الصوم للاعتكاف وإنما يستحب: وهو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وهو مروي عن عليٍّ وابن مسعود، وحجتهم: 1 - أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: «فأوف بنذرك»، فاعتكف ليلة» (¬2). قالوا: والليل ليس بمحل للصيام، وقد جوَّز الاعتكاف فيه. 2 - في رواية لحديث عائشة الذي تقدم -في اعتكاف أزواجه صلى الله عليه وسلم- فقال لما رأى أخيبة أزواجه: «آلبرَّ تُرِدْن؟» فأمر بخبائه فقُوِّض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، حتى اعتكف في الأوَّلِ من شوال» (¬3). قالوا: وأول شوال وهو يوم الفطر لا يحل صومه. 3 - ما رُوى عن ابن عباس مرفوعًا: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» (¬4) وهو ضعيف، والصواب وقفه. 4 - أن الاعتكاف عبادة مستقلة بنفسها، فلم يكن الصوم شرطًا فيها كسائر العبادات. 5 - أنه لزوم مكان معين لطاعة الله تعالى، فلم يكن الصوم شرطًا كالرباط. قلت: والأظهر أنه لا يشترط الصوم لاعتكاف وإنما يستحب، والله أعلم. ¬

(¬1) إسناده جيد: أخرجه أبو داود (2473)، والبيهقي (4/ 315)، وقد اختلف في ثبوت قولها «السنة»، بل جزم الدارقطني بأن اللفظ كله مدرج من كلام الزهري، لكن ردَّه الألباني في «الإرواء» (4/ 140). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2042)، ومسلم (1656). (¬3) صحيح: أخرجه هذا اللفظ مسلم (1172). (¬4) ضعيف: أخرجه الحاكم (1/ 605) والبيهقي (4/ 318)، والدارقطني (2/ 199) بسند ضعيف والصواب وقفه على ابن عباس.

6 - أقل مدة للاعتكاف (¬1): ذهب الجمهور ومنهم أبو حنيفة والشافعي إلى أن زمان الاعتكاف لا حَدَّ لأَقلِّه، وقال مالك: أقله يوم وليلة، وعنه: ثلاثة أيام، وعنه: عشرة أيام. والظاهر أن من اعتقد أن من شرط الاعتكاف الصوم، قال: لا يجوز اعتكافه ليلة، فلا أقل من يوم وليلة إذ انعقاد النهار إنما يكون بالليل. قلت: والأظهر أن أقلَّه ليلة لحديث عمر لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره فاعتكف ليلة وقد تقدم في المسألة السابقة، وأما قول الجمهور بأنه يجزئ أقل من ليلة ولو لحظة من ليل أو نهار، فهذا يحتاج إلى دليل. 7 - متى يدخل المعتكف ومتى يخرج؟ من نذر أن يعتكف أيامًا معدودة، أو أراد أن يعتكف العشرة الأخيرة من رمضان فالسنة أن يدخل المعتكف بعد صلاة الفجر أول هذه الأيام (الحادي والعشرين) هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباءً فيصلي الصبح ثم يدخله ...» (¬2) وهو قول الأوزاعي والليث والثوري. وذهب الأئمة الأربعة وطائفة إلى أنه يدخل قبيل غروب الشمس (يوم العشرين) وأوَّلوا الحديث على أنه دخل أول الليل وإنما تخلى بنفسه في الخباء بعد صلاة الصبح، قالوا: لأن العشر اسم لعدد الليالي فيلزم أن يبدأ قبل ابتداء الليلة. قلت (أبو مالك): الحديث يلزم منه أحد أمرين: إما أن يكون شرع في الاعتكاف من الليل -كما قالوا- وإنما دخل خبائه بعد الفجر، فهذا يشكل على من منع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها. وإما أن يكون إنما شرع في الاعتكاف بعد الفجر، ويقوي هذا -عندي- حديث أبي سعيد الخدري: «اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين ...» (¬3). ففيه أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يعتكف العشر الأوسط كان يخرج صبيحة العشرين فيكون دخوله فجر العاشر، فوافق حديث عائشة والله أعلم. ¬

(¬1) «بداية المجتهد» (1/ 468)، و «فتح الباري» (4/ 319). (¬2) صحيح: تقدم تخريجه. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2036)، وقد تقدم.

وأما الخروج: فعلى القول الأول: يخرج بعد فجر يوم العيد إلى المصلى، وهذا استحبه مالك، وعلى القول الثاني يخرج بعد غروب الشمس آخر يوم من رمضان، والله أعلم. 8 - ما يبطل به الاعتكاف: يبطل الاعتكاف بواحد مما يلي: (أ) الخروج من غير عذر شرعي ولغير الحاجة المُلحَّة: فلا يخرج من المسجد إلا لما لابد منه حسًّا أو شرعًا، ومثال الأول: أن يخرج للحصول على الأكل والشرب وقضاء الحاجة إن تعذر هذا بدون الخروج. ومثال الثاني: أن يخرج ليغتسل من جنابة أو ليتوضأ إذا تعذر فعله في المسجد، فهذا مما لابد منه شرعًا. فعن عائشة قالت: «وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدخل رأسه -وهو في المسجد- فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفًا» (¬1). وقد تقدم قولها: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا ما لابد منه». ويؤيده حديث عمرة قالت: «كانت عائشة في اعتكافها إذا خرجت إلى بيتها لحاجتها، تمرُّ بالمريض فتسأل عنه وهي مجتازة لا تقف عليه» (¬2). إذا اشترط في نيته الخروج لشيء معين: كأن يشترط أن يخرج للجنازة أو إلى عمله نهارًا -كما يفعل بعض الموظفين- فأكثر الفقهاء على أن شرطه لا ينفعه، وأنه إن فعل بطل اعتكافه. وقال الثوري والشافعي وإسحاق -وهو رواية عن أحمد- أنه إن اشترط في ابتداء اعتكافه لم يبطل بفعله كالاشتراط في الحج. (ب) الجماع: أجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته في فرجها وهو معتكف عامدًا لذلك [ذاكرًا اعتكافه] أنه يبطل اعتكافه (¬3). لقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2029)، ومسلم (297). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (8055). (¬3) «تفسير القرطبي»، و «بداية المجتهد» (1/ 470)، و «الفتح» (4/ 272)، و «السيل الجرار» (2/ 136). (¬4) سورة البقرة: 187.

فالجماع قد نهي عنه بخصوصه في عبادة، ففعله يبطلها (¬1). وأما المباشرة بما دون الجماع: فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها، كأن تغسل رأسه أو فعليه أو تناوله شيئًا، لحديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصغى إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض» (¬2) وإن كانت عن شهوة فهي محرمة لهذه الآية، فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه، وإن لم ينزل لم يفسد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر: يفسد في الحالين، وهو قول مالك، لأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل، قال ابن قدامة: ولنا أنها مباشرة لا تفسد صومًا ولا حجًا فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة لغير شهوة. اهـ (¬3). 9 - ما يجوز للمعتكف: (أ) الخروج للحاجة التي لابد منها: كالخروج للأكل أو الشرب أو قضاء الحاجة إذا تعذر فعله في المسجد، كما تقدم. (ب) اشتغال المعتكف بالأمور المباحة: من تشييع (توصيل) زائره والقيام معه إلى باب المسجد، والحديث مع غيره. (جـ، د) زيارة المرأة للمعتكف، وخلوة المعتكف بزوجته: وهذه الأمور الثلاثة الأخيرة مستفادة من حديث صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم: «أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة ...» الحديث (¬4). (هـ) غسل المعتكف ووضوؤه في المسجد: فعن رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «توضأ النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وضوءًا خفيفًا» (¬5) وقد تقدم غَسل عائشة وترجيلها رأس النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) «الشرح الممتع» (4/ 525). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2029). (¬3) «المغنى» (3/ 199). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2035)، ومسلم (2175). (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 364)، بسند صحيح.

(و) اتخاذ خيمة في مؤخرة المسجد يعتكف فيها: لأن عائشة رضي الله عنها كانت تضرب للنبي صلى الله عليه وسلم خباءً إذا اعتكف (¬1)، وكان ذلك بأمر منه صلى الله عليه وسلم (¬2). (ز) أن يضع فراشه أو سريره في المسجد: فعن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف طُرح له فراش أو يوضع له سرير وراء إسطوانة التوبة» (¬3) ويشعر بهذا حديث أبي سعيد ففيه: «... فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا ...» الحديث (¬4). (ح) الخطبة وعقد الزواج للمعتكف (¬5): وهذا لا بأس لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب فلم تحرم النكاح كالصوم وهذا مشروط بعدم الجماع كما تقدم. (ط) ويجوز اعتكاف المرأة المستحاضة (¬6): لكن ينبغي لها أن تتحفظ لئلا تلوث المسجد، فلها أن تخرج لتتحفظ ونحوه، صيانة للمسجد. فعن عائشة قالت: «اعتكَفَتْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مستحاضة من أزواجه فكانت ترى الحمرة والصفرة فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي» (¬7). هل يجوز للحائض الاعتكاف؟ اعتكاف الحائض مبني على مسألتين، الأولى: هل يلزم للاعتكاف صوم؟ والثانية: هل تدخل الحائض المسجد؟ فمن رأى أنه يلزم للاعتكاف صوم منع اعتكافها لأنها لا تصوم، وكذلك من رأى أن الحائض لا تدخل المسجد يمنع اعتكافها فيه (¬8). وقد تقدم تحرير المسألتين في موضعهما من هذا الكتاب فليراجع، والله أعلم. فائدة: إذا اعتكفت المرأة في المسجد استترت بشيء: فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربت في المسجد، ولأن المسجد يحضره ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2023). (¬2) صحيح: مسلم (1173). (¬3) حسن: أخرجه ابن ماجه (642 - الزوائد). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2040). (¬5) «الموطأ» (1/ 318)، و «المحلى» (5/ 192)، و «المغنى» (3/ 205). (¬6) «المجموع» (6/ 520)، و «المغنى» (3/ 209). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (2037)، ومسلم (2476). (¬8) «جامع أحكام النساء» (2/ 430) وما بعدها.

الرجال، وخير لهم وللنساء أن لا يرونهن ولا يرينهم، فإن كان للنساء مكان مخصص في المسجد فهو الأفضل (¬1). 10 - من آداب الاعتكاف: يستحب للمعتكف أن يشغل نفسه بطاعة الله، كالصلاة وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، واستغفاره والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتفسير القرآن ودراسة الحديث ونحو ذلك. ويكره أن يشغل نفسه بما لا يفيد من الأقوال والأفعال، أو أن يتخذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين، وأخذه بأطراف الأحاديث بينه وبين مجالسيه، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون آخر. ¬

(¬1) انظر كتابي: «فقه السنة للنساء» (ص: 247) ط. التوفيقية.

6 - كتاب الحج والعمرة

6 - كتاب الحج والعمرة

أولا: الحج

أولاً: الحج تعريف الحج: الحج -بفتح الحاء ويجوز كسرها وهو شاذ- لغةً: أصله القصد، فيقال (حَجَّهُ حجًّا) أي: قصده، وقيل: هو من قولك: (حججته) إذا أتيته مرة بعد أخرى، وقيل غير ذلك، والأول هو المشهور (¬1). والحج -في اصطلاح الشرع-: قصد بيت الله الحرام والمشاعر لأداء عبادة مخصوصة في زمن مخصوص بكيفية معينة. حُكْم الحَجِّ: الحج فرض عين على كل مكلف مستطيع في العمر مرة، وهو ركن من أركان الإسلام، وقد ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع: (أ) أما الكتاب: فقد قال الله سبحانه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬2). (ب) وأما السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة جدًّا -بلغت حد التواتر- تفيد اليقين والعلم القطعي الجازم بثبوت هذه الفريضة (¬3)، ومن ذلك: 1 - حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (¬4). 2 - حديث أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحُجُّوا»، فقال رجل: أَكُلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلتُ نعم لوجبت، ولما استطعتم ...» (¬5) الحديث. ¬

(¬1) سورة آل عمران: 97. (¬2) تاج العروس، و «المجموع» (7/ 7). (¬3) انظر «الترغيب والترهيب» (2/ 211). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16) وغيرهما. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1337).

وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب الحج - على المستطيع- مرة واحدة في العمر (¬1)، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة يكفر جاحده (¬2). هل يجب الحج على الفورية أو التراخي؟ ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة -في أصح الروايتين- وأبو يوسف، ومالك وأحمد (¬3) إلى أن من وجدت عنده شروط وجوب الحج -التي ستأتي- وتحقق فرض الحج عليه، فإنه يجب عليه الفور، وأنه يأثم بتأخيره واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬4). 2 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» (¬5). والأصل في الأمر أن يكون على الفور ما لم يصرفه صارف (¬6). 3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج فليتعجل» (¬7). 4 - وبما روى مرفوعًا: «من ملك زادًا وراحلة تبلغ إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًّا» (¬8). بينما هب الشافعي ومحمد بن الحسن وبعض السلف إلى أنه يجب على التراخي، فلا يأثم بتأخير الحج -مع الاستطاعة- بشرط العزم على فعله في ¬

(¬1) هذا إذا لم ينذر أن يحج، فإن نذره وجب عليه أيضًا. (¬2) «المغنى» (3/ 241)، و «المجموع» (7/ 13). (¬3) «المغنى» (3/ 241)، و «المجموع» (7/ 85)، و «الفروع» (3/ 242). (¬4) سورة آل عمران: 97. (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم -في غزوة الحديبية- حين أمرهم بالإحلال فتباطئوا كما عند البخاري (2731). (¬7) ضعيف: أخرجه أحمد (1737)، وابن ماجه (2883)، والطبراني (18/ 287 - 296)، والبيهقي (4/ 340)، وغيرهم من طريق أبي إسرائيل الملائي عن فضيل بن عمرو عن ابن جبير عن ابن عباس عن الفضل، وأبو إسرائيل فيه ضعف وله أغاليط، وقد تابعه -متابعة ناقصة- مهران أبو صفوان عن ابن عباس بنحوه أخرجه أبو داود (1732)، وابن أبي شيبة (3/ 227)، وأحمد (1871)، والدارمي (1784)، والبيهقي (4/ 339) وغيرهم، لكن مهران مجهول، فلا تفيد متابعته، والله أعلم. (¬8) ضعيف: أخرجه الترمذي (812).

المستقبل، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة سنة ثمان (¬1)، ولم يحج إلا في السنة العاشرة، ولو كان واجبًا على الفورية لم يتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عما فرض عليه لا سيما ولم يحبسه عذر ظاهر من حرب أو مرض! (¬2). وبأنه إذا أخره ثم فعله بعد ذلك لم يكن قاضيًا له، وهذا يدل على أنه على التراخي. وأجابوا عن الآية الكريمة بأن الأمر بالحج فيها مطلق عن تعيين الوقت، فيصح أداؤه في أي وقت فلا يثبت الإلزام بالفور لأنه تقييد للنص بغير دليل، وضعَّفوا الأحاديث الآمرة بالتعجيل. قلت: مبنى الخلاف هنا على مسألة: الأصل في الأمر أنه على الفور أو التراخي؟ وعلى كل حال فالأولى التعجيل وعدم التأخير -مع الاستطاعة- احتياطًا، فإنه لا يدري لعله لا يمتد به العمر حتى يحج. والله أعلم. من فضائل الحج: 1 - الحج يمحق الذنوب المتقدمة: (أ) فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حجَفلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمُّه» (¬3). (ب) ولما أراد عمرو بن العاص أن يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، اشترط أن يُغفر له، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله؟» (¬4). 2 - الحج سبب للعتق من النار: فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة ...» (¬5). ¬

(¬1) والحج فرض سنة ست أو سبع أو ثمان أو تسع أو عشر من الهجرة على خلاف، انظر «المجموع» (7/ 87)، و «زاد المعاد» (1/ 175) و (3/ 25). (¬2) «الأم» (2/ 118)، و «المجموع» (7/ 87). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1521)، ومسلم (1350). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (121). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1348).

3 - الحج جزاؤه الجنة: فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمر كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (¬1). 4 - الحج من أفضل الأعمال: فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله» قيل ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (¬2). 5 - الحج أفضل جهاد النساء: فعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: «لا، ولَكُنَّ أفضل الجهاد: حج مبرور» (¬3). شروط إيجاب الحج: وهي صفات يجب توفرها في الإنسان حتى يكون مطالَبًا بأداء الحج على سبيل الوجوب، فمن فقد أحد هذه الشروط لم يجب عليه الحج، وهي خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة. قال ابن قدامة (¬4) «لا نعلم في هذا كله اختلافًا» اهـ. - فأما الإسلام والعقل، فهما شرطا صحة كذلك، فلا يصح الحج من كافر ولا مجنون. - وأما البلوغ والحرية، فهما شرطان لإجزاء الحج عن الفريضة كذلك، وليسا شرطين للصحة، فلو حج الصبي والعبد صح منهما لحديث المرأة التي: «... رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولك أجر» (¬5). ولا يجزئهما عن حجة الإسلام على الراجح، لحديث: «من حج ثم عتق فعليه حجة أخرى، ومن حج وهو صغير ثم بلغ فعليه حجة أخرى» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (26)، ومسلم (83). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1520)، والنسائي (5/ 114)، وابن ماجه (290). (¬4) «المغنى» (3/ 218)، و «نهاية المحتاج» (2/ 375). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1336)، وأبو داود (1736)، والنسائي (5/ 120). (¬6) صححه الألباني: أخرجه ابن خزيمة (3050)، والحاكم (1/ 481)، والبيهقي (5/ 179)، وانظر «الإرواء» (4/ 59).

- وأما الاستطاعة فهي شرط للوجوب فقط، فلو تجشَّم غيرُ المستطيع المشقة وحج، كان حجه صحيحًا مجزئًا، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط عنه أجزأه (¬1). بم تتحقق الاستطاعة؟ لا تتحقق الاستطاعة المشروطة لإيجاب الحج إلا بما يلي: [1] صحة البدن وسلامته من الأمراض التي تعوقه عن أفعال الحج، لحديث ابن عباس: أن امرأة من جثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فأحجُّ عنه؟ قال: «حجِّي عنه» (¬2). فمن وُجدت فيه سائر الشروط وكان مريضًا مُرمِنًا أو مُقعدًا فلا يجب عليه أداء الفريضة بنفسه اتفاقًا. لكن اختلفوا هل يلزمه أن ينيب من يحج عنه؟ فذهب الشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة أنه يلزمه، بناء على أن صحة البدن شرط للأداء بالنفس لا شرط للوجوب. وقال أبو حنيفة ومالك لا يلزمه (¬3)، قلت: والأظهر أنه يلزمه ويدل عليه حديث ابن عباس السابق، ففي بعض رواياته: «أرأيت إن كان على أبيك دين، أكنت قاضيته؟» قالت: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يُقضى» (¬4). [2] ملك ما يكفيه في رحلته وإقامته وعودته، فاضلاً عن حاجاته الأصلية من دَيْن ونفقة عيل ومن تلزمه نفقتهم عند جمهور العلماء (¬5) -خلافًا للمالكية- لأن النفقة حق للآدميين وهو مقدم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» (¬6). ويدخل في هذا ملك الزاد والراحلة، وقد فُسِّر السبيل في قوله تعالى: ¬

(¬1) «المغنى» (3/ 214). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1855)، ومسلم (1334). (¬3) «نهاية المحتاج» (2/ 385)، و «الكافي» (1/ 214)، و «فتح القدير» (2/ 125). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5699)، والنسائي (5/ 116)، وانظر «المحلى» (7/ 57). (¬5) «المجموع» (7/ 56)، و «الموسوعة الفقهية» (17/ 31). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (1676)، وانظر «الإرواء» (989).

{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (¬1). بالزاد والراحلة وقد روى هذا التفسير مرفوعًا ولا يصح (¬2). [3] أمن الطريق: وهو يشمل الأمن على النفس والمال وقت خروج الناس للحج لأن الاستطاعة لا تثبت بدونه. ويُشترط المحَرْمَ لوجوب الحج على المرأة: يشترط لإيجاب الحج على المرأة الشروط الخمسة المتقدمة ويزاد عليها أن يصحبها زوج أو محرم (¬3)، فإن لم تجد فلا يجب عليها الحج: فعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: «انطلق فحُجَّ مع امرأتك» (¬4) وهذا مذهب الحنفية والحنابلة (¬5). بينما ذهب المالكية والشافعية (¬6) إلى أن المحرم ليس شرطًا في الحج لكنهم اشترطوا أمن الطريق والرفقة المأمونة، وهذا في حج الفريضة وأما حج النفل فلا يجوز خروجها له إلا مع محرم اتفاقًا. وأجاز الظاهرية للمرأة التي لا زوج لها ولا محرم أو أبى زوجها، أن تحج بغير محرم (¬7). واستدلوا جميعًا بما روى من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للاستطاعة بالزاد والراحلة وهو ضعيف كما تقدم، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها، لا تخاف إلا الله» (¬8) ويجاب عن هذا بأنه إخبار عما سيقع من الأمن ولا تعلق لهذا بحكم سفر المرأة بلا محرم. ¬

(¬1) سورة آل عمران: 97. (¬2) «نفسير الطبري» (4/ 15). (¬3) يأتي تعريف المحرم في «أبواب النكاح» من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341). (¬5) «البدائع» (3/ 1089)، و «المغنى» (3/ 230)، و «بداية المجتهد» (1/ 348)، و «المجموع» (7/ 68). (¬6) «البدائع» (3/ 1089)، و «المغنى» (3/ 230)، و «بداية المجتهد» (1/ 348)، و «المجموع» (7/ 68). (¬7) «المحلى» (7/ 47). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (3595) وغيره، والظعينة: المرأة.

إذا حجت المرأة بغير محرم: إذا حجت المرأة بغير محرم صح حَجُّها وأثمت لخروجها بدونه. تستأذن المرأة زوجها للحج وليس له منعها (¬1): 1 - إذا توفرت شروط وجوب الحج المتقدمة لدى المرأة -في حج الفريضة- فإنه يستحب لها أن تستأذن زوجها فإن أذن لها وإلا خرجت بغير إذنه، لأنه ليس للزوج أن يمنعها من الذهاب لحج الفريضة -عند الجمهور- لأن حق الزوج لا يقدم على فرائض الأعيان كصوم رمضان ونحوه. 2 - إذا كان حجها حج نذر: فإن كانت نذرته بإذن زوجها، أو نذرته قبل الزواج ثم أخبرته به فأقره، فليس له منعها، أما إذا نذرته رغمًا عنه فله منعها، وقيل بل ليس له منعها كذلك لأنه واجب كحجة الإسلام. 3 - إذا كان حجها حج تطوع أو حجًّا عن غيرها، فيجب عليها استئذان زوجها إجماعًا، ويجوز له أن يمنعها. هل تخرج المُعْتَدَّة للحج؟ (¬2). المرأة المعتدة عن طلاق أو وفاة مدة إمكان السير للحج لا يجب عليها الحج -عند الجمهور- لأن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج بقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} (¬3). ولأن الحج يمكن أداؤه في وقت آخر، وأما العدة فتجب في وقت مخصوص فكان الجمع بين الأمرين أولى. وفرَّق الحنابلة بين خروجها للحج في عدة الطلاق، وعدة الوفاة، فمنعوه في عدة الوفاة، وأجازوه في عدة الطلاق المبتوت، قالوا: لأن لزوم البيت فيه واجب في عدة الوفاة، والطلاق المتبوت لا يجب فيه ذلك. اهـ. قلت: لا يظهر لي وجه والتفريق -في لزوم البيت- بين عدة الوفاة وعدة الطلاق، على أن الآية تتعلق بالمطلقات، والمعتدة للوفاة تقاس عليها -على أحد القولين (¬4) - فهلا عكسوا هذا التفريق؟!! ¬

(¬1) «المغنى» (3/ 240)، و «الأم» (2/ 117)، و «فتح القدير» (2/ 130)، و «المحلى» (7/ 52). (¬2) «المغنى» (3/ 240)، و «مغنى المحتاج» (1/ 536). (¬3) سورة الطلاق: 1. (¬4) والقول الثاني: أن المعتدة لوفاة زوجها تعتد حيث شاءت، وسيأتي هذا في «العِدد».

الحج عن الغير

الحج عن الغير 1 - الحج عن العاجز: من استطاع السبيل إلى الحج ثم عجز عنه، بسبب كبر أو مرض لا يرجى برؤه ويسمى المغصوب، فإنه يلزمه أن يقيم من يحج عنه من ماله، لحديث ابن عباس عن الفضل بن عباس: «أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نعم» (¬1). وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أبيك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى» (¬2). وبهذا قال الجمهور خلافًا لمالك. فائدة: إذا حُجَّ عن المغصوب الذي لا يرجى برؤه ثم عافاه الله، فقد برئت ذمته ولا يطالب بالحج بنفسه بعد ذلك -في أصح قولي العلماء- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر -في الحديث السابق- أن دين الله يقضى بالحج عنه ويسقط عنه، فلا يجوز أن يعود فرضه إلا بنص ولا نص ههنا بعودته ولو كان ذلك عائدًا لبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما مع قيام احتمال أن يطيق الشيخ الركوب، فلا يجوز عودة الفرض عليه بعد صحة تأديته عنه. وهذا مذهب الحنابلة وإسحاق وابن حزم وذهب أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر إلى أنه يلزمه الحج ولابدَّ، قالوا: لأنه لما برئ تبين أنه لم يكن مأيوسًا منه فلزمه الأصل. والأول أرجح والله أعلم (¬3). 2 - الحج عن الميت الذي وجب عليه الحج من تركته: من مات وهو مستطيع بأحد الوجوه التي قدمنا، حج عنه من رأس ماله مقدمًا على ديون الناس -إن لم يوجد من يحج عنه تطوعًا- سواء أوصى بذلك أو لم يوص، لقوله تعالى في المواريث: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬4). فعَمَّ عز ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1855)، ومسلم (1334). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6699)، والنسائي (5/ 119). (¬3) «المغنى» (3/ 449 - مع الشرح)، و «المحلى» (62). (¬4) سورة النساء: 11.

وجل الديون كلها، وقد تقدم أن دين الله أحق بالقضاء وهذا مذهب الشافعي وأحمد وطائفة من السلف (¬1). وقال أبو حنيفة ومالك: لا يحج عنه إلا أن يوصى بذلك فيكون من الثلث!! 3 - النائب عن غيره يحج عن نفسه أولاً: يُشترط فيمن يريد الحج عن غيره أن يكون قد حج هو عن نفسه حجة الإسلام أولاً حتى يجزئ الفرض عن الأصيل، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وأكثر أهل العلم وبه قال ابن عباس ولا يعلم له من الصحابة مخالف (¬2) واستدلوا بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: «من شبرمة؟» قال: أخ لي -أو قريب لي- قال: «حججت عن نفسك؟» قال: لا، قال: «حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» (¬3) وهو مختلف في رفعه ووقفه وصحته. وقال أبو حنيفة ومالك: يجزئ الحج وإن لم يحج عن نفسه، واستدلوا بإطلاق حديث الخثعمية السابق «حجي عن أبيك» من غير استخبارها عن حجها لنفسها. قلت: الأولى أن لا يحج عن غيره إلا بعد الحج عن نفسه خروجًا من الخلاف، ولأنه قول صحابي وهو أولى من قول غيره لا سيما ولا يعلم له من الصحابة مخالف، ثم إن النظر يقتضي أن يقوم الإنسان نفسه على غيره لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في النفقات: «ابدأ بنفسك» (¬4). وعلى هذا يحمل ترك استفصال النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية على أنه علم بحجها عن نفسها أولاً، إعمالاً للأدلة، كما قاله ابن الهمام. والله أعلم. 4 - حج النفل عن الغير: يُشرع حج النفل عن الغير بإطلاق -وإن كان مستطيعًا- لأنها حجة لا تلزم المستطيع بنفسه، فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب، ولأنه يتوسع في النفل ما لا يتوسع في الفرض، فإذا جازت النيابة في الفرض ففي النفل أولى، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والحنابلة، وكذلك المالكية لكن مع الكراهة. ¬

(¬1) «المجموع» (7/ 93)، و «المحلى» (62). (¬2) «المجموع» (7/ 98)، و «المغنى» (3/ 245)، و «الفروع» (3/ 265)، وفتاوى ابن تيمية. (¬3) أُعل بالوقف والاضطراب، أخرجه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (997) عن جابر.

المواقيت

5 - المرأة تحج عن غيرها: (أ) يجوز للمرأة أن تحج عن امرأة أخرى باتفاق العلماء، سواء كانت بنتها أو غير بنتها (¬1)، فعن موسى بن سلمة أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت ولم تحج، أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها؟ قال: «نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحج عن أمها» (¬2). (ب) ويجوز للمرأة أن تحج عن الرجل، عند جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، لحديث الخثعمية الذي تقدم مرارًا. 6 - الحج من مال حرام (¬3): إذا حج بمال حرام أو راكبًا دابة مغصوبة، أثم وصح حجُّه وأجزأه عند أكثر العلماء، قالوا: لأن أفعال الحج مخصوصة، والتحريم لمعنى خارج عنها. وخالفهم الإمام أحمد فقال: «لا يجزئ، واستدل له بحديث: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا» (¬4) وبما يُروى مرفوعًا: «إا خرج الحاج حاجًّا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال، وحجُّك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء، لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور» (¬5). قلت: والراجح قول الجمهور لما تقدم، وأما حديث «إن الله طيب ...» فليس فيه حجة وأما حديث: «... وحجك مأزور غير مأجور» فضعيف لا يصح. المواقيت المواقيت: جمع ميقات، وهي زمانية ومكانية: [1] المواقيت الزمانية: هي الأوقات التي لا يصح شيء من أعمال الحج إلا ¬

(¬1) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (26/ 13). (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (5/ 116)، وأحمد (1/ 279) بسند صحيح، ونحوه عند مسلم (1149)، والترمذي (667) عن بريدة. (¬3) «المجموع» للنووي (7/ 51). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1015)، والترمذي (2986) وغيرهما. (¬5) ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5228)، وأبو نعيم في «الحلية»، وانظر «العلل المتناهية».

فيها، وقد ذكرها الله تعالى في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬1). فهذا نص على أن للحج أوقاتًا منصوصة، فلا يحل الإحرام به إلا في أشهر الحج، وقال تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (¬2). فإن أحرم بالحج قبل أشهره (¬3): لم يصح منه، وهذا مذهب الصحابة رضي الله عنهم، وعن الشعبي وعطاء أنه يحل من إحرامه. وقال الأوزاعي والشافعي: تصير عمرة ولابدَّ، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكره ذلك ويلزمه إن أحرم به قبل أشهر الحج. والصواب أنه لا يصح بحال للآية الكريمة، وأما أنها تنعقد عمرة، ففيه نظر، إذ كيف نبطل عمله الذي دخل لأجل أنه خالف الحق، ثم نلزمه بذلك العمل عمرة لم يُرِدها قط ولا قصدها ولا نواها و «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬4)؟! فهذا كمن أحرم بصلاة قبل وقتها فإنها تبطل، ومن نوى صيامًا قبل وقته فهو باطل. وأشهر الحج: هي شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة -اتفاقًا- ثم حصل الخلاف في يوم النحر وبقية ذي الحجة، فصارت الأقوال في أشهر الحج ثلاثة: 1 - أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة من السلف (¬5). 2 - أنها شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة فلا يدخل يوم النحر في أشهر الحج، وهو مذهب الشافعية (¬6)، وحجتهم قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (¬7). ولا يمكن فرضه [أي الإحرام به] بعد ليلة النحر. ¬

(¬1) سورة البقرة: 197. (¬2) سورة الطلاق: 1. (¬3) «المحلى» (7/ 65 - 66)، و «المجموع» (7/ 128) وما بعدها. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1907) وغيرهما. (¬5) «شرح فتح القدير» (2/ 220)، و «المغنى» (3/ 275). (¬6) «المجموع» (7/ 135)، و «نهاية المحتاج» (3/ 256). (¬7) سورة البقرة: 197.

3 - أنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كله، وهذا مذهب مالك وابن حزم، وهو مروي عن عمر وابنه، وابن عباس رضي الله عنهم (¬1)، وحجتهم أن أقل الجمع ثلاثة، وأن رمي الجمار -وهو من أعمال الحج- يعمل يوم الثالث عشر، وطواف الإفاضة -وهو ركن في الحج- يعمل في ذي الحجة كله بلا خلاف. قلت: الراجح القول الثالث فتكون أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وهذا على معنى أنه يجب ألا يقع شيء من أعمال الحج قبل أو بعد هذه الأشهر، ولا يلزم أن يكون الحج يجوز في كل يوم من أيامها، فلابد من الاحتفاظ بالآتي: أن من فاته الوقوف بعرفة في جزء من ليلة النحر فلا حج له، وهذا هو الذي نظر إليه الشافعي -رحمه الله- حين أخرج يوم النحر (العاشر من ذي الحجة) ومن أشهر الحج، ويردُّ عليه بأن الله تعالى قد سمى يوم النحر: يوم الحج الأكبر في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} (¬2). [2] المواقيت المكانية: وهي أماكن وقتَّها الشرع -أي حددها- ليُحرم منها من أراد الحج أو العمرة ولا يجوز له أن يتجاوزها -إن كان قاصدًا للحج أو العمرة- دون أن يحرم، وهذه المواقيت لكل من مرَّ بها- مريدًا للنسك سواء كان من أهل تلك الجهات أو لم يكن، وهذه الأماكن: 1 - ذو الحليفة: لأهل المدينة، وهي المعروفة الآن «بآبار علي». 2 - الجحفة: وهي لأهل الشام ومصر والمغرب، وهي قريبة من «رابغ» التي جُعلت الآن الميقات. 3 - قرن المنازل: وهي لأهل نجد، وهي المعروفة الآن بـ «وادي السيل». 4 - يلملم: وهي لأهل اليمن. وهذه المواقيت الأربعة متفق عليها، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن ¬

(¬1) «بداية المجتهد» (1/ 351)، و «الكافي في مذهب أهل المدينة» (1/ 357)، و «المحلى» (7/ 69). (¬2) سورة التوبة: 3.

سياق صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم

ولأهل اليمن يلملم قال: «فهنُّ لهنَّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن مهلُّه من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها» (¬1). 5 - ذات عِرْق: لأهل العراق والمشرق، وهذا المكان قريب من «العقيق» وقد اختلف فيمن وَقَّته، فقيل عمر، لحديث ابن عمر قال: «لما فُتح هذان المصران (يعني البصرة والكوفة) أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا؟ قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق» (¬2). وقيل: بل حدَّه النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث جابر: «مَهلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، وهلُّ العراق من ذات عرق، ومهلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل العراق من ذات عرق، ومهلَّ أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم» (¬3) وهو مختلف في رفعه، لكن يؤيد الرفع حديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق ذات عرق» (¬4). ويجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقته وخفى علمه على عمر رضي الله عنه فاجتهد فوافق السنة وكم له من موافقات للشرع!! المقيم بمكة ميقاته: منازل مكة، والمقيم بين مكة وأحد هذه المواقيت فميقاته منزله. من كان طريق لا تمر بشيء من هذه المواقيت، فإذا علم أنه حاذى أقربها منه أحرم منه، ومن كان في طائرة فإنه يحرم إذا حاذى الميقات وكان فوقه، ويكون متأهبًا قبل الإحرام بأن يلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه نوى الإحرام في الحال، لا أن يؤخره إلى أن يهبط (¬5). سياق صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله ... فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده فعقد تسعًا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1526)، ومسلم (1181). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1531)، والبيهقي (5/ 27). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (1183)، ولرفعه شواهد «الإرواء» (998). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1739)، والنسائي (2/ 6) وغيرهما، وانظر «لإرواء» (999). (¬5) «أوضح المسالك إلى أحكام المناسك» للسلمان (ص: 42، 43) باختصار.

مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع قال: «اغتسلي واستثفري بثوب واحرمي» فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئًا منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر رضي الله عنه لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} (¬2) أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك ثال مثل هذا ثلاث ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن خثعم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج -مرتين- لا، بل لأبد أبد وقدم عليٌّ من اليمن ببُدُن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت إن أبي أمرني بهذا قال فكان عليٌّ ¬

(¬1) سورة البقرة: 125. (¬2) سورة البقرة: 158.

يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشًا على فاطمة للذي صنعت مستفتيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت فيه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت ماذا قلتَ حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدى فلا تحل، قال: فكان جماعة الهدى الذي قدم به على من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقُبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعًا في بني سعد فقتله هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد -ثلاث مرات- ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حَبْل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحدٍ وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه

ملخص أفعال حج التمتع

وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيمًا فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن مُحسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الحمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثًا وستين بيده ثم أعطى عليًّا فنحر ما غير وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدرٍ فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلوالا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوًا فشرب منه. وحدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا جعفر بن محمد حدثني أبي قال أتيت جابر بن عبد الله فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث: بنحو حديث حاتم بن إسماعيل وزاد في الحديث وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ويكون منزله، ثم فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل (¬1). ملخص أفعال حج التمتُّع (¬2) لا ريب في أن المسلم حريص على أن يكون صفة حجته كحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتكون أحرى لقبولها، وأدعى أن ينال فضائلها التي تقدمت. وهأنذا أُلخِّصُ أفعال «حج التمتع» من مجموع ما ثبت من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتبع هذا السرد بتفصيلات هذه الأفعال وقسيماتها من حيث ما هو ركن وواجب ومستحب وغير ذلك، فأقول: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3074)، والدارمي (1850) وغيرهم. (¬2) الحج يجوز على إحدى كيفيات ثلاث: الإفراد أو التمتع أو القران، على ما يأتي بيانه، وأفضلها التمتع وهو الأنسب للحاج من بلادنا والأيسر عليه.

ما قبل السفر

ما قبل السفر 1 - من استطاع الحج، واستقر عزمه وجزمه على أدائه، بادر بتوبة نصوح من كل المعاصي، واجتهد في الخروج من مظالم الخلق بردِّها إلى أصحابها، ويجتهد في قضاء ما أمكنه من ديونه، ويجتهد في رضا والديه، ويسترضي أقاربه إن كان بينه وبينهم شيء، ويترك لأولاده ومن تلزمه نفقتهم ما يلزمهم مدة غيابه. 2 - يحرص على أن يكون زاده طيبًا، ويحذر ما كان من المشتبهات والغُصوب، ليكون أقرب إلى القبول. 3 - يجتهد في تحصيل الرفقة الصالحة المرغِّبة في الخير، المعينة عليه، المبغضة للشر، وإن تيسر أن تكون الرفقة من العلماء العاملين فهو أفضل. 4 - ويخرج إلى سفره ملتزمًا الآداب الشرعية في السفر، وذلك في أشهر الحج. الإحرام 5 - فإذا أتى الميقات فيتجرد من ثيابه ويغتسل كما يغتسل من الجنابة، ويتطيَّب بأطيب ما يجد من الطيب، وكذلك تفعل المرأة ولو كانت حائضًا أو نفساء، ولا يضرهما بقاء الطيب في الثوب والبدن بعد الإحرام. 6 - ويلبس الرجل ملابس الإحرام، وتلبس المرأة ما شاءت من الثياب. 7 - ويصلي إن حضر وقت فريضته، وإلا صلى ركعتين بنية سنة الوضوء، فإذا فرغ نوى الإحرام بعمرة، بعد أن يركب راحلته (سيارته) حامدًا مكبِّرًا مستقبلاً القبلة، ويقول: «لبيك اللهم عمرة». 8 - ومن كان في طائرة، فإنه يحرم إذا حاذى الميقات وكان فوقه، ويكون متأهبًا قبل الإحرام بالغسل والطيب وملابس الإحرام. 9 - فإذا أهلَّ بالعمرة لبىِّ: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، ويرفع الرجل بها صوته، وترفع المرأة بقدر ما تسمع من يجنبها. 10 - وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية خصوصًا عند تغيُّر الأحوال والأزمان مثل أن يعلو مرتفعًا أو أن ينزل منخفضًا، أو أن يُقبل الليل أو النهار، وتلبي المرأة وإن كانت حائضًا، ولا تُقطع التلبية إلا عند ابتداء الطواف (¬1). ¬

(¬1) لأنه في عمرة، وأما المفرد والقارن فلا يقطع التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة.

دخول مكة والطواف

دخول مكة والطواف 11 - فإذا وصل مكة، أسرع إلى المسجد الحرام، ويتقدم إلى الحجر الأسود، فيستلمه (يلمسه) بيده اليمنى ويقبِّله -إن تيسَّر- وإلا استلمه وقبَّل يده، فإن لم يستطع أشار إليه بيده ويكبِّر ولا يقبل يده، والأفضل ألا يزاحم فيؤذي الناس ويتأذى بهم. 12 - ثم يطوع -جاعلاً الكعبة عن يساره- فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل -إن تيسَّر- فإذا كان بين الركن اليماني والحجر الأسود قال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فإذا بلغ الحجر الأسود فقد أتم شوطًا ويفعل عنده ما تقدم، ثم يطوف حتى يكمل سبعة أشواط. 13 - وينبغي للرجل -دون المرأة- في هذا الطواف أن يضطبع (¬1) من بداية الطواف إلى انتهائه، ويرمل (يسرع المشي) في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، ويمشي كعادته في الأربعة الأخرى. 14 - فإذا أتم طوافه صلَّى ركعتين خلف مقام إبراهيم، يقرأ فيهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. 15 - ثم يذهب إلى زمزم فيشرب منها ويصب على رأسه. 16 - ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه إن تيسَّر. السعي بين الصفا والمروة 17 - ثم يخرج إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} ويقول: أبدأ بما بدأ الله به. 18 - ويرقى على الصفا حتى يرى الكعبة فيشتبلها قائلاً: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ويدعو بما شاء، ويفعل ذلك ثلاث مرات. 19 - ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيًا، ويسرع الرجل -دون المرأة- بين العلمين الأخضرين. ¬

(¬1) الاضطباع: أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر.

التحلل من الإحرام

20 - فإذا وصل إلى المروة فعل مثلما فعل على الصفا، وهذا شوط، ثم ينزل إلى الصفا وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط (الذهاب شوط والعودة شوط). التحلل من الإحرام 21 - إذا أتم سعيه حلق رأسه أو قصَّر شعره، والتقصير -هنا- أفضل لا سيما إذا كان وقت الحج قريبًا، والمرأة لا تحلق وإنما تقصر. ثم يلبس ملابسه المعتادة ويحل له كل ما كان محرمًا عليه بالإحرام، من جماع وغيره، حتى يأتي وقت الحج (¬1). يوم التروية 22 - إذا كان يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) فإنه يستعد للإحرام كما تقدم -من منزله بمكة- ثم يحرم بالحج قائلاً: «لبيك اللهم لبيك» ويلبِّي، وإن كان يخشى أن يعوقه شيء ويمنعه من إتمام حجه فله أن يشترط فيقول: «وإن حبسني حابس فمحلى حيث حبستني». 23 - ثم يخرج إلى منى ضُحى ويبيت بها يُصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، قصرًا من غير جمع. يوم عرفة 24 - فإذا طلعت الشمس -يوم التاسع (عرفة) - سار من منى إلى عرفة، فنزل بنمرة فيقيم بها إلى الزوال (الظهر) إن تيسر. 25 - فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا (جمع تقديم) بأذان واحد وإقامتين -مع الإمام- بدون سنة. 26 - ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء والتضرع إلى الله تعالى -على عرفة رافعًا يديه مستقبلاً القبلة -وليس الجبل!! - ويقف هكذا حتى تغرب الشمس. 27 - فإذا غربت الشمس، فإنه ينزل بهدوء وسكينة. الإفاضة إلى المزدلفة والمبيت بها 28 - ثم يسير إلى مزدلفة، فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين وبدون سنة. ¬

(¬1) وبهذا تكون قد تمت مناسك العمرة.

يوم النحر

29 - ينام بمزدلفة حتى الفجر، ولا يصلي بالليل. 30 - يصلي الفجر في أول الوقت بأذان وإقامة، ثم يقف على المشعر الحرام (¬1) مستقبل القبلة، داعيًا مكبِّرًا مهللاً حتى يسفر الصبح جدًّا. 31 - ويرخَّص للضعفة من النساء وغيرهن في الرحيل من مزدلفة بعد منتصف الليل وغياب القمر. يوم النحر الإفاضة إلى منى ورمى الجمرة: 32 - ثم يدفع إذا أسفر الصبح، قبل طلوع الشمس من مزدلفة إلى منى، ويسرع في وادي محسر. 33 - فإذا وصل منى قطع التلبية عند الشروع في رمي جمرة العقبة -وهي الأخيرة جهة مكة- بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، يكبِّر مع كل حصاة، ويكون الرمي بعد طلوع الشمس. 34 - فإذا رمى جمرة العقبة فقد حلَّ له ما كان حرامًا إلا الجماع (¬2). 35 - ثم يذبح هَدْيه بمنى أو مكة، وله الذبح في أي من أيام التشريق، فإن لم يملك ثمن الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد رجوعه إلى أهله. 36 - ثم يحلق رأسه، وتقصِّر المرأة شعرها ولو قدر أنملة. الرجوع إلى مكة وطواف الإفاضة: 37 - ثم يرجع إلى مكة، فيطوف سبعًا، ويسعى بين الصفا والمروة (¬3)، وله تأخير الطواف آخر أيام التشريق، فإذا طاف حل له كل شيء حتى الجماع (¬4). 38 - وإذا كانت المرأة -أثناء المناسك- حائضًا، فإنها تفعل جميع المناسك إلا الطواف فتؤخره حتى تطهر إن استطاعت. 39 - فإذا كان في انتظارها مشقة عليها -كأن لا تكون مرتبطة بموعد رحلة ¬

(¬1) المشعر الحرام: جبل معروف بالمزدفة. (¬2) وهذا يسمى التحلل الأول، فيلبس ما شاء من الثياب ويقلم أظفاره ويتطيب. (¬3) لأنه متمتع، فأما القارن فلا يطوف إلا طوافًا واحدًا. (¬4) وها هو التحلل الأكبر.

أيام التشريق

العودة وتخشى الضرر إن بقيت -فإنها تطوف وهي حائض في أصح أقوال العلماء، لأن هذا غاية وسعها. الذهاب إلى منى: 40 - ثم بعد الطواف والسعي، يرجع إلى منى ليبيت بها ليالي التشريق (ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر). أيام التشريق رمي الجمرات الثلاث يوم الحادي عشر والثاني عشر: 41 - ثم يرمي الجمرات الثلاث يوم الحادي عشر -بعد الظهر ولو إلى الليل- كل جمرة بسبع حصيات مكبرًا مع كل حصاة، مبتدئًا بالصغرى ثم الوسطى، يتقدم بعد كل جمرة فيستقبل القبلة ويدعو دعاءً طويلاً -إن تيسَّر- ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات، ولا يقف للدعاء بعدها، والحصاة التي لا تقع في المرمى لا تعدُّ. 42 - ثم يفعل في اليوم الثاني عشر كما فعل في الذي قبله تمامًا. فإذا أتم رمي الجمار -في الثاني عشر- فإن شاء تعجل ونزل من منى، وإن شاء تأخَّرَ فبات بها ليلة الثالث عشر، والتأخر أفضل. الرمي في اليوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق): 43 - فإن اختار المبيت ليلة الثالث عشر أو غربت عليه الشمس يوم الثاني عشر وهو بمنى فيلزمه أن يبيت بمنى، ليرمي الجمرات الثلاث يوم الثالث عشر كما فعل في اليومين السابقين بعد الظهر. طواف الوداع قبل السفر 44 - إذا أراد الحاج السفر إلى بلده، فلا يخرج حتى يطوف للوداع، فيجعله آخر عهده بمكة، وأما الحائض والنفساء فيرخَّصُ لهم في ترك طواف الوداع. 45 - ويستحب له أن يزور المسجد النبوي بالمدينة، لكنه ليس من مناسك الحج كما يظنه كثير من الناس. 46 - ثم يعود إلى بلده، وينحر ببلده بقرة أو جملاً لأهله وللفقراء والمساكين إن تيسَّر وإلا فلا يلزمه ذلك، والله تعالى أعلم. تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

أركان الحج

أركان الحج تنقسم الأفعال السابقة إلى أركان وواجبات ومستحبات، وهذا أوان ذكر أركان الحج التي دلَّ الدليل على ركنيتها، وما يتعلق بكل ركن منها من واجبات ومسنونات ومكروهات وغير ذلك. وأركان الحج عند الجمهور أربعة (¬1): الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة. الركن الأول: الإحرام: تعريف الإحرام: الإحرام هو نية الحج أو العمرة من الميقات المعتبر شرعًا، وهو ركن من أركان الحج عند جمهور العلماء، وشرط لصحته عند الحنفية، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (¬3). أنواع الإحرام: يُؤدىَّ الحج على كيفيات (أو أنساك) ثلاث: 1 - الإفراد: وهو أن يهلَّ (أي ينوي) الحاجُّ بالحجِّ فقط عند إحرامه قائلاً: لبيك اللهم بحج، ثم يأتي بأعمال الحج وحده. 2 - القران: وهو أن يهلَّ (ينوي) بالحج والعمرة معًا قائلاً: لبيك حجًّا وعمرة فيأتي بهما في نسك واحد، أو أن يدخل الحج على العمرة قبل الطواف. وقال الجمهور: إنهما يتداخلان، فيطوف طوافًا واحدًا ويسعى سعيًا واحدًا، ويجزئه ذلك عن الحج والعمرة، وقال الحنفية: يطوف طوافين ويسعى سعيين والقارن يجب عليه أن ينحر هديًا بالإجماع كما سيأتي. 3 - التمتع: وهو أن يهلَّ (ينوي) بالعمرة فقط في أشهر الحج، قائلاً: لبيك عمرة ويأتي مكة فيؤدي مناسك العمرة ويتحلل، ويمكث بمكة حلالاً، ثم يحرم بالحج ويأتي بأعماله، وذلك في العام نفسه. ويجب على المتمع كذلك أن ينحر هديًا بالإجماع. ¬

(¬1) وهه الأركان عند الشافعية ستة: هذه الأربعة، والحلق أو التقصير، والترتيب بين معظم الأركان، وعند الحنفية: للحج ركنان هما الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة. (¬2) سورة البينة: 5. (¬3) صحيح: وقد تقدم كثيرًا.

مشروعية الأنساك الثلاثة: 1 - لا خلاففي أن الحج كان عند ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم به جائزًا بأنواعه الثلاثة المتقدمة، وكذلك كان أصحابه رضي الله عنهم: منهم المتمتع، ومنهم القارن، ومنهم المفرد، لأنه صلى الله عليه وسلم خيَّرهم في ذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يهلَّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهلَّ، ومن أراد أن يهلَّ بعمرة فليهلَّ ...» الحديث (¬1). 2 - ثم نقلهم النبي صلى الله عليه وسلم -بعد هذا التخيير- إلى التمتع، دون أن يعزم عليهم: قالت عائشة: «... فنزلنا سرِف (¬2) فخرج إلى أصحابه فقال: «من لم يكن منكم أهدى، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا» قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه [ممن لم يكن معه هدي] ...» (¬3). وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى (ذي طوى) -موضع قريب من مكة- وبات بها- «فلما أصبح قال لهم: «من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة» (¬4). 3 - ثم أمرهم -من كان لم يسق الهدي منهم- أن يفسخوا الحج إلى عمرة ويتحللوا، فعن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي فأحللن ...» (¬5). وفي رواية ابن عباس: «... فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقال: يا رسول الله، أي الحِلِّ؟ قال: الحل كله» (¬6). قلت: لأجل هذه المراحل المتقدمة اختلف أهل العلم في مشروعية الأنساك الثلاثة: فذهب الجماهير من السلف والخلف إلى أن الأنساك الثلاثة: الإفراد والقران ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1211). (¬2) سرف: موضع قريب من التنعيم. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1560)، ومسلم (1211) والزيادة له. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1561)، ومسلم (1211). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240).

والتمتع، كلها جائزة وأن الأمر فيها واسع، حتى إن بعضهم نقل الإجماع على ذلك (¬1)، ثم اختلف هؤلاء -بعد الاتفاق على المشروعية- في أي هذه الأنساك أفضل على ما سيأتي. بينما ذهب بعض العلماء إلى وجوب التمتع على من لم يسق الهدي، وأنه إذا طاف وسعى فقد حلَّ شاء أم أبى، وهذا مذهب ابن عباس وأبي موسى الأشعري وبه قال أهل الظاهر وانتصر له ابن حزم ثم ابن القيم ببحثين ما تعين (¬2). واستدلوا على ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة، وتحتيمه ذلك عليهم، وتعاظم ذلك عندهم مما يدل على أنهم فهموا من الأمر الإيجاب وغضبه صلى الله عليه وسلم لما تراخوا وراجعوه كما في حديث عائشة: «... فدخل عليَّ وهو غضبان، فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ...» (¬3). واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به «ألعامنا هذا، أم لأبد الأبد؟» فشبَّك صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد» (¬4). وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يناظر على هذه المسألة حتى يقول: «أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء» (¬5) لأن أبا بكر وعمر كانا يريان أن الإفراد أفضل من التمتع كما سيأتي. وخلاصة هذا المذهب: «أن من أراد الحج وجاء إلى الميقات: فإن لم يكن معه هدي وجب عليه أن يحرم بعمرة مفردة ولابدَّ [يعني يكون متمتعًا] فإن أحرم بحج، أو بقران حج وعمرة، وجب عليه أن يفسخ إهلاله بعمرة يحل إذا أتمها، ثم يبتدئ الإهلال بالحج مفردًا من مكة. ¬

(¬1) انظر «المجموع» (7/ 144)، و «المغنى» (3/ 276)، و «معالم السنن» للخطابي (2/ 301). وقال النووي في «شرح مسلم» بعد أن أورد خلاف بعض الصحابة في المسألة: «وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الإفراد والتمتع والقران من غير كراهة» اهـ. (¬2) راجع «المحلى» (7/ 99 وما بعدها)، و «زاد المعاد» (2/ 177 وما بعدها)، و «صفة حجة النبي». (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1211)، وأحمد (6/ 175). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1218) وهو في السنن مختصرًا. (¬5) مسند أحمد (1/ 337)، و «الفقيه والمتفقه» (1/ 145)، و «جامع بيان العلم» (2/ 239).

وإن كان ساق الهدي فإنه يقرن فيقول: «لبيك بعمرة وحج معًا» (¬1). أي الأنساك الثلاثة أفضل؟ وعلى قول الجماهير بجواز الأنساك الثلاثة، فقد اختلفوا في أفضلها على أقوال، وسبب هذا الخلاف: الخلاف في حج النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان مفردًا، أم قارنًا أم متمتعًا؟. [1] القول الأول: الإفراد أفضل: وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي وهو مروي عن عمر وعثمان وابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم (¬2) وحجتهم ما يلي: 1 - ما ثبت عن جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحج» (¬3). وفي رواية: «أهلَّ بالحج مفردًا». 2 - أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج وواظبوا عليه، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان، واختلف فعل علي. 3 - أن عمر قال: «افصلوا حجكم عن عمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم» (¬4). 4 - وقال عثمان رضي الله عنه لما ذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: «إنه أتم للحج والعمرة ألا يكونا في شهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله تعالى قد وسع في الخير ...» (¬5). 5 - أن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع وذلك لكماله بخلاف التمتع والقران. 6 - أنه قد أجمعت الأمة -كذا قالوا؟!! - على جواز الإفراد من غير كراهة بخلاف التمتع والقران، فكان أولى. [2] القول الثاني: القران أفضل: وهذا مذهب الحنفية والثوري، ورواية عن أحمد -لمن ساق الهدي- وحجتهم: ¬

(¬1) انظر «المحلى» (7/ 99). (¬2) «المدونة» (1/ 360)، و «الأم» (2/ 143)، و «المجموع» (7/ 145 وما بعدها). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (1211) عن عائشة وفيهما عن الباقين كذلك. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1217)، ومالك (778). (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 92)، وابن جرير (2/ 207) بسند صحيح.

1 - ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بحج وعمرة، كحديث أنس: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لبيك عمرة وحجًّا» (¬1). 2 - قول علي بن أبي طالب لما نهى عثمانُ عن المتعة [يعني هنا القران]: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: «إني لا أستطيع أن أدعك» فلما رأى عليٌّ ذلك أهل بهما جميعًا (¬2). 3 - أن على القارن دم، وليس دم جبران لأنه لم يفعل حرامًا بل دم عبادة، والعبادة المتعلقة بالبدن والمال أفضل من المختصة بالبدن. 4 - أن القارن مسارع إلى العبادة فهو أفضل من تأخيرها. 5 - أن القران تحصيل العمرة في زمن الحج، وهو أشرف. [3] القول الثالث: التمتع أفضل: وهو مذهب أحمد بن حنبل وأحد قولي الشافعي وهو مذهب أهل الظاهر وابن القيم، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة وجماعة من السلف (¬3)، وحجتهم: 1 - حديث عائشة قالت: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه» قال الزهري: مثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬4). 2 - وعن عمران بن حصين قال: «تمتع النبي صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه» (¬5). 3 - وعنأبي جمرة قال: تمتعت فنهاني ناس عن ذلك، فسألت ابن عباس فأمرني بها، فرأيت في المنام كأن رجلاً يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم» (¬6). 4 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا ويجعلوها عمرة -كما تقدم- فنقلهم من الإفراد والقران إلى التمتع، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4354)، ومسلم (1222). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1569)، ومسلم (1222). (¬3) «المغنى» (3/ 260)، و «المجموع» (7/ 150 - 152)، و «المحلى» (7/ 99)، و «زاد المعاد» (2/ 177). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1692)، ومسلم (1237) والظاهر أن التمتع هنا يراد به القرآن كما قال شيخ الإسلام. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري بمعناه (1572)، ومسلم (1226) واللفظ له. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1567)، ومسلم (1243).

5 - حديث جابر قال: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردًا، فقال لهم: «حلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة» قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به» (¬1). 6 - أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2). دون سائر الأنساك! 7 - أن التمتع يجتمع فيه الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما ويسرهما. 8 - أن قوله صلى الله عليه وسلم يقدم على فعله عند التعارض. [4] القول الرابع: التفصيل: وهواختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬3) وخلاصة كلامه، رحمه الله (¬4): (أ) أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة هو إذاكان قد اعتمر قبل أشهر الحج. قال: وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر وكان يختاره للناس، وكذلك عليٌّ. (ب) وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين (الحج والعمرة) بسفرة واحدة، وقدم إلى مكة في أشهر الحج، ولم يسق الهدي، فالتمتع أفضل له. (جـ) وإذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقرآن أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قرن وساق الهدي. ثم أيهما أفضل: أن يسوق الهدي ويقرن، أو أن يتمتع بلا سوق للهدي ويحل؟ قال: هذا موضع اجتهاد، لتعارض ما اختاره الله تعالى لنبيه مع ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومال -رحمه الله- إلى الأول. قلت: وهذا تفصيل وجيه، وقد أعمل فيه ابن تيمية كل النصوص الواردة كلاًّ في موضعه، ثم جعل أفضل الأنواع بحسب الصعوبة والمشقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بنُسْكين وأصدر بنسك؟ فقال: «إذا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1568)، ومسلم (1216). (¬2) سورة البقرة: 196. (¬3) «مجموع الفتاوى» (26/ 85 - 91). (¬4) «مجموع الفتاوى» (26/ 85 - 91).

طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتينا بمكان كدا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك» (¬1). وكذلك جعل أفضل الأنواع بحسب سوق الهدي، وقد جاءت السنة بكل هذا. وبذلك لم يقع فيما وقع فيه كثير من الفقهاء من الاضطراب بسبب التفضيل المطلق. هذا، على أنه لا يخف في قوة قول من ذهب إلى تفضيل التمتع بل ووجوبه، فالله أعلم. ليس لأهل الحرم إلا الإفراد (¬2): قال الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} (¬3). فأباح الله تعالى التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي: من لم يكن مسكنه في مكة أو الحرم -على الأصح- لأن التمتع شرع له أن لا يلم بأهله، والمكي ملم بأهله فلم يكن له ذلك، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة، ويؤيده حديث ابن عباس الذ فيه «... ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}. إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ...» (¬4). قلت: مبنى هذا المذهب على أن قوله تعالى في الآية (ذلك) وقول ابن عباس في الحديث - (أنزله في كتابه وسنة نبيه) عائد على التمتع وهو الأظهر. ويجوز أن يكن من حاضري المسجد، فإن كان فلا دم عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وانتصر له ابن حزم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1787)، ومسلم (1211). (¬2) انظر: «المجموع» (7/ 165 - 166)، و «فتح الباري» (3/ 508)، و «المحلى» (7/ 156). (¬3) سورة البقرة: 196. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1572).

هل يجوز إدخال الحج على العمرة (¬1): إذا أحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، ثم بدا له أن يدخل عليها الحج فيصير قارنًا جاز له ذلك عند الجمهور (خلافًا للحنفية) بشرط أن يكون قبل الشروع في الطواف، فإن شرع فيه ولو بخطوة فلا يجوز إدخال الحج على العمرة. ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما حاضت عائشة بسرف وهي محرمة بالعمرة أمرها أن تهلَّ بالحج وقال: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة، يسعك لعمرتك وحجك» (¬2) وهو دليل على أن أمره صلى الله عليه وسلم لها بالإهلال بالحج لم يكن إبطالاً لعمرتها. لكن ... لقائل أن يقول: إن الدليل إنما وقع في حاله تشبه الضرورة، لأن عائشة لا يمكن أن تكمل عمرتها وهي حائض، فيكون الدليل هنا أخص من المدلول، وهذا في النفس منه شيء، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أحرم بالحج ولم يسق الهدي أن يجعله عمرة، فكيف نجعل العمرة حجًّا وهو خلاف ما أمر به؟! هل يجوز إدخال العمرة على الحج؟ (¬3) أما إذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، فذهب مالك، والشافعي في الجديد، وأحمد، أنه لا يصح ولا يصير قارنًا، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. وخالف أبو حنيفة فجوَّزه بناء على أصله: أن عمل القارن زيادة على عمل المفرد، فإذا أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة صار قارنًا ولزمه طوافان وسعيان. قلت: وأنا أميل إلى قوله أبي حنيفة -لا لأجل ما بنى عليه- ولكن لحديث عائشة: «أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج» (¬4) مع حديث ابن عمر مرفوعًا: «أتاني آت من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (¬5) واختاره العلامة ابن عثيمين، طيب الله ثراه. هل يصح إطلاق نية الإحرام؟ من أحرم إحرامًا مطلقًا من غير أن يعين نوعًا من هذه الأنواع الثلاثة لعدم ¬

(¬1) «المجموع» (7/ 168)، و «الشرح الممتع» (7/ 94). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1211). (¬3) «المجموع» (7/ 170)، و «المغنى» (3/ 512)، و «المبسوط» (4/ 180)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 88). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (1211). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1534)، وأبو داود (1783)، وابن ماجه (2976).

علمه بها، أو أحرم كإحرام شخص يعرفه، فهذا جائز ويصح إحرامه عند جمهور العلماء -خلافًا للمالكية- لحديث أبو موسى «أن عليًّا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف قلت حين أحرمت؟» قال على: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). لا يجوز مجاوزة الميقات بدون إحرام (¬2): من مر بالميقات -وهو قاصد للحج أو العمرة- فلا يجوز له مجاوزة الميقات بغير إحرام إجماعًا. فإن جاوزه ثم أحرم بعده فقد أثم بذلك، ولا يذهب عنه الإثم إلا أن يعود إلى الميقات فيحرم منه ثم يتم سائر نسكه، ولا دم عليه إن كان عاد إلى الميقات قبل التلبُّس بالنسك سواء كان ركنًا كالوقوف والسعي أو سنة كطواف القدوم، وهذا مذهب الشافعية والثوري وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور. وقال مالك وابن المبارك وأحمد: لا يسقط عنه الدم بالعود، وقال أبو حنيفة: إن عاد ملبيًا سقط الدم وإلا فلا، وحكى ابن المنذر عن الحسن والنخعي أنه لا دم على المجاوز مطلقًا. والله أعلم. فإن لم يَعُد فنسكه صحيح، ويلزمه دم عند الجمهور. الإحرام قبل الميقات (¬3): أجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه (أي قبله) وقال داود: لا يجوز الإحرام قبله ولا يصح إحرامه، وهو مردود عليه بإجماع من قبله، لكن يكره الإحرام قبل الميقات على الأصح، والله أعلم. من مرَّ بميقاتين: إذا مرَّ الشامي أو المصري بميقات أهل المدينة قبل الوصول إلى الجحفة (ميقاته الأصلي) فلا يجوز له أن يؤخر إحرامه، وعليه أن يحرم من ذي الحليفة عند الجمهور لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1734)، ومسلم (1221). (¬2) انظر «المجموع» (7/ 212 - 215). (¬3) «المجموع» (7/ 205) بتصرف. (¬4) صحيح: تقدم في المواقيت قريبًا.

وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجب عليه، وأنه يجوز التأخير إلى ميقاته لأنه الأصل، واختاره شيخ الإسلام، والأول أحوط، والله أعلم. اشتراط المحرم التحلل بعذر: يجوز للمحرم أن يشترط -عند إحرامه- التحلل متى حبسه عن إتمام النسك شيء من مرض أو نحوه قائلاً: «اللهم محلى حيث حبستني». لحديث عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: «أردت الحج؟» قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: «حُجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» (¬1). فإذا اشترط جاز له أن يتحلل من إحرامه إذا حبس ولا دم عليه. أما إذا لم يشترط فإذا حبسه عارض لزمه دم لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2). سنن الإحرام: 1 - الغسل عند الإحرام: لحديث زيد بن ثابت أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل» (¬3). وتغتسل المرأة وإن كانت حائضًا أو نفساء: ففي حديث جابر: «.. حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماءُ بنت عميس، محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي واستثفري (¬4) بثوب وأحرمي» (¬5). 2 - التطيُّب على البدن قبل الإحرام: لحديث عائشة قالت: «كنت أُطيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت» (¬6). وكذلك تتطيَّب المرأة: لحديث عائشة قالت: «كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسُّك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207). (¬2) سورة البقرة: 196. (¬3) حسن: أخرجه الترمذي (831). (¬4) الاستثفار: هو أن تضع المرأة خرقة (فوطة) على محل الدم وتشدها على وسطها. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1218). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (1189). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (1830)، والبيهقي (5/ 48).

قلت: فأما بعد الإحرام فلا يجوز استعمال الطيب بإجماع العلماء كما نقله النووي في «المجموع» (7/ 270). 3 - أن يحرم الرجل في إزار ورداء أبيضين: فعن ابن عباس قال: «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجَّل وادَّهن ولبس إزاره ورداءه هو أصحابه» (¬1). وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» (¬2). أما المرأة: فإنها تلبس ما شاءت من الثياب، لكن لا تلبس النقاب ولا القفازين -كما سيأتي في المحظورات- ولا يختص لباسها بلون معين كالأبيض أو غيره- كما يعتقد كثير من النساء خصوصًا المصريات- فقد «كانت عائشة رضي الله عنها تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة» (¬3). 4 - الصلاة في «وادي العقيق» لمن مرَّ به: وهو واد بقرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال (¬4) وقد قال عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (¬5). 5 - الصلاة في مسجد ذي الحليفة لمن مرَّ به: لحديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين» (¬6). وفي حديث جابر: «فلما أتى ذا الحليفة صلى وهو صامت حتى أتى البيداء» (¬7). تنبيه: أخذ الجمهور من حديث ابن عمر استحباب صلاة ركعتين لأجل الإحرام، فقال النووي في شرحه: «فيه استحباب صلاة الركعتين عند إرادة الإحرام ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري: أنه استحب كونها بعد صلاة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1545). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (999)، وأبو داود (3860). (¬3) إسناده صحيح: عزاه ابن حجر في الفتح (3/ 405) إلى سعيد بن منصور وقال: إسناده صحيح. (¬4) «فتح الباري» (3/ 459) ط. السلفية. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1534) وغيره وقد تقدم. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1184). (¬7) حسن: أخرجه النسائي (2756).

فرض، قال لأنه روى أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث» اهـ. قلت: بل ظاهر الحديث استحباب الصلاة لأجل المسجد لا لأجل الإحرام، ويؤيد هذا حديث ابن السمط: أنه خرج مع عمر إلى ذي الحليفة فصلَّى ركعتين فسألته عن ذلك، فقال: «إنما أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1) فليس فيه ذكر الإحرام. وإنما الذي قد يؤخذ من الحديث ما يأتي بعده: 6 - إيقاع نية الإحرام عقب صلاة فريضة أو نافلة: فالأفضل أن يكون الإحرام عقب أداء فريضة أو نافلة لسبب مشروع، للأحاديث السابقة، ويؤيد هذا أيضًا أنه في حديث ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنة ..... فلما قعد عليها واستوت على البيداء أهلَّ بالحج» (¬2). قلت: فالأظهر أن الصلاة التي صلاَّها صلى الله عليه وسلم قبل إحرامه كانت صلاة الظهر، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر بذي الحليفة -كما تقدم في صلاة المسافر- فصلاَّه ركعتين. وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم «أتاني آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (¬3) وهذه الصلاة يحتمل أن تكون فريضة أو نافلة، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4): «إن كان يصلي فرضًا أحرم عقيبه، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصُّه وهذا أرجح» اهـ. 7 - الحمد والتسبيح والتكبير -على الدابة- قبل الإهلال: لما في حديث أنس قال: «... ثم ركب حتى استوت به على البيداء، حمد الله، وسبَّح وكبَّر، ثم أهلَّ بحج وعمرة» (¬5). 8 - استقبال القبلة عند الإهلال: فعن نافع قال: «كان ابن عمر إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمر براحلته ¬

(¬1) حسن: أخرجه أحمد (202). (¬2) حسن: أخرجه الدارمي (1912)، وأبو داود (1752)، وأحمد (2982). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «مجموع الفتاوى» (26/ 108) ونحوه في «المحلى» لابن حزم (7/ 90). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1551)، وأبو داود (1779).

فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائمًا يلبيِّ ... وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك» (¬1). 9 - رفع الصوت بالتلبية: لحديث السائب بن خلاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جائني جبريل فقال: يا محمد، مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» (¬2). وهذا أمر ندب عند الجمهور، وأمر وجوب عند الظاهرية (¬3) وعن جابر وأبي سعيد قالا: «قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخًا» (¬4). هل ترفع المرأة صوتها بالتلبية؟: أجمع أهل العلم على أن المراة لا يلبِّي عنها غيرها، بل هي تلبِّي عن نفسها (¬5). أمَّا: هل ترفع المرأة صوتها بالتلبية؟ فذهب الأكثرون (¬6) إلى أنها لا ترفع صوتا بالتلبية واحتجوا بما يلي (¬7): 1 - أن المرأة مأمورة بالستر، فيكره لها رفع الصوت مخافة الافتتان بها. 2 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» (¬8) فدلَّ على أنها لا ترفع صوتها بالتلبية إلحاقًا بحالها في الصلاة. 3 - ما يروى عن ابن عمر أنه قال: «لا تصعد المرأة فوق الصفا والمروة، ولا ترفع صوتها بالتلبية» (¬9) لكنه ضعيف. بينما ذهب آخرون -على رأسهم عائشة رضي الله عنها- إلى أن المرأة ترفع صوتها لما يأتي: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1553). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (830)، وأبو داود (1197)، والنسائي (5/ 162)، وابن ماجه (2922). (¬3) حاشية السندي على النسائي (5/ 162). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1148). (¬5) نقله الترمذي في «الجامع» (849) وأما حديث جابر «كنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان» فضعيف لا يصح. (¬6) حتى نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك، وهو منقوض بما يأتي عن عائشة وغيرها. (¬7) «الأم» للشافعي (2/ 133)، و «المغنى» (3/ 330)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 499). (¬8) صحيح: تقدم في «الصلاة». (¬9) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في «سننه» (5/ 46).

1 - لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «جاءني جبريل فقال: يا محمد، مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» (¬1) وهو عام يشمل الرجال والنساء، وهذا ما فهمته عائشة رضي الله عنها. 2 - فعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: «خرج معاوية ليلة النفر، فسمع صوت تلبية، فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة، اعتمرت من التنعيم، فذُكر ذلك لعائشة، فقالت: لو سألني لأخبرته» (¬2). قال ابن حزم في «المحلى» (7/ 93): وقد كان الناس يسمعون كلام أمهات المؤمنين ولا حرج في ذلك، وقد روى عنهن وهنَّ في حدود العشرين سنة وفويق ذلك ولم يختلف أحد في جواز ذلك واستحبابه اهـ. ثم أورد آثارًا في هذا. قلت: أعدل الأقوال ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 115): «والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها» اهـ. الحائض والنفساء تهلُّ وتلبي: تقدم أن الحيض والنفاس لا يمنعان الإحرام بالحج، وأنه يستحب لهما الاغتسال، وكذلك تهلُّ الحائض والنفساء بعد اغتسالها، فعن عائشة قالت: «نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهلَّ» (¬3). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -لما حاضت-: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (¬4) قال الشافعي في «الأم» (2/ 134): والتلبية مما يفعل الحاج. اهـ. لفظ التلبية (¬5): عن نافع عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك». ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 4/ 389). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1209)، وأبو داود (1744)، وابن ماجه (2911). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (294)، ومسلم (1211). (¬5) التلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته، على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، والملبي هو: المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته، والمعنى: (أنا مجيبك لدعوتك، مستسلم لحكمك، مطيع لأمرك، مرة بعد مرة، لا أزال على ذلك). ذكره شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى. عن «حجة النبي» ص 55).

قال: [وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغبة إليك والعمل]» (¬1). وفي حديث جابر الطويل: «... فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهلَّ الناس بهذا الذي يُهلُّون به، فلم يردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته ...» الحديث (¬2). وفي رواية: «وأهل الناس بهذا الذي يهلون به: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، فلم يردَّ رسول الله ..» (¬3). وقد صح عن أبي هريرة أنه «كان من تلبيته -عليه الصلاة والسلام-: لبيك إله الحق» (¬4). قلت: يستفاد من هذه الأحاديث أمران: 1 - جواز الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لإقراره لأصحابه على ذلك، ولما ثبت عن ابن عمر وغيره. 2 - الاكتفاء بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل لملازمته صلى الله عليه وسلم لها، قال الشافعي -رحمه الله-: وإن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم الله، فلا بأس إن شاء الله، وأحب أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ. وذهب مذهب الجمهور كما في «الفتح» (3/ 480). مواطن التلبية: يستحب الإكثار من التلبية من حين الإحرام فما بعده دائمًا في حال الركوب والمشي، والنزول والصعود وعلى كل حال، حتى يرمي جمرة العقبة -عند الجمهور- خلافًا للمالكية، ومما يدل على ذلك أنه ثبتت مشروعية التلبية في المواطن الآتية: 1 - أثناء الصعود والهبوط في الطريق: فعن ابن عباس مرفوعًا -في حديث الدجال-: «أما موسى كأني أنظر إليه إذا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1549)، ومسلم (1184) والزيادة له. (¬2) صحيح: تقد بتمامه. (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (1812)، وأحمد (13918). (¬4) صحيح: أخرجه النسائي (2752)، وابن ماجه (2920).

انحدر في الوادي يلبِّي» (¬1) قال الحافظ (¬2): وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود. اهـ. 2 - في الطريق إلى عرفات: فعن أنس بن مالك أنه سئل -وهو غاد من منى إلى عرفات- عن التلبية: كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «كان يلبِّي الملبِّي لا ينكر عليه، ويكبِّر المكبِّر فلا ينكر عليه» (¬3). 3 - حين الإفاضة من عرفة حتى يرمي الجمرة: فعن ابن عباس أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قال: «لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُلبِّي حتى رمى جمرة العقبة» (¬4) قال النووي: وهو دليل على أنه يستديم التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة (¬5) غداة يوم النحر، وهذا مذهب الشافعي وسفيان والثوري وأبي حنيفة وأبي ثور، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ومن بعدهم ... وقال أحمد وإسحاق وبعض السلف: يلبِّي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة .... ويجيب الجمهور بأن المراد: حتى شرع في الرمي، ليجمع بين الروايتين. اهـ. وعن ابن مسعود قال: «ونحن بجمع (¬6): سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام: لبيك اللهم لبيك» (¬7). تنبيه: ذهب المالكية إلى أنه يقطع التلبية عند دخول مكة فيطوف ويسعى ثم يعاود حتى ظهر يوم عرفة، ودليلهم حديث نافع قال: «كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك» (¬8) قال الحافظ (¬9): قوله (كان ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1555)، ومسلم (166). (¬2) «فتح الباري» (3/ 485). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1659)، ومسلم (1284). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1544)، ومسلم. (¬5) يعني رواية مسلم: «لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة». (¬6) أي: المزدلفة. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1383)، والنسائي (5/ 265). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (1573) وغيره. (¬9) «فتح الباري» (3/ 509).

محظورات الإحرام

يفعل ذلك): يحتمل أن الإشارة به إلى الفعل الأخير وهو الغسل ... ويحتمل أنها إلى الجميع وهوالأظهر. اهـ. لكنه قال -رحمه الله- (¬1): الظاهر أنه أراد: يمسك عن التلبية، وكأنه أراد بالحرم المسجد، والمراد بالإمساك عن التلبية التشاغل بغيرها من الطواف وغيره لا تركها أصلاً، ... ، والظاهر أيضًا أن المراد بالإمساك: ترك تكرار التلبية ومواظبتها ورفع الصوت بها الذي يفعل في أول الإحرام لا ترك التلبية رأسًا، والله أعلم. اهـ. محظورات الإحرام هي الأمور التي منع الشارع المُحِرْمَ منها، وحرَّمها عليه ما دام محرمًا، وهذه المحظورات على قسمين: (أ) محظور يُفسد الحج: وهو الجماع قبل التحلل الأول (قبل رمي جمرة العقبة على الأرجح) وهو أشد المحظورات إثمًا وأعظمها تأثيرًا في النسك. قال الله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬2). وقد صح عن ابن عباس وابن عمر وقتادة أن الرفث في الآية: الجماع (¬3) وقيل الرفث: الإفحاش للمرأة في الكلام فيما يتعلق بالجماع وما أشبه ذلك، واختار ابن جرير أنه عام يشمل هذا كله. قال ابن قدامة (¬4): «أما فساد الحج بالجماع في الفرج فليس فيه اختلاف، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع» اهـ. قلت: ههنا أمور: الأول: أما الاستدلال بالآية الكريمة، فعلى القول بأن الرفث فيها: الجماع، فإن غاية ما تدل عليه المنع لا أنه يفسد الحج، وإلا لزم في الجدال أنه يفسد الحج ولا قائل بذلك (¬5) [غير ابن حزم]. الثاني: ليس في هذه المسألة حديث مسند صحيح مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) السابق (3/ 483). (¬2) سورة البقرة: 197. (¬3) انظر هذه الآثار في «تفسير الطبري» (4/ 125 - 136) بأسانيد صحيحة. (¬4) «المغنى» (3/ 334)، و «الإجماع» لابن المنذر (ص 144). (¬5) «الروضة الندية» (1/ 254).

الثالث: أن الإجماع الذي نقله ابن المنذر وغيره، هل ينتقض بما نقله الشوكاني في «نيل الأوطار» عن داود الظاهري؟ على أن هذا الإجماع -لو سلم- لم يستقر انعقاده على شيء بعينه، وقد حصل اختلاف في تفاصيله: فقال ابن عباس وأبوحنيفة: لا يبطل الحج بالوطء بعد عرفة. وقال مالك: إن وطئ يوم النحر قبل رمي الجمرة بطل حجُّه، وإن وطئ يوم النحر بعد رمي الجمرة لم يبطل حجه، وإن وطئ بعد يوم النحر قبل رمي الجمرة لم يبطل حجه؟! وقال الشافعي: إن وطئ ما بين أن يجزم إلى أن يرمي جمرة العقبة فسد حجه، وإن وطئ بعد الرمي فحجُّه تام. ثم اختلفوا فيما يجب على من جامع اختلافًا كثيرًا (¬1)، كما سيأتي. الرابع: ماذا على المجامع؟ وماذا يفعل؟ إذا جامع الرجل زوجته قبل التحلل الأول أثم وبطل حجُّه -عند الأكثرين- ويلزمها إتمام هذا لا حج -رغم فساده- لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (¬2). وعليهما الحج في العام القابل والهدي (بدنة). وبهذا أفتى ابن عمر وابن عمرو وابن عباس رضي الله عنهم فعن وعمرو بن شعيب عن أبيه فقال: «أتى رجل ابن عمر فسأله عن محرم وقع بامرأته؟ فأشار له إلى عبد الله ابن عمرو فسأله فقال: بطل حجُّه، قال: فيقعد؟ قال: لا، بل يخرج مع الناس فيصنع كما يصنعون، فإذا أدركه قابل، حجَّ وأهدى، فرجعا إلى عبد الله بن عمر فأخبراه، فأرسلنا إلى ابن عباس، فسأله فقال له مثل ما قال ابن عمرو، فرجع إليه فأخبره فقال له الرجل: ما تقول أنت؟ فقال: مثل ما قالا» (¬3). وذهبت الظاهرية (¬4) إلى أنه يفسد نسكه ويبطل وينصرف ولا يتمادى في حجه لأنه عمل فاسد، قالوا: وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحج إنما يجب مرة، ¬

(¬1) انظر «المحلى» (7/ 189). (¬2) سورة البقرة: 196. (¬3) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 142)، والبيهقي (5/ 167). (¬4) «المحلى» (7/ 189) وما بعدها.

ومن ألزمه التمادي على ذلك الحج الفاسد ثم ألزمه حجًّا آخر فقد ألزمه حجتين وهذا خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. وذهب بعض التابعين (¬1) إلى أنه يتحلل بعمرة ويقضي، فيجعلونه بمنزلة من فاته الوقوف بعرفة، فإنه يتحلل بعمرة ويحل. قلت: ولا شك أن الأرجح ما صح عن ثلاثة من علماء الصحابة (¬2) وأطبق عليه أكثر أهل العلم -إن لم يصح الإجماع- من أن المجامع يفسد حجه ويلزمه المضي فيه واتباع الصحابة في هذا أولى، لعمق عملهم وسداد رأيهم، لا سيما وهو الأحوط في الدين، والله أعلم. فوائد: 1 - إذا أُكرهت المرأة على الجماع: فإن حجَّها صحيح، ولا فدية عليها بخلاف زوجها على أصح القولين للعلماء (¬3). 2 - إذا جامع بعد التحلل الأول: قبل أن يطوع ويسعى، لم يفسد حجُّه لكنه يأثم «ويجب عليه أن يخرج إلى الحل ويحرم -في إزار ورداء- ليطوف الإفاضة محرمًا لأنه أفسد ما تبقى من إحرامه فوجب عليه أن يجدده وعليه فدية» (¬4). 3 - إذا جامع قبل التحلل الأول ناسيًا لإحرامه (¬5): إذا جامع المحرم قبل التحلل من العمرة، أو قبل التحلل الأول من الحج ناسيًا لإحرامه فالأصح أنه لا يفسد نسكه ولا شيء عليه لا كفارة ولا غيرها، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬6). (ب) محظورات لا تفسد الحج: 1 - لبس الرجل المخيط من الثياب: يحرم على الرجل لبس المخيط، وما هو ¬

(¬1) «الشرح الممتع» (7/ 183). (¬2) وورد كذلك فساد الحج بالجماع عن عمر وعلي وأبي هريرة، بأسانيد ضعيفة. (¬3) انظر «المجموع» (7/ 404). (¬4) «الشرح الممتع» لابن عثيمين (7/ 184). (¬5) «المحلى» (7/ 186)، و «المجموع» (7/ 364). (¬6) سورة الأحزاب: 5.

في معناه مما هو على قدر عضو من البدن (¬1)، فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا العمائم ولا القلنسوة ولا الجبة ولا الخفين ولا الجوربين ولا القفازين ونحو ذلك. لحديث ابن عمر: أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القُمُص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرنس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّه زعفران أو ورس» (¬2). فائدة: هذا اللبس المُحرَّم على الرجل محمول على ما يعتاد في كل ملبوس، فلو التحف بقميص أو ارتدى أو اتزر بسراويل مما ليس يعتاد لبسه عليه فلا شيء فيه، لأنه حينئذ يكون من جنس الإزار والرداء (¬3). من لم يجد إلا السراويل والخفين: من لم يجد الإزار والرداء، فوجد السراويل والخفين -واحتاج للمشي- فيجوز له أن يلبس ما يجده، لحديث ابن عباس قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: «من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين» (¬4) فدلَّ على جواز لبس السراويل -إذا لم يجد إزارًا- كما هي ولا يلزمه أن يشقها فيتزر بها -كما يقول الأحناف- ولا شيء عليه، لا فدية ولا غيرها لأنها -أي الفدية- لو وجبت لبينَّها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت حاجة، وهذا مذهب الجمهور خلافًا للأحناف. وإذا لم يجد النعلين لبس الخفين، لكن هل يقطعهما -كما في حديث ابن عمر- أم لا لحديث ابن عباس (¬5)؟ فذهب أحمد إلى أنه لا يلزم قطعهما، واختاره ¬

(¬1) «المجموع» (7/ 269)، و «المحلى» (7/ 80) وليس المراد بالمخيط ما فيه خيط فإن السنة أن يلبس الإزار والرداء وإن كانا مخيطين باتفاق الأئمة. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (1177). (¬3) «المجموع» (7/ 270)، و «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (26/ 109). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1843)، ومسلم (1178). (¬5) في رواية أحمد (1/ 228) من طريق ابن جريج عن أبي الشعثاء (جابر بن زيد) عن ابن عباس نحو ما ذكرت، وفي آخرها: «قلت: لم يقل ليقطعهما؟ قال: لا» قلت: هذا القول يحتمل أن يكون قائله ابن جريج أو من هو دونه، فقد رواه عمرو بن دينار عن جابر عن ابن عباس بدونه في الصحيحين، بل رواه أيوب عن عمرو عن جابر عن ابن عباس وزاد في آخره: «.. وليقطعهما أسفل الكعبين» هكذا موافقًا لحديث ابن عمر، أخرجه النسائي (5/ 135) ورجاله ثقات إلا أن هذه الزيادة شاذة، والله أعلم.

ابن تيمية حيث قال: «والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسر ... فإن لم يجد نعلين لبس خفين، وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقطع أولاً، ثم رخَّص بعد ذلك في عرفات ... وإنما رخص في المقطوع أولاً لأنه يصير بالقطع كالنعلين» اهـ. وقال بعضهم: قطع الخفين إفساد للمال وقد نهى عنه. اهـ. بينما ذهب الجمهور إلى أنه يجب قطع ما دون الكعبين (¬1)، حملاً للمطلق في حديث ابن عباس على المقيد في حديث ابن عمر، قلت: وهذا أولى من الأول والله أعلم. 2 - تغطية الرجل رأسه بمُلاصق: فلا يلبس على رأسه قلنسوة (طاقية) ولا عمامة ونحوها لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتقدم قريبًا: «لا يلبس القمص ولا العمائم ...». ويغطي رأسه بخمار (غترة ونحوها) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم فيمن وقصته دابته بعرفة: «لا تخمروا رأسه» (¬2) وهذا عام في كل غطاء ولا يقال: إنه يخصص بالعمائم دون سائر الأغطية، فإن العام لا يخصص بأحد أفراده إلا عند التعارض -كما تقرر في الأصول- ولا تعارض هنا، والله أعلم. فإن استظل بمنفصل عنه كمظلة أو شمسية أو سيارة أو شجرة ونحوها فلا بأس بذلك كما سيأتي. 3 - لبس المرأة النقاب والبرقع والقفازين: لزيادة وردت في حديث ابن عمر المتقدم وهي قوله: «... ولا تنتقب المُحرمة، ولا تلبس القفازين» (¬3) وقد اختلف فيها: هل هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم هي مدرجة من قول ابن عمر؟ ورجَّح الأخير الحافظ في «الفتح» (¬4). واختلف العلماء في لبسها النقاب، فمنعه الجمهور، وأجازه الحنفية وهو رواية عند الشافعية والمالكية (¬5). ¬

(¬1) «فتح الباري» (3/ 471)، والكعبان: هما العظمتان الناتئتان عند مفصل الساق والقدم. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1851)، ومسلم (1206). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه البخاري (1838)، وأبو داود (1825)، والترمذي (833)، والنسائي (5/ 133). (¬4) انظر «فتح الباري» (4/ 64)، وأيَّده شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (2/ 483). (¬5) «فتح الباري» (4/ 65).

قلت: على القول بالمنع من النقاب للمحرمة، فإنه يجوز لها أن تسدل خمارها من على رأسها على وجهها عند مرور الرجال الأجانب، سواء كان ماسًّا لوجهها أم لا، لأنها إنما نهيت عن النقاب، ولا يسمى السدل نقابًا (¬1)، وسيأتي بعض الأدلة على ذلك قريبًا. 4 - استعمال -المحرم أو المحرمة- الطيب على ثوب أو بدن: لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: «... ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّهُ زعفران أو ورس» (¬2). ولقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته: «لا تحنِّطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» (¬3). 5 - حلق شعر الرأس: لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬4). وقد أجمع المسلمون على تحريم حلق الرأس، يستوي في هذا الرجال والنساء، وتجب الفدية (¬5). فإن تأذى المحرم ببقاء شعره جاز له إزالته، وفيه فدية، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬6). وقد نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة لما مرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم -وهو محرم- والقمل يتهافت على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: «أتؤذيك هوامُّك هذه؟» قال: نعم، قال: «احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة» (¬7). هل يُمنع من قص الشعر أو حلق غير الرأس؟ قال النووي (¬8): «قال أصحابنا: ولا يختص التحريم بالحلق ولا بالرأس، بل ¬

(¬1) «المحلى» لابن حزم (7/ 91)، و «فتاوى ابن تيمية» (26/ 112). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) سورة البقرة: 196. (¬5) «المجموع» للنووي (7/ 262). (¬6) سورة البقرة: 196. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1814)، ومسلم (1201) وغيرهما. (¬8) «المجموع» (7/ 262).

تحرم إزالة الشعر قبل وقت التحلل، وتجب به الفدية سواء شعر الرأس واللحية والشارب والإبط والعانة وسائر البدن، وسواء الإزالة بالحلق والتقصير والإبانة بالنتف أو الإحراق وغيرهما، ولا خلاف في هذا كله عندنا» اهـ. قلت: ولا شك أن الدليل أخص من الحكم، فلا يصح الاستدلال، إلا أن يقال: (الدليل هنا القياس)، فنقول: إذن لابد أن يتساوى الأصل والفرع في العلة، فمن جعل العلة في النهي عن حلق الرأس: منه الترف (وهو قول الأكثرين) منع حلق سائر الشعر، ومن جعل العلة: أن المحرم إذا حلق رأسه فإنه يسقط به نُسكًا مشروعًا وهوالحلق أو التقصير، قال: لا يحرم إلا حلق الرأس، وأيَّدوا هذا بأن الأصل الحل فيما يؤخذ من الشعور فلا يمنع إلا بدليل (¬1). قلت: وهذا القول له وجهه، لكن هل يعكِّر عليه حديث. وعلى كلٍّ فالأحوط العمل بقول الجمهور في هذه المسألة، فيمنع الأخذ من شعر رأسه وشاربه وإبطه وعانته، والله أعلم. فائدة: إذا حك المحرم رأسه فلا حرج عليه وإن سقط بعض شعره إذا لم يقصده. 6 - تقليم الأظفار: نقل ابن المنذر إجماعًا على منع المحرم من أخذ الأظفار، وقال ابن قدامة: «أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم: حماد ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وروى عن عطاء، وعنه: لا فدية عليه، لأن الشرع لم يرد فيه بفدية» اهـ (¬2). قلت: إن صح الإجماع فهو حجة ملزمة، وإلا فالبحث فيه كالذي تقدم في حلق سائر الشعور. وقد خالف في هذا داود الظاهري فأجاز تقليم الأظفار كلها وقال: لا فدية فيها (¬3) قال النووي (¬4): «وقد نقل ابن المنذر وغيره إجماع المسلمين على تحريم ¬

(¬1) أفاده العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- كما في «الممتع» (7/ 131 - 132). (¬2) «الإجماع» لابن المنذر (57)، و «المغنى» (5/ 388). (¬3) «المجموع» (7/ 263). (¬4) «المجموع» (7/ 263).

قلم الظفر في الإحرام، فلعلهم لم يعتدُّوا بداود، وفي الاعتداد به في الإجماع خلاف ...» اهـ. قلت: وخالف في هذا أيضًا ابن حزم في «المحلى» (7/ 246) فأجاز قص الأظفار. فائدة: احتج الشنقيطي -رحمه الله- في «أضواء البيان» (5/ 404) على المنع من تقليم الظفر بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬1). بناء على تفسير بعض الصحابة والتابعين قضاء التفث بأنه: حلق الرأس وتقليم الأظفار ونتف الإبط ... فقال -رحمه الله-: «وعلى التفسير المذكور فالآية تدل على أن الأظفار كالشعر بالنسبة للمحرم، لا سيما أنها معطوفة بـ «ثم» على نحر الهدايا، فدلَّ على أن الحلق وقص الأظفار ونحو ذلك ينبغي أن يكون بعد النحر» اهـ. فائدة: إذا انكسر ظفره، فله إزالته، ولا شيء عليه. 8 - دواعي الجماع: قال النووي: «فتحرم المباشرة بشهوة كالمفاخذة والقبلة واللمس باليد بشهوة قبل التحللين، وفيما بين التحللين خلاف، ومتى ثبت التحريم فباشر عمدًا بشهوة لزمته الفدية، وهي شاة أو بدلها من الإطعام أو الصيام، ولا يلزمه البدنة بلا خلاف سواء أنزل أو لا وإنما تجب البدنة في الجماع، ولا يفسد نسكه بالمباشرة بشهوة بلا خلاف سواء أنزل أم لا، هذا كله إذا باشر عالمًا بالإحرام، فإن كان ناسيًا فلا فدية بلا خلاف ...» (¬2). قلت: ودليل تحريم ذلك أنه داخل في عموم قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ} كما تقدم. لكن لا أعلم دليلاً من الكتاب أو السنة يوجب على من باشر بشهوة -فيما دون الجماع- دمًا، اللهم إلا القاعدة التي عند الفقهاء بأن فعل المحرم في الإحرام يوجب الكفارة، وإن كانتغير مسلَّمة. وقد ذهب مالك إلى أنه إن باشر أو قبَّل أو لمس فأنزل فقد فسد حجُّه وعليه الحج من قابل، وإن قبَّل أو باشر أوتلذذ فلم ينزل ولم يولج فعليه دم (¬3)؟! أما ابن حزم فأباح كل ما كان دون الجماع، بناء على أن الرفث: الجماع لا غير (¬4). ¬

(¬1) سورة الحج. (¬2) «المجموع» (7/ 306). (¬3) «المدونة» (1/ 327). (¬4) «المحلى» (7/ 254).

9، 10 - الخطبة وعقد الزواج: لحديث عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب» (¬1) قال الترمذي: «والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، ولا يرون أن يتزوج المحرم، وإن نكح فنكاحه باطل» اهـ. وقد عارض هذا الحديث حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوَّج ميمونة وهو محرم» (¬2) وبه قال أبو حنيفة والثوري فأجازوا نكاح المحرم. لكن أجاب عنه الجمهور بعدة أجوبة، منها ما جرى على مسلك الترجيح (¬3) ومن ذلك: 1 - أن قول ابن عباس هذا مما استدرك عليه، وعدَّ من وهمه، قال سعيد بن المسيب: ووهم ابن عباس -وإن كانت خالته- ما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حلَّ. وقال أحمد: هذا لحديث خطأ. 2 - أن ابن عباس كان حينئذ ابن عشر سنين، وقد يخفى على مثله تفاصيل الأمور التي جرت في زمنه. 3 - أن ميمونة نفسها وأبا رافع -سفير النبي صلى الله عليه وسلم لزواجها- أثبتا أنه تزوجها في الحِلِّ: فعن يزيد بن الأصم قال حدثتني ميمونة بنت الحارث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال» قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس (¬4). وعن أبي رافع قال: «تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1409)، والترمذي (840)، وأبو داود (1841)، والنسائي (5/ 292)، وابن ماجه (1966). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (1410). (¬3) انظر «المحلى» (7/ 200)، و «المغنى» (3/ 158)، و «فتح الباري» (4/ 62)، «زاد المعاد» (3/ 372)، و «شرح العمدة» لشيخ الإسلام (2/ 194). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه مسلم (1411)، وأبو داود (1843)، والترمذي (845)، وابن ماجه (1964) وغيرهم. (¬5) ضعيف: أخرجه الترمذي (841) بسند ضعيف، وهو يتقوى بما قبله، وأعله الترمذي بالإرسال، ولا أراه هنا علة لأن يزيد قد أخذه عن ميمونة على أية حال، وقد صرح بالتحديث في رواية مسلم.

4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تزوجها في عمرة القضاء -بلا خلاف- ومكة يومئذ دار حرب وإنما هادنهم عليه السلام على أن يدخلها معتمرًا ويبقى بها ثلاثة أيام فقط ثم يخرج فأتى من المدينة محرمًا بعمرة ولا شك أنه تزوجها بعد ما أتم عمرته ثم رجع بها معه من مكة، وإنماكان يحرم من ذي الحليفة، فكان ظاهر الحال أنه تزوجها في إحرامه، أما من روى أنه تزوجها حلالاً فقد اطلع على حقيقة الأمر وأخبر به. 5 - على فرض صحة حديث ابن عباس (¬1) فقد تعارض الفعل مع القول -في حديث عثمان- فيجب تقديم القول، لأن الفعل موافق للبراءة الأصلية، وهي كون النكاح حلالاً في كل حال، والقول ناقل عن الأصل فيكون حديث ابن عباس منسوخًا ولا يجوز تقديم الفعل هنا لأنه يلزم منه تغيير الحكم مرتين وهو خلاف قاعدة الأحكام. قلت: وهذا أقوى الأجوبة، لموافقته الأصول. ويؤيده كذلك أن تحريم زواج المُحرم قد ثبت العمل به عند الخلفاء الراشدين، فعن أبي غطفان عن أبيه: «أن عمر فرَّق بينهما، يعني: رجلاً تزوج وهو محرم» (¬2). وعن علي قال: «لا ينكح المحرم، فإن نكح ردَّ نكاحه» (¬3). 11، 12 - اقتراف المعاصي، والمخاصمة والجدال: لقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬4). ومن العلماء من سلك مسلك الخصوصية ورأى أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يعارض الأمر الخاص بالأمة، لا سيما وللنبي صلى الله عليه وسلم في النكاح خصوصياته المعروفة، لكن الترجيح السابق أولى لافتقار الخصوصية إلى الدليل، والله تعالى أعلم. ¬

(¬1) أشار الحافظ في «الفتح» (9/ 166) إلى أنه قد صح حديث ابن عباس عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنها، قلت: بل في كل منهما كلام، ولعله لأجل ذلك قال ابن عبد البر في التمهيد (3/ 153): «ما أعلم أحدًا من الصحابة روى عنه أنه عليه السلام نكح ميمونة وهو محرم إلا ابن عباس» اهـ. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (869)، وعنه البيهقي (5/ 66)، وانظر «الإرواء» (1038). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 66). (¬4) سورة البقرة: 197.

13 - التعرض لصيد الحيوان البرِّي: سواء بالقتل أو الذبح أو الإشارة أو الدلالة، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (¬1). وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (¬2). ولحديث أبي قتادة الذي فيه: «... فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يُحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمُر وحش، فحمل أبو قتادة على الحُمر فعقر منها أتانًا، فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إنا كنا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حُمُر وحش، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانًا، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال: «منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟» قالوا: لا، قال: «فكلوا ما بقي من لحمها» (¬3). جزاء قتل الصيد: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (¬4). والآية الكريمة تدل على أن قاتل الصيد مخيَّر في الجزاء بين أحد أمور ثلاثة، بأيها شاء كفَّر، سواء كان موسرً أو معسرًا، وهذه الأمور هي: [1] ذبح مثل ما قتل -إن كان له مثل من النَعَم- والتصدق به على الفقراء الحرم، وله أن يذَبحه في أي وقت شاء، ولا يختص ذلك بأيام النحر. والمراد بالمثل: الأشبه في الصورة والخلقة لا في القيمة فيذبح أشبه النعم بما صاده من أغلب الوجوه، فيذبح في صيد الضبع كبشًا، وفي الغزال عنزًا وفي النعامة ناقة وهكذا فعن جابر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع؟ فقال: «هو صيد، ويُجْعَل فيه كبش، إذا صاده المحرم» (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة: 96. (¬2) سورة المائدة: 95. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196). (¬4) سورة المائدة: 95. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3801)، وغيره وصححه في «الإرواء» (1050).

وعن جابر: «أن عمر بن الخطاب قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة» (¬1). وقد قضى السلف من الصحابة والتابعين (¬2) في النعامة ببدنة (ناقة) وهو قول مالك والشافعي، قال ابن حزم: «ولا شيء أشبه بالنعامة من الناقة في طول العنق والهيئة والصورة» اهـ. وفي حمار الوحش والإبل وبقر الوحش: بقرة. وقد حكم عمر رضي الله عنه في الحمامة بشاة (¬3)، وكذا حكم ابن عباس رضي الله عنهما (¬4) فما كان من الصيد لم تحكم فيه الصحابة -مما تقدم وغيره- أقمنا حكمين عدلين خبيرين للحكم في المثل فإن لم يجدا له شبهًا من النعم، فيجب فيه قيمته، ولا يجوز أن يتصدق بها دراهم، بل يقوِّم بها طعامًا ثم يخيَّر بين الأمرين الآخرين من الثلاثة. [2] أن يقوِّم المثل بالدراهم والدراهم بطعام ويتصدق به على المساكين لكل مسكين مُدًّا، ولا يجزئ إخراج القيمة (¬5). [3] أن يصوم بدل ذبح المثل والإطعام: عن كل مُدٍّ يومًا عند جمهور العلماء. والإطعام والصيام يفعلان في أي موضع شاء؛ لأن الله تعالى لم يحُد لهما موضعًا (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مالك (947)، وعنه الشافعي (987)، وعنه البيهقي (5/ 183)، وانظر «الإرواء» (1051). والعناق: من أولاد المعز وهي التي من حين تولد إلى أن ترعى. واليربوع: حيوان يشبه الفأر. والجفرة: ما بلغ أربعة أشهر من الماعز وفصل عن أمه. (¬2) نقل ابن قدامة في «المغنى» (5/ 204، 404)، وشيخ الإسلام في «شرح العمدة» (2/ 283) إجماع الصحابة على ذلك وعلى ما تقدم عن عمر، وانظر مصنف عبد الرزاق (8213)، والمحلى (7/ 226). (¬3) حسنه الحافظ. أخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 214)، والبيهقي (5/ 502) وقال ابن حجر في «التلخيص» (2/ 285): «إسناده حسن». (¬4) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 205)، وانظر «الإرواء» (1056). (¬5) انظر «المجموع» (7/ 423). (¬6) «المحلى» (7/ 235).

إذا اشترك جماعة في قتل صيد: فليس عليهم إلا جزاء واحد لقوله تعالى {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1). فليس في الصيد إلا مثله لا أمثاله، وعن عمار ابن أبي عمار أن موالى لابن الزبير قتلوا ضبعًا وهم محرمون فسألوا ابن عمر؟ فقال: اذبحوا كبشًا، فقالوا: عن كل إنسان منا؟ فقال: «بل كبش واحد عن جميعكم (¬2)»). وهذا في أول دولة ابن الزبير، ولا يعرف لابن عمر مخالف من الصحابة، وهو مذهب الشافعي وجماعة من السلف. فالجزاء والإطعام يشترك فيه القاتلون، أما إذا اختاروا الصيام فعلى كل واحد منهم الصيام كله، لأن الصيام لا يُشترك فيه ولا يمكن ذلك بخلاف الأموال. من قتل صيدًا بعد صيد: فعليه لكل مرة جزاء، وليس قول الله تعالى {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} (¬3). بمسقط للجزاء عنه، فإن الله تعالى لم يقل: لا جزاء عليه، بل قد أوجب الجزاء على القاتل للصيد عمدًا، فهو على كل قاتل مع النقمة على العائد (¬4). من قتل الصيد ناسيًا؟ ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي، إلى أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه، وحجتهم في ذلك (¬5). 1 - قالوا: قد أوجب الله تعالى الكفارة على قاتل المؤمن خطأ، فقسمنا عليه قاتل الصيد الخطأ. 2 - قالوا: لما كان متلف أموال الناس يلزمه ضمانها بالخطأ والعمد، وكان الصيد ملكًا لله تعالى، وجب ضمانه بالعمد والخطأ. 3 - قال بعضهم: إنما نص على المتعمد ليعلم إن حكم المخطئ مثله. بينما ذهب ابن حزم إلى أن الناسي لإحرامه وغير المتعمد لا جزاء عليه ولا إثم لقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} (¬6). قال: لأن إذاقة الله تعالى وبال ¬

(¬1) سورة المائدة: 95. (¬2) إسناده حسن: أخرجه الدارقطني (2/ 250)، وابن حزم (7/ 237). (¬3) سورة المائدة: 95. (¬4) «المحلى» (7/ 238)، و «المجموع» (7/ 437). (¬5) انظر «المحلى» لابن حزم (7/ 214) وما بعدها، و «المجموع» (7/ 316). (¬6) سورة المائدة: 95.

الأمر وعظيم وعيده بالانتقام منه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنه ليس على المخطئ البتة ولا على غير العامد للمعصية القاصد إليها ... وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬1). اهـ. ونقل هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وسعيد ابن جبير وابن المسيب وطاوس والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعطاء ومجاهد. ثم أجاب عن حجج الجمهور بكلام في غاية السداد فليراجع، والله ولي التوفيق. ما لا يحرم قتله أو صيده للمحرم: 1 - الحيوان الإنس أصلاً: تقدم أنه يحرم قتل أو صيد الحيوان البريِّ، أما الإنس كالإبل والبقر والغنم والدجاج فلا يحرم شيء منه إن لم يكن وحشيًّا، فإن ندَّ بعير من صاحبه -وهو محرم- فأدركه وقتله رميًا فهو حلال، حتى لو توحش هذا البعير لأن الأصل أنه أنسي (¬2). 2 - صيد البحر: لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (¬3). 3 - قتل مُحرَّم الأكل: كالسباع وذوات الناب والمخلب، لأنه لا قيمة له وليس بصيد، وهو مذهب الشافعي وقول للحنابلة خلافًا للجمهور الذين أوجبوا فيه الفدية (¬4). 4 - ما أُمر بقتله وما يؤذي: وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على خمس يقتلن في الحل والحرم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق تقتلن في الحِلِّ والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» (¬5). قال شيخ الإسلام (¬6): «وجملة أن ما أذى الناس أو آذى أموالهم فإن قتله مباح سواء كان قد وجد منه الأذى كالسبع الذي قد عدا على المحرم، أو لا يؤمن أذاه مثل الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور، فإن هذه الدواب ونحوها تدخل ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 5. (¬2) «الشرح الممتع على زاد المستقنع» (7/ 167) بتصرف يسير. (¬3) سورة المائدة: 96. (¬4) «المحلى» (7/ 238)، وانظر «تفسير ابن كثير» (2/ 98). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1829)، ومسلم (1198). (¬6) «شرح العمدة» (1/ 136).

بين الناس من حيث لا يشعرون وتعم بلواهم بها، فأذاهم بها غير مأمون، قال أصحابنا: قتلها مستحب» اهـ. وكذلك قتل البعوض والذباب والبراغيث والقمل إذا كانت تؤذيه لا حرج فيه ولا شيء عليه (¬1). 5 - قتل الآدمي الصائل: للإنسان أن يدفع عنه كل ما يؤذيه من الآدميين والبهائم، حتى لو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد» (¬2). 14 - الأكل مما صيد من أجله أو بإشارته أو إعانته: لما تقدم في حديث أبي قتادة من قوله صلى الله عليه وسلم: «أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا» (¬3). فإذا صاد المُحلُّ صيدًا فأطعمه المحرم، فإنه يجوز له الأكل منه إذا لم يكن قد صيد من أجله. فعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال: «خرجنا مع طلحة بن عبيد الله -ونحن حرم- فأُهدي له طير، وطلحة راقد، فمنَّا من أكل، ومنَّا من تورَّع، فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬4) وهو محموا على أنه لم يُصَدْ من أجله. فإن كان صاده من أجل إطعامه المحرم لم يجُز الأكل منه، وعليه يحمل حديث الصعب بن جثامة أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا فردَّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه قال: «إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُم» (¬5) فهو محمول على أنه كان صاده من أجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحرم فلم يجز. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (26/ 118)، و «المحلى» (7/ 245). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2480)، ومسلم (141). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1197) وغيره. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1825)، ومسلم (1193).

وهذا هو مذهب جمهور العلماء ورجَّحه ابن القيم (¬1) وقال: آثار الصحابة كلها في هذا إنما تدل على هذا التفصيل. اهـ. أمور لا بأس بها للمُحْرِم (المباحات): وهذه أمور يتحرَّج منها بعض الحجاج، ولا حرج منها، فمن ذلك: 1 - الاغتسال لغير احتلام، وتغيير إزاره وردائه: فعن عبد الله بن حنين عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما اختلفا بالأبواء، فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك، فوجدته يغتسل بين القرنين، وهو يستتر بثوب، قال: فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، ثم قال لإنسان يصب: صب، فصبَّ على رأسه ثم حرَّك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل، [فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدًا]» (¬2) وفيه دليل على جواز الاغتسال للمحرم. وعن ابن عباس قال: «ربما قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعال أُباقيك في الماء أيُّنا أطول نفسًا ونحن محرمون» (¬3). 2 - الامتشاط: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقال: «انقضى رأسك وامتشطي» (¬4) وهو جائز إذا أمن من سقوط شيء من شعره، وأما إذا لم يأمن فهو محل نزاع واجتهاد، والأظهر جوازه لعدم الدليل على المنع. 3 - حكُّ الرأس والجسد: فعن عائشة أنها سئلت عن المحرم يحكُّ جسده؟ فقالت: «نعم، فليحككه وليشدد» (¬5). ويدل لهذا حديث أبي أيوب المتقدم، ولذا قال شيخ الإسلام (¬6): «وله أن يحك بدنه إذا حكَّه، وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره» اهـ. ¬

(¬1) انظر «زاد المعاد» (1/ 164)، و «تهذيب السنن» (5/ 215 - مع عون المعبود). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1840)، ومسلم (1205) والزيادة له. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 63). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (316)، ومسلم (1211). (¬5) صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (803). (¬6) «المجموعة الكبرى» (2/ 368) عن «حجة النبي» (ص: 27).

وقال النووي: «وأما حك المحرم رأسه فلا أعلم خلافًا في إباحته ... لكن قالوا: يرفق لئلا ينتتف شعره» (¬1). 4 - الاحتجام ولو بحلق الشعر مكان الحجم: لحديث ابن بجينة رضي الله عنه قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم (وهو مُحرم بلحى جمل) -موضع بطريق مكة- في وسط رأسه» (¬2). قال شيخ الإسلام (¬3): «وله أن يحك بدنه إذا حكَّه، ويحتجم في رأسه وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلق شعر الذكر جاز، فإنه قد ثبت في الصحيح (ثم ساق الحديث السابق وقال:) ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر ...» اهـ. وذهب الجمهور إلى جواز الاحتجام بشرط ألا يتضمن قطع الشعر، وإلا لزمه الفدية، وردَّه ابن حزم في «المحلى» (7/ 257) بقوله عقب الحديث السابق: «لم يخبر عليه السلام أن في ذلك غرامة ولا فدية، ولو وجبت لما أغفل ذلك، وكان عليه السلام كثير الشعر أفرع، وإنما نهينا عن حلق الرأس في الإحرام، والقفا ليس رأسًا ولا هو من الرأس ...» اهـ. فائدة: ويدخل فيما تقدم نزع الضرس وفقء الدمل فإنه لا حرج فيه. 5 - شم الريحان والطيب لحاجة لا للتلذذ به: فعن ابن عباس قال: «المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى، فإن الله عز وجل لا يصنع بأذاكم شيئًا» (¬4). وشم الطيب له ثلاث حالات (¬5): 1 - أن يشمه بلا قصد منه، فهذا لا حرج فيه. 2 - أن يقصد شمه، لكن لا للتلذذ به أو الترفيه، بل لاختباره ونحو ذلك، وهذا لا بأس كذلك. ¬

(¬1) «المجموع» (7/ 363). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1836)، ومسلم (1203). (¬3) «مجموع الفتاوى» (26/ 116). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 62 - 63). (¬5) انظر «الشرح الممتع» (7/ 158 - 159).

3 - أن يشمه قاصدًا التلذذ به، فيمنع منه في أقرب قولي العلماء، ولقائل أن يقول: إنه لا بأس لأنه ليس استعمالاً ولا تأثير للشم في الثوب أو البدن. 6 - طرح الظفر إذا انكسر: ويدل عليه أثر ابن عباس السابق، وقد سئل سعيد بن المسيب عن ظفر انكسر وهو محرم؟ فقال: «اقطعه» (¬1). 7 - تغطية الوجه للرجل: لا بأس أن يغطي الرجل وجهه بما هو ملتحف به أو بغير ذلك، ليتقي الشمس أو الغبار أو نحوه وهو محرم، وهذا مروي عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن الزبير، وجابر، وابن عباس وجمهور التابعين وهو مذهب الثوري والشافعي (¬2). وأحد القولين في مذهب أحمد (¬3). بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك إلى أن المحرم لا يغطي وجهه، وهو مروي عن ابن عمر، ويُستدل له بزيادة وردت في حديث المحرم الذي وقصته ناقته فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تخمروا رأسه» ففي رواية «ولا تغطوا وجهه» بدل (ولا تخمروا رأسه» وفي رواية الجمع بينهما، وهذه الزيادة مختلف في صحتها (¬4)، فمن ضعَّفها قال: لا بأس بتغطية الوجه، ومن صحَّحها: فمنهم من منع تغطية الرجل المحرم وجهه، ومنهم من خص المنع بالمحرم الميت دون الحي أخذًا بظاهر اللفظ وهومذهب ابن حزم، ومنهم من قال: إنما نهى عن تغطية وجهه لصيانة رأسه لا يقصد كشف وجهه، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأس، ولا بد من تأويله، لأن مالكًا وأبا حنيفة يقولان: لا يمتنع من ستر رأس الميت ووجهه، والجمهور يقولون: يباح ستر الوجه دون الرأس، فتعين تأويل الحديث، قاله في «المجموع» (7/ 281). 8 - إسدال المرأة من على رأسها على وجهها (¬5): وقد تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن تلبس النقاب وما في معناه كالبرقع ونحوه ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (805). (¬2) انظر الآثار عنهم في «المحلى» (7/ 91)، وانظر «المجموع» (7/ 280). (¬3) «المبدع» (3/ 140). (¬4) الحديث متفق عليه وقد تقدم، والزيادة عند مسلم، وانظر «الفتح» (4/ 47)، و «الإرواء» (4/ 200). (¬5) «مجموع الفتاوى» (26/ 112)، و «المحلى» (7/ 91)، و «المغنى» (3/ 325).

وأنه يجوز لها أن تسدل خمارها من على رأسها على وجهها عند مرور الأجانب بها، سواء كان ماسًّا لوجهها أم لا، وهذا أصح قولي العلماء، لأن السدل لا يسمى نقابًا فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: «كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام» (¬1). وقالت عائشة: «كان الركبان يمرُّون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا، أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» (¬2). 9 - لبس المرأة ما شاءت من الثياب من أي لون: فعن القاسم بن محمد قال: «كانت عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة» (¬3). وعن أسماء بنت أبي بكر: «أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات المشبعات وهي محرمة، ليس فيها زعفران» (¬4). وعن يزيد الفقير قال: «سافرت مع أم سلمة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- فكان بعض من معها يلبس المعصفر» (¬5). وعن عطاء -في قصة طواف عائشة رضي الله عنها مع الرجال- «.. ورأيت عليها درعًا مُورَّدًا» (¬6). ولا يختص لباس المرأة المحرمة بالبياض كما يعتقد كثير من النساء -وخصوصًا المصريات- بل لها أن تلبس ما شاءت ما دام قد توفر فيه شروط اللباس الشرعي. 10 - لبس المرأة السراويل والخفين: يجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من سراويل وغيرها، وليست تُمنع مما يمنع منه الرجل من لبس المخيط (¬7) -غير أنها لا تنتقب ولا تلبس القفازين كما تقدم-. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 454). (¬2) حسن لغيره: أخرجه أحمد (6/ 30)، وأبو داود (1833) بسند ضعيف وله شواهد يحسَّن بها. (¬3) إسناده صحيح: عزاه الحافظ في «الفتح» (2/ 405) إلى سعيد بن منصور وصحح إسناده. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه مالك (719)، والشافعي في «الأم» (2/ 126). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف». (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1618)، وعبد الرزاق (5/ 67). (¬7) انظر «الأم» (2/ 126)، و «المغنى» (3/ 328)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 112)، و «فتح الباري» (3/ 406)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 490).

ولها كذلك أن تلبس الخفين، ولا تقطع ما فوق الكعبين منهما: فعن ابن عمر قال: «لا بأس أن تلبس المحرمة الخفين والسراويل» (¬1). وعن سالم عن أبيه: أنه كان يفتي النساء إذا أحرمن أن يقطعن الخفين، حتى أخبرته صفية عن عائشة أنها كانت تفتي النساء أن لا يقطعن فانتهى عنه» (¬2). 11 - لبس المرأة المُحرمة الحليَّ إن شاءت: فعن صفية بنت شيبة أن امرأة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين، إن ابنتي فلانة حلفت أن لا تلبس حليها في الموسم (وفي رواية: في إحرامها)، فقالت عائشة: قولي لها: «إن أم المؤمنين تقسم عليك ألا لبست حليك كلَّه» (¬3). وعن نافع أن «نساء عبد الله بن عمر وبناته، كُنَّ يلبس الحلي وهنَّ محرمات» (¬4). وعن مالك بن مغول قال: سألت ابن الأسود: تلبس المحرمة من لمحلي؟ فقال: «ما كانت تلبس وهي مُحِلَّة» (¬5). وقد صح عن عطاء أنه كان يكره الحلي المشهور، أي الذي تشتهر به المرأة من بين النساء (¬6). 12 - خضاب المحرمة بالحناء ونحوها إن شاءت: للمحرمة أن تختضب بالحناء وغيرها لعدم ورود النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الحناء ليست بطيب وهو مذهب الشافعي والحنابلة (¬7)، إلا أن بعضهم كرهه لأنه من الزينة. وقال الأحناف والمالكية: لا يجوز الخضاب للمحرم رجلاً كان أم امرأة. قلت: الظاهر أنه لا دليل على المنع لا للرجل ولا للمرأة، وعليه فلو لفت المرأة الخرق مع الحناء على يديها فإنه لا حرج فيه ولا فدية في أقرب أقوال العلماء. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 92). (¬2) إسناده صحيح موقوفًا: أخرجه الشافعي، وقد ورد مرفوعًا عند أبي داود (1831)، والبيهقي (5/ 25)، وغير همام والصواب وقفه. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي، ومن طريقه البيهقي (5/ 52)، وابن أبي شيبة (1/ 4/ 319). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 320). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 320). (¬6) انظر «جامع أحكام النساء» (2/ 495) لشيخنا -حفظه الله-. (¬7) انظر «المجموع» (7/ 219)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 497).

لكن هل يعكِّر على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «طيب المرأة ما ظهر لونه وخفى ريحه» (¬1)؟! فتكون الحناء طيبًا بهذا النص؟! قلت: الأظهر: لا يعكر كون الحناء من الطيب، لأن المنهي عنه ما له رائحة كما تقدم، والله أعلم. 13 - الاكتحال للحاجة: لا بأس أن يكتحل المحرم من وجع يجده في عينيه، وقد اتفق العلماء -كما نقله النووي- على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية عليه في ذلك (¬2). وعن شميسة قالت: «اشتكيت عيني وأنا محرمة، فسألت عائشة أم المؤمنين عن الكحل، فقالت: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد، أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة ونحن نكرهه، وقالت: إن شئت كحلتك بصبر، فأبيت» (¬3). وعن ابن عمر قال: «يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكن فيه طيب» (¬4). قلت: الأحوط أن يقيد جواز الاكتحال بالحاجة من وجع ونحوه، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشعر بكراهته، وإن لم يكن صريحًا، كحديث جابر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ففيه: «... وقدم عليٌّ من اليمن ببُدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حلَّ ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت إن أبي أمرني بهذا ...» الحديث (¬5). قال في «المغنى» (3/ 327): وهذا يدل على أنها كانت ممنوعة من ذلك. اهـ. يعني حال الإحرام. وفي صحيح مسلم أن عمر بن عبيد الله اشتكى عينيه وهو محرم -وقد خرج أبان بن عثمان: «... فأراد أن يكحلها فنهاه أبان بن عثمان، وأمره أن يضمدها بالصبر، وحدَّث عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك» (¬6). ¬

(¬1) حسن: وسيأتي تخريجه في موضعه، إن شاء الله. (¬2) «شرح مسلم» (3/ 292)، وهذا مذهب مالك -كما في المدونة- (1/ 342)، والشافعي في «الأم» (2/ 129). (¬3) أخرجه البيهقي (5/ 63)، وشميسة هذه لم توثق إلا أنها صاحبة القصة. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 424). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم وقد تقدم بتمامه وتخريجه في «صفة الحج». (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1204).

دخول مكة

14 - الاستظلال بالخيمة أو المظلة (الشمسية) وفي السيارة: وهذا لا حرج فيه، فعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: «حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً رضي الله عنهما وأحدهما آخذ بخطام ناقته، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة» (¬1). قلت: فعلم أن ما يفعله بعض الحجاج من تكلف ركوب ما لا سقف له من السيارات، تنطع وتشدد لم يأذن به الله تعالى. 15 - شد الحزام على إزاره، ولبس الخاتم والساعة والنظارة: لعدم النهي عن ذلك، وورود بعض الآثار بجواز بعض ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الهميان للمحرم؟ فقالت: «وما بأس؟ ليستوثق من نفقته» (¬2). وعن عطاء قال: يتختم -يعني المحرم- ويلبس الهميان (¬3). قال الألباني -رحمه الله تعالى-: «ولا يخفى أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة [يعني الحزام] مع عدم ورود ما ينهى عنهما {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (¬4). اهـ. 16 - قتل ما يؤذي من الحيوان كالفواسق وغيرها مما تقدم. دخول مكة سنن دخول مكة: 1، 2، 3 - المبيت بذي طوى، والاغتسال لدخولها، ودخولها نهارًا: لحديث نافع قال: «كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1298)، وأبو داود (1834)، وأحمد (25998)، والبيهقي (5/ 69). (¬2) إسناده صحيح: انظر «حجة النبي صلى الله عليه وسلم» للألباني (ص: 30). (¬3) رواه البخاري تعليقًا. (¬4) سورة مريم: 64. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1573)، ومسلم (1259).

4 - دخول مكة من الثنية العليا: لحديث ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السلفى» (¬1). 5 - تقديم رجله اليمنى عند دخول المسجد الحرام والدعاء بقوله: «بسم الله، اللهم صلِّ على محمد وسلِّم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك» (¬2). 6 - رفع اليدين والدعاء عند رؤية الكعبة: لثبوته عن ابن عباس (¬3)، فيدعو بما تيسر، وإن قال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام» (¬4) فهوحسن لثبوته عن ابن عمر. 7 - أن يطوف بالبيت: وهو طواف القدوم وسيأتي عقبه. الركن الثاني: الطواف (طواف الإفاضة) تعريف الطواف: الطواف لغة: الدوران حول الشيء، وفي الاصطلاح: هو الدوران حول البيت الحرام على الوجه الذي يأتي الكلام عليه. أنواع الطواف: الأطوافة المشروعة في الحج ثلاثة: 1 - طواف القدوم: ويسمى طواف الورود، وطواف التحية، لأنه شرع للقادم من غير مكة لتحية البيت، وهو مستحب للآفاقي القادم من خارج مكة عند جمهور العلماء -خلافًا للمالكية الذين أوجبوه وقالوا: من تركه لزمه دم- تحيةً للبيت العتيق. والأصل في هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جابر: «حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1575)، ومسلم (1257). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (713)، والترمذي (314)، والنسائي (729) بدون الصلاة، وهي عند أبي داود (465). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 96)، وانظر «مناسك الحج» للألباني (20). (¬4) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (5/ 72)، وانظر «مناسك الحج» (20). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1218)، وقد تقدم.

وعن عائشة رضي الله عنها: «أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أنه توضأ ثم طاف ... الحديث» (¬1). فاستدل المالكية على الوجوب بذلك مع قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (¬2). وقال الجمهور: إن القرينة قد قامت على أنه غير واجب، لأن المقصود التحية، فأشبه تحية المسجد فيكون سنة، وهو الراجح، والله أعلم. فائدة: من ذهب من الميقات رأسًا إلى منى أو عرفات ولم يدخل مكة قبله، فلا يستحب في حقه -ولا في حق المتمتع- أن يطوف للقدوم بعد الوقوف بعرفة (¬3). فإن طواف القدوم يفوت بالوقوف بعرفة. 2 - طواف الإفاضة (طواف الركن): ويسمى طواف الزيارة، وهو ركن من أركان الحج بالاتفاق، ولا يتحلل الحاج بدونه التحلل الأكبر، ولا ينوب عنه شيء البتة، وقد ثبتت ركنية بالكتاب والسنة والإجماع (¬4). قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬5). وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية في طواف الإفاضة. وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن صفية بنت حيي رضي الله عنها حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي؟» قالوا: إنها قد أفاضت، قال: «فلا، إذن» (¬6). فدلَّ على أن طواف الإفاضة فرض لابد منه، ولولا فرضيته لم يمنع من لم يأت به عن السفر. وقت طواف الإفاضة (¬7): (أ) أول وقته: لا يصح طواف الإفاضة قبل الوقت المحدد له شرعًا، وهو وقت موسع يبتدئ من طلوع الفجر يوم النحر عند الحنفية والمالكية، وذهب ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1615)، ومسلم (1235). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1297)، والنسائي (3062)، وأبو داود (1970). (¬3) نحوه في «مجموع الفتاوى» (26/ 139). (¬4) «المغنى» (3/ 440)، و «البدائع» (1/ 128)، و «التمهيد» (6/ 133 - فتح المالك). (¬5) سورة الحج: 29. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1733)، ومسلم (1211). (¬7) «الهداية» (2/ 180)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 250)، و «نهاية المحتاج» (2/ 429)، و «شرلاح الزرقاني» (2/ 281)، و «المغنى» (3/ 441، 443)، و «الموسوعة الفقهية» (17/ 53).

الشافعية والحنابلة إلى أن وقته يبدأ من بعد منتصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبله. (ب) آخر وقته: ذهب الحنفية إلى أن آخر وقت لطواف الإفاضة هو آخر أيام التشريق، وعند المالكية: وقته شهر ذي الحجة فإن أخره ففيه دم، وأما الشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة. فقالوا: الأصل عدم التأقيت وليس هناك ما يوجب فعله في أيام النحر، ولا يلزمه فدية إذا أخره بعد أيام النحر أو بعد شهر ذي الحجة، ولا يسقط عنه أبدًا ولا يكفي الفداء عنه لأنه ركن ويظل محرمًا عن النساء أبدًا إلى أن يعود فيطوف. قلت: القول بأنه لا يجوز تأخيره عن شهر ذي الحجة -لغير عذر- متجه؛ لأنه تقام فيه أعمال الحج، وإن كان الأحوط ألا يؤخره إلى مابعد أيام النحر خروجًا من الخلاف، ولذا قال شيخ الإسلام في «منسكه»: «يدخل مكة فيطوف طواف الإفاضة -إن أمكنه ذلك يوم النحر- وإلا فعله بعد ذلك، لكن ينبغي أن يكون في أيام التشريق، فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع» (¬1) اهـ. (جـ) أفضل وقته: يستحب أن يكون طواف الإفاضة يوم النحر (يوم العيد) لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر الطويل وغيره. يشترط في طواف الإفاضة خاصة: أن يكون مسبوقًا بالوقوف بعرفة، فلو طاف للإفاضة قبل الوقوف بعرفة، لا يسقط به فرض من الطواف، إجماعًا. إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة: فإن استطاعت -من غير مشقة- أن تنتظر حتى تطهر ثم تطوف، لزمها ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (¬2) قال شيخ الإسلام (¬3): «أما الذي لا أعلم فيه نزاعًا أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر، فما أعلم منازعًا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به، وتنازعوا في إجزائه: فمذهب أبي حنيفة: يجزئه ذلك، وهو قول في مذهب أحمد ...» اهـ. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (26/ 138)، وذهب ابن حزم (7/ 172) إلى أنه إن أخره إلى ما بعد شهر ذي الحجة بطل حجُّهُ. (¬2) صحيح: تقدم تخريجه. (¬3) «مجموع الفتاوى» (26/ 205 - 206).

لكن ... إذا كانت غير قادرة على الانتظار حتى تطهر كي تطوف، لارتباطها بموعد رحلة العودة ونحو ذلك -وهو وارد جدًّا في هذه الأيام- فلا تخلو هذه المرأة من ثمانية أقسام (¬1): 1 - أن يقال لها: أقيمي بمكة -وإن رحل الرجال حتى تطهري وتطوفي؟! وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر ما فيه. 2 - أن يقال لها: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه؟! وهذا لا قائل به، فإنه ركن الحج الأعظم وهو المقصود لذاته، والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له. 3 - أن يقال لها: إذا خشيت مجيء الحيض في وقت الطواف جاز لك تقديمه على وقته؟! وهذا لا يعلم قائل به وهو كتقديم الوقوف بعرفة على يوم عرفة. 4 - أن يقال: إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج، فيسقط عنها فرضه حتى تصير آيسة من الحيض وينقطع بالكلية؟! ولازم هذا سقوط الحج عن كثير من النساء وهو باطل، ثم إن من لم يجب عليه الحج لو تكلفه صح منه فماذا يقال حينئذ؟! 5 - أن يقال: ترجع على إحرامه- تمتنع من الجماع والنكاح- حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة ولو بعد سنين؟! وهذا مما تردُّه أصول الشريعة، وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة، ولا يخفى ما فيه من المشقة. 6 - أن يقال: بل تتحلل حتى تطهر كما يتحلل المحصر مع بقاء الحج في ذمتها، فمتى قدرت على الحج لزمها، وتطوف طاهرًا؟! وهذا ضعيف لأن الإحصار أمر عارض للحاج يمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج، وهذه متمكنة من البيت، ثم إن عذرها لا يسقط فرض الحج عليها ابتداءً، فلا يكون عروضه موجبًا للتحلل كالإحصار. 7 - أن يقال: يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب العاجز عن الحج بنفسه؟! وهذا لا قائل به، ثم إن المعضوب يكون آيسًا من زوال عذره، وهذه لا تيأس من زوال عذرها لجواز أن ينقطع دمها زمن اليأس أو قبله، فليست كالمعضوب. فبطلت هذه التقديرات السبع، فتعين التقدير الثامن وهو: ¬

(¬1) مختصر من بحث رائق للعلامة ابن القيم في «إعلام الموقعين» (3/ 19) وما بعدها.

8 - أن يقال: تطوف بالبيت -وهي حائض- للضرورة، وهذا هو الموافق لروح الشريعة السمحة، ولرفع الحرج عن الأمة. وأمَّا ما ورد في كلام الأئمة وفتاويهم في اشتراط طهارة المرأة من الحدث الأكبر في طوافها -إنما هو في حال القدرة والسعة، لا في حال الضرورة والعجز، فالإفتاء بهذا لا ينافي الشرع ولا قول الأئمة. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬1) الذي قال في خاتمة بحثه: «هذا هو الذي توجَّه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها عملاً وعلمًا لما تجشَّمت الكلام، حيث لم أجد فيها كلامًا لغيري، فإن الاجتهاد عند الضرورة مما أمرنا الله به ...». اهـ. قلت: إن استطاعت المرأة أن تتناول دواءً يمنع الحيضة وقت الحج، فلها أن تفعل -إن لم يكن يضرُّها- خروجًا من الخلاف، والله تعالى أعلم. 3 - طواف الوداع: ويسمى طواف الصَّدر، وطواف آخر العهد، وهو واجب من واجبات الحج عند جمهور العلماء -خلافًا للمالكية فهو عندهم سنة- لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» (¬2). وفي لفظ: «كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» (¬3). وهو دليل على وجوب طواف الوداع، وعلى أن المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة فإنها لا يلزمها البقاء حتى تطهر وتطوف للوداع، لكن يرخَّص لها في ترك طواف الوداع والسفر إلى بلدها، ولا يلزمها دم بذلك، ويدلُّ على ذلك ما تقدم قريبا أن صفية لما حاضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي؟» قالوا: إنها قد أفاضت، قال: «فلتنفر إذن» (¬4). ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (26/ 176 - 241) ورجحه شيخنا في «جامع أحكام النساء» (2/ 572) وما بعدها. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1755)، ومسلم (1327). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1327). (¬4) «الأم» للشافعي (2/ 154).

أحكام في الطواف عامة

قلت: وقد صرف المالكية أمره صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع بالترخيص للحائض في تركه دون فداء؟! وهذا ليس بشيء، فليس في سقوطه عن المعذور ما يجوِّز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها، والله أعلم. تنبيه: إن طهرت المرأة قبل أن تسافر فعليها الطواف للوداع: إذا لم تكن قد خرجت من بيوت مكة، فإن طهرت وهي لا تزال في بيوت مكة لزمها أن تطوف طواف الوداع (¬1). المكِّيُّ لا وداع عليه: لا يجب طواف الوداع إلا على الحاج من أهل الآفاق، فأما المكي فلا وداع عليه عند الحنفية والحنابلة -وألحق الحنفية بالمكي من كان منزله داخل المواقيت- لأن الطواف وجب توديعًا للبيت، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكة لأنهم في وطنهم. وعند المالكية والشافعية يُطلب طواف الوداع في حق كل من قصد السفر من مكة، ولو كان مكيًّا إذا قصد سفرًا تقصر فيه الصلاة، لعموم الأمر بأن يكون آخر العهد بالبيت (¬2). أحكام في الطواف عامة شروط الطواف: 1 - هل تشترط الطهارة للطواف؟ ذهب جمهور العلماء -خلافًا للحنفية ورواية عن أحمد وابن حزم- إلى أن الطهارة من الأحداث والأنجاس شرط لصحة الطواف، فإذا طاف فاقدًا أحدهما فطوافه باطل لا يعتد به. وحجتهم في هذا حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ...» (¬3) وهو مختلف في رفعه والصواب وقفه. ¬

(¬1) «الأم» للشافعي (2/ 154). (¬2) «الموسوعة الفقهية» (17/ 58). (¬3) أخرجه الترمذي (960)، والنسائي (2922)، والحاكم (1/ 630) وغيرهم، ولا يصح مرفوعًا، والصواب وقفه كما بينه شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (2/ 515 - 521) خلافًا للعلامة الألباني -رحمه الله- حيث صحح رفعه في «الإرواء» (1/ 156).

وهذا الاستدلال مردود لأمور: (أ) أن الحديث لا يصح مرفوعًا، فالصواب أنه موقوف من كلام ابن عباس، كما رجَّحه الترمذي والبيهقي وابن تيمية وابن حجر، وشيخنا مصطفى العدوي. (ب) على فرض صحته، فلا يلزم منه أن الطواف يشابه الصلاة في كل شيء حتى يشترط له ما يشترط للصلاة!! (¬1). (جـ) أنه قد كانت أعداد من المسلمين -لا يحصيهم إلا الله عز وجل- يطوفون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء لطوافه مع احتمال انتقاض وضوء الكثيرين ودخول كثير منهم الطواف بلا وضوء، لا سيما مع شدة الزحام في طواف القدوم والإفاضة (¬2). ولذا قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (6/ 198): «وتبين أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب، ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى، [يعني الوضوء] فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه ..» اهـ. وقال ابن حزم (7/ 179): «والطواف بالبيت على غير طهارة جائز» اهـ. وهو اختيار العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في «الممتع» (7/ 300). قلت: ومع ترجيحنا لجواز الطواف على غير وضوء، فلا شك أنه يستحب ذلك لحديث عائشة قالت: «أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم ...» (¬3) الحديث. لعموم الأدلة على استحباب الذكر على طهارة. لكننا لا نستطيع أن نلزم من انتقض وضوؤه في الطواف بالذهاب للوضوء لا سيما مع شدة الزحام -بغير دليل واضح، والله أعلم. هذا كله في الطهارة من الحدث الأصغر، فأما الحدث الأكبر كالحيض والنفاس والجنابة، فالظاهر أنه يجب الطهارة منه للطواف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -وقد حاضت-: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (¬4) فمن طاف محدثًا ¬

(¬1) انظر أوجه التفريق بين الصلاة والطواف في «جامع أحكام النساء» (2/ 522). (¬2) «جامع أحكام النساء» (2/ 515) بتصرف يسير وانظر «مجموع الفتاوى» (21/ 273). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5/ 16)، ومسلم (1235). (¬4) صحيح: تقدم تخريجه.

حدثًا أكبر -بغير عذر- ثم خرج إلى بلده، فقال مالك والشافعي: حكمه حكم من لم يطف أصلاً، وقال أبو حنيفة: يبعث بدم ويجزيه (¬1). 2 - ستر العورة: فلا يجوز لأحد أن يطوف بالبيت عريان، فإن فعل لم يجزئه عند الجمهور، لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2). ولحديث أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» (¬3). وقال الحنفية ستر العورة واجب في الطواف وليس شرطًا لصحته، فمن طاف عريان بطل طوافه عند الجمهور وصح عند الحنفية لكن يلزمه دم. 3 - أن يكون الطواف خارج البيت (الكعبة): قال تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬4). فلو طاف في الحجر (¬5) لم يصح طوافه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحجر من البيت» (¬6) وقد تركته قريش لضيق النفقة وأحاطته بالجدار، فيشترط لصحة الطواف أن يكون خارج الحجر وإلا بطل عند الجمهور، وعند الحنفية يجب إعادته ما دام في مكة فإن رجع إلى بلده فعليه هدي يرسله إلى مكة. 4، 5 - أن يبدأ طوافه من الحجر الأسود وينتهي إليه ويجعل البيت عن يساره: لحديث جابر: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى الحجر الأسود فاستلمه ثم مشى عن يمينه، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا» (¬7) وهذا شرط للطواف عند الجمهور، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، لأنه بيان لمجمل الأمر القرآني بالطواف فكان من حقيقته، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (¬8). ¬

(¬1) «التمهيد» لابن عبد البر (19/ 262). (¬2) سورة الأعراف: 31. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (369)، ومسلم (1347). (¬4) سورة الحج: 29. (¬5) الحجر: هو الموضع المحاط بجدار مقوس تحت ميزاب الكعبة في الجهة الشمالية منها ويسمى الحطيم والجدر. (¬6) صحيح: أخرجه الترمذي (876)، وأبو داود (2028)، وابن ماجه (2955)، وأصله في الصحيحين عن عائشة. (¬7) صحيح: تقدم بتمامه وتخريجه. (¬8) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (في البيوع)، ومسلم (1718).

6 - أن يكون سبعة أشواط كاملة: لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم المبيِّن للقدر الذي يحصل به امتثال قوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا} فيكون فرضًا، وهو مذهب الجمهور، فلو ترك خطوة في أي شوط لم يجزئ هذا الشوط، وأما الحنفية فجعلوا الركن: الإتيان بأكثر السبعة، والأقل الباقي واجبًا لا ركنًا، وهذا مردود بأن مقادير العبادات لا تعرف بالرأي والاجتهاد، وإنما بالتوقيف والنص، فهي كمن نقص من الصلاة ركعة فلا تصح، ولذا خالف الكمال بن الهمام -وهو من الحنفية- المذهب فقال: «الذين ندين به أنه لا يجزئ أقل من سبع، ولا يجبر بعضه بشيء» (¬1) اهـ. الشك في عدد الأشواط: من شك في عدد أشواط طوافه وهو في الطواف بنى على اليقين، وهوالأقل، عند جمهور الفقهاء (الشافعية والحنابلة) ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك (¬2). قلت: لكن لو ترجَّح عنده الأكثر بنى عليه، والله أعلم. 7 - الموالاة بين الأشواط: بمعنى عدم الفصل الطويل بين الأشواط، وهو شرط للطواف عند المالكية والحنابلة، وفي قول عند الشافعية أنه واجب، وعند الحنفية والشافعية سنة. ومن قطع طوافه لعذر كقضاء حاجة أو وضوء -لمن يراه شرطًا- أو أداء الصلاة المكتوبة، أو ليستريح من تعب ونحوه، فإنه يبني على ما طاف، ولو قطع طوافه عابثًا لغير عذر بطل طوافه (¬3). سنن الطواف: 1 - الوضوء قبل الطواف: لحديث عائشة رضي الله عنها: «إن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت» (¬4) وهذا مجرد فعل يدل على الاستحباب ولا ينتهض للوجوب، وليس الوضوء بداخل في عموم المناسك حتى يقال أنه بيان لقوله «خذوا عني مناسككم»، ثم يحتمل أنه توضأ لأجل ما يعقب الطواف من الصلاة. ¬

(¬1) «نهاية المحتاج» (2/ 409)، و «بدائع الصنائع» (2/ 132)، و «فتح القدير» (2/ 247). (¬2) «المغنى» (3/ 378)، و «المجموع» (8/ 25). (¬3) انظر «المحلى» لابن حزم (7/ 180). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1615)، ومسلم (1235).

وعلى كلٍّ فالطواف ذكر فتستحب له الطهارة لحديث الرجل الذي سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم «فلم يَرُدَّ عليه حتى أقبل فمسح بوجهه ويديه ثم ردَّ عليه السلام» (¬1). 2 - الاضطباع [للرجال فقط]: وهو أن يجعل وسط إزاره تحت إبطه الأيمن ويَرُدَّ طرفيه على منكبه الأيسر، فيكون منكبه الأيمن مكشوفًا، لحديث يعلى بن أمية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعًا» (¬2). والاضطباع سنة -عند الجمهور- للرجال دون النساء، في جميع الأشواط، ويُسَنُّ الاضطباع في كل طواف بعده سعي، كطواف القدوم لمن أراد أن يسعى بعده، وطواف العمرة، وطواف الزيارة لمن أخر السعي إليه، في مذهب الحنفية والشافعية، ومذهب الحنابلة أنه لا يضطبع في غير طواف القدوم (¬3). تنبيه: الاضطباع إنما يشرع في الطواف دون سائر المناسك، لا كما يفعل كثير من الناس، من الاضطباع من حين يحرم ويستمر كذلك حتى يُحلَّ، وهذا من الجهل بالسنة، حتى إنه ليصلي مكشوف العاتق، وهذا منهي عنه، كما تقدم في «مكروهات الصلاة». وعلى هذا فينبغي له أن يسوِّي رداءه فيغطي عاتقه الأيمن كذلك بعد إنهاء طوافه، لأن الاضطباع محله الطواف فقط. 3 - الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى [للرجال]: ومعناه: إسراع المشي مع تقارب الخطى وهزِّ الكتفين من غير وثب، ويكون في الأشواط الثلاثة الأول فقط، ويمشي في الأربعة الأخرى. والرَّمل سنة في كل طواف بعد سعي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حُمَّى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحُمَّى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين (¬4) ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (1875) وغيره. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (1883)، والترمذي (859)، وابن ماجه (2954) وحسنه الألباني. (¬3) «الموسوعة الفقهية» (29/ 134). (¬4) أي الحجر الأسود والركن اليماني، وذلك لأنهم بينهما يغيبون عن نظر المشركين، قاله في «الفتح» (3/ 551) قلت: فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستريحوا ليبقوا على قوتهم.

من كذا وكذا» (¬1) وهذا في عمرة القضاء في السنة السابعة، لكن الرَّمل ظل سنة في الأشواط الثلاثة الأولى بتمامها، فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجته -وكانت بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا- كما في حديث جابر «... فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا» (¬2) وفي حديث ابن عمر «سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ومشى أربعة في الحج والعمرة [من الحجر إلى الحج]» (¬3) وسعى -هنا- يعني: أسرع. ويؤيد أن الرمل سنة باقية -بعد زوال العلة من إغاظة المشركين- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان همَّ أن يتركه «قال: ما لنا وللرَّمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه» (¬4). لا يُشرع تدارك الرَّمل: فلو تركه في الثلاثة الأُوَل لأجل الزحام ونحوه، فلا يقضه في الأربعة الأخرى، لأن هيئتها السكينة فلا تغير (¬5). لا يشرع الرمل للنساء (¬6): وهو يقول أكثر أهل العلم، حتى نقل بعضهم الإجماع عليه. قالت عائشة رضي الله عنها: «يا معشر النساء، ليس عليكنَّ رمل بالبيت، لَكُنَّ فينا أسوة» (¬7) وصح نحو هذا عن ابن عمر (¬8) وروى عن ابن عباس (¬9) وغيرهما من السلف. 4، 5 - استلام الحجر الأسود وتقبيله في كل شوط إن أمكن: استلام الحجر هو: مسحه باليد، وهو سنة لحديث ابن عمر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع» (¬10). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1266). (¬2) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1604)، ومسلم (1261) وغيرهما بدون الزيادة، وهي عند ابن ماجه (2950). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1605)، ومسلم (1270). (¬5) «فتح الباري» (3/ 551). (¬6) «الأم» (2/ 150)، و «المغنى» (3/ 394)، و «فتح الباري» (3/ 551)، و «شرح مسلم» (3/ 397). (¬7) حسن لغيره: أخرجه البيهقي (5/ 84)، وابن أبي شيبة (809). (¬8) صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 84)، وابن أبي شيبة (1/ 4/ 121). (¬9) إسناده لين: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 122) وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. (¬10) صحيح: أخرجه البخاري (1603)، ومسلم (1261).

وعن نافع قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبَّل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» (¬1). وقد قبَّل عمر بن الخطاب الحجر، وقال: «لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبَّلتك» (¬2). إذا لم يستطع تقبيله أو استلامه: المستحب أن يستلم الحجر بيده ويقبِّله إن أمكنه، فإن استلمه وشقَّ عليه تقبيله قبَّل يده، فإن شق عليه استلامه بيده، فله أن يستلمه بعصا ونحوها ويقبِّلها: لحديث ابن عباس قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الرُّكن بمحجن» (¬3) زاد مسلم في روايته من حديث أبي الطفيل: «ويقبِّل المحجن» (¬4). فإن عجز عن استلامه فإنه يشير إليه بيده ويكبِّر، لحديث ابن عباس قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبَّر» (¬5). وصح عن ابن عمر: «أنه كان إذا استلم الركن قال: بسم الله، الله أكبر» (¬6). 6 - السجود على الحجر الأسود: فعن ابن عمر قال: «رأيت عمر بن الخطاب قبَّل الحجر، وسجد عليه، ثم عاد فقبَّله وسجد عليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬7)، وقد ثبت هذا أيضًا عن ابن عباس من فعله، قال الألباني -رحمه الله- في الإرواء (4/ 312): «فيبدو من مجموع ما سبق أن السجود على الحجر الأسود ثابت، مرفوعًا وموقوفًا والله أعلم» اهـ. 7 - استلام الركن اليماني: لحديث ابن عمر قال: «لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين» (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1268). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1065)، ومسلم (1270). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1607). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1275). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1613). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8894)، والبيهقي (5/ 79)، وصححه الحافظ في «التلخيص» (2/ 247). (¬7) حسَّنه الألباني: كما في «الإرواء» (4/ 312). (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (1267).

لا تزاحم المرأة الرجال: لا ينبغي للمرأة أن تزاحم الرجال في الطواف لاستلام الركنين أو تقبيل الحجر الأسود، فعن عطاء قال: «كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة (¬1) من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عني، وأبت [قال عطاء:] يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كُنَّ إذا دخلن البيت قُمن حتى يدخلن وأخرج الرجال ...» (¬2). ولما اشتكت أم سلمة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» (¬3). لا يُستلم الركنان الشاميَّان: لحديث ابن عمر المتقدم قريبًا، لأن الركن الشمالي والغربي (جهة الحجر) ليسا على قواعد إبراهيم عليه السلام كما تقدم. 8 - الدعاء بين الركنين اليمانيين: عن عبد الله بن السائب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول بين الركن والحجر: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬4). قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (26/ 122): «... ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى، ويدعوه بما يُشرع، وإن قرأ القرآن سرًّا فلا بأس، فليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك، فلا أصل له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬5). كما كان يختم سائر دعائه بذلك» اهـ. 9 - الانتهاء إلى مقام إبراهيم -بعد الطواف- وقراءة: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬6). ¬

(¬1) حجرة أي: ناحية معتزلة عن الرجال (الفتح 3/ 562 - سلفية). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1618)، وعبد الرزاق (5/ 67). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1619)، ومسلم (1276). (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (1892)، والنسائي في «الكبرى» (3934)، وأحمد (3/ 411) وغيرهم، وقد ثبت كذلك من فعل عمر وابنه عند عبد الرزاق (8966، 8964). (¬5) سورة البقرة: 201. (¬6) سورة البقرة: 125.

10 - صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم بعد الطواف إن تيسَّر. 11 - أن يقرأ في هاتين الركعتين: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وهذه السنن الثلاث الأخيرة ثابتة في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم والركعتان بعد الطواف خلف المقام سنة عند الجمهور، خلافًا للحنفية فتجب عندهم، وهو رواية عن أحمد وقول عند الشافعية ووافقهم المالكية في طواف الركن دون غيره (¬1). وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه إذا صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف. وتصلي ركعتا الطواف في أي وقت من غير كراهة ولو في أوقات النهي، لحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» (¬2). لا يجوز المرور أمام المصلي في الحرم ولا في غيره: وأما قول شيخ الإسلام رحمه الله: فلو صلى المصلي في المسجد والناس يطوفون أمامه، لم يُكره، سواء مرَّ أمامه رجل أو امرأة، وهذا من خصائص مكة (¬3). اهـ. فلا أعرف دليلاً على هذه الخصوصية، والأصل عدم جواز المرور أمام المصلي كما تقدم في أبواب الصلاة. والله أعلم. 12 - الشرب من ماء زمزم وصَبُّه على الرأس بعد الطواف والركعتين: ففي حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر، وصلى ركعتين ثم عاد إلى الحجر، ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصبَّ على رأسه ثم رجع فاستلم الركن ....» (¬4). 13 - ل يُلتَزم (¬5) ما بين الحجر الأسود والباب (المُلتَزَم)؟ رُوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله يوم الفتح، فعن عبد الرحمن بن أبي صفوان قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، انطلقت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من ¬

(¬1) «فتح القدير» (2/ 154)، و «حاشية العدوي» (1/ 467)، و «مغنى المحتاج» (1/ 492)، و «المغنى» (3/ 394). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (869)، والنسائي (5/ 223)، وابن ماجه (1254). (¬3) «مجموع الفتاوى» (26/ 122). (¬4) إسناده حسن: أخرجه أحمد (3/ 394)، وفي مسلم (1218) الشرب فقط. (¬5) أي: يلصق صدره وخدَّه الأيمن بجدار الكعبة بين بابها والحجر الأسود، ويداه مبسوطتان قائمتان.

الكعبة هو وأصحابه وقد استلموا الركن من الباب إلى الحَطيم ووضعوا خدودهم على البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم» (¬1). ورُوى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: «طُفت مع عبد الله بن عمرو، فلما حاذى دُبُر الكعبة قلت: ألا تتعوَّذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، فقام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه هكذا -وبسطها بسطًا- وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» (¬2). قلت: في كلا الحديثين ضعف، لكن هل يتقوى أحدهما بالآخر؟ هذا محل نظر، ثم هذا الالتزام يحتمل أن يكون وقت الوداع، وأن يكون في غيره، لكن قال الجمهور: يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو، لأنه من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء كما ورد عن ابن عباس (¬3)، والله أعلم. الكلام والتعليم والإفتاء في الطواف (¬4): بجوز الكلام في الطواف، ولا يبطل به ولا يكره، لكن الأولى تركه إلا أن يكون كلامًا في خير، كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تعليم جاهل أو جواب فتوى ونحو ذلك، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ -وهو يطوف بالكعبة- بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو شيء غير ذلك، فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: قُد بيده» (¬5). الطواف ركبًا: يجوز الطواف راكبًا -ولو مع القدرة على المشي- للحاجة الداعية إليه، فقد «طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير يستلم الركن بمحجن» (¬6). ليراه الناس، لحديث جابر قال: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، بين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف، وليسألوه، فإن الناس قد غشوه» (¬7) أي: ازدحموا عليه. ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1898). (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1899)، وابن ماجه (2962)، والبيهقي في «السنن» (5/ 93)، وفي «الشعب» (4058) بسند ضعيف. (¬3) «زاد المعاد» (2/ 298)، و «شرح ابن عابدين» (1/ 170 - 187)، و «روضة الطالبين» (3/ 118)، و «كشاف القناع» (2/ 513). (¬4) «المجموع» للنووي (8/ 62 - 63). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1620). (¬6) صحيح: تقدم قريبًا. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1216).

وبهذا قال الشافعية، وهو رواية عن أحمد، ولا شيء على الراكب -ولو لغير عذر- عندهم، بينما أوجب الحنفية والحنابلة المشي مطلقًا، وكذا المالكية -لكن في الطواف الواجب فقط- فلو طاف راكبًا مع القدرة على المشي لزمه دم عندهم (¬1)، والأظهر أنه ليس عليه شيء والله أعلم. الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة: تعريفه: السعي هو المشي بين الصفا والمروة ذهابًا وجيئة، بنية التعبد، وهو سبعة أشواط تبدأ من الصفا وتنتهي بالمروة. حكمه: السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج في أصح أقوال العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد -في إحدى الروايتين- وإسحاق وأبي ثور وبه قال ابن عمر، وجابر وعائشة رضي الله عنهم ومن نسيه أو نسي شوطًا منه فعليه أن ينصرف إليه حيث ذكره في بلده أو غير بلده حتى يأتي به كاملاً، وإلا بطل حجه بتركه له ولا يجبره دم ولا غيره (¬2)، والأدلة على ذلك: 1 - قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬3). وقد بيَّنت عائشة رضي الله عنها معنى نزول الآية ومخرجها، وجاءت بالعلم الصحيح في ذلك: 2 - قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا بن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المسلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول ¬

(¬1) «البدائع» (2/ 128)، و «حاشية العدوي» (1/ 468)، و «المغنى» (3/ 397)، و «نهاية المحتاج» (3/ 275). (¬2) «فتح القدير» (2/ 156)، و «حاشية العدوي» (1/ 470)، و «المجموع» (8/ 71)، و «المغنى» (3/ 385). (¬3) سورة البقرة: 158.

الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية قالت عائشة رضي الله عنها وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما (¬1). 3 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» (¬2). 4 - وقالت عائشة رضي الله عنها: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون -تعني بين الصفا والمروة- فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة» (¬3). 5 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزيك أو يكفيك لحجك وعمرتك» (¬4) فلو لم يكن واجبًا لما قال: يجزيك، والله أعلم. 6 - عن عمرو بن دينار قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت في عمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام ركعتين فطاف بين الصفا والمروة سبعًا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وسألنا جابر بن عبد الله فقال: «لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة» (¬5). وللعلماء في حكم السعي قولان آخران: فذهب أبو حنيفة والثوري والحسن البصري إلى أن السعي واجب، وليس بركن، فمن تركه فعليه دم، وحجه صحيح. وذهب أنس بن مالك وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين إلى أن السعي سنة وليس بواجب، وليس في تركه شيء، وروى هذا عن ابن عباس، ويشبه أن يكون مذهب أبي بن كعب وابن مسعود، لأن في مصحف أبي وابن مسعود «فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما». قال ابن عبد البر: ليس فيما سقط من مصحف الجماعة حجة، لأنه لا يقطع ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1561). (¬2) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد (6/ 421)، والحاكم (4/ 70)، وانظر «الإرواء» (1072). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1277)، وابن ماجه (2986). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1897)، والبيهقي (5/ 106)، والبغوي (7/ 84)، وهو عند مسلم (1211) بلفظ «يسعك طوافك لحجك وعمرتك». (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1646)، وأخرج مسلم (1234) أثر ابن عمر.

به على الله عز وجل، ولا يحكم بأنه قرآن: إلا بما نقلته الجماعة بين اللوحين، وأحسن ما روى في تأويل هذه الآية [ما ذكرته] عائشة (¬1)، والله تعالى أعلم. طواف سعي القارن والمتمتع: اختلف العلماء في طواف القارن والمتمتع على ثلاثة مذاهب (¬2): [1] أن على كل منهما طوافين وسعيين: وهو مروي عن علي وابن مسعود، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة والأوزاعي وإحدى الروايات عن أحمد. [2] أن على كلٍ منهما طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا: وهذا نص عليه الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. [3] أن على المتمتع طوافين وسعيين، وعلى القارن سعي واحد: وهو قول عطاء وطاوس والحسن، وهو مذهب مالك والشافعي وظاهر مذهب أحمد. فأما القول الأول فضعيف إذ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وغاية ما عند القائلين به قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} ولا دليل في ذلك، فإن التمام حاصل وإن لم يطف -القارن- إلا طوافًا واحدًا، كما هو واضح من أدلة الفريقين الآخرين، وأما القولان الآخران فسبب الخلاف بينهما تعارض الأحاديث الواردة في ذلك: فعن جابر قال: «لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طواف الأول» (¬3) يعني بالطواف: السعي. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك» (¬4) وكانت قارنة على الأصح. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «... فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت ¬

(¬1) «التمهيد» لابن عبد البر (2/ 98). (¬2) «الزاد» (2/ 271)، و «تهذيب السنن» (5/ 243 - مع العون)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 104). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1215)، والترمذي (947)، وأبو داود (1895)، والنسائي (2986)، وابن ماجه (2972). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

وبين الصفا والمروة ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا» (¬1). قال ابن القيم: فإما أن يقال عائشة أثبتت وجابر نفى والمثبت مقدم على النافي، أو يقال: مراد جابر من قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهدي -وهم قلة- فإنهم إنما سعوا سعيًا واحدًا ولم يرد عموم الصحابة، أو يُعلَل حديث عائشة بأن قولها: فطاف ... إلخ) مُدرج في حديثها، فهذه ثلاث طرق للناس في حديثها. اهـ (¬2). قلت: أما دعوى الإدراج فيلزم منها تخطئة جبال الحفظ الثقات بغير بيِّنة كالزهري وغيره، فحديثها ثابت لا شك فيه وله طرق تؤيده (¬3)، وهو دليل على أن المتمتع عليه طوافان وسعيان وعائشة قد حفظت ما لم يحفظ جابر ويشهد له حديث ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: «أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، إلا من قلد الهدي» طفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وأتينا النساء لبسنا الثياب، وقال: «من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهلَّ بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، فقد تم حجنا وعلينا الهدي ...» (¬4). وهذا مؤكد لما دلَّ عليه حديث عائشة من أن المتمتع يلزمه طواف وسعي لعمرة ثم يحلِّ ويَلزمه طواف وسعي آخران بعد الإفاضة من عرفة، وأما القارن فعليه طواف واحد وسعي واحد عند الجمهور. هل يجوز تقديم السعي على الطواف بالبيت؟ ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن من سعى قبل الطواف أنه لا يجزئه، وعليه أن يعيد، إلا أن مالكًا وأبا حنيفة قالا: يعيد الطواف والسعي جميعًا، وقال الشافعي: يعيد السعي وحده ليكون بعد الطواف (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211). (¬2) «زاد المعاد» بتصرف يسير. (¬3) انظر «حجة النبي» للألباني (ص: 90). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا ومسلم خارج صحيحه موصولاً وكذا الإسماعيلي في مستخرجه ومن طريقه البيهقي (5/ 23)، ورجاله رجال الصحيح. (¬5) «التمهيد» (6/ 12 - فتح المالك)، و «المجموع» (8/ 105).

قلت: يُستدل لهم بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها -لما حاضت-: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (¬1) وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت، ولم تَسْعَ كما لم تطف، فلو لم يكن السعي متوقفًا على تقدم الطواف قبلها لما أخرته، لا سيما والحائض لا تمنع من السعي -على الصحيح- كما سيأتي قريبًا. لكن لقائل أن يقول (¬2): ليس معنى تأخير عائشة للسعي إلى أن تطوف أن هذا ملزم لغيرها، وخصوصًا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر يوم النحر إلا قال: «افعل ولا حرج» كما سيأتي، وهذا عطاء والأوزاعي وطائفة من أصحاب الحديث. هل يجوز للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة؟ وردت زيادة في حديث عائشة المتقدم: «أفعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت [ولا بين الصفا والمروة] حتى تطهري» لكن قوله (ولا بين الصفا والمروة) زيادة شاذة لا تصح (¬3)، وعلى فرض أنها محفوظة فلا تدل على اشتراط الطهارة للسعي، لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله -عند الجمهور- فكان المانع من السعي عدم الطواف. وليس هناك دليل على اشتراط الطهارة للسعي، بل صح عن ابن عمر أنه قال: «إذا طافت بالبيت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة، فلتسعَ بين الصفا والمروة» (¬4). وقد صح نحوه عن الحسن وعطاء والحكم وحماد وغيرهم من السلف، وهومذهب الشافعي (¬5). ¬

(¬1) صحيح: تقدم تخريجه. (¬2) قاله شيخنا المبارك مصطفى بن العدوي -أمتع الله بحياته- في «جامع أحكام النساء» (2/ 535). (¬3) انظر «فتح الباري» (3/ 589)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 534). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 4/ 343). (¬5) «مصنف ابن أبي شيبة» (1/ 4/ 344) بأسانيد صحيحة، وانظر «المجموع» (8/ 106).

أحكام السعي بين الصفا والمروة

أحكام السعي بين الصفا والمروة شروط السعي: يشترط لصحة السعي بين الصفا والمروة أمور: 1 - أن يكون بعد طواف صحيح -عند الجمهور- كما تقدم. 2 - أن يكون سبعة أشواط: من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط وهكذا (¬1) فلو شك في العدد قبل فراغه لزمه البناء على الأقل كما في الطواف. 3 - أن يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة: لو نكَّسه وبدأ شوطه الأول بالمروة لم يُعتد بهذا الشوط، فلو بدأ أشواطه بالمروة وختم السابع بالصفا، لم يجزه الأول وبقي عليه السابع (¬2). 4 - أن يكون السعي في المسعى: وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة. وذلك كله لفعله صلى الله عليه وسلم وهوالقائل: «خذوا عني مناسككم» (¬3). سنن السعي: 1 - أن يكون على طهارة: لأنه ذكر كما في الطواف. 2 - أن يستلم الركن قبل خروجه للسعي: كما في حديث جابر. 3، 4 - إذا اقترب من الصفا، يقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} ويقول: ابدأ بما بدأ الله به. وهذا في حديث جابر. 5، 6 - استقبال الكعبة وهو على الصفا، ويقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ويدعو بما شاء، يفعل هذا ثلاث مرات. 7 - أن يمشي إلى المروة وله الركوب لمصلحة: ففي حديث جابر: «ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا ...». ¬

(¬1) وقد وهم ابن حزم فزعم أنه يرمل في الثلاثة ويمشي في الأربعة، ووهم غيره فجعلها أربع عشرة مرة، وكلاهما غلط، كما بينه ابن القيم في «الزاد» (2/ 231). (¬2) «المجموع» (8/ 95). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1297)، وأبو داود (1970)، والنسائي (3062).

وقال ابن عباس لما سئل عن سعي النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة راكبًا: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت ... فلما كثر عليه ركب، والمشي والسعي أفضل» (¬1). 8 - شدة السعي (الإسراع) بين العلمين الأخضرين، وهذا خاص بالرجال دون النساء كما في الطواف. 9 - وله الدعاء بين الصفا والمروة: كما ثبت عن ابن مسعود أنه كان يقول: «رب اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم» (¬2). 10 - أن يفعل على المروة كما فعل على الصفا: من القراءة والتهليل والتكبير واستقبال البيت والدعاء. الحلق والتقصير للمتمتع: إذا فرغ الحاج المتمتع من السعي بين الصفا والمروة، فإنه يتحلل من عمرته بالحلق أو التقصير، والأفضل في حقه أن يقصِّر من شعره، ولا يحلقه، وإنما يحلقه يوم النحر بعد فراغه من أعمال الحج، ففي حديث جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حلوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصِّروا، وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلُّوا بالحج ...» (¬3) فإن فعل صار حلالاً يحلُّ له كل شيء حتى الجماع حتى يأتي يوم التروية. سنن الخروج إلى منى: 1 - أن يحرم الححاج [المفرد من أهل مكة أو المتمتع الذي كان قد حلَّ] من منزله يوم التروية (الثامن من ذي الحجة). 2 - أن يتوجه الجميع -ومعهم القارن والمفرد الآفاقي -يوم التروية إلى منى قبل الظهر. 3 - أن يصلوا الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، يوم التروية. 4 - أن يبيتوا بمنى حتى يصلوا الفجر وتطلع الشمس (يوم عرفة). 5 - أن ينتقل في هذه المواطن راكبًا، وهو أفضل من المشي. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1264) من حديث أبي الطفيل. (¬2) صحيح مرفوعًا: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 68)، والطبراني في «الدعاء» (870). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1568)، ومسلم (1216).

6 - أن يضرب له قبة (خيمة) بنمرة، إن شاء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ودليل هذه السنن ما جاء في حديث جابر: «... فلما كان يوم التروية توجَّهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ... حتى أتى عرفة ...» (¬1). 7 - أن يلبِّي أو يكبِّر في طريقه من منى إلى عرفة: لحديث محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك -وهما غاديان من منى إلى عرفة -كيف كنتم تضنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كان يهلُّ المهل منا فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه» (¬2) وعن ابن عمر قال: «غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات، فمنَّا الملبِّي ومنَّا المكبِّر» (¬3). 8 - أن يخطبهم الإمام: فيبيِّن لهم المناسك ويحرضهم على الإكثار من الدعاء والابتهال، ويبيِّن لهم ما يهمهم من الأمور الضرورية لشئون دينهم واستقامة أحوالهم، كما في حديث جابر، وهذه الخطبة سنة بالاتفاق، والسنة أن تكون خطبة واحدة لا خطبتين يجلس بينهما، وهو المشهور في كتب الفروع. 9 - أن يصلي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا مع الإمام بنمرة (يوم عرفة) (¬4) ولا يصلي بينهما شيئًا. الركن الرابع: الوقوف بعرفة: تعريفه: المراد من الوقوف بعرفة: وجود الحاج في أرض (عرفة) بالشروط والأحكام المقررة. حكمه: الوقوف بعرفة ركن أساسي من أركان الحج، ويختص بأنه من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج. وقد ثبت ركنيته بالأدلة القاطعة من الكتاب والسنة والإجماع. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1218). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1659)، ومسلم (1284). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1284). (¬4) ومن فاته الصلاة مع الإمام جاز أن يصليهما منفردًا جامعًا بينهما عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يجوز.

(أ) أما الكتاب: فقال تعالى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (¬1). وقد ثبت أنها نزلت تأمر الناس بالوقوف بعرفة: فعن عروة عن أبيه عن عائشة أن هذه الآية نزلت في الخمس (¬2)، قال: كانوا يفيضون من جمع فدُفعوا إلى عرفات» (¬3). (ب) وأما السنة فعدة أحاديث أشهرها: حديث عبد الرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديًا ينادي: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» (¬4). (جـ) وقد نقل عدد من العلماء الإجماع «على أنه ركن من أركان الحج، وأنه من فاته فعليه حج قابل» (¬5). وقته: 1 - يبدأ وقت الوقوف بعرفة بعد الزوال (الظهر) يوم عرفة عند الجمهور (¬6)، لفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يقف بعرفة إلا بعد الزوال -كما في حديث جابر الطويل- وقد قال: «خذوا عني مناسككم». وذهب الإمام أحمد -رحمه الله- إلى أن وقت الوقوف يبدأ من فجر يوم عرفة، وحُجَّته حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا -فقد تم حجُّه وقضة تفثه» (¬7) لكن قوله «أو نهارًا» مطلق، فيقيَّد بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المراد من بعد الزوال، وهذا هو الأحوط والله أعلم. 2 - ومن وقف بالنهار بعرفات فعليه أن يمدَّ وقوفه إلى ما بعد الغروب، فإن ¬

(¬1) سورة البقرة: 199. (¬2) الحُمس هم قريش وما ولدت، وقد كانوا في الجاهلية يفيضون من جمع ويفيض الناس من عرفات، فأمروا أن يفيضوا من عرفات. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1665)، ومسلم (1219). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (1933)، والترمذي (590)، والنسائي (5/ 264)، وابن ماجه (3015). (¬5) «بداية المجتهد» (1/ 335). (¬6) «البدائع» (2/ 125)، و «المغنى» (3/ 414). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (5/ 263)، وابن ماجه (3016)، وانظر «الإرواء» (1066).

دفع منه قبل الغروب: فذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد (¬1) إلى أن حجَّه صحيح وعليه دم يجبر ما نقص من جمع جزء من الليل إلى النهار في الوقوف. وفي رواية عن الشافعي: لا يجب عليه دم، وبه قال أهل الظاهر (¬2)، وهو الراجح مع قولنا بالوجوب وذهب مالك إلى أن حجه لا يصح حتى يجمع بين الليل والنهار في وقوقه (¬3)، وحجته حديث ابن عمر قال: «من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج، فليتحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل» (¬4). وقد أجيب عن الحديث بأنه إنما خص الليل لأن الفوات يتعلق به، وغاية ما يدلُّ عليه أن: 3 - القدر المجزئ للوقوف أن يقف جزءًا من الليل قبل الفجر -ولو لحظة- فإن طلع الفجر قبل وقوفه فاته الحج، وقد دلَّ على هذا أيضًا حديث عروة بن مضرس المتقدم، والله أعلم. سنن وآداب الوقوف بعرفة والإفاضة منها: 1 - الوقوف عند الصخرات: يجوز للحاج أن يقف في أي مكان من عرفة، ويستحب أن يقف عند الصخرات المفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، لما في حديث جابر: «.. حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه ..» قال النووي: فهذا هو الموقف المستحب، وأما ما اشتهر بين العوام من الأغنياء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط. 2، 3 - استقبال القبلة ورفع اليدين بالدعاء: لما في حديث جابر: «واستقبل القبلة ...»، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء عرفة، وخير ما قلت أن والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (¬5) وقد رود عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء عرفة عدَّة صيغ لكن في أسانيدها لين (¬6). ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 1098)، و «المجموع» (8/ 123)، و «المغنى» (3/ 370). (¬2) «المحلى» (7/ 118). (¬3) «المدونة» (1/ 413)، و «بداية المجتهد» (1/ 375). (¬4) صحيح مرفوعًا: أخرجه مالك في «الموطأ» (886 موقوفًا)، والدارقطني (2/ 241) مرفوعًا. (¬5) حسن: أخرجه الترمذي (3585)، وابن أبي شيبة (1/ 369)، وانظر «الصحيحة» (1503). (¬6) انظر «زاد المعاد» (2/ 237).

4 - التلبية: لحديث سعيد بن جبير قال: كنا مع ابن عباس، فقال لي: يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبُّون؟ فقلت: يخافون من معاوية، قال: فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال: لبيك اللهم لبيك، فإنهم قد تركوا السنة من بغض علي رضي الله عنه (¬1). قلت: وإن كان قد ذكر ابن تيمية (26/ 136) أن التلبية بعرفة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقلت عن الخلفاء الراشدين وغيرهم، لكن حديث ابن عباس -إن صح- فهو حجة عليه، والله أعلم. تنبيه: هكذا ينبغي أن يكون حال الحاج على عرفة، ذكر ودعاء وحضور قلب وقراءة وتضرُّع وسؤال وابتهال وخضوع لله سبحانه، فليت شعري أين هذا ممن يفضي يوم عرفة في لهوه ولعبه معرضًا عن ربه مُنشغلاً بمحادثة رفاقه فيما لا ينفع، بل ربما يلعب الورق «الكوتشينة» والتدخين وسماع الأغاني وغير ذلك من المحرمات، نعوذ بالله من الخذلان!! 5 - أن يكون مفطرًا لا صائمًا: لحديث ميمونة: «أن الناس شكُّوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب -وهو واقف في الموقف- فشرب منه والناس ينظرون» (¬2). 6 - الإفاضة من عرفة (النزول) بعد الغروب بسكينة: أي برفق وطمأنينة لقول النبي صلى الله عليه وسلم -لما دفع من عرفة بعد غروب الشمس-: «أيها الناس عليكم السكينة، فإن البرَّ ليس بالإيضاع» (¬3) أي: الإسراع. لكن إذا وجد أمامه فجوة فإنه يسرع قليلاً، لحديث .... : «كان صلى الله عليه وسلم يسير العَنَق، فإذا وجد فجوة نصَّ» (¬4). 7 - السير إلى المزدلفة مع التلبية: وقد تقدم الحديث في هذا عند «مواطن التلبية». المبيت بمزدلفة ليلة النحر: حكمه: اختلف أهل العلم في حكم الوقوف بالمزدلفة (¬5) والمبيت بها على ثلاثة أقوال: ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه الحاكم (1/ 464 - 465)، والبيهقي (5/ 103)، وانظر «حجة النبي» (ص: 74). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1989)، ومسلم (1124). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1671)، ومسلم (1218)، والنسائي (5/ 257). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1666)، ومسلم (1286). (¬5) وتسمى أيضًا (جمعًا).

الأول: أنه ركن ومن فاته فقد فاته الحج: وهو مذهب ابن عباس وابن الزبير من الصحابة، وإليه ذهب النخعي والشعبي وعلقمة وأهل الظاهر، وفي مذهب مالك ما يدلَّ عليه، وهو اختيار ابن القيم -رحمهم الله تعالى- (¬1) وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (¬2). والمشعر الحرام: قيل جبل بالمزدلفة معروف بـ «قزح»، وقيل: جميع المزدلفة. 2 - حديث عروة بن المضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد أتم حجَّه وقضى تفثه» (¬3) ففُهم منه أن من لم يقف بالمزدلفة لم يتم حجُّه. 3 - فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج مخرج البيان للذكر المأمور به في الآية الكريمة. القول الثاني: أنه واجب، ومن تركه عليه دم وحجُّه صحيح، وهذا مذهب جمهور العلماء (¬4) واستدلوا بما يأتي: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك» (¬5). وهذا يقتضي أن من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان، صح حجُّه، ولو كان الوقوف بمزدلفة رُكنًا لم يصحَّ حجُّه. 2 - أنه لو كان ركنًا لاشترك فيه الرجال والنساء، فلما قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالليل عُلم أنه ليس بركن. وأجابوا عن الآية وحديث عروة بن مضرس، بأن المنطوق فيهما ليس بركن إجماعًا، فإنه لو بات بالمزدلفة، ولم يذكر الله تعالى ولم يشهد الصلاة فيها صح حجُّه، فما هو من ضرورة ذلك أولى، ثم إن المبيت ليس من ضرورة ذكر الله تعالى بها، وكذلك شهود صلاة الفجر، فإنه لو أفاض من عرفة في آخر ليلة النحر ¬

(¬1) «المغنى» (3/ 376)، و «المحلى» (7/ 118)، و «بداية المجتهد» (1/ 376)، و «زاد المعاد» (2/ 253). (¬2) سورة البقرة: 198. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «المغنى» (3/ 417)، و «الزاد» (2/ 253). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا.

أمكنه ذلك، فتعيَّن حمل ذلك على مجرد الإيجاب أو الفضيلة أو الاستحباب (¬1) قلت: فيكون المراد بإتمام الحج في الحديث الإتمام الذي يصح الشيء بدونه مع التحريم، ويؤيد هذا أن من أدرك عرفة والمزدلفة ولم يطف طواف الإفاضة فلم يتم حجُّه بالإجماع، والله أعلم. والقول بوجوب الوقوف بالمزدلفة والمبيت بها هو أعدل الأقوال وأرجحها، إلا أنني أتحفظ على إلزامه بدم الجبران، لأن الأصل حرمة مال المسلم إلا بحق، والحق يعرف بالدليل، ولا يصح القياس في الكفارات على الأصح، وإن كان هذا خلاف الجماهير. القول الثالث: أنه سنة، وهو قول ضعيف، وهو رواية عن أحمد، رحمه الله. فائدة: حد المبيت الواجب (¬2): ذهب الحنفية إلى أن من حصَّل قدر لحظة من طلوع الفجر -يوم النحر- إلى طلوع الشمس بمزدلفة فقد أدرك الوقوف سواء بات أو لا، وإلا لزمه دم إلا إن تركه لعذر كالزحام فلا شيء عليه. وذهب المالكية إلى أنه زمن حط الرحل في أي جزء من الليل ما بين وصوله إلى طلوع الفجر وعند الشافعية والحنابلة: يجب الوقوف قدر لحظة من وصوله إلى منتصف الليل -إن وصلها قبل منتصفه- فإن وصلها بعد منتصف الليل أجزأه قدر لحظة قبل طلوع الفجر. قلت: الذي يظهر أن الواجب أن يبيت بمزدلفة حتى الفجر، سواء وصلها قبل منتصف الليل أو بعده، لأن اسم المبيت لا يتناوله إلا إذا بقي بها حتى الفجر، وإنما رخَّص للضعفة من النساء وغيرهن في النفر بعد منتصف الليل، وهذا تشعر به ألفاظ الأحاديث في المسألة، كحديث عائشة قالت: «نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة فأذن لها، فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا ....» (¬3). وهو ظاهر في أن من لم يرخَّص له لزمه أن يبقى بالمزدلفة حتى الصبح، لأنه فعل في مقابل الرخصة فأشبه العزيمة. ¬

(¬1) «اختيارات ابن قدامة الفقهية» للغامدي (1/ 675). (¬2) «رد المحتار» (2/ 241)، و «حاشية العدوي» (1/ 475)، و «مغنى المحتاج» (1/ 498)، و «المغنى» (3/ 417)، و «الفروع» (3/ 510). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1681)، ومسلم (1290).

وكحديث أسماء «أنها نزلت عند المزدلفة فقامت تصلي ساعة ثم قالت: يا بُنيَّ هل غاب القمر؟ قلت: «لا، فصلَّت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا. ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح من منزلها، فقلت لها: يا هنتاه، ما أرانا إلا قد غلَّسنا، قالت: يا بنيَّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظُّعُنِ» (¬1). تعني: النساء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أنا ممن قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله» (¬2). فهذه الأحاديث وغيرها تفيد أن الواجب المبيت حتى الفجر إلا للضَّعفة فيجوز لهم النزول منها قبل الفجر بعد غياب القمر. فائدة: الرخصة في عدم المبيت بمزدلفة خاصة بالضعفة من الأهل والصبيان، فهل يدخل فيها جملة النساء أم تخصُّ بالضعفة منهم؟ هذا محل نظر والأظهر أنه خاص بالضعفة من النساء خاصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّم ضعفة أهله وبقيت معه عائشة رضي الله عنها، وإنما استأذنت سودة لأنها كانت ثقيلة ثبطة، والله أعلم. السنن في المزدلفة والدفع منها (¬3): 1 - صلاة المغرب والعشاء: جمع تأخير بمزدلفة. 2 - الأذان لهما بأذان واحد وإقامتين. 3 - ترك النافلة بين الصلاتين. 4 - النوم حتى طلوع الفجر، وعدم إحياء الليل بالصلاة. 5 - صلاة الفجر في أول وقتها بأذان وإقامة. 6 - الوقوف على المشعر الحرام من المزدلفة مستقبل القبلة داعيًا حامدًا مكبِّرًا مهللاً حتى إسفار الصبح جدًّا. 7 - الدفع بسكينة من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1679)، ومسلم (1291). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1678)، ومسلم (1293). (¬3) هذه السنن كلها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الطويل، وحديث أسامة بن زيد في الصحيحين.

8 - الإسراع قليلاً في بطن مُحَسِّر (¬1)، إلا أن يكون راكبًا سيارة لا يقودها فإنه يعجز عن ذلك وإن كان الأولى أن ينوي بقلبه أنه لو تيسر له أن يسرع أسرع. 9 - الذهاب إلى الجمرة من طريق أخرى غير طريق الذهاب إلى عرفات. رمي الجمرات بمنى: تعريفه: الرمي لغةً: القذف، والجمرات أو الجمار: الأحجار الصغيرة، جمع جمرة: وهي الحصاة. حكمه: ذهب جمهور العلماء إلى أن رمي الجمرات واجب، لا يجوز تركه، فمن تركه لزمه دم عندهم. ودليل إيجابه: 1 - حديث جابر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» (¬2). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» (¬3). 3 - ولأنه عمل يترتب عليه الحِلُّ فكان واجبًا، ليكون فاصلاً بين الحل والإحرام. موضع الجمار التي ترمى وعددها: الجمار التي ترمى بمنى، وهي ثلاث: 1 - جمرة العقبة الكبرى: وهي الأولى جهة مكة وتكون على يسار الداخل إلى منى. 2 - الجمرة الوسطى: وهي التي تلي جمرة العقبة جهة مزدلفة. 3 - الجمرة الصغرى: وهي التي تلي مسجد الخيف بمنى. ¬

(¬1) مكان بين منى والمزدلفة -وهو من منى على الأصح- وسمي كذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه، أي: أعيي وكل، ولعله لأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يسرع فيه كعادته في مواضع المعذبين. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1297)، والنسائي (3062)، وأبو داود (1970). (¬3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1888)، والترمذي (902)، وأحمد (4/ 64).

صفة الحصيات: يستحب أن تكون الحصيات التي يرمى بها مثل حصى الخذف، والمراد أنها قدر حب الباقلاء (الفول) وقيل: تكون أكبر من الحمص ودون البندق: ففي حديث جابر: «... ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف ...» وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ان يلتقط له حصى الجمار فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف، فجعل ينفضهنَّ في كفه وقال: «بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (¬1) فماذا يقال فيما يفعله بعض الجهال من رميهم الجمرات بالنعال؟! أصلح الله شأن المسلمين وعرفهم بسنة نبيهم الكريم، هذه هي السنة. من أين تُلتقط الحصيات؟ يجوز للحاج أن يلتقط الحصى من حيث شاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد لذلك مكانًا كما في حديث ابن عباس السابق، وبه قال أحمد وعطاء واختاره ابن المنذر وابن تيمية رحمهم الله. واستحب الشافعي (¬2) أن يأخذها من مزدلفة، وهو مروي عن ابن عمر وسعيد ابن جبير، قلت: لكن لا يخفى ما فيه من التكلف والمشقة، وفي الأمر سعة. هل يجوز الرمي بحصى رمى به قبل؟ ذهب الجمهور إلى جواز الرمي بحصى رمى به من قبل مع الكراهة، وذهب ابن حزم إلى الجواز من غير كراهة، وقال (¬3) -رحمه الله-: أما رميه بحصى قد رمى به فلأنه لم ينه عن ذلك قرآن ولا سنة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، فإن قيل: قد رُوى عن ابن عباس «أن حصى الجمار ما تقبل منه رفع، وما لم يتقبل منه ترك، ولولا ذلك لكان هضابًا تسدُّ الطريق» قلنا: نعم، فكان ماذا؟ وإن لم يتقبل رمي هذه الحصا من عمرو فسيُقبل من زيد، وقد يتصدق المرء بصدقة فلا يقبلها الله تعالى منه، ثم يملك تلك العين آخر فيتصدق بها فتقبل منه. اهـ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي (5/ 268)، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1/ 215، 347). (¬2) «المجموع» (8/ 155). (¬3) «المحلى» (7/ 188).

لا يغسل حصى الرمي: استحب الشافعي -رحمه الله- غسل حصى الجمار، ولا دليل على هذا الغسل، قال ابن المنذر: لا يعلم في شيء من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسلها أو أمر بغسلها، ولا معنى لغسلها، وكان عطاء والثوري ومالك وكثير من أهل العلم لا يرون غسلها، وقال: وروينا عن طاوس أنه كان يغسلها (¬1)، قلت: الأظهر أن غسلها لا يشرع والله أعلم. رمي الجمار راكبًا: ويجوز أن يرمي الجمار راكبًا لحديث قدامة بن عبد الله قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر على ناقة له صهباء، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك» (¬2). توقيت الرمي وعدده: أيام الرمي أربعة: يوم النحر (العاشر من ذي الحجة)، وثلاثة أيام بعد وتسمى أيام التشريق (الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة). ويرمي -يوم النحر- جمرة العقبة الكبرى وحدها بسبع حصيات. ويرمي في أيام التشريق الجمار الثلاث -كل يوم منها- على الترتيب: الجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، يرمي كل جمرة منها بسبع حصيات. فيصير مجموع الحصيات المرمية سبعين: سبع يوم النحر وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق. فإن تعجَّل الحاج، فلم ينتظر إلى الثالث عشر -وهذا جائز له- فيكون عدد الحصى المرمية تسعًا وأربعين. 1 - الرمي يوم النحر: تقدم أنه يجب رمي جمرة العقبة وحدها يوم النحر بسبع حصيات، ولكن ... من أين يرمي جمرة العقبة؟ يستحب أن يرمي من (بطن الوادي) بحيث تكون مكة عن يساره ومنى عن ¬

(¬1) «المجموع» (8/ 156، 164). (¬2) حسن: أخرجه النسائي (5/ 270)، والترمذي (903)، وابن ماجه (3035). وقوله (لا ضرب ...) تعريض للأمراء بأنهم أحدثوا هذه الأمور، وقوله (إليك إليك) معناه ابتعد وتنح.

يمينه إن تيسَّر له ذلك، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر، ولحديث ابن مسعود «أنه حين رمى جمرة العقبة استبطن الوادي حتى إذا حاذى بالشجرة، اعترضها فرمى بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ثم قال: من ها هنا -والذي لا إله غيره- قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم» (¬1). فإن لم يتيسر هذا -لا سيما في الوقت الحاضر- فلا بأس أن يرميها من أي مكان تيسر. وقت الرمي: عن جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال» (¬2) فالسنة أن لا يرمي جمرة العقبة يوم النحر إلا بعد طلوع الشمس، ولا يجب هذا عند الجمهور، وأما رُوى عن ابن عباس: قدَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: «أُبَنِي لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» (¬3) فحديث ضعيف فإن أخَّر الرمي إلى ما قبل الغروب جاز وإن لم يكن مستحبًّا بالإجماع (¬4). فإن شق عليه الرمي قبل الغروب فإنه يرخَّص أن يرمي ولو بالليل لحديث ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل يوم النحر بمنى فسأله رجل: ... قال: رميت بعد ما أمسيت، قال: لا حرج» (¬5). ويبتدئ وقت الرمي عند الحنفية والمالكية من طلوع الفجر يوم النحر، وعند الشافعية والحنابلة من منتصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبله. وآخر وقت رمي جمرة العقبة عند الحنفية إلى فجر اليوم التالي (الحادي عشر)، وعند المالكية إلى المغرب، ويجب في المذهبين الدم بتأخير الرمي عن ذلك. وأما الشافعية والحنابلة فآخر وقت الرمي عندهم آخر أيام التشريق. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1750)، ومسلم (1296). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا (3/ 677 - فتح)، ومسلم (1299). (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1940)، والنسائي (5/ 271)، وابن ماجه (3025)، وله طرق لا تخلو من مقال وقد صححه الحافظ في «الفتح» (3/ 528) بطرقه وكذا الألباني في «حجة النبي» (ص 80). (¬4) «التمهيد» لابن عبد البر (17/ 255). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1735) وغيره.

متى يرمي الضعفة الذين دفعوا من مزدلفة قبل الفجر؟ لا خلاف في أن المستحب للضعفة من النساء وغيرهن الرمي بعد طلوع الشمس اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما ما قبل طلوع الشمس، فأجازه الشافعي -رحمه الله- ولو قبل الفجر، وأجازه الجمهور بعد الفجر إلى طلوع الشمس. قال شيخنا -حفظه الله تعالى- (¬1): «والذي يظهر لي في شأن النساء خاصة أن لهن الرمي إذا وصلن إلى منى، فقد أذن لهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدفع بليل (¬2)، ورمت أسماء رضي الله عنها قبل صلاة الصبح (¬3)، وتقدم في حديث سالم: «فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬4). هذا، وإن صح حديث ابن عباس رضي الله عنهما فالنهي فيه للغلمان ليس للنساء، أو يحمل الأمر فيه على الندب جمعًا بين الأدلة كما قال ابن حجر في «الفتح» والله أعلم اهـ. سنن الرمي يوم النحر: 1 - قطع التلبية قبل الشروع في الرمي: لحديث الفضل بن عباس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة» (¬5) وبه قال الجمهور (¬6). 2 - التكبير مع كل حصاة يرميها: لما في حديث جابر: «... حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة منها ...» 3 - أن يرميها من أسفلها من بطن الوادي: وقد تقدم هذا قريبًا. 4 - أن يرمي بعد طلوع الشمس: وقد تقدم كذلك. 5 - الانصراف بعد الرمي وعدم الوقوف: لما في حديث جابر: «.. رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر» فلا يقف عند جمرة العقبة عن الجمرتين ¬

(¬1) «جامع أحكام النساء» لشيخنا مصطفى بن العدوي -حفظه الله- (2/ 563) بتصرف يسير. (¬2) تقدمت هذه الأحاديث في «المبيت بالمزدلفة» وهي صحيحة. (¬3) تقدمت هذه الأحاديث في «المبيت بالمزدلفة» وهي صحيحة. (¬4) تقدمت هذه الأحاديث في «المبيت بالمزدلفة» وهي صحيحة. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1670)، ومسلم (1281). (¬6) «فتح الباري» (3/ 623)، و «المجموع» (8/ 177)، و «نهاية المحتاج» (3/ 303)، و «المبدع» (3/ 340)، عند ابن حزم في «المحلى» (7/ 180): يقطع التلبية إذا أتم الرمي.

الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضحى، ومن أسفلها استحبابًا» اهـ. الأعمال في يوم النحر وترتيبها: الأعمال المشروعة للحاج يوم النحر بعد وصوله منى أربعة، وهي: رمي جمرة العقبة، ثم ذبح الهدي، ثم الحلق، ثم طواف الإفاضة، وترتيب هذه الأربعة هكذا سنة، وليس بواجب، فلو طاف قبل أن يرمي أو ذبح في وقت الذبح قبل أن يرمي أو حلق قبل الرمي والطواف جاز، ولا فدية عليه، لكن فاته الأفضل (¬1)، وهذا مذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث (¬2). ويدلَّ له حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: لا حرج» (¬3) وهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معًا، لأن اسم الحرج والضيق يشملها. وقال بعض العلماء كالإمام أحمد وغيره إن الرخصة في عدم الترتيب تختص بمن نسى أو جهل لا بمن تعمد (¬4)، لما في حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: «اذبح ولا حرج» فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: «ارم ولا حرج» فما سئل يومئذ عن شيء قدِّم ولا أُخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج» (¬5). قال ابن دقيق العيد في «شرح عمدة الأحكام» (3/ 79): ما قاله أحمد قوى من جهة أن الدليل دلَّ على وجوب اتباع الرسول في الحج بقوله: «خذوا عني مناسككم» وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل: «لم أشعر» فيختصُّ الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج، وأيضًا فالحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرًا، لم يجز اطِّراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة، ¬

(¬1) «المجموع» (8/ 168). (¬2) «فتح الباري» (3/ 668). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1734) وغيره. (¬4) «المغنى» (3/ 447)، و «فتح الباري» (3/ 668). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1736، 1737)، ومسلم (1306).

وقد علق به الحكم، فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به، إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي «فما سئل عن شيء .. إلخ» فإنه يشعر بأن الترتيب مطلقًا غير مراعى، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه، وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه، فلا يبقى حجة في حال العمد. اهـ. قلت: هذا الكلام يكون في غاية السداد لو اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على قوله: «لا حرج» في جواب للسائل، فلما قال: «افعل ولا حرج» وكان هذا دالاًّ على عدم الحرج في المستقبل، عُلم أنه لا فرق بين الناسي والجاهل والذاكر والعالم، وهذا كما أنه ظاهر الأدلة فهو الموافق لمقاصد الشريعة لا سيما في هذه الأيام (¬1) والله أعلم. يبقى إشكال في تقديم الحلق على الهدي لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2). وقد أُجيب بأن المراد ببلوغ الهدي محله: وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه فيه وقد حصل، وإنما يقع الإشكال لو قال: ولا تحلقوا حتى تنحروا، فصح أنه لا يجب الترتيب وإن كان هو الأولى، والله أعلم. التحلل الأول والثاني: للحج تحللان: أول وثان، يتعلقان برمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة، وقد اختلف العلماء: هل يحصل التحلل الأول بالرمي وإن لم يحلق، أو بالرمي مع الحلق؟ والأصل في هذا حديث عائشة قالت: «طيَّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديَّ هاتين حين أحرم، ولحلِّه حين أحلَّ قبل أن يطوف» (¬3). وعائشة رضي الله عنها لم تكن مسايرته لما أفاض صلى الله عليه وسلم من مزدلفة، وقد ثبت أنه استمر راكبًا إلى أن رمى جمرة العقبة، فدلَّ على أن تطييبها له وقع بعد الرمي، لكن هل كان هذا التطييب قبل الحلق أو بعده؟ فقال بعض العلماء (¬4): لو كان يحل بالرمي فقط لقالت: (ولحله قبل أن ¬

(¬1) أشار إلى نحو هذا العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- كما في «الممتع» (7/ 367). (¬2) سورة البقرة: 196. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1754)، ومسلم (1189). (¬4) «الشرح الممتع» (7/ 365).

يحلق) فهي رضي الله عنها جعلت الحل ما بين الطواف والذي قبله، والذي قبله هو الرمي والنحر والحلق، لا سيما وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر» (¬1). وقد ورد حديث: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» (¬2) لكنه لا يصح. وقال آخرون: إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة، حلَّ له كل شيء إلا النساء، ولو لم يحلق، واستدلوا برواية لحديث عائشة المتقدم بلفظ: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة لحجة الوداع للحل والإحرام، حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت» (¬3). وبحديث: «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» (¬4) بدون زيادة «وحلقتم» وهذا مذهب عطاء ومالك وأبي ثور وأبي يوسف وهو رواية عن أحمد واختاره ابن قدامة وإليه ذهب ابن حزم بل إنه قال: يحل له ذلك بمجرد دخول وقت الرمي ولو لم يرم (¬5). وذهب الشافعية إلى أن التحلل الأول يقع بأمرين من ثلاثة: الرمي والحلق والطواف، ويقع التحلل الثاني بالثالث (¬6). وأما التحلل الثاني فيحصل بعد طواف الإفاضة، ففي حديث ابن عمر: «... ثم لم يحلل [أي النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجَّه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت، ثم حلَّ من كل شيء حرم منه ...» (¬7). 2 - الرمي في أول وثاني أيام التشريق: يجب في هذه اليومين (الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة) رمي الجمار الثلاث على الترتيب: الجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، يرمي كل جمرة منها بسبع حصيات. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1566)، ومسلم (1229). (¬2) ضعيف: أخرجه الطحاوي (1/ 419)، والبيهقي (5/ 136)، وأحمد (6/ 143)، وانظر «الإرواء» (1046). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (6/ 200). (¬4) صححه الألباني: وانظر «الإرواء» (4/ 236)، و «الصحيحة» (239). (¬5) «المغنى» (3/ 439)، و «المحلى» (7/ 139)، و «حجة النبي» (ص: 81). (¬6) «المجموع» (8/ 203)، و «فتح الباري» (3/ 684). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1227) وغيره.

وقت الرمي: يبدأ وقت الرمي في هذين اليومين بعد الزوال، ولا يجوز قبله عند جمهور العلماء (¬1)، والدليل: 1 - لحديث جابر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال» (¬2) وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (¬3). 2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترقب زوال الشمس حتى يرمي، فعن وبرة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما «متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدت عليه المسألة، قال: كنا نتحيَّن فإذا زالت الشمس رمينا» (¬4) ولو جاز قبل الزوال لفعله صلى الله عليه وسلم ولو مرة لبيان الجواز. 3 - أنه لو كان الرمي قبل الزوال جائزًا لفعله صلى الله عليه وسلم، لما فيه من فعل العبادة في أول وقتها، ولما فيه من التيسير على العباد ولما فيه من تطويل الوقت (¬5). يمتد الوقت المسنون من زوال الشمس إلى غروبها، فإن شق الرمي قبل المغرب، فلا حرج -على الأصح- أن يرمي بالليل كما سبق تحريره عند الرمي يوم النحر. وأنه نهاية وقت الرمي، فمذاهب العلماء فيه مثل الذي تقدم في الرمي يوم النحر. صفة الرمي في اليومين: عن سالم أن ابن عمر رضي الله عنهما: «كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» (¬6). النَّفر الأول: إذا رمى الحاج الجمار أول وثاني أيام التشريق، فإنه يجوز له أن ينفر -أي يرحل- إلى مكة، إن أحب التعجل في الانصراف من منى، ويُمس ¬

(¬1) «المبسوط» (4/ 23)، و «الموطأ» (1/ 409)، و «الفروع» (3/ 518)، و «المجموع» (8/ 211). (¬2) «المبسوط» (4/ 23)، و «الموطأ» (1/ 409)، و «الفروع» (3/ 518)، و «المجموع» (8/ 211). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1746). (¬5) «الشرح الممتع» (7/ 384). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1751).

هذا اليوم يوم النفر الأول، وبه يسقط رمي اليوم الثالث من أيام التشريق اتفاقًا، لقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (¬1). وله أن ينفر -النفر الأول- قبل غروب الشمس ثاني أيام التشريق في مذهب الجمهور، وعند الحنفية: له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من ثالث أيام التشريق. 3 - الرمي ثالث أيام التشريق: ويجب رمي الجمار الثلاث في هذا اليوم على من تأخر ولم ينفر من منى «النفر الأول» بعد الزوال عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجوز الرمي قبل الزوال بعد الفجر، وحديث جابر يردُّه. واتفقوا على أن آخر وقت الرمي في هذا اليوم غروب الشمس، وأن وقت الرمي لقضاء الأيام السابقة ينتهي أيضًا بغروب شمس ثالث أيام التشريق، لخروج وقت المناسك بغروب الشمس. النَّفر الثاني: إذا رمى الحاج الجمار الثلاث في اليوم الثالث من أيام التشريق -وهو رابع أيام النحر- انصرف من منى إلى مكة، ولا يسن له أن يقيم بمنى بعد الرمي ويسمى «يوم النفر الثاني» وبه تنتهي مناسك منى. النيابة في الرمي (الرمي عن الغير): من عجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس ونحوهما، فإنه يستنيب من يرمي عنه، لأن وقته مضيق، وينبغي أن يكون النائب قد رمى عن نفسه أولاً. ولا يصح الرمي عن النساء -غير العاجزات عن الرمي- وكذلك عن الصبيان، وأما حديث جابر: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان ورمينا عنهم» (¬2) فهو حديث ضعيف لا يصح. المبيت بمنى أيام التشريق واجب: يجب المبيت بمنى في ليالي أيام التشريق الثلاث (أو: ليلتي حادي عشر وثاني عشر لمن تعجَّل) عند جمهور العلماء، يلزم على من تركه بغير عذر دم عندهم، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما. ¬

(¬1) سورة البقرة: 203. (¬2) ضعيف: أخرجه أحمد (3/ 314) ونحوه عند الترمذي (927)، وابن ماجه (3038)، والبيهقي (5/ 256).

الهدي

قال: «رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته» (¬1) وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة (¬2). وذهب الحنفية -وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد- إلى أنه سنة (¬3)، والأول أصح، والله أعلم. الهَدْي الهَدْي: ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره، والمراد هنا ما يهدى من الأنعام -خاصة- إلى الحرم تقرُّبًا إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ... وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (¬4). جنس الهدي: اتفق العلماء على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نصَّ الله سبحانه عليها، وأن الأفضل في الهدايا: الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ثم المعز (¬5). فكلما كان أغلى ثمنًا كان أفضل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرِّقاب: أيها أفضل، قال: «أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها» (¬6). ما يشترط في الهدي: 1 - أن يكون من بهيمة الأنعام -كما تقدم- وهذا مجمع عليه. 2 - أن يكون جذع ضأن أو ثنيَّ سواه، لا يجزئ دون ذلك، فلا يجزئ من الإبل ما له أقل من خمس سنين، ولا من البقر ما له أقل من سنتين، ولا من المعز أقل من سنة، ولا من الضأن أقل من ستة أشهر. فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنَّة، إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (¬7) والمسنة: الثنية. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1745)، ومسلم (1315). (¬2) «المغنى» (3/ 449)، و «الفروع» (3/ 518)، و «الشرح الممتع» (7/ 391). (¬3) «الهداية» (2/ 186)، و «الإنصاف» (3/ 47). (¬4) سورة الحج: 36، 37. (¬5) «بداية المجتهد» (2/ 559) ط. الكتب العلمية، و «المجموع» (8/ 368). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (136) وغيرهما. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1963)، وأبو داود (2797)، والنسائي (7/ 218)، وابن ماجه (3141).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في شأن جذعة المعز -وهي ما له ستة أشهر-: «تجزئ عنك، ولا تجزئ عن أحد بعدك» (¬1). 3 - أن يكون سليمًا من العيوب: لقوله صلى الله عليه وسلم: «أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والكسيرة التي لا تُنقى» (¬2) أي: من هُزالها لا مخ لها. والعيوب في الأنعام يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام (¬3): (أ) أن تكون العيوب الأربعة المنصوصة في الحديث السابق، فلا تجزئ. (ب) أن يكون ورد النهي عنها دون عدم الإجزاء، وهي ما كان العيب في أذنها وقرنها، ونحو ذلك، كحديث علي بن أبي طالب قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرفاء» (¬4). فهذه يكره إهداؤها مع إجزائها. (جـ) أن تكون عيوبها لم يرد النهي عنها، ولكنها تنافي كمال السلامة، فهذه لا أثر لها، وتكره ولا تحرم، كمكسورة السن في غير الثنايا ونحو ذلك. والله أعلم. الهدي نوعان: أجمع العلماء على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب، ومنه تطوع. 1 - الهدي الواجب: وهو أقسام: (أ) هدي التمتع والقران: وهو الذي يجب على الحاج الذي لبى بعمرة متمتعًا بها إلى الحج، أو لبى بحج وعمرة قارنًا بينهما، لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬5). وهذا الهدي يجب على المتمتع بالإجماع، وعلى القارن عند الجمهور. (ب) هدي الفدية: وهو الذي يجب على الحاج إذا حلق شعره لمرض أو شيء ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5556)، ومسلم (1961). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (2785)، والترمذي (1530)، والنسائي (7/ 214)، وابن ماجه (3144). (¬3) «الشرح الممتع على زاد المستنقع» (7/ 476 - 477) باختصار. (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (2804)، والترمذي (1543)، والنسائي (7/ 217)، وابن ماجه (3142). (¬5) سورة البقرة: 196.

مؤذ لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬1). ويكون مخيَّرًا بين الهدي وبين الإطعام والصيام كما تقدم. وقد ألحق الجمهور بهذا النوع إيجاب الهدي على من ترك واجبًا من واجبات الحج، وعلى من ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام. (جـ) هدي الجزاء: وهو الذي يجب على المحرم الذي يقتل صيد البر، وقد تقدم، وقاسوا على هذا دمًا على من ارتكب محظورًا من المحظورات في الحرمين كقطع شجره ونحوه. (د) هدي الإحصار: وهو ما يجب على من حُبس عن إتمام المناسك لمرض أو عدو أو نحوه، ولم يكن قد اشترط عند إحرامه -كما تقدم- لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2). (هـ) هدي الوطء: وهو الذي يجب على الحاج إذا جامع أثناء الحج، وقد تقدم. (و) هدي النذر: وهو واجب على من نذره. 2 - هدي التطوع: وهو ما يتطوع الحاج المفرد -أو المعتمر المفرد- بإهدائه، وما يتطوع به غيرهما فوق ما يجب عليه. بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه: من كان في بلده ولم يذهب إلى الحرم، فيستحب له أن يبعث هدي تطوع مع غيره، ويستحب أن يقَلِّده ويشعره -كما سيأتي- فإذا بعثه فلا يصير بذلك محرمًا ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم وهو قول الجمهور. فعن عائشة قالت: «فتلت قلائد بُدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديَّ، ثم أشعرها ولَّدها، ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حلاًّ» (¬3). كم يجزئ من الهدي: ليس في أكثر الهدي حدُّ معلوم، وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم مائة، فعن علي قال: «أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة ...» (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة: 196. (¬2) سورة البقرة: 196. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1696)، ومسلم (1321). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1718).

وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة، فعن أبي أيوب الأنصاري قال: «كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحِّي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، ثم تباهى الناس فصاروا كما ترى» (¬1). وفي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «.. أخذ الكبش فأضجعه ثم قال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد ...» الحديث (¬2) وهذا في الأضحية. وقد أجمعوا على أن الكبش لا يجزئ إلا عن واحد -في الهدايا- إلا ما روى عن مالك من أنه يجزئ أن يذبحه الرجل على نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الشركة بل إذا اشتراه مفردًا (¬3). ويجزئ أن يشترك سبعة في بعير أو بقرة، وهو قول الشافعي المشهور عن أحمد لحديث جابر أنه قال: «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (¬4). وعنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهلِّين بالحج ... وأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كلُّ سبعة منا في بدنة» (¬5). وقد نقل ابن رشد الإجماع على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة (¬6). قلت: بل ذهب إسحاق إلى أن البدنة والبقرة تجزئ عن عشرة، وفي حديث عائشة: «... فلما كنا بمنى أُتيت بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ قالوا: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر» (¬7) وأزواجه تسع وقد جاء في بعض الروايات أنها كانت بقرة واحدة بينهن (¬8). وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم المغانم، فَعَدَل الجزور بعشرة شياه (¬9)، وعن ابن ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (1541)، وابن ماجه (3147) وصححه الألباني. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1967). (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 655). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1318). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1318). (¬6) «بداية المجتهد» (1/ 656). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1623)، ومسلم (1211). (¬8) مرسل: أخرجه مالك (2/ 486 - 487) مرسلاً. (¬9) صحيح: أخرجه البخاري (2507)، ومسلم (1968) وغيرهما.

عباس قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى، فاشتركنا في الجزور عشرة، والبقرة عن سبعة» (¬1). وهذه الأحاديث تُخرَّج على أحد وجوه ثلاثة (¬2): 1 - إما أن يقال: أحاديث السبعة أكثر وأحصُّ. 2 - وإما أن يقال: عدل البعير بعشرة من الغنم، تقويم في الغنائم لأجل تعديل القسمة، وأما كونه عن سبعة في الهدايا، فهو تقدير شرعي. 3 - وإما أن يقال: إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والإبل، ففي بعضها كان البعير يعدل عشر شياه فجعله عن عشرة، وفي بعضها يعدل سبعة فجعله عن سبعة، والله أعلم. اهـ. وقت الذبح أو النحر: يستحب الذبح يوم النحر (العاشر من ذي الحجة) بعد رمي جمرة العقبة وقبل الحلق والطواف -كما تقدم- وأما وقت الجواز فقد اختلف أهل العلم فيه على أقوال (¬3). 1 - أنه يجوز الذبح يوم النحر وثلاثة أيام بعده: وبه قال علي بن أبي طالب وهو مذهب الحسن البصري وعطاء الأوزاعي والشافعي واختاره ابن المنذر وابن تيمية وابن القيم، وحجتهم حديث: «كل أيام التشريق ذبح» (¬4) ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى، وأيام الرمي، وأيام التشريق، ويحرم صيامها، فهي إخوة في هذه الأحكام، فلا تفرق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع. 2 - أن وقتهم النحر ويومان بعده: وهو مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وغير واحد من الصحابة، وحُجتهم أنه قد نُهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، قالوا: فهو دليل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط، وفيه نظر (¬5) لأن النهي عن الادخار فوق ثلاث لا يلزم منه النهي عن التضحية بعد ثلاث!! ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه الترمذي (907)، والنسائي (7/ 222)، وابن ماجه (3131). (¬2) «زاد المعاد» لابن القيم (2/ 266 - 267). (¬3) «المبسوط» (12/ 9)، و «الأم» (2/ 217)، و «الإنصاف» (4/ 87)، و «المجموع» (8/ 390)، و «الزاد» (2/ 318). (¬4) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 82)، وابن حبان (1008) بسند منقطع. (¬5) «زاد المعاد» (2/ 318).

3 - أن وقت النحر يوم واحد، وهو قول ابن سيرين، لأنه اختص بهذه التسمية فدلَّ على اختصاص حكمها به. 4 - أنه يوم واحد في الأمصار وثلاثة أيام في منى: وهو قول سعيد بن جبير وجابر بن زيد، لأنها هناك أيام أعمال المناسك من الرمي والطواف والحلق فكانت أيامًا للذبح بخلاف أهل الأمصار. 5 - أنه من يوم النحر إلى آخر ذي الحجة: وهو محكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والنخعي. 6 - أنه لا يختص بوقت معين: وهو وجه عند الشافعية، وضعَّفه النووي (¬1). قلت: الأظهر أن أيام الذبح أربعة: يوم النحر وثلاثة بعده، وقد قرر هذا مجلس هيئة كبار العلماء بالسعودية (قرار رقم (43) بتاريخ 13/ 4/ 1396) بالأكثرية (¬2). مكان الذبح والنحر: قال الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬3). وقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنحره بمنى، وقال: «نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم ...» (¬4). وفي لفظ: «وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة وطريق ومنحر» (¬5). فالهدي لا يذبح إلا في الحرم، ومن ذبح أي مكان من الحرم -في مكة أو غيرها- أجزأه عند الجمهور، وقال مالك: لا يجزئ في الحرم إلا بمكة تمسُّكًا بظاهر قوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬6) وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه والله أعلم. هل يجوز نقل لحوم الهدايا خارج الحرم؟ قال مجلس هيئة العلماء بالسعودية في قراره (77) بتاريخ 21/ 10/ 1400: «فإن ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع: 1 - هدي التمتع أو القران، فهذا يجوز النقل منه إلى خارج الحرم، وقد نقل الصحابة -رضوان الله عليهم-من لحوم هداياهم إلى المدينة، ففي صحيح البخاري ¬

(¬1) «المجموع» (8/ 348 - 349). (¬2) «توضيح الأحكام» للبسام (3/ 374). (¬3) سورة الحج: 33. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1218) عن جابر. (¬5) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (1937)، وابن ماجه (3048)، وأحمد (3/ 326). (¬6) سورة المائدة: 95.

عن جابر بن عبد الله قال: كنا لا نأكل من لحوم بُدْننا فوق ثلاث بمنى، فرخصَّ لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلوا وتزوَّدوا، فأكلنا وتزوَّدنا» (¬1). 2 - ما يذبحه الحاج داخل الحرم جزاء لصيد أو فدية لإزالة أذى أوارتكاب محظور أو ترك واجب، فهذا النوع لا يجوز نقل شيء منه، لأنه كله لفقراء الحرم. 3 - ما ذبح خارج الحرم من فدية الجزاء أو هدي الإحصار -أو غيرهما مما يسوغ ذبحه خارج الحرم، فهذا يوزَّع حيث ذبح ولا يمنع نقله من مكان ذبحه إلى مكان آخر» (¬2). سَوْقُ الهَدْي (الإشعار والتقليد): يجوز للحاج أن يشتري هَدْيه من الحرم، كما يجوز له أن يسوقه من خارج الحرم. فإن ساقه استُحب أن يقلده ويُشعره -إن كان من الإبل أو البقر- بلا خلاف والتقليد: هو أن يجعل في عنق الهدي نعلاً أو نعلين (أو قطعة جلد) ليعرف أنه هدي، والإشعار: هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة -ويستحب الأيمن عند الشافعي وأحمد- حتى يسيل دمها فيكون علامة على أنها من الهدي. فعن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة، فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت الدم عنها، وقلَّدها بنعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت على البيداء أهل بالحج» (¬3). هل تُقلَّد الغنم؟ قال مالك وأبو حنيفة: لا تقلَّد الغنم، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: تُقلَّد، لحديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أَهْدى إلى البيت مرةً غنمًا، فقلَّدها» (¬4). توقيف الهدي بعرفة (التعريف) (¬5): ذهب مالك إلى أنه لا يجزئ من الهدي الذي يبتاع في الحرم إلا أن يوقف بعرفة، فإن ابتيع في الحل ثم أدخل الحرم أجزأ وإن لم يوقف بعرفة!! وقال ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1719)، ومسلم (1972). (¬2) «توضيح الأحكام» (3/ 311، 312). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1243)، وأبو داود (1752)، والنسائي (5/ 170، 171). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1701)، ومسلم (1331). (¬5) «المحلى» (7/ 166، 167)، و «بداية المجتهد» (1/ 561 - 562).

الليث: لا يكون هديًا إلا ما قلِّد وأشعر ووقف بعرفة!! وحجته حديث طاوس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرَّف بالبدن» (¬1). ولا يصح. وقال الشافعي والثوري وأبو ثور: وقوف الهدي بعرفة سنة، ولا حرج في تركه سواء كان داخلاً من الحل أو لم يكن. وقال أبو حنيفة: التعريف ليس بسنة، قلت: والصواب أنه إن وقف بالهدي فهو حسن وإلا فلا حرج في تركه، قال ابن حزم: «لم يأت أمر بتعريف شيء من ذلك في قرآن ولا سنة، ولا يجب إلا ما أوجب الله تعالى في أحدهما، ولا قياس يوجب ذلك أيضًا، لأن مناسك الحج إنما تلزم الناس لا الإبل» اهـ. وعلى كل حال فتعريف الهدي -في هذه الأيام- فيه حرج شديد، فلا يُتَكَلف والله أعلم. النحر والذبح (¬2) في الأنعام: اتفق أهل العلم على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحو وذبح، وأن من سنة الغنم الذبح، وأن من سنة الإبل النحر، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر (¬3). من سنة النحر: من سنة نحر الهدي أن تنحر وهي قائمة ومقيَّدة، قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (¬4). قال ابن عباس: أي قيامًا على ثلاث. وعن زياد بن جبير: أن ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل، وهو ينحر بدنته باركة، فقال: «ابعثها قيامًا مقيدة، سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم» (¬5). وعن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي منها» (¬6). وأما البقر والغنم فيستحب ذبحها مضطجعة على جنبها الأيسر وتترك رجلها اليمنى وتشد قوائمها الثلاث على النحو الذي يأتي في «الذبائح» إن شاء الله. ¬

(¬1) ضعيف: وانظر «المحلى» (7/ 166). (¬2) يأتي الفرق بين الذبح والنحر في «الذبائح» إن شاء الله تعالى. (¬3) «بداية المجتهد» (1/ 670) ط. العلمية. (¬4) سورة الحج: 36. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1713)، ومسلم (1320)، وأبو داود (1768). (¬6) أخرجه أبو داود (1767).

انتفاع صاحب الهدي به: 1 - الأكل من الهدي إذا بلغ محله: قال الله سبحانه {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬1). وقد اختلف أهل العلم في الأكل من الهدي الواجب: فقال أبو حنيفة: لا يؤكل من الهدي الواجب إلا هدي المتعة وهدي القرآن (¬2)، وهو قول أكثر الحنابلة (¬3) وقال مالك: يؤكل من كل الهدي الواجب إلا جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى (¬4). وقال الشافعي: لا يؤكل من الهدي الواجب كله، ولحمه كله للمساكين (¬5). قلت: ما كان من الهدي أشبه بالكفارة فلا يأكل منه، لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفارة منها، وهذا ظاهر في هدي جزاء الصيد وفدية الأذى وسائر دماء الجبران، وأماما كان دم نسك، فهوعبادة مبتدأة وليس دم جبران، فهذا يأكل منه، وهدي التمتع والقران هو هدي نسك -على الراجح- شرع شكرًا لله تعالى على ما أنعم به على الحاج من تيسير الحج والعمرة له في سفرة واحدة، ويؤيد هذا أن سبب الجبران محظور في الأصل، والتمتع جائز مطلقًا ولو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقًا، فعلم أنه دم نسك وهدي، وهذا مذهب الحنفية وأكثر الحنابلة واختاره ابن تيمية (¬6)، وعند الشافعية والمالكية أنه دم جبران (¬7) إلا أن المالكية أجازوا الأكل، والأول أظهر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هديه، وقد كان قارنًا ففي حديث جابر: «... ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا مرقها ...» (¬8) والله أعلم. وأما هدي التطوع: فأجمعوا أنه يأكل منه -إذا بلغ محلَّه- كسائر الناس. وإذا عطب قبل أن يبلغ محله: خلَّى بينه وبين الناس ولم يأكل منه، فعن ابن ¬

(¬1) سورة الحج: 28. (¬2) «الهداية» (1/ 186). (¬3) «المبدع» (3/ 124)، و «الإنصاف» (3/ 439)، و «الفروع» (3/ 310). (¬4) «بداية المجتهد» (1/ 565)، و «الخرشي» (2/ 378). (¬5) «روضة الطالبين» (3/ 191). (¬6) «مجموع الفتاوى» (26/ 82). (¬7) «مجموع الفتاوى» (26/ 82). (¬8) «المجموع» (7/ 176)، و «الروضة» (3/ 47)، و «الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي» (2/ 84).

عباس أن أبا قبيصة حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه البدن ثم يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتًا فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب به صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» (¬1). والسبب في نهيه ورفقته من الأكل منه خوف تعطيبهم الهدي لأجل نحره قبل أوانه. 2 - ركوب الهدي لمن احتاج إليه: يجوز أن يركب الهدي إذا احتاج، بالمعروف من غير إضرار بها وهو مذهب الشافعي، لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). ومن المنافع فيها الركوب، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: «اركبها»، قال: يا رسول الله إنها بدنة، فقال: «اركبها ويلك» في الثانية أو في الثالثة (¬3). وعن جابر بن عبد الله -وسئل عن ركوب الهدي- فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إليها، حتى تجد ظهرًا» (¬4). وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق والظاهرية إلى أنه يركب ولو من غير حاجة، وحديث جابر حجة عليهم (¬5) والله أعلم. لا يُعطى الجزار أجرته من الهدي: لا يجوز أن يعطى الجزار أجرة نحره أو ذبحه من الهدي، وإنما يجوز أن يتصدق عليه منه بعد إعطائه أجرته، لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنة، وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني ألا أعطي الجزار منها شيئًا، قوال: «نحن نعطيه من عندنا» (¬6). الصيام لمن لم يستطع الهدي: من كان قارنًا أو متمتعًا فإنه يجب عليه هدي -كما تقدم-، فإن لم يملك ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1326)، وابن ماجه (1036)، وأبو داود (1763). (¬2) سورة الحج: 33. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1689)، ومسلم (1322) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1324)، وأبو داود (1761)، والنسائي (2/ 147). (¬5) «شرح مسلم» للنووي (4/ 806) ط. قلعجي. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1717)، ومسلم (1317) وغيرهما.

ثمن الهدي ولم يستطعه، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده، كما قال تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬1). وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ...» (¬2). متى يصوم الأيام الثلاثة؟ اختلف العلماء في الأيام الثلاثة التي تصام في الحج على أقوال، أشهرها قولان: 1 - أنه يشرع صيامها من حين الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، واختاره ابن تيمية. ويستحب أن يجعلها السابع من ذي الحجة ويوم التروية ويوم عرفة، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وعن أحمد أن الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية (¬3) فإن قيل إن الله تعالى قال: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬4). فيقال: نعم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دخلت العمرة في الحج» (¬5). 2 - أنه لا يجوز الصيام إلا بعد الإحرام بالحج: وهو مذهب المالكية والشافعية (¬6). لقوله تعالى {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وهو مروي عن ابن عمر. قلت: كلا القولين متجه يحتمله معنى الآية الكريمة، والأول لا مانع منه، على أن يلاحظ الآتي (¬7): (أ) لا ينبغي تقديم الإحرام بالحج قبل يوم التروية لأجل الصيام، فإنه خلاف السنة كما تقدم، والغالب على الظن أن من الصحابة الذين أحرموا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم التروية من كان فقيرًا لم يسق الهدي ولم يقدم الإحرام بالحج. (ب) أنه لا ينبغي أن يصوم الحاج يوم عرفة لأنه خلاف السنة كما تقدم، فإن شاء صام السادس والسابع والتروية كما قال أحمد واختاره ابن باز، رحمه الله. ¬

(¬1) سورة البقرة: 196. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1691)، ومسلم (1227). (¬3) «فتح القدير» (2/ 529)، و «الإنصاف» (3/ 512)، و «المبدع» (3/ 175). (¬4) سورة البقرة: 196. (¬5) صحيح: تقدم تخريجه. (¬6) «الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي» (2/ 84)، و «المجموع» (7/ 186). (¬7) مستفاد من «الشرح الممتع» (7/ 208) بتصرف.

(جـ) الذي يظهر أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، كما يفهم من حديث ابن عمر وعائشة: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي» (¬1). وهذا هو الأحوط، وبه يخرج من الخلاف السابق. (د) لا يجوز أن يؤخر صيام الثلاثة عن أيام التشريق، لأن ما بعد أيام التشريق ليست من أيام الحج. (هـ) إذا صام قبل أيام التشريق فلا يشترط أن يصومها متتابعة، لأن الآية لم تقيِّد الصيام بالتتابع، والأصل إطلاق ما أطلقه الله ورسوله، فإن ابتدأ صيامه في أول أيام التشريق لزمه التتابع لإيقاع الصيام في أيام الحج، والله أعلم. المُحصَر إذا لم يستطع الهدي: تقدم أن من أُحصر -ولم يكن اشترط في إحرامه- يجب عليه هدي، لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2). ويذبحه في مكان الإحصار ثم يحلق رأسه، فعن ابن عمر قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفَّار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه وحلق رأسه» (¬3). فإن لم يستطع أو لم يجده، فالصواب أنه يحل ولا شيء عليه لا صيام ولا غيره، وأما من قاسه على هدي التمتع (¬4)، ففيه نظر من أوجه (¬5): 1 - أنه كان معه النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية وغيرها عدد كبير من أصحابه وفيهم الفقراء، ولم يرد أنه أمر من لم يجد الهدي بالصوم عشرة أيام، والأصل البراءة. 2 - أن حكم التمتع والإحصار آية واحدة، فذكر البدل عن الهدي في التمتع ولم يذكره في الإحصار ثم انتقل إلى حكم آخر، فقال: {... وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ ..} فدل على أن لا شيء على المحصر الذي لا يجد هديًا، فكان القياس مخالفًا للنص. 3 - أن هذا القياس قياس مع الفارق، فإن بين التمتع والإحصار فرقًا عظيمًا، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1997). (¬2) سورة البقرة: 196. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1812). (¬4) كما هو مذهب الحنابلة كما في «الإنصاف» (4/ 69)، والشافعية كما في «المجموع» (7/ 186). (¬5) مستفاد من «الشرح الممتع» (7/ 212، 448).

الحلق والتقصير

فالتمتع ترفه بالتحلل من العمرة وحصل له مقصوده بالحج، والمحصر لم يحصل له مقصوده. والله أعلم. الحلق والتقصير حكمهما: اتفق جمهور العلماء على أن حلق شعر الراس أو تقصيره واجب من واجبات الحج، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة (¬1). وذهب الشافعي في المشهور عنه -والراجح في مذهبه- أنه ركن (¬2). وسبب اختلافهم عدم الدليل على هذا أو ذاك، وقد ثبت الحلق والتقصير بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} (¬3). وقد عبَّر عن الحج بالحلق فعلم أنه واجب فيه. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ارحم المحلِّقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «اللهم ارحم المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «اللهم ارحم المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين» (¬4). والحلق أفضل من التقصير: لحديث ابن عمر السابق، ولا يجب الحلق إلا إذا نذره، فإذا قصَّر فإنه يجمع شعره فيقص من جميعه بقدر الأنملة أو أقل أو أكثر. ليس على النساء حلق بل يُقصِّرن: عن ابن عباس قال: قال لنا ر: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير» (¬5). وقد حكى غير واحد الإجماع على أن النساء لا يحلقن وإنما يقصرن. قدر كم تأخذ المحرمة من شعرها؟ لم يرد في هذا نص من كتاب أو سنة، وقد قال بعض أهل العلم: تأخذ قدر ¬

(¬1) «فتح القدير» (2/ 178، 252)، و «شرح الرسالة بحاشية العدوي» (1/ 478)، و «المغنى» (3/ 435)، و «الفروع» (3/ 513). (¬2) «المجموع» (8/ 189). (¬3) سورة الفتح: 27. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1727)، ومسلم (1301). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (1985)، والدارمي (1905) وغيرهما.

أنملة من كل قرن (ضفيرة) وهو قول ابن عمر والشافعي وأحمد وأبي ثور، وقال بعضهم: تأخذ من جوانبها شيئًا، وقال بعضهم: لا تكثر الشابة، وأما الكبيرة فتأخذ من شعرها ولا تزيد عن الربع (¬1). قلت: الظاهر أن لها أن تقصر ما شاءت بحيث لا تشابه الرجال وإلا لم يجز والله أعلم. وقت الحلق والتقصير: السنة أن يحلق -أو يقصِّر- يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة ونحر الهدي، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. والجمهور على أن الحلق أو التقصير لا يختص بزمان ولا مكان، لكن السنة فعله في الحرم أيام النحر. وذهب الحنفية إلى أن الحلق يختص بأيام النحر وبمنطقة الحرم، فلو أخل بأي من هذين حصل له التحلل ولزمه الدم (¬2). من آداب الحلق: 1 - ألا يحلقه بنفسه: بل يحلق له غيره. 2 - أن يبدأ الحالق بشق رأسه الأيمن: والدليل عليهما حديث أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى، ونحر، ثم قال للحلاَّق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس» (¬3). 3 - أن يأخذ من ظفره وشاربه بعد الحلق: فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان إذا حلق في حج أو عمرة، أخذ من لحيته وشاربه». وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قلَّم أظفاره (¬4). ما يفعل الأصلع؟ الأصلع الذي لا شعر له، ليس عليه حلق ولا فدية، ويستحب إمرار الموسى ¬

(¬1) انظر الآثار بهذا في «مصنف ابن أبي شيبة» (1/ 4/ 115 - 117)، عن «جامع أحكام النساء» لشيخنا أمتع الله بحياته (2/ 566). (¬2) انظر المراجع السابقة في حكم الحلق. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1305). (¬4) انظر «المجموع» (8/ 186، 195).

الفوات والإحصار

على رأسه ولا يجب عند الجمهور -خلافًا للحنفية- وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على أن الأصلع يمر الموس على رأسه (¬1). الفوات والإحصار 1 - الفوات: ما يفوت به الحج، ومن فاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج، وقد تقدم الدليل عليه في «ركن الوقوف». من فاته الحج، ماذا يفعل؟ من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، ويتحلل بعمرة من طواف وسعي وحلق أو تقصير، ولزمه أن يقضيه من قابل، ولزمه الهدي في وقت القضاء، ويسقط عنه ما بقي من المناسك كالنزول بالمزدلفة والرمي ومني ونحوها، وهذا قول الجمهور، خلافًا للحنفية فإنهم لا يوجبون عليه الهدي (¬2). وإن اختار من فاته الحج، البقاء على إحرامه ليحج من قابل، فله ذلك، لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه، كالعمرة والمحرم بالحج في غير أشهره. إذا أخطأ في الوقوف بعرفة: إذا أخطأ الناس، فوقفوا في اليوم الثامن أو العاشر، فإنه يجزئهم، ولا يجب عليهم القضاء (¬3)، لأنهم فعلوا ما أُمروا به. فإن اختلفوا فأصاب بعضهم وأخطأ بعضهم لم يجزئهم، لأنهم غير معذورين في ترك ما عليه الجماعة. 2 - الإحصار: منع المحرم من إتمام النسك. والأصل فيه قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬4). الإحصار المعتبر (¬5): اختلف أهل العلم في السبب المعتبر به الإحصار، لاختلافهم في فهم الآية ¬

(¬1) «المجموع» (8/ 192، 193). (¬2) «البدائع» (2/ 220)، و «الهداية» (2/ 136)، و «القوانين الفقهية» (ص 95)، و «التاج والإكليل» (3/ 200)، و «روضة الطالبين» (3/ 182)، و «الكافي» (360). (¬3) «المجموع» (8/ 281). (¬4) سورة البقرة: 196. (¬5) «المجموع» (8/ 283) وما بعدها، و «بداية المجتهد» (1/ 528)، و «الإنصاف» (4/ 71).

السابقة، فقال قوم: المحصر هو المحصر بالعدوِّ فقط، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. قالوا: لأن الآية نزلت في إحصار المشركين وصدهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عمرة الحديبية واحتجوا كذلك بقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} بعد قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وبقوله تعالى بعده: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ..} قالوا: فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لما كان لذكر المرض بعد ذلك فائدة، وهذامذهب ابن عمر وابن عباس. وقال آخرون: بل المحصر هو المحصر بمرض وبعدو وبكل ما يمنع من إتمام النسك وبه قال مالك وهو رواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام وهو الراجح (¬1) لعموم قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وأما كون سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم أحصره العدو، فهذا قصر للدليل على سببه ولا يصح، وأما الاستدلال بقوله تعالى {فَإِذَا أَمِنتُمْ} فهو من باب ذكر حكم بعض أفراد العام، وهذا لا يقتضي التخصيص كما هو مقرر في الأصول، هذا على أنه قوله تعالى {فَإِذَا أَمِنتُمْ ...} الأظهر أنه في غير المحصر، بل في المتمتع الحقيقي، فكأن المعنى: فإذا لم تكونوا خائفين لكن تمتعتم بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، ويدل على هذا التأويل قوله سبحانه: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع!! قلت: «أبو مالك»: وأصرح من هذا كله حديث عائشة رضي الله عنها في قول النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير: «أردت الحج؟» قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: «حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» (¬2) وهو صريح في اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم الوجع والمرض سببًا للإحصار، والله أعلم. من أحصر ماذا يصنع؟ من أحصر عن إتمام نسكه، فإن كان اشترط أن محله حيث حُبس، فإنه يحلُّ ولا شيء عليه، لحديث عائشة المتقدم. وإن لم يكن قد اشترط، فإنه يتحلل بعمرة ويجب عليه هدي عند الجمهور لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬3). ¬

(¬1) «بداية المجتهد» (1/ 529)، و «الإنصاف» (4/ 71)، و «الاختيارات» (ص 120). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207). (¬3) سورة البقرة: 196.

ثانيا: العمرة

هل يجب على المحصر القضاء؟ ذهب الجمهور إلى أن المحصر لا يجب عليه قضاء نسكه إن تحلل -خلافًا للحنفية- إلا أن كيون واجبًا في الأصل كحجة الإسلام فيطالب به بالوجوب السابق. والله أعلم. ثانيًا: العمرة تعريفها: العمرة لغةً: الزيارة، وقيل القصد إلى مكان عامر، وسميت بذلك لأنها تفعل في العمر كله. وشرعًا: قصد الكعبة للنسك وهو الطواف والسعي (¬1). حكمها: اختلف أهل العلم في حكم العمرة على من وجب عليه الحج، على قولين: الأول: تجب العمرة في العمر مرة: وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو مروي عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وجماعة من السلف، وبه قال أهل الظاهر (¬2) وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (¬3). ومقتضى الأمر الوجوب ثم عطفها على الحج. 2 - حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: «نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (¬4) وظاهر قوله (عليهن) الوجوب. 3 - حديث الصبي بن معبد قال: أتيت عمر رضي الله عنه فقلت يا أمير المؤمنين، إني ¬

(¬1) «مغنى المحتاج» (1/ 460)، و «كشاف القناع» (2/ 436) وما بعدها. (¬2) «الأم» (2/ 132)، و «المجموع» (7/ 3، 7)، و «المغنى» (3/ 218)، و «الإنصاف» (3/ 387)، و «المحلى» (7/ 360). (¬3) سورة البقرة: 196. (¬4) صححه الألباني: أخرجه أحمد (6/ 71)، وابن ماجه (2901)، وقال في «الإرواء» (981): «وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين»، قلت: الحديث عند البخاري (1520)، والنسائي (5/ 86) بدون ذكر العمرة، ومخرج الحديث واحد، فيبحث في ثبوت هذه اللفظة، والله أعلم.

أسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فأهللت بهما، فقال: «هَديت لسنة نبيك» (¬1). 4 - أن العمرة هي الحج الأصغر عند الجمهور (¬2). الثاني: العمرة مستحبة وليست واجبة: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك (¬3)، والقول القديم للشافعي والرواية الأخرى عن أحمد وهو مروي عن ابن مسعود، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واحتجوا بما يلي: 1 - ما رُوى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمروا فهو أفضل» (¬4). 2 - ما رُوى عن طلحة مرفوعًا: «الحج جهاد، والعمرة تطوع» (¬5). 3 - أن العمرة والحج عبادتان من جنس واحد، فإذا فعلت الكبرى لم تجب الصغرى كالوضوء مع الغسل، وإن كان الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل (¬6)، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم لكن أمرهم بالتمتع، وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» (¬7). 4 - أن العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج -وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة واحدة لا مرتين -فعلم أن الله لم يفرض العمرة (¬8). قلت: أما الأحاديث التي استدل بها الفريق الثاني فلا يصح منها شيء، ومع هذا فأدلة الموجبين كذلك ليست صريحة في الإيجاب، فقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} إنما هو في وجوب الإتمام لمن شرع فيهما، وأما في الابتداء فقد أوجب الحج فقط، حيث قال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬9). ولم يوجب ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي (2/ 13 - 14)، وأبو داود (1799)، وابن ماجه (2970)، وانظر «الإرواء» (2970). (¬2) انظر «الفتح» (6/ 322، 8/ 172)، و «تفسير الطبري» (10/ 75). (¬3) «المدونة» (1/ 370)، و «فتح القدير» (2/ 306)، و «البدائع» (3/ 1320). (¬4) ضعيف: أخرجه الترمذي (939). (¬5) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (2989) , (¬6) «مجموع الفتاوى» (26/ 9). (¬7) صحيح: تقدم تخريجه. (¬8) «مجموع الفتاوى» (26/ 8). (¬9) سورة آل عمران: 97.

فضل العمرة

العمرة، وأما كون العمرة: الحج الأصغر، فقد جعله ابن تيمية حجة على الموجبين لا لهم، لأنه يلزم منه إيجاب حجَّين وهو ممتنع. وعلى كلٍّ فالأحوط فعلها وعدم التفريط لاحتمال ثبوت زيادة «العمرة» في حديث عائشة، ولاحتمال أن يكون المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «دخلت العمرة في الحج كهاتين ..» وجوبها كالحج، ولأن العمل بأدلة الوجوب تبرأ بها المة بالإجماع. والله أعلم. فضل العمرة (¬1): العمرة من أجلِّ العبادات، وأفضل القربات التي يرفع الله بها لعباده الدرجات، ويحط عنهم بها الخطيئات، وقد حضَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً: 1 - فقال صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» (¬2). 2 - وقال: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» (¬3). 3 - واعتمر -عليه الصلاة والسلام- واعتمر معه أصحابه في حياته وبعد مماته. وقت العمرة: يجوز إيقاع العمرة في جميع أيام السنة -عند جمهور العلماء- إلا أنها في رمضان أفضل منها في غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة معي» (¬4). تجوز العمرة قبل الحج: فعن عكرمة بن خالد «أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن العمرة قبل الحج، فقال: لا بأس بها، قال عكرمة: قال ابن عمر: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج» (¬5). هل يشرع تكرار العمرة؟ تكرار العمرة يكون على حالتين: 1 - تكرار العمرة في السنة الواحدة بأسفار متعددة: فهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين (¬6): ¬

(¬1) «إرشاد الساري» عن «الوجيز» (ص: 266). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349). (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي (807)، والنسائي (5/ 115)، وانظر «صحيح الجامع» (2899). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1782)، ومسلم (1256). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1774). (¬6) «مجموع الفتاوى» (26/ 267) وما بعدها، (26/ 290)، و «المجموع» للنووي (7/ 140).

(أ) أنه يكره، وبه قال الحسن وابن سيرين والنخعي، وهو مذهب مالك، واختاره شيخ الإسلام، وحجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يعتمروا في عام مرتين، فتكره الزيادة على فعلهم، ولأن العمرة هي الحج الأصغر، والحج لا يشرع في العام إلا مرة واحدة، فكذلك العمرة. (ب) أنه جائز ومستحب، وهو مذهب الجمهور، منهم عطاء وطاوس وعكرمة والشافعي وأحمد، وهو المروي عن عليٍّ وابن عمر وابن عباس وعائشة، وحجتهم أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: عمرتها التي كانت مع الحجة، والعمرة التي اعتمرتها من التنعيم، وهذا على القول بأنها لم ترفض عمرتها وأنها كانت قارنة كما ذهب إليه الجمهور. وكذلك استدلوا بحديث «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ...» (¬1)، وبحديث عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال» (¬2). قلت: والظاهر لي أن مذهب الجمهور أرجح، والعمرة عمل خير لم يأت ما ينهي عن تكراره، وقياسها على الحج -في كونه مرة- لا يصح؛ لأن العمرة ليس لها وقت تفوت به بخلاف الحج، ثم إن الحج لا يتصور تكراره في عام واحدة، فبطل القياس عليه، والله أعلم. 2 - تكرار العمرة في سفرة واحدة: الخلاف في هذه المسألة مثل الخلاف في التي قبلها، لكن الراجح هنا أنه لا يُشرع تعدد العُمر في السفرة الواحدة كما يفعله كثير من الناس اليوم من الخروج إلى التنعيم -بعد الحج مثلاً- ثم الاعتمار، فهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم «وإنما كانت عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم كلها داخلاً مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجًا من مكة تلك المدة أصلاً، فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها: عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها فخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها من بين سائر من كان ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (1991)، والبيهقي (5/ 11). وقال ابن القيم في «تهذيب السنن» (5/ 325 - العون): وهو وهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في شوال قط ... اهـ. فليراجع.

أركان العمرة

معه، لأنها كانت أحرمت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة، فصارت قارنة، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وبعمرة مستقلة، وترجع هي بعمرة ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم» (¬1). ثم إن الطواف بالبيت أفضل من السعي يقينًا، وهو أولى من الاشتغال بالخروج إلى التنعيم للإهلال بعمرة جديدة، ومعلوم أن الوقت الذي يصرفه في الخروج إلى التنعيم ليهل بعمرة جديد يستطيع أن يطوف فيه بالبيت مئات الأشواط. قلت: هذا فيمن كان اعتمر قبل الحج فأراد -بعد الحج- أن يكرر عمرته، أو كان اعتمر وأراد التكرار، أما من كان في مثل حال عائشة رضي الله عنها، فلم يعتمر قبل الحج، فلا بأس أن يعتمر بعد فراغه من الحج، عملاً بالأدلة كلها (¬2)، وهذا أعدل الأقوال في المسألة، والله تعالى أعلم. أركان العمرة: 1 - الإحرام 2 - الطواف 3 - السعي فمن ترك ركنًا من هذه الأركان، لم يتم نسكه. واجبات العمرة: 1 - الإحرام من الميقات: يجب على من أراد العمرة أن يُحرم بها من الميقات إن كان مقيمًا قبل الميقات (خارجه) فإن كان مقيًا دون الميقات فيُحرم من منزله، وأما المقيم بمكة فيخرج إلى الحل (التنعيم أو غيره) فيحرم منه كما فعلت عائشة رضي الله عنها. 2 - الحلق أو التقصير. زيارة المدينة المنورة (¬3): فضل المدينة: عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى سمى المدينة طابة» (¬4). ¬

(¬1) «زاد المعاد». (¬2) وبهذا قال العلامة ابن باز -رحمه الله تعالى- كما في «توضيح الأحكام» للبسام (3/ 247). (¬3) إرشاد الساري عن «الوجيز» (269 - 273). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1385).

فضل مسجدها وفضل الصلاة فيه

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المدينة كالكير، تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد» (¬1). فضل مسجدها وفضل الصلاة فيه: عن أبي هريرة، يبلغ به عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى» (¬2). وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام» (¬3). وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» (¬4). آداب زيارة المسجد والقبر الشريفين: إن الأفضلية التي اختص بها المسجد النبوي الشريف، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، هي تكريم من الله سبحانه لهذه المساجد الثلاثة، وتفضيل للصلاة فيها على الصلاة في غيرها، فمن جاءها فإنما يجيئها رغبة في تحصيل الثواب وتلبية لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على شد الراحل إليها وزيارتها. وليست لهذه المساجد الثلاثة آداب تختص بها من بين سائر المساجد، غير أن لبسًا قد يخالط بعض الناس، فيجعلون للمسجد النبوي آدابًا خاصة به، وما كان هذا اللَّبس ليكون لولا وجود القبر الشريف داخل المسجد. وحتى يكون المسلم على بينة من أمره إذا قدم المدينة، وأراد أن يزور المسجد النبوي نورد آداب زيارته: 1 - إذا دخل فليدخل برجله اليمنى، ثم ليقل: «اللهم صلِّ على محمد وسلِّم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك» (¬5). أو «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1381). (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397). (¬3) متفق عليه. أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394). (¬4) متفق عليه. أخرجه البخاري (1195)، ومسلم (1390). (¬5) سبقا. (¬6) سبقا.

مسجد قباء

2 - ثم يصلي ركعتي تحية المسجد قبل أن يجلس. 3 - وليحذر الصلاة إلى جهة القبر الشريف، والتوجه إليه حيثما يدعو. 4 - ثم يذهب إلى القبر الشريف ليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليحذر وضع يديه على صدره، وطأطأة الرأس، والتذلل -الذي لا ينبغي إلا الله وحده- والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمات والألفاظ التي كان يسلم بها على أهل البقيع، وقد صحت عنه صلى الله عليه وسلم صيغ عدة، منها: «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون» (¬1) ويسلِّم على صاحبيه: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالسلام نفسه. 5 - وليس من الأدب أن يرفع صوته في المسجد، أو عند القبر الشريف، فليكن صوته خفيفًا، إذ الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ميتًا كالأدب معه حيًّا. 6 - وليحرص على الصلاة في جماعة في الصفوف الأولى، لما في ذلك من الفضل الجم والثواب العظيم. 7 - ولا يحمله الحرص على الصلاة في الروضة أن يتأخر عن الصفوف الأولى، فليس للصلاة في الروضة فضل يميزها عن الصلاة في سائر أجزاء المسجد. 8 - وليس من السنة أن يحرص على الصلاة في المسجد أربعين صلاة متوالية بناء على الحديث الذي اشتهر على ألسنة الناس تداوله: «من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا يفوته صلاة كتبت له براءة من النار، ونجا من العذاب، وبرئ من النفاق» (¬2). فهذا حديث ضعيف لا يصح. 9 - وليس مشروعًا أن يكثر التردد على القبر الشريف للسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالسلام عليه يبلغ حيثما كان، ولو كان في أقصى الأرض فهو ومَنْ أمام القبر سواء في الحصول على ثواب الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 10 - وإذا خرج من المسجد لا يمشي القهقري، وليخرج برجله اليسرى قائلاً: «اللهم صل على محمد، اللهم إني أسألك من فضلك» (¬3). مسجد قباء: يسن لمن أتى المدينة أن يؤم مسجد قباء فيصلي فيه، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) سبق. (¬2) انظر «الضعيفة» (364). (¬3) سبق.

البقيع وأحد

حيث «كان -عليه الصلاة والسلام- يتعاهده بالزيارة ماشيًا وراكبًا، ويأتيه يوم السبت فيصلي فيه ركعتين» (¬1). وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه، كان له كأجر عمرة» (¬2). البقيع وأُحد: البقيع مقبرة المسلمين بالمدينة، وفيه دفن خلق كثير من الصحابة، وما زال يدفن فيه المسلمون إلى أيام الناس هذه، وكثيرٌ هم أولئك الذين يأتون المدينة طمعًا في الموت بها ليدفنوا في البقيع. و «أُحد جبل يحبنا ونحبه» (¬3)، وفي حضنه دفن بضعة وسبعون شهيدًا، من شهداء الغزوة التي دارت رحاها في أحضانه، ونسبت إليه فسميت غزوة أحد. فإذا أراد أحد قدم المدينة أن يزور البقيع أو شهداء أُحد فلا مانع، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم أذن بها، لتذكر الآخرة والاتعاظ بمصائر من فيها. ولكن يجب الحذر من التبرك بالقبور، والاستغاثة بأهلها، والاستشفاع بهم لدى الأحياء، والتوسل بهم إلى رب العباد. ولا يشرع لمن يأتي أُحدًا أن يقصد ما يقال بأنه مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في سفح الجبل ليصلي فيه، أو أن يصعد أُحدًا تبركًا، أو يصعد جبل الرماة تتبعًا لآثار الصحابة، فذلك وغيره مما يكون من غير السلام والدعاء للشهداء ليس مشروعًا ولا مستحبًا شَرْعًا، بل هو من الأمور المحدثة المنهي عنها، وفي ذلك يقول عمر رضي الله عنه: «إنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم». فليكن لنا في كلام عمر رضي الله عنه مقنع ومقطع. المزارات: هناك أماكن أخرى في المدينة المنورة تعرف بالمزارات، كالمساجد السبعة القريبة من موقع غزوة الخندق، ومسجد القبلتين، وبعض الآبار، ومسجد الغمامة، والمساجد التي تنسب لأبي بكر، وعمر، وعائشة، رضي الله عنهم جميعًا، فكل هذه الأماكن لا يشرع تخصيصها بالزيارة، ولا يحسبن الزائر لها أنه بزيارتها يحصل على زيادة ثواب، فإن تتبع آثار الأنبياء والصالحين كانت سببًا في هلاك الأمم من قبلنا، ولا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1193)، ومسلم (1399). (¬2) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجه (1412). (¬3) متفق عليه. أخرجه البخاري (4083)، ومسلم (1393).

محظورات الحرمين

يحسن بالمسلمين أن يخالفوا هدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه -رضوان الله عليهم- فإن الخير كل الخير في هديه وهديهم، والشر كل الشر في المخالفة عن هديه وهديهم. تنبيهان مهمان جدًّا: الأول: يحرص كثير من الحجاج على المكث في المدينة المنورة أيامًا أكثر من الأيام التي يمكثونها في مكة، مع أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مئة ألف في غيره من المساجد، أما الصلاة في المسجد النبوي فهي كألف صلاة فيما سواه. وهذا الفرق الكبير في الفضل بين الصلاة في مكة وبين الصلاة في المدينة ينبغي أن يكون فيه مقنع لأولئك الحجاج أن يكون مكثهم في مكة أكثر منه في المدينة. الثاني: كثير من الحجاج يظنون أن زيارة المسجد النبوي هي من مناسك الحج، ولذا فإنهم يحرصون عليها كحرصهم على مناسك الحج، حتى لو أن رجلاً حج ولم يأت المدينة فعندهم أن حجه ناقص!! ويروون على غير ما يظن هؤلاء، فزيارة المسجد النبوي سنة شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، لكن لا علاقة بين الزيارة وبين الحج، ولا يترتب على زيارة المسجد صحة للحج، بل ولا كمال له، لأن زيارة المسجد النبوي ليست من مناسك الحج، بل هي مشروعة لذاتها وحدها. محظورات الحرمين (¬1): جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة». فتحريمهما إنما كان بوحي من الله سبحانه لنبييه ورسوليه الكريمين -صلوات الله وسلامه عليهما-. وإذا قيل الحرمان، فهما مكة والمدينة، ولا يجوز إطلاق لفظ الحرم شرعًا إلا عليهما وحدهما، ولا يجوز إطلاق لفظ الحرم شرعًا على المسجد الأقصى، ولا على مسجد إبراهيم الخليل، إذ لم يسم الوحي حرمًا إلا مكة والمدينة، وهو تشريع لا مكان لعقل البشر فيه. ¬

(¬1) نقلاً من «إرشاد الساري» لفضيلة الوالد الشيخ محمد إبراهيم شقرة -حفظه الله- عن «الوجيز» (ص 260 - 261).

ويحظر في أرض الحرمين أمور لا يجوز فعلها لمن كان يحيا فيهما، أو أتاهما زائرًا لحج أولعمرة أو لغير ذلك، وهذه الأمور هي: 1 - صيد الحيوان والطير، وتنفيره، والإعانة عليه. 2 - قطع النبات والشوك إلا ما دعت الحاجة والضرورة إليه. 3 - حمل السلاح. 4 - التقاط اللقطة في حرم مكة للحاج، أما من كان مقيمًا في مكة التقطها وعرفها، والفرق بين الحاج والمقيم ظاهر في ذلك. اهـ. قلت: والدليل على هذه المحظورات قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه، ولا يُنفِّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يُختلى خلاها». فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقِينهم ولبيوتهم، فقال: «إلا الإذخر» (¬1). وعن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح» (¬2). وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال [يعني في المدينة]: «لا يُخْتَلَى خلاها، ولا يُنَفَّرُ صيدها، ولا تُلتقط لُقَطَتُهَا إلا لمن أشاد بها [أنشدها] ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يُقْطَعَ منها شجرة إلا أن يَعلفَ رجل بعيره» (¬3). قال الشيخ شقرة: فمن أتى شيئًا من هذه المحظورات فقد أثم، ويلزمه التوبة والاستغفار، إلا الصيد فإن على المحرم فيه دم الجزاء زيادة على التوبة والاستغفار. اهـ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1834)، ومسلم (1353). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1356). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (2018).

7 - كتاب الأيمان والنذور

7 - كتاب الأيمان والنذور

أولا: الأيمان

أولًا: الأيْمَانُ (*) تعريف الأيمان: الأيمان لغةً: جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة: اليد، وأطلقت على الحَلِف، لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امرئ منهم بيمينه على يمين صاحبه (¬1). واليمين شرعًا: «توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله» (¬2). مشروعية اليمين: ثبتت مشروعية اليمين بالكتاب والسنة والإجماع: 1 - فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (¬3)، وقوله سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬4)، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالقسم في ثلاثة مواضع من كتابه، فقال: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (¬5)، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ} (¬6) {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (¬7). 2 - ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ...» (¬8). وقوله صلى الله عليه وسلم: «... [فوالذي لا إله غيره] إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ...» (¬9) الحديث. ¬

(*) لأخينا الفاضل: عصام جاد -حفظه الله- كتاب نافع في «فقه الإيمان» وقد استفدت منه. (¬1) «لسان العرب» و «النهاية» لابن الأثير. (¬2) «فتح الباري» (11/ 516). (¬3) سورة النحل، 91. (¬4) سورة التحريم، 2. (¬5) سورة يونس: 53. (¬6) سورة سبأ: 3. (¬7) سورة التغابن: 7. (¬8) صحيح: أخرجه البخاري (6528)، ومسلم (221). (¬9) صحيح أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2643)، والترمذي (2137)، وهو عند البخاري (3208) بدون لفظ القسم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم خشية» (¬1). وعن ابن عمر قال: «كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ومُقلِّبِ القلوب» (¬2) وغيرها كثير وسيأتي طرف من ذلك في أثناء الباب، إن شاء الله. 3 - وقد أجمعت الأمة على مشروعية الأيمان، وثبوت أحكامها (¬3). أيمان المسلمين: الأيمان التي يحلف بها المسلمون، مما قد يلزم بها حكم، يمكن إجمالها في نوعين (¬4): 1 - القسم: وهو ما يقصد به تعظيم المُقسم به، وهذا النوع لا يكون إلا بالله تعالى، فهو المستحق للتعظيم بذاته على وجه لا يجوز هتك حرمة اسمه بحال. 2 - الشرط والجزاء: وهي يمين عند الفقهاء لما فيها من معنى اليمين، وهو المنع أو الإيجاب، وإن كان هذا النوع لا يعرفه أهل اللغة، ومن هذا النوع: اليمين بالنذر، واليمين بالطلاق، واليمين بالحرام، واليمين بالظهار، ونحو ذلك. وسنهتم في هذا البحث بالنوع الأول وبعض الصور من النوع الثاني، وباقي صوره مفرَّقة في مواضعها من أبوب الفقه. لا ينبغي الإكثار من الحلف (¬5): قال الله تعالى {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} (¬6)، والحلاَّف -على ما ذكره بعض المفسِّرين-: كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف، وقال عز وجل {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (¬7) والمراد: الامتناع من الحلف -على أحد الأقوال- فإن بَعْدَ الحلف إنما يتصوَّر حفظ البرِّ، وحفظ اليمين يذكر لمعنى الامتناع. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6101)، ومسلم (2356). (¬2) «المغنى» (11/ 160 - مع الشرح الكبير). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6628)، والنسائي (7/ 2)، وأبو داود (3263)، والترمذي (1540)، وابن ماجه (2092). (¬4) «المبسوط» (8/ 126)، وانظر «مجموع الفتاوى» (35/ 241). (¬5) «التفسير الكبير» للرازي (6/ 75، 30/ 83)، و «المبسوط» (8/ 127). (¬6) سورة القلم: 10. (¬7) سورة المائدة: 89.

وقد كان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، كما قال كثير: قليل الألايا (¬1) حافظ ليمينه وإن سبقت منه الأَلِيَّةُ بُرَّتِ والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان: أن من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وَقْعٌ، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة فيختل ما هو الغرض الأصلي من اليمين، ولذا كُره الحلف في البيع والشراء، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحلف مَنْفَقَةٌ للسلعة، محققة للبركة» (¬2). الحلف لا يكون إلا بالله: عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (¬3). فدلَّ على أمرين (¬4): الأول: الزجر عن الحلف بغير الله، وإنما خُصَّ في حديث عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو خص لكونه غالبًا عليه لقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: «وكانت قريش تحلف بآبائها» (¬5) ويدل على التعميم قوله: «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله». الثاني: أن من حلف بغير الله مطلقًا لم تنعقد يمينه، سواء كان المحلوف به يستحق التعظيم لمعنى غير العبادة كالأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء والآباء والكعبة، أو كان لا يستحق التعظيم كالآحاد، أو يستحق التحقير والإذلال كالشياطين وسائر من عُبد من دون الله .. ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله، ولا بما يقوم مقام ذلك. اهـ. فائدة: إذا حَلَف المسلم لأخيه بالله فينبغي أن يصدقه: وإن علم منه ضِدَّه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأى عيسى ابن مريم عليه السلام رجلاً سرق، فقال عيسى: أسرقت؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله، وكذبتُ عيني» (¬6). ¬

(¬1) جمع أليَّة: وهي الحلف والقسم. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2087)، ومسلم (1606). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6646)، ومسلم (1646). (¬4) «فتح الباري» (11/ 533). (¬5) البخاري (3836)، ومسلم (1646). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (3444)، ومسلم (2368).

الحلف بأسماء الله وصفاته: 1 - الحلف بأسماء الله تعالى (¬1): لا خلاف بين أهل العلم في أن من قال: (والله) أو (بالله) أو (تالله) فحنث -أن عليه الكفارة لانعقاد يمينه، وكذلك الحلف بأي اسم من أسمائه سبحانه التي لا يسمى بها غيره، كالرحمن، والأول الذي ليس قبله شيء، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت ونحو ذلك. وأما ما يسمى به غير الله تعالى مجازًا، وينصرف إطلاقه إلى الله تعالى، مثل الخالق والرازق والرب والرحيم والقاهر ونحوه، فهذا يسمى به غير الله مجازًا بدليل قوله تعالى {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} (¬2)، وقوله {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (¬3)، وقوله {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} (¬4)، و {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} (¬5) فهذا إن نوى به اسم الله تعالى أو أطلق، كان يمينًا لأنه بإطلاقه ينصرف إليه، وإن نوى به غير الله تعالى لم يكن يمينًا، لأنه يُستعمل في غيره فينصرف إليه بالنية. وأما ما يسمى به الله تعالى وغيره ولا ينصرف إليه بإطلاقه، كالحي والعالم والكريم ونحو ذلك، فهذا إن قصد به اليمين باسم الله تعالى كان يمينًا، وإن أطلق أو قصد غير الله تعالى لم يكن يمينًا. 2 - الحلف بصفات الله تعالى: (أ) يجوز -عند جمهور العلماء- القسم بصفة من صفات ذات الله سبحانه التي لا يراد بها غيره، مثل: جلاله وكبريائه وعظمته وعزته، وتنعقد بها اليمين: فعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط، وعزَّتك، ويُزوى بعضها إلى بعض» (¬6). وفي حديث أبي هريرة -في ذكر آخر من يخرج من النار-: «.. فلا يزال يدعو الله، فيقول لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره، فيقول: لا، وعزَّتك لا أسألك غيره ..» (¬7). ¬

(¬1) «المغنى» (11/ 182)، و «المجموع» (18/ 22) (¬2) سورة العنكبوت: 17. (¬3) سورة الصافات: 125. (¬4) سورة يوسف: 50. (¬5) سورة يوسف: 42. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (6661)، ومسلم (2848). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (183) وليس عنده موضع الشاهد.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أيوب يغتسل عريانًا، فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزَّتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك» (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون» (¬2). ووجه الدلالة منه أنه جازت الاستعاذة بصفة من صفات الله، فكذلك الحلف، لأن كليهما لا يكون إلا بالله. (ب) وأما صفات أفعال الله تعالى، فقد تقدم في حديث ابن عمر: «كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا، ومقلب القلوب» (¬3). قال ابن العربي -رحمه الله-: «في الحديث جواز الحلف بأفعال الله إذا وُصف بها ولم يذكر اسمه، وإن حلف بصفة من صفاته أو بفعل من أفعاله مطلقًا لم تكن يمينًا لما تقدم من قوله: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، وإن حلف بصفة من صفاته كانت يمينًا ووجبت عليه الكفارة بالحنث ... كذلك قال العلماء من المالكية والشافعية من لدن مالك والشافعي إلى زماننا» اهـ (¬4). الحلف بالقرآن: القرآن كلام الله وهو غير مخلوق، وكلامه سبحانه صفة من صفاته، ولذا ذهب جمهور العلماء -خلافًا لأبي حنيفة- إلى جواز الحلف بالقرآن وأنه تنعقد به اليمين، ويؤيد هذا أن الحلف كالاستعاذة لا تكون إلا بالله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة ببعض صفات الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك ...» (¬5) وقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات ...» (¬6) وقوله: «أعوذ برضاك من سخطك ...» (¬7) ومثل هذا كثير (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (279)، ومسلم (2806). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (7383)، ومسلم (2717). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «عارضة الأحوذي» (7/ 23) (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4628) وغيره من حديث جابر. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (2708) وغيره من حديث خولة بنت حكيم. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (486) وغيره من حديث عائشة. (¬8) «المغنى» (11/ 193)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 237) وقد ذهب متأخروُ الحنفية كابن الهمام والعيني إلى ترجيح مذهب الجمهور من انعقاد اليمين بالقرآن، وانظر «الفقه الإسلامي وأدلته» (3/ 379).

تنبيه: من حلف بالمصحف: فإن كان يقصد به القرآن المسطور فيه الذي هو كلام الله جاز، وإن قصد الورق المكتوب فيه لم يجز والله أعلم. قول الحالف: «لَعَمْرُ الله»: جاء في حديث عائشة رضي الله عنها لما قال أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبيٍّ، فقام أسيد بن حضير، فقال لسعد بن عبادة: «لعمر الله لنقتله» (¬1). والعمر: الحياة، فمن قال: (لعمر الله) كأنه حلف ببقاء الله، وهو جائز عند عامة أهل العلم (¬2) وتنعقد به اليمين مطلقًا، للحديث المتقدم، وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأسيد رضي الله عنه قوله «لعمر الله» وعدم إنكاره عليه. وقد قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬3) فثبت له عرف الشرع، ثم لأن معناه: وبقاء الله أو: وحياة الله، فهو قسم بصفة ذات الله فكان جائزًا. من قال: «وَعهْدِ الله»: اختلف أهل العلم فيمن قال: (وعهد الله أو عليَّ العهد) هل تنعقد يمينه بذلك على ثلاثة أقوال (¬4): الأول: الحلف بعهد الله ينعقد يمينًا مطلقًا: وهو قول الحسن وطاووس والشعبي والأوزاعي ومالك وأحمد، وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (¬5) فقوله تعالى {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} لم يتقدمه غير ذكر العهد فعُلم أنه يمين، وأجيب: بأنه لا يلزم من عطف الأيمان على العهد أن يكون يمينًا. 2 - وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6662). (¬2) «المبسوط» (8/ 132)، و «المدونة» (2/ 29)، و «الأم» (7/ 87)، و «المغنى» (11)، و «الفتاوى» (35/ 273). (¬3) سورة الحجر: 72. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سورة النحل: 91.

بها مال رجل مسلم -أو قال: أخيه- لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديقه {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} (¬1) (¬2). فخصَّ العهد بالتقدمة على سائر الأيمان، فدلَّ على تأكد الحلف به، لأن عهد الله ما أخذه على عباده، وما أعطاه عباده كما قال تعالى {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ} لأنه قدم على ترك الوفاء به. 3 - أن العهد يطلق على اليمين، فصار كأنه قال: ويمين الله، وذلك يمين، فكذا هنا. 4 - أنه يحتمل أن يكون معناه: كلام الله، وهو صفة له. 5 - أنه قد ثبت له عرف الاستعمال، فيجب أن يكون يمينًا بإطلاقه. الثاني: أنه تنعقد به اليمين إذا نواها: وهو قول الشافعي، وحجته أنه يستعمل في غير معنى اليمين -كوصية الله لعباده باتباع أوامره وغير ذلك- فلا ينصرف إلى اليمين إلا بنيَّة. الثالث: الحلف بعهد الله ليس يمينًا: وهو قول أبي حنيفة وابن حزم، وحجتهما: 1 - أن الحلف بعهد الله ليس من الحلف بصفات الله التي يجوز الحلف بها. 2 - أن اليمين لا تكون إلا بالله. الراجح: من قال: «أقسمتُ» أو «أقسم»: 1 - من قال: «أقسم بالله» أو «أقسمت بالله» فهذا يمين بلا خلاف سواء نوى اليمين أو أطلق، لأنه لو قال: «بالله» ولم يقل أقسم، كان يمينًا، وإنما كان يمينًا بتقدير الفعل قبله، ثم قد ثبت له عرف الاستعمال، قال تعالى {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} (¬3) وقال سبحانه {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (¬4). 2 - وإذا قال: «أقسمُ» أو «أقسمت» فهل يُعدُّ يمينًا؟ فيه ثلاثة أقوال (¬5): ¬

(¬1) سورة آل عمران: 77. (¬2) «البدائع» (3/ 8)، و «المدونة» (2/ 30)، و «الأم» (7/ 88)، و «المغنى» (11/ 196)، و «المحلى» (8/ 32). (¬3) سورة المائدة: 107. (¬4) سورة الأنعام: 109. (¬5) «البدائع» (3/ 7)، و «المدونة» (2/ 30)، و «الأم» (7/ 87)، و «المغنى» (11/ 205)، و «المحلى» (8/ 32).

الأول: أنه يمين مطلقًا: وهو مذهب الحنفية وأحمد في رواية واستظهرها ابن قدامة واستدلوا بما يلي: 1 - حديث ابن عباس عن أبي هريرة -في قصة الرجل الذي قصَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه وأن أبا بكر أوَّلها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا» قال: أقسمتُ -بأبي أنت وأمي- لتخبرني ما الذي أخطأتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقسم» (¬1) فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي بكر «أقسمتُ» يمينًا، فثبت له عرف الشرع والاستعمال. 2 - وفي حديث الإفك، قال أبو بكر رضي الله عنه لعائشة: «أقسمتُ عليكِ أي بنية، إلا رجعت إلى بيتك» (¬2). 3 - وفي قصة عبد الرحمن بن أبي بكر مع ضيف أبي بكر لما امتنعوا عن تناول الطعام فجاء أبو بكر، وقد اختبأ عبد الرحمن خوفًا منه، فقال أبو بكر: «يا غنثر، أقسمت عليك إن كنت تسمعني ...» (¬3). 4 - قوله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ} (¬4) ولم يقل (أقسموا بالله) فاعتبره يمينًا والاستثناء في اليمين. 5 - أن القسم لم يجز إلا بالله عز وجل، فكان الإخبار عنه عما لا يجوز بدونه كما في قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬5) ولأن العرب تعارفت الحلف على هذا الوجه. الثاني: أنه يمين إذا نوى اليمين بالله وإلا فلا: وهو مذهب زفر -من الحنفية- وإسحاق ومالك وابن المنذر، لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره فلم يكن يمينًا حتى يصرفه بنيَّة إلى ما يجب به الكفارة. الثالث: أنه ليس بيمين، نوى أو لم ينو: وهو قول الشافعي وابن حزم والحسن والزهري وقتادة وأبي عبيد، لأن اليمين لا تنعقد إلا باسم معظم أو صفة معظمة ليتحقق له المحلوف عليه، وذلك لم يوجد. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (2293)، وأبو داود (3268)، وابن ماجه (3918) بهذا اللفظ وهو في الصحيحين بلفظ «والله لتخبرني». (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4757). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2057). (¬4) سورة القلم: 17، 18. (¬5) سورة يوسف: 82.

واستدلَّ الخطابي لهذا المذهب بحديث تأويل أبي بكر المتقدم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإبرار القسم [وسيأتي قريبًا] فلو كان قوله (أقسمتُ) يمينًا لأشبه أن يبره. وتُعقِّب بأنه قد جاء في رواية الصحيحين أن أبا بكر صرح باليمين فقال: «والله لتخبرني» فقال له: «لا تقسم» فدلَّ على أن إبرار المقسم ليس بواجب. الراجح: الذي يظهر أن قول القائل (أقسمت أو حلفت) يعتبر يمينًا منعقدة لكن ينبغي أن يقيد بأن يكون مختارًا وقاصدًا للحلف لا حاكيًا له ونحو ذلك، والله أعلم. من قال: «أشهد بالله» أو «أشهد»: 1 - إذا قال القائل: (أشهد بالله) فإنه يُعدَّ يمينًا عند عامة الفقهاء، إلا أن الشافعي قيده بما إذا نوى، لأن قوله (بالله) وحده يمين، فقوله (أشهد بالله) في معنى: أقسم بالله، وقد تقدم أن قوله تعالى -في اللعان- {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ...} (¬1) أن اللعان عند أكثر أهل العلم أيمان مؤكدة بالشهادة. 2 - أما إذا قال (أشهد) فاختلف العلماء في اعتباره يمينًا على ثلاثة أقوال كالتي في المسألة السابقة تمامًا، ومستند من جعل قول (أشهد) يمينًا، قوله تعالى {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ...} ثم قال بعدها {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) قالوا: فسمى الله شهادتهم يمينًا. وأجاب الآخرون بأن الآيات ليست صريحة في الدلالة على المطلوب، لاحتمال أن يكون قوله سبحانه {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} ليس راجعًا إلى قوله {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وإنما يرجع إلى سبب نزول الآيات وهي أن عبد الله بن أبيٍّ حلف ما قال، قاله القرطبي. قلت: وربما يتأيد هذا بحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الناس خير؟ فقال: «قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته» (¬3). قال الحافظ: «وهو ظاهر في المغايرة بين اليمين والشهادة» اهـ (¬4). ¬

(¬1) سورة النور: 8. (¬2) سورة المنافقون: 1، 2. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6658)، ومسلم (2533). (¬4) «فتح الباري» (11/ 544).

من قال: «وايْم الله»: في انعقاد اليمين بذلك المذاهب المشهورة المتقدمة، والصحيح أنها تنعقد بذلك لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. وايْم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها» (¬1). وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -في قصة سليمان عليه السلام وقسمه ليطوفن على تسعين امرأة- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «.. وايْم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون» (¬2). ولأن «وايْم الله» أصلها: وايْمُنُ الله، وهو اسم وضع للقسم، بمعنى: يمين الله. الحلف بغير الله شرك: عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة: فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (¬3). ويؤيده حديث قتيلة -امرأة من جهينة-: «أن يهوديًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئت» (¬4). وقد جاء النهي عن الحلف بغير الله تعالى في غير ما حديث، منها: 1 - حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون» (¬5). 2 - وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم» (¬6). 3 - وعن ابن الزبير: أن عمر لما كان بالمحمص من عسفان استبق الناس، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6788)، ومسلم (1688). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6639)، ومسلم (1654). (¬3) حسن بما بعده: أخرجه الترمذي (1535)، وأبو داود (3251). (¬4) صحيح: أخرجه النسائي (7/ 6)، وأحمد (6/ 371). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3248)، والنسائي (7/ 5). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1648)، والنسائي (7/ 7)، وابن ماجه (2095).

فسبقهم عمر فقال ابن الزبير: فانتهزت فسبقتُه، فقلتُ: سبقتُه والكعبة، ثم انتهز فسبقني فقال: سبقتُه والله ... ثم أناخ فقال: «أرأيت حلفك بالكعبة، والله لو أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك، احلف بالله فأثم أو أبرر» (¬1). 4 - وعن ابن مسعود قال: «لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا» (¬2). شُبْهتان، والردُّ عليهما: 1 - حديث: «أفلح وأبيه إن صدق» ونحوه: جاء في بعض طرق حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه -في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فأخبره بفرائضه، وفيه: «.. فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح [وأبيه] إن صدق، أو: دخل الجنة [وأبيه] إن صدق» (¬3). وقد ورد نحوه من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال: «أما [وأبيك] لتُنبأنه ....» الحديث (¬4). ونحوه من حديث أبي هريرة -أيضًا- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي، فقال: «نعم [وأبيك] لتُنبأنَّ، أمُّك ..» الحديث (¬5). وقد استدل بعض أهل العلم -منهم مالك والشافعي- بهذه الروايات على أن الحلف بغير الله مكروه وليس محرمًا (!!) لكن أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، منها (¬6): 1 - عدم ثبوت زيادة «أفلح [وأبيه]» وقد أشار ابن عبد البر إلى أنها غير ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (15927)، والبيهقي (10/ 29). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (15929) وغيره، وانظر «الإرواء» (8/ 192). (¬3) أخرجه بهذه الزيادة: مسلم (11)، وأبو داود (392) ولم يخرجها البخاري (46). (¬4) أخرجه بهذه الزيادة: مسلم (1032) وأخرجه بدونها: البخاري (1419)، وأبو داود (2865)، والنسائي (3611). (¬5) أخرجه مسلم (2548)، وابن ماجه (2706)، وأحمد (2/ 327) وفي سنده شريك بن عبد الله القاضي. (¬6) «فتح الباري» (11/ 534)، و «طرح التثريب» (7/ 145).

محفوظة، وهو كما قال: وكذلك تكلم بعض العلماء في ثبوت قوله «وأبيك لتنبأنه» لكن قال شيخنا المبارك مصطفى بن العدوي -رفع الله قدره- في شأن الزيادة الأخيرة: «إن في النفس شيئًا من القول بشذوذ: أما وأبيك لتنبأنه» (¬1) قلت (أبو مالك): وعلى فرض ثبوت جميع هذه الزيادات، فإن لأهل العلم توجيهات لهذه المرويات -على ندرتها- يجب المصير إلى بعضها لأجل مخالفتها للأحاديث الظاهرة المشتهرة التي تقدمت، فمن ذلك: 2 - أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير قصد حقيقة القسم، وإلى هذا جنح البيهقي، وقال النووي، إنه الجواب المُرضي. 3 - أنه كان يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما للتعظيم والآخر للتأكيد، والنهي إنما ورد عن الأول. 4 - أن هذا كان جائزًا ثم نسخ، ورُدَّ بأنه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله ولا يقسم بكافر، ثم إن دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقيق التاريخ. 5 - أن في الجواب حذفًا تقديره (أفلح ورب أبيه). 6 - أنه للتعجب، ويدل عليه أنه لم يرد بلفظ (وأبي) وإنما ورد بلفظ «وأبيه» أو «وأبيك» بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضرًا وغائبًا. 7 - أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من أمته، وتُعقِّب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. قلت: فالأظهر أن الحلف بغير الله حرام للأدلة الصريحة في ذلك، ومثلُ قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» لا يمكن أن يقال فيه: إنه مصروف إلى الكراهة، فهذا مما يستثنى من قاعدة «الجمع أولى من الترجيح» والله أعلم. 2 - قسم الله تعالى بمخلوقاته: ومما استدل به القائلون بكراهة الحلف بغير الله -دون تحريمه- أن الله تعالى قد أقسم في كتابه بمخلوقاته فقال: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (¬2)، و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (¬3)، و {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (¬4) ونحو هذا. ¬

(¬1) نقله عنه أخونا في الله عصام جاد في كتابه «فقه الأيمان» ص (69). (¬2) سورة الطارق: 1. (¬3) سورة الشمس: 1. (¬4) سورة الفجر: 1، 2.

وأجيب عن ذلك بجوابين: الأول: أن هذه الأقسام فيها إضمار القسم برب هذه المخلوقات، كأنه قال: (ورب السماء)، (ورب الشمس) وهكذا. الثاني: إنما أقسم الله بمخلوقاته دلالة على قدرته وعظمته، والله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، ولا وجه للقياس على أقسامه. قلت: فعُلم أنه لا متعلق للقائلين بعدم تحريم الحلف بغير الله بشيء مما استدلوا به. من حلف بغير الله، ماذا يفعل؟ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال في حلفه: واللات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالى أقامرك فليتصدق» (¬1). وسعد بن أبي وقاص قال: حلفتُ بالات والعُزَّى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل: لا إله إلا الله، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا، وتعوَّذ، ولا تَعُدْ» (¬2). وهل هذا مختصُّ بمن قال: واللات والعُزَّى؟ أم يلحق به كل من حلف بغير الله؟ الأظهر الثاني، ولذا قال شيخ الإسلام (¬3): «... الحلف بالمخلوقات كالحلف بالكعبة والملوك والآباء والسيف وغير ذلك ... فهذه الأيمان لا حرمة لها، بل هي غير منعقدة ولا كفارة على من حنث فيها باتفاق المسلمين، بل من حلف بها فينبغي أن يوحِّد الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ...» ثم ذكر حديث أبي هريرة المتقدم. الحلف بالأمانة: لا يجوز الحلف بالأمانة، لحديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بالأمانة، فليس منا» (¬4) أي: ممن اقتدى بطريقتنا، وقيل: أي من ذوي أسوتنا، بل هو من المتشبهين بغيرنا، فإنه من ديدن أهل الكتاب، ولعله أراد به الوعيد عليه (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6650)، ومسلم (1647). (¬2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2097)، وأحمد (1/ 183) وغيرهما وهو عند النسائي (7/ 7) بزيادة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثلاث مرات ...» الحديث. وهي ضعيفة كما في «الإرواء» (8/ 192). (¬3) «مجموع الفتاوى» (33/ 122). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3253)، وابن حبان (1318)، والبيهقي (10/ 30). (¬5) «عون المعبود» (9/ 79، 80).

فإن أضاف لفظ الأمانة إلى لفظ الجلالة فقال: «وأمانة الله» فمن العلماء من اعتبرها يمينًا موجبة للكفارة، لأن أمانة الله صفة من صفاته، فجاز الحلف بها (!!). وفيه نظر: لعدم الدليل على أن الأمانة صفة من صفات الله، وإنما هي أمر من أوامره، وفرض من فروضه، فنهوا عنه لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله تعالى وصفاته (¬1)، ثم لثبوت النهي عن الحلف بالأمانة، فالصحيح أنه لا يجوز ذلك مطلقًا وهو قول الحنفية، ونسبه ابن عبد البر وغيره إلى الشافعي (¬2). الحلف بملة غير الإسلام: إذا أخبر الإنسان عن نفسه أنه إن فعل كذا، أو إن لم يفعل كذا، أو إن حصل كذا، أو إن لم يحصل، فهو يهودي أو نصراني أو كافر ونحو ذلك- فهذا حرام يقع فاعلهُ في الإثم سواء صدق أو كذب، لحديث ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بحديدة عُذِّب به في نار جهنم» (¬3). وحديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» (¬4). ثم اختلف أهل العلم: هل هذه يمين شرعية أم لا؟ (¬5) فقال مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين والليث وأبو ثور وابن المنذر: ليست يمينًا، ويستدل لهم بأنه ليس حلفًا باسم الله ولا بصفته، فلا يكون يمينًا، ولا كفارة فيها. وقال الحنفية وأحمد -في الرواية الأخرى- والحسن والثوري والأوزاعي ¬

(¬1) «معالم السنن» للخطابي. (¬2) «البدائع» (3/ 6)، و «المغنى» (11/ 207)، و «التمهيد» (14/ 372). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1363)، ومسلم (110). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3258)، والنسائي (3772)، وابن ماجه (2100)، وأحمد (5/ 356). (¬5) «البدائع» (3/ 8، 21)، و «ابن عابدين» (3/ 55)، و «الشرح الصغير» (1/ 330)، و «نهاية المحتاج» (8/ 169)، و «المغنى» (11/ 198 - 201)، و «الإنصاف» (11/ 31)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 274).

أنواع اليمين القسمية

وإسحاق، وهو اختيار شيخ الإسلام: هي يمين بمنزلة قوله: وإلا لأفعلن، لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله، وهذا هو حقيقة الحلف بالله، فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالاً من ربطه بالله، وعلى هذا إذا حنث تجب الكفارة. ثم يبقى الحكم على الحالف نفسه: فإن كان كاذبًا وكان يقصد بحلفه تبعيد نفسه عن الشيء أو حضها عليه لم يكفر، لكنه داخل تحت الوعيد الشديد، وإن كان قصد بذلك الرِّضا بالكفر إذا فعله فهو كافر في الحال. وأما إن كان صادقًا (بَرَّ في يمينه) فلا يكون سالمًا لأن فيه نوع استخفاف بالإسلام فيكون بنفس هذا الحلف آثمًا، والله أعلم. أنواع اليمين القَسَمِيَّة تقدم أن أيمان المسلمين إما أن تكون قسمية، وإما أن تكون تعليقية (بالشرط والجزاء) والأيمان القسمية تكون على ثلاثة أنواع من جهة انعقادها ووجوب الكفارة بالحنث فيها، وإليك هذه الأنواع مع طرف من الأحكام المتعلقة بكل نوع: أولاً: اليمين اللغو: 1 - تعريفها: قال الله تعالى {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬1). وقد اختلف العلماء في تفسير معنى «اليمين اللغو» على أقوال، أشهرها قولان كلاهما يحتمله معنى «اللغو» (¬2). الأول: اللغو ما جرى على اللسان من غير قصد معنى اليمين، كقولهم «لا والله»، «بلى والله» في نحو صلة كلام أو غضب سواء أكان ذلك في الماضي أم الحال أم في المستقبل، وهو قول الشافعية والحنابلة، ووجهه: قول عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} قالت: «أنزلت في قوله: لا والله، وبلى والله» (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة: 225. (¬2) «البدائع» (3/ 4)، و «الصاوي» (1/ 331)، و «الأم» (7/ 89)، و «المغنى» (11/ 180). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6663)، وعبد الرزاق (15952).

وعنها قالت: «أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب» (¬1). ولأن الله تعالى قابل اليمين اللغو في الآية الكريمة باليمين المكسوبة بالقلب، والمكسوبة هي: المقصودة، فكانت غير المقصودة داخلة في قسم اللغو بلا فصل بين ماضيه وحاله ومستقبله تحقيقًا للمقابلة. الثاني: اللغو: أن يحلف على شيء يعتقده على سبيل الجزم أو الظن القوي، فيظهر خلافه: وهو قول الحنفية والمالكية، ووجهه ما ثبت عن زرارة بن أوفى رضي الله عنه قال: «هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف» (¬2). قلت: والقولان متقاربان، واللغو يشملهما، لأنه في الأول: لم يقصد عقد اليمين أصلاً، وفي الثاني: لم يعمد الحنث ولم يقصد إلا الحق، والله أعلم (¬3). 2 - حكم يمين اللغو: قال الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬4) فدلَّ على عدم المؤاخذة بيمين اللغو، وهذا يعم الإثم والكفارة، فلا يجب الإثم ولا الكفارة. ثانيًا: اليمين الغموس: 1 - تعريفها: أن يحلف على أمر ماضٍ (¬5) متعمدًا الكذب، ليهضم بها حقَّ غيره، وتسمى: الزور، والفاجرة، وسميت في الأحاديث: يمين صبر (أي: التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين الكاذبة) ويمينًا مصبورة. قال في النهاية: غموسًا، لأنها تغمس صاحبها في النار. 2 - حكمها: هي كبيرة من الكبائر، وفاعلها آثم باتفاق المسلمين. (أ) فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الطبري (2/ 245)، والبيهقي (10/ 49). (¬2) صحيح: أخرجه الطبري (2/ 245). (¬3) «المحلى» (8/ 34)، و «المغنى» (11/ 181)، و «أضواء البيان» (2/ 108). (¬4) سورة البقرة: 225. (¬5) تقييدها بالحلف على الأمر الماضي هو مذهب الشافعية والحنابلة، خلافًا للحنفية والمالكية. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (6675)، والنسائي في «الكبرى» (6/ 322)، والترمذي (3021).

(ب) وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة» فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وإن كان قضيبًا من أراك» (¬1). (جـ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر، يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» (¬2). (د) وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم» -ثلاثًا- قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: «المُسْبِل، والمنَّان، والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب» (¬3). 3 - هل يُرخَّص في اليمين الغموس للضرورة؟ (¬4) لا شك أن الأصل في اليمين الغموس أنها حرام، لكن قد يعرض ما يخرجها عن الحرمة ما لم يكن حرامًا، كأن يختفي مسلمٌ من ظالم، فيُسأل عنه، فإنه يجب الكذب بإخفائه، ولو استحلفه عليه لزمه أن يحلف، ويورِّى في يمينه، فإن حلف ولم يُوَرِّ، فقيل: يحنث على الأصلن وقيل: لا يحنث. ومستند الترخيص للضرورة، قوله تعالى {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬5) فإذا كان الإكراه يبيح كلمة الكفر، فإباحته لليمين الغموس أولى. وعن سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حُجْر، فأخذه عدوٌّ له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا، فحلفتُ أنا أنه أخي، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت، المسلم أخو المسلم» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (137)، وابن ماجه (2324). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6676)، ومسلم (138). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (106)، وأبو داود (4087)، والنسائي (2563)، والترمذي (1121)، وابن ماجه (2208). (¬4) «حاشية الصاوي» (1/ 450)، و «الأذكار» للنووي (336)، و «المغنى» (11/ 166). (¬5) سورة النحل: 106. (¬6) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3070)، وابن ماجه (2119)، والحاكم (4/ 333) وغيرهم.

4 - هل تلزم الكفارة في اليمين الغموس؟ للعلماء في هذه المسألة قولان (¬1): الأول: لا كفارة فيها، وإنما تجب التوبة منها وردُّ الحقوق إلى أهلها: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة، واستدلوا بما يلي: 1 - الأحاديث المتقدمة في الترهيب من اليمين الغموس. 2 - قول الأشعث بن قيس -في حديث ابن مسعود المتقدم-: فيَّ أنزلت هذه الآيات وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} (¬2). قالوا: هذه النصوص أثبتت أن حكم الغموس العذاب في الآخرة، فمن أوجب الكفارة فقد زاد على المنصوص. 3 - حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس ليس فيهن كفارة: الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير الحق، وبهتُ المؤمن، والفرار من الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق» (¬3) وهو ضعيف. ¬

(¬1) هذا على القول بأن اليمين الغموس مختصة بالحلف على الأمر الماضي، وإلا ففي المسألة قول ثالث بالتفريق بين الحنث على الأمر الماضي -فلا كفارة فيه- وبين الأمر المستقبل ففيه الكفارة وبه قال المالكية والحنابلة، وانظر: «فتح القدير» (4/ 3)، و «الصاوي» (1/ 330)، و «أسنى المطالب» (4/ 240)، و «المغنى» (11/ 177)، و «المحلى» (8/ 36)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 128 - 35/ 324)، و «فتح الباري» (11/ 557). (¬2) سورة آل عمران: 77. (¬3) ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 362)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1183)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (278)، وفي «الديات» (1/ 16) من طرق عن بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن أبي المتوكل (وفي بعضها: المتوكل) عن أبي هريرة به، وهذا إسناد فيه علتان: الأولى: عنعنة بقية، وهو مدلس تدليس التسوية، نعم في طريق ابن أبي عاصم المذكورة تصريحه بتحديث بحير دون من فوقه فلم يكف، إلا أن يصرح في بقية السند، لكن تابعه إسماعيل بن عياش عن بحير به فزالت العلة الأولى، لكن بقي أن أبا المتوكل المذكور ليس هو الناجي (الثقة) كما توهَّم ابن الجوزي فاحتج به في التحقيق (2028)، وإنما قال فيه أبو حاتم «شامي عن أبي هريرة» وقال ابن حبان في الثقات: لا أدري من هو ولا ابن من هو؟ قلت فهو مجهول، كما أشار الحافظ في «الفتح» (11/ 557 - المعرفة)، وانظر: «تعجيل المنفعة» (1004)، و «الإكمال» للحسيني (819).

4 - وعن ابن مسعود قال: «كنا نعدُّ من الذنب الذي لا كفارة له: اليمين الغموس» فقيل: ما اليمين الغموس؟ قال: اقتطاع الرجل مال أخيه باليمين الكاذبة» (¬1). قالوا: ولا يعلم لابن مسعود مخالف من الصحابة بل نقل غير واحد من أهل العلم اتفاق الصحابة على ذلك. 5 - أن هذه اليمين أعظم من أن تُكفَّر، فالكبائر لا كفارة فيها، كما لا كفارة في السرقة والزنا وشرب الخمر. الثاني: أن فيها الكفارة: وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد، وابن حزم، وحجتهم: 1 - أن الغموس يمين مكسوبة معقودة (!!) إذ الكسب فعل القلب، والعقد: العزم، ومن أقدم على الحلف كاذبًا متعمدًا فهو فاعل بقلبه ومصمم، فهو مؤاخذ، لقوله تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2). 2 - وقال تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ... ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬3). فهذا عموم يدخل فيه كل يمين يحنث فيه صاحبه، ولا تسقط الكفارة إلا بنص. 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «... فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه» (¬4) قالوا: فأمره صلى الله عليه وسلم بتعمد الحنث وأوجب عليه الكفارة. 4 - أن اليمين الغموس أحق بالتكفير من سائر الأيمان المعقودة، لأن ظاهر الآيتين السابقتين ينطبق عليها من غير تقدير، لأنها حانثة من حين إرادتها والنطق بها، فالمؤاخذة مقارنة لها، بخلاف سائر الأيمان المعقودة، فإنه لا مواخذة عليها إلا عند الحنث فيها، فهي محاجة في تطبيق الآيتين عليها إلى تقدير بأن يقال: ولكن يؤاخذكم بالحنث فيما كسبت قلوبكم، وفي قوله {إِذَا حَلَفْتُمْ} أي: حلفتم وحنثتم. الراجح: الذي يظهر أن عدم إيجاب التكفير أقوى، ويُردُّ على أدلة المخالفين (¬5) بأن ¬

(¬1) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (10/ 38). (¬2) سورة البقرة: 225. (¬3) سورة المائدة: 89. (¬4) صحيح: تقدم في أول الباب. (¬5) مستفاد من «فقه الأيمان» لأخي في الله عصام جاد -حفظه الله- باختصار، وهناك بعض الردود الأخرى.

اليمين الغموس ليست بيمين حقيقة، لأن اليمين عقد مشروع، وهذه كبيرة محضة، والكبيرة ضد المشروع، وإنما سميت يمينًا مجازًا، لوقوعها في صورة اليمين، ثم إن اليمين تكون غموسًا لأن فيها تعمُّد الكذب لا تعمد الحنث، فلا يسلم الاستدلال بالحديث. ويؤيد أن اليمين الغموس ليس فيها إلا التوبة، ما تقدم في «باب اللعان» من قول النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» (¬1) فلو كانت الكفارة واجبة على أحدهما بتعمد الكذب لكانت الحاجة إلى بيانها أشد من الحاجة إلى بيان التوبة كما لا يخفى، والله أعلم بالصواب. ثالثًا: اليمين المنعقدة: 1 - تعريفها: هي اليمين على أمرٍ في المستقبل غير مستحل عقلاً، سواء أكان نفيًا أو إثباتًا، نحو: والله لا أفعل كذا، أو: والله لأفعلن كذا. ويكون الحالف قد عزم بقلبه أن يفعل أو لا يفعل ثم يخبر لسانه عن ذلك باليمين. وقيل: ما لم تكن غموسًا أو لغوًا. 2 - شروط اليمين المنعقدة (¬2): يشترط لتكون اليمين منعقدة، شروط بعضها يرجع إلى الحالف، وبعضها إلى المحلوف عليه، وبعضها إلى الصيغة، فهذه الثلاثة أركان اليمين: (أ) الشروط في الحالف: يشترط في الحالف لتنعقد يمينه ما يلي: 1 - البلوغ. 2 - العقل. 3 - الإسلام (عند الحنفية والمالكية): فلا تنعقد اليمين بالله تعالى من الكافر ولو ذميًّا -عندهم- وقال الشافعية والحنابلة: لا يشترط الإسلام لانعقاد اليمين أو بقائها، فلو حلف الذمي بالله ثم حنث -وهو كافر- لزمته الكفارة، لكن إن عجز عن الكفارة بالإطعام لم يكفِّر بالصوم حتى يسلم. 4 - التلفظ باليمين: فلا يكفي كلام النفس عند الجمهور خلافًا لبعض المالكية. ¬

(¬1) صحيح: تقدم في «اللعان». (¬2) «البدائع» (3/ 10)، و «الدسوقي» (4/ 307)، و «نهاية المحتاج» (8/ 164)، و «المغنى» (11/ 161).

5 - القصد: لأنه لا مؤاخذة إلا بقصد ونية، ولذلك أسقط الله تعالى الكفارة في يمين اللغو. 6 - الاختيار: فلو أخطأ أو أُكره لم ينعقد ولم يؤاخذ على الراجح وهو قول الجمهور خلافًا للحنفية -لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬1). (ب) الشروط في المحلوف عليه: 1 - أن يكون أمرًا مستقبلاً، لأن اليمين على الأمر الماضي ليس فيها كفارة على الأرجح -كما تقدم- ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فيكفِّر، وليأت الذي هو خير» (¬2). 2 - أن يكون المحلوف عليه أمرًا متصوَّر الوجود حقيقة عند الحلف (غير مستحيل). (جـ) شروط في صيغة الحلف: 1 - أن لا يكون القسم بمخلوق، وقد تقدمت أدلة هذا الشرط في أول الباب. 2 - أن لا يفصل بين المحلوف به والمحلوف عليه بسكوت ونحوه. 3 - خلوها من الاستثناء، أي: التعليق على مشيئة الله تعالى ونحو ذلك مما لا يتصور معه الحنث، وسيأتي بيانه، إن شاء الله. 3 - حكم البَرِّ والحنث فيها: اليمين المنعقدة إما أن تكون: (أ) على فعل واجب أو ترك معصية، كقوله (والله لأصليَّن الظهر) أو (والله لا أسرق الليلة) فيجب البرُّ فيها، ويحرم الحنث بلا خلاف. (ب) وإما أن تكون على فعل معصية أو ترك واجب، فيحرم البرُّ فيها ويجب الحنث. ومن هذا الباب أن يحلف يمينًا تتعلق بأهله ويتضررون بعدم حنثه، ويكون الحنث ليس بمعصية، فينبغي له أن يحنث، فيفعل ذلك الشيء، ويكفر عن يمينه، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله، لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يُعطى كفارته التي افترض الله عليه» (¬3). ¬

(¬1) حسن: تقدم تخريجه. (¬2) صحيح: وسيأتي بتمامه وتخريجه. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6624)، ومسلم (1655).

(جـ) وإما أن تكون على فعل مستحب أو ترك مكروه، كـ «والله لأصلين سُنة الصبح، أو: لا ألتفتُ في صلاتي» فيكون البرُّ مستحبًّا والحنث مكروهًا، وقيل: بل يجب البر ولا يجوز الحنث لقوله تعالى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (¬1). (د) وإما أن تكون على فعل مكروه أو ترك مستحب: فيستحب الحنث والتكفير ويُكره البرَّ فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا نها، فليكفِّر عن يمينه ويفعل» (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «وإذا حَلفتَ على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك وائت الذي هو خير» (¬3). ومن هذا الباب: حلفَ أبي بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسْطَح -الذي قذف ابنته عائشة رضي الله عنها ظلمًا وزورًا- فنزل قوله تعالى {وَلا يَاتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى ...} (¬4) (¬5). (هـ) وإما أن تكون على فعل مباح، فالبرُّ أفضل، ما لم يكن فيه أذيَّة، وما لم يكن في الحنث خيرًا، للأحاديث المتقدمة، والله أعلم. الحلف على الغير، وإبرار المُقسم: قد يحلف الإنسان على فعل أو ترك منسوبَين إلى غيره، فيقول: والله لتفعلنَّ أو لا تفعل كذا، فإن كان حلف عليه أن يفعل واجبًا أو أن يترك محرَّمًا وجب إبراره، وإن حلف عليه أن يفعل محرَّمًا أو يترك واجبًا، لم يجز إبراره، ولو حلف على مكروه كُره إبراره، أما إذا حلف عليه أن يفعل مندوبًا أو مباحًا أو يترك مكروهًا أو مباحًا، فإنه يستحب إبرار قسمه لحديث البراء رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المُقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام» (¬6). ¬

(¬1) سورة المائدة: 89. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1650)، والترمذي (1530). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6622)، ومسلم (1652). (¬4) سورة النور: 22. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (4750)، ومسلم (2770) من حديث عائشة الطويل في قصة الإفك. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (6654)، ومسلم (2066).

وظاهر الأمر بإبرار المقسم للوجوب إلا أنه مصروف إلى الاستحباب بحديث ابن عباس في قصة تأويل أبي بكر لرؤيا رآها رجلٌ -في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم- وفيه قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأتُ في الرؤيا، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقسم» (¬1). يعني: لا تكرر القسم، لأنني لن أجيبك، ولعل هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل خلاف المستحسن إلا بقصد بيان الجواز، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم يبرُّ بقسم الناس، ففي حديث المغيرة بن شعبة: «... قلت: يا رسول الله، أقسمتُ عليك لما أعطيتني يدك، فناولني يده، فأدخلتُها في كمي حتى انتهيت إلى صدري فوجده معصوبًا، فقال: «إن لك عذرًا» (¬2). إذا لم يبرَّ قسم أخيه، فهل يلزم الحالف كفارة؟ 1 - إذا قال لأخيه: بالله افعل كذا، أو أسألك بالله لتفعلن، فهذا طلب محض وسؤال وليس بيمين، فلا كفارة فيه، وفي الحديث: «من سألكم بالله فأعطوه» ولا كفارة على هذا إذا لم يجب سؤاله. 2 - إذا قال: والله لتفعلن كذا، فأحنثه، فقيل: يلزم الحالف كفارة، وهو منقول عن عمر وأهل المدينة وعطاء وقتادة والأوزاعي والشافعي (¬3)، وقال ابن حزم: لا كفارة عليه لأنه لم يقصد الحنث، ويؤيده حديث أبي بكر المتقدم، والله أعلم. 4 - ما يترتَّبُ على البرِّ والحنث: اليمين المنعقدة إذا برَّ فيها الحالف -أي: فعل ما أقسم عليه- فلا شيء عليه ولا تلزمه كفارة. أما إذا حنث -أي خالف المحلوف عليه، بثبوت ما حلف على عدمه، أو عدم ما حلف على ثبوته- لزمته الكفارة. هل يمنع الحنثَ: النسيانُ والخطأ والإكراه؟ من حلف أن لا يفعل أمرًا ففعله ناسيًا أو مخطئًا -أي: معتقدًا فعل غيره- أو مكرهًا- فالصحيح أنه لا يحنث بشيء من ذلك، لحديث: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (2293)، وأبو داود (3268)، وابن ماجه (3918). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (3826)، وأحمد (4/ 249)، والبيهقي (3/ 77). (¬3) «المغنى» (11/ 247)، وانظر «المحلى» (8/ 35). (¬4) حسن: تقدم تخريجه.

ولقوله تعالى {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} (¬1) وفي الحديث أن الله تعالى قال: «قد فعلت» وفي رواية: «نعم» (¬2). ولقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬3). وهذا مذهب الشافعية والحنابلة -في الجملة- وبه قوال ابن حزم (¬4). الاستثناء في اليمين: المراد بالاستثناء هنا: التعليق بمشيئة الله تعالى أو نحو ذلك من كل لفظ لا يتصوَّر معه الحنث في اليمين، كما لو قال الحالف عقب حلفه: إن شاء الله، أو: إلا أن يشاء الله، أو: إن أعانني الله، أو: إن يسَّر الله، ونحو ذلك. والاستثناء إذا كان متصلاً باليمين أبطله، فلا يحنث فيه، عند أكثر أهل العلم، بل نقل غير واحد الإجماع على ذلك (¬5). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء اله، لم يحنث» (¬6) وقد أُعلَّ، لكن يشهد له حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان عليه السلام إذ قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كل تلد غلامًا يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه: «قل إن شاء الله ... الحديث» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركًا لحاجته» (¬7). فائدة (¬8): جوَّز بعض العلماء الاستثناء بعد انفصال اليمين بزمن يسير، لهذا الحديث، وأجيب عن ذلك: بأن يمين سليمان طالت كلماتها فيجوز أن يكون قول صاحبه له: «قل: إن شاء الله» وقع في أثنائه، فلا يبقى فيه حجة. ¬

(¬1) سورة البقرة: 286. (¬2) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬3) سورة البقرة: 225. (¬4) «الوجيز» للغزالي (2/ 229)، و «مطالب أولي النهى» (6/ 369)، و «المحلى» (8/ 35). (¬5) «التمهيد» (14/ 372)، و «المغنى» (11/ 226)، و «فتح الباري» (11/ 602). (¬6) إسناده صحيح وأعلَّه البخاري: أخرجه الترمذي (1532)، والنسائي (7/ 30)، وابن ماجه (2104)، وقد أعلَّه البخاري بأن عبد الرزاق اختصره من حديث معمر في قصة سليمان -وهو الآتي بعده- قلت: ويحتمل أن يكونا حديثين، وانظر «الإرواء» (8/ 197). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (6720)، ومسلم (1654). (¬8) «الفتح» (11/ 605)، و «سبل السلام» (4).

فالصحيح ما ذهبت إليه الجماهير من أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً، ولو جاز منفصلاً -كما قال بعض السلف- لم يحنث أحد في يمين، ولم يحتج إلى كفارة، واختلفوا في زمن الاتصال، فقال الجمهور: هو أن يقول: إن شاء الله، متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا يضره التنفس، والله أعلم. والحاصل (¬1): أن من استثنى في يمينه لم يحنث، ويشترط في هذا الاستثناء ما يلي: 1 - أن يكون متصلاً باليمين، فلا يفصل بسكوت يمكن الكلام فيه، ولا يفصل بكلام أجنبي. 2 - ويستثنى بلسانه، ولا ينفعه بقلبه. 3 - أن يقصد الاستثناء، ولا يشترط أن يقصده من أول الكلام. 4 - لا فرق بين تقديم الاستثناء على اليمين أو تأخيره. اليمين على نية الحالف أم المستحلف؟ (¬2) المتحصل من كلام أهل العلم في المسألة، أن الحالف له حالتان: 1 - أن لا يكون هناك مستحلفٌ له أصلاً: بل هو حلف على الشيء ابتداءً، فالمرجح إلى نيَّته، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، فإذا نوي بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقًا لظاهر اللفظ أو مخالفًا له. 2 - أن يكون قد استحلفه القاضي أو غيره فيما يتعلق بالحقوق: فإن اليمين تنعقد على ما نواه المستحلف -لا الحالف- ولا تنفع الحالفَ التورية في هذه الحالة، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك» وفي رواية: «اليمين على نية المستحلف» (¬3) وإلا لم تكن لليمين عند القاضي معنى، ولضاعت الحقوق. ¬

(¬1) «فقه الأيمان» لعصام جاد (ص: 188 - 189) بتصرف يسير. (¬2) «المغنى» (11/ 242، 283)، و «البدائع» (3/ 99)، و «الدسوقي» (2/ 138)، و «شرح مسلم» للنووي. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1653)، وأبو داود (3255)، والترمذي (1354)، وابن ماجه (2120 - 2121) وغيرهم.

كفارة اليمين

ويستثنى من هذا: إذا كان المستحلف ظالمًا للحالف أو غيره، فحينئذٍ يجوز للحالف التورية لحفظ حقٍّ أو نصرة مظلوم: كما في حديث سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل ابن حجر، فأخذه عدو له فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفتُ أنه أخي فخلىَّ سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنَّ القم تحرَّجوا أن يحلفوا وحلفتُ أنه أخي، قال: «صدقتَ، المسلم أخو المسلم» (¬1). ولأن الظالم ليس له حقُّ التحليف، فجازت التورية. كفَّارة اليمين تعريفها ومشروعيتها: الكفَّارة مشتقة من الكفر وهو الستر والتغطية، وكفارة اليمين ما يجب بالحنث فيها، وسميت بذلك لأنها تكفِّر أي تغطي إثم الحنث، فلا يؤاخذ به يوم القيامة. وكفارة اليمين بالله تعالى إذا حنث فيها -وهي منعقدة- ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه، حيث قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). فبيَّنت الآية الكريمة أن كفارة اليمين المعقودة واجبة على التخيير -ابتداءً- في: 1 - الإطعام 2 - الكسوة 3 - تحرير الرقبة (العتق). فغن عجز عن الثلاث وحب صيام ثلاثة أيام، ولا يجوز التكفير بالصيام إلا بعد العجز عن الثلاث الأولى، وعلى هذا إجماع العلماء. وإليك أهم ما يتعلق بهذه الخصال من مسائل: 1 - الإطعام: (أ) عدد المساكين الواجب إطعامهم (¬3): جاء في الآية الكريمة أن الكفارة ¬

(¬1) صححه الألباني: وقد تقدم. (¬2) سورة المائدة: 89. (¬3) «المبسوط» (8/ 150)، و «الأم» (7/ 91)، و «المغنى» (11/ 258)، و «المحلى» (8/ 72)، و «فقه الأيمان» (ص 214 - 216).

تكون بإطعام عشرة مساكين، فهل يجزئ أن يطعم مسكينًا واحدًا عشر مرات أو مسكينين خمس مرات وهكذا؟ قولان للعلماء، والأظهر أنه يلزم إطعام عشرة لظاهر الآية الكريمة، وهو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور- وابن حزم، وقال أبو حنيفة- وهو الرواية الأخرى عن أحمد- يجزئ إطعام مسكين عشر مرات بشرط أن تدفع إليه جملة واحد (!!). (ب) نوع الطعام ومقداره (¬1): اختلفت مذاهب الأئمة في تقدير الإطعام في الكفارة، فذهب الجمهور -خلافًا لمالك- إلى أن الكفارة بالإطعام مقدرة بالشرع، فمذهب أبي حنيفة: أنه يطعم كل مسكين صاعًا (أي من قمح أو تمر أو شعير أو دقيق)، ومذهب الشافعي: يجزئ المُدُّ، وهو قول الحنابلة، وحجتهم في التقدير بالمد، حديث نافع قال: «كان ابن عمر يعطى زكاة رمضان بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم المدِّ الأول، وفي كفارة اليمين بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2) وحجة من قدر بالصاع أثر عمر بن الخطاب أنه كان: «يطعم عشرة مساكين -كل مسكين- صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو نصف صاع من قمح» (¬3). بينما ذهب الإمام مالك وابن حزم -واختاره شيخ الإسلام- إلى أن الإطعام مقدَّر بالعرف لا بالشرع فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرًا ونوعًا، لقوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (¬4) قال شيخ الإسلام (35/ 349): «.. والمنقول عن الصحابة والتابعين هذا القول، ولهذا كانوا يقولون: الأوسط خبز ولبن، خبز وسمن، خبز وتمر، والأعلى خبز ولحم، وقد بسطنا الآثار عليهم (¬5) في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار ....» اهـ. وقال (35/ 353): «.. والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 478)، و «روضة الطالبين» (8/ 304)، و «المدونة» (2/ 39)، و «المحلى» (8/ 72)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 349). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6713). (¬3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10675)، والطبري (5/ 13). (¬4) سورة المائدة: 89. (¬5) انظر هذه الآثار في «تفسير الطبري» (5/ 12 - 13)، و «مصنف عبد الرزاق» (8/ 507) وما بعدها، و «سنن البيهقي» (10/ 55)، وقد أورد أخونا عصام ما صحَّ عنده منها في «فقه الأيمان» (ص 217 - 219).

وعادتهم، فقد يجزئ في بلد ما أوجبه أبو حنيفة، وفي بلد ما أوجبه أحمد، وبلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته عملاً بقوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (¬1). قلت: وهذا هو الصواب لما تقدم، ولا يعارضه ما كفَّر به بعض الصحابة فإن هذا كان عرف بلدهم، ولذا قال مالك: أما عندنا ههنا فليكفر بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم في اليمين، وأما أهل البلدان فإن لهم عيشًا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم. (جـ) هل يجزئ إطعام المساكين أو لابد من تمليكهم الطعام؟ (¬2) 1 - ذهب جمهور العلماء (مالك والشافعي وأحمد) أنه لابد من تمليك المساكين الطعام، ولو غداهم أو عشَّاهم لم يجزئه -عندهم- لأن المنقول عن الصحابة إعطاؤهم كلَّ مسكين مدًّا، ولأنه مال وجب للفقراء شرعًا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة، ولأن التمليك يسمى إطعامًا كما في الحديث: «أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدَّ السدس» (¬3). 2 - بينما ذهب أبو حنيفة -ورواية عن مالك- والثوري والأوزاعي والحسن وغيرهم أنه يجزئ أن يُغدِّيهم أو يعشيِّهم، وهو اختيار شيخ الإسلام، لأن المقصود حقيقة الإطعام لا التمليك، وهو المنصوص عليه، ولأن التمكين من الطعام إطعام، قال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (¬4) فبأي وجه أطعمه دخل في الآية، نعم في التمليك تمام الإطعام، فيتأدَّى الواجب بكل منهما. قلت: وهذا أصحُّ، فلو غدَّى عشرة المساكين أو عشَّاهم من الطعام الذي يعتادون طبخه في المتوسط، فقد أدَّى الكفارة وأجزأت عنه، والله أعلم. 2 - الكسوة: ويجزئ منها ما يصدق عليه مسمَّى الكسوة (اللباس) مما يلبسه المساكين عادة، وقدرها مالك وأحمد بأن تكون ساترة لعورته في الصلاة رجلاً كان أو امرأة (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة: 89. (¬2) «المبسوط» (7/ 15)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 651)، و «روضة الطالبين» (8/ 307)، و «الفتاوى» (33/ 350). (¬3) حديث ضعيف: انظر «الإرواء» (6/ 121). (¬4) سورة الإنسان: 8. (¬5) «المدونة» (2/ 44)، و «الأم» (8/ 92)، و «المغنى» (11/ 260)، و «المحلى» (8/ 75) وفيه كلام نفيس.

فائدة: لا يجزئ إخراج القيمة بدلاً من الإطعام والكسوة: وبهذا قال الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (¬1). 3 - تحرير الرقبة: أي إعتاق العبد وتحريره، وقد اشترط الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- أن تكون رقبة مسلمة، حملاً للمطلق في آية كفارة اليمين على المقيد في كفارة القتل والظهار، إذ قال تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} (¬2). قلت: حمل المطلق على المقيد عند اتفاق الحكم واختلاف السبب فيه نزاع أصولي (¬3)، والصحيح أنه لا يحمل عليهن فيترجَّح مذهب أبي حنيفة، فلا يشترط في الرقبة المعتقة في كفارة اليمين أن تكون مسلمة، والله أعلم. 4 - الصيام (بعد العجز عن واحدة مما تقدم): فإن عجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق، فإنه يصوم ثلاثة أيام. وهل يلزم صيامها متتابعة؟ (¬4) ذهب أبو حنيفة والثوري وأحمد -في ظاهر المذهب- إلى وجوب تتابع الأيام الثلاثة، واحتجوا بقراءة ابن مسعود وأُبيٍّ أنهما قرآ قوله تعالى «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» قالوا: إن هذا قرآنًا فهو حجة، وإن لم يكن قرآنًا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ يحتمل أنهما سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرًا فظناه قرآنًا، وعلى كلا التقديرين فهو حجة (!!). قالوا: ولأنه صيام في كفارة فوجب فيه التتابع ككفارة القتل والظهار (!!). بينما ذهب مالك والشافعي -في الأظهر- وأحمد في رواية وابن حزم إلى عدم وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين، وحجتهم: أن الصوم غير مشروط بالتتابع في المصاحف التي بين أيدينا، وقراءة ابن مسعود وأُبيٍّ شاذه لا حجة فيها، فمن صام ثلاثة أيام على أي صفة أجزأه. ¬

(¬1) «الأم» (7/ 91)، و «المدونة» (2/ 40)، و «المحلى» (8/ 69)، و «المغنى» (11/ 256)، و «المبسوط» (8/ 154). (¬2) سورة النساء: 92. (¬3) راجع المسألة أصوليًّا في «البحر المحيط» للزركشي (5/ 15 - 22) ط. دار الكتبي. (¬4) «المبسوط» (3/ 75)، و «المدونة» (2/ 43)، و «الأم» (7/ 94)، و «المغنى» (11/ 273)، و «المحلى» (8/ 75).

ولأن حمل المطلق على المقيد مع اختلاف السبب لا يصح كما تقدم الإشارة إليه، قلت: وهذا هو الراجح أنه لا يلزم التتابع في صيام كفارة اليمين، وقد كان يلزم مالكًا والشافعي -رحمهما الله- يقولا بمثل هذا في تحرير الرقبة فلا يشترطا أن تكون مسلمة، وقوفًا مع النص لا سيما مع اختلاف السبب. الكفارة تجزئ قبل الحنث وبعده: لا خلاف بين أهل العلم في أن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث، ثم اختلفوا فيما لو قدَّم الكفارة على الحنث هل تجزئه؟ فالجمهور على أنها تجزئ، وإن كان الأولى تأخيرها لبعد الحنث، وهذا القول منسوب لأربعة عشر صحابيًّا وعدد كبير من التابعين. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجزئ قبل الحنث، وقال الشافعي: لا تجزئ بالصوم، وتجزئ فيما عداه (¬1). قلت: والصواب -هنا- قول الجمهور فلو كفَّر عن يمينه قبل الحنث -وبعد اليمين- أجزأه وألفاظ الأحاديث تؤيد هذا المذهب، ففي حديث عبد الرحمن بن سمرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين فكفِّر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» (¬2). وهو صريح في تقديم الكفارة على الحنث بل في وجوب ذلك، لولا الإجماع على خلافه، وإن كان الأولى تأخيرها خروجًا من الخلاف، والله أعلم. هل تتعدد الكفارة بتعدد اليمين؟ (¬3) 1 - لا خلاف في أن من حلف يمينًا فحنث فيها، وأدَّى ما وجب عليه من الكفارة، أنه لو حلف يمينًا أخرى وحنث فيها تجب عليه كفارة أخرى. 2 - إذا حلف أيمانًا على أمور مختلفة، فالصواب أنه إذا حنث في واحدة منها فعليه كفارتها، وإذا حنث في أخرى لزمه كفارة أخرى وهكذا، ولا تتداخل الكفارات، لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفَّر إحداها بكفارة الأخرى. ¬

(¬1) «المدونة» (2/ 38)، و «المغنى» (11/ 222)، و «المحلى» (8/ 67)، و «المبسوط» (8/ 148)، و «شرح مسلم» للنووي. (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (7/ 10)، وأبو داود (3278). (¬3) «ابن عابدين» (3/ 417)، و «بداية المجتهد» (1/ 578)، و «المغنى» (11/ 212)، و «المحلى» (8/ 53)، و «الإنصاف» (11/ 180)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 319).

ثانيا: النذور

3 - إذا حلف أيمانًا متعددة على شيء واحد في مجلس واحد أو مجالس متفرقة، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يلزمه بكل يمين كفارة، وقال الشافعي: إذا نوى باليمين الثانية تأكيد الأولى لزمه كفارة واحدة، وقال أحمد -في الرواية الأخرى- واختاره شيخ الإسلام وابن حزم: يلزمه كفارة واحدة مطلقًا. قلت: وهو الأقرب، والله أعلم. ثانيًا: النُّذُور التعريف: النذور: جمع نذر، وهو لغةً: النحب (أي: العهد) وهو ما يجعله الإنسان نحبًا واجبًا على نفسه. والنذر شرعًا: إلزام الإنسان نفسه بشيء من القُرَب (الطاعات) التي لم تكن واجبة عليه، فيجعله واجبًا عليه، بلفظ يُشعر بذلك. حكم الإقدام على النذر: الأحاديث الصحيحة الواردة في النذر تدل على أن النذر لا ينبغي وأنه منهي عنه، ولذا قال أكثر أهل العلم بكراهته (¬1)، لكن إذا وقع وجب الوفاء به. 1 - فعن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: «إنه لا يردُّ شيئًا، ولكنه يستخرج به من البخيل» (¬2). 2 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنذروا، فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل» (¬3). 3 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدَّره له، ولكن النذر يوافق القدر فيُخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يُخرج» (¬4). وقد دلَّ الكتاب والسنة على وجوب الوفاء بالنذر -في الطاعة- والثناء على الموفين بنذورهم: ¬

(¬1) «المحلى» (8/ 2)، و «سبل السلام» (4/ 1446)، و «نيل الأوطار» (8/ 277). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6693)، ومسلم (1639). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1640)، والترمذي (1538)، والنسائي (7/ 16)، وأحمد (2/ 412). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6694)، ومسلم (1640) واللفظ له.

1 - قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (¬1). 2 - وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليُطعْهُ، ومن نذر أن يعصيه فلا يَعْصِه» (¬2). 3 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم» -قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثًا بعد قرنه - «ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يُستشهدون، ويظهر فيهم السِّمن» (¬3) وهو ظاهر في إثم من لا يوفون بنذرهم. 4 - وقال سبحانه -في الثناء على الموفين بالنذر-: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَاسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (¬4). 5 - وقال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (¬5). ولأجل هذه النصوص ذهب أكثر المالكية وبعض الشافعية -كالنووي والغزالي- إلى استحباب النذر. إشكالٌ وحَلُّهُ (¬6): القول بكراهة النذر والقول باستحبابه كلاهما مُشكل بأدلة الآخر، وقول الجمهور -بكراهة النذر- فيه إشكال كذلك على القواعد، فإن القاعدة تقتضي أن وسيلة الطاعة طاعة، ووسيلة المعصية معصية، ولما كان النذر وسيلة إلى التزام قربة لزم على هذا أن يكون قربة!! لكن النصوص الأولى تدل على خلافه!! فكيف توجَّه هذه النصوص؟ وأحسن طريق لإزالة هذا الإشكال أن يقال: إن نذر القُربة على نوعين: ¬

(¬1) سورة الحج: 29. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (7/ 17)، وابن ماجه (2126). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535). (¬4) سورة الإنسان: 5 - 7. (¬5) سورة البقرة: 270. (¬6) «تفسير القرطبي»، و «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (2/ 266)، و «نيل الأوطار» (8/ 277)، للشنقيطي (5/ 677) وفيه بحث مستفيض في أحكام النذر (5/ 659) وما بعدها.

1 - مُعلَّق على حصول نفع: كقوله (إن شفى الله مريضي فعليَّ لله نذر كذا) ونحوه. 2 - نذر مطلق، غير معلَّق على نفع للناذر: كأن يتقرب إلى الله تَقرُّبًا خالصًا بنذر، فيقول ابتداءً: (لله عليَّ أن أتصدق بكذا) ونحوه. ويقال: إن النهي في الأحاديث متوجِّه إلى النوع الأول، لأن النذر فيه لم يقع خالصًا للتقرب إلى الله، بل بشرط حصول نفع للناذر، وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أم القدر فيه غالب على النذر. ويوضِّحه أنه لو لم يُشفَ مريضهُ، لم يتصدَّق بما علَّقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا، وهذا المعنى هو المشار إليه بقوله: «وإنما يُستخرج به من البخيل». وقد ينضمُّ إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة في الحديث بقوله: «فإنه لا يردُّ شيئًا»، قلت: وهذا التفصيل متجه وقوي، وهو جمعٌ فيُقدَّم على الترجيح، والله أعلم. أقسام النذر، وأحكامها: ينقسم النذر الذي يفعله المسلمون -من جهة الأمر المنذور- إلى قسمين: الأول: أن يكون فيه طاعة لله (نذر الطاعة): فيلزم الإنسان نفسه إما بفعل أمر ندب الشرع إلى فعله، كصلاة (النافلة) والصيام والحج والصدقة والاعتكاف وسائر الطاعات، أو يُلزم نفسه بفعل واجب إذا تعلَّق النذر بوصف، كأن ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها، ونحوه. وأما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك من الفرائض، فلا أثر لنذره، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر. وقد تقدم قريبًا أن نذر الطاعة له صورتان: نذر ابتداء غير معلَّق على منفعة للناذر، (نذر مطلق)، وهذا يشرع للإنسان الإقدام عليه. ونذر معلَّق على منفعة للناذر، ويكون خارجًا مخرج طلب العوض وتوقيف العبادة على تحصيل الغرض، وهذا منهي عن الإقدام على فعله.

حكم الوفاء بنذر الطاعة: ونذر الطاعة بنوعيه: المطلق والمعلَّق، يجب على الناذر الوفاء به، بالكتاب والسنة والإجماع (¬1)، وقد تقدم بعض الأدلة على ذلك، ومنها: 1 - قوله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (¬2) وهذا أمر بالوفاء بالنذر، وهو يقتضي الوجوب. 2 - وذم الله سبحانه الذين ينذرون ولا يوفون، فقال عز وجل: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬3). 3 - وقال صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ...» (¬4). 4 - وعن عمر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أوفِ بنذرك» (¬5). 5 - وتقدم حديث عمران بن حصين -في ذم أقوام يأتون بعد القرون المفضلَّة- وفيه: «... ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ...» (¬6). إذا نذر ما لا يطيقه، أو عجز عن الوفاء: من نذر قُربةً لزمه الوفاء بنذره -كما تقدم- إن قدر عليه، فإن عجز عن الوفاء أو كان المنذرَ مما لا يطيقه، فلا يجب عليه الوفاء به: 1 - فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُهادى بين اثنين، فقال: «ما هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي إلى البيت، فقال: «إن الله عز وجل لغنيٌ عن تعذيب هذا نفسه» ثم أمره فركب (¬7). 2 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن أُخته نذرت أن تمشي إلى البيت الحرام حافية ¬

(¬1) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (32/ 87 - 33/ 36). (¬2) سورة الحج: 29. (¬3) سورة التوبة: 75 - 77. (¬4) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2042)، ومسلم (1656). (¬6) صحيح: تقدم قريبًا. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (1865)، ومسلم (1642).

غير مختمرة، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «مُرْ أُختَك فلتركبْ، ولتختمر، ولتصُمْ ثلاثة أيام» (¬1). وفي رواية من حديث ابن عباس -في هذه القصة-: «فمرها فلتركب ولتُكفِّر» (¬2). وفي رواية: «فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديًا» (¬3). وفي أخرى: «فلتركب، ولتُهد بَدَنة» (¬4). وفي رواية: لم يذكر هديًا ولا كفارة (¬5). 3 - وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة اليمين» (¬6). فلهذه الأحاديث وغيرها اختلف أهل العلم فيما يلزم من نذر ما لا يطيق إن عجز عن الوفاء، كمن نذر أن يحجَّ ماشيًا -وعجز عنه- على أقوال (¬7): الأول: لا شيء عليه: لظاهر قوله {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (¬8) وقوله ¬

(¬1) إسناده ليِّن: أخرجه الترمذي (1544)، والنسائي (3815)، وابن ماجه (2134)، والدارمي (2334)، وأحمد (16668 - 16709 - 16735) من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر به وفي سنده عبيد الله بن زحر فيه ضعف، وأخرجه الطبراني (17/ 324) عن أبي تميم الجيشاني عن عقبة به وسنده ضعيف. (¬2) إسناده ليِّن: أخرجه أبو داود (3295)، وأحمد (2685)، وابن خزيمة (3046 - 3047)، وابن حبان (4384) من طريق شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن كريب عن ابن عباس، وفي بعضها: (تكفر عن يمينها). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (3296 - 3303)، والدارمي (2335)، وأحمد (2027 - 2032 - 2165 - 2691 - 17125)، وابن خزيمة (3045)، والبيهقي (10/ 79)، والطبراني (11/ 308) من طرق يشد بعضها بعضًا عن عكرمة عن ابن عباس، لكن ذكر الحافظ في «الفتح» (11/ 589) عن البخاري أنه قال: لا يصح فيه الهدي!!. (¬4) أخرجه أبو داود (3304)، والبيهقي (10/ 79)، والطبراني في «الأوسط» (9380)، وأحمد (6653) وغيرهم من بعض الطرق المتقدمة لكنها مرجوحة. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1645)، والترمذي (1528)، والنسائي (3832). (¬6) «فتح القدير» (3/ 173)، و «المجموع» (8/ 494)، و «جامع العلوم والحكم» (ص: 309 - 310) ط. المعرفة، و «مجموع الفتاوى» (35/ 327). (¬7) سورة البقرة: 286. (¬8) سورة التغابن: 16.

سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1) وقوله عز وجل {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (¬3) وهو قول للشافعية ورواية عن أحمد والأوزاعي. الثاني: عليه كفارة يمين: لحديث عقبة بن عامر المتقدم، ولقول النبي لعقبة -في شأن أخته: «فمرها فلتركب، ولتكفِّر» وهو مذهب أحمد والثوري وهو اختيار شيخ الإسلام. الثالث: عليه صيام ثلاثة أيام: وهو رواية عن أحمد. الرابع: عليه بدنة وهو قول للشافعية. الخامس: عليه هدي وهو الأصح عند الشافعية، وهو رواية عن أحمد وهو قول الحنفية والليث وقد استند القائلون بالأقوال الثلاثة الأخيرة كلٌّ إلى رواية من روايات قصة أخت عقبة بن عامر المتقدمة. والسادس: أنه لا يجزيه الركوب بل يحج من قابل فيمشي ما ركب ويركب ما مشى وعليه بدنة وهو قول مالك. الراجح: الذي يظهر لي بعد دراسة أسانيد هذا الحديث، أن أقوى الروايات -من جهة السند- رواية التكفير بالهدي (أو البدنة) ثم تليها رواية (صيام ثلاثة أيام) ثم بدا لي أن الأرجح من جهة الدراية أنه يلزم كفارة يمين، وذلك لأمور: 1 - أن رواية البدنة أو الهدي -التي هي الأقوى سندًا- قد تُعلُّ بما ذكره الحافظ في «الفتح» (11/ 589) من أن الترمذي نقل عن البخاري أنه قال: لا يصح ذكر الهدي في حديث عقبة بن عامر. اهـ. وكذا نقله البيهقي (10/ 80). 2 - أن رواية الصيام لا تعارض رواية (ولتكفِّر)، (ولتكفِّر عن يمينها) إذا صيام ثلاثة أيام هو أحد أوجه كفارة اليمين كما تقدم. 3 - أن هذا هو الموافق لحديث عقبة بن عامر نفسه -وهو المستفتى لأخته- في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة يمين» (¬4) فلعله اختصره من فتوى النبي صلى الله عليه وسلم في حال أخته. ¬

(¬1) سورة البقرة: 286. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337). (¬3) (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

4 - أن المشي مما لا يوجبه الإحرام، فلم يجب الذم بتركه. والحاصل: أن من نذر طاعة ثم عجز عن الوفاء، فلا يلزمه الوفاء، وعليه كفارة يمين. 5 - أن القول بأنه يلزمه كفارة يمين هو المتعيِّن إذا كان النذر في غير الحج للحديث السابق ولا يتصوَّر أن يقال في كل من نذر ثم عجز أنه يهدي بدنة!! والله تعالى أعلم. والحاصل: أن من نذر طاعة ثم عجز عن الوفاء، فلا يلزمه الوفاء وعليه كفارة يمين. لا نَذْرَ لشخص في التقرب بما لا يملك: ففي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة المرأة الأنصارية التي أُسرت: «ونذرت لله إن نجَّاها الله لتنحرنَّها [أي: العَضْباء] فلما قدمت المدينة، رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: «سبحان الله، بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنَّها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد» (¬1). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ...» (¬2) الحديث، وهل يلزمه كفارة؟ قولان، الأظهر: لا يلزمه، والله أعلم. من نذر التصدُّق بجميع ماله: من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله، فللعلماء في الوفاء بهذا النذر عشرة مذاهب، أكثرها لا يعتضد بالدليل، والذي يعتضد بدليل -منها- ثلاثة أقوال (¬3): الأول: يلزمه التصدق بالمال كلِّه: وهو مروي عن الشافعي والنخعي، وأبي حنيفة [إذا كان مالاً زكويًّا] وحجة هذا القول الأدلة المتقدمة على إيجاب الوفاء بنذر الطاعة كقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله، فليطعه» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1641)، وأبو داود (3316)، والنسائي (7/ 19)، وابن ماجه (2124) وغيرهم. (¬2) حسن: أخرجه الترمذي (1181)، وأبو داود (2190)، وابن ماجه (2047) وغيرهم. (¬3) «المغنى» (10/ 72)، و «كشاف القناع» (6/ 279). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

بضميمة ما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه تصدق بكل ماله، وقبله النبي صلى الله عليه وسلم منه (¬1). الثاني: يجزئ عنه التصدُّق بثلث ماله: وهو مذهب مالك وأحمد -في الرواية المشهورة- والليث والزهري، وحجتهم: حديث كعب بن مالك رضي الله عنه -في قصة توبة الله على الثلاثة الذي خلفوا- قال في آخره: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِك عليك بعض مالك فهو خير لك» (¬2). وفي رواية: إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة، قال: «لا» قلت: فنصفه؟ قال: «لا» قلت: فثلثه؟ قال: «نعم»، قلت: «فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر» (¬3). قالوا: وظاهر الحديث أن كعبًا جاء مريدًا التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة، لم يكن مستشيرًا، فأمره صلى الله عليه وسلم بإمساك بعض ماله وصرَّح بأن ذلك خير. واعترض على هذا الاستدلال (¬4): بأن اللفظ الذي أتى به كعب بن مالك ليس بتنجيز صدقة، حتى يقع في محل الخلاف، وإنما هو لفظ عن نية قصد فعل متعلقها، ولم يقع بعد، فأشار صلى الله عليه وسلم بأن لا يفعل ذلك، وأن يمسك بعض ماله، وذلك قبل إيقاع ما عزم عليه، هذا هو ظاهر اللفظ أو هو محتمل له، وكيفما كان فتضعف الدلالة منه على مسألة الخلاف. اهـ. وأجيب (¬5): بأن ظاهر أنه جازم غير مستشير، لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد، الذي هو «إن» المكسورة في قوله (إن من توبتي ...) واللفظ الذي هذه صفته لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة. قالوا: ويؤيد هذا أن أبا لبابة لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، يجزئ عنك الثلث» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، والدارمي (1660). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2758)، ومسلم (2769). (¬3) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (3331). (¬4) «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (2)، ح (372). (¬5) «أضواء البيان» للشنقيطي (5/ 685). (¬6) في سنده اختلاف: أخرجه أبو داود (3319)، وأحمد (3/ 452 - 502)، ومالك (1039)، والطبراني (5/ 33)، والدارمي (1658)، والبيهقي (10/ 68)، والحاكم (3/ 7333) وفي سنده اختلاف شديد على الزهري، فليحرر.

الثالث: لا يلزمه شيء، وهو رواية عن أبي حنيفة (في غير المال الزكوي) وهو مذهب أبي محمد بن حزم (إذا خرج مخرج اليمين) مستندًا إلى أن التصدق بكل المال ليس مشروعًا، واستدل بما يأتي: 1 - قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} (¬1). 2 - قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬2) قال: فلام الله سبحانه وتعالى ولم يحب من تصدق بكل ما يملك. اهـ. 3 - حديث جابر بن عبد الله قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله، أصبتُ هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه مرارًا، وهو يردد كلامه هذا، ثم أخذها عليه السلام فحذفه بها، فلو أنها أصابته لأوجعته أو لعقرته، وقال عليه السلام: «يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد فيتكفف الناس!! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» (¬3). قال: وإن احتجوا بقوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬4). فليس فيه أنهم لم يُبقوا لأنفسهم معاشًا إنما فيه أنهم كانوا مقلين ويؤثرون من بعض قوتهم. اهـ. الراجح: الذي يظهر لي أن إطلاق القول الأخير ضعيف، والتصدق بكل المال مشروع، فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه أتى بكل ماله فدفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله منه، وأثنى عليه خيرًا، وكذلك تصدق عمر بنصف ماله -وهو فوق الثلث!! - فقبله منه صلى الله عليه وسلم (¬5) فالظاهر أن من نذر كلَّ ماله -وكان لا يتضرر ولا رعيته بذلك- يلزمه التصدق بالمال كله. فإن كان في هذا ضرر عليه أو على رعيته، فحينئذ يلزمه التصدُّق بما لا يُضر ¬

(¬1) سورة الإسراء: 26. (¬2) سورة الأنعام: 141. (¬3) إسناده لين: أخرجه أبو داود (1673)، والدارمي (1659)، وعبد بن حميد (1121)، وأبو يعلى (2084)، وابن حبان (3372) وفيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس. (¬4) سورة الحشر: 9. (¬5) صحيح: تقدم قريبًا.

به سواء كان الثلث أو أقل أو أكثر، لقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (¬1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (¬2) وعلى هذه الحالة تحمل النصوص التي استدل بها أصحاب المذهبين الأخيرين، وهذا قول سحنون من المالكية، والله أعلم. من نذر الصلاة في بيت المقدس أجزأه الصلاة في المسجد الحرام: فعن جابر بن عبد الله: أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرتُ إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال صلى الله عليه وسلم: «صلِّ هاهنا» ثم أعاد عليه، فقال: «صلِّ هاهنا» ثم أعاد عليك، فقال: «شأنك إذًا» (¬3). تنبيه: لو نذر شد الرحال إلى غير المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى، فلا يجوز الوفاء به لأنه نذر معصية وتلزمه كفارة يمين كما تقدم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس» (¬4). نذر اللِّجاج (نذر الغضب): والمراد به: النذر الذي يراد به الامتناع من أمر أو الحث على فعله، لا التقرب إلى الله، كأن يقول: (إن فعلتُ كذا، فلله عليَّ الحج أو صدقة أو صوم) ونحو ذلك. وهذا يخرج مخرج اليمين، لأن الناذر هنا لم يرد القُربة، والاعتبار في الكلام بمعناه لا بلفظه، وهذا مقصوده الحضُّ على فعل أو المنع منه، وعلى هذا فإنه لا يلزمه الوفاء به، وعليه كفارة يمين إذا حنث، وهذا مذهب أحمد -في المشهور- والشافعي -في قول- وهو الذي رجع إليه أبو حنيفة، وبه قال إسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة (¬5). ¬

(¬1) سورة: 219. (¬2) صحيح بمجموع الطرق: وانظر «الإرواء» (896). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (3305)، وأحمد (3/ 363)، والدارمي (2339) وغيرهم. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397). (¬5) «فتح القدير» (5/ 93)، و «المجموع» (8/ 459)، و «المغنى» (11/ 194 - مع الشرح)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 253).

وقد رُوى عن عمران بن حصين مرفوعًا: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» (¬1) لكنه ضعيف لا يصح. وسُئل ابن عباس: ما تقول في امرأة جعلت بردها عليها هديًا إن لبسته؟ فقال ابن عباس: «في غضب أم في رضا؟» قالوا: في غضب، قال: «إن الله -تعالى- لا يُتقرب إليه بالغضب، لتكفِّر عن يمينها» (¬2). وذهب مالك، وأبو حنيفة -في قوله القديم- إلى أنه يلزمه الوفاء بالنذر. إذا نذر قُربةً وهو كافر ثم أسلم: فاختلف أهل العلم في وجوب الوفاء بنذره بعد إسلامه على قولين (¬3): الأول: يجب عليه الوفاء بالنذر إذا أسلم: وهو مذهب الشافعي وداود الظاهري وابن حزم، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرتُ أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأوف بنذرك» (¬4). 2 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال: «أوفي بنذرك» قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا -مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية- قال: «لصنم؟» قالت: لا، قال: «لوثن؟» قالت: لا، قال: «أوفي بنذرك» (¬5). الثاني: لا ينعقد نذر الكافر، لا يلزمه الوفاء إذا أسلم: وهو مذهب الجمهور، واحتجوا: 1 - بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬6). 2 - وقوله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} (¬7). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 433) وغيره، وانظر «الإرواء» (2587). (¬2) إسناده ليِّن: عزاه شيخ الإسلام (35/ 256) إلى الأثرم قال: ثنا عبد الله بن رجاء أنا عمران عن قتادة عن رزارة بن أبي أوفى به. (¬3) «المحلى» (8/ 25)، و «نيل الأوطار» (8/ 286). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2032)، ومسلم (1656). (¬5) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (3312)، وانظر «الإرواء». (¬6) سورة الزمر: 65. (¬7) سورة الفرقان: 23.

وأجاب عن هذا ابن حزم بأنه لا حجة فيه، لأن هذا كله إنما نزل فيمن مات كافرًا بنص كل آية منهما، وقال تعالى {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ...} (¬1) ثم إنهم مع هذا يجيزون بيع الكافر ونكاحه وهبته وصدقته وعتقه!!. وفي حديث أبي هريرة -في قصة إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه -أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ... وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر» (¬2). فهذا كافر خرج يريد العمرة فأسلم فأمره عليه السلام بإتمام نيَّته. قلت: فالراجح أنه يلزمه إذا أسلم أن يفي بنذر الطاعة الذي نذره في كفره، والله أعلم. قضاء نذر الطاعة عن الميت: إذا نذر الإنسان طاعة مما يلزمه الوفاء به، ثم مات قبل أن يوفى، فإن وليَّه يقضي عنه نذره، فإن كان النذر مالاً، فإنه يؤدَّى عن الميت من رأس ماله قبل ديون الناس، لقوله تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬3) فعمَّ الله تعالى الدين ولم يخص وقال صلى الله عليه وسلم: «دين الله أحق أن يقضى» (¬4). وإن كان النذر عبادة كالحج والصيام (¬5) والاعتكاف ونحو ذلك، فإن وليَّه يؤديه عنه: 1 - فعن ابن عباس «أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أُمِّه، فتُوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنةً بعدُ» (¬6) وفي لفظ أنه قال: «اقضه عنها». 2 - وعن ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أُمِّي ماتت وعليها صوم من نذر أفأصوم عنها؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو كان على ¬

(¬1) سورة البقرة: 217. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764). (¬3) سورة النساء: 11. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148). (¬5) وقد تقدم حكم الصيام عن الميت في «كتاب الصيام» فليراجع. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (2761)، ومسلم (1638).

أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها» قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك» (¬1). 3 - وعن عائشة رضي الله عنه: «أنها اعتكفت عن أخيها بعد ما مات» (¬2). وهل يقضي الصلاة المنذورة عن الميت؟ ذهب جماهير العلم إلى أنه لا يصلي أحد عن أحد، بل حكى ابن بطال الإجماع على ذلك!! لكنه منقوض بأن ابن عمر أمر امرأة جعلتْ أُّمها على نفسها صلاة بقباء فقال: «صلي عنها» (¬3) وقد أوجب داود وابن حزم (¬4) قضاء الصلاة المنذورة عن الميت. القسم الثاني (من أقسام النذور): أن لا يكون فيه طاعة لله تعالى، وهذا على نوعين: 1 - ليس فيه معصية في ذاته (المباح): إذا نذر ما ليس بمعصية، لكنه ليس من جنس الطاعة، كالمباح، فلا يجب الوفاء به، والجمهور على أن هذا ليس بنذر، لحديث ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مره فليتكلَّم، وليستظلَّ، وليقعد، وليتمَّ صومه» (¬5) وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة كالصوم أمره صلى الله عليه وسلم بإتمامه وفاءً بنذره، وما كان من نذره مباحًا لا طاعة كترك الكلام، وترك القعود، وترك الاستظلال، أمره بعدم الوفاء. وذهب أحمد إلى أن النذر بالمباح ينعقد، لكن يخيَّر في الوفاء وعدمه، وحينئذٍ يلزمه كفارة. واختار المحقِّق صديق خان أن النذر بالمباح يصدق عليه مسمَّى النذر، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للأمر بالوفاء به، قال: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) واللفظ له. (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور (424)، وابن أبي شيبة (2/ 339). (¬3) علَّقه البخاري (11/ 584 - فتح) بصيغة الجزم ولم يصله الحافظ في «التغليق» (5/ 203). (¬4) «المحلى» (8/ 28). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (6704)، وأبو داود (3300)، وابن ماجه (2136) وغيرهم.

«ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرتُ إذا انصرفت من غزوتك سالمًا أن أضرب على رأسك بالدُّف، فقال لها: «أوفي بنذرك» (¬1). وضرب الدف إذا لم يكن مباحًا فهو إما مكروه أو أشد من المكروه، ولا يكون قربة أبدًا، فإن كان مباحًا فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح، وإن كان مكروهًا فالإذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالأَوْلى، وكذلك إيجاب الكفارة على من نذر نذرًا لم يسمِّه (¬2) يدلُّ على وجوب الكفارة بالأَوْلى في المباح، فالحاصل أن النذر بالمباح لا يخرج عن أحد القسمين: إما وجوب الوفاء به، أو وجوب الكفارة مع عدم الوفاء ...» اهـ (¬3). وقال البيهقي -رحمه الله- (10/ 77): «يشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما أذن لها في الضرب لأنه أمر مباح، وفيه إظهار الفرح بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعه سالمًا، لا أنه يجب النذر، والله أعلم» اهـ. قلت: لكن يشكل على ما ذكره البيهقي -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إن نذرت فافعلي، وإلا فلا» (¬4) فدل على أنه إنما أمرها بذلك إيفاء لنذرها، لكن يبقى أن ضَرب المرأة بالدفِّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمحضر الرجال من الصحابة غير مشروع، فالظاهر أن هذا الحديث واقعة عين فلا عموم لها، ولا ينبغي الاستدلال به والأصل أن النذر إنما يكون بما فيه قربة، وهو عبادة فلا يكون إلا بما شرعه الله تعالى، فالذي يظهر أن المباح يُنظر فيه: فإذا كان وسيلة لواجب أو مستحب (طاعة) فينعقد النذر به، لأن للوسائل حكم المقاصد، وإن لم يكن كذلك فالصواب أنه لا ينعقد به النذر كما قال الجمهور، والله أعلم. 2 - أن يكون المنذور معصية في ذاته (نذر المعصية): إذا نذر الإنسان معصية كشرب خمر أو قتل نفس مُحرمَّة أو ذبح على قبر أو شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، أو مخالفة للتسوية بين الأولاد، أو تفضيل ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (3690)، وأبو داود (3312)، وأحمد (5/ 356)، وابن حبان (4386). (¬2) سيأتي الحديث بهذا قريبًا. (¬3) «الروضة الندية» (ص: 177 - 178). (¬4) هذا لفظ أحمد (5/ 353)، وابن حبان (4386).

بعضهم أو حرمانهم من ميراثه، ونحو ذلك من سائر المعاصي، فهذا لا يجب -بل يحرم- عليه الوفاء به. 1 - فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (¬1). 2 - وعن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا وفاء لنذرٍ في معصية، ولا وفاء لنذرٍ في ما لا يملك العبد، أو: ابن آدم» (¬2). 3 - وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟» قال: لا، قال: «هل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» (¬3). وفيه دلالة ظاهرة على أن النحر بوضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية، معصية لله تعالى، وأنه لذلك لا يجوز الوفاء به. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة: وهل تلزم الكفارة في نذر المعصية؟ للعلماء في هذا قولان (¬4): الأول: ليس على الناذر للمعصية كفارة: وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وحجتهم: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية ....» (¬5) فلا ينعقد النذر بمعصية. 2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (¬6) ولم يأمر بكفارة. 3 - الأحاديث المتقدمة: في المرأة التي نذرت أن تنحر العضباء، والرجل الذي نذر ألا يستظل أو يتكلم، ونحوها وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بعدم الوفاء، وليس فيها أنه ألزمهم بكفارة. ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا في أول الباب. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1641)، وأبو داود (3316)، والنسائي (7/ 19)، وابن ماجه (2124). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (3313). (¬4) «المغنى» (10/ 69 - الفكر)، و «المحلى» (8/ 4 - 6)، و «نيل الأوطار» (8/ 281). (¬5) صحيح تقدم قريبًا. (¬6) صحيح: تقدم قريبًا في أول الباب.

الثاني: تجب عليه الكفارة: وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والرواية الأخرى عن أحمد، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وحجة هذا القول: 1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النذر نذران، فما كان لله كفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين» (¬1). 2 - حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» (¬2). الراجح: لا شك أن دلالة هذين الحديثين -إذا صحَّا وهو الأقرب- أقوى من دلالة الأحاديث التي استدل بها الفريق الأول، فإن الكفارة فيها مسكوت عنها، فيقدَّم المثبت لها، والله أعلم. إذا نَذَرَ نَذْرًا لم يُسَمِّه: إذا نذر الإنسان نذرًا مطلقًا لم يعيِّنه أو يسمِّه، كأن يقول (لله عليَّ نذر)، فعليه كفارة يمين، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «من نذر نذرًا لم يسمِّه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين» (¬3). وقد رُوى نحوه مرفوعًا من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «كفارة النذر [إذا لم يُسمَّ] كفارة يمين» (¬4) لكنه ضعيف، وقد صحَّ بدون موضع الشاهد كما تقدم. النذر لغير الله شرك: النذر عبادة، فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى، من صرفه لغيره من ملك مقرَّب أو نبي مرسل، أو وليٍّ من الأولياء -حيًّا أو ميتًا- أو لشمس أو قمر ونحو ¬

(¬1) حسن: أخرجه ابن الجارود (935) ومن طريقه البيهقي (10/ 72) وأخرج نحوه أبو داود (3322) من طريق آخر عن ابن عباس وصرَّب وقفه، وقد صححه الألباني في «الصحيحة» (47). (¬2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3290)، والترمذي (1524)، والنسائي (2/ 145)، وابن ماجه (2125)، وانظر «الإرواء» (2590). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 173) موقوفًا، وأخرجه أبو داود (3322) ورجَّح الوقف. (¬4) ضعيف بهذه الزيادة: أخرجه أبو داود (2324)، والترمذي (1528)، والنسائي (7/ 26)، وانظر «الإرواء» (2586).

ذلك، مما يفعله عبَّاد الأوثان والقبور وأشباههم، لمن يعتقدون فيهم ضرًا أو نفعًا، أو قضاء حاجة أو تفريج كُربة -فقد ارتكب أعظم الذنوب، وهو الشرك بالله تعالى، وهو نظير ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬1). قال شيخ الإسلام: «وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا شرك لا يوفى به» (¬2). وقال -رحمه الله-: «وأما نذره (أي العبد) لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور، ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات» اهـ. وقال الأمير الصنعاني -رحمه الله تعالى-: «وأما النذر المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام (¬3) في تحريمها، لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر، ويجلب الخير، ويدفع الشر، ويُعافى الأليم ويشفى السقيم وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه، فيحرم كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه لأنه تقرير على الشرك ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام، لكن طال الأمد حتى صار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات وينحر في بابه النحائر من الأنعام وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقرأ شعبنا الكلام في هذا في رسالة تطهير الاعتقاد من درن الإلحاد» اهـ (¬4). ¬

(¬1) سورة الأنعام: 136. (¬2) «مجموع الفتاوى» (1/ 286). (¬3) أي: لا خلاف. (¬4) «سبل السلام» (4/ 1448).

8 - كتاب الأطعمة والأشربة وما يتعلق بهما

8 - كتاب الأطعمة والأشربة وما يتعلق بهما

الأطعمة

الأَطْعِمَة تعريف الأطعمة (¬1): الأطعمة: جمع طعام، وهو في اللغة: كل ما يؤكل مطلقًا، وكذا كل ما يتخذ من القوت كالحنطة والشعير والتمر، ويدخل في هذا التعريف كل ما تخرجه الأرض من زروع وثمار، وكل الحيوانات التي تؤكل سواء البرية والبحرية. ويُقال: طعم الشيء يطعمه طُعْمًا، إذا أكله أو ذاقه، وقد يطلق الفقهاء لفظ «الأطعمة» على: «كل ما يؤكل وما يُشرب، سوى الماء والمسكرات». وموضوع الأطعمة عنوان يدل على ما يباح وما يكره وما يحرم منها. الأصل في الأطعمة الحلُّ: حتى يدل دليل على تحريمها: 1 - قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (¬2). 2 - وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} (¬3). 3 - وقال سبحانه {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬4). ولا يحرم من الأطعمة إلا ما حرَّمه الله في كتابه أو على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم: 4 - قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬5). قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬6). 6 - وقال عز وجل: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (¬7). ¬

(¬1) «لسان العرب» مادة (طعم)، و «الموسوعة الفقهية» (5/ 123)، و «المفصل» (3/ 43). (¬2) سورة البقرة: 29. (¬3) سورة البقرة: 168. (¬4) سورة الأعراف: 31، 32. (¬5) سورة الأنعام: 119. (¬6) سورة يونس: 59، 60. (¬7) سورة النحل: 116.

7 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرِّم من أجل مسألته» (¬1). 8 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (¬2). 9 - وعن أبي الدرداء مرفوعًا: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسيًّا» ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (¬3) (¬4). هل يعتبر استخباث العرب لما لم يرد فيه نص؟ (¬5) إذا لم يكن في الكتاب أو السنة نصٌّ يدلُّ على حلِّ أو حُرْمة حيوان ما، فقال بعض العلماء: نرجع إلى العرب، فإن استطابت هذا الحيوان فهو حلال، وإن استخبثته فهو حرام، لقوله تعالى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (¬6) قال ابن قدامة -رحمه الله- في معنى الآية: «يعني: ما استطابته العرب فهو حلال، وما استخبثته فهو حرام ... والذي تعتبر استطابتهم واستخباثهم هم أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنهم هم الذين نزل عليهم القرآن الكريم وخوطبوا به وبالسنة النبوية، فيرجع في مطلق ألفاظها إلى عرفهم دون غيرهم» اهـ. أسباب تحريم الأطعمة والأشربة (¬7): يظهر بالاستقراء وتتبُّع تعليلات الفقهاء فيما يحكمون بحرمة أكله أنه يحرم أكل الشيء مهما كان نوعه لأحد أسباب خمسة: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2358). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337). (¬3) سورة مريم: 64. (¬4) حسن: أخرجه الحاكم (2/ 406)، والدارقطني (2/ 137) وله شواهد انظر «جامع العلوم والحكم» (1/ 276). (¬5) «المغنى» (8/ 585)، و «ابن عابدين» (5/ 194)، و «مطالب أولي النهى» (6/ 311). (¬6) سورة الأعراف: 157. (¬7) «الموسوعة الفقهية» (5/ 125 - 127) باختصار.

1 - الضرر اللاحق بالبدن أو العقل، قال تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (¬1). 2 - الإسكار أو التخدير أو الترقيد: فيحرم تناول ما يغيب العقل من المسكرات كالخمر وكل أنواع المواد المخدرة كالحشيش والأفيون ونحوها. 3 - النجاسة: فيحرم كل نجس ومتنجِّس بما لا يعفى عنه. 4 - الاستقذار عند ذوي الطباع السليمة: كالروث والبول والقمل والبرغوث. 5 - عدم الإذن شرعًا لحق الغير: فيحرم أكل الطعام غير المملوك لمن يريد أكله ولم يأذن له مالكه ولا الشارع، كالمغصوب والمسروق والمأخوذ بالقمار أو البغاء ونحو ذلك. الأطعمة المحرَّمة شرعًا: (أ) المحرمات في كتاب الله: قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (¬2). فانتظمت هذه الآية بعض المحرمات، وهي: 1 - الأطعمة بأنواعها: وهي كل حيوان مات حتف أنفه، بدون قتل أو ذبح شرعي: (أ) المنخنقة: الحيوان الذي يُخنق فيموت. (ب) الموقوذة: الحيوان الذي يُضرب بعصًا أو نحوها فيموت. (جـ) المتردية: الحيوان الذي تردَّى (سقط) من مكان عالٍ فمات. (د) النطيحة: الحيوان الذي نطحه آخر فمات نتيجة ذلك. (هـ) ما أكل السبع: الحيوان الذي مات نتيجة جرح حيوان مفترس له وأكله منه. فإذا أُدرك أحد هذه الأشياء حيًّا فذُبح صار حلالاً، لقوله تعالى: {... إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬3). ¬

(¬1) سورة النساء: 29. (¬2) سورة المائدة: 3. (¬3) سورة المائدة: 3.

ويلحق بالميتة: ما قطع من البهيمة وهي حية: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حيَّة فهو ميتة» (¬1) وعليه لا يجوز أكل ما قطع من أعضاء البهيمة وهي حية. ما يستثنى من الميتة: تقدم أنه يحرم أكل الميتة بجميع أنواعها، إلا أنه دلَّت السنة على استثناء نوعين من الميتة يحلُّ أكلهما، وهما: السمك والجراد، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» (¬2) وله حكم الرفع. فائدتان: 1 - حكم أكل ما طفا على سطح الماء من الأسماك وغيرها من حيوان البحر: لأهل العلم في هذا قولان (¬3): الأول: أنه يحلُّ أكله: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والظاهرية، وعطاء ومكحول والنخعي وأبي ثور، وهو مروي عن أبي بكر وأبي أيوب رضي الله عنهما، واستدلوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} (¬4). 2 - وقوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬5) قال ابن عباس وغيره: «صيده ما صدتموه، وطعامه ما قذف». فدلَّت هاتان الآيتان بعمومهما على حلِّ جميع صيد البحر، ولم يخصَّ الله تعالى شيئًا من شيء {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2841)، وابن ماجه (3216). (¬2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3314)، وأحمد (5690) وغيرهما، وانظر «الصحيحة» (1118). (¬3) «البدائع» (5/ 35)، و «المحلى» (7/ 393)، و «المغنى» (9/ 35)، و «نيل الأوطار» (8/ 170). (¬4) سورة فاطر: 12. (¬5) سورة المائدة: 96. (¬6) سورة مريم: 64.

3 - ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم -لما سئل عن ماء البحر-: «هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته» (¬1) فشمل ذلك ميتة البحر على اختلاف أنواعها. 4 - ويقول ابن عمر فيما استثنى من الميتة: «أُحلت لنا ميتتان ... الحوت والجراد» (¬2). 5 - ويؤيده حديث جابر وفيه: «أن البحر قذف إلى الساحل بدابة ضخمة تُدعى العنبر، فأكلوا منها، ولما قدموا إلى المدينة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيئًا فتطعمونا؟» قال جابر: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله» (¬3). الثاني: لا يحل أكل السمك الطافي: وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واستدلوا بما يلي: 1 - ما يُروى عن جابر مرفوعًا: «ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه» (¬4) وأجيب: بأنه ضعيف باتفاق الحفاظ فلا يجوز الاحتجاج به ولو لم يعارضه شيء، فكيف وهو معارض بما تقدم من الأدلة؟!. 2 - بعض الآثار عن جابر، وعليٍّ، وابن عباس رضي الله عنهم، في النهي عن أكل الطافي، وكلها ضعيفة (¬5). الراجح: لا شك أن أدلة الجمهور أقوى، لكن .. لو ثبت طبيًّا أن السمك الطافي يكون فاسدًا مُضِرًّا بالبدن -لا سيما إن مضى على موته زمن- فحينئذ يكون التحرُّز عنه أليق بقواعد الشريعة التي حرَّمت الخبائث، والله أعلم. 2 - واختلف العلماء في أكل الجراد (¬6): فذهب جماهير العلماء من السلف والخلف -خلافًا لمالك- إلى أنه حلال سواء مات باصطياده أو مات حتف أنفه، لما يلي: 1 - ما تقدم من قول ابن عمر: «أحلت لنا ميتتان ... الحوت والجراد». ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 176). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4362)، ومسلم (1935)، وابن ماجه (386). (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3815)، وابن ماجه (3247). (¬5) انظر «المحلى» لابن حزم (7/ 394). (¬6) «المجموع» (9/ 24)، و «المغنى» (9/ 315)، و «سبل السلام» (4/ 1390).

2 - حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، نأكل الجراد» (¬1). واشترط مالك -رحمه الله- لأكله أن يموت بسبب، بأن يقطع منه شيء أو يُسلق أو يُلقى حيًّا أو يشوى، وأما إذا مات حتف أنفه لم يؤكل!! والأول أرجح، والله أعلم. 2 - الدم المسفوح: فلا يحلُّ أكل الدم الذي يُهراق، لقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ ...} (¬2) وأما الدم اليسير كالذي يكون في عروق الذبيحة مما لا يمكن الاحتراز منه، فمعفو عنه، فعن عائشة رضي الله عنها أنها «كانت لا ترى السباع بأسًا (!!) والحمرة والدم يكونان على القدر» (¬3). ما يستثنى من الدم المحرَّم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان .... وأما الدمان: فالكبد والطحال» (¬4). 3 - لحم الخنزير: قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (¬5)، وقال عز وجل: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ...} (¬6). ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم الخنزير: لحمه وشحمه وجميع أجزائه (¬7)، لكن خصَّ اللحم بالذِّكر لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه كالتابع له، ولإظهار حرمة ما استطابوه وفضلوه على سائر اللحوم، واستعظموا وقوع تحريمه (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5495)، ومسلم (1952). (¬2) سورة المائدة: 3. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (8/ 71). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) سورة المائدة: 3. (¬6) سورة الأنعام: 145. (¬7) وأما ما نسبه بعضهم إلى داود الظاهري من حلِّ ما عدا اللحم من الخنزير ففيه نظر، فقد نقل ابن حزم في المحلى (7/ 390 - 430) حكاية الإجماع على تحريم كل أجزائه وهو من أعلم الناس بمذهب داود، ولو خالف في هذا لحكاه عنه، بل لردَّ الإجماع لأجله، فلينتبه!!. (¬8) «روح المعاني» للألوسي (2/ 42)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 54).

والضمير في قوله تعالى {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (¬1) في لغة العرب التي نزل بها القرآن راجع إلى أقرب مذكور إليه، وهو الخنزير نفسه، فصحَّ بالقرآن أن الخنزير بعينه رجس، فهو كله رجس، والرجس حرام يجب اجتنابه، فالخنزير كله حرام، لا يخرج من ذلك شعره ولا غيره. فائدة: قال صاحب «تفسير المنار» (2/ 98) في معرض بيانه لحكمة الشريعة في تحريم الخنزير: «حرم الله لحم الخنزير فإنه قذر، لأن أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات، وهو ضار في جميع الأقاليم، كما ثبت بالتجربة، وأكل لحمه من أسباب الدودة القتالة، ويقال: إن له تأثيرًا سيِّئًا في العفة والغيرة» اهـ. 4 - ما ذُكر عليه غير اسم الله: لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ...} (¬2) وقوله عز وجل: {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ولذلك لا يجوز الأكل من ذبيحة المشرك أو المجوسي أو المرتد، وأما ذبيحة النصراني واليهودي فإنه يجوز الأكل منها ما لم يُعلم أنه ذكر عليها غير اسم الله. لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (¬3) قال ابن عباس: «طعامهم: ذبحائهم» (¬4). فائدتان: (أ) اللحوم المستوردة من البلاد غير الإسلامية: إذا كانت المستوردة من البلاد غير الإسلامية لحوم حيوانات البحر كالسمك والحوت، فإنه يحلُّ أكلها، لأنه يباح أكلها بلا تذكية (ذبح شرعي) وسواء كان اصطادها مسلم أو غير مسلم. ¬

(¬1) سورة المائدة: 3. (¬2) سورة الأنعام: 121. (¬3) سورة المائدة: 5. (¬4) أخرجه البخاري تعليقًا (9/ 636 - فتح)، ووصله الطبري (6/ 103)، والبيهقي (9/ 282) بسند منقطع.

وأما إذا كانت هذه اللحوم من حيوانات البر المباح أكلها كالإبل والبقر والغنم والطيور، فإن كانت مستوردة من بلاد أهلها مجوس أو وثنيون أو ملاحدة كالشيوعيين، فهذه اللحوم لا يحلُّ أكلها. وإن كانت مستوردة من بلاد أهلها نصارى أو يهود (أهل كتاب) فإنه يحلُّ أكلها بشرطين: 1 - أن لا يُعلم أنهم ذكروا عليها غير اسم الله كالصليب أو المسيح وغير ذلك. 2 - أن تُذكَّى (تذبح) ذكاة شرعية على النحو الذي سيأتي بيانه. وقد كان يكفينا -فيما مضى- أن تدَّعي هذه الدول المصدِّرة أنها تذبح على الطريقة الإسلامية، إلا أنه قد ثبت من طرق متعددة أن هذه الدول لا تقوم بعملية الذبح الشرعي، وأن ما تقوم به من ختم على هذه اللحوم بأنها «مذبوحة على الطريقة الإسلامية» ليس إلا مجرد خداع لابتزاز الأموال، وقد وصلت بعض الصفقات من الدجاج المستورد إلى بعض البلاد العربية، وقد وجد أن رقبة الدجاجة سليمة وكاملة ليس فيها أثر الذبح؟! رغم كتابة العبارة التقليدية عليها: أنها ذبحت على الطريقة الإسلامية!! بل وبلغ الاستخفاف بعقول المسلمين أن وُجد مكتوبًا على صناديق السمك المستورد: إنه ذبح حسب الشريعة الإسلامية!!» (¬1). (ب) الجُبن المستورد من البلاد غير الإسلامية (¬2): إذا كان الجبن يُستورد من بلاد أهل الكتاب ويصنعون هذا الجبن من أنفحة الحيوانات المباح لنا أكلها، فهذا الجبن حلال لنا. وأما إذا كان يستورد من بلاد مجوس أو شيوعيين أو وثنيين، وكانوا يصنعون الجبن من أنفحة ذبائحهم، فإن ذبائح هؤلاء بالنسبة للمسلمين كالميتة، لكن هل يحلُّ أكل هذا الجبن المصنوع من أنفحة هذه الميتة؟ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: في جبن المجوس المصنوع بأنفحة ذبائحهم، قولان للعلماء ... ثم قال: «والأظهر أن جبنهم حلال، وأن أنفحة الميتة ولبنها طاهر، وذلك لأن الصحابة لما فتحوا العراق أكلوا من جبن المجوس، وكان هذا ظاهرًا شائعًا بينهم» اهـ (¬3). ¬

(¬1) «الفقه الواضح» د. محمد بكر إسماعيل (2/ 390 - 395). (¬2) «المفصل» لعبد الكريم زيدان (3/ 54 - 55). (¬3) «مجموع الفتاوى» (21/ 102 - 103).

5 - ما ذُبح لغير الله: كصنم أو وثن أو قبر أو ميت كالسيد كالبدوي أو غير ذلك من الطواغيت لقوله تعالى {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (¬1). (ب) المحرمات بالسُّنَّة النبوية: 1 - لحم الحُمُر الأهلية: ذهب جماهير أهل العلم (¬2) إلى تحريم أكل لحم الحُمُر الأهلية لما ثبت بأسانيد كالشمس أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم الحمر الأهلية، ومن ذلك: 1 - حديث أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديًا فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس، فأكفئت القدور، وإنها لتفور باللحم» (¬3). 2 - حديث جابر بن عبد الله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» (¬4). وفي الباب عن عليٍّ وابن عمر والبراء بن عازب وابن أبي أوفى وأبي ثعلبة الخشني وغيرهم رضي الله عنهم. وقد ذهب بعض المالكية -وهو القول الراجح عندهم- إلى أنه يؤكل مع الكراهة أي التنزيهية (!!). وروى عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يقولان بظاهر قوله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً ...} (¬5). والذي صحَّ عن ابن عباس أنه توقف فيها فقال: «لا أدري أنهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنها كانت حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرَّم يوم خيبر لحم الحمر الأهلية» (¬6). وعلى كل حال، قال ابن عبد البر: «لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها» اهـ. قلت: وقد ثبت تحريمها ثبوتًا يكاد يكون متواترًا، فهو حجة على كلِّ أحد، والله أعلم. ¬

(¬1) «البدائع» (5/ 37)، و «الدسوقي» (2/ 117)، و «المجموع» (9/ 11)، و «المغنى» (11/ 65)، و «المحلى» (7/ 406)، و «سبل السلام» (4/ 87)، و «نيل الأوطار» (8/ 128). (¬2) سورة المائدة: 3. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5528)، ومسلم (1940). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4219)، ومسلم (1941). (¬5) سورة الأنعام: 145. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (4227)، ومسلم (1939).

فائدتان: (أ) لحم الحُمُر الوحشية حلال: وعلى هذا إجماع أهل العلم، وقد ثبت أكلها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ففي حديث أبي قتادة أنه كان مع قوم محرمين -وهو حلال- فَسَنَحَ لهم حُمُر وحش، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانًا فأكلوا منها وقالوا: نأكل من لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملوا ما بقي من لحمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا ما بقي من لحمها» (¬1). وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «هل معكم منه شيء؟» قالوا: معنا رجله، قال: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها». (ب) يجوز أكل لحم الخيل (¬2): ذهب جمهور العلماء: الشافعية والحنابلة، وهو قول للمالكية، وجمهور الصحابة والتابعين إلى إباحة أكل الخيل سواء كانت عرابًا أو براذين (أي: خيولاً عربية أو غير عربية) وحجتهم: 1 - حديث جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» (¬3). 2 - حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا فأكلناه ونحن بالمدينة» (¬4). وذهب الحنفية وهو قول ثانٍ لمالكية، وهو قول ابن عباس، إلى كراهة أو تحريم أكل الخيل واحتجوا بما يلي: 1 - قوله تعالى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (¬5) قالوا: فالاقتصار على الركوب والزينة يدل على أنها ليست مأكولة، إذ لو كانت مأكولة لقال: ومنها تأكلون. وأجيب بأن الآية مكية بالاتفاق، والإذن في الأكل كان بعد الهجرة، ثم إن الآية ليست نصًّا في منع الأكل لا سيما وأن الأحاديث صريحة في الحِلِّ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196). (¬2) «البدائع» (5/ 38)، و «الدسوقي» (2/ 117)، و «المجموع» (9/ 5)، و «المغنى» (11/ 66 - مع الشرح)، و «سبل السلام» (4/ 87)، و «نيل الأوطار» (8/ 125). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4219)، ومسلم (1941). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5510)، ومسلم (1942). (¬5) سورة النحل: 8.

2 - ما يُروى عن خالد بن الوليد رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» (¬1) وهو ضعيف لا يحتج به. فالصحيح قول الجمهور من إباحة أكل الخيل، والله أعلم. 2 - كل ذي ناب من السباع: فكل حيوان له ناب يفترس به، سواء كان وحشيًّا كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحو ذلك أو كان أهليًّا كالكلب والسِّنَّوْر الأهلي (القِط)، فلا يحلُّ شيء منها عند الجمهور لما يلي: 1 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ ذي ناب من السباع، فأكله حرام» (¬2). 2 - حديث ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير» (¬3). 3 - وعن أبي الزبير قال: سألت جابرًا عن ثمن الكلب، السِّنَّور؟ قال: «زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك» (¬4). وقد ثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا حرَّم على قوم أكل شيء حرَّم عليهم ثمنه» (¬5). فائدة: الأرنب حلال: يحل أكل الأرنب عند الجمهور، لحديث أنس أنه قال: «أنفجنا (¬6) أرنبًا فسعى القوم فلغبوا فأخذتها وجئت بها أبا طلحة، فذبحها وبعث بوركها -أو قال: بفخذها- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبله» (¬7). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه النسائي (4332)، وأبو داود (3790)، وابن ماجه (3198)، وأحمد (16214). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1933). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1934)، وأبو داود (3785)، والنسائي (7/ 206). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1569). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3488) وغيره، وله شاهد في الصحيحين. (¬6) أي: أثرناها. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (2572)، ومسلم (1953).

ولأنها من الحيوان المستطاب، وليست ذات ناب تفترس به، ولم يرد نصٌّ بتحريمها (¬1). 3 - كل ذي مخلب من الطير (الطيور الجارحة) كالبازي والباشق والصقر ونحوها، لحديث ابن عباس المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن كل ذي مخلب من الطير» (¬2) والمراد: مخلب يصيد به، إذ من المعلوم أنه لا يسمى ذا مخلب عند العرب إلا الصائد بمخلبه وحده، وأما الديك والعصافير والحمام وسائر ما لا يصيد بمخلبه فلا تسمى ذوات مخالب في اللغة، لأن مخالبها للاستمساك والحفر بها وليست للصيد والافتراس. وقد قال الجمهور -خلافًا للمالكية!! - بتحريم كل ذي مخلب من الطير (¬3). 4 - الجلاَّلة: وهي الحيوانات التي تتغذى بالنجاسات -أو أكثر علفها النجاسة- من الإبل والبقر والغنم والدجاج ونحوها، وهذه الحيوانات لا يحلُّ لحمها ولا لبنها، وبهذا قال أحمد -في إحدى الروايتين- وابن حزم (¬4)، لحديث ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها» (¬5). وذهب الشافعي إلى أنها مكروهة غير محرمة، وهو الرواية الأخرى عن أحمد. متى يحلُّ أكل الجلاَّلة؟ الجلالة إذا حُبست ثلاثة أيام وعُلفت بما هو طاهر، فإنه يحلُّ ذبحها وأكلها ويشرب لبنها، فعن ابن عمر أنه: «كان يحبس الدجاجة الجلال ثلاثًا» (¬6). وقد رُوى عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنها تحبس ثلاثًا، سواء كانت طائرًا أو بهيمة، وفي رواية عنه: تحبس الدجاجة ثلاثًا، ويحبس البعير والبقرة ونحوهما أربعين يومًا. ¬

(¬1) «البدائع» (5/ 39)، و «الصاوي» (1/ 322)، و «نهاية المحتاج» (8/ 143)، و «المغنى» (11/ 81) مع الشرح الكبير، و «المحلى» (7/ 432). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «البدائع» (5/ 39)، و «نهاية المحتاج» (8/ 144)، و «المقنع» (3/ 527)، و «المحلى» (7/ 403). (¬4) «المغنى» (8/ 594)، و «المحلى» (7/ 410 - 429). (¬5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3767)، والترمذي (1884)، وابن ماجه (3189). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4660 - 8847)، وانظر «الإرواء» (2504).

وعلى كلِّ حال فإن الجلالة تحلُّ بحبسها -على الطعام الطيب- بالاتفاق، واختلفوا في مدة حبسها. 6 - 10 - ما أمر الشارع بقتله لا يحل أكله: الفأرة والعقرب والغراب والحديا (¬1) والكلب العقور والوزغ (¬2) والحية. 1 - فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق، يُقتلن في الحرم: الفأرة، والعقرب، والحُديا، والغراب، والكلب العقور» (¬3). 2 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ، وسماه فُويسقًا» (¬4). 3 - وعن عبد الله بن مسعود: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أُنزلت عليه {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (¬5) فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: «اقتلوها» فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وقاها الله شركم كما وقاكم شرَّها» (¬6). ولأن هذه الأشياء تعد من الخبائث لنفور الطبائع السليمة منها. 11 - 15 - ما نهى الشارع عن قتله لا يحل أكله: النملة والنحلة والهدهد والصرد (¬7) والضفدع: 1 - عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحل، والهدهد، والصرد» (¬8). 2 - عن عبد الرحمن بن عثمان قال: «ذكر طيبٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دواءً، وذكر الضفدع يُجعل، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع» (¬9). ¬

(¬1) طائر يشبه الغراب. (¬2) نوع من الزواحف والهوام، وهي ما يعرف في بلادنا بالبُرص. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3314)، ومسلم (1198). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2238)، وله شاهد عن البخاري (3359) من حديث أم شريك. (¬5) سورة المرسلات: 1. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1830)، ومسلم (2234). (¬7) الصرد: طائر ضخم الرأس، أبيض البطن أخضر الظهر، قيل: يصيد العصافير. (¬8) صحيح: أخرجه النسائي (5/ 189)، وأحمد (6/ 83) وغيرهما. (¬9) حسن: أخرجه أحمد (15197)، والدارمي (1998)، وابن ماجه (3223).

ووجه استفادة تحريم الأكل لِما نُهى عن قتله: أن النهي عن قتله يعني النهي عن تذكيته، فلا تحلُّه التذكية للنهي عنها، ولو كان أكله حلالاً لما نهى عن قتله. واعترض الشوكاني على كون الأمر بقتل الشيء أو النهي عن قتله، من أسباب تحريم أكله، وقال: «ولم يأت الشارع بما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله أو نُهى عن قتله حتى يكون الأمر والنهي دليلين على ذلك، ولا ملازمة عقلية ولا عُرفية، فلا وجه لجعل ذلك أصلاً من أصول التحريم، بل إن كان المأمور بقتله أو المنهي عن قتله مما يدخل في الخبائث، كان تحريمه بالآية الكريمة، وإن لم يكن من ذلك، كان حلالاً عملاً بما أسلفنا من أصالة الحلِّ، وقيام الأدلة الكلية على ذلك» اهـ (¬1). إباحة المحرَّمات عند الاضطرار: أجمع المسلمون على إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطر، وقد ذكر الله عز وجل الاضطرار إلى المحرمات في خمسة مواطن من القرآن الكريم: 1 - قال الله -بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2). 2 - وقال تعالى -بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها-: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3). 3 - وقال سبحانه -بعد ذكرها- {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬4). 4 - وقال سبحانه {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬5). 5 - وقال عز وجل {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬6). ¬

(¬1) «نيل الأوطار» (8). (¬2) سورة البقرة: 173. (¬3) سورة المائدة: 3. (¬4) سورة الأنعام: 145. (¬5) سورة الأنعام: 119. (¬6) سورة النحل: 115.

حد الاضطرار المُبيح للمحرَّم: معنى الضرورة في الآيات الكريمة، وحدُّ الاضطرار المبيح لأكل الميتة وسائر المحرمات هو خوف الهلاك على الأصح (¬1). المقصود بالإباحة للمحرَّم: اختلف الفقهاء في المقصود بإباحة الميتة ونحوها على قولين (¬2). الأول: جواز التناول وعدمه: وهو قول بعض المالكية والشافعية والحنابلة، لظاهر قوله تعالى: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. الثاني: وجوب تناولها لمن أشرف على الهلاك: وهو مذهب الجمهور: الحنفية، والراجح عند المالكية الشافعية والحنابلة، لقوله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (¬3)، وقوله عز وجل {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬4). قالوا: ولا شك أن الذي يترك تناول الميتة ونحوها حتى يموت، يُعتبر قاتلاً لنفسه، وملقيًا بنفسه إلى التهلكة، لأن الكف عن التناول فعل منسوب للإنسان. وأما قوله تعالى {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} فلا يتنافى مع القول بالوجوب، لأن نفي الإثم في الأكل عام يشمل حالتي الجواز والوجوب، فإذا وجدت قرينة على تخصيصه بالوجوب عمل بها، والقرينة هنا: الآيتان المتقدمتان. شروط إباحة الميتة ونحوها للمضطر: اشترط الفقهاء لإباحة أكل الميتة ونحوها من المحرمات للمضطر شروطًا، اتفقوا على بعضها واختلفوا في بعضها، فمما اتفقوا عليه: 1 - أن لا يجد طعامًا حلالاً ولو لقمة، فإن وجدها وجب تقديمها، فغن لم تغنه حلَّ له المحرَّم. 2 - أن لا يكون قد أشرف على الموت بحيث لا ينفعه تناول الطعام، فإن انتهى إلى هذه الحالة لم يحلَّ له المحرَّم. ¬

(¬1) «أحكام القرآن للجصاص» (1/ 150)، و «أضواء البيان» (1/ 64 - 95) والمراجع الآتية بعده. (¬2) «ابن عابدين» (5/ 215)، و «الصاوي» (1/ 323)، و «نهاية المحتاج» (8/ 150)، و «المقنع» (3/ 530). (¬3) سورة النساء: 29. (¬4) سورة البقرة: 195.

من آداب الأكل

3 - أن لا يجد مال مسلم أو ذمي من الأطعمة الحلال، وفي هذا الشرط عندهم تفصيل. تنبيهان: 1 - لا يجوز أن يتجاوز ما يسد به الرمق ويندفع به الضرر، وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}. 2 - ما حرِّم لكونه يقتل الإنسان (كالسموم) لا يحلُّ للاضطرار: لأن تناوله استعجال للموت وقتل للنفس، وهو من أكبر الكبائر، وهذا متفق عليه. من آداب الأكل هذه جملة من الآداب الشرعية في الطعام، ينبغي الأخذ بها، لما فيها من إحياء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما فيها من طرد وإبعاد وحرمان للشيطان، الذي يحرص على مشاركة المسلم في مأكله ومشربه وملبسه ومبيته، حتى يتمكن من إغوائه والسيطرة على قلبه وعقله وجوارحه، ولما فيها من تحقيق المصالح الدينية والاقتصادية والاجتماعية، ومن هذه الآداب: 1 - التسمية على الطعام: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل: بسم الله، فإن نسي فليقل: بسم الله أوله وآخره» (¬1). وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يُذكر اسم الله عليه ...» (¬2) وقال عليه الصلاة والسلام لعمرو بن أبي سلمة: «يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك ...» (¬3). فإن نسى التسمية في أول الطعام: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسى أن يذكر الله عز وجل في أول طعامه، فليقل حين يذكر: بسم الله أوله وآخره، فإنه يستقبل طعامًا جديدًا، أو يمتنع الخبيث (¬4) مما كان يصيب منه» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3767)، والترمذي (1858)، وأحمد (6/ 143). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2017)، وأحمد (5/ 383). (¬3) صحيح: يأتي بتمامه وتخريجه قريبًا. (¬4) أي: الشيطان. (¬5) صحيح: أخرجه ابن السني في «عمل اليوم الليلة» (461) بسند صحيح وله شاهد عن عائشة وقد تقدم.

2، 3 - الأكل باليمين، وعدم الأكل مما أمام الغير -إذا كان في إناء واحد-: فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» (¬1). وعن عمرو بن أبي سلمة، قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكل مما يليك» فما زالت تلك طعمتي بعد (¬2). 4 - الأكل من حافة الطعام لا من وسطه: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه» (¬3). 5 - عدم الأكل وهو متكئ: لحديث أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فلا آكل مُتَّكئًا» (¬4). 6 - أن لا يعيب الطعام إن كرهه: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه» (¬5). 7 - الاجتماع على الطعام وعدم الأكل منفردًا: لأن كثرة الأيدي على الطعام تزيد بركته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة ...» (¬6). وقد ورد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع، فقال: «فلعلكم تفترقون؟» قالوا: نعم، قال: «فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله، يبارك لكم فيه» (¬7) وفيه ضعف. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2020)، والترمذي (1800)، وأبو داود (3776). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (3772)، وابن ماجه (3277)، وأحمد (1/ 343 - 345). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5398)، والترمذي في «الشمائل» (64). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5409)، ومسلم (2064). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5392)، ومسلم (2058). (¬7) ضعيف: أخرجه أبو داود (3764) وغيره.

8 - أكل اللقمة -إذا سقطت- بعد مسح الأذى عنها: فعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان» (¬1). 9 - لعق الأصابع والقصعة قبل غسل اليد أو مسحها: فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: «إنكم لا تدرون في أيِّه البركة» (¬2). 10، 11 - حمد الله، والدعاء بعد الفراغ من الطعام: فعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة، فيحمده عليها» (¬3). وقد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة صيغ للحمد والدعاء بعد الفراغ من الطعام، ومن ذلك: (أ) «الحمد لله الذي كفانا وأروانا، غير مكفيٍّ ولا مكفور» (¬4). (ب) «الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفي، ولا مُودَّعٍ، ولا مُستَغنىً عنه ربَّنا» (¬5). (جـ) «الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوَّغه وجعل له مخرجًا» (¬6). (د) «اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقْنَيْتَ وهديتَ وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت» (¬7). 12 - الدعاء لمن قدَّم الطعام: ومما ثبت في ذلك: (أ) أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة» (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2033). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2033). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2724)، والترمذي (1816). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5459). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5458)، وأبو داود (3849)، وابن ماجه (3284)، وأحمد (5/ 256). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (3851)، وابن السني. (¬7) حسن: أخرجه أحمد في «المسند» رقم (1600). (¬8) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (3854)، وابن ماجه (1747) وغيرهما.

الصيد وأحكامه

(ب) «اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم» (¬1). 13 - غسل اليد لإزالة أثر الطعام: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بات أحدكم وفي يده غَمر (¬2)، فأصابه شيء، فلا يلومنَّ إلا نفسه» (¬3). الصَّيْد وأحكامه تعريفه (¬4): الصَّيْد: مصدر صاد يصيد صيدًا، وله إطلاقان في اللغة، فقد يراد به: الاصطياد ووضع اليد على الحيوان المصيد وقبضه وإمساكه، ومنه قوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬5). وقد يراد به الحيوان المصيد نفسه، كما قال تعالى {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (¬6) وعلى الإطلاق الأول يكون تعريف الصيد اصطلاحًا: «اقتناص حيوان حلال متوحش طبعًا غير مملوك ولا مقتدر عليه». وعلى الإطلاق الثاني يُعرَّف الصيد اصطلاحًا على أنه: «حيوان مقتنَص حلال متوحِّش طبعًا غير مملوك، ولا مقدور عليه». حكم الصيد: أجمع أهل العلم على إباحة الاصطياد والأكل من الصيد، ودلَّ على ذلك الكتاب والسنة: (أ) فمن الكتاب: 1 - قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (3805)، والترمذي (3500)، وأبو داود (3241). (¬2) الغَمَر: الدسومة التي تصيب اليد من أثر الطعام. (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي (1860)، وأبو داود (3852)، وابن ماجه (3297)، وأحمد (8175). (¬4) «النهاية» لابن الأثير (3/ 65)، و «كشاف القناع» (4/ 126)، و «ابن عابدين» (6/ 461)، و «المفصل» (3/ 10). (¬5) سورة المائدة: 2. (¬6) سورة المائة: 95. (¬7) سورة المائدة: 96.

2 - وقوله سبحانه {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬1). 3 - وقوله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2). (ب) ومن السنة: حديث عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أُرسل الكلاب المعلَّمة فيمسكن عليَّ وأذكر اسم الله عليه، فقال: «إذا أرسلت كلبك المُعلَّم وذكرت اسم الله عليه فَكُلْ» قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها» قلت له: فإني أرمى بالمعراض (¬3) الصيد فأصيب، فقال: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكلْه، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» (¬4). متى يكون الصيد محظورًا؟ الأصل في الصيد أنه حلال، لكنه يُحظر في الحالات الآتية: 1 - إذا قُصد به اللهو والعبث: لا التذكية والانتفاع بلحم الحيوان، فحينئذ يكون حرامًا، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا شيئًا فيه روح غرضًا» (¬5). وعن سعيد بن جبير قال: مرَّ ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها، فقال ابن عمر: «من فعل هذا؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا» (¬6). 2 - إذا كان الصائد مُحرمًا بحج أو عمرة فيحرم عليه صيد البر: لقوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (¬7) وقد تقدم هذا في «كتاب الحج». ¬

(¬1) سورة المائدة: 2. (¬2) سورة المائدة: 4. (¬3) المعراض: عود محدَّد، وربما جعل في رأسه حديدة، يحذف به الصيد كالسهم. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2054)، ومسلم (1929). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1957)، والنسائي (4443)، وابن ماجه (3187). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1958). (¬7) سورة المائدة: 96.

3 - يحرم صيد الحرمين -مكة والمدينة- ولو الغير لمُحرم: وقد تقدم في «الحج». 4 - يحرم صيد المملوك للغير: لما فيه من الظلم والعدوان عليهم. وسائل الصيد: إباحة الصيد تعني تمكين الصائد من اقتناص الحيوان، ووضع يده عليه حيًّا إن أمكن، أو مقتولاً بفعل آلة الصيد، حيث يعتبر القتل بآلة الصيد بمنزلة تذكية الحيوان أو ذبحه بصورة مشروعة، ولكل وسيلة أو أداة للصيد شروط معينة حتى يعتبر قتل الحيوان بها بمنزلة التذكية الشرعية. 1 - الصيد باستخدام الجوارح: المقصود بالجوارح: السباع ذوات الأنياب، كالكلب والفهد، وجوارح الطير ذوات المخالب كالصقر والبازي، قال الله تعالى {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} (¬1). ما يشترط في الصيد بالجوارح (¬2)، ليحلَّ صيدها: 1 - أن يكون مُعَلَّمًا: قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬3). ويعتبر في تعليم الجارحة ثلاثة شروط هي: (أ) إذا أرسله الصائد استرسل. (ب) إذا زجره انزجر. (جـ) إذا أمسك الجارح صيدًا لم يأكل منه، ويتكرر هذا منه حتى يصير معلَّمًا في حكم العرف، وأقل ذلك ثلاث مرات، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. فإن أكل الجارح من الصيد لم يحلَّ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك، وإن قتلت، إلا أن يأكل الكلب، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» (¬4). ¬

(¬1) سورة المائدة: 4. (¬2) سورة المائدة: 4. (¬3) «المغنى» (9/ 292 - الفكر)، و «مغنى المحتاج» (4/ 275)، و «المفصل» (3/ 13). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

تنبيه: إذا صاد الكلب غير المعلَّم فأدركه الصائد حيًّا فذبحه ذبحًا شرعيًّا حلَّ أكله كذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني: «... وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكُلْ» (¬1). 2 - أن يسمى الصائد عند إرساله: لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2) وقوله عز وجل {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬3). وفي حديث عدي بن حاتم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ...» (¬4). وفي حديث أبي ثعلبة قال صلى الله عليه وسلم: «.. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل ...» (¬5). 3 - أن لا يشارك كلبه كلب آخر: فعن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، أرسل كلبي وأسمِّي، فأجد معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسمِّ عليه، ولا أدري أيهما أخذ، قال: «لا تأكل، إنما سَمَّيت على كلبك ولم تُسمِّ على الآخر» (¬6). 4 - أن يجرح الكلب الصَّيْدَ: فإن خنقه أو قتله بصدمته لم يحلَّ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فَكُلْ» (¬7). فائدتان: 1 - يجوز اقتناء الكلب للصيد والماشية والحراسة فقط: فعن عبد الله بن مغفل قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال: «ما بالهم وبال الكلاب» رخَّص في كلب الصيد وكلب الغنم» (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5478)، ومسلم (1532). (¬2) سورة الأنعام: 121. (¬3) سورة المائدة: 4. (¬4) صحيح: تقدم قبله. (¬5) صحيح: تقدم قبله. (¬6) صحيح: تقدم قريبًا. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5503)، ومسلم (1986). (¬8) صحيح: أخرجه مسلم (280)، والنسائي (67)، وأبو داود (74)، وابن ماجه (3200).

وأما اقتناء الكلاب لغير ذلك فلا يجوز، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم» (¬1) ونحوه من حديث ابن عمر. 2 - هل يجوز الصيد بالكلب الأسود البهيم؟ (¬2) الكلب الأسود البهيم الذي ليس فيه بياض، قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فعن جابر بن عبد الله قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان» (¬3) ولذا لم يُجِزْ الإمام أحمد وابن حزم وسائر أهل الظاهر صيد الكلب الأسود، لأن ما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه، فلم يبح صيده، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاه شيطانًا، ولأن إباحة الصيد المقتول رخصة فلا تستباح بمحرم كسائر الرخص. وقد كره ذلك طائفة من السلف منهم: الحسن والنخعي وقتادة وإسحاق. وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى إباحة صيد الكلب الأسود البهيم، لعموم الأدلة المتقدمة في إباحة الصيد بالكلاب المعلَّمة من غير أن تخصَّ كلبًا دون آخر. قلت: الأظهر أنه لا يجوز والله أعلم. 2 - الصيد بآلة الصيد كالقوس والسهم ونحوهما (¬4): لا خلاف بين العلماء في إباحة أكل ما صيد بالقوس أو السهم إذا ذكر عليه اسم الله، ففي حديث عدي بن حاتمٍ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «... وما رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يومًا فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل ما شئت ..» (¬5). وفي حديث أبي ثعلبة قال صلى الله عليه وسلم: «.. فما أصبتَ بقوسك فاذكر اسم الله، ثم كُلْ ..» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5480)، ومسلم (1574). (¬2) «المحلى» (7/ 477)، و «المغنى» (9/ 297). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1572)، وأبو داود (2846). (¬4) «المغنى» (9/ 301 - الفكر)، و «المفصَّل» (3/ 14). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5484)، ومسلم (1929) واللفظ له. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5478)، ومسلم (1930).

الصيد بالمِعْراض: المعراض: عود محدَّد وربما كان في رأسه حديدة، يحذف به الصيد، فإن أصاب الصيد بحدِّه فخزق (أي: جرح) وقتل فيباح الصيد، وإن أصاب المعراض بعرضه -لا بحدِّه- فقتل بثقله فيكون موقوذًا فلا يباح أكله، وبهذا قال الجمهور من الأئمة الأربعة وغيرهم، لحديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض، فقال: «إذا أصاب بحدِّه فَكُلْ، وإذا أصاب بعرضه فقتل فلا تأكل، فإنه وقيذ ...» (¬1). وسائر آلات الصيد كالمعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد، كالسهم يصيب الطائر بعرضه فيقتله، وكالرمح والحربة والسيف، يضرب به صفحًا -لا بحدِّه- فكل ذلك حرام؛ وكذلك إذا أصاب بحدِّه فلم يجرح وقتل بثقله لم يبح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكُلْه ..» (¬2) فجعل نفوذه في الصيد وجرحه شرطًا، ولأنه إذا لم يجرحه فإنما يقتله بثقله فأشبه ما إذا أصاب بعرضه (¬3). 3 - الصيد بالندقية: بنادق الصيد الحديثة يستعمل فيها الرصاص، ومنه المدوَّر، ومنه المدبَّب، وكلاهما ينفذ في جسم الحيوان ويجرحه، فيباح الصيد بها. ومما تجدر الإشارة إليه أن جمهور العلماء يشترطون في الآلة أن تكون محددة (!!) فقد يشكل هذا على إباحة الصيد بالبندقية ذات الرصاص المدوَّر، إلا أن الذي يظهر أن مرادهم بالمحدَّد هو ما ينفذ في جسم الحيوان ويجرحه، فهذا هو المناط كما يظهر من الأدلة في المسألة، فيزول الإشكال، والله أعلم. هل يجوز الصيد بالحجر والحصى ونحوه؟ (¬4) الحجر الذي لا حدَّ له بحيث لو رمى به الصيد لم يخزقه ولم يجرح، إذا قتل الحيوان لم يُبح أكله لأنه موقوذ، وبهذا قال عامة الفقهاء، وقد تقدمت الأدلة على اشتراط تفوذ الآلة في جسم الصيد وجرحه حتى يحلَّ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2054)، ومسلم (1929). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «المغنى» (9/ 305) بنحوه مع شيء من الإضافة. (¬4) «المغنى» (9/ 313)، و «المحلى» (7/ 460)، و «نيل الأوطار» (8/ 156).

التذكية الشرعية

وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: «إنها لا تصيد صيدًا، ولا تنكأ عدوًّا، ولكنها تكسر السنَّ وتفقأ العين» (¬1). إذا وجد الصيد بعد أيام: إذا رمى الصائدُ الحيوان ووقعت فيه الرمية وغاب، ثم وجده الصائد ولو بعد أيام -في غير ماء- كان حلالاً إذا لم ينتن أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه: فعن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أرسلت كلبك وسميت فأمسك وقتل فكُلْ، وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالط كلابًا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن فقتلن فلا تأكل، فإنك لا تدري أيها قتل، وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكُلْ، وإن وقع في الماء فلا تأكل» (¬2). التذكية الشرعية تعريفها (¬3): التذكية في اللغة: مصدر ذكيت الحيوان، والاسم هو الذكاة، وهي الذبح والنحر. وفي الاصطلاح: هي السبب الموصل لحل أكل الحيوان البري اختيارًا. وعرفها الحنفية بأنها: «السبيل الشرعية لبقاء طهارة الحيوان وحل أكله إن كان مأكولاً وحل الانتفاع بجلده وشعره إن كان غير مأكول». وعرفها الحنابلة بأنها: «ذبح أو نحر حيوان مقدور عليه مباح أكله، يعيش في البر، لا جراد ولا نحوه - بقطع حلقوم ومريء، أو عقر حيوان ممتنع إذا تعذر قطع الحلقوم والمريء». وهي نوعان (الذبح والنحر). تعريف الذبح: أطلق الذبح في اللغة على الشَّقِ وهو المعنى الأصلي ثم استعمل في قطع الحلقوم من باطن عند النَّصيِل، و «النَّصِيل» بفتح النون وكسر الصاد مفصل ما بين العنق والرأس تحت اللحيين. وأطلق في الاصطلاح على معانٍ كثيرة، ومنها: (ما يتوصل به إلى حل الحيوان سواء أكان قطعًا في الحلق أم في اللبة من حيوان مقدور عليه أم إزهاقًا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5479)، ومسلم (1954). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5484)، ومسلم (1929). (¬3) «الموسوعة الفقهية» (21/ 173)، و «المفصل» (3/ 20).

لروح الحيوان غير المقدور عليه بإصابته في أي موضع كان من جسده بمحدد أو بجارحة معلمة) والذبح يكون فيما عدا الإبل من الحيوانات. تعريف النحر: يطلق النحر في اللغة على أعلى الصدر وموضع القلادة منه والصدر كله ويطلق على الطعن في لبة الحيوان لأنها مسامتة لأعلى صدره. وفي الاصطلاح: هو الطعن في اللبة، ويكون النحر في الإبل خاصة. فائدة (¬1): تخصيص الإبل بالنحر وما عداها بالذبح مستحب عند الجمهور -خلافًا للمالكية- لا واجب، ووجه استحبابه أن الله تعالى ذكر في الإبل النحر، قال تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬2) وذكر في البقر والغنم الذبح، فقال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬3) وقال عز وجل {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (¬4). ولأن الأصل في الذكاة إنما هو الأسهل على الحيوان، وما فيه نوع راحة له فهو أفضل، والأسهل في الإبل النحر لخلو لبتها عن اللحم واجتماع اللحم فيما سواها، والبقر والغنم ونحوها جميع عنقها لا يختلف. حكم التذكية وحكمة اشتراطها (¬5): التذكية شرط لإباحة أكل الحيوان مأكول اللحم والانتفاع به من سائر الوجوه، قال الله تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬6). وعن رافع بن خديج قال: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غدًا وليست معنا مُدى، فقال صلى الله عليه وسلم: «أعجل -أو: أرني- ما أنهر الدم وذُكر اسم الله فكُلْ، ليس السن والظفر، وسأحدثك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة» (¬7). ¬

(¬1) «البدائع» (5/ 40)، و «الشرح الصغير» (1/ 314)، و «المقنع» (3/ 538)، و «مغنى المحتاج» (4/ 271)، و «الموسوعة» (21/ 176) وأما المالكية فأوجبوا النحر في الإبل، وأجازوا الذبح والنحر -مع تفضيل الذبح- في البقر، وأوجبوا الذبح فيما عدا ذلك. (¬2) سورة الكوثر: 20. (¬3) سورة البقرة: 67. (¬4) سورة الصافات: 107. (¬5) «البدائع» (5/ 40)، و «مغنى المحتاج» (4/ 267)، و «حجة الله البالغة» (2/ 812) ط. الكتب الحديثة. (¬6) سورة الأنعام: 121. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5543)، ومسلم (1968).

وفيه أن إراقة الدم، وذكر اسم الله على الذبيحة شرط لإباحة أكل لحمها. وأما الحكمة في اشتراط التذكية: فهي أن الحُرْمة في الحيوان المأكول لمكان الدم المسفوح، ولا يزول إلا بالذبح أو النحر، وأن الشرع إنما ورد بإحلال الطيبات خاصة، قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬1)، وقال سبحانه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (¬2) ولا يطيب إلا بخروج الدم وذلك بالذبح أو النحر، ولهذا حرمت الميتة لأن المحرم -وهو الدم المسفوح- فيها قائم. ومن الحكم كذلك: التنفير عن الشرك وأعمال المشركين، وتمييز مأكول الآدمي عن مأكول السباع، وأن يتذكر الإنسان إكرام الله له بإباحة إزهاق روح الحيوان لأكله والانتفاع به بعد موته. شروط الذبح: يشترط ليحل أكل الحيوان المذكَّى شروط، بعضها يتعلق بالمذبوح، وبعضها بالذابح، وبعضها بآلة الذبح. (أ) شروط الحيوان المذبوح (¬3): 1 - أن يكون حيًّا وقت الذبح: فلا يُذبح الحيوان الميت. 2 - أن يكون زهوق روحه بمحض الذبح. 3 - أن لا يكون من صيد الحرم لما تقدم في «كتاب الحج» من تحريم صيد الحرم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مكة: «فلا ينفَّر صيدها» (¬4). (ب) شروط الذابح: 1 - أن يكون عاقلاً (¬5): سواءً كان رجلاً أو امرأة، بالغًا أو غير بالغ إذا كان مميزًا، فلا تصح تذكية المجنون ولا الصبي الذي لا يعقل، ولا السكران، لأن غير العاقل لا يصح منه القصد إلى الذبح والتسمية، وبهذا قال الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة وهو قول عند الشافعية، والأظهر عندهم أنه يصح تذكيتهم جميعًا (!!). ¬

(¬1) سورة المائدة: 4. (¬2) سورة الأعراف: 157. (¬3) «الموسوعة الفقهية» (21/ 179). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1349)، ومسلم (1355). (¬5) «ابن عابدين» (5/ 188)، و «الخرشي» (2/ 301)، و «مغنى المحتاج» (4/ 266)، و «المغنى» (8/ 581) و «المحلى» (7/ 456).

وقال ابن حزم: لا تصح تذكية غير البالغ كالمجنون والسكران لأنهم غير مخاطبين بخطاب الشرع في قوله تعالى {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬1) إذ هم غير مكلفين. 2 - أن يكون مسلمًا أو كتابيًا (يهوديًّا أو نصرانيًّا): فلا تحل ذبيحة الوثني والمجوسي، وهذا متفق عليه، لأن غير المسلم والكتابي لا يخلص ذكر اسم الله، وذلك أن المشرك يُهل لغير الله أو يذبح على النصب، وقد قال تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (¬2) والمجوسي لا يذكر اسم الله على الذبيحة (¬3). وأما أهل الكتاب فإنما حلت ذبيحتهم لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (¬4) قال ابن عباس «طعامهم: ذبائحهم» (¬5). ويؤيد هذا، أنه لو لم يكن المراد بطعامهم: ذبحائهم، لم يكن للتخصيص بأهل الكتاب معنى، لأن غير الذبائح من أطعمة سائر الكفرة حلال، ولو فرض أن الطعام غير مختص بالذبائح فهو اسم لما يُطعم، فيدخل فيه الذبائح، وتكون حلالاً (¬6). تنبيه: إنما تحلُّ ذبيحة الكتابي إذا لم يُعلم أنه ذكر عليها غير اسم الله تعالى، فإن ذكر عليه اسم غير الله كأن قال: باسم المسيح أو العذراء أو الصنم، لم يؤكل، لقوله تعالى في بيان المحرَّمات: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬7). 3 - أن لا يكون مُحرمًا إذا ذبح صيد البر: فإن المحرم يحرم عليه التعرض للصيد البري سواء كان التعرض بالاصطياد أو الذبح أو القتل، ويحرم عليه كذلك أن يَدُلَّ الحلال على صيد البر أو يشير إليه، كما تقدم في «الحج»، فما ذبحه المحرم من صيد البر فهو ميتة وكذلك ما ذبحه الحلال بدلالة المحرم أو إشارته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (¬8) وقال سبحانه {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} (¬9). ¬

(¬1) سورة المائدة: 3. (¬2) سورة المائدة: 3. (¬3) «الموسوعة الفقهية» (21/ 184). (¬4) سورة المائدة: 4. (¬5) أخرجه البخاري تعليقًا (9/ 636). (¬6) «البدائع» (5/ 45)، و «الخرشي» (2/ 301)، و «نهاية المحتاج» (8/ 106)، و «المقنع» (3/ 535). (¬7) سورة المائدة: 3. (¬8) سورة المائدة: 95. (¬9) سورة المائدة: 96.

تنبيه: المحرَّم على المُحرم ذبحُه إنما هو الصيد، فأما المستأنس كالدجاج والغنم والإبل، فللمحرم أن يذَكيها، لأن التحريم مخصوص بالصيد، أي: بما شأنه أن يصاد وهو الوحش فبقي غيره على عموم الإباحة، وهذا متفق عليه بين المذاهب (¬1). 4 - أن يسمى على الذبيحة إذا ذَكَر (¬2): فإن تعمَّد تركها -وهو قادر على النطق بها- لم تؤكل ذبيحته عند الجمهور ومن نسيها أو كان أخرس أُكلت ذبيحته، قال تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬3). ولحديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فكُلْ ...» (¬4). ولذا اشترط الجمهور التسمية على الذبيحة -عند التذكر والقدوة- وقال الشافعي -وهو رواية عن أحمد- أنها مستحبة وليست واجبة، لحديث عائشة: أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومنا يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سمُّوا عليه أنتم وكلوا» قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (¬5). فلو كانت التسمية شرطًا لما حلت الذبيحة مع الشك في وجودها، لأن الشك في الشرط شك فيما شرطت له. واستدلوا كذلك بأن الله أباح لنا ذبائح أهل الكتاب وهم لا يذكرونها، وأجابوا عن قوله تعالى {وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬6) بأن المراد: ما ذكر عليه اسم غير الله، يعني: ما ذبح للأصنام بدليل قوله تعالى {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬7) وسياق الآية دالٌّ عليه، فإنه قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والحالة التي يكون فيها فسقًا هي الإهلال لغير الله، كما قال تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬8). ¬

(¬1) «البدائع» (5/ 50)، و «الشرح الصغير» (1/ 297)، و «نهاية المحتاج» (3/ 332)، و «كشاف القناع» (2/ 437). (¬2) «البدائع» (5/ 46)، و «الشرح الصغير» (1/ 319)، و «البجيرمي» (4/ 251)، و «المغنى» (8/ 565). (¬3) سورة الأنعام: 121. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2057) وغيره. (¬6) سورة الأنعام: 131. (¬7) سورة المائدة: 3. (¬8) سورة الأنعام: 145.

5 - أن لا يهلَّ بالذبح لغير الله: والمقصود به: تعظيم غير الله سواء كان برفع صوت أم لا، فهذا لا تحلُّ ذبيحته بالاتفاق، لقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1). والذبح لغير الله حرام لحديث أبي الطفيل قال: سئل عليٌّ رضي الله عنه: أخصَّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى مُحْدثًا» (¬2). شروط آلة الذبح: يُشترط في آلة الذبح شرطان: 1 - أن تكون قاطعة: سواء كانت حديدًا أم لا، وسواء كانت حادة أم كليلة ما دامت قاطعة، لأن المقصود بالذبح: قطع الودجين والمريء والحلقوم، وجريان الدم. 2 - أن لا تكون عظمًا أو ظفرًا: لحديث رافع بن خديج، قال: قلت يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غدًا وليست معنا مُدْى، قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فَكُلْ، ليس السنَّ والظُّفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» (¬3). الذبح بالآلات الكهربائية: تقدم أنه يشترط في آلة الذبح أن تكون قاطعة وأن لا تكون عظمًا أو ظفرًا، ولا شك أن الآلات الكهربائية حادة وسريعة في إتمام عملية الذبح، فشروط الآلة محققة فيها، فهي إذن صالحة للتذكية. وهنا شبهة: أنه ربما كانت هذه الآلات -لحدتها وسرعتها- تقطع رأس الحيوان!! فنقول: هذا جائز، نصَّ عليه أحمد -رحمه الله- وبه قال أبو حنيفة والثوري (¬4)، لأنه اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه، مع الذبح، فأبيح، وهذه الآلات حادة جدًّا فتأتي على قطع الرأس كله مرة واحدة فلا يتصور موت الحيوان وإزهاق روحه قبل قطع الأوداج حتى يقال: التذكية لا تجوز!! (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة: 3. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1978). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «المغنى» (8/ 578). (¬5) «المفصَّل» د. عبد الكريم زيدان (3/ 30) بنحوه.

آدابُ الذَّبح: يُستحب في الذبح أمور، منها (¬1): 1 - إحسان الذبح: وذلك يتحقق بإحداد السكين -ونحوها- وسرعة القطع، لما في ذلك من إراحة الذبيحة وعدم تعذيبها: فعن شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليُرحْ ذبيحته» (¬2). ويستحب أن يحدَّ الشفرة قبل إضجاع الشاة ونحوها، وقد كره الجمهور أن يُحدَّ الذابح شفرته بين يدي الذبيحة وهي مهيأة للذبح، لما جاء عن ابن عباس أن رجلاً أضجع شاة يريد أن يذبحها، وهو يحد شفرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتريد أن تميتها موتات؟ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها؟!» (¬3). 2 - إضجاع الذبيحة: لأنه أرفق بها، وعليه أجمع المسلمون، لحديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد، فأتى به ليضحى به، فقال لها: «يا عائشة، هلمي المدية» ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: «بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به» (¬4). «ويكون هذا الإضجاع على جانبها الأيسر، لأنه أيسر للذابح في أخذ السكين باليمنى، وإمساك رأسها باليسرى» (¬5). 3 - وضع قدمه على صفحة عنقها: فعن أنس قال: «ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما، يُسمِّي ويكبر، فذبحهما بيده» (¬6). قال النووي: «وإنما فعل هذا ليكون أثبت له وأمكن، لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه» اهـ. ¬

(¬1) انظر بعضها، وزيادة عليها في «بدائع الصنائع» (5/ 60)، و «ابن عابدين» (5/ 188). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1955). (¬3) أخرجه الحاكم (4/ 257)، والبيهقي (9/ 280)، وعبد الرزاق (8608) واختلف في وصله وإرساله. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1967)، وغيره وسيأتي في «الأضحية». (¬5) «سبل السلام» للصنعاني (4/ 162). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5558) وسيأتي.

4 - توجيه الذبيحة إلى القبلة: ويكون التوجيه بمذبحها لا بوجهها، فعن جابر ابن عبد الله قال: «ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجئين، فلما وجههما قال: «إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، على ملة إبراهيم حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر «ثم ذبح» (¬1). وعن نافع أن ابن عمر «.. كان هو ينحر هديه بيده يصفهن قيامًا (¬2) ويوجههن إلى القبلة، ثم يأكل ويُطعم» (¬3). تنبيه: ليس هذا التوجيه بشرط في الذبح، إذ لو كان كذلك لما أغفل الله تعالى بيانه وإنما هو مستحب. 5، 6 - التسمية والتكبير: وقد تقدم في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أضجع الكبش «قال: بسم الله ...» (¬4). وفي حديث أنس: «.. فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما، يُسمِّي ويكبِّر، فذبحهما بيده» (¬5). وفي حديث جابر المتقدم قريبًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بسم الله، والله أكبر» ثم ذبح (¬6). وقد مرَّ في شروط الذبح جملة من الأدلة على اشتراط التسمية. آداب النَّحْر: يستحب في النحر كل ما يستحب في الذبح، إلا أن الإبل تُنحر قائمة على ثلاث، ومعقولة (مقيَّدة) اليد اليسرى (¬7): ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (2778) وغيره، وصححه الألباني، وقد يُنازع فيه، وانظر «العلل» لابن أبي حاتم (2/ 39، 44)، وللدارقطني (7/ 20). (¬2) لأن السنة في نحر الإبل أن تكون قائمة كما سيأتي. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه مالك (854). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) تقدم قريبًا. (¬7) «البدائع» (5/ 41)، و «نهاية المحتاج» (8/ 111)، و «المقنع» (1/ 474).

1 - قال الله تعالى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ...} (¬1) ومعنى صواف: قيامًا، كما قال ابن عباس. 2 - وفي حديث أنس بن مالك -في حجة النبي صلى الله عليه وسلم-: «.. ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بُدْنٍ قيامًا، وضحى بالمدينة كبشين أملحين أقرنين» (¬2). 3 - وعن زياد بن جبير قال: «رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قيامًا مقيَّدة، سنة محمد صلى الله عليه وسلم» (¬3). إذا لم يتمكن من الحيوان ليذبحه (¬4): إذا لم يتمكن من الحيوان، وتعذَّر ذبحه، لهربه ونحو ذلك، فيجوز طعنه ورميه بالسهم ونحوه في أي موضع من جسده بحيث يجرحه ويقتله، ويحلُّ أكله بذلك، وبهذا قال جمهور العلماء -خلافًا لمالك والليث!! - لحديث رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فَنَدَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا، فافعلوا به هكذا» (¬5). وفي لفظ: «فإذا غلبكم شيء فاصنعوا به هكذا». ذكاة الجنين ذكاة أُمَّه (¬6): إذا ذبحت الذبيحة ثم خرج من بطنها جنين ميِّتًا، فأصح قولي العلماء: أن الجنين يحل أكله لأنه مذكى بذكاة أمِّه، وهو قول الجمهور خلافًا لأبي حنيفة، ويؤيد هذا القول حديث أبي سعيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين؟ فقال: «كلوه إن شئتم» وفي رواية: قلت يا رسول الله، ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته، ذكاةُ أُمِّه» (¬7). ¬

(¬1) سورة الحج: 36. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (1714)، ومسلم (690). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1713)، ومسلم (1320). (¬4) «المحلى» (7/ 446)، و «نيل الأوطار» (8/ 163)، و «السيل الجرار» (4/ 68). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5543)، ومسلم (1968). (¬6) «المجموع» (9/ 147)، و «نيل الأوطار» (8/ 164)، و «سبل السلام» (4/ 1412). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (2827)، والترمذي (1476)، وابن ماجه (3199).

الأضحية

أما إذا خرج الجنين حيًّا حياة مستقرة، لم يحلَّ أكله إلا بذبحه، والله أعلم. ما قُطع من البهيمة وهي حية (¬1): عن أبي واقد الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما قُطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» (¬2). قال ابن حزم، رحمه الله: «وما قطع من البهيمة وهي حية، أو قبل تمام تذكيتها عنها، فهو ميتة لا يحل أكله، فغن تمت الذكاة بعد قطع ذلك الشيء أُكلت البهيمة، ولم تؤكل تلك القطعة، وهذا ما لا خلاف فيه، لأنها زايلت البهيمة وهي حرام أكلها فلا تقع عليها ذكاة كانت بعد مفارقتها لما قطعت منه» اهـ (¬3). الأضحية (¬4) تعريفها: الأُضحية -بضم الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة، وفتح الضاد- هي ما يُذكى تقربًا إلى الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصة، وكأنها اشتقت من اسم الوقت الذي شرع ذبحها فيه، وبها سمى اليوم يوم الأضحى (¬5). مشروعيتها: الأصل في مشروعية الأضحية: الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب: فقول الله سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬6) قال بعض أهل العلم المراد به: الأضحية بعد صلاة العيد. وأما السنة، فعن أنس قال: «ضحَّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر، ووضع رجله على صفاحها» (¬7). ¬

(¬1) «المحلى» (7/ 449)، و «المغنى» (9/ 320 - الفكر)، و «نيل الأوطار» (8/ 166). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (2858)، والترمذي (1480) وله شواهد. (¬3) «المحلى» (7/ 449). (¬4) لأخينا في الله محمد العلاوي -حفظه الله- كتاب نافع في «فقه الأضحية» وقد قدَّم له شيخنا بارك الله فيه، فليرجع إليه. (¬5) «سبل السلام» (4/ 160)، و «ابن عابدين» (5/ 111). (¬6) سورة الكوثر: 2. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5558)، ومسلم (1966).

وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية (¬1). حكم الأضحية: اختلف أهل العلم في حكم الأضحية، على قولين (¬2): الأول: أنها واجبة على الموسر: وهو قول ربيعة والأوزاعي وأبي حنيفة والليث وبعض المالكية، واستدلوا بأدلة منها: 1 - قوله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬3) وأجيب بأن للعلماء في تأويل الآية خمسة أقوال أظهرها أن المراد: صلِّ لله، وانحر لله. 2 - حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... من ذبح قبل أن يصلي فليُعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح» (¬4). وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما قال لمن صلى راتبة الضحى مثلًا قبل طلوع الشمس: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، كذا في الفتح (10/ 6، 19). 3 - حديث البراء أن أبا بردة قال: يا رسول الله ذبحتُ قبل أن أصلي، وعندي جذعة خير من مُسنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «اجعلها مكانها، ولن تجزئ عن أحد بعدك» (¬5). وأجاب الخطابي عن الاستدلال به على الوجوب فقال: وهذا لا يدل على ما قاله لأن أحكام الأصول مراعاة في أبدالها فرضًا كانت أو نفلاً، إنما هو على الندب كما كان الأصل على الندب، ومعناه أنها تجزئ عنك إن أردت الأضحية ونويت الأجر فيها. اهـ (المعالم 2/ 199). 4 - حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة لا يجزين في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها و ...» (¬6) الحديث وسيأتي. ¬

(¬1) «المغنى» (9/ 345)، و «الحاوي» للماوردي (19/ 83)، و «المحلى» (7/ 355). (¬2) «المبسوط» (12/ 8). (¬3) سورة الكوثر: 2. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5562)، ومسلم (1960). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5560). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي (7/ 215)، وابن ماجه (3144) وغيرهم.

قالوا: فقوله: «لا يجزين ..» دليل على وجوبها!! لأن التطوع لا يقال فيه: لا تجزئ، قالوا: والسلامة من العيوب إنما تُراعى في الرقاب الواجبة، وأما التطوع فجائر أن يتقرب إلى الله فيه بالأعور وغيره. وأجيب: بأن الضحايا قربان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقرب به إلى الله عز وجل حسبما ورد به الشرع، وهو حكم ورد به التوقيت، فلا يتعدى به سنته صلى الله عليه وسلم لأنه محال أن يتقرب إليه بما قد نهى عنه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). 5 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له سعة ولم يُضَحِّ فلا يقربنَّ مُصلاَّنا» (¬2) والصواب وقفه كما رجَّحه الأئمة (¬3). القول الثاني: أن الأضحية سنة وليست واجبة: وهو مذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور والمزني وابن المنذر وداود وابن حزم وغيرهم، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يُضحى فلا يمسَّ من شعره وبشره شيئًا» (¬4). قالوا: فقوله (وأراد أن يضحي) دليل على أن الأضحية ليست بواجبة. 2 - صحَّ عن الصحابة أن الأضحية ليست بواجبة، ولم يصح عن أحد منهم أنها واجبة، قال الماوردي: «ورُوى عن الصحابة رضي الله عنهم ما ينعقد به الإجماع على سقوط الوجوب» (¬5) اهـ. قلت: من ذلك: (أ) عن أبي سريحة قال: «رأيت أبا بكر وعمر، وما يضحيان» (¬6). (ب) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: «إني لأدع الأضحى، وإني لموسر، مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليَّ» (¬7). ¬

(¬1) «التمهيد» لابن عبد البر (20/ 167). (¬2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3123)، وأحمد (2/ 321)، والحاكم (2/ 389)، والدراقطني (4/ 285)، والبيهقي (9/ 260) والصواب وقفه. (¬3) كالدارقطني في «العلل» (10/ 34)، وابن عبد البر (23/ 191) والترمذي. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1977)، والنسائي (7/ 212)، وابن ماجه (3149)، وأحمد (6/ 289) وقد اختلف في رفعه ووقفه، والأظهر رفعه. (¬5) «الحاوي» (19/ 85)، وانظر «المحلى» (7/ 358). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8139)، والبيهقي (9/ 269). (¬7) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8149)، والبيهقي (9/ 265)

ما يضحى به

قلت: الذي يظهر أن أدلة الموجبين ليست قوية في الدلالة على الوجوب، وعليه فالقول قول الصحابة رضي الله عنهم وجمهور أهل العلم. ما يُضَحَّى به 1 - لا يجزئ في الأضحية إلا الأنعام: وهي الإبل، والبقر، والضأن، والمعز لقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (¬1)، وقد نقل جماعة من أهل العلم الإجماع على أن الأضحية لا تصح إلا بها، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه يجوز أن يُضحى ببقر الوحش وبالضب، وبه قال داود في بقر الوحش، وأجازه ابن حزم بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع أو طائر (!!) واحتج بقول بلال رضي الله عنهم: «ما كنت أبالي لو ضحيت بديك ..» (¬2). قلت: ومذهب الجماهير هو المتعيِّن للآية الكريمة، ولأنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بغير الإبل والبقر والغنم. (أ، ب) أما الإبل والبقر: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ضحَّوا بها، والجمهور على أنه يجوز أن يشترك سبعة في بقرة أو بدنة، وأنها تجزئ عنهم، لما يأتي: 1 - حديث جابر بن عبد الله قال: «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (¬3). 2 - وعنه قال: «كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة، فنذبح، البقرة عن سبعة نشترك فيها» (¬4). فوائد: 1 - ذهب إسحاق وابن خزيمة وغيرهم إلى أن البدنة تجزئ عن عشرة، لحديث ابن عباس قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة وفي البعير عشرة» (¬5). ¬

(¬1) سورة الحج: 34. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8156)، وابن حزم في «المحلى» (7/ 358). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1318)، وأبو داود (2809)، والترمذي (904)، وابن ماجه (3132). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1318)، وأبو داود (2807)، والنسائي (7/ 222). (¬5) إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1501)، والنسائي (7/ 222)، وابن ماجه (3131).

وقال الشوكاني تجزئ البدنة عن عشرة في الأضحية، وعن سبعة في الهدي، جمعًا بين الأدلة، والجمهور اقتصروا على السبعة قياسًا على الهدي، وقال شيخنا: «وإن صحَّ حديث ابن عباس فالقول عليه إذ هو صريح في بابه، ولكن في نفسي منه شيء، وذلك لتفرد حسين بن واقد به، وهو وإن كان ثقة -على الإجمال- لكن قال فيه أحمد: في أحاديث زيادة لا أدري أيش هي» اهـ (¬1). قلت: قد يتأيد حديث ابن عباس، بحديث رافع بن خديج قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل في قسم الغنائم: عشرًا من الشاء ببعير ..» (¬2). 2 - اشترط الإمام مالك -رحمه الله- خلافًا للجمهور- فيمن يشترك في البدنة أو البقرة أن يكونوا من بيت واحد!! وفيه نظر لأن في حديث جابر المتقدم: «نحرنا بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» وقد كانوا أشتاتًا من قبائل شتى، ولو اتفقت قبائلهم لم تتفق بيوتهم، ولو اتفقت لتعذر أن يستكمل عدد كل بيت سبعة حتى لا يزيدوا عليهم ولا ينقصوا عنهم (¬3). 3 - أجاز الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- أن يشترك بعض السبعة بنية القُربة وبعضهم بنيَّة إرادة اللحم، لأن كل ما جاز أن يشترك فيه السبعة إذا كانو متقربين جاز أن يشتركوا فيه وإن كان بعضهم غير متقرب كالسبعة من الغنم، ولأن سهم كل واحد معتبر بنيته لا بنية غيره، لأنهم لو اختلفت قربهم فجعل بعضهم سهمه عن قران وبعضهم عن تمتع وبعضهم عن حلق وبعضهم عن لباس جاز، كذلك إذا جعل بعضهم سهمه لحمًا، لأن نية غير المتقرب لا تؤثر في نية المتقرب (¬4). 4 - السِّنُّ المجزئة في الإبل والبقر: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مُسِنَّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (¬5). والمُسنة: هي الثني من كل شيء، من الإبل والبقر والغنم فما فوقها، والثنية ¬

(¬1) «فقه الأضحية» (ص: 85) الحاشية. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2488). (¬3) «الحاوي» للماوردي (19/ 145 - 146)، و «فقه الأضحية» (ص: 89 - 90). (¬4) «الحاوي» للماوردي (19/ 145 - 146)، و «فقه الأضحية» (ص: 89 - 90). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1963)، وأبو داود (2797)، والنسائي (7/ 218)، وابن ماجه (3141).

من البقر ما لها سنتان ودخلت في الثالثة، والثنية من الإبل ما لها خمس سنين ودخلت في السادسة، فلا يجزئ ما دون ذلك فيهما» (¬1). (جـ) وأما الضأن: فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ضحى بكبشين أملحين ...» (¬2) وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد، فأتى به ليضحي به، فقال لها: «يا عائشة هلمِّي المُدْية» ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: «بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحَّى به» (¬3). وعن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون، حتى تباهى الناس فصارت كما ترى» (¬4). عن عبد الله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبت به أمه زينبُ بنت حميد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله بايعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو صغير» فمسح رأسه ودعا له، وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله (¬5). وقد ذهب إلى أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا: مالك والشافعي وأحمد، وكرهه أبو حنيفة والثوري (!!). السنُّ المجزئة في الضأن: تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مُسنَّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (¬6). فدل على أنه لا يجزئ في الأضحية ما دون المسنة -والمسنة هي الثنية، والثنية من الضأن: ما له سنة ودخل في الثانية- لكن إذا تعسَّر الثني من الضأن أجزأ الجذع -وهو ما له ستة أشهر- وعلى هذا جماهير أهل العلم لكنهم أجازوا الجذع ¬

(¬1) «المبسوط» (12/ 9)، و «المدونة» (2/ 2)، و «الحاوي» (19/ 89)، و «المغنى» (9/ 348). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1967) بغيره. (¬4) صحيح: صحيح: أخرجه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147)، والبيهقي (9/ 268). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (7210)، وأبو داود (2942) مختصرًا، وأحمد (4/ 233). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1963)، وغيره وقد تقدم.

من الضأن مطلقًا ولو لم يعجز عن المسنة!! وحملوا هذا الحديث على الاستحباب، واستدلوا بجملة أحاديث تفيد جواز الأضحية بجذع الضأن مطلقًا، وأسانيدها ضعيفة، والأظهر أنه لا يجزئ الجذع من الضأن إلا عند العجز عن المسنة لظاهر الحديث وضعف المخالف، والله أعلم (¬1). (د) وأما المعز: فيجزئ منه الثنى فما فوقه، للحديث المتقدم، وأما الجذع من المعز فلا يجزئ في الأضحية بإجماع أهل العلم (¬2). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاتك شاة لحم» فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنًا جذعة من المعز، قال: «اذبحها ولا تصلح لغيرك» ... الحديث (¬3). وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يُقسِّمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود (¬4) فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ضَحِّ به أنت» (¬5) وهذا حمله العلماء على الخصوصية لعقبة بن عامر لقوله «ضحِّ به أنت»، ويؤيده أن في الحديث زيادة عند البيهقي، «.. ولا رخصة فيها لأحد بعدك» (¬6). 2 - العيوب التي تُردُّ بها الأضحية: تنقسم العيوب التي تكون في الأضاحي إلى ثلاثة أقسام: الأول: عيوب تردُّ بها الأضحية، ولا تجزئ معها: وهي أربعة، نصت السنة على عدم إجزائها: 1 - العوراء البيِّن عورها: فإن غطَّى البياض أكثر ناظرها، بحيث بقي أقله لم تجزئ. ولا تجزئ العمياء من باب أولى. 2 - المريضة البيِّن مرضها: فإن كان مرضها خفيفًا أجزأت. ¬

(¬1) انظر «المبسوط» (12/ 9)، و «المدونة» (2/ 2)، و «الحاوي» (19/ 89)، و «المغنى» (9/ 348). (¬2) نقله الترمذي في «السنن» (4/ 194)، وابن عبد البر في «التمهيد» (23/ 185) لكن خالف عطاء والأوزاعي!! (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5556)، ومسلم (1961). (¬4) هو الجذع من المعز. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5555)، ومسلم (1965). (¬6) انظر: «فتح الباري» (10/ 17)، و «مشكل الآثار» (14/ 416)، و «سنن البيهقي» (9/ 70).

3 - العرجاء البيِّن عرجها: ومقطوعة ومكسورة الأرجل من باب أولى. 4 - الهزيلة التي لا تنقى: أي التي لا مخ لها لضعفها وهزالها. فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة لا يجزين في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقى» (¬1). وهذه العيوب تُردُّ بها الأضحية ولا تجزئ باتفاق أهل العلم (¬2). الثاني: عيوب تُكره في الأضحية، لكنها تجزئ: 1 - مقطوعة الأذن أو جزء منه: والجمهور على أنها لا تجزئ، وفيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حصر عدم الإجزاء في العيوب الأربعة المتقدمة، وإنما قال عليٌّ رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن» (¬3). فدلَّ على أنه يُجتنب ما فيه ثقب أو شق أو قطع، وليس فيه عدم الإجزاء. واختلفوا في السَّكَّاء، وهي التي خلقت بلا أذنين، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أنها إذا لم تكن لها أذن خلقة لم تجز، وإن كانت صغيرة الأذنين جازت (¬4). 2 - مكسورة القرن أو أكثره: وجمهور العلماء على جواز الأضحية بمكسورة القرن إن كان لا يدمي، فإن كان يدمي، فقد كرهه مالك، وكأنه جعله مرضًا بيِّنًا (¬5). قلت: قد ورد في بعض روايات حديث عليٍّ المتقدم النهي عن مكسورة القرن، وهي ضعيفة. الثالث: عيوب لا أثر لها: لم يصح النهي عنها، لكنها تنافي كمال السلامة، فتجزئ في التضحية ولا تحرم، وإن كان من أهل العلم من لم يجزها، كالهتماء (التي لا أسنان لها) والبتراء (مقطوعة الذنب أو الألية) والجدعاء (مقطوعة الأنف) والخصي وغير ذلك. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي (7/ 215)، وابن ماجه (3144)، وأحمد (4/ 284). (¬2) «التمهيد» (20/ 168)، و «المغنى» (9/ 349)، و «المجموع» (8/ 404). (¬3) حسن بطرقه: أخرجه النسائي (7/ 217)، وأحمد (1/ 95) ومواضع، والترمذي (1498)، وأبو داود (284)، وابن ماجه (3142) وغيرهم. (¬4) «الاستذكار» (15/ 128)، و «ابن عابدين» (9/ 467)، و «المجموع» (8/ 401). (¬5) «الاستذكار» لابن عبد البر (15/ 132).

3 - ما يستحب في الأضحية (صفات الكمال في الأضحية) (¬1): (أ) يستحب للتضحية الأسمن والأكمل: حتى إن التضحية بشاة سمينة أفضل من شاتين دونها، لأن المقصود اللحم، والسمين أكثر وأطيب، وكثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم، ومما قد يدل على استحباب الأسمن: 1 - قوله تعالى {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬2) فقد استدل به الشافعي -رحمه الله- على استحباب تعظيم الهدى واستسمانه (¬3). 2 - وعن أبي أمامة بن سهل قال: «كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون» (¬4). (ب) الأفضل في الأنعام: ذهب الجمهور -خلافًا لمالك- إلى أن أفضل الضحايا: الإبل ثم البقر ثم الغنم، واستدلوا بجملة أدلة منها: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن ...» (¬5). 2 - وحديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها ...» (¬6). وقال المالكية: أفضلها الضأن ثم البقر ثم الإبل نظرًا لطيب اللحم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: «ضحَّى بكبشين أملحين ...» (¬7)، واستدلوا بقوله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (¬8) قال: أي بكبش عظيم. ¬

(¬1) «روضة الطالبين» (2/ 465)، و «الحاوي» (19/ 92)، و «المغنى» (9/ 347)، و «المحلى» (7/ 370). (¬2) سورة الحج: 32. (¬3) «الحاوي» (19/ 94). (¬4) إسناده حسن: علَّقه البخاري (10/ 12) بصيغة الجزم، ووصله أبو نعيم في «مستخرجه» كما في «التعليق» (5/ 6). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84). (¬7) صحيح: تقدم قريبًا. (¬8) سورة الصافات: 107.

قلت: والأول أظهر لكن قد يقال: إن التضحية بشاة أفضل من المشاركة في بدنة والله أعلم. (جـ) أفضلها البيضاء ثم العفراء ثم السوداء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم «ضحَّى بكبشين أملحين» والأملح: الأبيض الخالص البياض. قال شيخ الإسلام (26/ 308): «والعفراء أفضل من السوداء، وإذا كان السواد حول عينيها وفمها وفي رجليها أشبهت أضحية النبي صلى الله عليه وسلم» اهـ. قلت: يشير إلى حديث عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد فأتى به ليضحى به ...» الحديث (¬1). قال النووي: معناه أن قوائمه وبطنه وحول عينيه أسود، والله أعلم. اهـ. (د) التضحية بالذكر أفضل من الأنثى، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في أفضل الرقاب: «أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها ..» وقد تقدم. تقليم الأظفار والأخذ من الشعر لمن أراد أن يضحي: عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يُضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا» (¬2). وقد اختلف العلماء فيمن دخلت عليه عشر ذي الحجة وهو يريد أن يضحي (¬3)، فقال ابن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي: يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يُضحي، لظاهر هذا الحديث. وذهب مالك والشافعي وأصحابه إلى أن هذا مكروه -كراهة تنزيه- وليس مُحرَّمًا، لحديث عائشة رضي الله عنها: «كنتُ أفتل قلائد بُدن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقلده ويبعث به، ولا يحرم عليه شيء أحلَّه الله حتى ينحر هديه» (¬4). قالوا: وأجمعوا على أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب كما يحرمان على المُحرِم، فدلَّ على الاستحباب والندب، دون الحتم والإيجاب. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1967)، وغيره. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1977)، وغيره وقد تقدم. (¬3) «شرح مسلم للنووي» (3/ 138)، و «المغنى» (9/ 346)، و «معالم السنن» (2/ 196) و «فقه الأضحية» (ص: 99). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1698)، ومسلم (1321).

وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك لا يُكره!! قلت: هو دائر بين التحريم والكراهة، ووجه الأول: أن قص الشعر وما يُفعل نادرًا غير مراد في خبر عائشة وإنما أرادت ما يباشرها به وما يفعله دائمًا من اللباس والطيب ونحوه. فائدتان (¬1): 1 - المراد بالنهي عن أخذ الظفر يشمل إزالته بالقلم والكسر ونحوه، والمنع من أخذ الشعر يشمل الحق والتقصير والنتف ونحوه، وسواء في ذلك شعر الإبط والشارب والعانة والرأس غير ذلك من شعور البدن. 2 - الحكمة في النهي: أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبُّه بالمُحرِم، وفيه نظر، لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المُحرِم. وقت الأُضحية: أجمع أهل العلم على أن الأضحية لا يجوز ذبحها قبل طلوع الفجر من يوم النحر، واختلفوا فيما بعد ذلك (¬2). 1 - فقال الشافعي وداود وابن المنذر وآخرون: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإن ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواءً صلى الإمام أم لا، وسواء صلَّى المضحي أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو القرى أو البوادي. 2 - وقال عطاء وأبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه. 3 - وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه. 4 - وقال أحمد: لا يجوز قبل الصلاة، ويجوز بعدها، قبل ذبح الإمام. ¬

(¬1) «شرح مسلم» للنووي (3/ 138) ط. إحياء التراث العربي. (¬2) «الإجماع لابن المنذر» (64)، و «التمهيد» (23/ 162)، و «شرح مسلم» (13/ 110)، و «المحلى» (7/ 374).

قلت: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذبح قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نُسكُه، وأصاب سنة المسلمين» (¬1). وعن البراء بن عازب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: «إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل هذا فقد أصاب سنَّتنا، ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله، ليس من النسك في شيء» فقال أبو بريدة: يا رسول الله، ذبحتُ قبل أن أصلين وعندي جذعة خير من مسنة، فقال: «اجعلها مكانها، ولن تجزئ عن أحد بعدك» (¬2). والحديثان يدُلاَّن على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة -لمن تقام فيهم صلاة العيد- ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام، فإن الإمام لو لم ينحر لم يكن ذلك مسقطًا على الناس مشروعية النحر، ولو أن الإمام نحو قبل أن يصلي لم يجزئه نحره، فدلَّ عن أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء (¬3). وأما حديث جابر قال: «صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم» (¬4) فقد تأوَّله الجمهور على أن المراد: زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت، وبهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد بالصلاة، وأن من ضحى بعدها أجزأه ومن لا فلا. آخر وقت الأضحية: اختلف العلماء في آخر وقت للأضحية على نحو الاختلاف الذي تقدم في «كتاب الحج» في أيام النحر، والذي يظهر أن التضحية تمتد إلى آخر أيام التشريق (الثالث عشر من ذي الحجة) وإن كان الأحوط أن تفعل في يوم النحر، للإجماع على إجزائها فيه، والله أعلم. مكان الذبح والنحر: يُشرع -بعد صلاة العيد- أن يذبح المضحي أو ينحر في أي مكان شاء، في منزله أو غيره، كما يُشرع أن يذبح في المصلى، كما في حديث جندب بن سفيان ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5546)، ومسلم (1962). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5560)، وقد تقدم. (¬3) «الفتح» (10/ 24) بنحوه، وانظر «الأم» (2/ 332). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1964)، وأحمد (3/ 294)، و «المحلى» (7/ 374).

قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعد أن صلى وفرغ من صلاته سلَّم، فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذُبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقال: «من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح بسم الله» (¬1). فظاهره أنهم ذبحوا في المصلى. ويستحب للإمام أن يذبح بالمصلى ليعلموا أن الضحية قد حلَّت، وليتعلموا منه صفة الذبح، فعن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى» (¬2). ما ينتفع به من الأضحية: 1 - الأكل منها. 2 - التصدق على الفقراء. 3 - الإدِّخار من لحمها. قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬3). وعن سلمة بن الأكوع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء» فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: «كلوا، وأطعموا، وادَّخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردتُ أن تعينوا فيها» (¬4). والأمر بالأكل والإطعام والادخار هنا للندب لا للوجوب -عند الجمهور- فيستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته ويدَّخر ويُطعم، وذهب أكثرهم إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل الثلث هو وأهله، وقد ورد في هذا آثار ضعيفة، وعلى كلٍّ فله أن يقسِّمها كما شاء، ولو تصدَّق بها كلها جاز، فعن عليٍّ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدنْه، وأن يقسم بُدنه كلها لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطى في جزارتها شيئًا» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1960)، والنسائي (7/ 214). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5552)، وأبو داود (2811)، والنسائي (7/ 213)، وابن ماجه (3161). (¬3) سورة الحج: 28. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5569)، ومسلم (1974). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (1717)، ومسلم (1317).

ما لا ينتفع من الأضحية (¬1): 1 - لا يجوز بيع بشيء منها: لا جلد ولا صوف ولا شعر ولا لحم ولا عظم ولا غير ذلك، وقد ورد من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها ...» (¬2) لكنه ضعيف. لكن الأموال المستحقة في القُرَب لا يجوز للمتقرب بيعها كالزكوات والكفارات، ويدلُّ على هذا أيضًا أنه لا يجوز أن يعطى الجزار أجرته من لحم الأضحية، كما سيأتي. وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه!! والأظهر عدمه، والله أعلم. 2 - لا يعطى الجزار أجرته من الأضحية: لأنه يصير معاوضًا به، وإنما يعطيه أجرته من ماله، وله أن يتصدق عليه من الأضحية -لا من أجرته- فعن عليٍّ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدْنِه، وأن يقسم بُدْنَهُ كلها: لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطى في جزارتها شيئًا» (¬3) وفي لفظ أنه قال: «نحن نعطيه من عندنا» (¬4). وبهذا قال الجماهير من أهل العلم، ولمُ يرخِّص في إعطاء الجزار منها أجرته إلا الحسن البصري وعبد الله بن عبيد بن عمير في إعطائه الجلد. فوائد (¬5): 1 - الأضحية أفضل من التصدق بثمنها: وعلى هذا جماهير أهل العلم، لأن الأضحية سنة مؤكدة واختلف في وجوبها -كما تقدم- بخلاف صدقة التطوع، ولأن التضحية شعار ظاهر (¬6). ¬

(¬1) «الحاوي» (19/ 119)، و «المغنى» (9/ 356)، و «المحلى» (7/ 385). (¬2) ضعيف: أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 15). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1317). (¬5) «فقه الأضحية» للأخ محمد العلاوي أثابه الله (ص: 144 - وما بعدها) بانتفاء وتصرُّف. (¬6) «التمهيد» (23/ 192)، و «المجموع» (8/ 425)، و «مجموع الفتاوى» (36/ 304).

العقيقة

2 - إذا ضلَّت الأضحية قبل أن يضحي بها فلا يلزمه شيء: فعن تميم بن حويص قال: اشتريت شاة بمنى أضحية، فضلَّت، فسألت ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: «لا يضرُّك» (¬1). وعن ابن عمر قال: «من أهدى بدنة، ثم ضلَّت أو ماتت، فإن كانت نذرًا أبدلها، وإن كان تطوُّعًا فإن شاء أبدلها وإن شاء تركها» (¬2). قلت: ويلحق بهذا لو مرضت أو ماتت قبل التضحية، والله أعلم. 3 - هل تنقل الأضاحي إلى بلد آخر؟ الأصل أن محلَّ التضحية بلد المُضَحِّي، لأن أطماع الفقراء فيه تمتد إليها، ومع هذا فلا مانع من نقلها إلى غيره إذا دعت المصلحة إلى ذلك، ففي حديث جابر بن عبد الله -في لحوم الهدي-. قال: كنا لا نأكل من لحوم بُدْننا فوق ثلاثة بمنى، فرخَّص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلوا، وتزوَّدوا» فأكلنا وتزوَّدنا (¬3). العقيقة تعريف العقيقة (¬4): أصل العقِّ: الشق والقطع، وقيل للذبيحة عقيقة لأنه يُشقُّ حلقُها. ويقال للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه سواء من الناس أو البهائم. والعقيقة اصطلاحًا: ما يُذكَّى عن المولود شكرًا لله تعالى بنيةٍ وشرائط مخصوصة. مشروعيتها وحكمها الشرعي: العقيقة مشروعية في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وعائشة، وفقهاء التابعين وأئمة الأمصار، للأدلة الآتية: 1 - حديث سليمان بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى» (¬5). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (9/ 289)، وابن حزم (7/ 358). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مالك (866)، والبيهقي (9/ 289). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1719)، ومسلم (1972). (¬4) «المغنى» (9/ 362)، و «سبل السلام» (4/ 1426)، و «الموسوعة الفقهية» (30/ 276). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري معلِّقًا مجزومًا به (5472)، وأحمد (4/ 18)، والنسائي (7/ 164)، وأبو داود (2839)، والترمذي (1515).

2 - وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى» (¬1). 3 - حديث سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويُسمَّى» (¬2). 4 - وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» (¬3). 5 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا» (¬4). وقد ذهب الحسن وداود إلى أن العقيقة واجبة، للأوامر المتقدمة، وذهب الجمهور إلى أنها مستحبة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك ...» فجعلوه صارفًا للأوامر السابقة. بينما كرهها أبو حنيفة وأصحاب الرأي!! واستدلوا بنحو ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: «لا يحب الله العقوق» كأنه كره الاسم -وقال:- «من ولد له ولد فاحب أن ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» (¬5). وهو ضعيف، وعلى فرض صحته، فقد قال الحافظ في «الفتح»: «ولا حجة فيه لنفي مشروعيتها، بل آخر الحديث يثبتها، إنما غايته أن يؤخذ أن الأولى أن تسمى نسيكة أو ذبيحة وأن لا تسمى عقيقة ...» اهـ. قلت: قد سمَّاها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث. واستدلوا -كذلك- بما يُروى عن أبي رافع أن الحسن بن علي لما عقيقة ولد أرادت أمُّه فاطمة أن تعقَّ عنه بكبشين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تعقي عنه، ولكن احلقي شعر رأسه ثم تصدَّقي بوزنه من الورق في سبيل الله» ثم ولد حسين بعد ذلك فصنعت مثل ذلك (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البزار (1236 - زوائد)، والحاكم (4/ 238). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (2838)، والنسائي (7/ 166)، والترمذي (1522)، وابن ماجه (3165) وغيرهم. (¬3) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 31)، والترمذي (1513)، وابن ماجه (3163) وله شواهد. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (2841)، والنسائي (7/ 166)، وغيرهما وله شواهد كثيرة. (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (2842)، والنسائي (7/ 162)، وأحمد (2/ 194)، والبيهقي (9/ 300). (¬6) ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 392)، والطبراني في «الكبير» (1/ 917)، والبيهقي (9/ 304).

وهو حديث ضعيف كذلك، فلم يبق لمن كرهها حجة، وقد استفاضت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على العقيقة والتحريض على فعلها، وفعلها صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين. من الذي يُطالَبُ بالعقيقة؟ (¬1) تُطلب العقيقة من الأب -أو من تلزمه نفقة المولود- فيؤديها من مال نفسه لا من مال المولود، ولا يفعلها غيره إلا بإذنه. ولا يؤثر في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين، لاحتمال أن نفقتهما كانت عليه لا على والديهما، ولأنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقد رُوى مرفوعًا «كل بني أم ينتمون إلى عصبة، إلا ولد فاطمة رضي الله عنهما، فأنا وليُّهم، وأنا عصبتهم» وفي لفظ: «وأنا أبوهم» (¬2) وهو ضعيف. وقد اشترط الشافعية فيمن يطالب بها أن يكون موسرًا، وذلك بأن يقدر عليها وتكون فاضلة عن مؤنته ومؤنة من تلزمه نفقته. وصرَّح الحنابلة بأنها تُسنُّ في حق الأب وإن كان معسرًا، ويقترض إن كان يستطيع الوفاء، قال الإمام أحمد: «إذا لم يكن مالكًا ما يعق فاستقرض، أرجو أن يُخلف الله عليه، لأنه أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» اهـ. ما يجزئ في العقيقة: تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة» (¬3) وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن عباس وعائشة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور (¬4). وقال بعض أهل العلم: تجزئ شاة عن الغلام، وشاة عن الجارية، وبه قال ابن عمر. ويستدل له بحديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا» (¬5). ¬

(¬1) «سبل السلام» (4/ 1429)، و «الموسوعة» (30/ 277). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو يعلى (6741)، والطبراني (3/ 44) وغيرهما وانظر «المجمع» (4/ 224 - 9/ 173). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «المغنى» (9/ 363)، و «الموسوعة» (30/ 279). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا.

وهل تجزئ بغير الغنم؟ عن ابن أبي مليكة، قال: نفس لعبد الرحمن بن أبي بكر غلام، فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين، عُقِّي عنه جزورًا، فقالت: «معاذ الله، ولكن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاتان مكافئتان» (¬1). وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن الإطلاق في قوله صلى الله عليه وسلم: «أهريقوا عنه دمًا» مُقيَّد بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: «عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة» فقالوا: لا يجزئ غير الغنم، ولا يقوم مقامها الإبل والبقر. ينبغي أن تكون خالية من العيوب: التي لا يصح بها القربان من الأضاحي وغيرها، وقال ابن حزم في «المحلى»: «ويجزئ فيها المعيب سواء كان مما يجوز في الأضاحي أو كان مما لا يجوز فيها والسالم أفضل» اهـ. قلت: يكفي قوله تعالى {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا» (¬3). من أحكام العقيقة (¬4): 1 - وقتها: السُّنة أن يُعقَّ عن المولود يوم السابع، لحديث سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى» (¬5) فإن فات يوم السابع، ففي أربع عشرة فإن فات ففي إحدى وعشرين، وبهذا قال الحنابلة -وهو قول ضعيف عند المالكية- وبه قال إسحاق، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها. وإن ذبح قبل ذلك أو بعد أجزأه، لأن المقصود يحصل به. وقد نصَّ الشافعية على أن العقيقة لا تفوت بتأخيرها، لكن يستحب ألا تؤخر عن سنِّ البلوغ، فإن أُخرت حتى يبلغ سقط حكمها في حق غير المولود، وهو مخيَّر في العقيقة عن نفسه (¬6). 2 - العقيقة أفضل من التصدق بثمنها: لأن نفس الذبح وإراقة الدماء مقصود، ¬

(¬1) حسن: أخرجه الطحاوي في «المشكل» (1/ 457)، والبيهقي (9/ 301). (¬2) سورة البقرة: 267. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1015)، وغيره. (¬4) انظر «أحكام الطفل» لشيخي أحمد العيسوي -رفع الله قدره- (ص: 172 - وما بعدها) ط. الهجرة وما سأذكره من مراجع. (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) «المغنى» (9/ 364 - الفكر)، و «الموسوعة» (30/ 278).

الأشربة

فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬1) ثم إن الذبح هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وسنته لا ينبغي أن نحيد عنها. 3 - لا يصح الاشتراك في العقيقة: فلا يجزئ الرأس إلا عن رأس، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دمًا ...» (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل غلام رهينة بعقيقته ...» (¬3) فجعل مع كل غلام عقيقة مستقلة به، ولم يشرع الاشتراك فيها كما شرع في الهدايا والأضاحي. 4 - لم يصحَّ في المنع من كسر عظام العقيقة، ولا في كراهة ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصحَّ كذلك الأمر بإرسال الرِّجل إلى القابلة. 5 - لا يُمسُّ المولود بشيء من دم العقيقة: فهذه عادة جاهلية نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم (¬4) واستبدل بها حلق رأسه والتصدق بوزن شعره فضة: فعن بريدة رضي الله عنه قال: «كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران» (¬5) وعن عائشة - في حديث العقيقة- قالت: «وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة، ويجعلونه على رأس الصبي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكان الدم خلوقًا» (¬6). 6 - يستحب طبخها دون إخراج لحمها نيئًا: حتى يكفي المساكين والجيران مؤنة الطبخ وهو زيادة في الإحسان وفي شكر هذه النعمة، ودليل على مكارم الأخلاق والجود. الأشربة التعريف: الأشربة جمع شراب، والشراب: اسم لما يُشرب من أي نوع كان، ماء أو غيره، وعلى أي حال كان، وكل شيء لا مضغ فيه فإنه يقال فيه: يُشرب (¬7). ¬

(¬1) سورة الكوثر: 2. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) انظر كتابي «250 خطأ من أخطاء النساء» (ص: 11). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2843)، والطحاوي في «المشكل» (1/ 460)، والحاكم (4/ 238). (¬6) صحيح: أخرجه ابن حبان (1057)، والبيهقي (9/ 303). (¬7) «لسان العرب»، و «مختار الصحاح» مادة (شرب).

الأصل في الأشربة الحِلُّ، إلا ما ورد النص بتحريمه: لعموم الأدلة المتقدمة -في الأطعمة- التي تثبت أصالة الحِلِّ، ولحديث أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: «لقد سقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القدح الشراب كلَّه: الماء، والنبيذ، والعسل واللبن» (¬1). الخمر بأنواعها حرام: وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع: 1 - قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (¬2). وقد أُكد تحريم الخمر -في الآيتين- بوجوه من التأكيد منها: (أ) تصدير الجملة بـ «إنما». (ب) أنه سبحانه وتعالى قرنها بعبادة الأصنام. (جـ) أنه جعلها رجسًا. (د) أنه جعلها من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت. (هـ) أنه أمر باجتنابها. (و) أنه جعل الاجتناب من الفلاح، فيكون الارتكاب خيبة وممحقة. (ز) أنه ذكر ما ينتج منها من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر، وما تودي إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة. (ح) وقوله تعالى {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} من أبلغ ما يُنهى به، كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون، أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟! (¬3). 2 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» (¬4). كلُّ مسكر خمر: ذهب جماهير العلماء، منهم: أهل المدينة وسائر الحجازيين، وأهل الحديث، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2008)، والترمذي في «الشمائل» (1/ 294). (¬2) سورة المائدة: 90، 91. (¬3) «تفسير القرطبي» (6/ 285 - الكتب)، و «الطبري» (7/ 31)، و «الألوسي» (7/ 15). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3674)، والترمذي (1295)، وابن ماجه (3380).

والحنابلة، وبعض الشافعية إلى أن كل ما أسكر فهو خمر حقيقة، سواء اتخذ من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو غيرها (¬1). 1 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قالوا: وما طينة الخبال؟ قال: «عصارة أهل النار» (¬2) وفي لفظ عند مسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام». 2 - وعن عمر قال: «أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل» (¬3). 3 - ولأن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة -وهم أهل اللسان- أن كل شيء يسمى خمرًا يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب، بل إن الخمر إنما حرمت بالمدينة، وما بها عنب (!!) وما كان شرابهم إلا البسر والتمر. على أن الخمر إنما سميت خمرًا لأنها تخمر العقل وتغيِّبه وتستره فعمت كلَّ مسكر. وذهب أكثر الشافعية، وصاحبا أبي حنيفة وبعض المالكية إلى أن الخمر هي المسكر من عصير العنب إذا اشتد، سواء أقذف بالزبد أم لا. فائدتان: 1 - إذا أسكر الكثير، فالقليل حرام: وعلى هذا جماهير أهل العلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل ما أسكر حرام، وما أسكر الفرق، فملء الكف منه حرام» (¬4). تنبيه: جمهور الشافعية الذين ذهبوا إلى أن الخمر من عصير العنب لا يخالفون الجمهور في أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، والاختلاف في الإطلاق بين الجمهور وأكثر الشافعية، لم يغيِّر الأحكام من جوب الحد عند شرب قليله، والنجاسة، وغير ذلك مما يتعلق بالخمر، ما عدا مسألة تكفير مستحلِّ الخمر، فلا يكفر منكر حكمه للاختلاف فيه. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (5/ 288)، و «المدونة» (6/ 261)، و «الدسوقي» (4/ 353)، و «الروضة» (10/ 168)، و «المغنى» (9/ 159). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2002)، والنسائي (8/ 327)، وأحمد (3/ 361). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5581)، ومسلم (3032). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3687)، والترمذي (1928).

وأما الحنفية، فالأنبذة من غير العنب عندهم لا يُحدُّ شاربها إلا إذا سكر منها!! والحديث حجة عليهم. 2 - كلُّ ما غيَّب العقل فهو خمر: لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «.. والخمر ما خامر العقل» (¬1). ويدخل في هذا الحشيشة والأفيون والهيروين والبانجو ونحوها من المخدرات وهي حرام بإجماع الفقهاء لحديث أم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومُفتِّر» (¬2). قال شيخ الإسلام: «هذه الحشيشة الصلبة حرام، وهي مسكرة يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمرة توجب الحركة والخصومة، وهذه الحشيشة توجب الفتور والذلة». ثم قال -رحمه الله-: «.. ومن استحلها وزعم أنها حلال فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل مرتدًّا، فإن كل ما يصيب العقل فهو حرام بإجماع المسلمين» اهـ (¬3). شرب الخمر للمضطر (¬4): ما سبق من تحريم الخمر إنما هو في الأحوال العادية، أما عند الاضطرار فيرخَّص شرعًا تناول الخمر، لكن بمعياره الشرعي الذي تُباح به المحرمات، كضرورة العطش الذي يخشى معه الهلاك أو الغصص أو الإكراه، فيتناول المضطر بقدر ما تندفع به الضرورة، قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬5). فأسقط الله تعالى تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة، فعمَّ ولم يخصَّ فلا يجوز تخصيص ذلك. وقد منع المالكية -وهو الأصحُّ عن الشافعية- شربها لدفع العطش، قالوا: ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3686)، وأحمد (6/ 254). (¬3) «مجموع الفتاوى»، وانظر: «ابن عابدين» (6/ 457)، و «سبل السلام» (4/ 1322)، و «الزواجر» للهيثمي (1/ 172). (¬4) «المحلى» (7/ 426)، و «فتح القدير» (9/ 28)، و «الدسوقي» (4/ 353)، و «مغنى المحتاج» (4/ 188)، و «كشاف القناع» (9/ 117). (¬5) سورة الأنعام: 119.

لأنها لا تزيل العطش، بل تزيده حرارة لحرارتها ويبوستها، وأجيب: بأنه قد صحَّ أن كثيرًا من المدمنين عليها من الكفار والخلاع لا يشربون الماء أصلاً مع شربهم الخمر، وعلى كلٍّ فالآية عامة كما تقدم ولا يجوز تخصيص الخمر بالمنع عند خوف الهلاك، لكن هذا موقوف على دفع العطش بها، وإلا لم يجز كما قرره شيخ الإسلام (¬1). لا يجوز تملُّك الخمر ولا تمليكها: يحرم على المسلم تملُّك أو تمليك الخمر بأي سبب من أسباب الملك الاختيارية أو الإرادية، كالبيع والشراء والهبة ونحو ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها» (¬2). وعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» (¬3). ضمان إتلاف الخمر (¬4): اتفق الفقهاء على أن الخمر إن كانت لمسلم فلا يضمن متلفها، واختلفوا في ضمان من أتلف خمرًا لذمي، فقال الحنفية والمالكية: يضمنها!!، وقال الشافعية والحنابلة: لا يضمنها لانتفاء تقوُّمها كسائر النجاسات. الخمر تصير خلاًّ: 1 - إذا تخللت الخمر بنفسها: بغير قصد التخليل، فإن هذا الخلَّ يحلُّ بلا خلاف بين الفقهاء (¬5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: «نِعْم الإدام الخل» (¬6). ويُعرف التخلل بالتغيُّر من المرارة إلى الحموضة. ¬

(¬1) انظر «مجموع الفتاوى» (14/ 471). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1579)، والنسائي (4664)، والدارمي (2103). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581). (¬4) «ابن عابدين» (5/ 292)، و «مواهب الجليل» (5/ 280)، و «الشرح الكبير» (5/ 376 - مع المغنى)، و «نهاية المحتاج» (5/ 165). (¬5) «المحلى» (1/ 117 - 7/ 433)، و «الموسوعة» (5/ 27). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (2051)، والترمذي (1839)، والنسائي (3796)، وأبو داود (3820).

2 - إذا خُللَّت الخمر بوضع شيء فيها: كالخل والبصل والملح، أو إيقاد نار عندها، فاختلف أهل العلم في حكمها على قولين (¬1): الأول: لا يجوز تخليلها، ولا يحل هذا الخل: وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مذهب الشافعية والحنابلة ورواية عن مالك، وحجتهم: 1 - أن التخليل يعتبر اقترابًا من الخمر على وجه التمول، وهو مخالف للأمر بالاجتناب في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). 2 - حديث أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر تُتَّخذ خلاًّ، فقال: «لا» (¬3). وفي لفظ: أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا؟ قال: «أهرقها» قال: أفلا نجعلها خلاًّ؟ قال: «لا» (¬4). وهذا النهي يقتضي التحريم، ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز إراقتها، ولكان أرشدهم إليه خصوصًا وأنها لأيتام يحرم التفريط في أموالهم. فقال: أمرته أن يبيعها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي حرم شربها حرَّم بيعها» ففتح الرجل المزادتين حتى ذهب ما فيهما» (¬5). 3 - عن ابن عباس قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الله حرمها؟» فقال: لا. فساره رجل إلى جنبه، فقال: «بمَ ساررتَه؟». 4 - عن عمر رضي الله عنه أنه صعد المنبر فقال: «لا تأكل خلاًّ من خمرٍ أُفسدت، حتى يبدأ الله تعالى إفسادها، وذلك حين طاب الخل، ولا بأس على امرئ أصاب خلاًّ من أهل الكتاب أن يبتاعه ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها» (¬6). وهذا قول يشتهر بين الناس، لأنه إعلان للحكم بين الناس على المنبر، فلم ينكر أحد. الثاني: يجوز تخليلها، ويحلُّ الخلُّ: وهو مذهب الحنفية والراجح عند المالكية وهو قول أبي محمد بن حزم، وحجتهم: ¬

(¬1) «المحلى» (7/ 433)، و «البدائع» (5/ 114)، و «القوانين الفقهية» (34)، و «المغنى» (9/ 145)، و «نيل الأوطار» (8/ 214). (¬2) سورة المائدة: 90. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1983)، وغيره. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3675)، وأحمد (3/ 119). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (ص: 104).

1 - أنه إصلاح، والإصلاح مباح قياسًا على دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره. 2 - ما يُروى مرفوعًا -في جلد الشاة الميتة-: «إن دباغها يحله كما يحل خل الخمر» (¬1) وهو ضعيف. 3 - ما يُروى مرفوعًا: «خير خلِّكم، خلُّ خمركم» (¬2)!! وهو ضعيف. 4 - لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «نعم الإدام الخل» (¬3) فلم يفرق بين التخلل بنفسه والتخليل. 5 - لأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح، لأنه يشبه إراقة الخمر. الراجح: الذي يظهر أن أدلَّة الأوَّلين أقوى فيحرُم تخليل الخمر، لكن إذا أهدى إلى إنسان خلٌّ مصنوع فلا حرج في أكله لزوال الوصف المفسد، ومع هذا فلا يجوز له شراؤه لأن فيه إعانة على الإثم، وقد قال سبحانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬4). وأما ما تخلل بنفسه فلا حرج في شرائه أو أكله كما تقدم والله أعلم. لا يجوز التَّداوي بالخمر (¬5): ذهب جمهور العلماء إلى تحريم التداوي بالخمر (أي المسكرات) بل: يُحدُّ من شربها لدواء عندهم، ويؤيد التحريم ما يأتي: 1 - حديث طارق بن سويد الجعفي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟ فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» (¬6). قال شيخ الإسلام (¬7): «فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر، ردًّا على من أباحه، وسائر المحرمات مثلها قياسًا، خلافًا لمن فرَّق بينهما» اهـ. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه الدارقطني (4/ 266). (¬2) ضعيف: أخرجه البيهقي في «المعرفة»، وانظر: «نصب الراية» (4/ 311). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) سورة المائدة: 2. (¬5) «البدائع» (6/ 2935)، و «الدسوقي» (4/ 352)، و «مغنى المحتاج» (4/ 188)، و «كشاف القناع» (6/ 116)، وانظر: «التداوي بالمحرمات» لشيخنا ساعد بن عمر غازي، رفع الله قدره. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1984). (¬7) «مجموع الفتاوى» (21/ 568)، وانظر: «مختصر الفتاوى المصرية» (ص: 490).

قلت: فكيف يعقل لطبيب مسلم علام بشرعه أن يصف دواءً، وصفه نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه داء؟! 2 - وعن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث» (¬1). 3 - وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بحرام» (¬2). فهذه الأدلة تدل على تحريم التداوي بالأدوية المحرمة عامة، وبالخمر خاصة. فإن قيل: لماذا لم تُعمل قاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات» نقول: لأمرين: 1 - أن التداوي لا يدخل في باب الضرورات على الراجح: فليس التداوي بواجب عند جماهير الأئمة، حتى قال شيخ الإسلام (¬3): «ولست أعلم سالفًا أوجب التداوي» اهـ. ومما يدل على هذا حديث ابن عباس، في المرأة السوداء التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع، فادعُ الله لي، قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوتُ الله أن يعافيك ...» الحديث (¬4) ولو كان دفع المرض واجبًا لم يكن للتخيير موضع. «ولا يخالف هذا الأمر بالتداوي، فالجمع ممكن بأن التفويض (ترك التداوي) أفضل مع الاقتدار على الصبر، وأما مع عدم الصبر على المرض وصدور الحرج، فالتداوي أفضل لأن أفضلية التفويض قد ذهبت بعدم الصبر» اهـ (¬5). 2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على تحريم التداوي بالمحرم، كما تقدم، والله أعلم. تنبيه: البنج ونحوه مما يُغيِّب العقل -إذا لم يوجد ما يقوم مقامه- يجوز استعماله عند الضرورة الملجئة في العمليات الجراحية (¬6). حكم الخليطين من الأشربة (¬7): لا يجوز خلط شيئين مما يقبل الانتباذ (النقع) في الماء، كالبُسر والرطب، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3870)، وابن ماجه (3459)، وأحمد (2/ 446). (¬2) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (3874)، والبيهقي (10/ 5)، وانظر «الصحيحة» (1633). (¬3) «مجموع الفتاوى» (21/ 564). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5652)، ومسلم (2265). (¬5) «الدراري المضية» للشوكاني (ص: 393). (¬6) أشار إلى نحو هذا الحافظ في «الفتح» (10/ 80)، والنووي في «المجموع» (3/ 8). (¬7) المنتقى للباجي (3/ 149)، و «مغنى المحتاج» (4/ 187)، و «كشاف القناع» (6/ 96)، و «المحلى» (7/ 508)، و «نيل الأوطار» (8/ 211).

والتمر والزبيب، ولو لم يشتدَّا، لحديث أبي قتادة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة» (¬1). وعن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر» (¬2). ووجه النهي عن انتباذ الخليطين أن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط قبل أن يتغير، فيظن الشارب أنه ليس بمسكر، ويكون مسكرًا، فنهى عنه سدًّا للذريعة. وقد ذهب إلى تحريم الخليطين -وإن لم يكن مسكرًا- مالك، وهو ظاهر كلام أحمد والشافعي، وبه قال إسحاق وابن حزم (لكنه خصَّه بالأنواع المذكورة دون غيرها). وذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة إلى أنه يكره ما لم يصل إلى حدِّ الإسكار فيحرُم حينئذ، وأوَّل الحنابلة قول أحمد -رحمه الله-: «الخليطان حرام» بأن مراده: إذا اشتد وأسكر. وأما أبو حنيفة -رحمه الله- فقال: لا بأس بالخليطين ما لم يصل إلى حدِّ الإسكار!! لأن كلاًّ منهما يحل منفردًا فلا يُكره مجتمعًا (!!) واستُدلَّ له بما يُروى عن عائشة قالت: «كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحها، ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة، فيشربه عشية، وننبذه عشية فيشربه غدوة» (¬3) وهو ضعيف لا يحتج به. قلت: النهي يقتضي التحريم ما لم يصرفه صارف، ثم إن من المعلوم أنه إذا وُجد الإسكار حَرُم الشراب سواء كان من خليطين أو من نوع واحد مستقلٍّ!! النبيذ من صنف واحد (¬4): النبيذ هو: ما يلقى من التمر أو الزبيب أو نحوهما في الماء حتى يحلو ويكسبه طعمه، ثم يشرب. وهو مباح إذا كانت مدة الانتباذ قريبة أو يسيرة بحيث لم يشتد ولم يصر مسكرًا، وحدَّ الحنابلة هذه المدة بيوم وليلة (!!) وأما المالكية والشافعية فلم يعتبروا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5173)، ومسلم (1987). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1986). (¬3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3398). (¬4) «المدونة» (6/ 263)، و «روضة الطالبين» (10/ 168)، و «المغنى» (8/ 317 - 319)، و «فتح الباري» (10/ 57).

المدة وإنما اعتبروا الإسكار، قلت: وهو الأقرب، فعن جارية حبشية قالت: «كنت أنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم في سقاء من الليل وأوكيه وأعلقه، فإذا أصبح شرب منه» (¬1). وعن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقاه الخادم، أو أمر به فصُبَّ» (¬2). أي: إن كان بدا في طعمه بعض التغيير ولم يشتد سقاه الخادم، وإن اشتد أمر بإهراقه. شرب الدُّخان (التدخين): عندما ظهر (التبغ) واستعمله بعض الناس، وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة، اختلف الفقهاء في حكمه، فمنهم من قال بحرمته، ومنهم من كرهه ومنهم من أباحه!! وخلاصة القول فيه أن التدخين حرام، لأن كل علل التحريم متوفرة فيه وهي: 1 - كونه يحدث تفتيرًا وخَدَرًا في الجسم، وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومُفتِّر» (¬3). 2 - كونها من الخبائث لاسيما وأن هذه العُشبة (التنباك) تُبَل بالخمر ولابد (!!) ولا يتصور عاقل أن «الدخان» من الطيبات، وقد قال تعالى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (¬4). 3 - أن هذا الدخان قد ثبت ضرره على بدن الإنسان لما فيه من المواد السامة المهلكة كالنيكوتين والقطران وغيرهما مما يتسبب في سرطان الرئة والحنجرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (¬5). وقال سحبانه {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (¬6) ولا فرق في حرمة المُضرِّ بين كل ضرره دفعيًّا -أي: يحصل دفعة واحدة- أو تدريجيًّا. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2005). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2004). (¬3) ضعيف: تقدم قريبًا. (¬4) سورة الأعراف: 157. (¬5) حسن: تقدم كثيرًا. (¬6) سورة النساء: 29.

4 - أن فيه إسرافًا وإضاعة للمال، وقد «كره النبي صلى الله عليه وسلم إضاعة المال» (¬1) ولا فرق في إضاعة المال بين إلقائه في البحر أو إحراقه في النار. فائدة: التدخين يُعجِّل في سن اليأس للمرأة (¬2): فقد نشرت مجلة «لافست» الطبية مقالاً عن الدخان جاء فيه: «لقد توصلت دراسة أمريكية حديثة إلى نفس النتيجة التي توصل إليها العلماء في بريطانيا، وهي أن المدخنات من النساء عرضة لبلوغ سن اليأس في وقت مبكر، والتجارب الأمريكية على (3500) امرأة في منتصف العمر أكدت هذه النتيجة» اهـ. آداب الشرب: 1 - التسمية قبل الشرب. 2 - الشرب باليمين: وقد تقدم الدليل عليهما في آداب الطعام. 3 - أن يشرب جالسًا، ويجوز قائمًا: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشربنَّ أحدكم قائمًا، فمن نسي فليستقيء» (¬3). والنهي محمول على كراهة التنزيه، فقد ثبت عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم من دلو منها وهو قائم» (¬4). 4 - أن يشرب على ثلاث مرات، يتنفس بينها خارج الإناء: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفَّس بنفسين أو ثلاثة يفصل فاه عن الإناء ويقول: «إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ» (¬5). 5 - أن لا يتنفس أو ينفخ في الإناء: فعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفَّس في الإناء» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (1715). (¬2) «الأشربة وأحكامها في الشريعة الإسلام» د. ماجد أبو رخية، عن «المفصل» (3/ 71). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (3775). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5617)، ومسلم (2027). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5631)، ومسلم (3782) واللفظ له. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (153)، ومسلم (267).

الآنية وما يتعلق بها

وعن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه» (¬1). 6 - أن لا يشرب من فم القربة أو الزجاجة ونحوها: فعن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من فيِّ السِّقاء» (¬2). لأن الماء يتدفق وينصبُّ في حلقه دفعة واحدة، وهو يورث الكباد، ويضر بالمعدة، ولا يتميَّز في دفق الماء وانصبابه القذاة ونحوها (¬3). 7 - البدء بالأيمن فالأيمن عند سقاية القوم: عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي، وقال: «الأيمن فالأيمن» (¬4). وعن سهل بن سعد، قال: «أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: «يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟» قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه» (¬5). 8 - أن يكون ساقي القوم آخرهم شربًا: لحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الساقي آخرهم شربًا» (¬6). 9 - حمد الله بعد الفراغ من الشرب: لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يشرب الشربة فيحمده عليها» (¬7). الآنية وما يتعلَّق بها 1 - الأصل في الآنية أنه يحل استعمالها إلا ما ورد النص بتحريمه: لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (¬8). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3728)، والترمذي (1889)، وابن ماجه (3429). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5627). (¬3) «الروضة الندية» (2/ 210). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2352)، ومسلم (2029). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2351)، ومسلم (2030). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (681). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (2734)، والترمذي (1816). (¬8) سورة البقرة: 29.

2 - لا يجوز الأكل أو الشرب في آنية الذهب أو الفضة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر (¬2) في بطنه نار جهنم» (¬3). 3 - آنية الكفار إذا لم يوجد غيرها، تُغسل ويؤكل فيها: لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني: «... أما ما ذكرت من أنك بأرض قوم أهل كتاب تأكل في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها ...» (¬4). 4 - يستحب تغطية الآنية وإيكاء القِرَب ونحوها والتسمية عليها قبل النوم: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأوكوا قربكم، واذكر اسم الله، وخمِّروا آنيتكم، واذكروا اسم الله، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة، فأحرقت أهل البيت» (¬5). ¬

(¬1) البخاري (5633)، ومسلم (2067). (¬2) الجرجرة: صوت الماء في الجوف. (¬3) البخاري (5634)، ومسلم (2065). (¬4) البخاري (5488)، ومسلم (1930). (¬5) البخاري (6295)، ومسلم (2012)، وأبو داود (5103).

صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة تأليف أبي مالك كمال بن السيد سالم الجزء الثالث الطبعة الثانية عشر

9 - كتاب اللباس والزينة وأحكام النظر

9 - كتاب اللباس والزينة وأحكام النظر

أولا: اللباس والزينة للرجال

أولًا: اللباس والزينة للرجال * وجوب ستر العورة: العورة لغة: كل خلل يتخوف منه من ثغر أو حرب، والعورة كل مكمن للستر، وعورة الرجل والمرأة: سوأتهما (¬1). والعورة اصطلاحًا: "كل ما حرَّم الله تعالى كشفه أمام من لا يحل النظر إليه" (¬2). وقد أوجب الشرع حفظ العورات وسترها عمن لا يحل له النظر إليها: 1 - قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (¬3). وقد كان العرب في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية، وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا يطوف بالبيت عريان" (¬4). قال القرطبي -رحمه الله-: والخطاب في الآية لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانًا، فإنه عام في كل مسجد للصلاة، لأن العبرة للعموم لا للسبب. اهـ (¬5). 2 - ونهى الله تعالى الناس عن كشف عورتهم وسماه فتنة، قال تعالى: {يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ...} (¬6). 3 - ولأهمية ستر العورة ومكانتها في الإسلام فقد لازم الشارع بينها وبين التقوى، فقال سبحانه: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير} (¬7). 4 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يارسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك" قلت: ¬

(¬1) «لسان العرب» (4/ 416) ط. دار صادر. (¬2) «نهاية المحتاج» (2/ 5)، و «تفسير القرطبي» (7/ 182) ط. الكتاب العربي. (¬3) سورة الأعراف: 31. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (369)، ومسلم (1347). (¬5) «الجامع لأحكام القرآن» (7/ 189) ط. دار الكتاب العربي. (¬6) سورة الأعراف: 27. (¬7) سورة الأعراف: 26.

يارسول الله، فالرجل يكون مع الرجل؟ قال: "إن استطعت أن لايراها أحد فافعل" قلت: الرجل يكون خاليا؟ قال: فالله أحق أن يُستحيا منه من الناس" (¬1). 5 - عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضى الرجل إلى الرجل فى الثوب الواحد" (¬2). 6 - بالإضافة إلى الأدلة الكثيرة المتضافرة في وجوب غض البصر وتحريم النظر إلى العورات، ووجوب الاستئذان ونحو ذلك مما سيأتي في موضعه، إن شاء الله. * حدود عورة الرجل: لا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس -إلا ما استثناه الدليل- ولكن ما هو حد العورة بالنسبة للرجل؟ للعلماء في هذا أقوال، يمكن تلخيصها في قولين: الأول: عورة الرجل ما بين السرة والركبة (¬3): وهو مذهب الجمهور من المذاهب الأربعة وغيرهم، على اختلاف بينهم في دخول السرة والركبة في العورة، واستدلوا بما يلي: 1 - ما علَّقه البخاري -بصيغة التمريض- عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" (¬4). وفي أسانيدها جميعًا ضعف، لكن يقوي بعضها بعضًا، قال العلامة الألباني رحمه الله: "لأنه ليس فيها متهم، بل عللها تدور بين الاضطراب والجهالة، والضعف المحتمل، فمثلها مما يطمئن القلب لصحة الحديث المروي بها .... " اهـ. ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (7/ 40)، والترمذي (2769)، وابن ماجة (1920). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (338)، والترمذي (2793)، وأبو داود (4018). (¬3) «الخرشي» (1/ 246)، و «الكافي» لابن عبد البر (1/ 238)، و «المجموع» (3/ 168)، و «الفروع» (1/ 329). (¬4) أما حديث ابن عباس: فأخرجه الترمذي (2798)، والحاكم (4/ 200)، والبيهقي (2/ 228)، والطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 474)، وأما حديث جرهد فأخرجه الترمذي (2795)، وأبو داود (4014)، وأحمد (3/ 478)، وابن حبان (1710)، والحاكم والبيهقي في الموضع المشار إليها والدارقطني (1/ 224)، وأما حديث محمد بن جحش فأخرجه أحمد (5/ 290)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (929)، والطبراني (19/ 246)، والحاكم (3/ 738)، والبيهقي (2/ 228)، والطحاوي (1/ 474)، وأسانيدها جميعًا ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضًا، والله أعلم.

2 - ما رُوي عن علي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" (¬1) وهو ضعيف جدًا. 3 - ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فإن ما تحت السرة إلى ركبته من العورة" (¬2). 4 - وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: "أقبلت بحجر ثقيل أحمله، وعليَّ إزار خفيف، فانحلَّ إزاري ومعي الحجر لم أستطع وضعه حتى بلغتُ به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى ثوبك فَخُذْهُ، ولا تمشوا عراة" (¬3). الثاني: العورة هي القُبُل والدُّبر فقط: وهو رواية أخرى عن أحمد، ورواية في مذهب مالك، وبه قال الظاهرية (¬4)، واستدلوا على أن الفخذ ليس بعورة بما يلي: 1 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، فصلينا عندها صلاة الغداة بغَلَس، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبى طلحة، فأجرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى زقاق خيبر، وإن ركبتى لتمس فخذ النبى -صلى الله عليه وسلم-، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إنى أنظر إلى فخذ النبى صلى الله عليه وسلم" (¬5). قال ابن حزم (¬6): "فصحَّ أن الفخذ ليست عورة، ولو كانت عورة لما كشفها الله عزوجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المطهر المعصوم من الناس في حال النبوة والرسالة، ولا أراها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى قد عصمه من كشف العورة في حال الصبا وقبل النبوة". وأجيب: بأن هذا محمول على أن الإزار انحسر بنفسه، لا بفعله صلى الله عليه وسلم، ولا أنه تعمده، ويدل عليه رواية "الصحيحين": "فانحسر الإزار". 2 - حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسًا كاشفًا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم ¬

(¬1) ضعيف جدًّا: أخرجه أبو داود (3140، 4015)، وابن ماجة (2/ 228)، والبيهقي (2/ 228)، وانظر «الإرواء» (269). (¬2) حسَّنه الألباني: أخرجه أحمد (2/ 187)، والدارقطني (1/ 230)، وانظر «الإرواء» (271). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (341)، وأبو داود (4016). (¬4) «كتاب الروايتين والوجهين» للقاضي (1/ 94)، و «المحلي» (3/ 272)، و «نيل الأوطار» (2). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (371)، ومسلم (1365). (¬6) «المحلي» (3/ 272).

استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوَّى ثيابه، وقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟! " (¬1). وأجيب: بأنها واقعة عين وحكاية حال لا تنتهض على معارضة الأحاديث المتقدمة العامة لجميع الرجال!! وكذلك فقد وقع تردد في رواية "مسلم" بين الفخذ والساق، ففي بعض ألفاظه: "كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه"!! والساق ليس بعورة إجماعًا. 3 - حديث جابر قال: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على وركه من وثء (¬2) كان به" (¬3). وأجيب: بأن كشف النبي صلى الله عليه وسلم وركه للحجام لا يدل على أنه ليس بعورة، لأنه كشف اقتضته ضرورة المعالجة، وهو جائز اتفاقًا. * الراجح: قلت: الذي يظهر أن أدلة الجمهور -القولية- يُعضِّد بعضها بعضًا وترتقي إلى درجة الحجية، وهي مقدَّمة على أدلة الفريق الآخر لأن أدلتهم وقائع أعيان لا عموم لها، وهذا موطن يُقدَّم فيه القول على الفعل بلا تردد، فإن قيل: لم سلكتم مسلك الترجيح ولم تجمعوا، مع أن إعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها؟ قيل: لأن الفخذ إما أن تكون عورة أو لا تكون، ولا وَسَط، فتحتَّم الترجيح، وبهذا يُعلم أن ما جمع به ابن القيم في "تهذيب السنن" واستحسنه الألباني -رحمهما الله- في "الإرواء" (1/ 301) بين الأحاديث بأن: "العورة عورتان، مخففة ومغلظة، فالمغلَّظة السوأتان، والمحففة الفخذان، ولا تنافي بين الأمر بغض البصر عن الفخذين لكونهما عورة، وبين كشفهما لكونهما عورة مخففة" فهذا غير متجه والله. * ما يباح ويستحب من اللباس للرجال: * أحسن الثياب: البيض: 1 - عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم" (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2401). (¬2) الوثء: وجع يصيب العضو من غير كسر. (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3863) وفي سنده لين، وهو عند النسائي (2848)، وابن ماجة (3485)، لكن ليس عندهما ذكر «الورك»، بل احتجم في قدمه!! (¬4) صحيح: أخرجه النسائي (4/ 34 - 8/ 205)، وابن ماجة (3567)، وأحمد (5/ 12، 20).

وفي رواية: "عليكم بالبياض من الثياب، فليلبسها أحياؤكم، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها من خير ثيابكم". قال الشوكاني -رحمه الله-: "أما كونه أطيب فظاهر، وأما كونه أطهر فلأن أدنى شيء يقع عليه يظهر فيغسل إذا كان من جنس النجاسة فيكون نقيًّا، والأمر المذكور في الحديث ليس للوجوب، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لبس غيره، وإلباس جماعة من الصحابة ثيابًا غير بيض، وتقريره صلى الله عليه وسلم لجماعة منهم على غير لبس البياض" اهـ (¬1). 2 - وعن سعد قال: "رأيت بشمال النبى -صلى الله عليه وسلم- ويمينه رجلين عليهما ثياب بيض يوم أُحد، ما رأيتهما قبل ولا بعد" (¬2). 3 - وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ... " (¬3) الحديث. * ولا بأس بغير البيض: 1 - فعن البراء قال: "كان النبى -صلى الله عليه وسلم- مربوعًا، وقد رأيته فى حُلَّة حمراء، ما رأيت شيئًا أحسن منها" (¬4). 2 - وعن عائشة قالت: "خرج رسول الله وعليه مِرْطٌ مرحَّل من شعر أسود" (¬5). 3 - وعن قتادة قال: قلنا لأنس: أي اللباس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "الحِبَرَة" (¬6). والحبرة: بردٌ من برود اليمن من كتان أو قطن محبَّرة أي: مزينة ومخطَّطة. 4 - وعن أبي رمثة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وعليه بُردان أخضران" (¬7). ¬

(¬1) «نيل الأوطار» بتصرف يسير. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5826). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5827). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5848)، وله شاهد من حديث جابر عند الترمذي (2811). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2081)، والترمذي (2813)، وأبو داود (402). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5812)، ومسلم (2081). (¬7) صحيح: أخرجه الترمذي (2812)، وأبو داود (4206)، والنسائي (8/ 204)، وأحمد (2/ 227).

5 - والأخضر أكثر لباس أهل الجنة، وقد قال تعالى: {عاليهم ثياب سندس خضر} (¬1). * أفضل الثياب القميص (¬2): فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القُمُص" (¬3). وذلك لأنه أستر للأعضاء من الإزار والرِّداء اللذين يحتاجان كثيرًا إلى الربط والإمساك وغير ذلك بخلاف القميص. * جواز لبس السراويل (البنطلون): لبس السراويل جائز باتفاق العلماء، والأصل في جوازها، حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" (¬4). وينبغي أن تكون هذه السراويل (البنطلون) فضفاضة لا تحدد العورة، وإلا لزم أن يُجعل فوقها قميص طويل يستر العورة، وقد جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسرولوا واتَّزروا، وخالفوا أهل الكتاب" (¬5). * تنبيه: قد ذهب بعض الفضلاء من أهل العلم في عصرنا إلى كراهة لبس البنطلون والصلاة فيه -كراهة تحريمية- قالوا: لما فيه من التشبه بالكفار!! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن جاء وعليه ثوب معصفر: "هذه ثياب الكفار فلا تلبسها" (¬6). قلت: لم يعد لبس البنطلون مما يميز الكفار ولا هو شعارهم حتى يحرم لعلة التشبه، وإنما الذي يُشترط فيه هو ما تقدم الإشارة إليه من كونه واسعًا فضفاضًا لا يحدد العورة، وتركه ولبس القميص أولى لما تقدم والله أعلم. ¬

(¬1) سورة الإنسان: 21. (¬2) القميص هو الثوب الذي يسمَّى في بلادنا «الجلاَّبية». (¬3) حسن: أخرجه الترمذي (1762، 1763)، وأبو داود (4025)، والنسائي في «الكبرى» (9668)، وأبو يعلى (7014)، والبيهقي (2/ 239). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1841، 5804)، والنسائي (2672)، وابن ماجة (2931). (¬5) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 264)، والطبراني كما في «المجمع» (5/ 121). (¬6) صحيح: يأتي تخريجه قريبًا.

* استحباب لبس العِمامة: عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعليه عمامة سوداء" (¬1) ويستحب أن يُرسل (يُرخِى) العمامة بين الكتفين: من حديث عمرو بن حريث قال: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه" (¬2). وعن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتمَّ سدل عمامته بين كتفيه" (¬3). قال النووي: "يجوز لبس العمامة بارسال طرفها وبغير إرساله، ولا كراهة في واحد منهما، ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها شئ، وإرسالها إرسالًا فاحشًا كإرسال الثوب يحرم للخيلاء ويُكره لغيره" اهـ (¬4). * ما نُهي الرجال عن لبسه: * تحريم الثياب الخاصة بالنساء: ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تشبُّه الرجل بالمرأة في اللباس الذي يختص بهن وعكسه، وقد ثبتت النصوص بتحريم مطلق تشبه كلا الجنسين بالآخر فيما يختص به، وهذا يشمل التشبه في اللباس والزينة والكلام والمشي ونحو ذلك، وهذه النصوص: 1 - حديث ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" (¬5). 2 - وعن أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبس الرجل" (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1358)، والترمذي (1735)، والنسائي (2869)، وأبو داود (4076)، وابن ماجة (2822). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1359)، وابن ماجة (2821). (¬3) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (1736)، وابن حبان (6397)، والطبراني (12/ 379) وهو حسن لغيره. (¬4) «المجموع» (4/ 457). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5885)، والترمذي (2784)، وأبو داود (4097)، وابن ماجة (1904). (¬6) صحيح: أخرجه أبو داود (4098)، وأحمد (2/ 325).

واللعن لا يكون إلا على فعل محرم، وبهذا قال الجمهور. وقال الشافعي: لا يحرم، وإنما يكره!! والأحاديث تردُّ ذلك، ولذا قال النووي -رحمه الله- منصفًا: "والصواب أن تشبه النساء بالرجال وعكسه حرام للحديث الصحيح" (¬1) اهـ. * تحريم إسبال الثوب وجرِّه خيلاء: عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء" (¬2). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرَّ إزاره بطرًا" (¬3) أي تكبرًا. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي في حُلَّة تعجبه نفسه مرجِّل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" (¬4). وقد دلَّت هذه النصوص وغيرها على تحريم جرِّ الثوب تكبرًا وخيلاء، وأنه من الكبائر. * حكم الإسبال لغير الخيلاء: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسفل الكعبين من الإزار في النار" (¬5). قال الخطابي: "يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه: أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة .. " اهـ (¬6). وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شِقَّي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال: "إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" (¬7). ¬

(¬1) «المجموع» (4/ 335). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5783)، ومسلم (2085). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5788)، ومسلم (2087). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5789)، ومسلم (2088). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5787)، والنسائي (5331)، وأبو داود (4093)، وابن ماجة (3573). (¬6) «فتح الباري» (10/ 257) ط. السلفية. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5784)، والنسائي (5335)، وأبو داود (4085).

وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى تحريم إسبال الثوب تحت الكعبين إن كان للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، قالوا: لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة، فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء!! وهكذا نصَّ الشافعي على الفرق (¬1). وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: أنا لا أجرُّه خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظًا، ولا يجوز لمن تناوله لفظًا أن يخالفه، ويقول: تلك العلة ليست فيَّ، فإنها دعوى غير مسلَّمة، بل إطالة ذيله دالة على تكبره (¬2). قلت: وهذا الأخير أظهر، ويؤيده حديث جابر بن سليم الطويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة" (¬3). فجعل مجرد الإسبال من المخيلة المحرمة، فالحاصل أن إسبال الثوب تحت الكعبين حرام ويستحق فاعله أن يُعذَّب، ما تحت الكعبين في النار -كما في حديث أبي هريرة- لكن هذا لا يكون من الكبائر التي تحرمه من نظر الله تعالى إليه يوم القيامة إلا إذا قصد التكبر والخيلاء، لأن العقوبتين -عقوبة قاصد الخيلاء وغيره- قد اختلفتا فلم يجز حمل المطلق على المقيد. وأما حديث أبي بكر، فالظاهر أنه لم يكن مسبلًا وإنما كان يسترخي فيحتاج إلى رفعه، فلا يعكِّر الحديث على ما تقدم، والله أعلم. * هل يدخل في حكم الإسبال تطويل أكمام القميص (¬4)؟ الذي يظهر أن من أطال أكمام القميص حتى خرج عن العادة دخل في حكم الإسبال، وقد نقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة. ¬

(¬1) «شرح مسلم» للنووي (14/ 62) ط. الفكر. (¬2) «فتح الباري» (10/ 264) عن ابن العربي. (¬3) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (4084)، وابن حبان (522)، والنسائي في «الكبرى» (9691)، وأحمد (5/ 63). (¬4) «فتح الباري» (10/ 262)، و «زاد المعاد» (1/ 52)، و «نيل الأوطار».

قلت: يؤيد هذا حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرَّ شيئًا منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" (¬1). وقد ذكر ابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من هديه لبس الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج، فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه ألبتة، وأنها مخالفة لسُنَّته، وفي جوازها نظر فإنها من جنس الخيلاء، وفيها إضاعة للمال، فقد يفصل من هذا الكم ثوب آخر. * لبس الحرير الخالص: * ذهب الجماهير من أهل العلم -بل نقل بعضهم الإجماع (¬2) - إلى أنه يحرم لبس الحرير الخالص على الرجال -إلا لضرورة كما سيأتي- للنصوص المصرِّحة بالتحريم، ومنها: 1 - حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" (¬3) والظاهر أنه كناية عن عدم دخول الجنة، فقد قال تعالى في أهل الجنة {ولباسهم فيها حرير} (¬4). 2 - وعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة" (¬5). 3 - وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" (¬6) أي: من لا نصيب له. 4 - وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحلَّ لإناثهم" (¬7). ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4094)، والنسائي (5334)، وابن ماجة (3576)، وانظر «المشكاة» (4332). (¬2) «المغني» (2/ 204)، و «الفتح» (10/ 285)، و «شرح مسلم» (14/ 32). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5833)، ومسلم (2069). (¬4) سورة الحج: 23. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5426)، ومسلم (2067). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5835)، ومسلم (2068). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (4057)، والترمذي (1720)، والنسائي (8/ 160)، وابن ماجة (3595).

5 - وقد نقل عن قوم إباحة الحرير للرجال، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث عقبة بن عامر قال: أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرُوج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف، فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له، ثم قال: "لا ينبغي هذا للمتقين" (¬1) وأجيب: بأن هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم لبسه قبل تحريمه، إذ لا يجوز أن يُظَنَّ به أنه لبسه بعد التحريم في صلاة ولا غيرها. 2 - حديث المسور بن مخرمة: "أنها قُدمت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية، فذهب هو وأبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لشيء منها، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء من ديباج مزرَّر، فقال: "يا مخرمة خبأنا لك هذا" وجعل يريه محاسنه، وقال: "أرضيَ مخرمة؟ " (¬2). وأجيب: بأن هذا فعل لا ظاهر له، والأقوال صريحة في التحريم، على أنه لا نزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الحرير ثم كان التحريم آخر الأمرين (¬3). * القدر المباح من الحرير في الثوب: يُباح لبس الرجل للثوب إذا كان به عَلَم بمقدار أربع أصابع فما دون من الحرير، عند جمهور العلماء، لحديث أبي عثمان قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وصفَّ لنا النبي صلى الله عليه وسلم إصبعيه" (¬4). وفي لفظ لمسلم: "نهى عن لُبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" (¬5). فإن زاد علم الحرير في الثوب على أربعة أصابع حَرُم. * إباحة لبس الحرير عند الضرورة (¬6): ذهب الجمهور -خلافًا للمالكية ورواية عن أحمد- إلى جواز لبس الحرير عند الضرورة كحالة المرض أو الحكة ونحو ذلك، لحديث أنس قال: "رخص النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكَّة بهما" (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (375)، ومسلم (2075). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3127)، والبيهقي (3/ 273)، والطحاوي (4/ 243). (¬3) «أحكام العورة والنظر» لمساعد الفالح (ص: 183). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5829)، ومسلم (2069). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2069). (¬6) «ابن عابدين» (5/ 224)، و «الخرشي» (1/ 252)، و «المجموع» (4/ 440)، و «المغني» (2/ 306)، و «زاد المعاد» (3/ 103). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5839)، ومسلم (2076).

وذهب المالكية -وهو الرواية الأخرى عند الحنابلة- إلى أنه لا يجوز للحكَّة ونحوها على الأصل، وأن الرخصة كانت خاصَّة بالصحابيين رضي الله عنهما (!!). والصحيح قول الجمهور، لأن الأصل عدم التخصيص، والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى، تعدَّت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى، إذ الحكم يعم بعموم سببه، والله أعلم. * لا يجوز افتراش الحرير: فعن حذيفة رضي الله عنه قال: "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه" (¬1) وبه قال الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- لأن سبب تحريم اللبس موجود في الجلوس، ولأنه إذا حرم اللبس مع الحاجة فغيره أولى، هذا حكم الذكور، وأما الإناث فجائز لهن كاللبس. * تحريم ثوب الشهرة: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله مذلَّة يوم القيامة [ثم ألهب فيه نارًا] " (¬2). قال ابن الأثير: الشهرة ظهور الشيء، والمراد أنه ثوب يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر. اهـ. * هل يكره للرجل لبس الأحمر؟ اختلف أهل العلم في حكم لبس الرجل للثوب الأحمر على الأقوال -حصرها الحافظ في سبعة أقوال- ويمكن تلخيصها في قولين (¬3): الأول: يُكره لبس الثوب الأحمر: وهو مذهب الحنفية والحنابلة، وحجتهم ما يلي: 1 - حديث البراء بن عازب قال: "أمرنا النبي صلى الله عليه بسبع ونهانا عن سبع -فذكر منها-: المياثر الحمر" (¬4) وفي رواية من حديث عمران بن حصين: "نهى عن ميثرة الأرجوان" (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5837). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (4029)، وابن ماجة (3606)، وأحمد (2/ 92)، وهو في «صحيح الجامع» (6526). (¬3) «مجمع الأنهر» (2/ 532)، و «الإنصاف» (1/ 481)، و «فتح الباري» (10/ 305)، و «نيل الأوطار». (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5849)، ومسلم (2066). (¬5) أخرجه الترمذي (2788)، وهو في «صحيح الجامع» (6907).

والمياثر: وسائد صغيرة حمراء يجعلها الراكب -من الأعاجم- تحته. وأجيب: بأن الدليل أخصُّ من الدعوى، وغاية ما فيه تحريم الميثرة الحمراء، فما الدليل على تحريم ما عداها مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وسلم للأحمر مرات كما سيأتي؟! على أنه يحتمل أن يكون النهي عنها إنما لأنها كانت تتخذها العجم من ديباج وحرير. 2 - ما يُروى عن عبد الله بن عمرو قال: "مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران" فسلَّم عليه، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم" (¬1) وهو ضعيف. 3 - وعن امرأة من بني أسد قالت: "كنت يومًا عند زينب امرأة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نصبغ ثيابها بمغرة -والمغرة صباغ أحمر- قالت: فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت ذلك زينب علمت أنه صلى الله عليه وسلم قد كره ما فعلت وأخذت فغسلت ثيابها ودارت كل حمرة، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجع فاطلع فلما لم ير شيئًا دخل" (¬2) وهو ضعيف. 4 - ما رُوي عن رافع بن يزيد الثقفي مرفوعًا: "إن الشيطان يحب الحمرة، وإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة" (¬3) وهو ضعيف كذلك. الثاني: يجوز لبس الأحمر، وهو مذهب المالكية والشافعية، وحجتهم: 1 - حديث البراء بن عازب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعًا، وقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئًا أحسن منها" (¬4). 2 - وعن جابر بن سمرة قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان (¬5) فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر وعليه حلة حمراء، فإذا هو عندي أحسن من القمر" (¬6). وقد أجاب الأوَّلون: بأن الحلة الحمراء التي لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن حمراء بحتًا وإنما خالطه غير الأحمر. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه الترمذي (2807)، وأبو داود (4069). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4071)، وابن أبي عاصم في «الآحاد» (3096) والطبراني (24/ 57 - 25/ 185). (¬3) ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7708). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5848) وقد تقدم. (¬5) ليلة إضحيان، أي: مضيئة ومقمرة. (¬6) ضعيف: أخرجه الترمذي (2811)، والنسائي في «الكبرى» (6940)، وأبو يعلى (7477)، والحاكم (4/ 207) ويشهد له ما قبله.

* الراجح: الذي يظهر لي أن أدلة الأولين القائلين بالكراهة ليست قوية، والظاهر أنه لا بأس بلبس الأحمر، لكن لو ترك الأحمر الخالص القاني الذي لم يخالطه غيره لكان أولى وأحوط خروجًا من الخلاف، والله أعلم. * الثوب المعصفر: عن عبد الله بن عمرو قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذه من لباس الكفار، فلا تلبسها" (¬1). وفي رواية قال: "أَأُمُّك أمرتك بهذا؟! " قلت: أغسلها، قال: "بل أحرقها" وقوله: (أأمك أمرتك بهذا؟) معناه: أن هذا من لباس النساء وزيِّهن، وأخلاقهن، وأما الأمر بإحراقهما، فقيل: هو عقوبلا وتغليظ لزجره، وزجر غيره عن مثل هذا الفعل (¬2). وعن علي بن أبي طالب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبْس القَشِّىِّ، والمعصفر، عن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع" (¬3). وقد اختلف أهل العلم في الثياب المعصفرة، وهي المصبوغة بالعصفر -صبغ أصفر- فأباحها جمهور العلماء، منهم الشافعي وأبو حنيفة ومالك!! وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه لما ثبت عن ابن عمر قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة" (¬4) وقال الخطابي: النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فليس بداخل في النهي. وحمل بعض العلماء النهي هنا على المحرم بالحج والعمرة ليكون موافقًا لحديث ابن عمر فيما يحرم على المحرم لبسه!! (¬5) قلت: الأظهر أنه لا يجوز لُبس الثوب المصبوغ بالعصفر للأحاديث الثابتة، لاسيما ما كان منها فاقعًا يشبه لباس النساء، ولذا قال البيهقي -رحمه الله-: "لو بلغت هذه الأحاديث الشافعي لقال بها، إن شاء الله ... " اهـ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (2077). (¬2) «شرح مسلم» للنووي (14/ 55). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2078)، والترمذي (264)، والنسائي (1041). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5851)، ومسلم (1187). (¬5) «شرح مسلم» (14/ 54).

وأما حديث ابن عمر فليس فيه ذكر المصبوغ فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صبغ الشعر أو الثوب، على أنه قد يُحمل الصفرة في حديث ابن عمر على ما لم تكن فاقعة تشابه ثياب النساء، والله أعلم. * الثوب الذي فيه صليب: عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه" (¬1). * الثوب المصنوع من جلود السباع: كالأسد والنمر والفهد ونحوها، سواء كان في الملابس أو في الأحذية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تركبوا الخز ولا النمار" (¬2) وإنما نهى عن استعمالها لما فيها من الزينة والخيلاء، ولأنه زي الأعاجم (¬3). * من آداب اللباس: 1 - الاهتمام بحسن الثياب لمن وَجَدَه: فعن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: "ألك مال؟ " قال: نعم، قال: "من أي المال؟ " قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: "فإذا آتاك مالًا فَلْيَرَ أثر نعمته عليك وكرامته" (¬4). وقال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ...} (¬5). ليس هذا من الكبر، فعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَر الحق، وغمط الناس" (¬6). 2 - عدم الإسراف في اللباس: قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5952). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (4129)، وابن ماجة (3656). (¬3) «عون المعبود» (11/ 188). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (4063)، والنسائي (5224) وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة، وعمران بن حصين وابن مسعود وغيرهم. (¬5) سورة الأعراف: 32. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (91)، وأبو داود (4092) وغيرهم. (¬7) سورة الأعراف: 31.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا، ما لم يخالطه إسراف ولا مَخِيلَة" (¬1). 3 - الدعاء عند لُبس الثوب الجديد: عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدَّ ثوبًا سمَّاه باسمه: عمامة أو قميصًا أو رداءً، ثم يقول: "اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شرِّه وشر ما صنع له" (¬2). 4 - الابتداء باليمين في اللبس: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره، وفي شأنه كله" (¬3). 5 - عدم المشي في نعل واحدة: فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعًا، أو ليحفهما جميعًا" (¬4). والكراهة في هذا -والله أعلم- لأجل الشهرة، فإن هذا مما يلفت الأنظار، وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس، فكل شيء صيَّر صاحبه شهرة فحقه أن يجتنب (¬5). 6 - عدم الاستلقاء على الظهر ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، لمن ليس عليه سراويل: فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستلقين أحدكم، ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى" (¬6). ¬

(¬1) حسن: علَّقه البخاري في كتاب (اللباس) ووصله النسائي (2559)، وابن ماجة (3605) بسند حسن. (¬2) حسن لشواهد: أخرجه أبو داود (4020)، والترمذي (1767)، والنسائي (1382) والصواب إرساله، لكن له شاهد يتقوى به. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (426)، ومسلم (268). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5855)، ومسلم (2097). (¬5) نقله في «فتح الباري» (10/ 255) عن البيهقي. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (2099).

ومحل النهي أن لا يكون تحت ثوبه سراويل تستر عورته، فعن أبي سعيد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يحتبي الرجل في صوب واحد، ليس على فرجه منه شيء" (¬1). والاحتباء: أن ينصب الرجل ساقيه ويدير عليهما ثوبه أو يعقد يديه على ركبتيه معتمدًا على ذلك. أما إذا كان يلبس ما يستر عورته، فلا حرج، فعن عبد الله بن زيد أنه: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيًا في المسجد، واضعًا إحدى رجليه على الأخرى" (¬2). * من أحكام الزينة للرجال: 1 - زينة الشعر: * استحباب إكرام الشَّعر: يستحب لمن كان له شعر أن يحافظ على نظافته وحسن مظهره، فيكرمه ويرجِّله (يسرِّحه) ويدهنه ونحو ذلك. فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان لأحدكم شعر فليكرمه" (¬3). ولا ينبغي أن يترك شعره حتى يفحش ويثور، بل عليه أن يدهنه ويسكنه في بالماء ونحوه ويسرِّحه، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا أشعث فقال: "أما كان يجد ما يسكم به شعره؟ " (¬4). ويستحب أن يبدأ -في تسريحه- بالشق الأيمن من الرأس لما تقدم عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره وتنعله وترجله" (¬5). فإن كان يعتني بشعره، فيستحب أن يطيله ويسدله إلى منكبيه، فعن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب شعر رأس منكبيه" (¬6). وعن عائشة قالت: "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعر دون الجُمَّة، وفوق الوفرة" (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (367)، والنسائي (5340)، وأبو داود (3377) وهو عند البخاري عن أبي هريرة وعند مسلم عن جابر. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (475)، ومسلم (2100). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (4163)، وهو في «صحيح الجامع» (6493). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (4062)، والنسائي (8/ 183). (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5904). (¬7) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجة (3635)، والترمذي (1755).

والجُمَّة: ما تدلَّي إلى المنكبين، والوفر: ما بلغ شحمة الأذنين. ولا ينبغي إطالة الشعر فوق هذا القدر، لأمرين: الأول: لدخوله في التشبُّه بالنساء. الثاني: لما رُوي عن سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله عليه وسلم: "نعم الرجل خزيم الأسدي، لولا طول جُمَّته وإسبال إزاره" فبلغ خزيمًا، فعجَّل، فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه (¬1). * تنبيه: وأما ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الترجُّل إلا غبًّا" (¬2) فالمراد به: ترك المبالغة في الترفه، والله أعلم. * النهي عن نتف الشيب: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم يوم القيامة" (¬3). وعن أنس قال: "كنا نكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته" (¬4). * صبغ الشعر: ويُشرع تغيير الشيب بصبغ -غير الأسود- فعن جابر قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" (¬5). وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود والنصارى فقال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" (¬6) ويكون هذا بالحناء والكتم ونحوهما، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أحسن ما غُيِّر به الشيب: الحناء والكتم" (¬7). ¬

(¬1) إسناده ليِّن: أخرجه أبو داود (4089)، وأحمد (4/ 179)، والطبراني (6/ 94). (¬2) صححه الألباني: أخرجه النسائي (8/ 132)، والترمذي (1756)، وأبو داود (4159)، وهو في «صحيح الجامع» (6870). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (4202)، والترمذي (2821). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2341). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2102)، والنسائي (5076)، وأبو داود (4204). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5899)، ومسلم (2103). (¬7) صححه الألباني: أخرجه الترمذي (1573)، والنسائي (8/ 139)، وابن ماجة (3622) وفي سنده اختلاف، لكن صححه الألباني - رحمه الله - في «الصحيحة» (1509).

وأما الصبغ بالأسود فلا يجوز، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة" (¬1) ولما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" (¬2). * فائدة: إنما نهى عن النتف دون الخضب; لأن فيه تغيير الخلقة عن أصلها، بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه. وقيل: شرع ستر الشيب بالخضاب لمصلحة أخرى دينية وهي إرغام الأعداء وإظهار الجلادة لهم (¬3). * تحريم حلق اللحية: حلق اللحية -للرجل- حرام بإجماع من يُعتد بخلافه من أهل العلم، لأن في خلقها تغييرًا لخلق الله، وطاعة للشيطان، ومخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم بإعفائها وإرخائها، ومشابهة للكفار، ومشابهة للنساء، وقد تقدمت الأدلة على ذلك في أول "كتاب الطهارة". * قص الشارب وحَفُّهُ: قص الشارب من سنن الفطرة المأمور بها، وهو من تمام زينة الرجال، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط" (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: " ... أحفوا الشوارب" (¬5) وفي رواية: "جُزُّوا الشوارب ... " (¬6). بل قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" (¬7). والمراد هنا: قطع الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، واستئصال ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4212)، والنسائي (8/ 138)، وأحمد (1/ 273)، وهو في «صحيح الجامع» (8153). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «عون المعبود» (11/ 171) ط. الفكر. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5891)، ومسلم (257). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (260). (¬7) صححه الألباني: أخرجه النسائي (1/ 15)، والترمذي (2761)، وأحمد (4/ 368)، وهو في «صحيح الجامع» (6533).

ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها بحيث لا يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ، وقيل: المراد: استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، وكلا القولين تحتمله الأدلة ويحصل به مخالفة المجوس والأمن من التشويش على الآكل، واجتماع الوسخ والله أعلم. وينبغي ألا يترك الشارب أكثر من أربعين يومًا، لحديث أنس قال: "وُقِّت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة" (¬1). * النهي عن القزع: عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع" (¬2). والقزع: حلق بعض الرأس وترك بعضها، وقد افتتن بهذا كثير من الشباب تقليدًا لليهود والنصارى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. 2 - زينة الخاتم ونحوه: * تحريم خاتم الذهب على الرجال: 1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب، فكان يجعل فصَّه في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، فقال: "إني كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصَّه من داخل" فرمى به، ثم قال: "والله لا ألبسه أبدًا" فنبذ الناس خواتيمهم (¬3). 2 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن خاتم الذهب" (¬4). 3 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، فقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟! " فقالوا للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا، والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5). 4 - وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فلا يلبس حريرًا ولا ذهبًا" (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (257). (¬2) ") صحيح: أخرجه البخاري (5920)، ومسلم (113). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2090). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5863). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2090). (¬6) حسن: أخرجه أحمد (5/ 261)، والحاكم (4/ 212)، والطبراني (8/ 186).

5 - وقد تقدم حديث عليٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحلَّ لإناثهم" (¬1). فعُلم من هذه النصوص وغيرها تحريم التختم بالذهب على الرجال، فهلَّا استجاب الكثيرون من المسلمين لهذا، وألقوا "دبلة" الذهب التي ابتُلوا بها تقليدًا للكفار، وتقديسًا -زعموا- للحياة الزوجية!! * لا بأس بخاتم الفضة: يشرع لبس خاتم الفضة للرجال، فعن أنس قال: "اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة نقشه: محمد رسول الله، فكأني بوبيص -أو بيصيص- الخاتم في إصبع النبي صلى الله عليه وسلم أو في كفه" (¬2). * تنبيه: يُكره للرجل لبس الخاتم في الإصبع الوسطى أو السبابة: فعن أبي بردة قال: قال علي رضي الله عنه: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه وهذه" قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها (¬3). وفي لفظ: " .. وأشار إلى السبابة والوسطى". قال النووي -رحمه الله-: "وأجمع المسلمون على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر، وأما المرأة فإنها تتخذ خواتيم في الأصابع كلها، قالوا: والحكمة في كونه في الخنصر أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد لكونه طرفا، ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله من أشغالها بخلاف غير الخنصر، ويكره للرجل جعله في الوسطى والتي تليها لهذا الحديث، وهي كراهة تنزيه ... " اهـ (¬4). * هل يباح شيء من الذهب للضرورة؟ عن عبد الرحمن بن طرفة عن جده عرفجة بن أسعد: "أنه أصيب أنفُهُ يوم الكُلَاب في الجاهلية، فاتَّخذ أنفًا من وَرِق، فأنتن عليه، فأمره النبي صَلَّى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفًا من ذَهَبٍ" (¬5). ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5872)، ومسلم (2092). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2078)، وأبو داود (4225)، والترمذي (1786)، والنسائي (5210)، والتصريح السبابة عندهم عدا مسلمًا. (¬4) «شرح مسلم» للنووي (14/ 71). (¬5) صححه الألباني: أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي (4/ 164).

قال الخطابي: "فيه استباحة استعمال اليسير من الذهب للرجال عند الضرورة كربط الأسنان به وما جرى مجراه مما لا يجري غير فيه مجراه" اهـ (¬1). وبهذا قال أكثر العلماء، قلت: أما ما كان لغير ضرورة فهو باق -في حق الرجل- على أصل التحريم، فلا يجوز تركيب الأزرار الذهبية في الثياب!! ولا لبس الساعات الذهبية، إذ لا ضرورة تلجئ إلى ذلك، على ما في ذلك من السرف والخيلاء، والله أعلم. هذا في حق الرجال، وأما النساء فالذهب مباح لهن ابتداء ولو لغير ضرورة كما تقدم. 3 - زينة الكحل للرجال: اكتحال الرجل إذا كان لتقوية البصر، وجلاء الغشاوة عن العين، وتنظيفها وتطهيرها، أو لأجل التطيب، لا بأس به، لا سيما إذا كان بالإثمد الأصلي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... وإن خير أكحالكم الإثمد: يجلو البصر، وينبت الشعر" (¬2). وأما التكحل لأجل التزين والتجمل فلم يثبت فيه حديث -فيما أعلم- وقد روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل في عينه اليمنى ثلاث مرات، واليسرى مرتين" ولا يثبت. فالذي يظهر أنه ليس من السنة كما يعتقده كثير من الناس. قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "وأما الرجال: فمحل نظر، وأنا متوقف فيه، وقد يفرق فيه بين الشباب الذي يخشى من اكتحاله فتنه، فيمنع، وبين الكبير الذي لا يخشى ذلك من اكتحاله فلا يمنع" (¬3) اهـ. قلت: وأما المرأة فهو مطلوب لها في تجملها لزوجها كما سيأتي. 4 - الخضاب للرجال: * النهي عن التزعفر: الزعفران: نبات أصفر يصبغ به الثياب ويتخذ طيبًا للنساء يُطلى به الجسم، ولا يجوز للرجل استعماله، فعن أنس قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل" (¬4). ¬

(¬1) «تحفة الأحوذي» (11/ 198). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (3878)، والترمذي (994)، والنسائي (8/ 15)، وابن ماجة (3497). (¬3) «فتاوى زينة المرأة والتجميل» (ص: 51) عن «اللباس والزينة» لسمير عبد العزيز (ص: 289). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5846)، ومسلم (2101).

وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ" (¬1). والخلوق: طيب يتخذ من الزعفران وغيره. * وهل يخضب الرجل يديه ورجليه بالحناء ونحوهما؟ عن أبي هريرة قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بمخنَّث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال هذا؟ " فقيل: يا رسول الله، يتشبه بالنساء، فأمر به فنُفي إلى البقيع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقتله؟ قال: "إني نهيت عن قتل المصلين. (¬2) " قال الحافظ: "وأما خضب اليدين والرجلين، فلا يجوز للرجال إلا في التداوي ... " (¬3) اهـ. قلت: وأحاديث النهي عن التضمخ بالزعفران تؤيد ذلك، وأما حديث أنس: "أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أثر صفرة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار ... " الحديث (¬4)، فلا يسلم الاستدلال به على جواز الخضاب للرجل، فقد قال النووي -رحمه الله-: "إن الصفرة تعلقت به من جهة زوجته" اهـ (¬5). وعلى هذا، فإن ما يفعله كثير من الرجال في "ليلة الحنة" قبل العُرس من خضاب اليدين والرجلين لا يجوز، والله أعلم. 5 - زينة الطِّيب: الطيب من الزينة المستحبة، قال صلى الله عليه وسلم: "إن خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه" (¬6). وعن عائشة قالت: "كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته" (¬7). ¬

(¬1) حسن لغيره: أخرجه أبو داود، وهو في «صحيح الجامع» (3061). (¬2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود. (¬3) «فتح الباري» (10/ 367). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5153). (¬5) «شرح مسلم». (¬6) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (2788)، وأبو داود (2174). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5923)، ومسلم (1190).

ثانيا: اللباس والزينة للنساء

قال ابن بطال: "يؤخذ منه أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف طيب النساء، لأنهن يطيبن وجوههن ويتزين بذلك بخلاف الرجال، فإن تطيب الرجل في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء" اهـ (¬1). وأطيب الطيب المسك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). * الطيب لا يُرَدُّ: عن أنس: أنه كان لا يردُّ الطيب وزعم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب" (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: "من عُرض عليه ريحان فلا يردَّه، فإنه خفيف المحمل طيب الريح" (¬4) وسيأتي طرف مما يتعلق بالطيب عند "طيب النساء". ثانيًا: اللباس والزينة للنساء (¬5) لباس المرأة المسلمة 1 - لباس المرأة أمام الأجانب (¬6): (أ) النهي عن التبرج والوعيد عليه: التبرج: أن تبدي المرأة زينتها ومحاسنها وما يجب أن تستره مما تستدعى به شهوة الرجال. قال تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} (¬7). وجاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولاتزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى" (¬8). ¬

(¬1) «الفتح» (10/ 366). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2252). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5929)، ونحوه في «صحيح الجامع» (4852). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2253)، وأبو داود، والنسائي، وعندهما «طيب» بدل «ريحان». (¬5) ") من هنا حتى آخر «كتاب اللباس» من كتابي «فقه السنة للنساء». ط. التوفيقية - الطبعة الثانية. (¬6) المراد بالأجانب: الرجال غير المحارم، وسيأتي تعريف المحرم قريبًا. (¬7) سورة الأحزاب: 33. (¬8) مسند أحمد (2/ 196) بسند حسن.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات (¬1) مميلات مائلات (¬2)، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة (¬3) لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (¬4). (ب) شروط لباس المرأة المسلمة، وهي ثمانية (¬5): الشرط الأول: أن يستر جميع البدن، إلا أنه اختلف في الوجه والكفين: قال الله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} (¬6). وقال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما} (¬7). واعلم أن العلماء قد اتفقوا على أنه يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها، وإنما حصل الاختلاف -المعتبر- في الوجه والكفين. * فذهب طائفة من العلماء إلى أنه يجب عليها ستر وجهها وكفيها: واستدلوا لذلك بجملة أدلة منها (¬8): 1 - قول الله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب} (¬9). وقد نزلت الآية لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ودعا القوم فطمعوا ثم ¬

(¬1) أي: يكشفن شيئًا من أبدانهن إظهارًا لجمالهن، أو يلبسن ثيابًا رقيقة تصف ما تحتها. (¬2) أي: متبخترات في مشيتهن، مميلات أكتافهن، أو مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن. (¬3) يجمعن الغدائر فوق رؤوسهن فتشبه أسمنة الإبل. (¬4) صحيح مسلم (2128). (¬5) انظر «جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة» للألباني (ص 37) وما بعدها. (¬6) سورة النور: 31. (¬7) سورة الأحزاب: 59. (¬8) انظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (4/ 505) وما بعدها. (¬9) سورة الأحزاب: 53.

خرجوا وبقي منهم رهط أطالوا المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرج النبي صلى الله عليه وسلم وزينب معه ثم دخل مرارًا كي يخرجوا، فنزلت الآية فضرب بينهم وبينه سترًا (¬1). فقال الموجبون لستر الوجه: إن هذا الخطاب يدخل فيه النساء جميعًا لاشتراك الجميع في العلة وهي طهارة القلوب. 2 - قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما} (¬2) وفسروا الإدناء في الآية بستر جميع الوجه وإظهار عين واحدة تبصر بها. 3 - حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان" (¬3). ومعنى استشرفها الشيطان: زينها في نظر الرجال. 4 - حديث الإفك وفيه: " ... وكان صفوان بن المعطل السلمي، من وراء الجيش، فأدلج عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ... " (¬4). 5 - حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام" (¬5). * بينما ذهب طائفة أخرى من العلماء إلى أنه يجوز كشف الوجه والكفين، وأن سترهما مستحب وليس بواجب، واستدلوا لذلك بجملة أدلة ومن ذلك (¬6): 1 - قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} (¬7) فقالوا: {إلا ما ظهر منها} أي: الوجه والكفين (¬8) ¬

(¬1) سبب النزول هذا أخرجه البخاري (4791)، ومسلم (1428) من حديث أنس بمعناه. (¬2) سورة الأحزاب: 59. (¬3) الترمذي (1173)، وابن خزيمة (3/ 95)، والطبراني في الكبير (10115) وهو صحيح. (¬4) البخاري (4141)، ومسلم (2770). (¬5) مستدرك الحاكم (1/ 454) بسند صحيح. (¬6) انظر «جلباب المرأة المسلمة» للألباني. (¬7) سورة النور: 31. (¬8) اختاره الطبري في «التفسير» (18/ 84) وفي الآية أوجه أخرى: فقيل: إلا ما ظهر بغير قصد منهن، وقيل: الثياب، وقيل: الكحل والخاتم والسوار وغيرها.

2 - حديث عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه (¬1). وهذا أصرح أدلة هذا القول، لكن إسناده ضعيف جدًّا. -واستدلوا كذلك بجملة أدلة تفيد أن النساء المسلمات كن يُظهرن الوجه أو الكفين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينههن، ومن ذلك: 3 - حديث جابر بن عبد الله في وعظ النبي صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد، وفيه: " ... فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدَّين، فقالت: لم يا رسول الله؟ ... " الحديث (¬2). قالوا: فقول جابر (امرأة سفعاء الخدين) دليل على أنها كانت كاشفة لخدَّيها. 4 - حديث ابن عباس في قصة إرداف النبي صلى الله عليه وسلم للفضل بن عباس في حجة الوداع واستفتاء المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: " ... فأخذ الفضل بن عباس يلتفت إليها، وكانت امرأة حسناء، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بذقن الفضل، فحوَّل وجهه إلى الشق الآخر" (¬3). وفي رواية أخرى من حديث علي بن أبي طالب أن ذلك كان عند المنحر بعدما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة (¬4)، أي أن سؤال المرأة كان بعد التحلل من الإحرام (التحلل الأصغر). قال ابن حزم: "ولو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء" اهـ. 5 - حديث عائشة قالت: "كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4104) وفي سنده أربع علل: الأولى: خالد بن دريك لم يدرك عائشة فالسند منقطع، الثانية: عنعنة قتادة وهو مدلس، والثالثة: سعيد بن بشير ضعيف وخاصة في قتادة، الرابعة: عنعنة الوليد بن مسلم وهو يدلس ويسوّي. (¬2) مسلم (885)، والنسائي (1/ 233)، وأحمد (3/ 318). (¬3) البخاري (6228)، ومسلم (1218). (¬4) الترمذي (885)، وأحمد (562) بسند جيد، وانظر فتح الباري (4/ 67).

الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يُعرفن من الغَلَس" (¬1). فقالوا: فإن مفهومه أنه لولا الغلس (أي: الظلمة) لعُرفن، وإنما يعرفن عادة من وجوههن وهي مكشوفة. 6 - حديث ابن عباس في قصة وعظ النبي النساء يوم العيد وحثهن على الصدقة وفيه: " ... وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه (وفي رواية: فجعلن يلقين الفتخ والخواتم) في ثوب بلال ... " (¬2). 7 - حديث عائشة "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تبايعه، ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتى اختضبت" (¬3). -واستدلوا كذلك بجملة آثار تنص على جريان العمل على كشف الوجه والكفين في النساء بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم (¬4). وليُعلم أن لكل من الطائفتين مناقشات على أدلة الأخرى، وليس هذا محل بسطها وتحريرها فهذا يطول (¬5). وإنما أردت أن أسوق القولين، مع ثلة من أدلة كل فريق لإظهار أن هذه المسألة -وهي حكم لبس النقاب- قد اختلف فيها العلماء قديمًا وحديثًا، وأنه من الخلاف السائغ الذي لا ينبغي معه تشديد النكير على المخالف. ولا يفوتني أن أحذر -في هذا المقام- من طائفة ثالثة (ليست من العلماء في شيء) يرون أن ستر الوجه بدعة وتنطع في الدين، بل بلغ الجهل ببعضهم أن صنف كتابًا في ادِّعاء أن تغطية وجه المرأة حرام؟!! وأودُّ في ختام هذا البحث أن أقرر هذه الفوائد: 1 - أجمع العلماء على وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من المرأة الحرة. 2 - في الوجه والكفين خلاف تقدم الإشارة إليه. ¬

(¬1) البخاري (578)، ومسلم (645). (¬2) البخاري (977)، وأبو داود (1142)، والنسائي (1/ 227). (¬3) أبو داود (4166)، وعنه البيهقي (7/ 86) وصححه الألباني. (¬4) انظرها في «جلباب المرأة المسلمة» للألباني (ص 96 وما بعدها). (¬5) انظرها في «الحجاب ... أدلة الموجبين وشبه المخالفين» لشيخنا مصطفى العدوي، و «عودة الحجاب» للشيخ محمد بن إسماعيل، و «جلباب المرأة المسلمة» للعلامة الألباني.

3 - أن الذين يقولون بعدم وجوب ستر الوجه، يرون أنه الأفضل والأولى لاسيما في زمان الفتنة. الشرط الثاني (¬1): أن لا يكون زينة في نفسه: لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} (¬2). فإنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت أنظار الرجال إليها. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تسأل عنهم (¬3): رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيًا، وأمة أو عبد أبق فمات، أو امرأة غاب عنها زوجها، وقد كفاها مؤونة الدنيا، فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم" (¬4). والتبرج: أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تستدعى به شهوة الرجال (¬5). والمقصود من الأمر بالجلباب إنما هو ستر زينة المرأة، فلا يعقل أن يكون الجلباب نفسه زينة (¬6). * تنبيه: يتوهم بعض النساء "الملتزمات" أن كل ثوب سوى الأسود هو زينة في نفسه!! وهذا خطأ من أمرين: الأول: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طيب المرأة ما ظهر لونه وخفي ريحه" (¬7) وهو حديث حسن. الثاني: أنه جرى العمل من النساء الصحابيات على لبس الثوب الملون بغير الأسود ومن ذلك: 1 - حديث عكرمة أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر فشكت إليها وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء ¬

(¬1) من شروط لباس المرأة أمام الأجانب. (¬2) سورة النور: 31. (¬3) لأنهم من الهالكين. (¬4) أحمد (6/ 19)، والحاكم (1/ 119) وغيرهما وهو صحيح. (¬5) «فتح البيان» (7/ 274). (¬6) «جلباب المرأة المسلمة» (ص 120). (¬7) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (2788)، وأبو داود (2174).

رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها .... " الحديث (¬1). 2 - وفي حديث أم خالد بنت خالد قالت: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال: "من ترون أن نكسو هذه؟ " فسكت القوم، قال: "ائتوني بأم خالد" فأتى بها تُحمل فأخذ الخميصة بيده فألبسها وقال: "أبلي وأخلقي" وكان فيها علمٌ أخضر أو أصفر، فقال: "يا أم خالد، هذا سناه" وسناه بالحبشية (¬2) [معناه: حسن]. 3 - عن القاسم "أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة، وهي محرمة" (¬3). قلت: 1 - فالظاهر أن الثوب الذي هو زينة في نفسه هو المنسوج من عدة ألوان، أو الذي فيه نقوش ذهبية وفضية مما يلفت النظر ويبهر العيون. 2 - ولا يمنع ما قدمنا من أن الأسود هو أولى الثياب للمرأة وأسترها وهو لبس نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما مرَّ في حديث عائشة في قصة رؤية صفوان لها والذي فيه: " ... فرأى سواد إنسان نائم ... " وقد تقدم قريبًا. وفي حديث عائشة الآخر الذي فيه خروج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان (¬4). الشرط الثالث: أن يكون الثوب صفيقًا: لا يشف عما تحته: فقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما ... ، ونساء كاسيات عاريات ... لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (¬5). فالمراد النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة (¬6). ¬

(¬1) البخاري (5825). (¬2) البخاري (5823). (¬3) ابن أبي شيبة (8/ 372) بسند صحيح. (¬4) صحيح مسلم (2128) وقد تقدم قريبًا. (¬5) صحيح مسلم (2128) وقد تقدم قريبًا. (¬6) نقله السيوطي في «تنوير الحوالك» (3/ 103) عن ابن عبد البر.

الشرط الرابع: أن يكون فضفاضًا غير ضيق فيصف شيئًا من جسمها: فعن أسامة بن زيد قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي فكسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك لم تلبس القبطية؟ " قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُرها فلتجعل تحتها غلالة، إن أخاف أن تصف حجم عظامها" (¬1). والقبطية: ثياب تعمل بمصر، والغلالة: بطائن تلبس تحت الثوب. قلت: فإلى الأخوات المسلمات في هذا الزمان نقول: لا يكفي أن تستري شعرك ونحرك ثم لا تبالين -بعد ذلك- بلبس الملابس الضيقة والقصيرة التي لا تتجاوز نصف الساق!! واعلمن أنه لا يكفي أن تلبس الجورب على الساقين المكشوفتين!! فعليكن أن تبادرن إلى إتمام الستر كما أمر الله تعالى أسوة بالنساء المهاجرات الأول حين نزل الأمر بضرب الخُمُر، شققن مروطهن فاختمرن بها، وإننا لا نطالبكن بشق شيء من ثيابكن!! وإنما بإطالته وتوسيعه حتى يكون ثوبًا ساترًا لجميع ما أمركن الله بستره (¬2). الشرط الخامس: أن لا يكون مُبَخَّرًا أو مطيَّبًا: فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم ليجدوا من ريحها، فهي زانية" (¬3). وسبب المنع من ذلك واضح، وهو ما فيه من تحريك داعية الشهوة، وقد ألحق به العلماء ما في معناه، كحسن الملبس، والحلى الذي يظهر، والزينة الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال (¬4). وقد ذكر الهيثمي في "الزواجر" (2/ 37) أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر، ولو أذن لها زوجها. الشرط السادس: أن لا يشبه لباس الرجال: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" (¬5). ¬

(¬1) أحمد (5/ 205) بسند لين، وله شاهد عند أبي داود (4116) فيحسَّن به. (¬2) مستفاد من كلام للعلامة الألباني - رحمه الله - في «الجلباب» (ص: 133). (¬3) النسائي (2/ 283)، وأبو داود (4173)، والترمذي (2786) وغيرهم بسند حسن. (¬4) «فتح الباري» (2/ 279). (¬5) البخاري (5885)، والترمذي (2784)، وأبو داود (4097)، وابن ماجة (1904).

والمعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء والعكس. وعن أبي هريرة قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل" (¬1). * فائدة: الضابط في نهيه صلى الله عليه وسلم عن تشبه كلا الجنسين بالآخر، ليس راجعًا إلى مجرد ما يختاره الرجال والنساء وما يشتهونه ويعتادونه، وإنما هو راجع إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء، فإن ما يصلح للنساء لابد أن يناسب ما أمرن به من الاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور، فالشارع له مقصودان: أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء، والثاني: احتجاب النساء، ولابد من حصولهما جميعًا (¬2). * الشرط السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات: لما تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين -رجالًا ونساءً- التشبه بالكفار سواء في عبادتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم. وقد تضافرت النصوص الشرعية لتقرير هذه القاعدة، ومما يتعلق بالثياب حديث عبد الله بن عمرو قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها" (¬3). والنصوص غير هذا كثيرة جدًا، والمقصود هنا أن يُعلم أنه لا يجوز أن تلبس المرأة ثوبًا فيه مشابهة للباس الكافرات، فإن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس (¬4). الشرط الثامن: أن لا يكون لباس شهرة: لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارًا" (¬5). ¬

(¬1) أبو داود (4098)، وأحمد (2/ 325) بسند صحيح. (¬2) أفاد معناه شيخ الإسلام كما نقله الألباني في «الجلباب» (ص 150 وما بعدها) عن «الكواكب» لابن عروة الحنبلي (93/ 132 - 134). (¬3) مسلم (2077)، والنسائي (2/ 298)، وأحمد (2/ 162). (¬4) راجع لهذا كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية، فإنه لا مثيل له. (¬5) أبو داود (4029)، وابن ماجة (3607) بسند حسن لغيره.

وثوب الشهرة: هو كل ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس، سواء كان الثب نفيسًا تلبسه تفاخرًا بالدنيا وزينتها، أو خسيسًا إظهارًا للزهد والرياء. * فوائد متفرقة: 1 - يجوز للمرأة لبس الحرير: اعلمي أختي المسلمة، أنه يحل للنساء لبس الحرير، ولا يحل للرجال، لقوله صلى الله عليه وسلم: "حرم الله لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحلَّ لإناثهم" (¬1). وعن عليٍّ قال: "كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم حُلَّة سيراء فخرجت بها فرأيت الغضب في وجهه، فشققتها خُمرًا بين نسائي" (¬2). واستدل به على جواز لبس المرأة الحرير الصرف بناء على أن الحلة السيراء، هي: التي تكون من حرير صرف (¬3). 2 - ذيل ثوب المرأة: عن أم سلمة قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله؟ قال: "ترخي شبرًا" قالت أم سلمة: إذًا ينكشف عنها، قال: "فذراعًا لا تزيد عليه" (¬4). فهذا الحديث يفيد استثناء النساء من الوعيد الوارد في حق المسبل (المطيل لثوبه). وقد أجمع العلماء (¬5) على جواز الإسبال للنساء. * فائدة: من أين يقاس الشبر الذي ترخيه المرأة من ثوبها؟ يقاس الشبر من منتصف الساقين كما نقله في "عون المعبود" (11/ 174)، ولهذا قالت أم سلمة: إذًا تنكشف أقدامهن، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لهن بالذراع، والمقصود أن تعلم المرأة هنا أمرين: الأول: أنه يجب عليها تغطية قدميها بثوبها. ¬

(¬1) الترمذي (1720)، والنسائي (5144)، وأبو داود (4057)، وابن ماجة (3595) وهو صحيح. (¬2) البخاري (5840)، ومسلم (2071). (¬3) «فتح الباري» (1/ 300). (¬4) أبو داود (4117)، ومالك في الموطأ (1700) بسند صحيح. (¬5) نقله النووي في «شرح مسلم» (4/ 795).

والثاني: أنه يجوز لها إسبال ثوبها بما لا يزيد عن الذراع كما تقدم. 3 - لبس المرأة "البنطلون": "البنطلون" من أسوأ ما ابتلي به كثير من النساء -هداهن الله- فهو وإن كان يستر العورة إلا أنه يصفها وصفًا مهيجًا للغرائز، ومثيرًا للشهوات، ولا سيما وقد تعددت ألوانه وأنواعه وأشكاله، وقد علمت أن من شروط الحجاب الشرعي أن لا يكون الثوب ضيقًا بحيث يصف مفاتن الجسم، حتى صارت "البنطلونات" أشد إغراءً وفتنة من الثياب القصيرة، وربما كانت ضيقة جدًّا، وربما كانت بلون اللحم حتى يخيل للشخص أنها لا تلبس شيئًا، وهذا من الفجور الذي عمَّ، ولذلك لا يجوز للمرأة لبس البنطلون، اللهم إلا إذا لبسته لزوجها -ما لم يكن مشابهًا للباس الرجال- ولا تخرج به أمام المحارم فضلًا عن الأجانب. ولا بأس أن تلبسه المرأة -تحت العباءة الساترة- فإنه أعون على عدم التكشف لا سيما عند ركوب السيارة ونحو ذلك، والله أعلم. 4 - هل يجوز لبس المرأة الكعب العالي؟ عن ابن مسعود قال: "كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يُصلُّون جميعًا، فكانت المرأة لها الخليل، تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فألقي عليهن الحيض" فكان ابن مسعود يقول: "أخروهن حيث أخرهن الله" (¬1). فالظاهر في أمر الكعب العالي أن المرأة إذا كانت تتخذه كي تتشرف للرجال ويراها الرجال فيحرم لبسهما، لأنهما في هذه الحالة مدعاة للفساد ونشر الشرور (¬2). قلت: ويضاف إلى هذا أن لبس الحذاء ذي الكعب العالي يجعل مشية المرأة وحركاتها ملفتة لنظر الرجال، هذا فضلًا عما يحدثه هذا الحذاء من صوت يلفت الأنظار كذلك، وعلى هذا فلا ينبغي للمرأة أن تلبسه إذا خرجت من بيتها. 2 - لباس المرأة أمام محارمها: قبل أن نتعرف على القدر الذي يجوز للمرأة أن تبديه أمام المحارم، يجدر أولًا أن نعرِّف المَحرم. "وحقيقة المحرم من النساء التي يجوز النظر إليها والخلوة بها والمسافرة بها، كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فقولنا: ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق (5115)، وسنده صحيح. (¬2) «جامع أحكام النساء» (4/ 434).

(على التأبيد) احتراز من أخت المرأة وعمتها وخالتها ونحوهن .. " (¬1). قال الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعلوتهن أو آبائهن ....} (¬2). ففي الآية إباحة نظر المحارم إلى مواضع الزينة من المرأة، لأن الضرورة داعية إلى المخالطة والمداخلة والمعاشرة حيث يكثر الدخول عليهن والنظر إليهن بسبب القرابة، والفتنة مأمونة من جهتهم. وقد بدأ الله تعالى في الآية الكريمة بالأزواج ثم أتبعهم ببقية المحارم، وهم: 1 - الآباء وكذا الأجداد، سواء كانوا من جهة الأب أو الأم. 2 - آباء الأزواج. 3 - أبناؤهن وأبناء أزواجهن، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن نزلوا. 4 - الإخوة مطلقًا، سواء كانوا أشقاء، أو لأب، أو لأم، وإن نزلوا. 5 - أبناء الإخوة والأخوات لأنهم في حكم الإخوة. 6 - الأعمام والأخوال وهم من المحارم وإن لم يذكروا في الآية، وجمهور العلماء على أن حكمهم كحكم سائر المحارم، ويشهد لهذا: حديث عائشة: "أن أفلح أخا القعيس جاء يستأذن عليها -وهو عمها من الرضاعة- بعد أن نزل الحجاب، [قالت]: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت، فأمرني أن آذن له" (¬3). 7 - المحارم من الرضاع، ولم يذكروا في الآية أيضًا، وقد أجمع العلماء على أنهم كسائر المحارم، وهذا يتأيد بالحديث السابق أيضًا. إذا عرفت المحارم، فما هو القدر الذي يجوز إبداؤه للمحارم؟ للعلماء في القدر الذي تبديه المرأة لمحارمها قولان مشهوران: الأول: أنه لا يجوز للمحارم النظر إلى جميع بدن المرأة ما عدا ما بين السرة والركبة (¬4) وهو مذهب الجمهور. 1 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... وإذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره، فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإن ما أسفل من سرَّته إلى ركبتيه من عورته" (¬5). ¬

(¬1) شرح مسلم للنووي (3/ 484). (¬2) سورة النور: 31. (¬3) البخاري (5103)، ومسلم (1445). (¬4) المبسوط (10/ 149)، والمجموع (16/ 140). (¬5) أحمد (2/ 187)، وأبو داود (495) بسند حسن.

والحديث وإن كان سياقه في الرجال إلا أن النساء شقائق الرجال. 2 - ولحديث أبي سلمة قال: "دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة فسألها أخوها عن غسل النبى -صلى الله عليه وسلم- فدعت بإناء نحوًا من صاع، فاغتسلت وأفاضت على رأسها، وبيننا وبينها حجاب" (¬1). قال القاضي عياض (¬2): وظاهره أنهما رأيا عملها فى رأسها وأعالى جسدها مما يحل نظره للمحرم -لأنها خالة أبى سلمة من الرضاع- وإنما سترت أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه ... اهـ. القول الثاني: أنه يجوز النظر من المحارم إلى ما يظهر من المرأة غالبًا كمواضع الوضوء (¬3). فعن ابن عمر قال: "كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا" (¬4). وهذا محمول على أنه يختص بالزوجات والمحارم (¬5)، وعلى هذا ففيه دليل على جواز نظر الرجل إلى مواضع الوضوء من محارمه والعكس والله أعلم (¬6). * تنبيهات: 1 - إباحة نظر المحرم إلى المرأة -على ما تقدم- مشروط بأن لا يكون على وجه الالتذاذ والاستمتاع والشهوة، فإن حصل هذا فلا خلاف في منعه. 2 - فرق بعض العلماء بين بعض المحارم فيما يجوز للمرأة أن تبديه، بحسب ما في نفوس البشر، فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها، وتختلف مراتب ما تبدى لهم، فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج. قاله القرطبي (¬7). ¬

(¬1) البخاري (251)، ومسلم (320). (¬2) نقله الحافظ في «الفتح» (1/ 465). (¬3) سنن البيهقي (9417)، والإنصاف (8/ 20)، والمغني (6/ 554)، والمجموع (16/ 140). (¬4) البخاري (193)، وأبو داود (79)، والنسائي (1/ 57)، وابن ماجة (381). (¬5) «فتح الباري» (1/ 465) و «عون المعبود» (1/ 147). (¬6) «جامع أحكام النساء» (4/ 195). (¬7) ذكره شيخنا في «جامع أحكام النساء» (4/ 504) ثم قال: «وهذا مقبول من ناحية النظر، لكنه يفتقر في إثباته إلى الأدلة» اهـ.

3 - ينبغي للمرأة أن لا تظهر زينتها لمحرمها الذي تحصل من جهته الشبهة أو الريبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر زوجته سودة بالاحتجاب من غلام، وقد حكم أنه أخوها -لأنه ولد على فراش أبيها- لما رأى به شبهًا بينًا بعتبة بن أبي وقاص وقد ادعى سعد بن أبي وقاص أنه ابن أخيه عتبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قضى أنه أخوها: " ... احتجبي منه يا سودة" (¬1). * يجوز للمرأة مَسُّ المرأة وتقبيلها إذا لم يكن بشهوة: ففي حديث عائشة في قصة غضبها على ابن الزبير (وهو ابن أختها أسماء). ونذرها ألا تكلمه، واستشفاعه إليها لتكمله: "قالت: ادخلوا كلكم -ولا تعلم أن معهما ابن الزبير- فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي ... " (¬2). وعن عائشة قالت: " ... كانت إذا دخلت عليه [أي فاطمة] قام إليها [النبي صلى الله عليه وسلم] فأخذ بيدها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبَّلته وأجلسته في مجلسها" (¬3). * ويجوز للمرأة أن تركب خلف الرجل من محارمها: لحديث أنس قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مَقفَله من عسفان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وقد أردف صفية بنت حيي فعثرت ناقته ... الحديث" (¬4). 3 - لباس المرأة أمام النساء: قال تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن} (¬5). قال ابن كثير (3/ 284): وقوله {أو نسائهن} يعني: تظهر بزينتها أيضًا للنساء المسلمات ... اهـ. ¬

(¬1) البخاري (2053)، ومسلم (1457) وهذا معناه. (¬2) البخاري (6073). (¬3) أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، والحاكم (4/ 272) وهو صحيح. (¬4) البخاري (3085)، ومسلم (1345). (¬5) سورة النور: 31.

وعورة المرأة التي يجب سترها عن المرأة هي عورة الرجل بالنسبة للرجل: من السرة إلى الركبة (¬1). فلا يجوز أن تطلع المرأة على ما بين السرة والركبة من امرأة أخرى كما يفعله كثير من المسلمات، قال ابن الجوزي (¬2): "وعموم النساء الجاهلات، لا يتحاشين كشف العورة أو بعضها والأم حاضرة أو الأخت أو البنت، ويقلن هؤلاء ذوات قرابة، فلتعلم المرأة أنها إذا بلغت سبع سنين لم يجز لأمها ولا أختها ولا لابنتها أن تنظر إلى عورتها ... " اهـ. قلت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة الثوب الواحد" (¬3). * هل تبدي المرأة زينتها للمرأة الكافرة؟ ذهب فريق من العلماء إلى أن المرأة لا يجوز لها أن تبدي زينتها لغير المسلمات لئلا يصفنها لأزواجهن، لقوله تعالى: {أو نسائهن} والمراد النساء المؤمنات فيخرج من ذلك نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم (¬4). بينما ذهب آخرون إلى جواز ذلك وأنه لا فرق بين المسلمة والذمية في النظر إلى المرأة، واستدلوا بأن الكوافر من اليهوديات كُن يدخلن على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكنَّ يحتجبن ولا أمرن بالحجاب ولا أمرن بالحجاب، وقد جاءت يهودية فدخلت على عائشة فذكرت عذاب القبر .... فسألت رسول الله فقال: "نَعَم عذاب القبر ... " الحديث (¬5). وقالت أسماء: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة -يعني: عن الإسلام- فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: "نعم" (¬6). ولأن الحجب بين الرجال والنساء لمعنى لا يوجد بين المسلمة والذمية فوجب ¬

(¬1) المغنى (6/ 562). (¬2) «أحكام النساء» لابن الجوزي (ص76). (¬3) مسلم (338)، وأبو داود (4018)، والترمذي (2793)، وابن ماجة (661). (¬4) تفسير ابن كثير (3/ 284)، وتفسير القرطبي (4625). (¬5) البخاري (1372)، ومسلم (903). (¬6) البخاري (2620)، ومسلم (1003).

أن لا يثبت الحجب بينهما كالمسلم مع الذمي، ولأن الحجاب إنما يجب بنص أو قياس ولم يوجد واحد منهما، فقوله: {أو نسائهن} يحتمل أن يكون المراد جملة النساء، والله أعلم (¬1). قلت: لكن إن حصلت الريبة من إحدى النساء الكتابيات وعلم أنها تصف المرأة لزوجها فإنه يمنع إبداء الزينة لها والله أعلم. 4 - لباس المرأة أمام عَبْدِها: ذهب أكثر العلماء إلى أن عبد المرأة كالمحرم يجوز له النظر إلى ما ينظر إليه المحرم. واستدلوا بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن} (¬2) قالوا: فقوله: {أو ما ملكت أيمانهن} يشمل العبيد والإماء، ولا يجوز أن يحمل ذلك على الإماء، لأن ذلك دخل في قوله قبل ذلك {أو نسائهن} (¬3). ولحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد كان قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى، قال: "إنه ليس عليكِ بأس، إنما هو أبوك وغلامك" (¬4). ورجع شيخ الإسلام جواز نظر العبد إلى مولاته لأجل الحاجة لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والمعامل والخاطب فإذا جاز فنظر العبد أولى (¬5). 5 - إبداء الزينة أمام من ليس لهم حاجة إلى النساء: قال تعالى: {أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال} (¬6). ¬

(¬1) «جامع أحكام النساء» (4/ 498). (¬2) سورة النور: 31. (¬3) المبسوط (10/ 157). (¬4) أبو داود (4106)، والبيهقي (7/ 95) وهو حسن. (¬5) «مجموع الفتاوى» (16/ 141). (¬6) سورة النور: 31.

قال ابن كثير: يعني كالأُجَراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء وهم مع ذلك في عقولهم وَلَهٌ. اهـ. وهم الذين ليس لهم حاجة إلى النساء ولم يكن لهم فيهن إرب لكبر أو تخنث أو عنَّة. ومثل هؤلاء يرخص لهم في النظر إلى النساء من أجل الحاجة الماسة، رفعًا للحرج، لكن إذا علم أن المخنث -مثلًا- يفطن إلى أمر النساء ويصفهن فإنه يمنع من الدخول عليهن والنظر إليهن. فعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها -وفي البيت مخنث- فقال المخنث لأخي أم سلمة -عبد الله بن أبي أمية-: إن فتح الله لكم الطائف غدًا أدلك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن هذا عليكم" (¬1). فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يصف ابن غيلان علم أنه يفهم أمر النساء فأمر بحجبه. * تنبيه: اتفق جمهور الفقهاء على أن الرجل الخصي والمجبوب يحرم نظره إلى النساء، لأن العضو إن تعطل أو عدم، فشهوة الرجال لا تزال من قلوبهم (¬2). 6 - إبداء الزينة للأطفال الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن: قال الله تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} (¬3). قال ابن كثير: "يعني: لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعاطفهن في المشي وحركتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إن كان مراهقًا أو قريبًا منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكن من الدخول على النساء" اهـ. ومما يدل على ذلك، حديث جابر "أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا طيبة أن يحجمها" قال: حسبت أنه قال: كان أخاها من الرضاعة أو غلامًا لم يحتلم (¬4). ¬

(¬1) البخاري (5235)، ومسلم (2180). (¬2) انظر المبسوط (10/ 158)، والمجموع (16/ 140). (¬3) سورة النور: 31. (¬4) مسلم (2206)، وأبو داود (4105)، وابن ماجة (3480).

مسائل تتعلق بأحكام النظر

7 - لباس المرأة وزينتها أمام زوجها: لكل واحد من الزوجين أن ينظر إلى جميع بدن الآخر من غير كراهة، سواء كان ذلك بشهوة أو بغير شهوة، وسواء في ذلك الفرج وغيره، وهذا قول جمهور العلماء، ومما يدل على ذلك: 1 - قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} (¬1). والآية تدل على أن ما فوق النظر -وهو المس والغشيان- حلال بينهما، وبما أنه أبيح للزوج الاستمتاع به فمن باب أولى أن يباح له النظر إليه ولمسه كبقية البدن (¬2). 2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال له: الفَرَق" (¬3). وهو دليل على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه (¬4). 3 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك" (¬5). فالحاصل: أنه لا حد لعورة أحد الزوجين أمام الآخر، فتلبس المرأة ما شاءت لزوجها وتخلع ما شاءت، وتزين له بكل أنواع الزينة المباحة شرعًا، والتي سوف نتناولها بالتفصيل قريبًا، إن شاء الله. مسائل تتعلق بأحكام النظر (¬6) 1 - نظر الرجال -غير المحارم- إلى المرأة: يحرم على الرجال النظر إلى النساء لغير ضرورة، وقد أمر الشارع بغض البصر. ¬

(¬1) سورة المعارج: 29، 30. (¬2) المبسوط (10/ 148)، والمحلي (10/ 33). (¬3) البخاري (250)، ومسلم (319). (¬4) فتح الباري (1/ 364). (¬5) أبو داود (4017)، والترمذي (2769)، وابن ماجة (1920) بسند حسن. (¬6) تقدم طرف من مسائل النظر فيما مضى.

1 - قال الله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بنا يصنعون} (¬1). قال ابن القيم (¬2)، رحمه الله: "لما كان غض البصر أصلًا لحفظ الفرج بدأ بذكره، ولما كان تحريمه تحريم الوسائل، فيباح للمصلحة الراجحة، ويحرم إذا خيف منه الفساد، ولم يعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة، لم يأمر سبحانه بغضه مطلقًا، بل أمر بالغض منه، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه فلذلك عم الأمر بحفظه" اهـ. 2 - وعن ابن عباس قال: "كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر" (¬3). وهذا منه صلى الله عليه وسلم منع وإنكار بالفعل. 3 - وعن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة "فأمرني أن أصرف بصري" (¬4). 4 - وعن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: "يا عليُّ، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة" (¬5). * نظر الرجل إلى المرأة يباح للمصلحة الراجحة: قد تقرر أن نظر الرجل للمرأة -والعكس- قد حرم لأنه وسيلة وذريعة إلى الفاحشة، وما كان تحريمه تحريم الوسائل فإنه يباح للمصلحة الراجحة، والأص في هذا الحديث عليٌّ في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم له وللزبير ولأبي مرثد، لإدراك المرأة المشركة التي كان معها صحيفة حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين وفيه: " ... قلت: لقد علمت ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يُحلف به، لتخرجن الكتاب أو ¬

(¬1) سورة النور: 30. (¬2) «روضة المحبين» (ص 92). (¬3) البخاري (6228)، ومسلم (1218) وقد تقدم. (¬4) مسلم (2159)، وأبو داود (2148)، والترمذي (2776). (¬5) الترمذي (2777)، وأبو داود (2149)، وأحمد (1377)، وسنده حسن لغيره.

لأجردنك، قال فلما رأت الجد مني أهوت بيدها إلى حُجزتها فأخرجت الكتاب ... الحديث" (¬1). قال الحافظ في "الفتح" (11/ 47): "في الحديث أنه يجوز النظر إلى عورة المرأة للضرورة التي لا يجد بدًا من النظر إليها" اهـ. وقلت: ومن المواطن التي يباح فيها النظر إلى المرأة: 1 - الخطبة: وقد اتفق العلماء على إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد أن يتزوجها. "والحكمة في ذلك أن يكون الزوج على رؤية، وأن يكون أبعد من الندم الذي يلزمه إن اقتحم في النكاح ولم يوافقه فلم يُرْده، وأسهل للتلافي إن رد، وأن يكون تزوجها على شوق ونشاط إن وافقه. والرجل الحكيم لا يلج مولجًا حتى يتبين خيره وشره قبل ولوجه" (¬2). وسيأتي مزيد بيان لأحكام الخطبة وأدلة النظر حدوده وضوابطه، في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. 2 - النظر للعلاج: الأصل أنه لا يطبب المرأة إلا المرأة، لكن لا خلاف بين العلماء أنه يجوز للرجل أن يطبب المرأة وينظر إلى موضع المرض منها عند الحاجة، وضمن ضوابط معينة. والأصل في هذا أنه جاز للمرأة الأجنبية أن تعالج الرجل عند الضرورة فذلك العكس، فعن الربيع بن معوِّذ قالت: "كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة" (¬3). لكن لا ينبغي التوسع في هذا الأمر -كما هو مشاهد في هذه الأيام- فلجواز نظر الطبيب إلى المرأة المريضة ضوابط ذكرها العلماء ومن ذلك (¬4): 1 - يشترط تقديم الطبيبة في معالجة المرأة على الطبيب -إذا وجدت- وخاصة إذا كان الكشف في مواطن العورة المغلظة، فإن لم توجد طبيبة أو لم يمكن الوصول إليها، فحينئذ تكون الضرورة. ¬

(¬1) البخاري (3081)، ومسلم (2494). (¬2) حجة الله البالغة (2/ 124). (¬3) صحيح البخاري (2883). (¬4) انظر «أحكام العورة والنظر» لمساعد الفالح (ص 344 وما بعدها).

2 - أن يكون الطبيب أمينًا غير متهم في خلقه ودينه. 3 - ألا يخلو الطبيب بالمرأة إلا في وجود محرم أو امرأة ثقة. 4 - ألا يتجاوز الطبيب الحد الكافي لدفع الضرورة من نظر وكشف ولمس وغيرها من دواعي العلاج، وعليه عند الكشف على المرأة أن يستر جميع ما لا يحتاج إلى النظر إليه من جسمها، ويكتفي فقط بالنظر إلى موضع العلاج. 5 - أن تكون الحاجة إلى العلاج ماسة كمرض أو وجع لا يحتمل، أو هزال يخشى منه، أما إذا لم يكن مرض أو ضرورة للمداواة فلا يجوز قطعًا كالتي تتعاين عند الطبيب لتحسين صحتها أو لتخفيف وزنها أو لتجميل جسمها، فإن هذا ليس بموضع حاجة. 3 - النظر من القاضي والشاهد: نظر القاضي والشاهد إلى المرأة من الحالات المستثناة ضرورة، وهو ما إذا دُعي الرجل إلى الشهادة لها أو عليها، أو كان حاكمًا ينظر ليوجه الحكم عليها بإقرارها أو بشهادة الشهود على معرفتها، لأنه لا يجد بدًا من النظر في هذا الموضع، والضرورات تبيح المحظورات (¬1). ولو عرفها الشاهد في النقاب لم يحتج للكشف إلى فإن الضروروة تقدر بقدرها. 4 - النظر للمعاملة كالبيع والشراء: قد تقضي الضرورة تمييز المرأة ومعرفتها من غيرها عند البيع والشراء أو غيرهما ليرجع المتعامل بالعهدة ويطالب بالثمن مثلًا، فقد نص الفقهاء على جواز النظر للمرأة من أجل المعاملة. قال النووي: "ويجوز للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية عند الشهادة وعند البيع منها والشراء، ويجوز لها أن تنظر إلى وجهه كذلك" (¬2). * استئذان الرجل للدخول على المحارم: تقدم تحديد عورة المرأة أمام محارمها، وأن المرأة لا تؤمر بالحجاب أمام هؤلاء المحارم. ¬

(¬1) انظر «أحكام العورة والنظر» (ص 350). (¬2) «المجموع» (16/ 139).

لكن لا ينبغي أن يدخل الرجال على محارمهم بدون استئذان، لأنه قد يدخل على محرمه فيراها في هيئة يكرهها كأن تكون عريانة أو نحو ذلك. فعن علقمة قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: أأستأذن على أمي؟ قال: ما على كل أحيانها تحب أن تراها (¬1). وعن عطاء قال: سألت ابن عباس فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم، فأعدت فقلت: أختان في حجري وأنا أمونهما وأنفق عليهما أستأذن عليهما؟ قال: نعم، أتحب أن تراهما عريانتين؟! ثم قرأ: {ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم} (¬2) (¬3). * يحرم على الرجل الخلوة بالمرأة الأجنبية: فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما" (¬5). * فإن دخل رجلان أو ثلاثة ممن يبعد تواطؤهم على الفاحشة على امرأة جاز: لحديث عبد الله بن عمرو "أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق -وهي تحته يومئذ- فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لم أر إلا خيرًا" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد برّأها من ذلك" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة (¬6) إلا ومعه رجل أو اثنان" (¬7). * يجوز للرجل عيادة المرأة المريضة بشرط التستر وأمن الفتنة: فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب، فقال: "مالك ¬

(¬1) البخاري في «الأدب المفرد» (1059) بسند صحيح. (¬2) سورة النور: 58. (¬3) البخاري في «الأدب المفرد» (1063) بسند صحيح. (¬4) البخاري (3006)، ومسلم (1341). (¬5) أحمد في «المسند» (1/ 18) بسند صحيح. (¬6) المغيبة هي المرأة التي غاب عنها زوجها. (¬7) صحيح مسلم (2173).

يا أم السائب تزفزفين؟ " قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: "لا تسبي الحُمَّى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" (¬1). 2 - نظر المرأة إلى الرجال غير المحارم: نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي، إن كان بشهوة فحرام بالاتفاق، وإن كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة ففي جواز ذلك وجهان (¬2): والراجح أن للمرأة أن تنظر إلى ما سوى ما بين السرة إلى الركبة من الرجل إذا أمنت الفتنة (¬3) ويؤيد هذا: -حديث عائشة قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حُجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم" (¬4). والحديث ظاهر الدلالة في جواز نظر المرأة إلى للرجال. - ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اذهبي إلى ابن أم مكتوم فكوني عنده، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده" (¬5). وهذا دليل على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أنه يطلع عليه من المرأة وأما العورة فلا (¬6). وعلى هذا تكون هذه الأدلة مخصصة لقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} (¬7). لكن جواز النظر إلى الرجال مشروط بما لم يكن بشهوة مع أمن الفتنة، ووجود الحاجة، فلا يعني هذا جواز اختلاط المرأة بالأجانب وتبادل النظر والحديث معهم لغير حاجة والله أعلم. * يجوز للمرأة عيادة الرجل المريض بشرط التستر وأمن الفتنة: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وُعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما قلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدُك؟ ... " (¬8). ¬

(¬1) صحيح مسلم (2575). (¬2) شرح مسلم للنووي (6/ 184). (¬3) المبسوط (10/ 148) وبدائع الصنائع (5/ 122). (¬4) البخاري (455)، ومسلم (892). (¬5) صحيح مسلم (1480). (¬6) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 228). (¬7) سورة النور: 31. (¬8) البخاري (3926)، ومسلم (1376) واللفظ للبخاري.

* ويجوز للمرأة أن تعالج الرجل عند الضرورة: لما تقدم من حديث الرُّبيع بنت معوذ قالت: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونردُّ القتلى إلى المدينة" (¬1). لكن يشترط ألا يكون هناك رجل يستطيع أن يقوم بمثل هذه المعالجة، والله أعلم. * لا يجوز للمرأة مصافحة الرجل الأجنبي: فعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحلُّ له" (¬2). ولذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافح النساء ولا يبايعهن إلا كلامًا. فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمرأة المُبايعة: "قد بايعتك كلامًا" وقالت: ولا والله ما مسَّت يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" (¬3). وفي رواية أنه قال لهن: "إني لا أصافح النساء ... " (¬4). * أما تسليم النساء على الرجال -وعكسه- من غير مصافحة فجائز: فعن أم هانئ قالت: "ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه، ... " الحديث (¬5). ففي الحديث جواز تسليم المرأة على الرجل من غير مصافحة، ومحله إذا أمنت الفتنة. وكذلك يجوز للرجل السلام على النساء -دون مصافحة-: فعن أسماء بنت يزيد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ في المسجد يومًا، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم" (¬6). ¬

(¬1) صحيح البخاري (2883). (¬2) الطبراني في «الكبير» (20/ 211) بسند حسن، وانظر السلسة الصحيحة (226). (¬3) صحيح البخاري (2713). (¬4) موطأ مالك (1842)، وأحمد (6/ 357)، والترمذي (1597)، والنسائي (4181)، وابن ماجة (2874). (¬5) البخاري (3171)، ومسلم (336). (¬6) الترمذي (2697)، وأبو داود (5204)، وابن ماجة (3701)، وحسنَّه شيخنا - حفظه الله - في «جامع أحكام النساء» (4/ 318).

الزينة للمرأة المسلمة

* يجوز تكليم النساء للرجال -بضوابطه الشرعية- إذا أمنت الفتنة: ومحل هذا التكليم الضرورة والحاجة، والانضباط بالضوابط الشرعية، فلا يكون فيه خضوع بالقول، ولين وتميُّع، لقوله تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا} (¬1). ومما يدل على الجواز، قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب} (¬2). وقوله تعالى في تكليم موسى عليه السلام للمرأتين بمدين: {ووجد من دونهم امرأتين تزودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير* فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير* فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} (¬3). وفي الباب عدة أحاديث نذكر منها: حديث أنس قال: "لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: واكرب أباه، فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" ... فلما دفن قالت فاطمة -عليها السلام-: يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! " (¬4). * تكليم الرجل في التليفون للحاجة: وعلى ما تقدم فيجوز للمرأة أن تكلم الرجل الأجنبي في التليفون للحاجة، على أن يقيد هذا بالضوابط الشرعية. "أما إذا كان التليفون سيحدث بينهما جوًّا مشابهًا لجو الخلوة التي نهينا عنها شرعًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان" وكانت ستتمكن هي وهو من الحديث الذي يجرهما إلى محرم فترك ذلك متعين، والله أعلم" (¬5). الزينة للمرأة المسلمة (¬6) تقدم أن المرأة لا يجوز لها أن تبدي لزوجها أو محارمها أو النساء أو من تقدم ذكره قريبًا ممن يجوز لها إبداء الزينة له. ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 32. (¬2) سورة الأحزاب: 53. (¬3) سورة القصص: 23 - 25. (¬4) صحيح البخاري (4462). (¬5) من كلام شيخنا - حفظه الله - في «جامع أحكام النساء» (4/ 366). (¬6) انظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا، و «أحكام الزينة للنساء» لعمرو عبد المنعم.

وبقي أن يُعلم هنا أمران: الأول: أن الزينة التي تبديها المرأة لهؤلاء تتفاوت وتختلف، فما تبديه لزوجها غير ما تبديه لأبيها وأخيها، وما تبديه من الزينة لهما غير الذي تبديه لزوج أمها وهكذا، وهذا أمر ظاهر. الثاني: أن التزين للزوج له حدود، فليس الأمر فيه مطلقًا، فلا يجوز التزين للزوج بما هو محرم، أو بما فيه تشبه بالرجال، أو بما يغير خلق الله، أو بما هو خاص بزينة الكافرات وهكذا مما سيتضح فيما يأتي. والآن: ما هي أنواع الزينة التي تتزين بها النساء، وما هو المشروع منها وما هو غير المشروع، وما هي بعض آداب ذلك؟ فأقول: إليك طرفًا من أنواع زينة النساء: 1 - زينة الشَّعر: يستحب الاعتناء بالشعر وتمشيطه وتدهينه وغسله ونحو ذلك لكي تظهرالمرأة أمام زوجها بمظهر يسرُّه، ولا شك أن إدخال السرور على الزوج أمر مطلوب شرعًا، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير النساء قال: "الذي تطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، وتحفظه في نفسها وماله" (¬1). ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه إذا رجعوا من سفر أن يدخلوا على نسائهم ليلًا خشية أن يرى الرجل زوجه بمنظر قبيح، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: "أمهلوا حتى لا ندخل ليلًا، كي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة" (¬2). والشعثة: التي اغبر وتوسخ شعر رأسها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان له شعر فليكرمه" (¬3). * ومن آداب الترجل (تمشيط الشعر): 1 - البدء بالشق الأيمن من الرأس: لحديث عائشة الذي تقدم: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره وتنعله وترجله" (¬4). ¬

(¬1) النسائي (6/ 68) بسند صحيح. (¬2) البخاري (579)، ومسلم (715). (¬3) أبو داود (4163) بسند حسن. (¬4) تقدم قريبًا.

2 - تدهين الشعر وتسكينه بالماء إذا كان ثائرًا: لقوله صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل الأشعث: "أما كان يجد ما يسكن به به شعره؟! " (¬1). * لا يجوز وصل الشعر (لبس الباروكة): فعن أسماء: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة" (¬2). والواصلة: التي تصل شعر المرأة بشعر آخر. والمستوصلة: التي تطلب من يفعل بها ذلك، ومن هذا لبس "الباروكة" وهذا حرام على المرأة حتى وإن تساقط شعرها. لما في الرواية الأخرى عن أسماء: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أنكحت ابنتي ثم أصابها شكوى فتمرَّق رأسها (أي تساقط شعرها) وزوجها يستحثني بها، أفأصل رأسها؟ فسبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة (¬3). وعن معاوية بن أبي سفيان أنه تناول قُصَّة من شعر كانت بيد حَرَسيٌ فقال: أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حيث اتخذ هذه نساؤهم" (¬4). فالحاصل أنه لا يجوز للمرأة أن تصل شعرها بشعر آخر (كلبس الباروكة) سواء كان ذلك للزوج أو لغيره فإنه حرام. * هل يجوز وصل الشعر بخيط الحرير أو الصوف ونحو ذلك، مما ليس بشعر؟ الراجح من قولي العلماء أنه يجوز للمرأة أن تصل شعرها بخيوط الحرير أو الصوف أو القماش، مما لا يشبه الشعر، فإن هذا ليس بوصل ولا في معنى مقصود الوصل وإنما هو للتجمل والتحسين (¬5) والله أعلم. * الاستحداد ونتف الإبط من سنن الفطرة: الاستحداد: هو حلق العانة (وهي: الشعر النابت حول الفرج) ويستحب ¬

(¬1) أبو داود (4062)، والنسائي (8/ 183) بسند صحيح. (¬2) البخاري (5936)، ومسلم (2122). (¬3) البخاري (5935)، ومسلم (2122). (¬4) البخاري (5933)، ومسلم (2127). (¬5) نقله النووي عن القاضي عياض، وذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل - رحمه الله.

للمرأة أن تتعاهد إزالة شعر العانة والإبط، فإن ذلك من سنن الفطرة المندوب إلى فعلها. ويكره للمرأة -وللرجل كذلك- أن تتركه حتى يطول لكونه مظنة لتجمع الأوساخ ومنبعًا للرائحة الكريهة التي ينفر منها كل من الزوجين. ولذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يترك هذا الشعر أكثر من أربعين ليلة: فعن أنس قال: "وُقِّت لنا في الشارب، وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا يترك أكثر من أربعين ليلة" (¬1). * النمص حرام: النمص: قيل هو إزالة الشعر من الوجه مطلقًا. وقيل هو إزالة شعر الحاجب وترقيقه خاصة دون سائر الوجه وهذا الثاني هو المنقول عن عائشة، وهي أعلم بمثل هذا من غيرها. والنمص حرام سواء كان للزوج أو لغيره، بإذن الزوج أو بدونه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن النامصة والمتنمصة" (¬2). لما في هذا الفعل من تغيير لخلق الله، فهذا حرام على الفاعلة له والمفعول بها. ورغم هذا اللعن من الله ورسوله لمن تفعل ذلك نجد هذا الأمر -مع الأسف الشديد- فاشيًا في نساء المسلمين -بل وفي بعض المحجبات- حتى إنه ليُنكر على من لا تتعاطاه ويُسخر منها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. * إذا ظهر للمرأة شعر شارب أو لحية فإنها تزيله: ففي بعض الحالات -غير الطبيعية- ينبت للمرأة شعر شارب أو لحية حتى يفحش فحينئذٍ ينبغي عليها أن تزيله، فإن هذا إعادة للخلقة إلى أصلها وليس تغييرًا لها. 2 - الزينة في الأسنان: حث الإسلام على العناية بالأسنان، فندب إلى استعمال السواك: ¬

(¬1) مسلم (258)، وأبو داود (420)، والترمذي (2759)، والنسائي (1/ 15)، وابن ماجة (295). (¬2) البخاري (5948)، ومسلم (2125) وغيرهما.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة" (¬1). * لا يجوز تفليج الأسنان: والتفليج: هو مباعدة الأسنان بعضها عن بعض إظهارًا لصغر السن وحسن الأسنان، وهذا الفعل لغير التطبب حرام لما فيه من تغيير خلق الله والتدليس والتلبيس، ولذا: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله" (¬2). فإذا فُعل هذا لغرض التطبب جاز، وكذلك يجوز شد الأسنان بالذهب إذا خشي عليها التساقط، وزرع الأسنان والأضراس، فكل هذا مباح للضرورة (¬3) والله أعلم. * زينة الطيب (استعمال العطور): الطيب من مظاهر الزينة المباحة للنساء، فتتطيب المرأة لزوجها بما شاءت من الطيب. فقد تقدم -في الجنائز- حديث زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ... " (¬4). * يجوز تطيب المرأة بطيب الرجال والعكس: فقد جاء في حديث عائشة المتقدم -في الحيض- اتباع الدم بفرصة مسك، وهو من عطور الرجال. وجاء في حديث أبي سعيد استحباب تطيب الرجل يوم الجمعة "ولو من طيب المرأة" (¬5). * استعمال العطور المحتوية على الكحول (الكولونيا) (¬6): أكثر الروائح العطرية المعروفة بـ (الكولونيا أو البارفان) تحتوي على مادة ¬

(¬1) البخاري (887)، ومسلم (252) واللفظ له. (¬2) البخاري (4886)، ومسلم (2125). (¬3) المغني (3/ 15، 16). (¬4) البخاري (5334)، ومسلم (1486). (¬5) صحيح مسلم (846)، والنسائي (1375)، وأبو داود (344). (¬6) انظر: «أضواء البيان» (1/ 324)، و «فتاوى اللجنة الدائمة» (ص: 150) جمع صفوت الشوادفي - رحمه الله.

الكحول (الإيثيلي) وقد ثبت بقول أهل الخبرة من الأطباء أنها مسكرة، وعلى هذا فلا يجوز استعمالها في الطيب لأمرين: 1 - أن الله تعالى قال: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (¬1). فسمَّى الله تعالى الخمر (وهي كل مسكر) رجسًا وأمر باجتنابها وهذا يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المسكر، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمر (¬2) ولو كانت فيها منفعة أخرى لبيَّنها، كما بيَّن جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولما أراقها. فلا يخفى على منصف أن التضمخ بالطيب المذكور، والتلذذ برائحته واستطابته واستحسانه مع أنه مسكر، فيه ما فيه. 2 - أن الخمر نجسة -عند جمهور العلماء- من الأئمة الأربعة وغيرهم (¬3) فتحرم -على هذا- الصلاة في الثوب أو البدن الذي أصابه هذا العطر!! بل تبطل الصلاة عند الجمهور بذلك. على أن من العلماء من أجاز هذه العطور إذا كانت نسبة الكحول فيها قليلة -وهذا يعرفه أهل الخبرة- والأحوط تركها، أو استعمال العطور المذابة بغير هذا الكحول، والله أعلم. * للمرأة أن تعطِّر زوجها: فعن عائشة قالت: "كنت أطيِّب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته" (¬4). * فائدة: يؤخذ من الحديث أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف النساء لأنهن يطيبن وجوههن ويتزينَّ بذلك بخلاف الرجال. فإن تطييب الرجل في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة: 90. (¬2) البخاري (2464)، ومسلم (1980). (¬3) على أنني متوقف في مسألة نجاسة الخمر، لتوقفي في حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه، وهي مسألة مشهورة في الأصل. (¬4) البخاري (5923)، ومسلم (1190). (¬5) «فتح الباري» (10/ 366).

* إذا خرجت المرأة من بيتها وجب عليها إزالة رائحة العطر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية" (¬1)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد، فلا تمس طيبًا" (¬2) قال الألباني -رحمه الله- (¬3): "فإذا كان هذا حرامًا على مريدة المسجد فماذا يكون الحكم على مريدة السوق والأزقة والشوارع؟ لا شك أنه أشد حرمة وأكبر إثمًا، وقد ذكر الهيثمي في "الزواجر" أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر ولو أذن لها زوجها" اهـ. قلت: فيجب على المرأة أن تتخلص من رائحة الطيب قبل خروجها من بيتها. ويكون هذا التخلص بغسله أو غير ذلك مما تحصل به الإزالة للرائحة وقد رُوي في هذا حديث ضعيف الإسناد إلا أن معناه صحيح، وهو: "ما من امرأة تطيبت للمسجد، فلن يقبل الله لها صلاة حتى تغتسل منه اغتسالها من الجنابة" (¬4). * تنبيه: قد تخرج المرأة من بيتها -غير متعطرة- ولكنها تحمل طفلها الذي عطرته، وهذا لا يجوز، لأن علة لفت أنظار الرجال إليها بسبب الرائحة ما زالت موجودة فبقي حكم التحريم، فلينتبه لهذا، والله أعلم. * لا يجوز استعمال الطيب لا للزوج ولا لغيره في ثلاث حالات: (أ) في الإحرام: لقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المُحرم: " ... ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران ولا ورس ... " (¬5). والحكمة في منعه للمُحرمة أنه من دواعي الجماع ومقدماته التي تفسد الإحرام. (ب) عد الإحداد: وقد تقدم في الجنائز أن المرأة تمتنع في الإحداد على الميت من الطيب وغيره. (جـ) عند الخروج من البيت: حتى وإن نوت التعطر لزوجها فهذا لا يجوز كما تقدم. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) مسلم (443)، والنسائي في «الكبرى» (9425). (¬3) «الحجاب» (ص: 65، 66). (¬4) النسائي (8/ 153)، وأحمد (2/ 297) وهو ضعيف. (¬5) البخاري، وقد تقدم في «الحج».

4 - زينة الكحل: يستحب للمرأة الاكتحال لأجل التزين لزوجها، وكذلك التطبب إذا اشتكت من آلام العين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد: يجلو البصر، وينبت الشعر" (¬1). لا يجوز للمرأة التكحل في فترة الإحداد: وقد تقدم هذا في الجنائز. لا يجوز اتخاذ المكحلة من الذهب أو الفضة (¬2): فقد تقدم في "الآنية" أنه لا يجوز استعمال الآنية المصنوعة من الذهب أو الفضة لما فيه من السرف والخيلاء وكسر لقلوب الفقراء ونحو ذلك. 5 - الزينة بالخضاب والأصباغ: لا يجوز للمرأة -ولا للرجل- نتف الشيب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة" (¬3). ولكن يُشرع صبغ هذا الشيب بصفرة أو حُمرة، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" (¬4). وقد ورد أن أفضل ما يغير به الشيب: الحناء والكتم. فعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحسن ما غيَّرتم به الشيب: الحناء والكتم" (¬5). والحناء معروفة، والكتم: نبات يصبغ به، لكن لا يشرع الصبغ بالأسود، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا قحافة يوم الفتح ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا: "غيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" (¬6). ¬

(¬1) أبو داود (3878)، والترمذي (994)، والنسائي (8/ 15)، وابن ماجة (3497) وسنده حسن. (¬2) «فتاوى العز بن عبد السلام» (ص 158) عن «أحكام الزينة للنساء» (ص 48). (¬3) أبو داود (4202) بسند حسن. (¬4) البخاري (3462)، ومسلم (2103). (¬5) الترمذي (1573)، والنسائي (8/ 139)، وابن ماجة (3622) وفي سنده اختلاف. (¬6) مسلم (2102)، والنسائي (5076)، وأبو داود (4204).

* يجوز خضاب الأيدي والأقدام: فعن معاذة: أن امرأة سألت عائشة: تختضب الحائض؟ فقالت: "قد كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نختضب، فلم يكن ينهانا عنه" (¬1). وكذلك يجوز الخضاب في الطُّهر، لكن على المرأة أن تزيله إذا أرادت الوضوء. فعن ابن عباس قال: "كُنَّ نساؤنا يختضبن بالليل، فإذا أصبحن فتحنه فتوضأْن وصلَّيْن، ثم يختضبن بعد الصلاة، فإذا كان عند الظهر فتحنه فتوضأن وصلين، فأحسن خضابًا، ولا يمنع من الصلاة" (¬2). * "المكياج" ومساحيق الزينة: يجوز للمرأة أن تستعمل -للتزين للزوج- ما شاءت من المساحيق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ... خير طيب النساء ماظهر لونه، وخفي ريحه" (¬3). ومما يؤيد هذا: حديث أنس: "أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أثر صُفرة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن تزوج امرأة من الأنصار ... " الحديث (¬4). قال النووي: إن الصفرة تعلقت به من جهة زوجته. اهـ. وعلى هذا فهو دليل على استعمال المرأة للأصباغ والمساحيق. "فالحاصل أن للمرأة أن تستعمل المكياج ما دامت لا تبديه إلا لمن أذن الله لها في إبدائه لهم، وإذا لم يكن فيه تدليس ولا غش لأحد، وإذا لم يثبت له ضرر كبير على بشرة المرأة والله أعلم" (¬5). * تنبيه: يذكر بعض الأطباء أن للمكياج أضرارًا على البشرة، فإن ثبت هذا لم يجز استعماله، ومما ذكروه (¬6): ¬

(¬1) ابن ماجة (656) بسند صحيح. (¬2) الدارمي (1093) بسند صحيح. (¬3) الترمذي (2788)، وأبو داود (2174) وهو حسن لغيره كما قال شيخنا في «جامع أحكام النساء» (4/ 417). (¬4) صحيح البخاري (5153). (¬5) جامع أحكام النساء (4/ 418)، وبهذا أفتى العلامة ابن باز وابن عثيمين - رحمهما الله. (¬6) من «اللباس والزينة» للأخ سمير عبد العزيز - أثابه الله - (ص: 120 - 125).

قال الدكتور مصطفى حسين عبد المقصود أستاذ الأمراض الجلدية والتناسلية بكلية طب طنطا عندما سألته عن أضرار هذا المكياج الصناعي فقال إن هذا المكياج الصناعي الحديث له أضرار بالغة على البشرة كالآتي: أولًا: ضرر المكياج: 1 - يؤدي إلى ضمور الجلد وتجعده وبالتالي إلى عجز مبكر في الجلد. 2 - يؤدي إلى جفاف الجلد وتشققه. 3 - يؤدي إلى التهاب الجلد وتهيجه وإصابته بالحساسية الإكزيما. 4 - يؤدي إلى تغير في لون الجلد إما عن طريق زيادة اللون وظهور مناطق سمراء كلف الحمل. وإما بقلة الصبغات وظهور بعض البقع البيضاء. 5 - تؤدي بعض الألوان إلى امتصاص الإشعاعات وظهور حساسية ضوئية بالجلد مما قد ينتج عنه بعض الأورام. 7 - تؤدي الكريمات التي تستعمل كأساس إلى إغلاق مسام الجلد وظهور بعض الحبوب التي تشبه حب الشباب. 8 - كما يؤدي المكياج إلى تهيج حب الشباب لدى المصابين به وعدم استجابته للعلاج. ثانيًا: (أحمر الشفايف): 1 - يؤدي إلى جفاف الشفتين وتشققهما ويؤدي إلى التهاب وتهيج الشفتين. 2 - يؤدي الاستعمال المتكرر له إلى الإكزيما والحساسية بالشفتين كما قد ينتج عنها بعض الأورام بالشفتين. 3 - تؤدي المادة الملونة إلى امتصاص الإشعاعات وتركيزها حول الشفتين مما يؤدي إلى زيادة اللون واسمرار الشفتين حول الفم. وهذه شكوى كثير من السيدات اللاتي يستعملن أحمر الشفايف. 4 - عند اختلاطها بالطعام والشراب قد يؤدي امتصاص بعض هذه المواد إلى أضرار بالغة بالجسم. اهـ (¬1). ¬

(¬1) أمدنا (القائل: الأخ سمير، حفظه الله) بهذه المعلومات الطبية الأستاذ / مصطفى حسين عبد المقصود دكتوراه الأمراض الجلدية والتناسلية والعقم، أستاذ بكلية طب طنطا.

جاء في مجلة (الوعي الإسلامي) (¬1) مقال للدكتور/ وجيه زين العابدين يقول فيه: (فزينة الشعر أن تضع الفتاة عليه مادة لزجة ليقف. يسمونها سبراي، وهذا قد يسبب تكسر الشعر وسقوطه، أو قد يسبب أذى في قرنية العين إذا أصابها مباشرة، أو بصورة غير مباشرة كحساسية. وربما استمر علاج هذه الإصابة بضعة أشهر، وقد يسبب صبغ الشعر حساسية للمريض لمادة البروكاتين، كما أن المصابات بحساسية البنسلين أو مادة السلفا يتأثرن جدًّا من أصباغ الشعر فيصبن بتورم حول قاعدة الشعر، وربما سقط الشعر كله .. وأشد هذه المواد خطرًا ما يستعمل لتمويج الشعر بالطريقة الباردة، حيث تستعمل مواد تذيب طبقة الكيراتين فتسبب لها تكسرًا عند تحويل الشعر المجعد إلى مسرح. ... أما المساحيق والدهون التي توضع في الوجه فإنها تعرضه للإصابة بالبثور والالتهابات في الجلد. فيضعف ويصاب بالتجعد الشيخوخي قبل الأوان، وقد يترك التجعد خطًا بارزًا تحت العين، ولما تبلغ الفتاة بعد العشرين عامًا وكم من مرة سببت الرموش الصناعية التهابًا بالجفن، أو جاءت الحساسية للجفن من الصبغ الذي يوضع فوقه. وقد يعرض الأحمر الشفاه للتورم أو تيبس جلدها الرقيق وتشققه لأنه يزيل الطبقة الحافظة للشفة. ويسبب أحيانًا صبغ الأظافر تشققًا وتكسرًا في الأظافر ويعرضها للالتهابات المتكررة والتشوه أو المرض المزمن. إن الإنسان بطبيعته لابد أن يجد له الحماية من المؤثرات الخارجية التي تصيبه بحكم حياته في هذه الأرض. والجلد هو خط الدفاع الأول. فبقدر ما تكون عنايتنا بالجلد نستفيد من قواه الدفاعية. ومن المؤسف أن المدنية الحديثة تتعرض لهذه القوى الدفاعية بالأذى عن طريق الإسراف في استعمال أدوات التجميل ومواده). وجاء في مجلة "طبيبك الخاص" السنة الثانية العدد 4 نيسان أبريل 1970 مقال للدكتور/عبد المنعم المفتي أستاذ ورئيس قسم الأمراض الجلدية بكلية الطب جامعة القاهرة قال فيه: وهناك من وسائل فرد الشعر ما يؤدي إلي سقوطه .. فاستعمال المكواة .. أو الفرد بالأدوية الكيميائية التي تحتوي علي مواد كاوية تؤدي إلي سقوط الشعر .. ¬

(¬1) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية عدد 140، ص 93 وما بعدها، نقلًا من كتاب لباس المرأة المسلمة د / الفوزان.

فهذه الأدوية تضعف طبيعة الشعر حتي يأخذ الشكل المطلوب .. وقد لا يعرف البعض الضرر المترتب علي شد الشعر سواء كان ذلك باستعمال "الرولو" أو بأي طريقة أخري، إذ أن الجذب لساعات طويلة معناه الجذب الواقع على جذور الشعر المشدود والحد من كمية الدم التي تصل إلي الشعر .. ومعني ذلك حدوث الضمور في خلايا جذور هذا الشعر المشدود .. وتوقف نموه .. ثم دفعه إلي الدخول في دور الركود .. ثم الذبول. نفس الخطر يظل موجودًا في حالة كثرة الفرد وتغيير اللون. وهذا يؤدي إلي حدوث التأثير السيئ علي الشعر عامة، ويؤدي إلي إضعافه. اهـ (¬1). ويقول الدكتور وهبة أحمد حسن (كلية الطب جامعة الإسكندرية): (إن إزالة شعر الحواجب بالوسائل المختلفة ثم استخدام أقلام الحواجب وغيرها من مكياج الجلد، لها تأثيرها أيضًا، فهي مصنوعة من مركبات معادن ثقيلة، مثل الرصاص والزئبق تذاب في مركبات دهنية مثل زيت الكاكاو، كما أن المواد الملونة تدخل فيها بعض المشتقات البترولية، وكلها أكسيدات مختلفة تضر بالجلد، وإن امتصاص المسام الجلدية لهذه المواد يحدث التهابات وحساسية، أما لو استمر استخدام هذه الماكياجات فإن له تأثيرًا ضارًا على الأنسجة المكونة للدم والكبد والكلى. فهذه المواد الداخلة في تركيب الماكياجات لها خاصية الترسب المتكامل فلا يتخلص منها الجسم بسرعة. وإن إزالة شعر الحواجب بالوسائل المختلفة ينشط الحلمات الجلدية فتتكاثر خلايا الجلد، وفي حالة توقف الإزالة ينمو شعر الحواجب بكثافة ملحوظة. وإن كنا نلاحظ أن الحواجب الأصلية تلائم الشعر والجبهة واستدارة الوجه) اهـ. وتقول الدكتورة نادية عبد الحميد صالح (استشارية أمراض العيون): إن مستحضرات تجميل العيون تحتوى على كيماويات حارقه تؤدي إلى الإضرار بالعيون، وتساقط الرموش، والتهابات ودمامل بالجفون، مع ظهور الأكياس الدهنية بها، كذلك تؤدي هذه المستحضرات إلى ترهل في جلد الجفون، وتبدو العينان مرهقتين وذابلتين مع ظهور الهالات السوداء حول جفون العيون. وتحذر الدكتورة نادية من تبادل هذه المستحضرات مع الغير حتى لا تكون ¬

(¬1) من تحفة العروس (ص 368).

وسيلة لضرر آخر يكمن في العدوى بأمراض العيون عندما تستخدم سيدة أخرى أدوات التجميل كالقلم والفرشاة. اهـ (¬1). إن المواد التي تدهن بها الرموش الطبيعية يقول عنها الأطباء أنها مكونة من أملاح النيكل، أو أنواع مطاط صناعي، وهما يؤديان إلى التهاب الجفون، وتساقط الرموش الطبيعية. أما الألوان حول العينين فقد ذكر الأطباء عنها حقائق علمية وهي: 1 - اللون الأسود ما هو إلا كربون أسود، وأكسيد الحديد الأسود. 2 - اللون الأزرق ما هو إلا أزرق بروس ومواد أخرى زرقاء. 3 - اللون الأخضر هو لون أحد اكاسيد الكروم. 4 - اللون البني هو أحد أكاسيد الحديد المحروق. 5 - اللون الأصفر هو أكسيد حديد. وكل هذه المواد الكيميائية تسبب أضرارًا خطيرة للعين وما حولها. كما ذكر الأطباء أن من مركباتها مواد تسبب التسمم المزمن مثل (هيكزات كلوروفيل) و (فينيلين ثنائي لامين) وينتج عن ذلك تقرحات في القرنية وإنتانات في العين بسبب الأجسام غير المعقمة التي تحوي الجراثيم ومن ثم تتساقط الرموش (¬2). قلت: (أبو مالك): إن كان الأمر كذلك فيمنع استعمال المكياج، وإلا فالأصل إباحته، والله أعلم. * تنبيه: طلاء الأظافر بما يسمى "المناكير" لا حرج فيه بالقيد المذكور، إلا أنه يبقى فيه أنه عازل عن وصول ماء الوضوء إلى الأظفار، فيجب إزالته عند الوضوء. ولا يفوتني أن أنبه هنا على تقليم النساء للأظفار وعدم إطالتها بالقدر الذي نراه في هذه الأيام فإن هذا مخالف لسنن الفطرة. وكذلك لا يجوز وصل الأظفار بأظفار صناعية أطول وأكثر بريقًا، فإن هذا من تغيير خلق الله، وفيه التشبه بالكافرات، ومخالفة الفطرة السليمة. ¬

(¬1) المجلة الزراعية، العدد 41، أكتوبر 1999. (¬2) راجع ضوابط هامة في زينة المرأة، ص 27.

6 - الزينة بالحُلِي: يجوز للمرأة التحلي بجميع أنواع الذهب (¬1) والفضة: قال علي بن أبي طالب: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يمينه وأخذ ذهبًا فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي [حلٌّ لإناثهم] " (¬2). فيجوز تحلي النساء بالسوار، والقرط (الحلق)، والخاتم، وسلاسل العنق والقلائد ونحو ذلك. فعن عبد الله بن عمرو: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: "أتعطين زكاة هذه؟ " قالت: لا، قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار" (¬3). وفي حديث ابن عباس في قصة وعظ النبي صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد: " .. ومعه بلال فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي قرطها وخاتمها" (¬4). وفي حديث ثوبان: " ... فانتزعت فاطمة سلسلة في عنقها من ذهب، وقالت: هذه أهداها إليَّ أبو الحسن ... " (¬5). ويجوز للمرأة أن تلبس (الخلخال" في بيتها لزوجها، لكن لا تبديه للأجانب ولا تضرب برجلها لتعلم الرجال بما تخفيه، لقوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} (¬6). * فائدة: يجوز للمرأة أن تلبس الخاتم في إصبع شاءت، بخلاف الرجل فإنه ينهى عن التختم في الأصبع الوسطى والسبابة. ففي صحيح مسلم (2078) عن عليٍّ قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في أصبعي هذه أو هذه فأومأ إلى الوسطى والتي تليها" (¬7). ¬

(¬1) لشيخنا - حفظه الله - رسالة في هذا بعنوان «المؤنق ... في إباحة تحلي النساء بالذهب المحلق وغير المحلق» فانظرها. (¬2) أبو داود (4057)، والنسائي (8/ 160)، وابن ماجة (3595) وهو صحيح. (¬3) أبو داود (1563)، والترمذي (623)، والنسائي (5/ 38) بسند حسن. (¬4) متفق عليه وقد تقدم مرارًا. (¬5) النسائي (5140)، وأحمد (21892) بسند حسن. (¬6) سورة النور: 31. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (2078)، والترمذي (1786)، والنسائي (5210)، وأبو داود (4225).

وقد نقل النووي الإجماع على أن هذا النهي خاص بالرجال دون النساء، كما تقدم. * لا حرج في لبس الخاتم من حديد: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي أراد أن يتزوج ولم يجد شيئًا يدفعه صداقًا: " .. التمس ولو خاتمًا من حديد .. " (¬1). * الوشم حرام: عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله" (¬2). والواشمة هي من تغرز إبرة أو مسلة أو نحوهما في ظهر الكف أو المعصم أو الشفة أو غير ذلك من بدن المرأة حتى يسيل الدم، ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل أو النورة فيخضرَّ، ومن تطلب فعل ذلك بها فهي المستوشمة، وهذا حرام على الفاعلة والمفعول بها باختيارها والطالبة لذلك، وقد يُفعل بالبنت الصغيرة فتأثم الفاعلة، ولا إثم البنت لعدم تكليفها حينئذٍ (¬3). وقد انتشرت هذه الأيام بين الفتيات ظاهرة دق الوشم، الذي اتخذ شكلًا جديدًا من حيث المكان الذي يتم فيه الوشم، حيث تسلل إلى صدور الفتيات وبطونهن (!!) فتكشف الفتاة عن عورتها مرة أمام من يقوم بتلك المهمة المنكرة -وقد يكون رجلًا- في محلات (الكوافير)!! التي خصصت قسمًا بها لدق الوشم وبأسعار باهظة!! ثم تكشف هذه العورة مرات أخرى أمام الجميع لتظهر هذه النقوش، إنها "الموضة" نعوذ بالله من الخذلان!! * فائدة: الأثر الطبي لدق الوشم على الجلد (¬4): يقول الدكتور/عبد الهادي محمد عبد الغفار استشاري الأمراض الجلدية والتناسلية: إن المواد الغريبة التي تدخل الجلد تؤدي إلى حساسية الجلد، وإذا ¬

(¬1) متفق عليه، وسيأتي في «الزواج» إن شاء الله. (¬2) البخاري (4886)، ومسلم (2125). (¬3) «شرح مسلم» للنووي (14/ 106). (¬4) «جريدة عقيدتي» العدد 287 - محرم 1419 هـ.

احتوى على مواد بترولية فإنه يؤدي إلى سرطان الجلد وتليفه، والوخز بالإبر يؤدي إلى نقل أمراض الكبد الوبائي والإيدز. * تنبيه: ظهر في هذه الأيام نوع آخر من الوشم، بحيث يطبع الوشم على الجلد أو يُرسم بدلًا من دَقِّه على الجلد، فهذا إذا لم يكن ضارًا بالجلد، فلا بأس به، لأنه ليس تغييرًا لخلق الله فأشبه الحناء، بشرط أن لا تبديه المرأة إلا لزوجها، وإن كان الأحوط تركه لما فيه من التشبُّه بالمتوشمات، والله أعلم. * ما حكم عمليات التجميل؟ (¬1): إن عمليات التجميل تشمل حالات كثيرة، ولا شك أن بعضها مباح أو واجب وبعضها حرام. 1 - فمن المباح قفل الجروح الغائرة وإعادة ترميم الجروح المتهتكة، وترقيع الحروق الشديدة، وخاصة ما يصيب الوجه والأماكن التي تظهر من الجسم غالبًا، وهذا كله يرجع إلى باب إصلاح الضرر وإعادة الهيئة الأصلية إلى الجسم، وهذا كله لا شيء فيه -إن شاء الله تعالى- بل قد يكون بعضه واجبًا. 2 - إزالة التشوهات التي ربما تكون حدثت في أثناء الحمل بسبب عقار أو غيره، وكذلك إزالة ما يخالف أصل الخلقة كالإصبع السادسة، والزيادات اللحمية، ونحوها. وهذه نرجو ألا يكون بها بأس كذلك لأنها -إن شاء الله- لا تدخل في باب تغيير خلق الله سبحانه وتعالى. 3 - كل ما يدخل في باب (تغيير خلق الله سبحانه وتعالى) فهو حرام .. فقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس منهم الطويل، والقصير، والأسود، والأبيض، والجميل والدميم، وهذا كله من آيات تفرده وإبداعه سبحانه وتعالى، فهو الرب المصور كما قال تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (¬2). ولا شك أن التعدي على خلق الله بتغيير الصورة، أو اللون، أو التركيب يدخل في باب العدوان على خلق الله جل وعلا كما قال تعالى: {لا تبديل لخلق الله} (¬3). ¬

(¬1) فتوى للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، حفظه الله. (¬2) سورة آل عمران: 6. (¬3) سورة الروم: 30.

أي لا تبدلوا خلق الله فهو خبر يراد به الإنشاء، وكما قال تعالى عن إبليس أنه سيأمر بني آدم بتبديل خلق الله {إن يدعون من دونه إلا إناثًا وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا* لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا* ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليًّا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا} (¬1). فمن عمل الشيطان في إضلال بني آدم أن يأمرهم بتغيير خلق الله. ولا شك أن عمليات التجميل التي تستهدف تغيير خلق الله بتغيير الجنس مثلًا من ذكر إلى أنثى أو العكس، أو تغيير اللون، أو تغيير الصورة التي ركب الله الإنسان عليها -وخاصة صورة الوجه- كل ذلك من اتباع الشيطان الذي يريد إضلال بني آدم، وأن يعتدوا على خلق الله بالتبديل والتغيير. 4 - جاء النص الصريح في أمور بعينها أنها من تبديل خلق الله ومن ذلك تفليج الأسنان، ومعناه بردها لجعل فلج وفرجة بين كل سن وآخر، وكذلك وصل الشعر، وترقيق الحاجب، والوشم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والواصلات والمستوصلات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" (¬2). وتعليل الرسول صلى الله عليه وسلم التحريم هنا بأنه تغيير لخلق الله يدل على حرمة هذا العمل، وعلى أن هذه الأعمال من تغيير خلق الله، وعلى حرمة كل ما يدخل في هذا المعنى، وتوجد فيه هذه العلة (تغيير خلق الله). 5 - لا شك أن أعظم أعمال تبديل خلق الله حرمة: هي تغيير الجنس من ذكر إلى أنثى والعكس، وهذا فيمن خلقه الله ذكرًا كاملًا فأراد أن يكون أنثى والعكس .. وأما من وجد في الخلق وقد اجتمعت فيه أعضاء الذكورة والأنوثة، وهو الذي يسمى باللغة العربية (بالخنثى) فإن إجراء عملية جراحية لإلحاقه بالجنس الغالب عليه .. أقول مثل هذا لا شك -إن شاء الله- في حله، لأنه لا يدخل في تغيير خلق الله بل إن هذا من خلق الله سبحانه وتعالى. وأما عمليات تغيير الجنس لمن كان ذكرًا كاملًا حتى يكون أنثى، أو يكون جنسًا ثالثًا كما هو حادث الآن في بعض الدول من أجل إيجاد جنس لا يحمل ¬

(¬1) سورة النساء: 117 - 119. (¬2) سبق تخريجه.

حكم لبس العدسات الملونة للزينة والموضة

ويستخدم للاستمتاع فقط فهذا من الإجرام والإفساد في الأرض، ومن أشنع أنواع تبديل خلق الله لأن هذا الأمر جريمة مركبة فهو أولًا: تبديل لخلق الله ومن أعظم التبديل، ثم هو تبديل يراد به الإفساد في الأرض وإتيان الفواحش على طرق شاذة منكرة فهو أضل وأكثر إجرامًا مما كان عليه قوم لوط، والله أعلم. اهـ (¬1). حكم لبس العدسات الملونة للزينة والموضة سئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان -حفظه الله- عن حكم لبس العدسات الملونة بحجة الزينة واتباع الموضة علمًا بأن قيمتها غالية؟ فأجاب: لبس العدسات من أجل الحاجة لا بأس به. أما إن كان من غير حاجة فإن تركه أحسن، خصوصًا إذا كان غالي الثمن فإنه يعد من الإسراف المحرم. علاوة على ما فيه من التدليس والغش لأنه يظهر العين بغير مظهرها الحقيقي من غير حاجة إليه. اهـ (¬2). قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: وبالنسبة للعدسات اللاصقة فلابد من استشارة الطبيب هل يؤثر على العين أم لا؟ إن كان يؤثر عليها منع من استعمالها نظرًا للضرر الذي يصيب العين وكل ضرر يصيب البدن فإنه منهي عنه لقول الله تبارك وتعالى {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} (¬3). أما إذا قرر الأطباء بأنه لا أثر له على العين ولا يضرها فإننا ننظر مرة أخرى هل هذه العدسات تجعل عين المرأة كأعين البهائم؟ يعني كعين الخروف كعين الأرنب، فهذا لا يجوز لأن هذا من باب التشبه بالحيوان، والتشبه بالحيوان لم يرد إلا في مقام الذم والتنفير كما في قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين* ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} (¬4)، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في ¬

(¬1) نقلًا من مجلة الفرقان العدد (48). (¬2) من فتاوى زينة المرأة ص 49 جمعها أشرف بن عبد المقصود. (¬3) سورة النساء: 29. (¬4) سورة الأعراف: 175، 176.

قيئه" (¬1)، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارًا" (¬2). فإذا كانت هذه اللاصقات تجعل العين كعين البهائم فإن لبسها حرام أما إذا كانت لا تغير العين ولكنها تغير لون العين من سواد خالص إلى سواد دون ذلك وما أشبه فلا بأس، وليس هذا من باب تغيير خلق الله لأن هذه لا تثبت، فليست كالوشم، بل هي غير ثابتة متى شاءت خلعتها، بل تشبه النظارة التي تلبس على العين وإن كان انفصال النظارة أظهر وأبين من انفصال هذه اللاصقات، لأن هذه اللاصقات تكون على العين مباشرة، فعلى كل حال إن تجنبتها المرأة فهو أحسن وأولى وأسلم حتى لعينها من الخطر، ولكن الشيء الذي لابد منه هو أن نعود إلى التفصيل الذي ذكرناه. انتهى من فتاوى ضمن شريط توجيهات للمؤمنات (¬3). ¬

(¬1) البخاري (2589)، ومسلم (1622). (¬2) أحمد في المسند بسند ضعيف، انظر المشكاة رقم (1397). (¬3) عن «اللباس والزينة» لسمير عبد العزيز (ص 75).

10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

10 - كتاب الزواج ومقدماته وتوابعه

* الترغيب في الزواج (¬1)، والحث عليه: 1 - قال الله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذرية} (¬2). 2 - وقال تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} (¬3). 3 - وقال سبحانه: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (¬4). 4 - وقال سبحانه: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (¬5). 5 - وعن أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا -فجاء رسول الله صلى الله عيه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي" (¬6). 6 - وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تزوَّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم" (¬7) والودود: التي تحب زوجها، والولود: التي تكثر ولادتها. 7 - وعن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" (¬8). والمراد بالباءة هنا: مؤنة الزواج، وتكاليفه، فإن الخطاب، موجَّه لمن له قدرة على الجماع، وبالوجاء: ما يقطع الشهوة. ¬

(¬1) ويطلق عليه: النكاح، والنكاح: الوطء، والعقد له، وهو حقيقة في الوطء والعقد في أصح الأقوال، وقيل: هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر على اختلاف في هذا، وهو خلاف لفظي لا طائل من تحقيقه. (¬2) سورة الرعد: 38. (¬3) سورة النور: 32. (¬4) سورة النساء: 3. (¬5) سورة الروم: 21. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401). (¬7) صحيح: أخرجه أبو داود (2050)، والنسائي (6/ 65) وغيرهما. (¬8) صحيح: أخرجه البحاري (5065)، ومسلم (1400).

8 - وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ... وفي بضع (¬1) أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر" (¬2). 9 - وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا: المرأة الصالحة" (¬3). 10 - وعن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: "هل تزوجت؟ " قلت: لا، قال: "فتزوَّجْ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً" (¬4). * تحريم الاختصاء (¬5): 1 - عن سعد بن أبي وقَّاص قال: "لقد ردَّ ذلك -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون، ولو أجاز له التبتُّل (¬6) لاختصينا" (¬7). 2 - وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخَّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب (¬8) ثم قرأ علينا {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (¬9) (¬10). والنهي عن الخصاء نهي تحريم -بلا خلاف- في بني آدم. * بعض فوائد الزواج (¬11): 1 - امتثال أمر الله تعالى. ¬

(¬1) المراد به: الجماع. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1006)، وأبو داود (1286). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1467). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه البخاري (5069). (¬5) الاختصار والخصاء: الشق على الأنثيين (الخصيتين) وانتزاعهما (الفتح 9/ 118). (¬6) هو هنا: الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعًا للعبادة (نووي 3/ 549). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5074)، ومسلم (1402). (¬8) المراد به هنا (نكاح المتعة) وهو منسوخ كما سيأتي. (¬9) سورة المائدة: 87. (¬10) صحيح: أخرجه البخاري (5075)، ومسلم (1404). (¬11) مستفاد من «جامع أحكام النساء» (3/ 28).

2 - اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهدي المرسلين. 3 - كسر الشهوة وغض البصر. 4 - تحصين الفرج وإعفاف النساء. 5 - عدم ذيوع الفاحشة في المسلمين. 6 - تكثير النسل الذي تتم به مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم لسائر الأنبياء والأمم. 7 - تحصيل الأجر من الجماع في الحلال. 8 - حُبُّ ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "حُبِّب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء ... " (¬1). 9 - إيجاد الولد الذي ينتفع -بعد الموت- بدعائه. 10 - الانتفاع بشفاعة الولدان في دخول الجنة، فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيأتون، قال: فيقول الله عز وجل: "ما لى أراهم محبنطئين (¬2) ادخلوا الجنة". قال: فيقولون: يا رب آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم" (¬3). 11 - إيجاد الذرِّيَّة المؤمنة التي تذبُّ عن ديار المسلمين وتستغفر للمؤمنين. 12 - ما في الزواج من سكن ومودة ورحمة بين الزوجين، وغير ذلك من المنافع التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. * حكم الزواج: أجمع المسلمون على أن الزواج مشروع (¬4)، ثم اختلف أهل العلم في حكمه على ثلاثة أقوال: الأول: أنه واجب على كل قادر عليه في العمر مرة: وهو مذهب داود الظاهري وابن حزم وهو مروي عن أحمد، وأبي عوانة الإسفراييني من أصحاب ¬

(¬1) محتمل للتحسين: أخرجه النسائي (7/ 61)، وأحمد (3/ 285) وغيرهما، وفي سنده كلام، ولتحسينه وجه، والله أعلم. (¬2) أي: ممتنعين. (¬3) حسن: أخرجه أحمد (4/ 105). (¬4) «المغني» (6/ 446)، و «الإفصاح» لابن هبيرة (2/ 110).

الشافعي وهو قول جماعة من السلف (¬1)، واستدلوا بظاهر الأوامر الواردة في بعض النصوص المتقدمة في "الترغيب في الزواج" قالوا: الأصل في الأمر أنه للوجوب ولم يصرفه صارف. الثاني: أنه مستحب: وهو مذهب أكثر أهل العلم وجمهورهم من الأئمة الأربعة وغيرهم (¬2). وقد حملوا الأوامر بالنكاح على الاستحباب، فقالوا في قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (¬3). إن الله تعالى علَّق الأمر بالنكاح على الاستطابة فمن لم تطب نفسه أن يتزوج فلا حرج عليه وقال: {مثنى وثلاث ورباع} ولا يجب ذلك بالاتفاق فدل على أن الأمر هنا للندب، وأجيب: بأن المعلق على الاستطابة إنما هو الأمر بالتعدد لا بأصل النكاح. وقال الجمهور: وكذلك قوله تعالى: {فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} (¬4). لما كان التسري ليس بواجب اتفاقًا فيكون التزويج غير واجب، إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب وتُعقِّب: بأن الذين قالوا بوجوبه قيَّدوه بما إذا لم يندفع التوقان إلى الجماع بالتسرِّي. الثالث: يختلف حكمه باختلاف حال الشخص، وهذا هو المشهور عند المالكية، وهو واقع في كلام الشافعية والحنابلة (¬5)، قالوا: (أ) الزواج يكون واجبًا: في حق التائق إلى الجماع الذي يخاف على نفسه الوقوع في الفاحشة بتركه، لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام وطريقه النكاح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. (ب) ويكون مستحبًا: في حق من له شهوة يأمن معها الوقوع في الفاحشة، فهذا يكون الزواج له أولى من التخلي لنوافل العبادة، وبهذا قال الجمهور، إلا الشافعي فالتخلي للنوافل عنده أولى لأن الزواج عنده في حال الاعتدال مباح (!!). ¬

(¬1) «المحلي» (9/ 440)، و «المغني» (6/ 446)، و «فتح الباري» (9/ 110)، و «البدائع» (2/ 228)، و «روضة الطالبين» (7/ 18). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 7)، و «الدسوقي» (2/ 214)، و «بداية المجتهد) (2/ 23)، و «المغني» (6/ 446)، و «الإنصاف» (8/ 6). (¬3) سورة النساء: 3. (¬4) سورة النساء: 3. (¬5) المراجع السابقة بالإضافة إلى: «البدائع» (2/ 228)، و «القوانين الفقهية» (ص 193)، و «مغني المحتاج» (3/ 125)، و «فتح الباري» (9/ 110).

(ج) ويكون مُحرَّمًا: في حق من يخلُّ بالزوجة في الوطء والإنفاق، مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه. (د) ويكون مكروهًا: في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة فاشتغاله بالطاعة من العبادة أو الاشتغال بالعلم أولى. قلت: الزواج من آكد السنن، فهو سنة المرسلين، كما تبيَّن من مجموع الآيات والأحاديث المرغبة في الزواج -والتي تقدم بعضها- ولا شك في وجوبه عند الخوف من الوقوع في الزنا مع القدرة عليه، وأما جعل بعض أقسامه مباحًا ففيه دفع في وجه الأدلة، وردٌّ للترغيبات الكثيرة المتقدمة، وكذلك لا ينبغي أن يجعل الزواج محرمًا في حق من لا شهوة له، فإن في الزواج مقاصد أخرى يمكن أن تتحقق فإن رضيت الزوجة بذلك ولم يكن قد دلَّس عليها فلا حرمة فيه، والله أعلم. * ولا يجب على المرأة الزواج (¬1): لحديث أبي سعيد قال: إن رجلًا أتى بابنة له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنتي قد أبت أن تزوج، قال: فقال لها: "أطيعي أباك" فقالت: لا، حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته؟ فردّدتْ عليه مقالتها، فقال: "حق الزوج على زوجته: أن لو كان به قُرحة فلحستها أو ابتدر منخراه صديدًا أو دمًا ثم لحسته ما أدَّت حقَّه" قالت: والذي بعثك بالحق، لا أتزوَّج أبدًا، فقال صلى الله علي وسلم: "لا تُنكحوهُنَّ إلا بإذنهن" (¬2). قلت: فدَّل الحديث على جواز ترك الزواج لعذر، لكن الأولى الزواج لما تقدم من المرغبات فيه وما فيه من الفوائد، فإن خشيت المرأة الوقوع في الفاحشة وجب عليها الزواج بلاشك، والله أعلم. * المحرَّمات زواجهن من النساء: وهن النساء اللاتي يحرُم على الرجل أن يتزوَّج بهنَّ، وقد ذكرهن الله تعالى في كتابه بقوله عز وجل: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا* حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا ¬

(¬1) «جامع أحكام النساء» (3/ 30)، وبه قال ابن حزم (9/ 441) رغم قوله بفرضية التزويج على الرجال القادرين. (¬2) حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (17116).

دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورًا رحيمًا* والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} (¬1). والمحرمات من النساء على النوعين: 1 - محرمات مؤبَّدًا: فلا يجوز للرجل زواجها في كل وقت. 2 - محرمات مؤقتًا: لا يجوز للرجل زواجهن في حالة خاصة فإذا زالت هذه الحالة صار زواجهن حلالًا. 1 - المحرمات مؤبدًا: (أ) محرمات بالنسب (وهن سبع): 1 - الأمهات: وهن كل من بين الرجل وبينها إيلاد من جهة الأمومة أو الأبوة، كأمهاته وأمهات آبائه وأجداده من جهة الرجال والنساء وإن علون. 2 - البنات: وهن كل من انتسب إلى الرجل بإيلاد، كبنات صلبه وبنات بناته وأبنائهن وإن نزلن (¬2). 3 - الأخوات: من كل جهة. 4 - العمَّات: وهن أخوات آبائه وإن علون، فيدخل فيه عمة أبيه وعمة أمه. 5 - الخالات: وهن أخوات أمهاته وأمهات آبائه. 6، 7 - بنات الأخ وبنات الأخت: فيعم بنات الأخ أو الأخت من كل جهة وإن نزلت درجتهن. عن ابن عباس قال: "حَرُم من النسب سبع، ومن الصهر سبع" (¬3) ثم قرأ {حرمت عليكم أمهاتكم ...} الآية (¬4). فهؤلاء السبع من النساء يحرم على الرجل أن يتزوج منهن حرمةً أبدية، باتفاق العلماء (¬5). ¬

(¬1) سورة النساء: 22 - 24. (¬2) ويلحقن بهن بنت الرجل من الزنا عند الجمهور (جامع أحكام النساء 3/ 38). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5105)، والطبري في «التفسير» (8/ 141)، والحاكم (2/ 304). (¬4) سورة النساء: 23. (¬5) «تفسير الطبري» (8/ 143).

وتيسيرًا لحفظ هذه المسألة فإن الضابط فيها "أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه إلا أربعة: بنات عمه، وبنات خاله، وبنات عمته، وبنات خالته". وهذه الأصناف الأربعة هن اللاتي أحلهن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقول: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} (¬1) (¬2). سؤال: هل يجوز للرجل أن يتزوج ابنته من الزنا؟ لا يجوز -عند جمهور أئمة المسلمين- أن يتزوج الرجل بابنته من الزنا، فإن ماء الزنا وإن كان ليس له حرمة إلا أن هذه البنت داخلة في عموم قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ...} (¬3). فهو يتناول كل من شمله هذا اللفظ سواء كان حقيقة أو مجازًا وسواء ثبت في حقه التوارث وغيره من الأحكام أم لم يثبت إلا التحريم خاصة، ليس العموم في آية التحريم كالعموم في آية الفرائض ونحوها (¬4). بل إن الجمهور تنازعوا فيمن تزوج ابنته من الزنا هل يقتل أو لا؟ فذهب أحمد إلى أنه يقتل!! ويلحق بهذا أيضًا أن يحرم على الرجل أن يتزوج أخته وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخته من الزنا، وهو قول عامة الفقهاء (¬5). (ب) محرمات بالمصاهرة (وهن أربع): 1 - زوجة الأب: فعن ابن عباس قال: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، قال: فأنزل الله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} و {أن تجمعوا بين الأختين} (¬6). ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (32/ 62)، وانظر «الأم» (5/ 32)، و «المحلي» (9/ 520)، و «المغني» (6/ 567). (¬2) سورة الأحزاب: 50. (¬3) سورة النساء: 23. (¬4) انظر الكلام على هذا بتوسع في «مجموع الفتاوى» (32/ 134). (¬5) المغني (6/ 578). (¬6) تفسير الطبري (8/ 132) بسند صحيح.

فنهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبين ما المراد بنكاح الأب: هل هو العقد أو الوطء؟ لكن قد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه وإن لم يدخل بها الأب، وهذا تحريم مؤبد، وكذلك عقد الابن محرم على الأب إجماعًا وإن لم يمسها. فعن البراء قال: لقيت عمي ومعه راية فقلت له: أين تريد؟ قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله" (¬1). ومن تزوج امرأة أبيه فإن عقوبته: أن يُقتل ويؤخذ ماله. 2 - أم الزوجة: وتحرم على الرجل بمجرد العقد على ابنتها عند جمهور أهل العلم، وهو الصواب لإطلاق قوله تعالى: {وأمهات نسائكم}. فلم تتقيد بالدخول كما قيدت الربيبة، فإن كان دخل بزوجته حَرُمَت عيه أمها بالإجماع (¬2) ويدخل في هذا أم أم زوجته، وأم أبيها. 3 - بنت الزوجة (الربيبة): ويشترط في تحريمها أن يدخل الرجل بأمها فإن عقد على الأم ولم يدخل بها جاز أن يتزوج ابنتها. قال تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم}. قلت: والراجح من أقوال العلماء أن قوله: {اللاتي في حجوركم} يعني في بيوتكم، لا يعد شرطًا لتحريم بنت الزوجة -كما ذهب إليه الجمهور- (¬3) فهو خارج مخرج الغالب وما كان كذلك فلا مفهوم له، قلت: ومما يؤيد هذا أنه تعالى احترز بقوله {فإن لم تكونوا دخلتم بهن} ولم يقل: (فإن لم يكنَّ في حجوركم)، فعلم أن الدخول بأمها شرط بخلاف وجودها في بيته والله أعلم. والمراد بالدخول هنا: الجماع كما قال ابن عباس. والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح لشواهده: أخرجه أبو داود (4457)، والدارمي (2/ 153)، والحاكم (4/ 357)، والبيهقي (8/ 208) وصححه شيخنا لشواهده. (¬2) «تفسير الطبري» (8/ 143)، و «الأم» (5/ 34)، و «المغني» (6/ 569)، و «المحلي» (9/ 259)، و «القرطبي» (5/ 70)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 87). (¬3) وقد خالف في هذا علي بن أبي طالب ثم ابن حزم، ونقل عن الإمام مالك، فجعلوا كون البنت في بيت زوج أمها شرطًا لتحريمها عليه، وإلى هذا المذهب جنح شيخنا في «جامع أحكام النساء» (3/ 93) وما بعدها، لكن الظاهر أن مذهب الجمهور أقوى لأمور يطول شرحها.

* فائدة: ويلتحق بهذا الحكم بنات بنات الزوجة وبنات أبنائها. 4 - زوجة الابن الذي من صلبه: فلا يجوز للرجل أن يتزوج زوجة ابنه الذي من صلبه لقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}. ويدخل في الآية أيضًا زوجة الابن من الرضاع، وأما قوله تعالى: {الذين من أصلابكم} فاحترز به عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬1). * فائدة: زوجة الأب وزوجة الابن، لا تحرم بناتهن على الرجل فيجوز له أن يتزوج بنت امرأة أبيه، وبنت امرأة ابنه، باتفاق العلماء فإن هذه ليست من حلائل الآباء والأبناء فإن الحليلة هي الزوجة وبنت أم الزوجة وأمها ليست زوجة بخلاف الربيبة، فإن ولد الربيبة ربيب، كما أن ولد الولد ولد (¬2). وتيسيرًا لحفظ المحرمات من النساء بسبب المصاهرة يمكن القول بأن: "كل نساء الصهر (¬3) حلال للرجل إلا أربعة: زوجة أبيه، وأم زوجته وبنت زوجته التي دخل بها، وزوجة ابنه". (جـ) محرمات بالرضاع: قال تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (¬4). ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: "لا تحل لي، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، هي ابنة أخي من الرضاعة" (¬5). ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" (¬6). فعُلم من هذا أنه يحرم بسبب الرضاع نفس الأصناف التي تحرم بالنسب مع جعل المرضعة بمنزلة الأم، فتكون المحرمات من الرضاع على الرجل (الرضيع) (¬7): ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير (1/ 471)، والطبري (8/ 149)، و «الأم» للشافعي (5/ 35). (¬2) انظر «مجموع الفتاوى» (32/ 65)، و «الحاوي» للماوردي (11/ 274). (¬3) كل من الزوجين، يكون أقارب الآخر أصهارًا له، وأقارب الرجل أحماء المرأة، وأقارب المرأة أختان الرجل. (مجموع الفتاوى 32/ 65). (¬4) سورة النساء: 23. (¬5) البخاري (2645)، ومسلم (1447). (¬6) البخاري (5099)، ومسلم (1444). (¬7) انظر «المحلي» (10/ 2)، و «المغني» (6/ 571)، و «البدائع» (4/ 2)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 47 - وما بعدها).

1 - المرضعة وأمها (لأنهن أمهاته). 2 - بنات المرضعة سواء من ولدن قبله أو بعده (لأنهن أخواته). 3 - أخت المرضعة (لأنها خالته). 4 - بنت بنت المرضعة (لأنها بنت أخته). 5 - أم زوج المرضعة الذي جاء لبنها بسبب الحمل منه (لأنها جدته). 6 - أخت زوج المرضعة (لأنها عمته). 7 - بنت ابن المرضعة (لأنها بنت أخيه). ويضاف إلى هؤلاء: 8 - بنت زوج المرضعة ولو من امرأة أخرى (لأنها أخت الرضيع من الأب). 9 - أخوات زوج المرضعة (لأنهن عماته). 10 - الزوجة الأخرى لزوج المرضع (لأنها زوجة أبيه). 11 - زوجة الرضيع تحرم على زوج المرضع (لأنها زوجة ابنه). لأن سبب التحريم -وهو اللبن- ينفصل من المرأة بسبب الحمل من زوجها فإذا تغذى به الرضيع صار جزءًا من أجزائهما. ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تأذن لأفلح أخي أبي القعيس -وهو عمها من الرضاعة- بالدخول عليها (¬1). وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل كانت له امرأتان فأرضعت إحداهما غلامًا، وأرضعت الأخرى جارية، فقيل له: هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال: "لا، اللقاح واحد" (¬2). وهذا قول عامة الصحابة والفقهاء (¬3). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5103)، ومسلم (1445) وقد تقدم لفظه في «اللباس». (¬2) صحيح: أخرجه مالك (2/ 602)، والترمذي (1149) وغيرهما بسند صحيح إلى ابن عباس، وهذه الصورة تسمى «لبن الفحل» والمراد بالفحل الرجل، ونسبة اللبن إليه مجارية لكونه السبب فيه. (¬3) «الأم» (5/ 34)، و «البدائع» (4/ 3)، و «المغني» (6/ 572)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 53) وقد ذهب قوم إلى أن (لبن الفحل) لا يحرم (!!) بناء على أن الله تعالى بيَّن الحرمة في جانب المرضعة ولم يبيِّن في جانب زوجها، وأن المحرِّم هو الرضاع، وقد وُجد منها لا منه، وهو قول مرجوح محجوج بالأدلة الصحيحة المذكورة أعلاه، وانظر لتفنيد هذا القول: «المحلي» لابن حزم (10/ 3).

12 - ولو كان الرضيع أنثى فيحرم عليها زوج المرضعة (لأنه أبوها) وأخو زوج المرضعة (لأنه عمها) وأبوه (لأنه جدها) وهكذا. * فائدة (¬1): التحريم خاص بالرضيع، ولا يتعدى إلى أحد من أقاربه، فليست أخته من الرضاعة أختًا لأخيه مثلًا، والقاعدة في هذا أن "من اجتمعوا على ثدي واحد صاروا إخوة" فأخو الرضيع مثلًا لم يشترك معهم في الرضاعة وبالتالي يجوز له أن يتزوج بنت مرضعة أخيه فإنها أجنبية عنه وإن كانت أختًا لأخيه من الرضاع والله أعلم. * شروط التحريم بسبب الرضاعة: [1] عدد الرضعات المُحَرِّمة: اختلف أهل العلم في عدد الرضعات المعتبرة في التحريم، والتي يثبت بها حكم الرضاع على أربعة أقوال (¬2): الأول: تُحرم الرضعة الواحدة فأكثر: وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد، وهو قول ابن المسيب والحسن والزهري وقتادة والأوزاعي والثوري والليث، وحجتهم: 1 - عموم قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} (¬3). 2 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" (¬4). 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬5). 4 - حديث عقبة بن الحارث قال: تزوجتُ امرأةً، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت: أرضعتكما، فأتيتُ النبى -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: تزوجتُ فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لى: إنى قد أرضعتكما، وهى كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة، قال: "كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟ دعها عنك" (¬6). ¬

(¬1) فتح الباري (9/ 141)، وبدائع الصنائع (4/ 2). (¬2) «البدائع» (4/ 5 - 7)، و «المواهب» (4/ 178)، و «بداية المجتهد» (2/ 66)، و «الأم» (5/ 38)، و «المحلي» (10/ 12)، و «المغني» (7/ 535)، و «الإنصاف» (9/ 334)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 57). (¬3) سورة النساء: 23. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5102)، ومسلم (1455). (¬5) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (2659)، والترمذي (1151)، والنسائي (3330).

قالوا: ففي هذه النصوص وغيرها لم يُذكر عدد معين. 5 - أجابوا عن الروايات التي وردت بتحديد العدد المحرِّم -وستأتي- بأنها قد اختُلف على عائشة في هذا العدد، فوجب الرجوع إلى أقل ما ينطلق عليه الاسم. 6 - وعن عمرو بن دينار أنه سمع ابن عمر -سأله رجل: أتحرِّم رضعة أو رضعتان؟ فقال: "ما نعلم الأخت من الرضاعة إلا حرامًا" فقال رجل: إن أمير المؤمنين -يريد ابن الزبير- يزعم أنه لا تحرِّم رضعة ولا رضعتان؟ فقال ابن عمر: "قضاء الله خير من قضائك، وقضاء أمير المؤمنين" (¬1). 7 - ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبَّد فلم يُعتبر فيه العدد كتحريم أمهات النساء. الثاني: يُحرِّم ثلاث رضعات فأكثر: وهو رواية ثالثة عن أحمد وقول أهل الظاهر -إلا ابن حزم- وبه قال إسحاق وأبو عبيد، أبو ثور وابن المنذر، وحجتهم: 1 - حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرِّم المصة والمصَّتان" (¬2). 2 - حديث أم الفضل قالت: دخل أعرابى على نبى الله -صلى الله عليه وسلم- وهو فى بيتى فقال: يا نبى الله، إنى كانت لى امرأة فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتى الأولى أنها أرضعت امرأتى الحُدثى رضعة أو رضعتين، فقال نبى الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحرم الإملاجة، والإملاجتان" (¬3). والإملاجة: الرضعة كذا في القاموس. 3 - قالوا: ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار، يُعتبر فيه الثلاث (!!). الثالث: يُحرِّم خمس رضعات فأكثر: وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد وابن حزم وبه قال عطاء وطاوس، وهو عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير، وحجة هذا القول: 1 - حديث عائشة قالت: "كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن". ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهنَّ فيما يقرأ من القرآن" (¬4). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 467)، والبيهقي (7/ 458). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1450)، وأبو داود (2063)، والترمذي (1150)، والنسائي (6/ 101)، وابن ماجة (1941). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1451)، وأحمد (6/ 339)، والبيهقي (7/ 445). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1452)، وأبو داود (2062).

قال النووي: "ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخَّر إنزاله جدًّا حتى إنه صلى الله عليه وسلم توفى، وبعض الناس يقرأ (خمس رضعات) ويجعلها قرآنًا متلوًّا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يُتلى" اهـ. قلت: فهذا من القرآن المنسوخ تلاوة، الباقي حكمًا، كآية الرجم. 2 - ما جاء في بعض طرق حديث عائشة في قصة سهلة بنت سهيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أرضعي سالمًا [خمس رضعات] فيحرم بلبنها" (¬1). 3 - وعن عائشة قالت: "لا يُحرِّم دون خمس رضعات معلومات" (¬2). الرابع: لا يُحرِّم إلا عشر رضعات فأكثر، وهو مروي عن عائشة وحفصة رضي الله عنهما. 1 - فعن سالم "أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أرسلت به -وهو يرضع- إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، فقالت: أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ، قال سالم: فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ثم مرضت، فلم ترضعني غير ثلاث رضعات، فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتمَّ لي عشر رضعات" (¬3). 2 - وعن صفية بنت أبي عبيد [زوجة عبد الله بن عمر]: "أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير يرضع، ففعلت فكان يدخل عليها" (¬4). قلت: والراجح قول من قال: (خمس رضعات معلومات يحرمن) لحديث عائشة في نسخ العشر إلى خمس رضعات، وهو مقيد للأحاديث المطلقة فيجب حملها عليه، وأحاديث الرضعتين ليست صريحة في تحريم الثلاث أو الأربع، ثم ¬

(¬1) لا يصح بذكر عدد الرضعات: أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق (13886)، ومالك (1284)، وأحمد (6/ 201)، وأسانيده غير متصلة، وأصله عند مسلم (1453) وغيره بلفظ «أرضعيه تحرمي عليه» بدون ذكر العدد. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني (4/ 183). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1278)، وعبد الرزاق (7/ 469)، والبيهقي (7/ 457). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1279)، وعبد الرزاق (7/ 470)، والبيهقي (7/ 457)،

رواية الخمس صريحة فيكون المعوَّل عليها، وعلى هذا القول تنتظم الأدلة ولا تتعارض، وأما فتوى عائشة بالعشر فليس فيه حجة لأمرين (¬1): 1 - أنها مخرَّجة على أن عائشة كانت تأخذ لنفسها بعشر رضعات ولغيرها بخمس رضعات كما تقدم عنها، وكذلك حفصة، فلعله كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات معلومات كما صحَّ عن طاووس. 2 - أن العبرة بروايتها لا برأيها وفتواها، والله أعلم. * فائدة: إذا وقع الشك في عدد الرضعات: أو في عدد الرضاع المحرم: هل كمل أم لا؟ لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدمه (¬2). * فائدة: قال في المغني (7/ 547): وإذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت طفلًا ثلاث رضعات، وانقطع لبنها، فتزوَّجت آخر فصار لها منه لبن، فأرضعت منه الصبي رضعتين، صارت أُمًّا له بغير خلاف نعلمه عند القائلين بأن الخمس محرِّمات، ولم يصر واحد من الزوجين أبًا له، لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه، ويحرم على الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما" اهـ. [2] السن المعتبرة في التحريم بالرضاع: للعلماء في السن المعتبرة في التحريم بالرضاع فيها أقوال كثيرة أشهرها ثلاثة: الأول: الرضاع المحرِّم ما كان في السنتين الأوليين فقط: وهو مذهب جماهير العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وصاحبا أبي حنيفة والأوزاعي (¬3)، وبه قال عمر وابنه عبد الله وابن مسعود وابن عباس وأبو موسى وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة، وحجة هذا القول ما يلي: 1 - قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} (¬4). فهو إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال ¬

(¬1) «المحلي» (10/ 10)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 65). (¬2) «المغني» لابن قدامة (7/ 537). (¬3) «مواهب الجليل» (4/ 179)، و «بداية المجتهد» (2/ 67)، و «البدائع» (4/ 5)، و «الأم» (5/ 39، 40)، و «المغني» (7/ 542). (¬4) سورة البقرة: 233.

الرضاعة وهي سنتان، فدلَّ على أن الرضاعة المحرِّمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك (¬1). 2 - حديث عائشة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وعندها رجل، فكأنَّه تغيَّر وجهُه، كأنَّه كره ذلك، فقالت: إنه أخى، فقال: "انظرن ما إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة" (¬2). يعني: أن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسدَّ الرضاعة المجاعة. 3 - عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحرِّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" (¬3). 4 - عن عبد الله بن دينار قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا معه عند دار القضاء يسأله عن رضاعة الكبير؟ فقال عبد الله بن عمر: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني كانت لي وليدة [يعني: أمة] وكنت أطؤها، فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها، فدخلتُ عليها، فقالت: دونك فقد -والله- أرضعتُها، فقال عمر: أَوْجِعها [أي: ضربًا] وائتِ جاريتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير" (¬4). 5 - وعن ابن عمر قال: "لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير" (¬5). 6 - وجاء رجل إلى بن مسعود فقال: إنها كانت معي امرأتي فحُصر لبنها في ثديها، فجعلتُ أمصُّه ثم أمُجُّه، فأتيت أبا موسى فسألتُه، فقال: حرمت عليك، قال: فقام وقمنا معه حتى انتهى إلى أبي موسى فقال: ما أفتيتَ هذا؟ فأخبره بالذي أفتاه، فقال ابن مسعود وأخذ بيد الرجل: "أرضيعًا ترى هذا؟ إنما الرضاع ما أنبت اللحم والدَّم" فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم (¬6). ¬

(¬1) انظر «تفسير القرطبي» (البقرة: 233) و «ابن كثير». (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5102)، ومسلم (1455). (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي (1162)، وابن حبان (6/ 214). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1289)، وعبد الرزاق (7/ 462)، والبيهقي (7/ 461). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1282)، وعبد الرزاق (7/ 465)، وابن جرير في «التفسير» (4956). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 463)، والبيهقي (7/ 461)، والطبري (4958).

7 - عن ابن عباس قال: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" (¬1). 8 - إنكار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة قولها باعتبار رضاع الكبير وسيأتي. القول الثاني: الرضاع المحرِّم ما كان في مدة ثلاثين شهرًا، وهو مذهب أبي حنيفة (¬2) وحجته: قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} (¬3). فجعل المراد: الحمل في الفصال لا الحمل في الأحشاء!! القول الثالث: رضاع الكبير يحرِّم كالصغير: وهو مذهب الظاهرية وعطاء والليث (¬4)، وبه قالت عائشة رضي الله عنها، وحجة هذا القول: حديث عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إنى أرى فى وجه أبى حذيفة من دخول سالم (وهو حليفه) فقال النبى -صلى الله عليه وسلم-: "أرضعيه" قالت: وكيف أُرضعه وهو رجل كبير، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "قد علمتُ أنه رجل كبير" (¬5). وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة منها: 1 - أنه واقعة عين خاصة بسهلة وبسالم، فلا عموم لها، ولذا أنكر سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة استدلالها به، فعن عروة قال: أَبى سائر أزواج النبى -صلى الله عليه وسلم- أن يدخل عليهن بتلك الرضعة أحدٌ من الناس -يريد رضاعة الكبير- وقلن لعائشة: "والله ما نرى الذى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهلة بنت سهيل إلا رخصة فى رضاعة سالم وحده من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يدخل علينا أحد بهذه الرضعة ولا يرانا" (¬6). 2 - أنه منسوخ، ولا يسلَّم به لا سيما مع عدم العلم بالتاريخ. قلت: الراجح أن الرضاع المعتبر المؤثِّر ما كان في الحولين الأولين من عمر ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (980)، والبيهقي (7/ 462). (¬2) «بدائع الصنائع» (4/ 5)، و «الهداية» (1/ 223). (¬3) سورة الأحقاف: 15. (¬4) «المحلي» (10/ 9)، و «المغني» (7/ 542)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 77). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1453). (¬6) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 106)، ومالك (1288)، وأحمد (6/ 269)، والبيهقي (7/ 459)، وهو عند مسلم (1454) وغيره عن حديث أم سلمة بنحوه.

الرضيع كما ذهب إليه الجمهور، لكن إذا دعت الحاجة كرضاع الكبير -الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه- لجعله محرمًا فلا مانع من إعمال حديث سهيلة وسالم، لا سيما وأنه يجوز للحاجة ما يجوز لغيرها، وهذا مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- واختاره الشوكاني (¬1)، وهو قول رابع في المسألة، وعليه تجتمع جميع النصوص في المسألة من غير إهمال لبعضها، والله أعلم. [3] صفة الرضاع المحرِّم: هل يشترط في الرضاع المصُّ من الثدي؟ (¬2) ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن لبن المرضع يُحرِّم سواء مصَّه الطفل من ثديها أو حُلِب له في إناء وشربه منه، وسواء وضع له في الفم (الوجور) أو في الأنف (السعوط) أو بأي صفة كانت بحيث يحصل له به الغذاء وسد الجوع وإنبات اللحم وإنشاز العظم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" (¬3). وأما ابن حزم فجعل مناط التحريم مسمى "الرضاع" فقال: ولا يسمى رضاعة إلا ما أخذ الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، قال: فأما من سُقي من لبن امرأة فشرب من إناء أو حلب في فيه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام ... فكل ذلك لا يحرم شيئًا!! قلت: وهذا مذهب الليث وداود والظاهرية، وقول الجمهور أقوى لأن الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم، ولو ارتضع بحيث يصل إلى فيه ثم مجَّه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به، والله أعلم. * فوائد: * إذا نزل للبكر لبن فأرضعت طفلًا فهل يُحرِّم؟ (¬4) إذا نزل للمرأة لبن من غير وطء بكرًا كانت أو ثيبًا -فإن لبنها يحرِّم عند جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، ويصير الطفل الذي ارتضعه ابنًا ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (32)، و «نيل الأوطار» (6). (¬2) «الأم» (5/ 38)، و «البدائع» (4/ 9)، و «المغني» (7/ 538)، و «المحلي» (10/ 7)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 80). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «الأم» (4/ 42)، و «المغني» (7/ 546)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 83).

لها، لأنه لبن امرأة فتعلَّق به التحريم كما لو نزل بوطء، ولأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال، فإن كان هذا نادرًا، فجنسه معتاد. 2 - المحرمات مؤقَّتًا: (أ) أخت الزوجة (الجمع بين الأختين): لا يجوز للرجل أن يجمع بين امرأة وأختها في وقت واحد بإجماع العلماء (¬1)، لكن إذا ماتت زوجته أو طلَّقها جاز له زواج أختها. قال الله تعالى في بيان المحرِّمات من النساء: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} (¬2). وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان أنها قالت: يا رسول الله، أنكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: "أو تحبِّين ذلك؟ " فقلت: نعم، لست لك بمخلية، وأَحَبُّ من شاركني في خيرٍ أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحل لي" (¬3) .. الحديث. ويستوي في هذا أن تكونا شقيقتين أو أختين لأب أو لأمٍّ، وسواء في هذا النسب والرضاع. واختلف فيما إذا كانت ملك يمين هل يجمع بينهما؟ فمنعه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو الصواب، فإن سائر ما ذكر في آية المحرمات عام في النكاح وملك اليمين، فكذلك الجمع بين الأختين (¬4). * فائدتان: 1 - إذا تزوَّج الرجل امرأة ثم تزوَّج أختها (¬5): فزواج الآخرة باطل، وزواج الأولى صحيح ثابت، وسواء دخل بها أو لم يدخل، ويُفرَّق بينه وبين الآخرة، وإذا كان عنده أمة يطؤها، لم يكن له وطء أختها إلا بأن يُحرم عليه فرج التي كان يطأ ببيعها أو تزويجها أو إعتاقها ونحو ذلك. فإن تزوجهما في عقد واحد فسد، لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. ¬

(¬1) «فتح الباري» (9/ 160)، و «تفسير ابن كثير» (1/ 472)، و «المغني» (6/ 571). (¬2) سورة النساء: 23. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5101)، ومسلم (1449). (¬4) «فتح الباري» (9/ 160)، و «زاد المعاد» (5/ 125)، و «المحلي» (9/ 521). (¬5) «الأم» (3/ 150)، و «المغني» (6/ 571)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 103).

2 - إذا أسلم الكافر، وكان متزوجًا بأُختين: فإنه يُخيَّر، فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة، وقد ورد -بسند ضعيف- أن فيروز الديلمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختر أيتهما شئت" (¬1). (ب) خالة الزوجة وعمتها (الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها): عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُجمع بين المرأة وعمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها" (¬2). وعن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنكح المرأة على عمتها أو خالتها" (¬3). وعلى هذا إجماع من يُعتد بإجماعه من أهل العلم أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، سواء كانت عمة وخالة حقيقية، أو مجازية وهي أخت أب الأب وأبي الجد وإن علا، أو أخت أمِّ الأم، وأم الجدة من جهتي الأم والأب وإن علت، فكلهنَّ يحرم الجمع بينهما. ويمكن أن يقال: "يحرم الجمع بين امرأتين بينهما حرمة النسب أو الرضاع بحيث لو فرضت واحدة منهما ذكرًا لم يجز نكاحها مع الأخرى" (¬4) فهذا هو الصفارة. فإن تزوج إحداهما على الأخرى فنكاح الآخرة مفسوخ، كما تقدم في الجمع بين الأختين (¬5). (ج) المرأة المتزوجة بالغير، أو المعتدة للغير إلا المسبيَّة، وزوجة الكافر إذا أسلمت: لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (¬6). ومعنى الآية: وحرمت عليكم المتزوجات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه الترمذي (1129)، وأبو داود (2243)، وابن ماجة (1951)، وأحمد (4/ 232). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5108)، والنسائي (6/ 98). (¬4) «المغني». (¬5) «سنن الترمذي» (ح 1126)، و «الأم» (3/ 150)، و «المحلي» (9/ 521)، و «الزاد» (5/ 127)، و «شرح مسلم» (3/ 562)، و «الفتح» (9/ 161)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 109). (¬6) سورة النساء: 24.

بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح زوجها الكافر وتحلُّ لكم إذا انقضى استبراؤها، ويؤيد هذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس فلقوا عدوًّا فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل فى ذلك: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (¬1). أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. (¬2) وقال ابن عباس: "كل ذات زوج: إتيانها زنا إلا ما سُبِيَتْ" (¬3). وعن ابن مسعود قال في هذه الآية: "كل ذات زوج عليك حرام إلا أن تشتريها أو ما ملكت يمينك" (¬4). * ويلحق بالمحصنات المباحات: المرأة التي أسلمت وكانت تحت رجل كافر، فإن إسلامها يفرِّق بينها وبين زوجها المشرك، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} (¬5). (د) المطلَّقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلا إذا تزوَّجت غيره زواجًا صحيحًا: لقوله سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} (¬6). وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في "أحكام الطلاق". (هـ) المشركة حتى تسلم: قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} (¬7). ¬

(¬1) سورة النساء: 24. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1456)، وأبو داود (2155)، والنسائي (6/ 110)، والترمذي (1132) مختصرًا. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (8961). (¬4) رجاله ثقات: أخرجه ابن جرير (8972) ورجاله ثقات إلا أن رواية إبراهيم عن ابن مسعود منقطعة عند بعض العلماء. (¬5) سورة الممتحنة: 10. (¬6) سورة البقرة: 230. (¬7) سورة البقرة: 221.

وقال سبحانه: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} (¬1). وفيهما تحريم الزواج بالمشركة حتى تؤمن، وفي حديث المسور بن مخرمة -في قصة صلح الحديبية- أنه لما نزل قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} "طلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية ... " الحديث (¬2). * تنبيه: يستثنى من تحريم المشركات، الزواج بأهل الكتاب: قال الله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} (¬3). وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المراد بالمحصنات هنا: العفيفات، سواء كنَّ من الحرائر، أو الإماء، فتبيَّن أن الكتابيات لسن داخلات في التحريم بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات ...} وعليه جمهور الصحابة ومن بعدهم: 1 - عن الشعبي قال: "تزوَّج أحد الستة من أصحاب الشورى يهودية" (¬4). 2 - عن جابر -وسئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية- قال: "تزوجناهنَّ زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبى وقاص، ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرًا، فلما رجعنا طلقناهن، وقال: لا يرثن مسلمًا ولا يرثونهن، ونساؤهم لنا حِلٌّ، ونساؤنا حرام عليهم" (¬5). 3 - عن أبي وائل قال: "تزوَّج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر: طلِّقها، فكتب إليه: لم؟ أحرام هي؟ فكتب إليه: لا، ولكني خفت أن تعاطوا المومسات منهن" (¬6). 4 - ورُوي عن عثمان بن عفان أنه: "نكح ابنة الفرافضة الكلبية -وهي نصرانية- على نسائه ثم أسلمت على يديه" (¬7) وفي سنده ضعف. ¬

(¬1) سورة الممتحنة: 10. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2734) وغيره. (¬3) سورة المائدة: 5. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (717). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 8)، والبيهقي (7/ 172). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (716)، والبيهقي (7/ 172). (¬7) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (7/ 172).

* وذهب الشافعي وبعض أهل العلم إلى أن من كان من بني إسرائيل يدين بدين اليهود أو النصارى نُكح نساؤه وأكلت ذبيحته، أما من دان بدينهم من غيرهم من العرب أو العجم لم تُنكح نساؤه ولم تحل ذبيحته (!!) وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض السلف: فعن عبيدة عن عليٍّ قال: "لا تؤكل ذبائح نصارى العرب، فإنهم لا يتمسَّكون من النصرانية إلا بشرب الخمر" (¬1). لكن هذا القول لا دليل عليه من كتاب أو سنة مرفوعة، وأما قول عليٍّ فهو مُعارض بقول غيره من الصحابة، بل قال ابن عباس: "كلوا ذبائح بني تغلب وتزوَّجوا نساءهم، فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} (¬2) فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم" (¬3). وقد "كتب عامل عمر إلى عمر أن قبلنا ناسًا يُدعون السامرة يقرأون التوراة، ويسبتون السبت، ولا يؤمنون بالبعث، فما ترى يا أمير المؤمنين في ذبائحهم فكتب إليه عمر بن الخطاب أنهم طائفة من أهل الكتاب" (¬4). قلت: وقد تقدم أن إنكار عمر على حذيفة زواجهُ باليهودية لم يكن لتحريمه وإنما خشية أن يتزوج المسلمون المومسات والزانيات منهن، وهذا أمر معتبر ينبغي التنبُّه إليه مع القول بالإباحة، والله أعلم. * أما المسلمة فلا يحلُّ لها الزواج بالكافر: سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم، لقوله سبحانه: {ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} (¬5). وقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (¬6). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 72)، والبيهقي (9/ 217). (¬2) سورة المائدة: 51. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (3/ 477)، والبيهقي (9/ 217). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 187)، والبيهقي (7/ 173). (¬5) سورة البقرة: 221. (¬6) سورة الممتحنة: 10.

(و) الزانية حتى تتوب وتستبرئ بحيضة: قال الله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحُرِّم ذلك على المؤمنين} (¬1). وقد اختلف أهل العلم في مفهوم هذه الآية الكريمة: هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهل الإشارة في قوله تعالى {وحرم ذلك على المؤمنين} إلى الزنا، أو إلى النكاح؟ (¬2). وقد صار الجمهور -خلافًا لأحمد- إلى حمل الآية على الذم لا على التحريم، فأجازوا زواج الزانية، لأمور: 1 - أن ظاهر الآية غير مراد لأنه يستلزم القول بأن الزاني المسلم تحل له المشركة، وكذلك الزانية المسلمة يحل لها المشرك وهما ممتنعان كما تقدم. 2 - قالوا: الآية منسوخة بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم ...} (¬3). قد خلت الزانية في أيامى المسلمين، ويعكِّر على هذا الجهل بالتاريخ فلا يثبت النسخ. 3 - واستدلوا بحديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجته: إنها لا تردُّ يد لامس، فقال له صلى الله عليه وسلم: "طلقها" فقال: إني لا أصبر عنها فقال له: "فأمسكها" (¬4). قلت: لكن يتأيد حمل الآية على تحريم نكاح الزانية بسبب نزولها: فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن مرثد بن أبى مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغى يقال لها "عَنَاق" وكانت صديقته، فقال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناقًا؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يردَّ عليَّ شيئًا حتى نزلت: {الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (¬5). فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا مرثد، الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تنكحها" (¬6). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله" (¬7). ¬

(¬1) سورة النور: 3. (¬2) «بداية المجتهد» (2/ 72 - 73) وانظر «تفسير ابن كثير». (¬3) سورة النور: 32. (¬4) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (2049)، والنسائي (6/ 170)، والبيهقي (7/ 154، 155). (¬5) سورة النور: 3. (¬6) حسن: أخرجه الترمذي (3177)، وأبو داود (2051)، والنسائي (6/ 66). (¬7) حسن: أخرجه أبو داود (2052)، والحاكم (2/ 193)، والبيهقي (7/ 156).

وهذا مذهب قتادة وإسحاق وابن عبيد وأحمد واختاره شيخ الإسلام (¬1). فلا يجوز زواج الزانية إلا بشرطين: 1 - أن تتوب: لأن بتوبتها يزول عنها الوصف الذي من أجله حُرِّم نكاحها في الآية الكريمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬2). 2 - الاستبراء بحيضة: وهو شرط عند أحمد ومالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المسبيَّات: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة" (¬3). فاشترط استبراء الأمة بالمحيض براءة الرحم قبل تجويز وطئها فكذلك زواج الزانية، وهو الصواب والله أعلم. (ز) المُحْرِمة حتى تتحَلَّل: لا يحل للمحرم أو المحرمة عقد الزواج حال الإحرام، فإن عقد أحدهما فنكاحه باطل، وهذا مذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم، لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْكِح المُحرِم، ولا يُنْكَح، ولا يخطب" (¬4). وقد تقدمت هذه المسألة بأدلتها في "كتاب الحج" فراجعها غير مأمور. (ج) الزواج بخامسة ما دام تحته أربع: قال الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (¬5). فانتهى عدد ما رخَّص فيه للمسلمين إلى أربع، فلا يحل لمسلم أن يجمع بين أكثر من أربع، إلا ما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم دون المسلمين من نكاح أكثر من أربع يجمعهن ومن النكاح بغير مهر. وقد أجمع أهل العلم -إلا من لا يعتدُّ بخلافه من الشيعة- على هذا (¬6). ¬

(¬1) «المغني» (7/ 515)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 109). (¬2) حسنه الألباني: أخرجه ابن ماجة (4250)، وابن الجعد (1/ 266) والقضاعي في «الشهاب» (1/ 97)، والطبراني (10/ 150) والظاهر لي إرساله لكن حسنه الألباني في «صحيح ابن ماجة» (2/ 418). (¬3) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (2157)، وأحمد (3/ 62) وله طرق وشواهد. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1409)، والترمذي (840)، وأبو داود (1841)، والنسائي (5/ 292)، وابن ماجة (1966). (¬5) سورة النساء: 3. (¬6) «تفسير ابن كثير»، و «فتح الباري» (9/ 139)، و «المغني» (6/ 539).

الأنكحة الفاسدة شرعا

ومن كان مشركًا ثم أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة فإنه يؤمر بفراق من شاء منهن مما زاد على الأربع. وقد ورد عن ابن عمر "أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخيَّر أربعًا منهن" (¬1). وهو حديث مُعلٌّ إلا أن الإجماع منعقد على العمل به. ومن تزوَّج خامسة وعنده أربع: فزواجه باطل، وعليه الحدُّ إن كان عالمًا، عند مالك والشافعي، وقال الزُّهري: يُرجم إذا كان عالمًا، وإن كان جاهلًا أدنى الحدين الذي هو الجَلد، ولها مهرها، ويُفرَّق بينهما ولا يجتمعان أبدًا (¬2). الأنكحة الفاسدة شرعًا (¬3) [1] نكاح الشغار: وهو أن يزوِّج ابنته أو أخته أو موليته، على شرط أن يزوِّجه ابنته أو أخته أو موليته، سواء كان بينهما صداق أو لم يكن على الأصح. وقد أجمع العلماء على تحريم نكاح الشغار، واختلفوا في صحته، فالجمهور على بطلانه (¬4) لما يأتي: 1 - حديث جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار" (¬5). 2 - وعن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار" قال: والشغار أن يقول الرجل للرجل زوِّجني ابنتك وأوزوجك ابنتي، أو: زوجني أختك وأزوجك أختي (¬6). ¬

(¬1) أعلَّه الأئمة: أخرجه الترمذي (1128)، وابن ماجة (1953)، وأحمد (2/ 13) وغيرهم وأعلَّه البخاري ومسلم وأحمد وأبو حاتم وأبو زُرعة بالإرسال وانظر «التلخيص» (3/ 168). (¬2) «تفسير القرطبي» (5/ 18)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 467). (¬3) الفاسد والباطل مترادفان في اصطلاح جمهور الفقهاء، إلا في النكاح، فحيث يقولون (نكاح باطل) فهو ما أجمعت الأمة على بطلانه، وهذا لا ينعقد أصلًا ولا يعترف الشرع به ولا يحتاج الفراق فيه إلى طلاق، ولا تترتب عليه آثاره إلا أن يكون حصل بشبهة، وأما (النكاح الفاسد) فهو ما اختلفوا في فساده وتجب المفارقة فيه بطلاق، وتترتب عليه بعض آثاره. (¬4) «فتح الباري» (9/ 163). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1417). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1416)، والنسائي (6/ 112)، وابن ماجة (1884).

3 - عن الأعرج "أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقًا فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال فى كتابه: هذا الشغار الذى نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم" (¬1). 4 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق" (¬2). 5 - ثم "إن اشتراط المبادلة مقتضي لفساد هذا النكاح، لما فيه من فساد كبير، لأنه يُفضي إلى إجبار النساء على النكاح ممن لا يرغبن فيه إيثارًا لمصلحة الأولياء على مصلحة النساء، وهو ظلم لهن، ولأن ذلك يُفضي إلى حرمان النساء من مهور أمثالهن، كما هو واقع بين من يتعاطون هذا العقد المنكر، وكذلك لما يُفضي إليه هذا النكاح من النزاع والخصومات بعد الزواج، وهذا من العقوبات العاجلة لمن خالف شرع الله" (¬3). [2] نكاح المُحَلِّل: وهو أن يتزوج الرجل المطلقة ثلاثًا، ثم يطلقها، لأجل أن تحلَّ لزوجها الأول. وهو من الكبائر، حرَّمه الله تعالى ولعن فاعله والمفعول لأجله: 1 - فعن ابن مسعود قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحِلَّ والمحلَّل له" (¬4). * وقد ذهب عامة أهل العلم، منهم: مالك والشافعي -في قول- وأحمد، والليث والثوري وابن المبارك وغيرهم، إلى أن نكاح التحليل فاسد، وهو قول عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعثمان بن عفان من الصحابة (¬5). 1 - فعن عمر بن الخطاب قال: "لا أُوتَي بمحلِّل وبمحلَّلة إلا رجمتهما" (¬6). ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (2075). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2155)، ومسلم (1504). (¬3) من رسالة للعلامة ابن باز - رحمه الله - في «نكاح الشغار». (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (1120)، والنسائي (6/ 149)، وأحمد (1/ 448) وغيرهم، وقد ورد تسمية المحلل «التيس المستعار» عند ابن ماجة (1936) ولا يصح. (¬5) «بداية المجتهد» (2/ 102)، و «المغني» (6/ 645)، و «نهاية المحتاج» (6/ 282)، و «المحلي» (10/ 180)، و «سنن الترمذي» (3/ 420)، و «روضة الطالبين» (7/ 126). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 265)، وسعيد بن منصور (1992):

2 - وسئل ابن عمر عن تحليل المرأة لزوجها، فقال: "ذلك السفاح" (¬1). * وسواء في هذا: أن يُشترط عليه طلاق المرأة لتحلَّ لزوجها، أو لا يُشترط لكن ينوي هو تحليلها، فالنكاح فاسد: 3 - فعن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فسأله عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليُحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: "لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعدُّ هذا سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬2). وذهب أبو حنيفة والشافعي -في قوله الثاني وهو المشهور- إلى أن النكاح صحيح والشرط باطل (¬3)!! ولا يسلم لهذا القول دليل، والصحيح أنه نكاح فاسد. * فائدة: المعتبر في فساد النكاح نيَّة الزوج الثاني (المحلِّل): فلا يخلو من حالين: 1 - أن ينوي زواج المرأة ثم تطليقها لتحليلها لأول، سواء شُرط عليه أم لا، فالنكاح حينئذ فاسد، ويكون ملعونًا. 2 - أن يُشرط عليه تحليل المرأة قبل العقد، فينوي -هو- غير ما اشترطوا عليه ويقصد النكاح رغبة، فالنكاح صحيح، لأنه خلا من نية التحليل وشرطه (¬4). * ولا اعتبار لنية الزوج الأول، أو المرأة نفسها: لأن الزوج الأول لا يملك شيئًا من العقد، ولا من رفعه، فهو أجنبي كسائر الأجانب. وكذلك المرأة لأن الطلاق والإمساك إلى الزوج الثاني لا إليها، ومما يؤيد هذا: أن امرأة رفاعة القرظى جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلَّقنى فبَتَّ طلاقى، وإنى نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظى، وإنما معه مثل الهُدبة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لعلك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسَيْلتكِ، وتذوقى عُسَيْلته" (¬5) يعني: يجامعك. فلم يعتبر نيَّتها شيئًا. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10776). (¬2) صحيح: أخرجه الحاكم (2/ 199)، والبيهقي (7/ 208). (¬3) «ابن عابدين» (3/ 411)، و «روضة الطالبين» (7/ 126). (¬4) «المغني» لابن قدامة (6/ 648). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

[3] نكاح المتعة: وهو أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل مؤقت -يوم أو يومين أو أكثر- في مقابل شيء يعطيه إياها من مال أو نحوه. وقد كان هذا النكاح حلالًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فحرَّمه تحريمًا باتًا إلى يوم القيامة، وعلى هذا جماهير أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم (¬1). وقد اختلفت الأخبار في الوقت الذي نسخ فيه نكاح المتعة، والذي صحَّ منها (¬2): 1 - نَسخه في خيبر: صحَّ أن عليًا قال لابن عباس: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر" (¬3). ثم رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة بعد ذلك، ولم يبلغ عليًّا رضي الله عنه هذا الترخيص، فبنى على ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث التحريم يوم خيبر، وعلى ما استقرَّ عليه الأمر أيضًا (¬4). 2 - نسخه في عام الفتح: فعن الربيع بن سبرة أن أباه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة قال: "فأقمنا بها خمس عشرة (ثلاثين بين ليلة ويوم) فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء ... ثم استمتعت منها (أي من فتاة) فلم أخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬5) وفي لفظ: " ... فكُنَّ معنا [يعني النساء اللاتي استمتعوا بهن] ثلاثًا ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن" (¬6). ¬

(¬1) «المدونة» (2/ 196)، و «بداية المجتهد» (2/ 101)، و «نهاية المحتاج» (5/ 71)، و «المبسوط» (5/ 152)، و «المغني» (6/ 644)، و «الإنصاف» (8/ 163)، و «التمهيد» (10/ 121)، و «شرح معاني الآثار» (3/ 26)، و «المحلي» (9/ 519)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 171)، ونكاح المتعة عند القائلين به: لا ميراث فيه، وتقع الفرقة بانقضاء الأجل من غير طلاق وهو بهذا يخالف النكاح، وانظر «الاستذكار» (16/ 301). (¬2) انظر هذه الأخبار بأسانيدها في «جامع أحكام النساء» (3/ 127 - وما بعدها). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5115)، ومسلم (1407). (¬4) «فتح الباري» (9/ 168). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1406). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1406)، والبيهقي (7/ 202).

وفي لفظ: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها" (¬1). 3 - نسخه عام أوطاس: عن سلمة بن الأكوع قال: "رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا ثم نهى عنها" (¬2). ثم كان هذا التحريم مؤبدًا إلى يوم القيامة. * تنبيهان: 1 - صح عن جابر بن عبد الله أنه قال: "كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق، الأيام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر حتى نهى عنه عمر فى شأن عمرو بن حريث" (¬3). وهذا محمول على أن من استمتع في عهد أبي بكر وعمر لم يكن بلغه النسخ والتحريم (¬4). 2 - ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يرى إباحة زواج المتعة عند الضرورة فعن أبي جمرة قال: "سمعْتُ ابن عباس يُسأل عن متعة النساء فرخَّص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قِلَّة أو نحوه؟ فقال ابن عباس: نعم" (¬5). وهذا من مفاريد الحبر ابن عباس رضي الله عنهما وهو مأجور على اجتهاده إن شاء الله، وأما نحن فمتعبَّدون بما بلغنا عن الشارع من تحريمه أبدًا، ومخالفة ابن عباس لجمهور الصحابة غير قادح في حجيَّة التحريم، ولا قائم لنا بالمعذرة عن العمل به، والله تعالى أعلم. * من تزوَّج بالمتعة، ماذا يفعل؟ تقدم أن نكاح المتعة فاسد، فتجب فيه المفارقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من تمتع بامرأن أن يفارقها كما في حديث سبرة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1406). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1405)، والبيهقي (7/ 204)، وابن حبان (4151). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1405)، وأبو داود (2110). (¬4) «شرح معاني الآثار» (3/ 27)، و «شرح مسلم» (3/ 555). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5116)، والطحاوي (3/ 26)، والبيهقي (7/ 204).

* ما حكم من تزوَّج امرأة وفي نيَّته طلاقها بعد مدة؟ هذا يفعله كثير من المسافرين إلى الخارج، فيتزوجون وفي نيتهم أن يفارقوا أزواجهم إذا أرادوا العودة إلى بلادهم. وهذا النكاح صحيح عند عامة أهل العلم: إذا تزوَّجها بغير شرط إلا أن في نيَّته طلاقها بعد مدة، قالوا: لأنه قد ينوي الشيء ولا يفعله، ولا ينويه ويفعله، فيكون الفعل حادثًا غير النية (¬1). وخالف في هذا الأوزاعي، فقال: هو نكاح متعة، وهو اختيار العلامة ابن عثيمين (¬2). قلت: ولعل قول الأوزاعي أَوْجَهُ، ويؤيده ما تقدم قريبًا من قول ابن عمر لمن سأله عن رجل أراد أن يتزوج زوجة أخيه ليحلها له: "لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعدُّه سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬3). ويضاف إلى ذلك ما في هذا النوع من النكاح من الغش والخداع، وإلقاء العداوة والبغضاء، وإذهاب الثقة بين المسلمين، وتدني النفس وتنقلها في مراتع الشهوات، وما يترتب على ذلك من المفاسد والمنكرات، فإن هذا النوع أجدر بالبطلان من عقد المتعة الذي يُشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الرجل والمرأة ووليها!! ثم ههنا أمر وهو: هل للزوج حق الطلاق من غير سبب؟! "الأصل في الطلاق الحظر، لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدنيوية، والإباحة للحاجة إلى الخلاص" (¬4). وسيأتي في أبواب الطلاق أنه تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة على حسب اختلاف الأحوال. [4] الزواج العُرفي (¬5): المراد به هنا: تلك الظاهرة التي تفشت بين الشباب في هذه الأيام حيث: يقيم الرجل علاقة مع امرأة -زميلة في الجامعة مثلًا!! - ولا يعرف بهذه العلاقة ¬

(¬1) «المغني» (6/ 644)، و «الأم» (5/ 80) عن كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 376). (¬2) «الاستذكار» (16/ 301)، و «أحكام التعدد» لإحسان العتيبي (ص 26). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «شرح فتح القدير» لابن الهمام (3/ 78)، و «الإنصاف» (8/ 429). (¬5) انظر: «الزواج العُرفي باطل» للشيخ أسامة البطة، حفظه الله.

الصفات المطلوبة في الزوجين

أحد، أو قد يعرفها أصحابه الذين يعرفون علاقاته غير المشروعة، ثم ينطلق بها إلي بيت صديقه -مثلًا- فيمارس معها الجنس، ثم ترجع إلى بيت أبيها الذي ينفق عليها، ويكون هذا العقد بينهما عبارة عن ورقة بينهما، وربما شهادة هؤلاء الفسَّاق!!. * وهذا العقد فاسد، بل هو في الحقيقة زنا -والعياذ بالله- لأنه فقد شرطًا من شروط النكاح (¬1) التي لا يصح إلا بها، وهو: إذن وليِّ المرأة. فقد دلَّ الكتاب والسنة على اشتراط الولي في صحة النكاح، وعلى هذا جماهير العلماء، وستأتي هذه الأدلة مفصَّلة في "شروط عقد النكاح". فإذا تقرر فساد هذا الزواج، فيجب فسخه أبدًا، وإن طال الزمان بعد الدخول. الصفات المطلوبة في الزوجين (¬2) (أ) الصفات التي يستحب توفرها في الزوجة: 1 - أن تكون ذات دين: لقوله تعالى: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} (¬3). ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فاظفر بذات الدين تربت يداك" (¬4). 2 - إذا اجتمع مع الدِّين: جمال وحسب ومال فهو خير: قال صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (¬5). 3 - أن تكون ذات عطف وحنان: قال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش: أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" (¬6). ¬

(¬1) ستأتي هذه الشروط قريبًا. (¬2) من «أحكام النكاح والزفاف» لشيخنا مصطفى العدوي - حفظه الله - (ص: 56 - 60) بتصرف يسير. (¬3) سورة البقرة: 221. (¬4) صحيح: وهو الآتي بعده. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5082)، ومسلم (2527).

4 - يستحب أن تكون بكرًا: لقول النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله لما تزوج: "أبكرًا أم ثيبًا؟ " قال: ثيبًا، قال: "فهلّا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" (¬1). إلا إذا كانت هناك قرينة ترجح نكاح الثيب كطلب مصاهرة الصالحين أو جبر خاطر من توفي زوجها أو لأعالة أيتام ونحو ذلك. 5 - أن تكون جميلة مطيعة أمينة: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها ولا في ماله" (¬2). 6 - أن تكون ودودًا ولودًا: لحث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج منها وقد تقدم الحديث في أول هذا الكتاب. (ب) الصفات التي يستحب توفرها في الزوج: 1 - أن يكون ذا دين: لقوله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} (¬3). 2 - أن يكون حاملًا لقدر من كتاب الله عز وجل: فقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من أصحابه بما معه من القرآن (¬4). 3 - أن يكون مستطيعًا للباءة بنوعيها: وهي القدرة على الجماع وعلى مؤن الزواج وتكاليف المعيشة. وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم الشباب على الزواج عند استطاعتهم الباءة، وقال لفاطمة بنت قيس: "أما معاوية فصعلوك لا مال له" (¬5). 4 - أن يكون رفيقًا بالنساء: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أبي جهم: " .. أما أبو جهم فرجل لا يضع عصاهُ عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة" (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5079)، ومسلم (715). (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 68)، وأحمد (7373). (¬3) سورة البقرة: 221. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5029)، ومسلم (1425). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1480)، والنسائي (3245)، وأبو داود (2284). (¬6) صحيح: وهو الذي قبله.

5 - أن تُسَرَّ المرأة برؤيته: حتى لا تحدث النفرة بينهما، وحتى لا تكفر العشير معه. 6 - أن يكون غير عقيم: لما ورد في فضل الذرِّية، إلا أن تأتي عوارض ترجِّح مثل هذا. 7 - أن يكون كُفْئًا للمرأة: والكفاءة هي: المساواة والمماثلة، وهي تشمل أنواعًا: 1 - الكفاءة في الدين: وهي معتبرة في النكاح، بل هي شرط في صحته، باتفاق أهل العلم، فلا يحل للمرأة أن تتزوَّج كافرًا بالإجماع (¬1). وكذلك لا ينبغي للمسلم أن يزوج مُوليته الصالحة من رجل فاسق فقد قال الله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} (¬2). وإن كان هذا لا يشترط في صحة العقد. 2 - الكفاءة في النسب: وهي معتبرة عند جمهور العلماء خلافًا للإمام مالك. 3 - الكفاءة في المال: قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (¬3). وهي معتبرة عند الحنفية والحنابلة وقول عند الشافعية. 4 - الكفاءة في الحرية وهي معتبرة عند الجمهور خلافًا لمالك. 5 - الكفاءة في الصنعة والمهنة، وقد اعتبرها الحنفية والشافعية والحنابلة. 6 - السلامة من العيوب [أي العيوب الفاحشة]: وهي معتبرة عند المالكية والشافعية وابن عقيل من الحنابلة. * لكن: هل هذه الكفاءة شروط في صحة النكاح؟ لأهل العلم في اشتراطها قولان: أصحهما أن الكفاءة -في الجملة- ليست شرطًا في صحة النكاح، وهو قول جمهور العلماء، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية، وهو مروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما (¬4)، ومما يدل على ذلك: ¬

(¬1) «الإفصاح» (2/ 121)، و «سبل السلام» (ص 1006). (¬2) سورة النور: 26. (¬3) سورة النساء: 34. (¬4) «ابن عابدين» (3/ 84)، و «المبسوط» (3/ 229، و «المدونة» (2/ 170)، و «الدسوقي» (2/ 217)، و «الأم» (5/ 13)، و «المغني» (6/ 484)، و «الإنصاف» (8/ 105).

1 - تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش -وهي أسدية من أعلى العرب نسبًا- بزيد بن حارثة رضي الله عنه وهو مولى، وقصتهما في كتاب الله، قال الله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ...} (¬1). 2 - تزويج النبي صلى الله عليه وسلم -وهو هاشمي- ابنتيه بعثمان بن عفان -وهو قرشي- وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (¬2). 3 - تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد -وهو مولى- بفاطمة بنت قيس -وهي قرشية- وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لها: " .. انكحي أسامة" (¬3). 4 - عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" (¬4). 5 - قول الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} (¬5). فالفقر في الحال لا يمنع التزويج لاحتمال حصول المال في المآل. 6 - حديث أبي سعيد أن زينب امرأة ابن مسعود قالت: يا نبى الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندى حُلىٌّ لى، فأردت أن أتصدق بها، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقتُ عليهم، فقال النبى -صلى الله عليه وسلم- "صَدَق ابن مسعود، زوجُك وولدُك أحق من تصدَّقت به عليهم" (¬6). فدَلَّ على أنها كانت أثرى منه بكثير، والله أعلم. 7 - حديث أبي هريرة أن أبا هند حَجَم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه" (¬7). ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 37. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2276)، والترمذي (3605). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (934) وغيره. (¬5) سورة النور: 32. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1462)، ومسلم (1000). (¬7) حسن: أخرجه أبو داود (2102)، والحاكم (2/ 164)، والبيهقي (7/ 136).

وأبو هند هو مولى بني بياضة وليس من أنفسهم، ثم هو يعمل حجَّامًا، وقد كانت هذه الصناعة من أحقر الصناعات في زمانهم. 8 - حديث عائشة قالت: "اشتريت بريرة فاشترط أهلها ولاءها فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعتقيها، فإن الولاء لمن أعطى الورق" فأعتقها فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فخيَّرها من زوجها، فقالت: لو أعطاني كذا وكذا ما ثبتُّ عنده" (¬1). وفي حديث ابن عباس: " .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعته، قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه" (¬2). ولا يشفع إليها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح عبدًا إلا والنكاح صحيح، والله أعلم. 9 - وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (¬3). وقد ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه، والثوري وبعض الأحناف إلى أن الكفاءة شرط، واستدلوا بجملة أدلة لا يثبت منها شيء، وما ثبت منها فليس صريحًا في الشرطية ولا يقوى على معارضة ما تقدم من النصوص. * فوائد: الأولى: الكفاءة عند من يشترطها إنما هي حق للمرأة والأولياء: بمعنى أن المرأة وأولياءها إن رضوا بعدم الكفء صحَّ النكاح، ولم يقل الإمام أحمد ولا غيره من العلماء إنه باطل (¬4). الثانية: كثير ممن لا يشترطون الكفاءة في صحة النكاح يرون أنها شرط لزوم: بمعنى أنه: إن عُقد النكاح مع وجودها لزم النكاح، وإن عقد مع وجودها برضا المرأة والأولياء صحَّ، وإن لم يرض أحد الأولياء فله فسخ النكاح، وهذا مذهب الشافعية، وظاهر مذهب الحنفية والمعتمد عند المالكية ومتأخري الحنابلة (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2536)، ومسلم (1504). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5283)، وأبو داود (2231)، والنسائي (8/ 245)، وابن ماجة (2075). (¬3) ضعيف: أخرجه الترمذي (1090) وغيره وله أسانيد ضعيفة إلا أن نصوص الشرع تؤيده. (¬4) «زاد المعاد» (5/ 161)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 284). (¬5) «ابن عابدين» (2/ 318)، و «الدسوقي» (2/ 249)، و «روضة الطالبين» (7/ 84)، و «المغني» (6/ 480)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 57).

الخطبة وأحكامها

الثالثة: الكفاءة معتبرة في الرجل دون المرأة: فإذا تزوَّج الرجل امرأة ليست كفؤًا له فلا غبار عليه، لأن القوامة بيده، والأولاد ينسبون إليه، والطلاق بيده، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من أحياء العرب -ولا مكافئ له في دين ولا نسب- وتسرَّى بالإماء، وقال: "من كانت عنده جارية فعلمَّها وأحسن تعليمها وأحسن إليها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" (¬1). الخِطْبة وأحكامها * تعريفها: الخِطبة -بكسر الخاء-: طلب المرأة للزواج، فإن أجيب إلى طلبه فلا يعدو كونه وعدًا بالزواج، ولا ينعقد بهذا النكاح، فتظل المرأة أجنبية عنه حتى يعقد عليها. فالخطبة مقدمة للنكاح لا يترتب عليها ما يترتب على النكاح كما سيأتي تفصيله. * حكمها: الخطبة ليست شرطًا في صحة النكاح، فلو تم بدونها كان صحيحًا، لكنها -في الغالب- وسيلة للنكاح، فهي عند الجمهور جائزة لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} (¬2). والمعتمد عند الشافعية استحبابها (¬3) لفعله صلى الله عليه وسلم: حيث خطب عائشة بنت أبي بكر (¬4)، وخطب حفصة بنت عمر رضي الله عنهم (¬5). هذا إذا لم يَقُم بالمرأة مانع من موانع النكاح -أو غيره مما سيأتي- وإلا لم تجز الخطبة. * من تُخطب إليه المرأة: 1 - الأصل أن يُطلب الزواج بالمرأة (خطبتها) من وليِّها: فعن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال" (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2544)، ومسلم (154)، وانظر «المغني» (6/ 487)، و «المبسوط» (5/ 29)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 287). (¬2) سورة البقرة: 235. (¬3) «ابن عابدين» (2/ 262)، و «المواهب» (3/ 407)، و «نهاية المحتاج» (6/ 198)، و «روضة الطالبين» (7/ 30)، و «المغني» (6/ 604). (¬4)، (4) يأتي نص الحديثين قريبًا وهما في البخاري. (¬5) أخرجه البخاري (5081). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم، والنسائي (6/ 81).

2 - ويجوز أن تخطب المرأة الرشيدة إلى نفسها: لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لما مات أبو سلمة أرسل إلىَّ النبي صلى الله عليه وسلم حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيور ... " الحديث (¬1). * يُشرع للوليِّ عرض مُوليه على أهل الصلاح: 1 - فقد قال الشيخ الصالح لموسى عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ...} (¬2). 2 - وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تأيَّمت حفصة -ابنته- من خنيس بن حذافة السهمي عرضها على عثمان، ثم على أبي بكر، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). 3 - وعن أم حبيبة قالت: قلت: يا رسول الله، أنكح أختي بنت أبي سفيان قال: "وتُحبين؟ " قلت: نعم، لستُ لك بمخلية، وأَحَبُّ من شاركني في خير أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحل لي" ... الحديث (¬4). 4 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، مالك تنوَّق (¬5) في قريش وتدعنا؟ فقال: "وعندكم شيء؟ " قلت: نعم، بنت حمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة" (¬6). * ويُشرع للمرأة عرض نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها: 1 - فعن أنس قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت ابنة أنس: ما أقل حياءها، واسوأتاه، فقال أنس رضي الله عنه: "هي خير منك، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها" (¬7). ¬

(¬1) سورة القصص: 27. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5122). (¬3) (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5107) وقد تقدم. (¬5) أي: تختار، وتبالغ في الاختيار. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1446)، والنسائي (6/ 99). (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (5120)، والنسائي (6/ 78)، وابن ماجة (2001).

2 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: "زوجنيها ... " الحديث (¬1). ومحل هذا إذا أُمنت الفتنة كما لا يخفى، فإن وجدت الفتنة في إخبارها للرجل برغبتها في الزواج منه، لم يجز لما فيه من الفساد {والله لا يحب الفساد} (¬2) (¬3). * من لا يجوز خِطبتُهنَّ: [1] المحرمات من النساء سواء على التأبيد أو التأقيت: لأن الخِطبة مقدمة إلى النكاح، وما دام النكاح ممنوعًا فتكون الخطبة كذلك، وقد تقدم ذكر المحرمات من النساء قريبًا. على أنه يحلُّ خطبة الكافرة (المجوسية ونحوها) لينكحها إذا أسلمت (¬4). [2] المرأة المعتدَّة (في فترة العدَّة): وهي وإن كانت داخلة في عموم المحرمات على التأقيت -كما تقدم- إلا أن لها أحكامًا وتفصيلات خاصة، ويختلف حكم خطبة المعتدة باختلاف حالتها. * والمعتدة لا تخلو من حالات: (أ) أن تكون معتدَّة من وفاة زوجها: فهذه لا يجوز للرجل أن يصرِّح لها بالخطبة، كأن يقول: أريد أن أتزوجك أو: إذا انقضت عدَّتك تزوجتك، وعلى تحريم ذلك اتفاق الفقهاء (¬5). لكن يجوز له أن يعرِّض لها برغبته في ذلك دون تصريح: قال الله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ... واعلموا أن الله غفور حليم} (¬6). ولأن الخاطب إذا صرَّح بالخطبة تحققت رغبته فيها، فربما تكذب في انقضاء العدة. قال شيخ الإسلام (32/ 8): " ... ومن فعل ذلك (أي من التصريح بخطبة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5126)، ومسلم (1425). (¬2) سورة البقرة. (¬3) «جامع أحكام النساء» (3/ 211 - الحاشية) بتصرف. (¬4) «نهاية المحتاج» (6/ 198). (¬5) «ابن عابدين» (2/ 619)، و «مغني المحتاج» (3/ 135)، و (3/ 135)، و «كشاف القناع» (5/ 18). (¬6) سورة البقرة: 235.

المعتدَّة) يستحق العقوبة التي تردعه وتردع أمثاله عن ذلك، فيعاقَب الخاطب والمخطوبة جميعًا، ويزجر عن التزويج بها معاقبة له بنقيض قصده" اهـ. والتعريض (¬1): قيل هو: أن يضمن الكلام ما يصلح للدلالة على المقصود وغيره، إلا أن إشعاره بالمقصود أتم. وقيل: ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها كقوله: ورُبَّ راغب فيك، ومن يجد مثلك؟ قلت: ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها كقوله: ورُبَّ راغب فيك، ومن يجد مثلك؟ قلت: ومن صور التعريض ما فسَّر به ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء}. فقال: "يقول: إني أريد التزويج، ولوددت أنه يُيَسَّر لي امرأة صالحة" (¬2). (ب) أن تكون معتدة من طلاق رجعي (التطليقة الأولى أو الثانية): وهذه لا يجوز التصريح لها بالخطبة، ولا يجوز كذلك التعريض لها في عدَّتها، لأنها -في عدتها من الطلاق الرجعي- في معنى الزوجة لعودها إلى النكاح بالرجعة، وقد سمَّى الله المعتدة الرجعية زوجة فقال سبحانه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} (¬3). فالنكاح الأول قائم والتعريض حينئذ يعد تخبيًا لها على زوجها ولأنها مجفوَّة بالطلاق، فقد تكذب في انقضاء عدتها انتقامًا، وعلى هذا اتفاق الفقهاء (¬4). (جـ) أن تكون معتدة من طلاق بائن: ولا يجوز التصريح لها بالخطبة بالاتفاق، ثم اختلفوا في جواز التعريض لها بالخطبة؟ على قولين (¬5): الأول: يجوز التعريض: وهو مذهب الجمهور: المالكية والشافعية -في الأظهر عندهم- والحنابلة، وحجتهم: ¬

(¬1) «مواهب الجليل» (3/ 417)، و «نهاية المحتاج» (6/ 199)، و «أسنى المطالب» (3/ 115). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5124)، والطبري (5099)، وابن أبي شيبة (4/ 257). (¬3) سورة البقرة: 232. (¬4) «جواهر الإكليل» (1/ 276)، و «نهاية المحتاج» (6/ 18)، و «الإقناع» (2/ 76). (¬5) «ابن عابدين» (2/ 619)، و «جواهر الإكليل» (1/ 276)، و «نهاية المحتاج» (6/ 199)، و «المغني» (6/ 608).

1 - عموم قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} (¬1). 2 - حديث فاطمة بنت قيس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لما طلَّقها زوجها ثلاثًا: "اعتدِّي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني" ... وفي لفظ "لا تسبقيني بنفسك" (¬2). قال النووي: فيه جواز التعريض بخطبة البائن وهو الصحيح عندنا. 3 - أن هذه المرأة لا تجوز رجعتها إلى مطلقها، كما لا يمكن للمعتدة من وفاة زوجها أن تعود إليه، فهما في معنى واحد بخلاف المعتدة من طلاق رجعي. الثاني: لا يجوز التعريض: وهو مذهب الحنفية والقول المقابل للأظهر عند الشافعية، وحجتهم: 1 - أن النص المبيح للتعريض بالخطبة (الآية الكريمة) إنما ورد في المعتدة من وفاة، فلا يجوز تعديته إلى غيرها من المعتدات. 2 - لأنه قد يتأذَّى المطلق بالتعريض بخطبة زوجته، فيفضي إلى عداوته. قلت: والراجح جواز التعريض لحديث فاطمة بنت قيس، والله أعلم. * فائدتان: 1 - إذا خطب المرأة في عدَّتها خطبة صريحة، ثم تزوَّجها بعد انقضاء عدَّتها كان آثمًا، والزواج صحيحًا، أما إذا تزوجها في عدتها فالزواج باطل كما تقدم، لأن الخطبة لا تقارن العقد فلم تؤثر فيه، ولأنها ليست شرطًا في صحة النكاح فلا يُفسخ بوقوعها غير صحيحة، وإلى هذا ذهب الجمهور (¬3). 2 - إذا تزوَّج رجل امرأة في عدَّتها: فإنه يُفَرَّق بينهما، وتكمل عدَّتها من الزوج الأول، ثم تعتدُّ من الثاني إن كان دخل بها، وصداقها لها إن كانت تجهل الحكم، فإن كانت عالمة بأنه لا يجوز الزواج، فلإمام المسلمين الحق في أن يعطيها الصداق أو يودعه بيت المال من باب التعزير (¬4): فعن ابن المسيب وسليمان بن يسار: أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلَّقها ¬

(¬1) سورة البقرة: 235. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1480). (¬3) «الأم» (5/ 32)، و «كشاف القناع» (5/ 18)، و «نيل الأوطار» (6/ 131) ط. الحديث. (¬4) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 385) نقلًا عن «جامع أحكام النساء» (3/ 229).

البتة فنكحت في عدتها، فضربها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضرب زوجها بالمخففة ضربات، وفرَّق بينهما، ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أيما امرأة نكحت في عدتها: فإن كان زوجها الذي تزوَّج بها لم يدخل بها فرِّق بينهما، ثم اعتدَّت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان [أي الزوج الجديد] خاطبًا من الخطاب، فإن كان دخل بها فرِّق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا ينكحها أبدًا" قال سعيد: ولها مهرها بما استحل منها (¬1). قلت: ثم هل يجوز للزوج الثاني أن يتقدم مرة أخرى -بعد انقضاء العدتين- فيخطبها ويتزوجها؟ أم لا يجوز أبدًا؟ تقدم أن عمر رضي الله عنه يمنعه أبدًا وبه قال مالك والليث والأوزاعي، وأجازه عليُّ بن أبي طالب: فعن عطاء "أن عليًّا رضي الله عنه أُتي في ذلك، ففرَّق بينهما، وأمرها أن تعتدَّ ما بقي من عدَّتها الأولى، ثم تعتدُّ من هذا عدةٌ مستقلة، فإذا انقضت عدَّتها فهي بالخيار إن شاءت نكحت، وإن شاءت فلا" (¬2) وبه قال الجمهور. والأظهر قول عليٍّ رضي الله عنه (¬3) لأنه الأصل ولعدم الدليل على حكم عمر رضي الله عنه ولعله إنما قضى بذلك تعزيرًا. لكن إذا كان تزوجها في العدة عالمًا بالحرمة، فيكون لمنعه من نكاحها وجه زجرًا له ومعاملة بنقيض قصده، والله أعلم. (د) أن تكون معتدة من نكاح فاسد أو فسخ (¬4): كالمعتدة من لعان أو ردَّة، أو المستبرأة من الزنى، أو التفريق لعيب أو عنَّة وشبه ذلك، فذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة وأكثر الحنفية إلى جواز التعريض لها بالخطبة لعموم الآية الكريمة وقياسًا على المطلقة ثلاثًا، ولأن سلطة الزوج قد انقطعت. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 441)، وعبد الرزاق (10539). (¬2) ضعيف وله شواهد: أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 233)، والبيهقي (7/ 441)، وعبد الرزاق (10532). (¬3) وإليه مال شيخنا - حفظه الله - في «جامع أحكام النساء» (3/ 230). (¬4) «المواهب» (3/ 417)، و «الدسوقي» (2/ 218)، و «مغني المحتاج» (3/ 136)، و «مطالب أولي النهى» (5/ 23).

هذا كله في غير صاحب العدة الذي يحل له نكاحها فيها، أما هو فيحل له التعريض والتصريح. [3] خِطبة المرأة المخطوبة لمسلم: إذا خطب الرجل المسلم امرأة، فلا يحل لغيره أن يتقدم ليخطبها على خطبة أخيه: 1 - فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " .. ولا يخطب الرجل على خِطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" (¬1). 2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" (¬2). 3 - وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحلُّ للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" (¬3). وهذا النهي للتحريم عند جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، لأنه نهى عن الإضرار بالآدمي المعصوم، فكان على التحريم ولما يفضي إليه هذا الفعل من العداوة والبغضاء، والإيذاء والتعدي على المسلم، ولإفضائه إلى التزكية النفس وذم الغير واغتيابه. * ما حدُّ الخطبة التي يَحرُم الخطبة عليها (¬4)؟ أجمع العلماء على تحريم الخطبة على خطبة المسلم إذا كان قد صُرِّح للخاطب بالموافقة على خطبته، ولم يأذن هو لغيره ولم يترك، وعلم الخاطب الثاني بخطبة الأول وإجابته. ولم يشترط الحنابلة التصريح بالإجابة والموافقة على الخطبة بل قالوا: يكفي التعريض بالموافقة في تحريم الخطبة على خطبة الآخر، وهو أحد قولي الشافعي، ولعلَّهم استأنسوا بحديث: "وإذْنُها صمتها" (¬5) فيكون السكوت دليلًا على موافقتها!! ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (1413). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5142)، ومسلم (1412). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1414). (¬4) «جواهر الإكليل» (1/ 275)، و «نهاية المحتاج» (6/ 199)، و «الأم» (5/ 39)، و «فتح الباري» (9/ 199 - المعرفة)، و «شرح مسلم» (3/ 569)، و «المغني» (6/ 607)، و «المحلي» (10/ 33)، و «السيل الجرار» (2/ 246)، و «شرح المعاني» للطحاوي (3/ 6). (¬5) صحيح.

وذهب الشافعية -في الأصح عندهم- والحنفية والمالكية إلى أن إجابة الخاطب تعريضًا لا تحرِّم الخطبة على خطبته، واحتجوا بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا جهم ومعاوية خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة -وقد تقدم الحديث مرارًا- قالوا: فلم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض بل خطبها لأسامة. واشترط المالكية لتحريم الخطبة على الخطبة ركون المرأة المخطوبة أو وليِّها، ووقوع الرضا بخطبة الخاطب الأول غير الفاسق. قلت: والذي يظهر لي أن مجرَّد تقدم المسلم لخطبة امرأة يجعل خطبة غيره لها حرامًا إذا علم بذلك، ولا يجوز له التقدم حينئذٍ إلا إذا علم عدم رضاهم بالخاطب الأول أو أذن الخاطب الأول أو عدل عن الخطبة، وهذا مذهب أبي محمد بن حزم واختيار الشوكاني -رحمهما الله- ويؤيده حديث ابن عمر في قصة عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان وأبي بكر وفيه قول أبي بكر لعمر رضي الله عنهما: "إنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لَقَبلتُها" (¬1). فإن أبا بكر امتنع من خطبتها بمجرد علمه برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التقدم لها حتى ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره، فكيف بمن تقدم فعلًا، وكيف بمن أبرم الخطبة وحصل الركون إليه والموافقة عليه؟!! وأما حديث فاطمة بنت قيس فلا يناقض الأحاديث الصحيحة الناهية عن الخطبة على الخطبة، لأنه صلى الله عليه وسلم أشار عليها بعد استشارته والأمر لا يزال إليها، فإن قيل: ألم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تقدَّم لفاطمة أكثر من خاطب، فكيف أقرها على ذلك بعد نهيه عن خطبة الرجل على خطبة أخيه؟ فالجواب (¬2): أنه يُحتمل أن يكون الثاني تقدم لخطبتها من غير علمه بخطبة الأول، ويحتمل أن تكون الخطبتان في وقت واحد أو متقارب، وقد يكون الخاطب رُدَّ من قِبَلها، أو من وليِّها، ولكنها أرادت استشارة النبي صلى الله عليه وسلم في كل من تقدم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5145) وقد تقدم. (¬2) «أحكام الزواج» للدكتور عمر الأشقر - حفظه الله - (ص: 45) وقد أشار إلى شيء من هذا النووي في «شرح مسلم» (3/ 569).

ويتأيد هذا المذهب كذلك بأن الحكمة من النهي عن الخطبة حصول الكراهية والبغضاء، والثُّلمة في الأخوة، وهذا حاصل بالتقدم للخطبة على خطبة الغير سواء علم الخاطب الثاني بموافقة المخطوبة أو وليها أو لم يعلم، فإذا أذن الأول أو ترك أو رُدَّ من قبل المرأة أو وليِّها، فلا إشكال، ولا حرج حينئذٍ في تقدم الثاني لها، والله أعلم. إذا خطب على خطبة غيره ثم عقد عليها، فهل يصح؟ تقدم أن خطبة الرجل على خطبة أخيه حرام، فإن عقد عليها الثاني ففي صحة هذا العقد قولان لأهل العلم (¬1): الأول: أن هذا العقد فاسد أو باطل، ويُفَرَّق بينهما: وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وداود، وهو اختيار شيخ الإسلام، قال: وهو الأشبه بما في الكتاب والسنة، والقاعدة عنده: أن كل ما نهى الله عنه وحرَّمه في بعض الأحوال وأباحه في حال أخرى، فإن الحرام لا يكون صحيحًا نافذًا كالحلال يترتب عليه الحكم كما يترتب على الحلال ويحصل به المقصود كما يحصل به. والنهي يدل على أن المنهي عنه فساده راجح على صلاحه، ولا يُشرع التزام الفساد ممن يُشرع له دفعه. الثاني: يأثم العاقد، وهو عاص، لكن العقد صحيح: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة والشافعي والرواية الأخرى عن كل من مالك وأحمد، قالوا: لا ملازمة بين تحريم الخطبة على الخطبة وبين صحة عقد الثاني لأن محل التحريم -وهو الخطبة- متقدم على العقد وخارج عنه، وليست الخطبة جزءًا من العقد، فإن العقد يصح بدونها، كما أن إثم الخاطب على خطبة غيره باق ولو لم يعقد. قلت: وبقول الجمهور أقول، والله أعلم. * الخِطبة على خِطبة الكافر: صورة هذه المسألة: أن يخطب ذمِّيٌّ كتابيةً ويُجاب، ثم يخطبها مسلم، أو أن يكون الخاطب تاركًا للصلاة [عند من يرى كفر تاركها] ونحو ذلك، فللعلماء في حكم الخطبة عليه قولان: ¬

(¬1) «جواهر الإكليل» (1/ 276)، و «بداية المجتهد» (2)، و «نيل الأوطار» (6/ 129)، و «كشاف القناع» (5/ 18)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 10).

الأول: يجوز الخطبة على خطبته، وهو مذهب أحمد والأوزاعي وابن المنذر والخطابي: 1 - لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" (¬1). وقد قطع الله الأخوة بين الكافر والمسلم، فيختص النهي بالمسلم. 2 - أن الأصل الإباحة حتى يرد المنع، وقد ورد المنع -أي من الخطبة على الخطبة- مقيدًا بالمسلم فبقي ما عدا ذلك على أصل الإباحة. 3 - أن لفظ النهي خاصٌّ في المسلم، وإلحاق غيره به إنما يصح إذا كان مثله، وليس الذمي كالمسلم، ولا حرمته كحرمته، ولذلك لم تجب إجابتهم في دعوة الوليمة ونحوها. الثاني: أنه يَحْرُم الخطبة على خطبة الكافر، وهو مذهب الجمهور، قالوا: لما في ذلك من الإيذاء للخاطب الأول!! وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" فقد خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له!! قلت: والأوَّل أرجح، وأما قولهم: (خرج مخرج الغالب)، فقال ابن قدامة: "متى كان في المخصوص بالذكر معنى يصح أن يُعتبر في الحكم، لم يَجُزْ حذفُه ولا تعدية الحكم بدونه، وللأخوة الإسلامية تأثير في وجوب الاحترام، وزيادة الاحتياط في رعاية حقوقه، وحفظ قلبه، واستبقاء مودَّته، فلا يجوز خلاف ذلك والله أعلم" اهـ. * الاستشارة في الخطبة، وذكر عيوب الخاطب (¬2): إذا استُشير إنسان في خاطب أو مخطوبة فعليه أن يصدق ولو بذكر مساوئه، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة إذا قصد بذلك النصيحة والتحذير لا الإيذاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما استشارته: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له" (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" (¬4). ¬

(¬1) «شرح الزرقاني» (3/ 164)، و «أسنى المطالب» (3/ 115)، و «المغني» (6/ 608)، و «فتح الباري» (9/ 200)، و «شرح مسلم» (3/ 570)، و «جامع أحكام النساء» (3/ 241). (¬2) «جواهر الإكليل» (1/ 276)، و «نهاية المحتاج» (6/ 200)، و «روضة الطالبين» (7/ 32)، و «كشاف القناع» (5/ 11). (¬3) صحيح: تقدم مرارًا. (¬4) صحيح.

أحكام النظر في الخطبة

ومحل ذكر المساوئ عند الاحتياج إليه، فإن اندفع بدونه بأن لم يحتج إلى ذكرها وجب الاقتصار على ذلك ولم يجز ذكر العيوب. وإذا استشير في أمر نفسه في النكاح بيَّنه كقوله: عندي شح، وخلقي شديد ونحو ذلك. وإن كان فيه شيء من المعاصي وجب عليه التوبة في الحال وستر نفسه، وإن قال لهم: أنا لا أصلح لكم، دون الكشف عن عيوبه كفاه. * الاستخارة للخِطبة (¬1): يستحب للخاطب والمخطوبة أن يستخيرا في أمر الزواج، فيستخير كل منهما في الآخر وفي وقت الزواج وأهل العروس ونحو ذلك، وقد تقدم في "كتاب الصلاة" ذكر صلاة الاستخارة وطرف من آدابها، ويستحب الإخلاص في دعاء الاستخارة، ولا بأس بتكرير الاستخارة لأنها دعاء، والإكثار منه والإلحاح فيه مستحب. * يجوز أن يتوسط الرجل لخطبة أو زواج امرأة: فقد "شفع النبي صلى الله عليه وسلم لمغيث عند بريرة لتتزوَّجه فقالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: "إنما أنا أشفع" قالت: لا حاجة لي فيه" (¬2). وكان ابن عمر إذا دُعي إلى تزويج قال: "لا تفضضوا علينا الناس، الحمد لله وصلى الله على محمد، إن فلانًا خطب إليكم فلانة، إن أنكحتموه فالحمد لله، وإن رددتموه فسبحان الله" (¬3). أحكام النَّظر في الخِطبة [1] نظر الخاطب إلى المخطوبة: * حكمه: اتفق جمهور أهل العلم على أن من أراد نكاح امرأة فيُشرع له أن ينظر إليها، والأصل في هذا: ¬

(¬1) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 383) باختصار. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5283)، وأبو داود (2231)، والنسائي (8/ 245)، وابن ماجة (2075). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 181).

1 - قوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} (¬1). والحُسن لا يُعرف إلا بعد رؤيتهن. 2 - حديث أبي هريرة قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوَّج من الأنصار، فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنظرت إليها؟ " قال: لا، قال: "اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا" (¬2). 3 - حديث جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا خطب أحدكم المرأة فَقَدَر أن يرى منها بعض ما يدعوه إليها فليفعل" (¬3). 4 - حديث سهل بن سعد "أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه ... " الحديث (¬4). 5 - حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُريتُك في المنام يجيء بك الملك في سرقة من حرير، فقال لي: هذه امرأتُك، فكشفتُ عن وجهك الثوب فإذا هي أنت، فقلتُ: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه" (¬5). والحكمة في مشروعية النظر إلى المخطوبة أن يحصل له اطمئنان النفس إلى الإقدام على الزواج منها، وهذا يؤدي -في الغالب- إلى دوام العشرة، بخلاف إذا لم يرها حتى عقد عليها، فإنه ربما أن يفاجأ بما لا يناسبه، فتجفوها نفسه. 6 - ولذا جاء في حديث المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" (¬6). أي: أولى وأجدر أن يجمع بينكما، وتدوم بينكما المودة والأُلفة. ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 52. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1424)، والنسائي (6/ 69). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (2082)، وأحمد (3/ 360)، والحاكم (2/ 165)، والبيهقي (7/ 84). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5126)، ومسلم (1425). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5125)، ومسلم. (¬6) صححه الألباني: أخرجه الترمذي (3087)، وهو في «صحيح الترمذي» (934) وقد أعلَّه الدارقطني، لكن له شواهد تقويه.

قلت: وحكم النظر إلى المخطوبة عند أهل العلم دائر بين الإباحة والاستحباب، والثاني أقرب للأدلة السابقة، ولم يقل أحد بوجوبه -فيما علمتُ- فضلًا أن يكون شرطًا لصحة النكاح، ولذا قال شيخ الإسلام (¬1): "يصح النكاح وإن لم يرها، فإنه لم يعلل الرؤية بأنه لا يصح منها النكاح، فدلَّ على أن الرؤية لا تجب، وأن النكاح يصحُّ بدونها" اهـ. * حدود النظر إلى المخطوبة: لا خلاف بين أهل العلم -القائلين بمشروعية النظر إلى المخطوبة- في جواز النظر إلى الوجه والكفين (¬2). ثم اختلفوا في القدر الذي يُباح النظر إليه فوق ذلك على أربعة أقوال (¬3): الأول: لا ينظر إلى الوجه والكفين فقط، وبه قال الجمهور: الحنفية والمالكية والشافعية وهو قول عند الحنابلة، قالوا: لأن الوجه مجمع المحاسن وموضع النظر، ولدلالته على الجمال، ودلالة الكفين على خضب البدن، ولأنهما يظهران عادة فلا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة. الثاني: يُباح النظر إلى ما يظهر منها غالبًا، كالرقبة واليدين والقدمين، وهو الصحيح في مذهب الحنابلة، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في النظر إليها من غير علمها عُلم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر منها عادة، ولأنها امرأة أُبيح النظر إليها بأمر الشارع، فأبيح النظر منها إلى ذلك كذوات المحارم. وقد رُوي عن أبي جعفر الباقر قال: خطب عمر إلى عليٍّ ابنته، فقال: إنها صغيرة، فقيل لعمر: إنما يريد بذلك منعها، قال: فكلمه، فقال عليٌّ: أبعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك، قال: فبعث بها إليه، قال: فذهب عمر فكشف عن ساقيها، فقالت: أَرْسِل، فلولا أنك أمير المؤمنين لصككتُ عنقك" (¬4). وفي سنده انقطاع. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (29/ 355). (¬2) «المغني» (6/ 552). (¬3) «ابن عابدين» (5/ 237)، و «جواهر الإكليل» (1/ 275)، و «مغني المحتاج» (3/ 128)، و «نهاية المحتاج» (6/ 183)، و «المغني» (6/ 552)، و «الإنصاف» (8/ 19)، و «فتح الباري» (9/ 182)، و «المحلي» (10/ 30). (¬4) إسناده منقطع: أخرجه عبد الرزاق (6/ 163)، وسعيد بن منصور (521).

الثالث: يجوز النظر إلى ما يريد منها إلا العورة، وهذا مذهب الأوزاعي. الرابع: يجوز النظر إلى جميع البدن، وهو مذهب داود وابن حزم والرواية الثالثة عن أحمد، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها". قلت: والراجح "الذي تطمئن إليه النفس أن الرجل إذا ذهب لخطبة المرأة فإنها تُبدي له الوجه والكفين كما قال الجمهور، أما إذا اختبأ لها فله أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها" (¬1) فليس له أن يطالبها بإبداء ما فوق الوجه والكفين، لكن له أن يستفسر عما فوق ذلك، وأن تنقله له أمُّه أو أخته، أو أن يختبئ هو لرؤيته، وهذا القول عندي هو الذي يُخرَّج عليه قول من أجاز النظر إلى ما فوق الوجه والكفين والله أعلم. * هل يُشترط استئذان المخطوبة وعلمُها بالنظر إليها (¬2): ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يشترط علم المخطوبة أو إذنها أو إذن وليها بنظر الخاطب إليها، اكتفاءً بإذن الشارع، ولإطلاق الأخبار، كما في حديث جابر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" فقال: فخطبتُ جارية فكنت أتخبَّأ لها، حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها وتزوُّجها، فتزوجتها" (¬3). وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبتها، وإن كانت لا تعلم" وهذا -إن ثبت- نص في المسألة. بل قال بعض الفقهاء: إنَّ عدم إعلامها بالنظر أولى، لأنها قد تتزيَّن له بما يغرّه، فيفوت غرضه من النظر، وهو رؤيتها على طبيعتها. وذهب المالكية إلى وجوب إعلام المرأة أو وليها بالنظر، لئلا يتطرَّق الفساق للنظر إلى النساء ويقولون: نحن خُطَّاب. قلت: وقول الجمهور أقرب إلى النص، ثم هو لو تمكَّن من النظر إليها -بغير علمها- قبل خطبتها فهو أولى، لأنه قد يُردُّ أو يُعرض فيحصل التأذى والكسر. ¬

(¬1) «جامع أحكام النساء» (1/ 253). (¬2) «المواهب» (3/ 404)، و3/ 404)، و «الدسوقي» (2/ 215)، و «نهاية المحتاج» (6/ 183)، و «كشاف القناع» (5/ 10). (¬3) حسن: تقدم قريبًا.

* هل يجوز النظر إلى المخطوبة بشهوة أو التلذذ بذلك؟ اشترط الحنابلة لإباحة النظر أمن الفتنة، قالوا: وأما النظر بقصد التلذذ أو الشهوة فهو على أصل التحريم (¬1). وأما الجمهور فلم يشترطوا ذلك، بل قالوا: ينظر لغرض التزوُّج وإن خاف أن يشتهيها، أو خاف الفتنة لأمرين: 1 - أن الأحاديث الواردة بالمشروعية لم تقيِّد النظر بذلك. 2 - أن المصلحة المترتبة على نظر الخاطب أعظم من المفاسد المترتبة عليه (¬2). * تكرار النظر إلى المخطوبة (¬3): للخاطب أن يكرِّر النظر إلى المخطوبة -إن احتاج لذلك- ويتأمل محاسنها ولو بلا إذن وهو الأولى، ليتبيَّن هيئتها، فلا يندم بعد النكاح، إذ لا يحصل الغرض غالبًا بأول نظرة. لكن ينبغي أن يتقيَّد في هذا بقدر الحاجة وهي التأكد من مدى قبوله لها، فلو اكتفى بنظرة أو أكثر -وحصل له القبول- حرُم ما زاد على ذلك، لأنه نظر أبيح لحاجة فيتقيَّد بها، وتعود أجنبية عنه حتى يعقد عليها. قلت: وعلى هذا، فلا ينبغي تعدد مجالس الرجل مع مخطوبته كما هو حاصل في هذه الأيام حيث يكاد الخاطب يزور مخطوبته كل يوم، ويجلس معها الساعات الطويلة يصوِّب النظر إليها -وقد استقر في نفسه قبولها- ويكرِّره لا لأجل تحقق مدى قبوله لها، ولكن ربما تغرُّلًا فيها وتلذُّذًا بجمالها!! ولا شك أن هذا لا يجوز لأنها لا تزال أجنبية عنه. * إذا لم تعجبه المخطوبة: إذا نظر الخاطب إلى من يريد نكاحها فلم تعجبه، فليسكت، ولا يجوز له أن يذيع ما يسوؤها وأهلها، فربما أعجب غيره ما ساءه منها، ولا ينبغي أن يقول: لا أريدها، لأنه إيذاء (¬4). ¬

(¬1) «المغني» (6/ 533). (¬2) «ابن عابدين» (5/ 237)، و «جواهر الإكليل» (1/ 275)، و «روضة الطالبين» (7/ 20)، و «مجموع الفتاوى» (15/ 419 - 21/ 251). (¬3) «ابن عابدين» (5/ 237)، و «نهاية المحتاج» (6/ 183)، و «مغني المحتاج» (3/ 128)، و «كشاف القناع» (5/ 10)، و «المغني» (6/ 552). (¬4) «روضة الطالبين» (7/ 21)، و «مغني المحتاج» (2/ 85).

* هل يكتفي بالنظر إلى صورة المخطوبة؟ يجوز للخاطب أن ينظر إلى صورة المخطوبة سواء كانت "فوتوغرافية" أو "تليفزيونية" لدخوله في عموم الأدلة الحاثة على النظر إلى ما يدعوه لنكاحها. ويتأكد هذا في الأحوال التي تكون المرأة فيها في مكان بعيد عن الخطاب، إلا أنه يحسن التنبيه هنا إلى أن هذا الطريق يدخل فيه التدليس، فالصورة قد تكون خادعة، فلا تُظهر الشخص المصوَّر على حقيقته، وقد يحتال المصوِّر فيظهر المرأة القبيحة في صورة جميلة، أو تقدَّم له صورة امرأة غير التي يريد التقدم إلى خطبتها، وقد تضير الصورة المرأة بوصولها إلى عدد كبير من الأشخاص، وفي ذلك ضرر لها ولأسرتها (¬1). [2] نظر المخطوبة للخاطب: حكم نظر المخطوبة إلى خاطبها كحكم نظره إليها، لأنه يُعجبها منه ما يعجبه منها بل هي أولى منه في ذلك، لأنه يمكنه مفارقة من لا يرضاها بخلافها. "ويمكن أن يقال: إن الشارع لم يوجه المرأة إلى النظر إلى الخاطب، لأن الرجال ظاهرون بارزون في المجتمع الإسلامي، لا يختفون كما تختفي النساء، وبذلك تستطيع المرأة إن شاءت أن تنظر إلى الرجل بسهولة ويسر إذا تقدم لخطبتها. وقد اختلف أهل العلم في حدود نظر المخطوبة إلى الخاطب، والصواب أنه إن وقع نظرها على أكثر من الوجه والكفين لم يحرم، فعورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة" (¬2). [3] الخُلوة بالمخطوبة: لا يجوز خلوة الخاطب بالمخطوبة للنظر ولا لغيره لأنها محرمة، ولم يرد الشرع بغير النظر، فبقيت على التحريم، ولأنه لا يؤمن من الخلوة الوقوع في المحظور (¬3). وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خلوة الرجال بالنساء، فقال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان" (¬4) وقال: "لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" (¬5). ¬

(¬1) «أحكام الزواج» للدكتور عمر الأشقر (ص: 61) بتصرف يسير. (¬2) «السابق» (ص: 60)، وانظر: «ابن عابدين» (5/ 237)، و «الدسوقي» (2/ 215). (¬3) «المغني» لابن قدامة (6/ 553). (¬4) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 18) والترمذي. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341).

"ويزعم الذين انحرف بهم المسار عن دين الله وشرعه أن مصاحبة الخاطب المخطوبة، والخلوة بها، والسفر معها، أمر لا بدَّ منه، لأنه يؤدي إلى تعرف كل واحد منهما على الآخر!! ومن نظر في سيرة الغرب في هذه المسألة وجد أن سبيلهم لم يؤدِّ إلى التعارف والتآلف بين الخاطبين، فكثيرًا ما يهجر الخاطب خطيبته، بعد أن يفقدها شرفها، وقد يتركها، ويترك في رحمها جنينًا تشقى به وحدها، وقد ترميه من رحمها من غير رحمة. وحتى الذين توصلهم الخطبة إلى الزواج كثيرًا ما يكتشف كل واحد من الزوجين أن تلك الخطبة الطويلة لم تكشف له الطرف الآخر ... " (¬1). [4] لا يجوز للخاطب مصافحة المخطوبة ولا مسُّ شيء منها: وإن أمن الشهوة، لأنها أجنبية عنه، ولوجود الحُرْمة وانعدام الضرورة والبلوى: 1 - فعن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمسَّ امرأة لا تحلُّ له" (¬2). ولذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافح النساء ولا يبايعهن إلا كلامًا. 2 - فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمرأة المبايعة: "قد بايعتك" كلامًا وقالت: "ولا والله، ما مسَّت يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" (¬3). وفي رواية أنه قال لهن: "إني لا أصافح النساء .. " (¬4). [5] محادثة المخطوبة: يجوز للخاطب -إن احتاج ذلك- أن يحادث المخطوبة في وجود المحرم، إما للتعرف على صوتها، أو ليقف على رأيها فيما له أثر في الحياة الزوجية المقبلة، ولها أن تحادثه بشرط الانضباط بالضوابط الشرعية، فيكون الكلام بقدر الحاجة، ¬

(¬1) «أحكام الزواج» د. عمر الأشقر (ص: 58) بتصرف يسير. (¬2) حسن: أخرجه الطبراني في الكبير (20/ 211)، وانظر «الصحيحة» (226). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2713). (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (1597)، والنسائي (4181)، وابن ماجة (2874)، وأحمد (6/ 357).

من غير خضوع بالقول، أو لين وتميُّع، قال تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا} (¬1). ومما يدل على جواز المحادثة بضوابطها قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب} (¬2). وقوله تعالى في تكليم موسى عليه السلام للمرأتين بمدين: {وجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} (¬3). وفي الباب عدة أحاديث منها حديث أنس في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: " .. فلما دفن قالت فاطمة -عليها السلام-: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! " (¬4). وقد يحتاج في بعض الأحيان محادثتها عن طريق "الهاتف" فلا حرج كذلك على أن تُراعي الضوابط السابقة، وينبغي كذلك أن تكون هذه المحادثة بعلم أهل المخطوبة، وأن تكون بقدر الحاجة، "أما إذا كان الهاتف سيحدث بينهما جوًّا مشابهًا لجو الخلوة التي نُهيا عنها شرعًا وكانت ستتمكن هي وهو من الحديث الذي يجرهما إلى مُحرَّم فترك ذلك متعيِّن، والله أعلم" (¬5). * دبلة الخِطبة: درج الناس في هذه الأيام على أن يقدم الخاطب لمخطوبته خاتم الخطبة "الدبلة" فيمسك يدها -وهو أجنبي عنها- ويلبسها "الدبلة" وتلبسه هي الأخرى "دبلة" -وقد تكون من الذهب كذلك!! - ويكون هذا في حفل صاخب يختلط فيه الرجال والنساء!! وفي هذا كله من المنكرات ما لا يخفى، فضلًا عن أنه ليس في الإسلام ما يدل على الخطبة بهذا الشكل بل هو تقليد أجنبي ابتدعه الفراعنة، وقيل: هو تقليد نصراني، وعلى كل حال فتبادل "دبلة" الخطوبة بين العروسين تقليد دخيل على المسلمين، ففعله تقليد أعمى وتشبُّه بالكفار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬6) فيستوي في الحرمة أن تكون "دبلة" الخاطب من الذهب أو الفضة وإن كانت الذهبية أشد تحريمًا، والله أعلم. ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 32. (¬2) سورة الأحزاب: 53. (¬3) سورة القصص: 23 - 25. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4462). (¬5) من «جامع أحكام النساء» (4/ 366) باختصار وتصرف. (¬6) حسن: أخرجه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50) وغيرهما.

* العُدول والرجوع عن الخطبة: 1 - حكم العُدول عن الخِطبة (¬1): الخطبة ليست عقدًا، ولكنها وعد بعقد، والوعد بالعقود غير مُلزم بعقدها عند جمهور أهل العلم، ولا يكره للولي الرجوع عن الإجابة إذا رأى المصلحة للمخطوبة في ذلك، ولا يُكره لها أيضًا الرجوع عن الإجابة إذا رأى المصلحة للمخطوبة في ذلك، ولا يُكره لها أيضًا الرجوع إذا كرهت الخاطب، لأن النكاح عقد عمري يدوم الضرر فيه، فكان لها الاحتياط لنفسها والنظر في حظها. وإن رجعا لغير غرض كُره لما فيه من إخلاف الوعد والرجوع عن القول، ولم يحرم لأن الحق بعد لم يلزمها كمن سام سلعة ثم بدا له ألا يبيعها، ويكره كذلك أن يتركها الخاطب، إذا ركنت له المرأة وانقطع عنها الخُطَّاب لركونها إليه. قلت: قال الله تعالى: {كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (¬2). وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف" (¬3). وهذه النصوص وغيرها قوية في الدلالة على وجوب الوفاء وعدم جواز الإخلاف -لغير عذر- فكيف حملوها على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد؟!! (أ) ما دفعه كجزء من المهر: فهذا له حالتان: الأولى: أن يكون موجودًا بعينه، ومن ذلك ما يسمى بـ "الشبكة" وهي الحلي الذي يدفعه الخاطب إلى مخطوبته بعد الاتفاق عليه، وقد يُدفع إليها قبل العقد أو بعده حسب جريان العرف، فهذا ونحوه يحق للخاطب -عند العدول عن الخطبة- أن يستردَّه باتفاق أهل العلم لا فرق في هذا بين أن يكون العدول من جانبه أو جانبها أو بسبب خارج عن إرادتهما (¬4). ¬

(¬1) «المغني» (6/ 607)، و «مواهب الجليل» (3/ 411)، و «فتح الباري» (5/ 290). (¬2) سورة الصف: 3. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري ومسلم. (¬4) «ابن عابدين» (3/ 153).

الثانية: أن يكون قد اشترى به جهازًا لبيت الزوجية: فللفقهاء في حكم ردِّ قيمة الصداق أو ما اشترى به من جهاز قولان: القول الأول: يجب ردُّ ما دفعه من صداق لأن الصداق معاوضة في مقابلة التمتع ولم تتم المعاوضة فوجب ردُّه بعينه إن كان قائمًا، وبقيمته إن هلك أو استهلك، وهذا مذهب الجمهور. القول الثاني: لا يرجع عليها مما اشترى من جهاز إن كان أذن لها -بالشراء- أو علم أو جرى به عُرف، وإلا يرجع عليها بما دفعه من صداق، وهذا قول المالكية. والذي يظهر لي: أنه إن كان العدول من جانب الخاطب وكان على علم بشراء الجهاز من المهر أو جرى بذلك العرف -فإنه يسترد الجهاز ولا تكلف المرأة ببيعه وردِّ ما دفعه لما فيه من الغُرْم. وإن كان العدول من جانب المخطوبة، فإنها تُلزم بردِّ ما دفعه من الصداق وإن غَرِمتْ في بيع الجهاز. (ب) ما دفعه على سبيل الهدية: فهذا لأهل العلم في حكم استرداده أربعة أقوال (¬1): الأول: يجوز استردادها إذا كانت قائمة في ملك المُهدى إليه بعينها ولم يتصرف فيها بما يخرجها عن ملكه، فإن هلكت أو تغير حالها لم يمكن استردادها، وهذا مذهب الحنفية. الثاني: لا يستردُّ شيئًا وإن كان المانع من جهتها إلا لشرط أو عرف، وبه قال بعض المالكية، والظاهر أن مبناه على أن الهدية في معنى الهبة، والهبة لا يجوز أن يعود الواهب فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه" (¬2). ولما أهدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرسًا لرجل ليجاهد عليه فأضاعه، أراد عمر أن يشتريه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" (¬3). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (2/ 364)، و «جواهر الإكليل» (1/ 176)، و «قليوبي وعميرة» (3/ 216)، و «حاشية الجمل» (4/ 129)، و «بداية المجتهد» (2)، و «الإنصاف» (8/ 296)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 10)، و «فقه الزواج» (64). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2622)، ومسلم. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2623).

الثالث: تُسترد الهدايا أيًّا كان نوعها، فإن كانت قائمة بذاتها رُدَّ عينها وإن كانت هالكة فتردُّ قيمتها، وهو قول جمهور الشافعية والحنابلة، ومعناه -عندهم فيما يظهر- على أن هذه الهدايا ليست كالهبة، لأن من شرط الهبة -عندهم- أن تكون بغير عوض، والواهب في الخطبة إنما وهب بشرط بقاء العقد، فإذا زال مَلَك الرجوع كالهبة بشرط الثواب، فكأن ما قُبض بسبب النكاح حكمه حكم المهر. الرابع: إن كان فسخ الخطبة من جانب الخاطب لم يحقَّ له استردادها، وإن كان من جانبها فله استردادها، لأن السبب الذي من أجله الإهداء لم يتم، وبهذا قال الرافعي من الشافعية وابن رشد من المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أعدل الأقوال في نظري، فإن إيجاب ردِّ الهدايا عند عدول الخاطب يجمع على المخطوبة ألم العدول وألم الاسترداد، وكذلك منع ردِّ الهدايا عند عدول المخطوبة يجمع على الخاطب ألم العدول والغُرم المالي. قلت: ولو قُيِّد المردود بما كان باقيًا غير مستهلك لكان حسنًا، إذ لا ينبغي أن يطالب أحدهما الآخر بقيمة ما بذله له من المأكولات ونحوها مما هو مشاهد في كثير من الحالات التي يندى لها الجبين. * حكم تعويض المتضرِّر من العدول عن الخِطبة (¬1): يرى بعض المعاصرين أن العدول عن الخطبة يستوجب التعويض المادي -كما هو الحال عند الطوائف النصرانية!! - بينما لم يرتب الفقهاء -قديمًا- على اختلاف مذاهبهم أية آثار مادية تجاه أي طرف يقوم بالعدول عن الخطبة، وهذا هو الصحيح لأمور: 1 - أن القول بالتعويض يعمق المشكلة ويؤصِّلها، ولا يحلها، ثم إن الضرر الذي ينشأ عن الفسخ ناتج عن إعطاء الناس الخطبة فوق ما تستحقه، فالخطبة وعد، والوعد لا يجوز أن يبني عليه الناس من التصرفات ما يعود عليهم بالضرر، وما يفعله الناس من النفقات والمشتريات ونحو ذلك هو من الاستعجال في أمر كان لهم فيه سعة وأناةٌ. ¬

(¬1) «أحكام الزواج» د. عمر الأشقر (ص: 77 - 78) باختصار وتصرف وانظر المسألة بالتفصيل في «مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق» لأسامة عمر الأشقر (ص: 47 - 77).

2 - أن هذا سيفتح الباب لكلا الطرفين ليوقع الخسائر بالطرف الآخر بكل ما أوتي من قوة وفطنة، نتيجة لما يقع في النفس من المرارة والألم، وأعداد مثل هذه القضايا في المجتمع لا تكاد تنحصر مما سيرهق المحاكم. 3 - أن التعويض يخالف طبيعة الخطبة وحقيقتها من كونها وعدًا واتفاقًا أوَّليًّا ممهدًا للزواج. 4 - أن القول بالتعويض مخالف لإجماع الأمة. 5 - أن القول بالتعويض ليس عدلًا. 6 - أن الإلزام بالتعويض قد يلجئ إلى إتمام الزواج مع الكره له، وهذا أمر خطير. * الفحص الطبي قبل الزواج (¬1): ونعني به ما استجد في هذا العصر، الذي انحدر فيه مستوى الأمانة والصدق في الإخبار عن معايب النفس الجسدية والنفسية قبل الإقدام على الزواج، مع تقدم العلم واتخاذ الاحتياطات الطبية للتأكد من سلامة الزوجين، بحيث يقدم المقبلون على الزواج على عمل الفحوصات التي تعنى بمعرفة الأمراض الوراثية والمعدية والجنسية والعادات اليومية التي ستؤثر مستقبلًا على صحة الزوجين المؤهلين، أو على الأطفال عند الإنجاب. * الرأي الطبي في هذا الفحص: أبرز الرأي الطبي أن لمسألة "الفحص الطبي قبل الزواج" سلبيات وإيجابيات يمكن تلخيصها فيما يلي (¬2): (أ) إيجابيات الفحص الطبي: 1 - تعتبر الفحوص الطبية قبل الزواج من الوسائل الوقائية الفعالة جدًّا في الحد من الأمراض الوراثية والمعدية الخطيرة. 2 - تشكِّل حماية للمجتمع من انتشار الأمراض والحد منها، والتقليل من نسب المعاقين في المجتمع وبالتالي من التأثير المالي والإنساني على المجتمع. 3 - محاولة ضمان إنجاب أطفال أصحاء سليمين عقليًّا وجسديًّا، وعدم انتقال الأمراض الوراثية التي يحملها الخاطبان أو أحدهما إليهم. ¬

(¬1) انظر «مستجدات فقهية» لأسامة الأشقر (ص: 83 - 100). (¬2) من «السابق» (ص: 84 - 87) بتصرف واختصار.

4 - تحديد قابلية الزوجين المؤهلين للإنجاب من عدمه إلى حد ما، علمًا بأن وجود أسباب العقم في أحد الزوجين قد يكون من أهم أسباب التنازع والاختلاف بين الزوجين. 5 - التأكد من عدم وجود عيوب عضوية أو فيسيولوجية مرضية تقف أمام الهدف المشروع لكل من الزوجين من ممارسة العلاقة الجنسية السليمة منهما. 6 - التحقق من عدم وجود أمراض مزمنة مؤثرة على مواصلة الحياة بعد الزواج، مما له دور في إرباك استقرار الحياة الزوجية. 7 - ضمان عدم تضرر صحة كل من الخاطبين نتيجة معاشرة الآخر جنسيًا، وعدم تضرر المرأة أثناء الحمل وبعد الولادة نتيجة اقترانها بالزوج المأمول. (ب) سلبيات الفحص الطبي: 1 - قد يؤدي هذا الفحص إلى الاحباط الاجتماعي، كما لو أثبتت الفحوصات أن هناك احتمالًا لإصابة المرأة بالعقم أو بسرطان الثدي واطلع على ذلك الآخرون، مما يسبب لها ضررًا نفسيًّا واجتماعيًّا، وفي هذا قضاء على مستقبلها، خاصة أن الأمور الطبية تخطئ وتصيب. 2 - يجعل هذا الفحص حياة بعض الناس قلقة ومكتئبة ويائسة إذا ما تم إخبار الشخص بأنه سيصاب بمرض عضال لا شفاء له. 3 - ثم تبقى نتائج التحليل احتمالية في العديد من الأمراض، وهي ليست دليلًا صادقًا لاكتشاف الأمراض المستقبلية. 4 - قد تحرم هذه الفحوصات البعض من فرصة الارتباط بزواج نتيجة فحوصات قد لا تكون أكيدة. 5 - ثم قلما يخلو إنسان من أمراض، خاصة إذا علمنا أن الأمراض الوراثية التي صنفت تبلغ أكثر من (3000 مرض وراثي). 6 - أن التسرُّع في إعطاء المشورة الصحية في الفحص يسبب من المشاكل بقدر ما يحلها. 7 - وقد يُساء للأشخاص المقدمين على الفحص، بإفشاء معلومات الفحص واستخدامها استخدامًا ضارًّا. هذا هو ملخص "الرأي الطبي" في عملية "الفحص الطبي قبل الزواج"، فما هو موقف الشريعة من ذلك؟ وهل يجوز إلزام المقبلين على الزواج بإجرائه؟

* الرأي الشرعي في "الفحص الطبي قبل الزواج": لا شك أنه لم تكن هناك حاجة لبحث هذه المسألة قديمًا، لما تميز به المسلمون الأولون من الأمانة في الإخبار عن العيوب من جهة، ولعدم وجود التقدم العلمي الذي يمكنهم من إجراء هذا الفحص من جهة أخرى وأما العلماء المعاصرون فلهم في هذه المسألة اتجاهان: الاتجاه الأول: منع هذا الفحص، وأنه لا حاجة إليه، وممن رأى هذا العلَّامة ابن باز -نوَّر الله قبره- ومأخذه أنه ينافي إحسان الظن بالله، وأن هذا الفحص قد يعطي نتائج غير صحيحة (¬1). الاتجاه الثاني: أنه جائز، ولا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وبهذا قال الأكثرون ورأوا أنه ليس فيه ما يتعارض مع الشرع، ولا ما يتعارض مع الثقة بالله، لأنه ضرب من الأخذ بالأسباب وقد قال عمر رضي الله عنه حين وقع الطاعون بالشام: "أفرُّ من قدر الله إلى قدر الله" (¬2). قلت: لعلَّ هذا هو الأقرب مع بعض التحفُّظات. ويمكن الاستدلال على جوازه بما يأتي (¬3): 1 - أن حفظ النسل من الكليات الخمس التي تضافرت النصوص على الاهتمام بها والدعوة إلى رعايتها، وقد قال زكريا عليه السلام: {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} (¬4). ودعا المؤمنون ربهم {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} (¬5). فلا مانع من حرص الإنسان على أن يكون نسله صالحًا غير معيب ولا مشوَّه. 2 - حث النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار الزوج زوجته من عائلة نعرف بناتها بالإنجاب، فقال صلى الله عليه وسلم: "تزوَّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم" (¬6) مما يدل على أهمية عنصر الاختيار على أسس صحة النسل والولادة المستقبلية. ¬

(¬1) «جريدة المسلمون» 597 بتاريخ 12 يوليو 1996 (ص: 11) من «السابق» (ص: 92). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري. (¬3) «مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق» (ص: 93 - 97) بانتفاء واختصار. (¬4) سورة آل عمران: 38. (¬5) سورة الفرقان: 74. (¬6) صحيح: تقدم في أول الكتاب.

3 - عن عمر رضي الله عنه. قال: "أيما امرأة غُرَّ بها رجل، بها جنون أو جُذام أو برص، فلها المهر بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غرَّه" (¬1). وسيأتي في كتاب الفرق بين الزوجين" مشروعية التفريق بسبب العيوب في أحد الزوجين. 4 - الأدلة التي حثت على النظر إلى المخطوبة ومعرفة العيوب، كحديث أبي هريرة "أن رجلًا خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا" (¬2). 5 - الأدلة العامة في اجتناب المصابين بالأمراض المعدية كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا توردوا الممرض على المُصِحِّ" (¬3). وقوله صلى الله عليه وسلم: " .. وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد" (¬4) وهذا لا يعلم إلا بالفحص. 6 - الأدلة العامة في النهي عن الضرر. ومما تقدم يمكن القول بأن الفحص الطبي قبل الزواج لا يعارض الشريعة، بل هو موافق لمقاصدها، وعليه: فإذا رأى ولي الأمر إلزام الناس به -في حالة انتشار الأمراض- فإنه يجوز ذلك من باب السياسة الشرعية، وإن كان ليس لهذا الفحص تأثير في صحة العقد شرعًا. * تحفُّظات: 1 - ينبغي أن لا يُجبر الناس على إجراء الفحوصات التي لا حاجة ماسة إليها، وإنما تضبط بالحاجة وبما يتعلق بالأمراض الضارة بمستقبل الزواج، من غير توسُّع يرهق كاهل الناس بتكاليفه، وحتى لا تكون هذه الفحوص أداة وذريعة لابتزاز الناس والإضرار بهم. 2 - لابد للأطباء القائمين على هذه الفحوصات من الحفاظ على أسرار الناس ومعايبهم لئلا تتخذ ذريعة للإفساد. ¬

(¬1) رجاله ثقات: أخرجه مالك (2/ 526)، وعبد الرزاق (10679)، والبيهقي (7/ 214). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5380)، وأحمد (2/ 443)، والبيهقي (7/ 218).

عقد الزواج

عقد الزواج * رُكنا العقد: عقد الزواج كغيره من العقود مبناه على إرادة العاقدين على الرضا بموضوع العقد، ولما كانت الإرادة والرضا من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها البشر، لزم أن يصدر عن كل واحد من العاقدين ما يدل على قبوله بالعقد، وموافقته عليه. وتسمى الألفاظ التي يتم بها العقد وتكون دالة على رضا العاقدين بالمعقود عليه: الإيجاب والقبول، وهما ركنان للعقد باتفاق أهل العلم (¬1). والإيجاب: لفظ يصدر من أحد المتعاقدين للتعبير عن إرادته في إقامة العلاقة الزوجية، وهو يوحي بأن العاقد ثبت في ذمته ما ألزم نفسه به بقوله. والقبول: لفظ يصدر من المتعاقد الآخر للتعبير عن رضاه وموافقته بالمعقود عليه. "والإيجاب والقبول اللذين ينعقد بهما النكاح يجب صدورهما ممن يصح منه عقد النكاح، وهما الخاطبان إذا كان كل واحد منهما أهلًا لعقد النكاح، كما يصح صدورهما من وكيل الزوج أو الزوجة، فالنكاح يقبل النيابة كغيره من العقود" (¬2). * شروط انعقاد عقد الزواج: أولًا: شروط في صيغة العقد: 1 - يشترط في صيغة "الإيجاب والقبول" أن تكون بألفاظ تدلُّ على النكاح كأنكحت وزوجت وملكت وبعت ووهبت ونحوها وذلك يتحقق بوجود عرف أو قرينة، ولا يشترط أن تكون الصيغة بلفظ "الإنكاح" أو "التزويج" لأن العبرة في العقود بالمقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وهذا أصحُّ قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وقول في مذهب أحمد واختيار شيخ الإسلام (¬3). ويؤيده ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلًا امرأة فقال: "قد ملَّكتُكها بما معك من القرآن" (¬4) وأما الشافعية والحنابلة فلا يصح عندهم إلا بلفظ اشتق من التزويج ¬

(¬1) «المغني» (6/ 532). (¬2) «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 80). (¬3) «ابن عابدين» (2/ 268)، و «المواهب» (3/ 419)، و «مغني المحتاج» (3/ 140)، و «المغني» (6/ 532)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 12). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري بهذا اللفظ.

أو الإنكاح لأنه لم يذكر في القرآن سواهما فوجب الوقوف معهما تعبدًا واحتياطًا، لأن النكاح ينزع إلى العبادات لورود الندب فيه، والأذكار في العبادات تُتلقى من الشرع. * العقد بغير اللغة العربية: إذا كان العاقدان أو أحدهما لا يفهم العربية، فإنه يجوز عقد الزواج بغير العربية اتفاقًا. فإن كانا يفهمان العربية ويستطيعان العقد بها، فقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز العقد حينئذٍ بغير العربية. والصحيح أنه يجوز، قال شيخ الإسلام: "تعيُّن اللفظ العربي في عقد النكاح في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه، وعن أصول الأدلة الشرعية، إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم، وهو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة، ومعلوم أن العتق لا يتعيَّن له لفظ، لا عربي ولا عجمي، وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعيَّن لفظ عربي بالإجماع، ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهم من اللغة التي اعتادها. نعم لو قيل: تُكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة -لكان متوجِّهًا، كما قد رُوي عن مالك أحمد والشافعي ما يدل على كراهية اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة" اهـ (¬1). * لا ينعقد بالإشارة إلا لأخرس (¬2): ذهب الجمهور خلافًا للمالكية إلى أن القادر على النطق لا تعتبر إشارته في العقود، واتفقوا على أن إشارة الأخرس المعهودة والمفهومة معتبرة شرعًا فينعقد بها النكاح، واختلفوا: هل يشترط للعمل بالإشارة عدم القدرة على الكتابة؟ والصحيح أنه يشترط. 2 - يشترط في الصيغة أن تدلَّ على الدوام والتنجيز: فإن كانت دالة على التأقيت أو الاستقبال لم يصحَّ العقد، فقوله: (إذا جاء رأس الشهر فقد زوَّجتك) لأنه لا ينعقد به النكاح، وكذلك قوله: (زوجتك ابنتي عندما تنجح في الامتحان) لأنه معلق على شرط غير متحقق -في الحال- فلم يصحَّ (¬3). فإن علقه على أمر متحقق فعلًا صحَّ العقد. ¬

(¬1) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (29/ 12). (¬2) «الفواكه الدواني» (2/ 57)، و «مغني المحتاج» (2/ 17). (¬3) انظر «الأشباه والنظائر» للسيوطي (ص: 282)، و «أحكام الزواج» (ص: 81).

3 - أن يوافق القبول الإيجاب من كل وجه، وعلى هذا اتفاق الفقهاء (¬1) فإن خالف القبولُ الإيجاب من وجه لم يصح النكاح، فإذا قال الولي: زوجتُك ابنتي فاطمة على مهر مقداره عشرة آلاف، فقال الخاطب: قبلتُ نكاح ابنتك عائشة على مهر مقداره خمسة آلاف، لم يصح النكاح. 4 - اتصال القبول بالإيجاب: ويحصل هذا الاتصال باتحاد مجلس العقد، بأن يقع الإيجاب والقبول معًا في مجلس واحد. ولا يعني هذا أن يشترط حصول القبول فور صدور الإيجاب، فإن الفورية لا تشترط عند الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة، فلا يضرُّ التراخي ما دام القبول قد حصل في نفس المجلس (¬2). فائدة: وإنما اشترط الفقهاء -فيما مضى- اتحاد المجلس لعدم تصوُّر اتصال الإيجاب والقبول مع اختلاف الأمكنة وتباعد الديار، أما في عصرنا فقد تقدمت وسائل الاتصالات كالهاتف ونحوه، ولا مانع من إجراء العقود -مع اختلاف المجالس- إذا تحققت الفورية (أو: اتصال القبول بالإيجاب على النحو المتقدم) وتحقق كل واحد من العاقدين من هوية الآخر وأمن التزوير (¬3). 5 - أن لا يعود الموجب عن إيجابه قبل قبول الآخر: ذهب الجمهور -خلافًا للمالكية- إلى أن الإيجاب غير ملزم، وللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الطرف الآخر، وحينئذٍ لا ينعقد العقد، فلابد أن يُصرَّ الموجب على ما أتى به من الإيجاب إلى قبول الآخر (¬4). وكذلك لو مات أحد العاقدين بعد الإيجاب وقبل القبول لم ينعقد عند الجمهور (¬5). ¬

(¬1) «البدائع» (5/ 136)، و «مغني المحتاج» (2/ 6)، و «كشاف القناع» (3/ 146). (¬2) «البدائع» (5/ 137)، و «مواهب الجليل» (4/ 241)، و «كشاف القناع» (3/ 147). (¬3) «أحكام الزواج» (ص: 83) بتصرف يسير. (¬4) «البدائع» (5/ 138)، و «مغني المحتاج» (2/ 6)، و «الشرح الكبير» (4/ 4 - مع المغني)، و «مواهب الجليل» (4/ 240). (¬5) «ابن عابدين» (4/ 20)، و «مغني المحتاج» (2/ 6)، و «المغني» (4/ 9 - مع الشرح).

شروط صحة عقد النكاح

ثانيًا: شروط في العاقدَيْن (الولي والخاطب) (¬1): 1 - أهلية كلٍّ منهما لإجراء العقد: أي أن يكون بالغًا -على خلاف في الصبي المميز إذا أجازه وليه- رشيدًا عاقلًا. 2 - أن يكون لهما الحق في إنشاء العقد: بأن يعقد البالغ العاقل الرشيد لنفسه، أو يعقد له وكيله بتكليفه بالعقد له، وبتحقق الولاية، بحيث يعطيه الشرع حق إنشاء العقد، وأما الفضولي الذي يعقد لغيره بغير إذنه، فلا يصح عقده. 3 - رضاهما واختيارهما: فإن عقد العقد من غير رضاهما أو رضا أحدهما لم يصح. 4 - أن يسمع كل منهما كلام الآخر ويفهمه. 5 - أن يكون كل واحد من الزوجين معلومًا معروفًا، فلو قال الولي: (زوجتك واحدة من بناتي) ولم يحددها وله أكثر من بنت لم يصح العقد. 6 - أن لا يكون بين الزوجين سبب لتحريم الزواج، وقد تقدم بيان المحرمات. شروط صحة عقد النكاح وهي ما يتوقف عليها صحة عقد النكاح وترتب آثاره عليه، ويبطل العقد بتخلُّف أحدها، وهذه الشروط هي: الشرط الأول: إذنُ وَلِيِّ المرأة: الولي هو: الذي يلي عقد النكاح على المرأة ولا يدعها تستبد بعقد دونه (¬2) وقد ذهب الجماهير من السلف والخلف، منهم: عمر وعلي وابن مسعود وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوري وأهل الظاهر (¬3)، إلى أن الولي شرط لصحة النكاح، فإذا زوَّجت المرأة نفسها، فنكاحها باطل، واستدلوا بما يلي: 1 - النصوص القرآنية التي جعلت أمر التزويج والإعضال إلى الرجال، ومنها: (أ) قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم ...} (¬4). فخاطب الرجال بإنكاح الأيامى ولو كان أمر التزويج عائد إلى النساء لما وجَّه الخطاب للرجال. ¬

(¬1) «أحكام الزواج» للأشقر بتصرف (ص: 90). (¬2) «لسان العرب» (3/ 985). (¬3) «المدونة» (2/ 151)، و «بداية المجتهد» (2)، و «الأم» (5/ 166)، و «المغني» (6/ 448)، و «المحلي» (9/ 453)، و «الإنصاف» (8/ 660)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 19). (¬4) سورة النور: 32.

(ب) وقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} (¬1). مع قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ...} (¬2). (ج) قول الشيخ الكبير لموسى عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} (¬3). (د) قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} (¬4). فنهى الأولياء عن عضل النساء عن العودة إلى أزواجهن، وفي هذا أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوَّج نفسها لم تحتج إلى أخيها (¬5). (هـ) قوله تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن} (¬6). فاشترط إذن ولي الأمة لصحة النكاح، فدلَّ على أنه لا يكفي عقدها لنفسها. (و) قوله تعالى: {الرجال قوَّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} (¬7). والولاية من القوامة المنصوص عليها. (ز) عن عائشة في قوله تعالى: {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} (¬8). قالت: "هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله -وهي أولى به- فيرغب عنها أن ينكحها، فيعضلها لمالها ولا يُنكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها" (¬9). ¬

(¬1) سورة البقرة: 221. (¬2) سورة البقرة: 221. (¬3) سورة القصص: 27. (¬4) سورة البقرة: 232. (¬5) سبب نزول الآية ما أخرجه البخاري (5130) وغيره من معقل بن يسار قال: «زوَّجت أختًا لي من رجل فطلَّقها حتى إذا أنقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية {فلا تعضلوهن} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوِّجها إياه». (¬6) سورة النساء: 25. (¬7) سورة النساء: 34. (¬8) سورة النساء: 127. (¬9) صحيح: أخرجه البخاري (5128).

(ح) وقالت عائشة -في وصف نكاح الجاهلية-: " ... فنكاح منها كنكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها .. " (¬1). 2 - وأصرح من كل ما تقدم ما يلي: (أ) حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بوَليٍّ" (¬2). (ب) حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذا مواليها فنكاحها باطل -ثلاثًا- ولها مهرها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له" (¬3) وهما صريحان في الشرطية. (جـ) وقد ثبت هذا المعنى من قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس (¬4). (د) وعن أبي هريرة قال: "لا تنكح المرأة نفسها، فإن الزانية تُنكح نفسها" (¬5). وقد نقل الحافظ في "الفتح" (9/ 187 - المعرفة) عن ابن المنذر أنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. * بينما ذهب أبو حنيفة إلى أن المرأة الحرة العاقلة البالغة لا يشترط لصحة العقد عليها وجود الولي، وإنما يشترط في إنكاح الصغيرة!! (¬6) وحجته في هذا ما يلي: 1 - قوله تعالى: {فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} (¬7). 2 - وقوله سبحانه: {حتى تنكح زوجًا غيره} (¬8). قالوا: فأضاف النكاح إليهن فدلَّ على جواز النكاح بعبارتهن من غير شرط الولي. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5127). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجة (1879)، وأحمد (4/ 394) وغيرهم، وانظر «الإرواء» (6/ 243). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1101)، وابن ماجة (1879)، وأحمد (6/ 156). (¬4) انظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (3/ 327 - 328). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 200)، وابن أبي شيبة (4/ 135). (¬6) «ابن عابدين» (3/ 55)، و «المبسوط» (5/ 10)، و «فتح القدير» (3/ 157)، و «البدائع» (2/ 248). (¬7) سورة البقرة: 234. (¬8) سورة البقرة: 230.

3 - قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} (¬1). قالوا: الاستدلال بها من وجهين. (أ) أنه أضاف النكاح إليهن. (ب) أن النهي عن العضل في الآية يحتمل أن يكون للأزواج، فنهتهم عن منع أزواجهم المطلقات -بعد قضاء عدتهن- من التزوُّج بمن شئن من الأزواج!! قلت: وقد تقدم سبب نزول الآية وأنه يردُّ هذا التأويل. 4 - حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صماتها" (¬2). قلت: ولا يصفو لهم الاستدلال بهذا الحديث على عدم اشتراط الولي لأمرين: (أ) "أن غاية ما يدل عليه أن للولي حقًا في تزويج الثيب، وللثيب حق في تزويج نفسها، وحقها أرجح من حقِّه، فلم يجز تزويجها بدون استئمارها، وموافقتها، أما البكر فحق الولي أعظم من حقها، ولذا اكتفى بصمتها" (¬3). وهذا كله في حالة الإجبار فلا يجوز للولي أن يجبر الأيِّم على ما تكره. (ب) أنه لو كان معنى الحديث ما أرادوا، للزم أفضلية الزواج بدون الولي، وهذا يخالف ما عليه الحنفية من استحباب وجود الولي. فالصحيح الذي لا يجوز خلافه أن الولي شرط في صحة النكاح كما ذهب إليه الجماهير، والله أعلم. * فوائد: 1 - أجاز أبو حنيفة -كما تقدم- للمرأة أن تزوِّج نفسها، لكنه جعل للولي حق فسخ العقد إذا تزوَّجت بغير كفءٍ!! 2 - لا تزوِّج المرأة غيرها: ولا ينعقد العقد بعبارتها، لأنه لم يصحَّ منها عقدها وتزويجها لنفسها، فلا يصحُّ تزويجها لغيرها من باب أولى، ويؤيد هذا ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكحت رجلًا من بني أخيها جارية من بني أخيها فضربت ¬

(¬1) سورة البقرة: 232. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم. (¬3) «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 138).

بينهما بستر ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا النكاح، أمرت رجلًا فأنكح ثم قالت: "ليس إلى النساء نكاح" (¬1). 3 - ليس للوليِّ إجبار المرأة البالغة على الزواج: (أ) إجبار الثيِّب: "البالغ الثيِّب لا يجوز تزويجها بغير إذنها، لا للأب ولا لغيره، بإجماع المسلمين" (¬2). ومما يدل على ذلك: 1 - حديث خنساء بنت خذام الأنصارية "أن أباها زوَّجها، وهي ثيِّب، فكرهت، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها" (¬3). 2 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيِّم حتى تستأمر ولا تنكح حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" (¬4). 3 - حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للولي مع الثيِّب أمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها" (¬5). * فائدتان: الأولى: من زالت بكارتها بالزنا فهي كالثيب في الزواج: فلا يجوز لوليِّها أن يجبرها على النكاح، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة، ومذهب أبي حنيفة نفسه ومالك أنها كالبكر، وسيأتي حكم إجبارها. وإن زالت بكارتها بغير الوطء (بوثبة أو بإصبع أو نحو ذلك) فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة (¬6). ¬

(¬1) صححه الحافظ: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 135)، والطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 10)، وصححه في «الفتح» (9/ 186). (¬2) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (32/ 39)، و «فتح الباري» (9/ 194 - المعرفة). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5138)، وأبو داود (2101)، والنسائي (6/ 86)، وابن ماجة (1873). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2100) وغيره، وهو في مسلم بلفظ «الأيم أحق بنفسها ...» وقد تقدم. (¬6) «مجموع الفتاوى» (32/ 29)، وانظر: «فتح القدير» (3/ 270)، و «روضة الطالبين» (7/ 54)، و «المغني» (6).

الثانية: إذا زوَّج الولي الثيب بغير إذنها ثم أجازت العقد: فالعقد صحيح لا يحتاج إلى استئنافه من جديد، عند أكثر العلماء منهم أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد. وعند الشافعية -وهو رواية عن أحمد-: لا يصح العقد السابق بغير إذنها، ولابد من استئنافه (¬1). (ب) إجبار البكر البالغة: اختلف العلماء في البكر البالغة العاقلة، هل لوليِّها إجبارها؟ على قولين، أصحهما أنه لا يجوز له إجبارها كالثيب، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد، والأوزاعي والثوري وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، واختاره شيخ الإسلام (¬2) ودليلهم: 1 - حديث ابن عباس أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم" (¬3). ونحوه من حديث جابر، وفيه: " ... ففرَّق بينهما" (¬4). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: " ... ولا تنكح البكر حتى تستأذن .. " (¬5) وما في معناه. 3 - ولأن تصرف الولي في بُضع وليته كتصرفه في مالها، فكما لا يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها -وبُضعها أعظم من مالها- فكيف يجوز أن يتصرف في بُضعها مع كراهتها ورشدها؟! (¬6). 4 - أن تزويجها مع كراهتها للنكاح مخالف للأصول والعقول، والله لم يُسوِّغ لوليها أن يُكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام ولا شراب ولا ¬

(¬1) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (32/ 29). (¬2) «المغني» (16/ 491)، و «فتح الباري» (9/ 193)، و «المحلي» (9/ 458)، و «مجموع الفتاوى» (2/ 39). (¬3) حسن لشواهده: أخرجه أبو داود (2099)، وابن ماجة (1875)، وله شواهد عند الدارقطني (3/ 233 - 236)، والبيهقي (7/ 117)، قال الحافظ (9/ 196): إن طرقه يقوي بعضها بعضًا. اهـ. (¬4) يشهد له ما قبله: أخرجه النسائي في «الكبرى». (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) «مجموع الفتاوى» (32/ 39).

لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته وتكره معاشرته، والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك؟! (¬1). 5 - "أن المرأة قد شُرع لها -إذا كرهت زوجها- الخلاصُ منه، فكيف يجوز تزويجها إياه ابتداء؟! " (¬2). * فائدة: هذا إذا كان الولي هو الأب أو الجد، فإن كان الولي غيرهما كأخيها أو عمِّها فقد نقل شيخ الإسلام إجماع المسلمين على أن البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها (¬3). (ج) إجبار الصغيرة: اتفق العلماء -إلا من شذَّ (¬4) - على أن البكر الصغيرة التي لم تبلغ يجوز لأبيها أن يزوجها بدون إذنها، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها. واستدلوا بأن أبا بكر رضي الله عنه زوَّج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة لم تبلغ، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: " .. ولا تنكح البكر حتى تستأذن" على أن المراد بالبكر التي أمر باستئذانها: البالغ. ولأن الصغر سبب الحَجْر بالنص والإجماع، فكان هو مناط الإجبار (¬5). لكن إذا كانت الصغيرة ممن تعقل الزواج وتدري عنه وتفهم، فالظاهر أنها تستأذن كذلك، لدخولها في عموم الأبكار مع حصول المصلحة باستئذانها، والله أعلم. * فائدة: هل يجبر الصغيرة غير الأب؟ ذكر شيخ الإسلام أن "الشرع لا يمكِّن غير الأب والجد من إجبار الصغيرة باتفاق الأئمة" اهـ (¬6). ¬

(¬1) «السابق» (32/ 25). (¬2) «أحكام الزواج» (ص: 146) بتصرف يسير. (¬3) «مجموع الفتاوى» (32/ 24). (¬4) «فتح الباري» (9/ 98 - سلفية)، و «المغني» (6/ 487)، و «بداية المجتهد» (2/ 27). (¬5) «مجموع الفتاوى» (32/ 24). (¬6) «مجموع الفتاوى» (32/ 57).

قلت: لعله أراد الأئمة الثلاثة، فقد قال أبو حنيفة -والأوزاعي- في الثيب الصغيرة: "يزوِّجها كل ولي، فإذا بلغت ثبت لها الخيار" (¬1). ويُستدل للجمهور بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها" (¬2). فاليتيمة: الصغيرة التي لم تحض، إذ لا يُتْم بعد احتلام، والتي مات أبوها. 4 - عَضْل الولي عن النكاح: تقدم أنه لا يجوز للولي أن يجبر المرأة على الزواج بمن تكره، وكذلك لا يجوز له عضلها، أي: منعها من الزواج بمن ارتضته المرأة إذا كان كُفؤًا لها. قال الله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} (¬3). وقد تقدم ذكر سبب نزولها. "وإذا عضل الولي موليته فإن الولاية تنتقل عنه إلى غيره، وقد ذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه إلى أن الولاية تنتقل في حالة العضل إلى الحاكم، وذهب أبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنها تنتقل إلى الأبعد بشرط أن يكون كُفؤًا، فإن امتنع الأولياء جميعًا عن تزويجها وعضلوها، فإن الولاية تنتقل إلى الحاكم قولًا واحدًا" اهـ (¬4). قلت: الأقرب قول أبي حنيفة لما في حديث عائشة مرفوع: "فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له" (¬5). 5 - من هم الأولياء؟ أولياء المرأة الذين يحق له تزويجها هم العصبة، وهم أقاربها الذكور من جهة أبيها لا من جهة أمِّها، وهذا مذهب الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة فعنده: أقارب أمها من الأولياء. وقد اختلف أهل العلم في أحق الأولياء وترتيبهم (¬6): ¬

(¬1) «فتح الباري» (9/ 98 - سلفية)، و «بداية المجتهد» (2/ 29). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (2093)، والترمذي (1109)، والنسائي (6/ 85). (¬3) سورة البقرة: 232. (¬4) «مجموع الفتاوى» (32/ 37). (¬5) صحيح: وقد تقدم قريبًا. (¬6) «المحلي» (9/ 451)، و «البدائع» (2/ 251)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 525)، و «روضة الطالبين» (7/ 87)، و «الإنصاف» (8/ 87)، و «فتح الباري» (9/ 187).

فعند الحنفية: أحقهم: أبناء المرأة ثم أبناءهم، ثم الأب ثم الجد، ثم الإخوة ثم أبناء الإخوة، ثم الأعمام ثم أبناء الأعمام. وعند المالكية: أحقهم: الأبناء ثم أبناؤهم، ثم الأب، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الجد. وعند الشافعية: الأب ثم الجد، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الأعمام ثم أبناؤهم. وعند الحنابلة: الأب ثم الجد، ثم الأبناء ثم أبناؤهم، ثم الإخوة ثم أبناؤهم، ثم الأعمام ثم أبناؤهم. قلت: الضابط في الولي: القرابة والحرص على مصلحة المرأة ورعايتها، ولا ريب أنَّ "الأب أقرب الأولياء، وهو أكثرهم حنوًا وشفقة ورأفة، ويليه الجد فإنه كالأب في مزيد حنوه ورأفته على بنات ابنه، وقد يزيد على الأب في ذلك" (¬1). وقد كان الأب هو الذي يعقد نكاح ابنته في زمن النبوة -إذا كان موجودًا- كما فعل أبو بكر وعمر في تزويجهما عائشة وحفصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان منه صلى الله عليه وسلم في تزويج بناته، وهكذا كان عمل سائر الصحابة، ثم إذا عدم الأب والجد تولى ذلك الأقرب فالأقرب إلى المرأة. فأرجح الأقوال -في نظري- قول الشافعية -رحمهم الله- ثم الحنابلة -رحمهم الله- لما تقدم ولأن الابن قد يأنف من تزويج أمه بخلاف الأخ والعم، والله أعلم. * فائدة: إذا اختلف الأولياء الذين في رتبة واحدة: كأن تَنَازَعَ أخوان للمرأة على الرجل الذي يريد كل واحد منهما أن يزوِّجه، فإن وافقت المرأة على أيٍّ من الزوجين فالحكم لمن سبق بالتزويج منهما، لحديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة زوَّجها وليان، فهي للأول منهما" (¬2). أما إذا رفضت المرأة أحدهما فنكاحه لا يصح: لأن رضاها شرط. فإن تمادى التنازع بين الأولياء، فللمرأة أن ترفع أمرها إلى القضاء، وللقاضي حق التزويج حينئذٍ كما قال صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" (¬3). ¬

(¬1) «السيل الجرار» (2/ 21). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (2088)، والترمذي (1110)، والنسائي (7/ 314). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا.

* تزويج الولي الأبعد عند غيبة الأقرب أو عَضْلِه (¬1): الأصل أنه لا يجوز إنكاح الولي الأبعد مع وجود الأقرب، فإن غاب الأقرب وكان في انتظاره تفويت لمصلحة المخطوبة، فإن الولاية تنتقل إلى الأبعد، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك. وكذلك لو عضلها الولي الأقرب فمنعها من نكاح الكفء، فإن الولاية تنتقل إلى الأبعد في مذهب أبي حنيفة. وإذا أذن الولي الأبعد وزوَّج المرأة، فليس من حق الولي الأقرب -بعد ذلك- الاعتراض على الزواج أو المطالبة بفسخه. * هل يجوز للولي أن يوكِّل غيره، أو يوصيه بالتزويج؟ 1 - يجوز للولي أن يوكِّل غيره في تزويج من يلي أمرها من النساء، ويثبت للوكيل -حينئذٍ- ما يثبت للولي. 2 - وأما وصيته بالتزويج بعد موته لغيره، فأصحُّ قولي العلماء أنه لا يجوز له ذلك، فلا تستفاد الولاية بالوصية "لأن المُوصي قد انقطعت ولايته بموته، مع كون الحنو والرأفة اللذين هما سبب جعل الولي وليّا معدومين فيهما" (¬2). وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد والثوري والنخعي وابن المنذر وابن حزم والشوكاني (¬3). 6 - ما يشترط في الولي (¬4): (أ) الإسلام: إذ لا ولاية لكافرٍ على مسلمة، قال الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (¬5). وقال سبحانه: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} (¬6). ¬

(¬1) «المغني» (9/ 385) ط. الكتاب العربي، و «بداية المجتهد» (2/ 37)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 31). (¬2) «السيل الجرار» (2/ 21). (¬3) «المحلي» (9/ 463)، و «المغني» (9/ 365)، و «بداية المجتهد» (2/ 36)، و «السيل الجرار» (2/ 21). (¬4) «البدائع» (2/ 239)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 36) والمراجع السابقة. (¬5) سورة التوبة: 71. (¬6) سورة الأنفال: 73.

وقال عز وجل: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} (¬1). وهذا قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه على هذا" اهـ. (ب) الذكورة: وهي شرط بالإجماع. (جـ) العقل: لأن من لا عقل له لا يستطيع أن يراعي مصلحة نفسه، فكيف يمكنه أن يراعي مصلحة غيره. (د) البلوغ: وهو شرط عند أكثر أهل العلم. (هـ) الحرية: شرط عند أكثر أهل العلم، لأن العبد لا ولاية له على نفسه فعدم ولايته على غيره أولى. وقد اشترط الشافعي -وهو رواية عن أحمد- العدالة في الولي، قال: لأنه لا يؤمَن مع عدم العدالة أن لا يختار لها الكفء. وقال الجمهور: لا تشترط العدالة، لأن الحالة التي يختار فيها الولي الكفء لموليته غير حالة العدالة، وهي خوف لحوق العار بهم، وهذه هي موجودة بالطبع. ثم إن هذه ولاية نظر، والفسق لا يقدح في القدرة على تحصيل النظر، ولا في الداعي إليه وهو الشفقة، وكذا لا يقدح في الوراثة فلا يقدح في الولاية على غيره كالعدل. * هل للولي أن يزوِّج نفسه من مُوليته؟ (¬2) * ذهب الجمهور، منهم: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والليث وابن حزم وغيرهم إلى أن من وَلِيَ أمر امرأة -ولم يكن من محارمها- يجوز له أن يزوِّجها من نفسه إذا رضيت به، ولا يحتاج إلى غيره ليزوجه، ويُستدل لهم بما يأتي: 1 - قول الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ...} (¬3). فمن أنكح أيِّمة نفسه برضاها فقد فعل ما أمره الله به، ولم يمنع الله عز وجل من أن يكون المُنكح لأيمة هو الناكح لها. 2 - حديث أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها" (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء: 141. (¬2) «المحلي» (9/ 473)، و «بداية المجتهد» (2/ 40)، و «فتح الباري» (9/ 94 - سلفية). (¬3) سورة النور: 32. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4200)، ومسلم (1365).

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّج مولاته من نفسه، وهو الحجة على من سواه!! 3 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ...} (¬1): "هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها، ويكره أن يزوِّجها غيره فيدخل عليه في ماله، فيحبسها، فنهاهم الله عن ذلك" (¬2). فقولها "فرغب عنها أن يتزوجها" أعم من أن يتولى ذلك بنفسه أو يأمر غيره فيزوِّجه. 4 - عن سعيد بن خالد أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إليَّ؟ قالت: نعم، قال: قد تزوجتك (¬3). * وذهب الشافعي وداود إلى أنه لا يجوز أن يزوِّج نفسه من موليته، بل يزوِّجه غيره، ووجه ذلك: 1 - أن الأصل عند الشافعي في أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم أنها على الخصوص حتى يدل الدليل على العموم، لكثرة خصوصياته صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، فلا يتم -على أصله- الاستدلال بحديث صفية. 2 - لا يجوز أن يكون الناكح هو المنكح قياسًا على الحاكم والشاهد!! قلت: والقول بالجواز أظهر لعدم الدليل على المنع، وأما زواج صفية، فعلى فرض أن أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص -وهذا مُسلَّم- فأحاديث الترغيب في الزواج بالأمة بعد تأديبها وإعتاقها مقتضية لعموم الحكم. وأما دعوى عدم جواز أن يكون الناكح هو المنكح، فقال ابن حزم: "ففي هذا نازعناهم، بل جائز أن يكون الناكح هو المنكح، فدعوى كدعوى!!، وأما قولهم: كما لا يجوز أن يبيع من نفسه، فهي جملة لا تصح كما ذكروا، بل جائز إن وكل ببيع شيء أن يبتاعه لنفسه إن لم يُحابها بشيء ... " اهـ. ¬

(¬1) سورة النساء: 127. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5131) وغيره وقد تقدم. (¬3) علَّقه البخاري بصيغة الجزم (9/ 94 - سلفية) ووصله ابن سعد في «الطبقات» (8/ 472) بسند لا بأس به إلى أم حكيم، وليس لها رواية عن النبي ق وإنما عن أزواجه ولم يزد ابن سعد في التعريف بها على ما في الخبر وذكرها في أزواج عبد الرحمن بن عوف.

قلت: وأما القياس على الحاكم والشاهد فقياس مع الفارق ... الشرط الثاني: رضا المرأة قبل الزواج: وقد تقدم فيما مضى أنه ليس للولي أن يجبر المرأة على الزواج بمن تكره -علي تفصيل ذكرناه- فإن أكرهها ولم تكن راضية، فلها أن ترفع أمرها إلى القاضي، وله أن يفسخ العقد. الشرط الثالث: الصَّداق (المهر) إمَّا مفروضًا أو مسكوتًا عنه: فلو اتفق الزوجان على إسقاط المهر، فهو نكاح فاسد، فالمهر لابد منه في النكاح إما مسمَّى مفروضًا أو مسكوتًا عن فرضه، وفي هذه الحالة يكون للمرأة مهر مثلها وجوبًا. واشتراط المهر في النكاح هو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام (¬1). ووجه ذلك ما يلي: 1 - قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (¬2). ومعنى نحلة: وجوبًا وحتمًا، في قول أكثر المفسِّرين (¬3). 2 - قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ...} (¬4). 3 - قوله سبحانه: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ...} (¬5). فعلَّق إباحة النكاح بإتيانهن المهور، وهو يفيد الشرطية. 4 - قوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} (¬6). فجعل الزواج بلا مهر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وليس لأحد غيره. ¬

(¬1) «القوانين» (174)، و «الخرشي» (3/ 172)، و «بداية المجتهد» (2/ 43)، ونقل هناك الاتفاق على أنه شرط!! ولعله أراد المالكية، و «الإنصاف» (8/ 165)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 344). (¬2) سورة النساء: 4. (¬3) انظر «القرطبي»، و «ابن كثير» (سورة النساء: 40). (¬4) سورة النساء: 24. (¬5) سورة الممتحنة: 10. (¬6) سورة الأحزاب: 50.

5 - حديث ابن عباس أن عليًّا قال: تزوَّجتُ فاطمة رضي الله عنها فقلت: يا رسول الله، ابْنِ بي، قال: "أعطها شيئًا" قلت: ما عندي من شيء، قال: "فأين درعك الحطمية؟ ". قلت: هي عندي، قال: "فأعطها إياه" (¬1). 6 - حديث سهل بن سعد -في قصة الواهبة- وفيه: فقام رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ ". فقال: ما عندي .. فقال صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتمًا من حديد" ... [ثم قال في آخره]: "زوجتكها بما معك من القرآن" (¬2). 7 - ما روي عن عائشة قالت: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أُدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئًا" (¬3). فهذه النصوص تفيد ظواهرها أن تسمية المهر وقبضه شرط في صحة النكاح، لكن لما قال الله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} (¬4). دلَّ ذلك على صحة النكاح بدون تسمية المهر وقبل قبضه -وهذا مجمع عليه (¬5) - وبقي اشتراط المهر -وإن لم يُفرض- على الأصل. * وذهب الجمهور: أبو حنيفة والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن اشتراط نفي المهر لا يُبطل النكاح، ويجب للمرأة حينئذٍ مهر المثل!! (¬6). قلت: ولعلَّ وجه هذا عندهم أنه يصح العقد بلا تقدير للمهر، فيصح مع نفي المهر!! لكن الأظهر القول الأول، قال شيخ الإسلام (29/ 344): "من قال: المهر ليس بمقصود، فإنه قول لا حقيقة له، فإنه ركن في النكاح، وإذا شُرط فيه كان ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3125)، والنسائي (6/ 129). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5149)، ومسلم (1425). (¬3) فيه ضعف: أخرجه أبو داود (2128) من طريق خيثمة بن عبد الرحمن عن عائشة وفي سماعه منها نظر. (¬4) سورة البقرة: 236. (¬5) نقله شيخ الإسلام (29/ 352)، وابن قدامة في «المغني» (6/ 680). (¬6) «فتح القدير» (3/ 324)، و «مغني المحتاج» (3/ 229)، و «الإنصاف» (8/ 165)، و «كشاف القناع» (5/ 144).

أوكد من شرط الثمن لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج" (¬1). والأموال تُباح بالبدل، والفروج لا تُستباح إلا بالمهور، وإنما ينعقد النكاح بدون فرضه وتقديره -لا مع نفيه- والنكاح المطلق ينصرف إلى مهر المثل .... فلابد من مهر مسمى مفروض أو مسكوت عن فرضه" اهـ. قلت: وسيأتي مزيد بيان لبعض المسائل المتعلقة بالصداق قريبًا، إن شاء الله. الشرط الرابع: الإشهاد أو الإعلان: وبهذا الشرط يتميَّز النكاح من السفاح، وقد اختلف أهل العلم فيما يشترط في صحة النكاح: الإشهاد أم الإعلان؟ أم كلاهما؟ أم أحدهما؟ أم لا شيء منهما؟ فهذه خمسة أقوال (¬2): الأول: الإشهاد شرط، والإعلان مستحب: وهذا مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك -والمعتمد عند المتأخرين- والشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال النخعي والثوري والأوزاعي. 1 - واحتجوا بزيادة وردت في حديث: "لا نكاح إلا بولي [وشاهدي عدل] " لكن زيادة "وشاهدي عدل" ضعيفة من كل الطرق لكن صححها بعض العلماء (¬3). لكن قال الشافعي -رحمه الله- (¬4): "وهذا وإن كان منقطعًا دون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أكثر أهل العلم يقول به، ويقول: الفرق بين النكاح والسفاح الشهود" اهـ. وقال الترمذي عقب الحديث: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود، لم يختلف في ذلك من مضى منهم، إلا قومًا من المتأخرين من أهل العلم ... " اهـ المقصود. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5151)، ومسلم (1418). (¬2) «فتح القدير» (3/ 199)، و «البدائع» (3/ 376)، و «ابن عابدين» (3/ 8)، و «بداية المجتهد» (2/ 42)، و «الدسوقي» (2/ 216)، و «روضة الطالبين» (7/ 45)، و «نهاية المحتاج» (6/ 217)، و «المغني» (7/ 239)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 127)، و «الاستذكار» (16/ 214)، و «المحلي» (9/ 465). (¬3) انظر هذه الطرق ووجه ضعفها في «جامع أحكام النساء» (3/ 322)، وقد صححها العلامة الألباني في «الإرواء» (6/ 258) فليراجع. (¬4) «الأم» (2/ 168).

2 - وبما يُروى عن عائشة مرفوعًا: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان" (¬1) وهو منكر لا يحتج به. 3 - ما يُروى عن ابن عباس مرفوعًا: "البغايا: اللاتي يزوِّجن أنفسهن بغير بيِّنة" (¬2). 4 - قول ابن عباس: "لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد" (¬3). قلت: فرأوا أن هذه الأحاديث يقوِّي بعضها بعضًا، وأن النفي في قوله: "لا نكاح" يتوجَّه إلى الصحة، وذلك يستلزم أن يكون الإشهاد شرطًا. الثاني: الإعلان شرط، والإشهاد مستحب: وهذا هو الصحيح عن مالك ورواية عن أحمد وبعض الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قالوا: فلو زوَّجها الولي ولم يكن بحضرة شهود، ثم أُعلن النكاح وشاع بين الناس فقد صحَّ النكاح وحصل المقصود: 1 - لأن المأمور به هو الإعلان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا النكاح" (¬4). والمقصود من النكاح: الإظهار والإعلان ليتميز من السر الذي هو الزنا، وهذا أعمُّ من الإشهاد فإذا تحقق الإعلان فليس ثم حاجة إلى الإشهاد، فإن تعذَّر الإعلان -على هذا النحو الواسع- كان الإشهاد واجبًا لأنه القدر الممكن من الإعلان. 2 - ولأن المسلمين ما زالوا يزوِّجون النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالإشهاد، وليس في اشتراط الشهادة في النكاح حديث ثابت، ولا في الصحاح، ولا في السنن ولا في المسانيد. 3 - من الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائمًا له شروط لم يبيِّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما تعم به البلوى، فجميع المسلمين يحتاجون إلى معرفة هذا، وإذا كان شرطًا كان ذكره أولى من ذكر المهر وغيره، مما لم يكن له ذكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - أن الشهود قد يموتون، أو تتغير أحوالهم، وهم يقولون: مقصود الشهادة ¬

(¬1) منكر: أخرجه الدارقطني (3/ 224) وفي سنده مجهول. (¬2) أخرجه الترمذي. (¬3) صححه الألباني موقوفًا. وانظر «الإرواء» (6/ 235، 251). (¬4) صححه الألباني بهذا اللفظ: وأخرجه الترمذي بسياق أطول وهو في «الضعيفة» (978) وعلى كل فاللفظ المذكور كذلك يحتاج تصحيحه إلى شيء من النظر فليحرر.

إثبات الفراش عند التجاحد، حفظًا لنسب الولد، فيقال: هذا حاصل بإعلان النكاح، ولا يحصل بالإشهاد مع الكتمان مطلقًا. 5 - واستُدل لهم بإعتاق النبي صلى الله عليه وسلم صفية وزواجه بها بغير شهود، فعن أنس قال: "اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية بسبعة أرؤس، فقال الناس: ما ندري أتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جعلها أم ولد؟ فلما أراد أن يركب حجبها، فعلموا أنه تزوجها" (¬1) وأجاب الأولون: بأن زواجه صلى الله عليه وسلم من غير شهود خصوصية له، فقد أباح الله له الزواج من الواهبة بغير مهر، فلأن يتزوج بغير شهود أصح من باب أولى. 6 - أن البيوع التي أمر الله فيها بالإشهاد قد قامت الأدلة على أنه ليس من فرائض البيع، فالنكاح الذي لم يذكر الله فيه الإشهاد أحرى أن لا يكون الإشهاد فيه من شروطه. الثالث: يُشترط الإعلان والإشهاد: وهو الرواية الثالثة عن أحمد. الرابع: يُشترط أحدهما: وهو الرواية الرابعة عن أحمد وبه قال ابن حزم. الخامس: لا يشترط الإعلان ولا الإشهاد: وهو قول شاذ منقول عن ابن أبي ليلى وأبي ثور وغيرهما. قلت: خلاصة ما تقدم أن يقال: 1 - اتفق أهل العلم على بطلان النكاح الذي يتم بغير شهود ولا إعلان (¬2). 2 - واتفقوا على صحة النكاح الذي يشهد عليه رجلان فصاعدًا، ويتم الإعلان عنه (¬3). 3 - اختلفوا في صحة النكاح الذي شهد عليه الشهود ولم يُعلن للناس، وفي الذي أعلن عنه ولم يحضره الشهود، على النحو المتقدم، والأقرب: أن الشرط هو الإعلان إن لم يحضر الشهود، لكن الإشهاد أحوط لما فيه من الحفاظ على حقوق الزوجة والولد، لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه، لاسيما وأن هذه الشهادة تدوَّن في "قسيمة الزواج" ولا تُسجل وتوثَّق -رسميًّا- في هذه الأيام -إلا إذا أُشهد على العقد، ولا يخفى أهمية هذا التوثيق في هذا الزمان الذي خربت فيه الذمم وضعف فيه الإيمان في النفوس. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1365). (¬2)، (2) انظر «مجموع الفتاوى» (32/ 130)، (33/ 158). (¬3) «البدائع» (2/ 253)، و «الحاوي» (11/ 86)، و «المغني» (9/ 349)، و «المحلي» (9/ 465)، وانظر «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 170 - 173).

الاشتراط في عقد النكاح

* فائدتان: الأولى: إذا تواطأ الزوجان والولي والشاهدان على كتمان الزواج، فهل يصحُّ؟ هذه المسألة هي ثمرة الخلاف في المسألة السابقة، فمن رأى الشرط الشهود، صحَّح الزواج، ومن رأى الشرط: الإعلان، قال: الزواج باطل لفقد شرطه. الثانية: ما يُشترط في الشهود (عند القائلين به) (¬1): 1، 2 - العقل والبلوغ، وهذا متفق عليه، فلا ينعقد النكاح بفاقدهما لأنه فاقد الأهلية. 3 - الإسلام، ولا خلاف في اشتراطه في الشاهد إذا كان الزوجان مسلمين، أما إذا كانت الزوجة ذمية، فأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف شهادة الذمي، ومنعها الآخرون. 4 - الذكورة: فاشترط الشافعية والحنابلة أن يكون الشاهدان ذكرين ومنعوا شهادة النساء في النكاح، وأجاز الحنفية شهادة رجل وامرأتين، وكذا قال ابن حزم وزاد أنه يجوز شهادة أربع نسوة. 5 - العدالة: وهي شرط عند الشافعية والحنابلة، والظاهر أن المراد بالعدالة هنا: أن يكون مستور الحال لم يظهر منه فسق، وأما الحنفية فصححوا العقد بشهادة الفاسقين!! 6 - أن يكونا سامعين للإيجاب والقبول فاهمين المقصود بهما. الاشتراط في عقد النكاح ومرادنا هنا اشتراط أحد العاقدين على الآخر شروطًا مقترنة بالعقد، أو سابقة عليه مرتبطة به. ويمكن تقسيم الشروط المتصوَّرة في عقد النكاح إلى ثلاثة أقسام: [1] شروط موافقة لمقصود العقد، ومقصد الشرع: كاشتراط الزوجة: العشرة بالمعروف، والإنفاق والكسوة والسكنى، وأن يعدل بينها وبين ضرائرها، أو أن يشترط الزوج عليها: أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها، وألا تتصرف بماله إلا برضاه، ونحو ذلك. ¬

(¬1)

* حكمها: فهذه الشروط، اتفق أهل العلم على صحتها وعلى وجوب الوفاء بها (¬1). [2] شروط منافية لمقصود العقد، أو منافية لحكم الله وشرعه (الشروط الفاسدة): كأن تشترط المرأة على زوجها أن لا تطيعه، أو أن تخرج من غير إذنه، أو أن لا يقسم لضرائرها ولا ينفق عليهن، أو أن يشترط الزوج أن لا مهر لها ونحو ذلك فهذه شروط مخالفة لما نصَّ عليه الشارع. وكأن تشترط عليه أن لا يجامعها ونحو ذلك مما ينافي المقصود من النكاح. * حكمها: ومثل هذه الشروط، اتفق أهل العلم -كذلك- على عدم صحتها لتضمنها الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر الله به، أو تحليل ما حرَّمه، أو تحريم ما حلله، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ... " (¬2). * لكن .. ما حكم العقد الذي يُشترط فيه هذه الشروط الفاسدة؟ بعد الاتفاق على أن الشروط الفاسدة لا تصح وأنه لا يُوفى بها، اختلف أهل العلم في حكم العقد الذي اشتُرطت فيه هذه الشروط على ثلاثة أقوال (¬3): الأول: لا يَبْطُل العقد بالشروط الفاسدة إلا شرط التأقيت: وهذا مذهب الحنفية، فإن الأنكحة المنهي عنها كالشغار والتحليل تصحُّ إذا أبطلت منها الشروط الفاسدة، إلا نكاح المتعة لأنه اشترط فيه التأقيت فلا يصح. الثاني: من هذه العقود ما يبطل بالشرط الفاسد ومنها ما لا يبطل: وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وضابط الشرط الذي يُبطل العقد عندهم: أن يكون مخلًّا بمقصود النكاح، كاشتراط طلاقها أو عدم وطئها أو تأقيت زواجها ونحوه. ¬

(¬1) «فتح الباري» (9/ 218 - المعرفة)، و «روضة الطالبين» (7/ 264)، و «مغني المحتاج» (3/ 226). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2168)، ومسلم (1504) عن عائشة. (¬3) «البدائع» (2/ 285)، و «روضة الطالبين» (7/ 265)، و «المغني» (7/ 451)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 159 - 162)، و «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 182 - 184).

وضابط الشرط الذي لا يبطل العقد -عندهم-: أن لا يكون مخلًّا بمقصود النكاح، كأن تشترط خروجها متى شاءت أو طلاق ضرتها ونحو ذلك مما هو منهي عنه. قالوا: وكون العقد صحيحًا مع بطلان هذه الشروط "لأن هذه الشروط تعود إلى معنى زائد في العقد، لا يُشترط ذكره، ولا يضر الجهل به، فلم يبطل، كما لو شرط في العقد صداقًا محرمًا، ولأن النكاح يصح مع الجهل بالعوض، فجاز أن ينعقد على الشروط الفاسدة كالعتاق" (¬1). الثالث: يبطل العقد الذي فيه شرط فاسد: وهو مذهب جماعة من أهل العلم واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وحجته ما يلي: 1 - يكفي في إبطاله النهي الوارد في هذه الشروط فإنه يقتضي الفساد، كنكاح الشغار والتحليل والمتعة. 2 - أبطل الصحابة هذه العقود، ففرقوا بين الزوجين في نكاح الشغار، وجعلوا نكاح التحليل سفاحًا، وتوعَّدوا المحلِّل بالرجم، (وقد تقدم هذا). 3 - أن تصحيح هذه العقود مع إبطال الشروط الفاسدة يؤدي إلى الإلزام بالعقود من غير رضا العاقدين أو أحدهما: لأن تصحيح العقد إما أن يكون مع الشرط المحرَّم الفاسد أو مع إبطاله: (أ) فإذا صححناه مع وجود الشرط المحرم كان هذا خلاف النص والإجماع. (ب) وإذا صححناه مع إبطال الشرط فيكون ذلك إلزامًا للعاقد بعقد لم يرض به، ولا ألزمه الله به، والعقود لا تلزم إلا بإلزام الشارع أو إلزام العاقد، فإذا كان الشارع لا يلزمه بعقد النكاح مع الشرط الفاسد، ولا هو قَبِل أن يلتزمه مع خُلُوِّه من الشرط، فيكون إلزامه بذلك إلزامًا بما لم يلزمه الله به ورسوله، وهذا لا يجوز. قلت: وهذا المذهب الأخير قوي ومتجه، إلا أنه يُعكِّر عليه -في نظري- حديث عائشة الذي هو العمدة في هذا الباب، فإن عائشة رضي الله عنها لما أرادت أن تشتري أمةً (اسمها بريرة) لتعتقها، أبى أهلها أن يبيعوها إلا على شرط أن يكون ولاؤها لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: "اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق" ثم ¬

(¬1) «المغني» (7/ 451).

قام فخطب: "ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ... " الحديث وقد تقدم (¬1). والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بإمضاء العقد -على ما فيه من شرط فاسد- مع إبطال هذا الشرط، وعليه فيتألَّق القول الثاني في المسألة والله أعلم. [3] شروط لم يأمر الشارع بها ولم ينه عنها، وفي اشتراطها مصلحة لأحد الزوجين: كأن تشترط عليه أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يسافر بها، أو لا يتزوَّج عليها، أو أن تستمر في دراستها أو عملها [المشروع] ونحو ذلك. * حكمها: اختلف أهل العلم في صحة مثل هذه الشروط في عقد النكاح على قولين (¬2): الأول: هذه الشروط لا تحل وهي باطلة، والعقد صحيح: وهذا مذهب الجمهور: منهم أبو حنيفة ومالك [إلا ما كان فيه عتق أو طلاق فتلزمه عنده] والشافعي والليث والثوري وابن المنذر والظاهرية وحجتهم: 1 - أن الأصل في العقود والشروط -عندهم- الحظر، إلا ما أباحه الشرع. 2 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، شرط الله أحق وأوثق" (¬3). قالوا: معنى (في كتاب الله) أي في حكم الله ورسوله أو فيما دلَّ عليه الكتاب والسنة، فلا يكون شرطًا إلا ما جاء في القرآن أو السنة نصٌ بإباحته. 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا" (¬4). قالوا: وهذه الشروط تخالف مقتضى العقد، لأن العقود توجب مقتضياتها ¬

(¬1)، (2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) «فتح القدير» (2/ 459)، و «الاستذكار» (16/ 149)، و «الأم» (5/ 65)، و «المغني» (7/ 93)، و «الإنصاف» (8/ 155)، و «المحلي» (8/ 375)، و «اختلاف العلماء» للمروزي (ص: 177)، و «مجموع الفتاوى» (29/ 128 - 148 - 160)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا (3/ 362)، و «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 184 - 194). (¬3) أخرجه الترمذي، والبيهقي (2498). (¬4) سورة المائدة: 1.

بالشرع، فيعتبر تغييرها تغييرًا لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادة، فصار زواجه بالثانية والسفر ونحو ذلك -مما هو حلال- حرامًا بمقتضى العقد، فكأن في الشرط تعدِّيًا على حدود الله وزيادة في الدين. القول الثاني: يصح الشرط، ولا يلزم الوفاء به، ولها فسخ العقد إذا أخلَّ بالشرط: وهذا مذهب الإمام أحمد والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وهو مروي عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وهو اختيار شيخ الإسلام، وحجتهم ما يلي: 1 - أن التحقيق: أن الأصل في العقود والشروط الإباحة لأنها من باب الأفعال العادية. 2 - عموم النصوص الآمر بالوفاء بالعهود والشروط والعقود، ومنها: (أ) قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (¬1). (ب) وقوله سبحانه: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولًا} (¬2). (جـ) قوله تعالى: {والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون} (¬3). (د) قوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث ... ، وإذا وعد أخلف" (¬4). فإذا كان الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به عُلم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به (¬5). 3 - أن قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" (¬6) الصحيح أن معناه: جاء في كتاب الله نفيه أوتحريمه وإبطاله فهو باطل، وإن لم يوجد ما يدل على تحريمه كان صحيحًا. ¬

(¬1) سورة الإسراء: 34. (¬2) سورة المؤمنون: 8. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (59). (¬4) «مجموع الفتاوى» (29/ 146) وانظر في البخاري باب «ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة». (¬5) (¬6) صحيح: تقدم قريبًا.

أو أن المراد بكونه في كتاب الله: أن الشارع أباحه، فإن كان المشروط فعلًا أو حكمًا مباحًا (يجوز فعله وتركه) جاز اشتراطه، ووجب الوفاء به، وإن لم يبحه الله لم يجز اشتراطه. 4 - حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحق الشروط أن توفوا بها: ما استحللتم به الفروج" (¬1) فدلَّ على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منها في غيره من العقود، لأن أمره أحوط وبابه أضيق (¬2). 5 - حديث المسور بن مخرمة قال: إن عليًّا خطب بنت أبى جهل، فسَمعتْ بذلك فاطمة، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا عليٌّ ناكح بنت أبى جهل، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعتُه حين تشهد يقول: "أما بعد، أنكحتُ أبا العاص ابن الربيع فحدثنى وصَدَقنى، وإن فاطمة بضعة منى، وإنى أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبنت عدو الله عند رجل واحد". فترك عليٌّ الخطبة (¬3). قال الحافظ (7/ 86): لعلَّه كان شرط على نفسه أن لا يتزوج [يعني: أبا العاص] على زينب وكذلك عليٌّ، فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أن عليًّا نسي ذلك الشرط فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط إذ لم يُصرح بالشرِّط، لكن كان ينبغي له ان يراعي هذا القدر فلذلك وقعت المعاتبة. اهـ. 6 - عن عبد الرحمن بن غنم قال: كنت جالسًا عند عمر بن الخطاب حيث تمس ركبتي ركبته، فقال رجل لأمير المؤمنين: تزوَّجتُ هذه، وشرطَتْ لها دارها، وإني أجمع لأمري -أو: لشأني- أن ينتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: "لها شرطها" فقال رجل: هلكتْ الرجال إذًا، لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت! فقال عمر: "المسلمون على شرطهم عند مقاطع حقوقهم" (¬4). 7 - قوله صلى الله عليه وسلم -المتقدم- "المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا" (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2721)، ومسلم (1418). (¬2) «فتح الباري» (9/ 218 - المعرفة). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3729)، ومسلم (2449). (¬4) صحيح: علَّقه البخاري مختصرًا (9/ 323 - فتح)، ووصله سعيد بن منصور (663)، وعبد الرزاق (10608)، وابن أبي شيبة (4/ 199)، والبيهقي (7/ 249). (¬5) تقدم قريبًا.

"فهذه الشروط الجائزة لا تحرم الحلال، فمن اشترطت على زوجها أن لا يتزوج بغيرها، فإنه لا يصير الزواج عليه حرامًا، ولكن إذا تزوَّج فلها فسخ العقد، فأين تحريم الحلال؟ " (¬1). قلت: والراجح أن اشتراط ما هو مباح في الشرع (يجوز فعله ويجوز تركه) ولم يأت في الشرع النهي عنه، أنه جائز في النكاح للأدلة المتقدمة، ولحاجة الناس في بعض الأحيان إليها، فإن أخلَّ أحد الطرفين بهذه الشروط، جاز للآخر فسخ العقد، والله تعالى أعلم. * ما حكم زواج "المِسْيار"؟ زواج المسيار (¬2) من أنواع الزواج المستجدة في بعض البلاد، وخلاصة ما فهمته في تعريفه أنه: "عقد الرجل زواجه على المرأة عقدًا شرعيًا مستوفيًا شروطه وأركانه، إلا أن المرأة تتنازل فيه -برضاها- عن بعض حقوقها على الزوج كالسكنى والنفقة والمبيت عندها والقسم لها مع الزوجات ونحو ذلك". ومن أهم الأسباب المؤدية إلى نشأة هذا النوع من الزواج وانتشاره في بعض البلاد: وجود عدد من النساء اللاتي بلغن سن الزواج وتقدم بهن العمر دون زواج، أو تزوجن وفارقن الأزواج لموت أو طلاق، بالإضافة إلى الغريزة الجنسية، واحتياج المرأة إلى الرجل، هذا من جانب المرأة. وأما من جانب الرجل فقد يدفعه إلى هذا الزواج الرغبة العارمة -عند بعضهم- في المعاشرة الجنسية، وعدم اكتفائه بزوجة واحدة، مع عدم قدرته على تحمل ما يستلزم الزواج الآخر من مهر ونفقة وسكنى ونحو ذلك، وقد يدفعه إلى ذلك رفض زوجته الأولى لزواجه من أخرى، أو رغبته في الاستيلاء على مال هذه المرأة -إذا كانت غنية- مع خشيتها من فراقه مما يدفعها إلى بذل مالها، إلى غير ذلك من الأسباب. ولكن ما حكم هذا النوع من الزواج شرعًا؟ يتضح من التعريف السابق زواج المسيار: عقد زواج تضمَّن شرطًا يوجب إسقاط بعض حقوق الزوجة على زوجها، ولذا ناسب أن يُبحث في مبحث ¬

(¬1) «أحكام الزواج» د. الأشقر (ص: 190) بتصرف يسير. (¬2) المسيار: صيغة مبالغة يوصف بها الرجل كثير السير، فلعل سرَّ تسمية هذا الزواج بذلك أن الزواج لا يستقر عند زوجته بل هو دائم الترحال لا بأتيها إلا زائرًا!!.

"الشروط في العقد" وقد اختلفت آراء الفقهاء المعاصرين في صحة هذا الزواج على ثلاثة أقوال (¬1): الأول: أنه مباح مع الكراهة، ومأخذ هذا القول أنه عقد استوفى أركانه وشرائطه الشرعية ولم يتَّخذ ذريعة إلى الحرم -كنكاح التحليل والمتعة- وغاية ما فيه أن الزوجين ارتضيا واتفقا على أن لا يكون للزوجة حق المبيت أو القسم أو النفقة ونحو ذلك، وقد ثبت أن أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها لما كبرت وهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضرتها عائشة "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة" (¬2). فدلَّ على أن من حق الزوجة أن تسقط حقها الذي جعله الشارع لها كالمبيت والنفقة. ثم إن الزواج إشباع لغريزة الفطرة عند المرأة وكفٌّ لها عن الفاحشة وقد ترزق فيه بالولد. أما سرُّ كراهة هذا النوع -رغم إباحته- فهو افتقاره إلى تحقيق مقاصد الشريعة في الزواج من السكن النفسي والإشراف على الأهل والأولاد ورعاية الأسرة بنحو وتربية أحكم. * فائدة: من القائلين بهذا القول من نصِّ على أن اشتراط النفقة والمبيت لاغٍ، وللزوجة حق المطالبة به إذا أرادت، ولها حق إسقاطه وديًّا. الثاني: أنه حرام، ومأخذ هذا القول: أن هذا الزواج ينافي مقاصد الزواج الاجتماعية والنفسية والشرعية من المودة والرحمة والسكن وحفظ النوع الإنساني وتعهده على أكمل وجه ورعاية الحقوق والواجبات التي يولدها عقد الزواج الصحيح، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. 2 - أنه مخالف لنظام الزواج الذي جاءت به الشريعة ولم يكن المسلمون يعرفون مثل هذا النوع في زواجهم. 3 - تضمنه بعض الشروط التي تخالف مقصود العقد. 4 - بالإضافة إلى أنه سيكون مدخلًا للفساد والإفساد، فإنه يتساهل فيه في تقدير المهر، ولا يتحمل الزوج مسئولية الأسرة، وقد يكون سرًا أو بغير ولي. ¬

(¬1) «مستجدات في الزواج والطلاق» لأسامة الأشقر (ص: 174)، وما بعدها بتصرف. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5212)، ومسلم (1463).

الصداق (المهر)

الثالث: التوقُّف في حكمه، وهو منقول عن العلامة ابن عثيمين، رحمه الله تعالى. الراجح: قلت: (أبو مالك): الفاصل في النزاع هو تكييف اشتراط إسقاط النفقة والمبيت ومدى تأثيره على صحة العقد، وقد تقدم أن الشروط في عقد النكاح على ثلاثة أنواع: شروط موافقة لمقصود العقد الشرع، وشروط منافية لمقصود العقد ومنافية لحكم الله، وشروط لم يأمر بها الشارع ولم ينه عنها، وفي اشتراطها مصلحة لأحد الزوجين. والذي يظهر أن اشتراط إسقاط النفقة والمبيت ونحوه مما هو واجب شرعًا على الزوج هو من الشروط الفاسدة، وعلى ضوء ما ترجح لدى في العقد مع الشرط الفاسد (¬1) أقول: هذا العقد صحيح والزواج صحيح لكن الشرط فاسد، وعليه يترتب على هذا الزواج آثاره الشرعية من حلِّ الجماع وثبوت النسب ووجوب النفقة والقسم، ومن حق الزوجة المطالبة به، لكن لو ارتضت التنازل عنه -من غير اشتراط- فلا حرج لأنه حقها. على أن هذا النوع من الزواج لا يسلم من المحاذير التي تدفع إلى القول بكراهته وعدم التوسع في تعاطيه، ولعل هذا هو مأخذ المتوقفين في حكمه، والله أعلم بالصواب. الصداق (المهر) * تعريفه وحكمه: الصداق اصطلاحًا: عِوَضٌ في النكاح أو نحوه، بفرض حاكم أو تراضيهما، ويسمى مهرًا، وأجرًا، وفريضة، وغير ذلك. ووجه تسميته بالصداق: "أنه يشعر بصدق رغبة الزوج في الزوجة" (¬2). والمهر واجب على الرجل بالنكاح أو الوطء بإجماع علماء المسلمين (¬3) ولا يخدش في صحة الإجماع ما تقدم من تجويز الحنفية والشافعية إسقاط المهر، فإنهم جميعًا -في هذه الحالة- يوجبون مهر المثل. ¬

(¬1) راجع ما تقدم في باب: «الاشتراط في عقد النكاح». (¬2) «سبل السلام» (3/ 311). (¬3) «الاستذكار» لابن عبد البر (16/ 67).

وقد تقدَّم أن المهر شرط في صحة عقد النكاح إما مسمى مفروضًا أو مسكوتًا عنه ويكون لها مهر مثلها، في أصح قولي العلماء. * ما يصلح أن يكون مهرًا: 1 - كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع (¬1): بأن يكون متموَّلًا، طاهرًا، حلالًا، منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه، كالأموال والأعراض ونحوها، قال الله تعالى: {وأحلَّ لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم ...} (¬2). 2 - الإجازة: فكل عمل جاز الاستجار عليه، جاز جعله صداقًا، وذلك كتعليم القرآن، والصنائع، والخدمة ونحو ذلك، وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ومنع ذلك أبو حنيفة وكرهه مالك (¬3). والصحيح جواز النكاح على الإجارة، فقد قصَّ الله تعالى علينا في كتابه أن الشيخ الصالح زوَّج موسى عليه السلام بإحدى ابنتيه، وجعل مهرها أن يعمل عنده ثماني سنين، قال الله تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك} (¬4). وهذا على قول من قال: إن شرع من قبلنا شرع لازم لنا حتى يدلَّ الدليل على ارتفاعه، وهو الصحيح. وقد مرَّ حديث الواهبة، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أراد الزواج منها: "اذهب، فقد أنكحتكها بما معك من القرآن" (¬5) على تأويل أن المراد: أن يعلمها سورة أو أكثر من القرآن. 3 - إعتاق الأَمَة: فعن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها" (¬6) وقد أجاز أن يكون العتق صداقًا الشافعي وأحمد وداود، ومنعه فقهاء الأمصار لمعارضته للأصول، ووجه ذلك أن العتق إزالة ملكٍ، والإزالة لا تتضمن استباحة الشيء ¬

(¬1) «بداية المجتهد» (2/ 46)، و «الشرح الصغير» للدردير (2/ 245)، و «الأم» (5/ 52)، و «المغني» (7/ 212)، و «الإنصاف» (6/ 231). (¬2) سورة النساء: 24. (¬3) «بداية المجتهد» (2/ 47)، و «روضة الطالبين» (7/ 304)، و «المغني» (7/ 212)، و «المبسوط» (6/ 80). (¬4) سورة القصص: 27. (¬5) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

بوجه آخر، لأنها إذا أعتقت ملكت نفسها، فكيف يلزمها النكاح؟ وأجابوا باحتمال الخصوصية، لكثرة اختصاصه صلى الله عليه وسلم في باب النكاح!! (¬1). قلت: الأظهر جواز أن يكون العتق صداقًا للحديث السابق، والأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أنها للتأسي إلا ما دلَّ الدليل على الخصوصية كزواج الهبة والزيادة على الأربع، وما ذكروه من معارضة الأصول لا يُعارض به هذا الحديث، والله أعلم. 4 - هل يكون الإسلام مهرًا؟ عن أنس قال: "تزوَّج أبو طلحة أمَّ سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إني قد أسلمتُ فإن أسلمتَ نكحتُك، فأسلم فكان صداق ما بينهما" (¬2). وفيه حجة لمن أجاز أن يكون إسلام الرجل مهرًا، إلا أن أبا محمد بن حزم طعن في هذا الاستدلال بأمرين: 1 - أن ذلك كان قبل الهجرة بمدة، لأن أبا طلحة قديم الإسلام، من أول الأنصار إسلامًا، ولم يكن نزل إيجاب إيتاء النساء صدقاتهن بعد. 2 - أنه ليس في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك (¬3). * أقل المهر وأكثره: 1 - لا حدَّ لأكثر المهر: اتفق أهل العلم -لا خلاف بينهم- على أنه لا حد لأكثر ما يدفعه الرجل مهرًا لزوجته (¬4). قال شيخ الإسلام: "ومن كان ذا يسار ووجد فأحب أن يعطي امرأته صداقًا كثيرًا فلا بأس بذلك، كما قال الله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} (¬5). أما من يشغل ذمته بصداق لا يريد أن يؤديه، أو يعجز عن وفائه فهذا مكروه ... " اهـ (¬6). 2 - ولا حدَّ لأقلِّ المهر على الراجح: فيصحُّ الصداق بكل ما يسمى مالًا أو ما ¬

(¬1) «بداية المجتهد» (2/ 47)، وانظر «المحلي» (9/ 501 - 507) ففيه بحث نفيس. (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 114). (¬3) «المحلي» (9/ 499 - 500). (¬4) «الاستذكار» لابن عبد البر (16/ 65)، و «الحاوي» للماوردي (12/ 11). (¬5) سورة النساء: 20. (¬6) «مجموع الفتاوى» (32/ 195).

يقوَّم بمال ما دام قد حصل به التراضي، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور والأوزاعي والليث وابن المسيب وغيرهم وأجاز ابن حزم كل ما له نصف ولو حبة شعير (¬1)، ويؤيد عدم تحديد أقل المهر: (أ) عموم قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} (¬2). وهو يتناول قليل المال وكثيره. (ب) قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يتزوج الواهبة: "هل عندك من شيء؟ " قال: لا، قال: "اذهب فاطلب ولو خاتمًا من حديد" ... الحديث (¬3) فدلَّ على أن المهر يصح بكل ما يطلق عليه اسم المال. * بل يصح الصداق بكل ما له قيمة حسيَّة أو معنوية: وهذا "هو الذي تجتمع به الأدلة ويتفق مع المعنى الصحيح لمشروعية المهر، إذ ليس المقصود من المهر العوض المالي فحسب، وإنما هو رمز للرغبة وصدق النية في الاقتران، فيكون بالمال غالبًا، وبكل ماله قيمة معنوية، ما دامت قد رضيت بذلك الزوجة" (¬4). وقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلًا بما معه من القرآن، وتزوَّج أبو طلحة أم سليم، وكان مهرها إسلامه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم عتق صفية صداقها، فكان ما يحصل للمرأة من انتفاعها بالقرآن والعلم وإسلام الزوج، وانتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها صداقًا لها إذا رضيت به، فإن الصداق -في الأصل- حق للمرأة تنتفع به (¬5). * المغالاة في المهور (¬6): ليس من الإسلام تلك النظرة المادية التي تسيطر على أفكار طائفة من الناس، فيغالون في المهور، حتى إنه لا يكاد يخرج بعضهم من عقد الزواج إلا وهم ¬

(¬1) «المغني» (7/ 48)، و «الإنصاف» (9/ 249)، و «الحاوي» (12/ 11)، و «تكملة المجموع» (15/ 482)، و «المحلي» (9/ 494 - وما بعدها)، وقال الشافعي: لا يجب أن يقل عن مهر المثل، وخالفه الجمهور وكثير من أصحابه وانظر «الأم» (5/ 66). (¬2) سورة النساء: 24. (¬3) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬4) «فقه الزواج» للسدلان (ص 26). (¬5) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 178 - 179) ط. الرسالة. (¬6) «الزواج والمهور» للمسند (ص 57 - 58)، و «من قضايا الزواج» لجاسم الياسين (ص 70 - 72)، عن «فقه الزواج للسدلان» (ص 28 - 43)، وكتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 392 - 396).

يتحدثون عن المهر، وكم بلغ من الأرقام القياسية ... ؟! كأنما خرجوا من حلبة سباق أو مزايدة على سلعة!! فإن المرأة ليست سلعة في سوق الزواج كي نسلك بها هذا المسلك الماديِّ البحت. وهذه المغالاة في المهور يكون من نتائجها السلبية: 1 - جعل أكثر الشباب عزبًا وأكثر البنات عوانس. 2 - حصول الفساد الأخلاق في الجنسين عندما ييأسون من الزواج فيبحثون عن بديل لذلك. 3 - حدوث الأمراض النفسية لدى الشباب من الجنسين بسبب الكبت، وارتطام الطموح بخيبة الأمل. 4 - خروج كثير من الأولاد عن طاعة آبائهم وأمهاتهم وتمردهم على العادات الطيبة والتقاليد الكريمة الموروثة. 5 - غش الولي بامتناعه من تزويجها بالكفء الصالح الذي يظن أنه لا يدفع لها صداقًا كثيرًا، رجاء أن يأتي من هو أكثر صداقًا ولو كان لا يُرضي دينًا ولا خلقًا!! ولا يُرجى للمرأة السعادة معه. 6 - تكليف الزوج فوق طاقته، مما يجلب العداوة في قلبه لزوجته وأهلها. * إذا كانت هذه سلبيات المغالاة في المهور: فما حكمها شرعًا؟ الحاصل في حكم المغالاة في المهور، بالنظر في الأدلة الواردة في هذا الباب أن يقال: 1 - المشروع تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه: * قال صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره" (¬1). * وقال ابن القيم بعد ما أورد جملة من الأحاديث في الصداق: "فتضمنت الأحاديث ... أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح وأنها من قلة بركته وعسره" (¬2). * وقال عمر بن الخطاب: ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (2/ 182). (¬2) «زاد المعاد» (5/ 178).

"ألا لا تغلوا صُدُق النساء، فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل كان أولاكم به النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليغلي بصدقته امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت لكم علق القربة" (¬1). * وعن عائشة لما سئلت: كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: "كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشًّا، (والنش: نصف أوقية) فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه" (¬2). قال شيخ الإسلام: "فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هنَّ خير خلق الله في كل فضيلة وهنَّ أفضل نساء العالمين في كل صفة -فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة" (¬3). 2 - إذا كان في المغالاة تكليف للزوج بما لا يطيق فهو مذموم: ففي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوج امرأة من الأنصار: "على كم تزوجتها؟ " قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على أربع أواقٍ؟ كأنما تنحتون من عُرض هذا الجبل ... " (¬4). وعن أبي حدرد الأسلمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في مهر امرأة، فقال: "كم أمهرتها؟ " قال: مائتي درهم، فقال: "لو كنتم تغرفون من بُطحان ما زدتم" (¬5). فهذا إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم على إكثار المهر بالنسبة لحال هؤلاء الأزواج لأنه تقدم أن مهر بناته وأزواجه كان أكثر من ذلك، فالعبرة بحال الزوج. 3 - إذا كان الرجل ميسورًا غنيًّا فله أن يكثر صداق زوجته: "فقد زوَّج النجاشي أم حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف ¬

(¬1) أبو داود (2106)، والترمذي (1114)، والنسائي (6/ 117)، وابن ماجة (1887) وهو صحيح. (¬2) مسلم (1426)، والنسائي (6/ 116)، وابن ماجة (1886). (¬3) «مجموع الفتاوى» (32/ 192 - 194). (¬4) مسلم (1424)، والنسائي (6/ 69). (¬5) أحمد (3/ 448)، والبيهقي (7/ 235) بسند صحيح.

[وكانت مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم] وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة" (¬1). * وعن الشعبي قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا لا تغالوا في صُدُق النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سيق إليه إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، كتاب الله عز وجل أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله عز وجل، فما ذاك؟ قالت: نهيتَ الناس آنفًا أن يغالوا في صُدُق النساء، والله عز وجل يقول في كتابه: {وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} (¬2). فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر -مرتين أو ثلاثًا- ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إني نهيتكم أن تغالوا في صدق النساء ألا فليفعل الرجل في ماله ما بدا له" (¬3). فالخلاصة: أن الناس يتفاوتون في الغنى والفقر، فلا بد من مراعاة حالة الزوج المالية، فلا يطالب بما لم يقدر عليه مما يضطره إلى الاستدانة ونحو ذلك، فإن كان قادرًا لم يكره له الزيادة في المهر، إلا أن يقترن بذلك نية المباهاة ونحوها فإن يكره حينئذٍ والله أعلم (¬4). * الصداق حق للمرأة وليس لأوليائها (¬5): لقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (¬6). وقوله: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} (¬7). وغير ذلك من الآيات فإنها تدل على أن الصداق حق للمرأة، فلا يحل لأبيها ولا لغيره أن يأخذوا من هذا الصداق بغير إذنها، ولذا ¬

(¬1) أبو داود (2107)، وأحمد (6/ 427)، والنسائي (6/ 119) وهو صحيح. (¬2) سورة النساء: 20. (¬3) سنن سعيد بن منصور (598)، وعنه البيهقي (7/ 233) وهو حسن لغيره، له شواهد أوردها شيخنا - حفظه الله - في «جامع أحكام النساء» (3/ 301) لم يقف عليها الألباني - رحمه الله - فضعَّف الأثر في «الإرواء» (6/ 348) ووصف المتن بالنكارة والصواب أنه يحسَّن. (¬4) هذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام كما ف «الاختيارات» (ص 227). (¬5) «المحلي» (9/ 511). (¬6) سورة النساء: 4. (¬7) سورة النساء: 24.

ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الزوج لا يجوز له دفع المهر لغير الزوجة أو وكيلها أو من أذنت له أن يدفعه إليهم. * أنواع المهر: ينقسم المهر باعتبار الاتفاق على قيمته إلى: مسمى وغير مسمى، وباعتبار وقت دفعه وأدائه إلى: معجَّل ومؤجَّل، وباعتبار المقدار الذي تستحقه المرأة منه إلى: الكل والنصف والمتعة. أولًا: المهر المسمَّى، والمسكوت عنه (مهر المثل): 1 - يستحب أن يتفق العاقدان على فرض المهر وتسميته قطعًا للنزاع ومنعًا للخصومة (¬1)، ويجب حينئذٍ إمضاء المهر المتفق عليه، ويكون في ذمة الزوج دفعه للمرأة. 2 - ويجوز العقد من غير تسمية المهر كما دلَّ عليه قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} (¬2). ويسمى هذا: "نكاح التفويض" وهو جائز بالإجماع (¬3)، وفي هذه الحالة يجب للمرأة مهر المثل اتفاقًا. ومعنى مهر المثل: القدر الذي تُزوَّج عليه مثيلاتها من قريباتها من جهة أبيها كأخواتها وعماتها، لا من جهة أمها، فإن الأم قد تكون من أسرة لها أعراف تخالف أعراف أسرة أبيها (¬4)، فإن لم يوجد لها أمثال من قبل أبيها، فمن مثيلاتها وأقرانها من أهل بلدتها (¬5). ثانيًا: المهر المعجَّل والمؤَجل الأصل أن يكون المهل معجَّلًا تقبضه المرأة قبل الدخول بها ولها أن تمنع نفسها حتلا تتسلمه، قال الله تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} (¬6). ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (29/ 344). (¬2) سورة البقرة: 236. (¬3) «بداية المجتهد» (2/ 53). (¬4) «المبسوط» (5/ 64)، و «روضة الطالبين» (7/ 286). (¬5) «أحكام الزواج» للأشقر (ص: 261) بتصرف يسير. (¬6) سورة الممتحنة: 10.

ولما سأل عليٌّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل بفاطمة قال له صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئًا" فقال: ما عندي من شيء، قال: "فأين درعك الحطمية؟ " قال عليٌّ: هي عندي، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأعطها إياه" (¬1). وقد مضى على هذا عمل السلف رضي الله عنهم (¬2). لكن يجوز تأجيل المهر أو بعضه، وكذلك تقسيطه، للحاجة كإعسار الرجل ونحو ذلك، إذا اتفق الطرفان على تأجيله إلى ما بعد الدخول، لأن المهر دين كسائر الديون، فيجوز تأجيله، ولذا فإنه يستحب تعجيله. لكن .. هل يشترط تحديد هذا الأجل؟ أم لا؟ (¬3). 1 - إذا أُجِّل لأجل مجهول، كأن يقول: تزوجتك على ألفٍ بشرط الميسرة أو أدفعها عند هبوب الرياح أو قدوم فلان ونحو ذلك، فلا يصح التأجيل باتفاق المذاهب الأربعة، لتفاحش الجهالة. 2 - إذا أُجِّل المهر -أو بعضه- ولم يُذكر الأجل ولم يحدَّد، ففيه خلاف: (أ) قال الحنفية والحنابلة: يصح المهر، وتستحقه المرأة بالفراق أو الموت، عملًا بالعرف والعادة في البلاد الإسلامية!! (ب) وقال الشافعية: المهر فاسد، ولها مهر المثل. (جـ) وقال المالكية: إن كان الأجل مجهولًا كالتأجيل للموت أو الفراق فسد العقد، ووجب فسخه، إلا إذا دخل الرجل بالمرأة، فحينئذٍ يجب مهر المثل. ثالثًا: ما تستحقه المرأة من المهر وأحواله: [أ] ما يتقرر للزوجة به المهر كاملًا (¬4): 1 - الدخول الحقيقي بالزوجة (الجماع): اتفق أهل العلم على أن الزوجة تستحق المهر كاملًا، إذا دخل بها الزوج ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) «مجموع الفتاوى» (32/ 195). (¬3) «البدائع» (2/ 288)، و «ابن عابدين» (2/ 493)، و «بداية المجتهد» (2/ 48)، و «الدسوقي» (2/ 297)، و «مغني المحتاج» (3/ 222)، و «المغني» (6/ 693)، و «كشاف القناع» (5/ 178). (¬4) «البدائع (2/ 291 - 295)، و «بداية المجتهد» (2/ 48)، و «الدسوقي» (2/ 300)، و «مغني المحتاج» (3/ 224)، و «المغني» (6/ 716)، و «كشاف القناع» (5/ 168).

وجامعها، لقوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا* وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} (¬1). فنهى الله تعالى الزوج أن يأخذ شيئًا مما أعطاه للمرأة إذا طلَّقها واعتبر الأخذ منه بهتانًا وكذبًا وإثمًا، وذلك لأن المهر كان في مقابل حلِّ الوطء (الإفضاء) وقد استوفى الزوج حقه بالدخول، فتقرر للزوجة جميع المهر. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأة نُكحت بغير إذن وليِّها فنكاحها باطل -ثلاثًا- فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها" (¬2). فإذا كان جميع المهر يتقرر بالدخول في النكاح الباطل، فمن باب أولى يتقرر في النكاح الصحيح (¬3). ويترتب على استقرار المهر بالدخول: أن لا يسقط شيء منه بعدئذٍ إلا بالأداء لصاحبه، أو بالإبراء (التنازل) من صاحب الحق (¬4). * فائدة: يتقرر للمرأة جميع المهر بالوطء ولو كان حرامًا: كالوطء في الدُّبُر وفي حال الحيض أوالنفاس أو الإحرام أو الصوم أو الاعتكاف ونحو ذلك. 2 - موت أحد الزوجين قبل الدخول في نكاح صحيح: وهنا حالتان: (أ) إذا كان المهر مسمى في العقد: ومات أحد الزوجين قبل الدخول (الوطء) فإن المرأة تستحق المهر كاملًا باتفاق الفقهاء، وعلى هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم، لأن العقد لا ينفسخ بالموت، وإنما ينتهي به، لانتهاء أمده وهو العمر، فتتقرر جميع أحكامه بانتهائه، ومنها المهر. (ب) إذا كان المهر لم يسمَّ في العقد (نكاح تفويض): ومات أحد الزوجين فاختلف أهل العلم في ذلك على قولين: الأول: تستحق مهر مثلها: وهذا مذهب الحنفية والصحيح عند الحنابلة وهو قول للشافعي، ودليلهم: ¬

(¬1) سورة النساء: 20، 21. (¬2) صحيح: تقدم تخريجه في «اشتراط الولي». (¬3) «نيل الأوطار» (118). (¬4) «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 289).

1 - حديث علقمة قال: أُتي عبد الله [بن مسعود] في امرأة تزوَّجها رجل ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقًا ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه فقال: "أرى لها مثل صداق نسائها، ولها الميراث وعليها العدة" فشهد معقل بن سنان الأشجعي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع ابنة واشق بمثل ما قضى" (¬1). 2 - ولأنه عقد مدته العمر، فبموت أحدهما ينتهي ويستقر بع العوض، كانتهاء الإجارة. 3 - ولأن الموت يكمل به المهر المسمى، فيكمل به مهر المثل للمفوضة، كالدخول. الثاني: لا شيء لها: وهو مذهب مالك والقول الآخر للشافعي، وحجتها: أنها فرقة وردت على تفويض صحيح قبل فرض ومسيس، فلم يجب بها مهر كفرقة الطلاق!! (¬2). قلت: قد علَّق الشافعي -رحمه الله- القول في المسألة على صحة الحديث المتقدم، وهو صحيح، فيتعين صحة المذهب الأول وهو الأظهر عند الشافعية، والله أعلم. 3 - الخلوة الصحيحة بين الزوجين ولو بدون جماع: ضابط الخلوة الصحيحة: أن يجتمع الزوجان -بعد العقد الصحيح- في مكان يتمكنان فيه من التمتع الكامل، بحيث يأمنان دخول أحد عليهما، وليس بأحدهما مانع طبعي -كوجود شخص ثالث ونحوه- يمنع من الاستمتاع (¬3). فإذا حصلت هذه الخلوة بعد العقد، فاختلف أهل العلم في القدر الذي تستحقه المرأة من المهر إذا طلقها على قولين (¬4): الأول: تستحق جميع المهر ولو لم يحصل جماع، وهذا مذهب أبي حنيفة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2114)، والترمذي (1145)، والنسائي (6/ 121)، وابن ماجة (1891)، وأحمد (3/ 480). (¬2) انظر «الحاوي» (12/ 106)، و «الأم» (5/ 51)، مع «المراجع السابق». (¬3) «ابن عابدين» (2/ 465)، وزاد الحنفية من موانع الخلوة: المرض، والمانع الشرعي كالصوم والحيض والإحرام ونحوه، وفيه نظر لأن هذا قد لا يمنع ارتكاب المحظور وحصول الجماع كما لا يخفى. (¬4) «بداية المجتهد» (2/ 49)، و «المبسوط» (6/ 63)، و «الحاوي» (12/ 173)، و «المحلي» (9/ 482) مع المراجع السابقة.

والشافعي في القديم، وهو مشهور مذهب أحمد، وإسحاق والأوزاعي، وهو مروي عن الخلفاء الراشدين الأربعة وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين، وحجة هذا القول: 1 - عن زرارة بن أوفى قال: "قضى الخلفاء الراشدون المهديُّون: أن من أغلق بابًا، أو أرخى سترًا، فقد وجب المهر والعدَّة" (¬1) وهو منقطع. وذكر ابن قدامة أنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم!! وهو متعقب بخلاف بعضهم كما سيأتي. 2 - عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قضى في المرأة إذا تزوَّجها الرجل أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق" (¬2). 3 - وعن عليٍّ قال: "إذا أُرخيت الستور فقد وجب الصداق" (¬3). 4 - قوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ...} (¬4). قالوا: الإفضاء هو الخلوة، لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء، وهو الخلاء، فكأنه قال: (وقد خلا بعضكم إلى بعض). قال الفراء: "الإفضاء: الخلوة، دخل بها أو لم يدخل" (¬5). 5 - وحملوا المسَّ في قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (¬6). على الخلوة لا على الجماع. 6 - ولأن الخلوة مظنة الجماع والمسيس، فإذا خلا بها فقد هيئت الفرصة لتحقق ذلك، والخلوة هي القدر الذي يمكن للقاضي التحقق منه، أما ما وراء ذلك فيصعب التحقق منه عند النزاع (¬7). الثاني: لا تستحق جميع المهر إلا بالوطء فقط: وهو مذهب مالك والشافعي في الجديد وهو رواية أخرى عن أحمد وابن حزم، وهو مروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، وحجتهم: ¬

(¬1) إسناده منقطع: أخرجه البيهقي (7/ 255)، وابن حزم (9/ 482). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 528)، والبيهقي (7/ 255). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1/ 201)، والبيهقي (7/ 255). (¬4) سورة النساء: 21. (¬5) «معاني القرآن» للفرَّاء. مخطوط، عن «اختيارات ابن قدامة» (3/ 101). (¬6) سورة البقرة: 237. (¬7) «أحكام الزواج» د. الأشقر (ص: 265).

1 - قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (¬1). قالوا: والمراد بالمسِّ: الوطء، والمطلقة قبل الوطء يصدق عليها هذا. 2 - فسروا الإفضاء في قوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} (¬2). بأن المراد به: الجماع. 3 - عن ابن عباس أنه كان يقول في الرجل إذا أُدخلت عليه امرأته ثم طلقها فزعم أنه لم يمسَّها- قال: "عليه نصف الصداق" (¬3). 4 - وعن ابن مسعود قال: "لها نصف الصداق، وإن جلس بين رجليها" (¬4). قلت: لو ثبتت هذه الروايات عن ابن عباس وابن مسعود لكانت في مقابل ما ثبت عن عمر وعلي، ولم يكن في شيء من ذلك حجة على المخالف ولبقي الخلاف في تأويل معنى المس والإفضاء في الآيتين الكريمتين، لكن لا يثبت المروي عن ابن عباس وابن مسعود -فيما علمت- فبقول عمر وعليٍّ وغيرهما من الصحابة أقول، والله أعلم. لكن قد يقال: إنما استقر المهر كله بالخلوة لأنها تفضي إلى الوطء، فلو ثبت عدم الوطء بإقرار الزوجة أو بالكشف الطبي الحديث، فهل يقال: لها نصف المهر فقط؟ هذا محل نظر واجتهاد، فليُحرَّر. 4 - إقامة الزوجة سَنَة في بيت الزوج ولو بدون وطء (عند المالكية): فإذا تزوَّج رجل امرأة وزُفَّتْ إليه، وأقامت عنده سنة (!!) بلا وطء وجب لها المهر كاملًا عند المالكية، قلت: أما التحديد بالسنة فلا أعلم له دليلًا، ولو زُفَّت إليه وأقامت عنده دون وطء، فهذه راجعة إلى الحالة السابقة (الخلوة الصحيحة) فيقال فيها ما تقدم هناك. ¬

(¬1) سورة البقرة: 237. (¬2) سورة النساء: 21. (¬3) إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور (772) وفيه ليث بن أبي سليم: (ضعيف مختلط) وجاء من وجه آخر عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بنحوه، رواه البيهقي (7/ 254) وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس فلا يُفرح به!!. (¬4) إسناده منقطع: ابن حزم (9/ 484).

5 - طلاق الفرار في مرض الموت قبل الدخول (عند الحنابلة): إذا طلَّق الرجل امرأته التي لم يدخل بها، في مرض موته فرارًا من ميراثها، ثم مات فإنه يتقرر لها المهر كاملًا -عند الحنابلة- لوجوب عدة الوفاة عليها في هذه الحالة ما لم تتزوَّج أو ترتد. [ب] ما يتقرر للمرأة به نصف المهر (¬1): * الطلاق قبل الدخول (والخلوة على الراجح) وكان المهر مُسمًّى في العقد: إذا طلَّق الرجل زوجته قبل الدخول (وقبل الخلوة على الراجح) وكان المهر قد سُمَّي في العقد، فإن المرأة تستحق نصف هذا المهر، باتفاق أهل العلم. لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (¬2). وكذلك الحال إذا حصلت الفرقة بغير الطلاق (إذا كان من جانب الزوج) كالفسخ بسبب الإيلاء أو اللعان، أو ردَّة الزوج أو إبائه اعتناق الإسلام بعد إسلام زوجته ونحو ذلك، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. * فإن لم يكن المهر مسمى وطلقها قبل الدخول (أو الخلوة)؟ فههنا اختلف العلماء فيما تستحقه المرأة من المهر، على ثلاثة أقوال: القول الأول: ليس لها المتعة (¬3): وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي -في المشهور عنه- وأحمد وإسحاق والثوري وأبي عبيد وغيرهم وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} (¬4). ¬

(¬1) «البدائع» (2/ 296)، و «المبسوط» (6/ 82)، و «ابن عابدين» (2/ 463)، و «بداية المجتهد» (2/ 50)، والقوانين» (202)، و «المدونة» (2/ 224)، و «مغني المحتاج» (3/ 231)، و «نهاية المحتاج» (6/ 364)، و «كشاف القناع» (5/ 165 - 176)، و «الإنصاف» (8/ 299)، و «المغني» (7/ 239). (¬2) سورة النساء: 237. (¬3) المتعة: مبلغ من المال يدفعه الزوج لمطلقته، وهو يختلف باختلاف حال الزوج وسيأتي في «الطلاق». (¬4) سورة البقرة: 236.

2 - قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين} (¬1). 3 - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} (¬2). القول الثاني: ليس لها شيء، وإنما يُستحب لها المتعة ولا تجب، وهو مذهب مالك والليث، وحجته: أن قوله تعالى: {متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين} قد دلَّ على أن المتعة على سبيل الإحسان والتفضُّل لا الوجوب، ولو كانت واجبة لم تختص بالمحسنين!! وأجيب بأن أداء واجب من الإحسان. القول الثالث: تستحق نصف مهر المثل: وهو رواية ثانية في مذهب أحمد، وحجته أنه نكاح صحيح يوجب مهر المثل بعد الدخول فيوجب نصفه بالطلاق قبل الدخول. قلت: والصحيح الأول لصرح الآيات الكريمة، والله أعلم. * فائدة: تقرر أن المهر إذا كان مسمى مفروضًا في العقد، ثم طلَّقها قبل الدخول، فلها نصف المهر، لكن ... إذا لم يذكر المهر في العقد، وإنما فرض بعده بالتراضي أو بالقضاء، فهل لها نصف المفروض (المسمى) بعد العقد أم لا؟ قال الحنفية: لا ينتصف المفروض بعد العقد، لاختصاص التنصيف بالمفروض في العقد بنص القرآن، وإنما تجب للمرأة المتعة فقط. وقال الجمهور: ينتصف المفروض بعد العقد كالمسمى في العقد، وهو الصحيح "لأن قوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} عموم لكل صداق في نكاح صحيح فرضه الناكح في العقد أو بعده، ولم يقل عز وجل: فنصف ما فرضتم في نفس العقد، ... ولو أراد ذلك لبينه لنا ولم يهمله ... " اهـ (¬3). [جـ] ما يسقط به المهر كلُّه (¬4): 1 - حصول الفُرقة -من جانب الزوجة- قبل الدخول: كأن تُسلم -وزوجها ¬

(¬1) سورة البقرة: 241. (¬2) سورة الأحزاب: 49. (¬3) «المحلي» لابن حزم (9/ 482) بتصرف يسير واختصار. (¬4) «البدائع» (2/ 295)، و «القوانين الفقهية» (203)، و «مغني المحتاج» (3/ 234)، و «كشاف القناع» (5/ 165 - 167)، و «المقنع» (3/ 86)، و «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 295).

كافر- أو يفسخ الزواج بعيب في الزوجة أو أن ترتدَّ، أو أن تكون أرضعت من ينفسخ به نكاحها، أو أن تفسخ لعيب الزوج أو إعساره، ونحو ذلك، فحينئذٍ يسقط المهر المسمى ومهر المثل، وهذا هو المذهب عند الشافعية والحنابلة، كذلك عند الحنفية والمالكية لكنهم لم يفرقوا بين أن تكون الفُرقة من جانب الزوج أو الزوجة فالكل عندهم مسقط للمهر. 2 - الخلع (¬1) على المهر قبل الدخول أو بعده: فإذا خالع الرجل امرأته على مهرها، سقط المهر كله، فإن كان المهر غير مقبوض سقط عن الزوج، وإن كان مقبوضًا ردَّته على الزوج. 3 - الإبراء (التنازل) عن كل المهر قبل الدخول أو بعده: فإذا تنازلت المرأة عن مهرها المفروض -وكان دَيْنًا في ذمة الزوج- فإنه يسقط، إذا كانت المرأة أهلًا للتبرع. 4 - هبة الزوجة كل المهر للزوج: متى كانت أهلًا للتبرع، وقبل الزوج الهبة في المجلس، سواء أكانت الهبة قبل القبض أو بعده. * عفو المرأة، ومن بيده عقدة النكاح: قال الله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} (¬2). ومعنى الآية الكريمة: أن المرأة إذا طلقها زوجها قبل أن يطأها وقد كان سمَّى لها صداقًا رضيته فلها نصف صداقها الذي لها إلا أن تعفو هي فلا تأخذ من زوجها شيئًا وتهب له النصف الواجب لها، أو يعفو من بيده عقدة النكاح. وقد اختلف أهل العلم في المراد بالذي بيده عقدة النكاح على قولين: الأول: أنه ولي المرأة، فيكون للولي أن يعفو عن نصف الصداق الذي استحقته المرأة. الثاني: أنه الزوج نفسه، فيكون المعنى: أو يعفو الزوج فيعطيها جميع الصداق. وهذا التأويل أرجح "لأن الصداق من حق المرأة [كما تقدم] لا يجوز لأحد التصرف فيه إلا بإذنها، وهي أحق به قبل الطلاق وبعده" (¬3). ¬

(¬1) ستأتي أحكام «الخلع» في الباب الآتي، إن شاء الله. (¬2) سورة البقرة: 237. (¬3) «جامع أحكام النساء» لشيخنا - رفع الله قدره - (3/ 308) وهو اختيار ابن حزم في «المحلي» (9/ 511).

فأيهما عفا عن حقِّه، فهو أقرب للتقوى، والله تعالى أعلم. * إذا سُمِّي للمرأة مَهْران (مهر التلجئة): إذا طلب أهل الزوجة من الزوج أن يسمي صداقين: أحدهما للعقد، والآخر للعلن مفاخرة أمام الناس، لا أنه يلزمه، فذهب الجمهور -خلافًا للحنابلة- إلى أنه يلزمه الصداق المسمى في العقد، لا الصداق المعلن، اعتبارًا للنية في العقود، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬1). * حكم الحِباء: الحباء: أن يشترط أحد أقارب الزوجة على الزوج مبلغًا من المال لنفسه، وقد اختلف أهل العلم في حكم الحباء على ثلاثة أقوال (¬2): الأول: يجوز الحباء للأب، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وبعض الشافعية، وهو قول إسحاق، وحجتهم: قوله تعالى -في قصة الشيخ الكبير مع موسى عليه السلام: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} (¬3). قالوا: فجعل الصداق: الإجارة على غنمه، وهو شرط لنفسه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك". الثاني: إن كان الشرط عند عقد النكاح فهو للمرأة وإن كان بعده فهو للأب: وهو مذهب مالك وبه قال عمر بن عبد العزيز والثوري وأبو عبيد، لأن في اشتراطه عند العقد تهمة النقصان من صداقها، وأما بعده فلا توجد التهمة. واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما امرأة نُكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أُعْطِيَهُ، وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنتُه وأخته" (¬4). ¬

(¬1) «تحفة الفقهاء» (2/ 218)، و «المدونة» (2/ 171)، و «الفروع» (5/ 267)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 199). (¬2) «بداية المجتهد» (2/ 56)، و «روضة الطالبين» (7/ 266)، و «المقنع» (3/ 79)، و «نيل الأوطار» (6/ 207). (¬3) سورة القصص: 27. (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (2129)، والنسائي (6/ 120)، وابن ماجة (1955)، وأحمد (2/ 182).

الثالث: لا يجوز الحباء مطلقًا، ويفسد المهر، وتستحق مهر المثل: وهو مذهب الشافعي. قلت: الراجح أن المرأة تستحق ما يذكر قبل العقد من صداق أو حباء ولو كان ذلك الحباء مذكورًا لغيرها كأبيها أو غيره، وأما ما يذكر بعد العقد فهو لمن جُعل له سواء كان وليًّا أو غيره، لأجل الحديث المتقدم، والله أعلم. * جهاز العروس، على مَن يجب؟ الجهاز -بفتح الجيم، والكسر لغة قليلة-: اسم لما تُزفُّ به المرأة إلى زوجها متاع وأثاث وفراش لمنزل الزوجية. وقد ذهب جمهور العلماء، منهم: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم (¬1)، إلى أنه لا يجب على المرأة أن تتجهز بمهرها أو بشيء منه أو من غيره وعلى الزوج أن يُعِدَّ لها المنزل بكل ما يحتاج إليه ليكون سكنًا شرعيًا لائقًا بهما في حدود طاقته ويسره: قال الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (¬2). ولأن المهر المدفوع ليس في مقابلة الجهاز، وإنما هو عطاء ونحلة كما قال تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (¬3). أو هو في مقابلة حلِّ التمتع بها -كما تقدم- والشيء لا يقابله عِوَضان. حتى لو كان الزوج قد دفع أكثر من مهر مثلها رجاء جهاز فاخر، ما دام المال الذي دفعه غير مستقل عن المهر. فإذا دفع الزوج مقدارًا من المال -مستقلًّا عن المهر- في مقابلة الجهاز، فتلزم الزوجة حينئذٍ بإعداد الجهاز، لأنه كالهبة بشرط العوض. فإذا تجهزت الزوجة بنفسها أو جهَّزها ذووها، فالجهاز ملك لها خاصٌّ بها، لأنها لا يلزمها كما تقدم. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (2/ 652)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 321)، و «نهاية المحتاج» (5/ 408)، و «كشاف القناع» (3/ 149)، و «المحلي» (9/ 507). (¬2) سورة الطلاق: 6. (¬3) سورة النساء: 4.

إعلان النكاح

* فائدة: إن جهَّزت الزوجة أو ذووها شيئًا برضاهم -من غير إجبار- فهو حسن، فعن عليٍّ رضي الله عنه قال: "جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل وقِربة ووسادة حشوها إذخر" (¬1). إعلان النكاح * معناه وحكمه: إعلان النكاح: هو إظهاره وإشاعته بين الناس، وقد تقدم الكلام على حكمه في "الشرط الرابع" من "شروط صحة عقد الزواج". * بم يكون إعلان النكاح (¬2): يكون الإعلان بضرب النساء الدُّف، وغنائهن الغناء المباح، لإشاعة السرور والبهجة، وترويح النفوس. وهذا الغناء مباح -في المناسبات- إذا سلم من الفحش الظاهر والخفي والتحريض على الإثم وذكر المحرَّم، وإذا خلا من آلات اللهو والمعازف (غير الدف). ومن الأدلة على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين الحرام والحلال الضرب بالدفوف والصوت" (¬3). فعن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو" (¬4). وعن الربيع بنت معوِّذ بن عفراء، قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُنِيَ عليَّ فجلس على فراشي، فجعلت جويرات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ، فقال: "دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين" (¬5). أما اللهو المقترن بآلات الطرب المشتمل على ذكر أوصاف النساء والأغاني ¬

(¬1) حسن: أخرجه النسائي (6/ 135)، وابن ماجة (4152). (¬2) «فقه الزواج» للسدلان (ص: 69 - 76) باختصار. (¬3) الترمذي (1088)، والنسائي (6/ 127)، وابن ماجة (1896) بسند حسن. (¬4) البخاري (5163). (¬5) البخاري (5147)، وأبو داود (4922)، والترمذي (1090)، وابن ماجة (1897).

الخليعة، الذي ينشر الفواحش والرذائل في الشباب والشابات، ويهدم القيم ويغير السلوك -فلا شك في تحريمه باتفاق الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة. قال ابن رجب (¬1): "إنما كانت دفوفهم نحو الغرابيل، وغناؤهم إنشاد أشعار الجاهلية في أيام حروبهم وما أشبه ذلك، فمن قاس على ذلك سماع أشعار الغَزَل مع الدفوف المصلصلة [أي: التي فيها جلاجل] فقد أخطأ غاية الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل" اهـ. قال العز بن عبد السلام (¬2): "أما العود، والآلات المعروفة ذوات الأوتار كالرَّبابة والقانون، فالمشهور من المذاهب الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام" اهـ. * ومن منكرات الأفراح (¬3): 1 - ذهاب العروس إلى "الكوافير" ليلة الزفاف: وهذا من أشد المنكرات التي أصبحت عادة لا تنكر، بل يُنكر على من هجرها ولا يخفى القدر الذي يراه ويلمسه "الكوافير" -وهو رجل في الغالب- من العروس، ولا يخفى ما يحصل في هذه الأماكن وفي هذه المناسبات، فلله كيف سمحت الفتاة المسلمة بإسلام جسدها لرجل أجنبي يعبث به؟ ويا لعَارِ زوجها "الديوث" الذي لا يغار على أهله؟! 2 - إطلاع النساء على عورة العروس بحجة تهيئتها للزفاف: وهذا حرام، فلا يجوز أن تطَّلع المرأة على عورة المرأة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة" وعورة المرأة بالنسبة للمرأة كعورة الرجل في حق الرجل: من السرة إلى الركبة. "وعموم النساء الجاهلات لا يتحاشين كشف العورة أو بعضها والأم حاضرة أو الأخت أو البنت، ويقلن: هؤلاء ذوات قرابة، فلتعلم المرأة أنها إذا بلغت سبع سنين لم يجز لأمها ولا لأختها ولا بنتها أن تنظر إلى عورتها" (¬4). ¬

(¬1) «نزهة الأسماع في مسألة السماع» (ص41). (¬2) «تلبيس إبليس» (ص 229). (¬3) من كتابي «250 خطأ من أخطاء النساء» (ص 144) وما بعدها. (¬4) انظر أحكام النساء لابن الجوزي (ص 76) ط. ابن تيمية.

3 - الإصرار على إقامة حفلات الزواج في الفنادق، وحضور هذه الحفلات على فيها من المنكرات: فيُجمع في هذا بين الإسراف والتبذير من جهة، وبين الإثم الحاصل من استجلاب المغنين والمغنيات والاستماع إلى النغمات والألحان التي تهيج النفوس، وتترك أثرها السيء في القلوب، وهذا مشاهد في مناسبات الأعراس وغيرها، وغالبًا ما يختلط الرجال بالنساء مما يدعو صراحة إلى الفحش والتبرج والرذيلة والذي لا يفعله إلا من لا خلاق له، ولا شك في حرمة هذا النوع من الحفلات. ولتعلم الأخت المسلمة أنه قد أبيح لهن في هذه الأعراس ضرب الدف وإنشاد الأشعار وإعلان النكاح وإظهار البهجة والفرحة والسرور، ما دام قد سلم من الفحش وآلات اللهو والطرب والاختلاط بالرجال. 4 - تبرج العروس ليلة الزفاف: وهذا حرام لا يجوز، إذا كان يراها غير النساء أو المحارم، وليعلم أن للعروس أن تتزين ما شاءت شريطة ألا يطلع عليها الأجانب. 5 - جلوس العروسين في "الكوشة" بين النساء والرجال: وهذا خطأ كبير، وهو محرم لأمور منها أن فيه دخولًا على النساء وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" وفيه التمكين من نظر الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، لا سيما وكلا الجنسين في قمة زينته. وقد أفتت هيئة كبار العلماء بحرمة ذلك (فتوى رقم 8854/ 1405هـ). 6 - قيام بعض النساء بالرقص في الحفلات: وهذا الرقص إذا كان على مرأى الرجال والأجانب فهو من أشد المنكرات، وإذا كان في مكان خاص بالنساء، فالأولى منعه أيضًا، وذلك لأن الرقص عادة إنما تتعاطاه الفتيات على أنغام الموسيقى المحرمة وهذا حرام. ثم إنه لا يؤمَن -مع رقة الدين وفساد النفوس- أن تصف امرأة لزوجها أو غيره صفة رقص هذه المرأة فيحصل فساد كبير. 7 - تصوير الحفلات بالصور الفوتوغرافية والفيديو: وهذا قبح عظيم وشر مستطير، فالنساء متعطرات متحليات بحليهن متجملات متزينات، وتصويرهن -والحالة هذه- فتنة عظيمة، ففيه كشف للعورات، وزرع

لبذور الشر والفساد، فالتصوير على هذا الوجه محرم بلا ريب، والمجاهرة بالمعاصي بلاء، هذا على أن أصل التصوير محرم بإطلاق، فعلى أرباب هذه الحفلات -وخصوصًا النساء- الانتهاء عن هذه الظاهرة السيئة وأن يتحروا في هذه الحفلات ما أباح الله تعالى دون ما حرم. 8 - الإسراف في وليمة العرس: فقد أصبح الناس -بتحريض من جهلة النساء- يتنافسون في إنفاق الأموال الطائلة لإعداد وليمة العرس بما يزيد عن حاجة المدعوين إليها، وتكون النتيجة أن يلقى الطعام في مواضع القمامة في حين لا يجد الفقير ما يسد به رمقه؟! وقد ذم الله تعالى الإسراف في اثنتين وعشرين آية من كتابه، فقال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (¬1). وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوا واشربوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة، إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" (¬2). 9 - ترك العروس الصلاة ليلة الزفاف: فإنها تستعد لليلة زفافها من بعد صلاة الظهر عادة فتغتسل وتتزين وتضع المساحيق، وتلبس ثياب العرس وغير ذلك وربما نسيت الصلاة وهذا حرام بلا خلاف. 10 - تهنئة العروسين بقولهن: (بالرفاء والبنين): وهي عادة منكرة: شاعت في عصر الجاهلية، وأصبحت شعارًا ودعاءً لمن يقدمون تبريكاتهم وتهانيهم بالزواج، وقد ورد النهي عن هذه الصيغة، فعن عقيل بن أبي طالب أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: "بالرفاء والبنين" فقال: لا تقولوا هكذا، لكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم وبارك عليهم" (¬3). ولعل الحكمة في النهي عن استعمال هذه الصيغة: مخالفة ما كان عليه أهل الجاهلية، ولعل فيه من الدعاء للزوج بالبنين دون البنات، ونحوه من الدعاء للمتزوجين، ولأنه ليس فيه ذكر اسم الله وحمده والثناء عليه، فعلينا التأسي ¬

(¬1) سورة الأعراف: 31. (¬2) أخرجه النسائي (5/ 79)، والحاكم في المستدرك (4/ 135) بسند حسن. (¬3) أخرجه النسائي (3371)، وابن ماجة (1906)، وانظر «إرواء الغليل» (1923).

والاقتداء بالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، ومن ذلك قول المهنئ: "بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير". * وليمة العُرْس: 1 - تعريفها: "الوليمة: اسم للطعام في العُرس خاصة". 2 - حكمها: الوليمة سنة مستحبة مؤكدة (¬1) للمتزوج أن يولم بما تيسر، فقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه، وحث أصحابه على الوليمة. فعن أنس قال: " ... أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها (أي بزينب بنت جحش) عروسًا فدعا القوم فأصابوا الطعام ثم خرجوا ... " الحديث (¬2). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف لما تزوج: "أَوْلِمْ ولو بشاة" (¬3). ولا تشترط الشاة ولا غيرها في الوليمة، بل حسبما تيسَّر للزوج، فقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية بحَيس (¬4). والحَيْس: تمر منزوع نواه ويخلط بالأقط أو الدقيق أو السويق. 3 - وقتها: (هل عند العقد؟ أو بعده؟ أو عند الدخول؟ أو بعده؟): الصواب أن الوليمة تكون عند الدخول أو بعده، لا عند العقد لما تقدم قريبًا في حديث أنس -في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب- الذي فيه: "أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروسًا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ... ". وقال بعض العلماء إن وقتها موسع من عقد النكاح إلى انتهاء العرس (¬5). 4 - الدعوة للوليمة: يستحب للمتزوج أن يدعو إليها الصالحين سواء كانوا فقراء أو أغنياء لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" (¬6). ويستحب أن يجعل فيها حظًا للفقراء والمساكين: ¬

(¬1) وهو قول الجمهور، بينما ذهب الشافعي ومالك - في قول - والظاهرية إلى وجوبها. (¬2) البخاري (1428)، ومسلم (5166)، والترمذي (3218)، والنسائي (6/ 136). (¬3) الحديث عند البخاري (5169)، وانظر «فتح الباري» (9/ 237). (¬4) البخاري (2048)، ومسلم (1427). (¬5) «الإنصاف» للماوردي (8/ 317). (¬6) أبو داود (4811)، والترمذي (2506) وحسنه الألباني.

فعن أبي هريرة قال: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (¬1). 5 - إجابة الدعوة للوليمة: ذهب جمهور العلماء إلى أن إجابة دعوة العُرس واجبة -إلا لعذر- واستدلوا بما يأتي: -حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" (¬2). - وحديث أبي هريرة المتقدم: " ... ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (¬3) والمرأة كالرجل في هذا الحكم إلا إذا اقترن بإجابة الدعوة اختلاط بالرجال أو خلوة محرَّمة، فلا تجوز حينئذٍ. * فائدة: من دُعي وهو صائم؟ من دُعي إلى وليمة وهو صائم -رجلًا أو امرأة- فعليه أن يجيب ويحضر الوليمة لما تقدم من الأدلة، فإذا حضر فإنه مخير بين أمرين، إما أن يأكل معهم -إن كان صيامه تطوعًا وأراد الفطر- وإما أن يمتنع عن الأكل ويدعو لصاحب الوليمة: لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك" (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصل" يعني الدعاء (¬5). ويكون الدعاء بأحد الأدعية التي تقدمت في "آداب الطعام". 6 - متى يُترك حضور الوليمة؟ تقدم أن وجوب حضور الوليمة وإجابة الدعوة مشروط بعد وجود عذر، ومن هذه الأعذار: ¬

(¬1) البخاري (5177)، ومسلم (1432) موقوفًا وله حكم الرفع. (¬2) البخاري (5173). (¬3) البخاري (5177)، ومسلم (1432) موقوفًا وله حكم الرفع. (¬4) مسلم (1430)، وأبو داود (3722). (¬5) مسلم (1431)، وأبو داود (3719)، والبيهقي (7/ 263) وهذا لفظه.

1 - أن يدعى الشخص إلى موضع فيه منكر من خمر أو معازف ونحوها، فحينئذ لا يجوز الحضور إلا بقصد إنكارها ومحاولة إزالتها، فإن أزيلت وإلا وجب الرجوع، ومما يدل على هذا: حديث علي قال: صنعت طعامًا فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع [فقلت: يا رسول الله، ما أرجعك بأبي أنت وأمي؟ قال: "إن في البيت سترًا فيه تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تصاوير"] (¬1). 2 - أن يكون الداعي ممن يخص بدعوته الأغنياء لا الفقراء. 3 - أن يكون الداعي ممن لا يتورع عن أكل الحرام ويتخوض في الشبهات، إلى غير ذلك من الأعذار الشرعية التي يترك الواجب من أجلها. وكذلك يعذر المدعو إذا وجد عنده عذر شرعي كالذي يبيح التخلف عن الجمعة: من كثرة مطر أو وحلٍ أو خوف عدو أو خوف على مال أو نحو ذلك. * يجوز للعروس أن تخدم أضياف زوجها يوم عرُسها: فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه وكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس، قال سهل: تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل فلما أكل سقته إياه" (¬2). قلت: ومحل هذا الفعل هو أمن الفتنة كما لا يخفى، والله أعلم. * التهنئة بالزواج: من محاسن الشريعة تهنئة المسلم أخاه المسلم بما حصل له من الخير، والدعاء له بالبركة ودوام النعمة وشكرها، لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمتزوج بالبركة ودوام التوفيق وطول العشرة (¬3). * ما يقال للعروسين: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفأ الإنسان -إذا تزوج- قال: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير" (¬4). ¬

(¬1) ابن ماجة (3359)، وأبو يعلى (436) والزيادة له وصححه الألباني. (¬2) البخاري (5176)، ومسلم (2006)، وابن ماجة (1912). (¬3) «فقه الزواج» د. السدلان (ص: 97). (¬4) أبو داود (2130)، والترمذي (1091)، وابن ماجة (1905) بسند حسن.

وعن عائشة قالت: "تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر" (¬1). ولا ينبغي العدول عن هذه الصيغ المشروعة في التهنئة إلى ما اعتاده الناس من قولهم (بالرفاء والبنين) فقد ورد النهي عن ذلك. * ويستحب الهدية للعروسين: والأصل في هذا حديث أنس قال: "لمَّا تزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب، أهدت له أم سليم حيسًا في تور حجارة ... " الحديث (¬2). * آداب ليلة الزفاف (¬3): هذه بعض الآداب التي ينبغي لكل من الزوجين التأدب بها ليلة الزفاف، فإذا دخل العروسان منزلهما فيستحب: 1 - تسليم الزوج على العروس: فإنَّ هذا مما يذهب الرهبة من قلب العروس، فعن أم سلمة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا تزوجها، فأراد أن يدخل عليها، سلَّم" (¬4). 2 - أن يلاطفها بتقديم شيء من الشراب أو الحلوى: فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: "إنى قيَّنت (¬5) عائشة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم جئته فدعوته لجلوتها (¬6)، فجاء فجلس إلى جنبها، فأتى بعُسِّ (¬7) فيه لبن، فشرب ثم ناولها النبى -صلى الله عليه وسلم- فخفضت رأسها واستحيت، قالت أسماء: فانتهرتها وقلت لها: خذى من يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذت فشربت شيئًا ... " (¬8). ¬

(¬1) صحيح البخاري (5156). (¬2) مسلم (1428) وقد تقدم. (¬3) «آداب الزفاف» للألباني، و «الانشراح في آداب النكاح» لأبي إسحاق الحويني، و «المعاشرة بين الزوجين» لعمرو عبد المنعم، و «فقه الزواج» للسدلان (ص: 103) عن كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 409). (¬4) «أخلاق النبي» لأبي الشيخ (199) بسند حسن. (¬5) قيَّنت: أي زيَّنت. (¬6) أي: لينظر إليها مجلوة بزينتها. (¬7) العُسّ: هو القدح الكبير. (¬8) أحمد (6/ 452) وسنده محتمل للتحسين.

3 - أن يضع يده على رأسها ويدعو لها: لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادمًا فليأخذ بناصيتها، وليسمِّ الله عز وجل، وليدع بالبركة، وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما جبلتها عليه" (¬1). 4 - أن يصلي معها ركعتين (وهو منقول عن السلف): ومن ذلك حديث أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: "تزوجت وأنا مملوك، فدعوت نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة، قال: وأقيمت الصلاة فذهب أبو ذر ليتقدم، فقالوا: إليك، قال: أو كذلك؟ قالوا: نعم. قال: فتقدمتُ بهم وأنا عبد مملوك، وعلَّموني فقالوا: إذا دخل عليك أهلك فصلِّ ركعتين ثم سل الله من خير ما دخل عليك وتعوَّذ به من شره، ثم شأنك وشأن أهلك ... " (¬2). 5 - يستحب له قبل أن يأتيها أن يتسوَّك ليطهر فمه: أو استخدام غير السواك كفرشاة الأسنان والمعجون ونحوه، فهذا أدعى لدوام العشرة والألفة. فعن شريح بن هانئ قال: "قلت لعائشة: بأي شيء كان النبي -صلى الله عليه وسلم -يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك" (¬3). 6 - التسمية والدعاء عند الجماع: عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله: باسم الله، اللهم جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قُدِّر بينهما في ذلك -أو قضي ولد- لم يضره شيطان أبدًا" (¬4). قلت: وإتمامًا للفائدة فيحسن هنا إيراد طرف من الآداب والأحكام المتعلقة بالجماع: ¬

(¬1) أبو داود (2160)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (241 - 264)، وابن ماجة (1918) بسند حسن. (¬2) عزاه الألباني إلى ابن أبي شيبة بسند صحيح وأورد في الباب آثارًا أخرى في (آداب الزفاف: 94). (¬3) صحيح مسلم (253). (¬4) البخاري (5165)، ومسلم (1434).

* من آداب الجماع (¬1): 1 - يستحب للرجل مداعبة زوجته قبل الجماع: ففي رواية لحديث جابر لما تزوج فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: تزوجت بكرًا أو ثيبًا وأجابه بأنها ثيب فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك وللعذارى ولُعابها" (¬2). وفيه إشارة إلى مصِّ لسانها ورشف ريقها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل (¬3). فإذا قضى وطره منها فلا يقوم عنها حتى تأخذ حاجتها، فإن ذلك أدعى لدوام العشرة والمودة. 2 - للزوج أن يجامعها على أي وضع شاء بشرط أن يكون في الفرج: فعن جابر قال: إن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة، جاء ولدها أحول، فأنزل الله عز وجل: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} (¬4). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مقبلة ومدبرة، ما كان في الفرج" (¬5). 3 - يباح للزوج في جماع زوجته جسدها كله ما عدا الدُّبُر: فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن" وسنده ضعيف (¬6). لكن قال ابن عباس: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل أتى بهيمة أو امرأة في دبرها" (¬7). وعن ابن مسعود- رضي الله عنه-: أن رجلًا قال له: آتي امرأتي أنَّى شئت، وحيث شئت، وكيف شئت؟ قال: نعم، فنظر له رجل فقال له: إنه يريد الدبر!! قال عبد الله: محاش النساء عليكم حرام (¬8). ¬

(¬1) من كتابي «فقه السنة للنساء» ص (411). (¬2) صحيح البخاري (5080). (¬3) فتح الباري (9/ 121). (¬4) سورة البقرة: 223. (¬5) أصله في الصحيحين، وهذا لفظ الطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 419 بسند صحيح. (¬6) أحمد (5/ 213)، وابن ماجة (1924) وفي سنده اضطراب كما قال شيخنا - حفظه الله -. (¬7) النسائي في «العشرة» (116) وسنده حسن موقوفًا. (¬8) ابن أبي شيبة (3/ 530)، والدارمي (1/ 259) والطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 46) وسنده صحيح.

* تنبيه: المحرَّم إنما هو الجماع في الدبر، أما الاستمتاع بالإليتين بدون إدخال في الدبر فهذا جائز لا شيء فيه، والله أعلم. 4 - لا يجوز جماع المرأة في الفرج وهي حائض: وقد تقدم هذا في أبواب الحيض، وتقدم أن للرجل أن يصنع مع زوجته -وهي حائض- كل شيء إلا الجماع، فليراجع، وقد تقدم هناك أنه لا حرج في جماع المستحاضة. 5 - إذا وجد الرجل قوة فأراد أن يعود للجماع مرة أخرى فليتوضأ: لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ" (¬1). 6 - لا حرج على الزوجين في التجرد من الثياب عند الجماع: وقد سبق بيان هذا في "أحكام النظر"، وأنه لا حد للعورة بين الزوجين، وأما ما روي "إذا أتى أحدكم أهله، فلْيُلْقِ على عَجُزِه وعَجُزِها شيئًا، ولا يتجردا تجرُّد العَيْرين" (¬2). فهذا حديث منكر لا يصح، فرجع إلى ما قدمنا من الجواز والله أعلم. 7 - لا يجوز للمرأة أن تمتنع من جماع زوجها إذا طلبها: لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح" (¬3). 8 - إذا وقع نظر الرجل على امرأة فأعجبته فليأت زوجته: فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى زينب، وهي تمعس منيئة (¬4) لها فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، فقال: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فاذا أبصر أحدكم امرأة فليات أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه" (¬5). وفي رواية: "فإن معها مثل الذي معها". ¬

(¬1) صحيح مسلم (308) وتقدم. (¬2) النسائي في «العشرة» (143) وقال: هذا حديث منكر. (¬3) البخاري (5193)، ومسلم (1436). (¬4) أي تدلك الجلد لدباغته. (¬5) مسلم (1403)، وأبو داود (2151)، والترمذي (1158) والرواية له.

9 - لا يجوز لأحد الزوجين أن ينشر أسرار الجماع: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أشر الناس عند الله يوم القيامة، الرجل يُفضي إلى المرأة وتُفضي إليه ثم ينشر سرَّها" (¬1) لكن يجوز هذا لمصلحة شرعية كما كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ينشرن ذلك لبيان هديه صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت هناك مصلحة شرعية من ذكره فلا بأس والله أعلم. 10 - إذا قدم الرجل من سفر فلا يباغت لأهله بل يخبرهم بموعد رجوعه: حتى تستعد الزوجة بالتنظف والتطيب وتحسين هيئتها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قدم أحدكم ليلًا فلا يأتين أهله طروقًا، حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة" (¬2). 11 - يجوز جماع المرأة المرضع (الغِيلة): فعن عائشة عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغِيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم" (¬3). والغيلة: هي وطء المرضع، وقيل هي: أن ترضع وهي حامل. 12 - يُكره العزل (إنزال المني خارج الفرج): فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفي" {وإذا الموءودة سئلت} (¬4) (¬5). وعن جابر أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية لي وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لن يمنع شيئًا أراده الله" (¬6). وفي رواية: "اعزل إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها". وعن جابر قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" (¬7). ¬

(¬1) مسلم (1437)، وأبو داود (4870). (¬2) مسلم (715) وقد تقدم. (¬3) مسلم (1442). (¬4) سورة التكوير: 8. (¬5) مسلم (1442)، وأبو داود (3882)، والترمذي (2077)، والنسائي (6/ 106)، وابن ماجة (2011). (¬6) مسلم (1439). (¬7) البخاري (5208)، ومسلم (1440).

فدلت هذه النصوص على كراهة العزل، ولْيُعلم أنه ما من نفس كتب الله أن تخلق إلا خُلقت، عزل الرجل أو لم يعزل. * منع الحمل: وتنحصر وسائل منع الحمل في: العزل، والتعقيم الدائم، والتعقيم المؤقت (¬1). * فأما العزل فقد تقدم الكلام عليه، ويلحق به ما تتعاطاه المرأة لمنع الحمل مؤقتًا من الحبوب وغيرها، والأولى والأحوط اجتناب هذه الوسائل، إلا أننا نقول: إذا اقترن تعاطي هذه الحبوب ونحوها بنية عدم الحمل خشية ضيق الرزق أو الفقر فإنه يحرم، لأنه سوء ظن بالله تعالى الذي تكفل بالرزق للآباء والأبناء، قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} (¬2). وأما التعقيم وهو منع الحمل الدائم بإزالة المبيض أو الرحم ونحو ذلك فلا خلاف في حرمته، لأنه قضاء على النسل الذي أمر الشرع بالمحافظة عليه وتكثيره إلا أن تكون ضرورة قصوى بحيث يكون في عدم إزالة الرحم ونحوه خطرًا على الأم فإنه يباح حينئذٍ. * وأما التعقيم المؤقت فإن له حكم العزل بالضابط الذي تقدم التنبيه عليه، والله أعلم. * التلقيح الصناعي (¬3): * التلقيح الصناعي هو حصول الحمل بطريق غير الاتصال الجنسي المعروف. وهو جائز شرعًا إذا كان بماء الزوج، ودعت إليه داعية كأن يكون بأحد الزوجين الراغبين في إنجاب الأولاد مانع يمنع من الحمل من طريق الاتصال العادي، ومحرم شرعًا إذا كان بماء غير الزوج، لما فيه من معنى الزنا، والاختلاط في الأنساب، ونسبة الولد إلى أب لم ينشأ من مائه. والنسب في الحالة الأولى يكون ثابتًا من الزوج، فإنه ولده قد خلق من مائه، ولهذا الولد كل حقوق الأولاد، أما النسب في الحالة الثانية المحرمة فإنه يأخذ حكم نسب الولد الذي ينشأ من زنا الزوجة، ينفيه الزوج فينتفي نسبه (¬4). ¬

(¬1) «الفقه الواضح» د. محمد بكر إسماعيل (2/ 464 - 466). (¬2) سورة الإسراء: 31. (¬3) «الفقه الواضح» (2/ 264 - 266). (¬4) أحكام الأولاد في الإسلام (ص 13).

وقد نصت دار الإفتاء المصرية على جواز هذه العملية بالشروط والضوابط التي أشرنا إليها، مصدرة هذه الفتوى بإحدى عشرة قاعدة تعتبر غاية في الدقة، إليك بيانها: 1 - المحافظة على النسل من المقاصد الضرورية التي استهدفتها أحكام الشريعة الإسلامية ولذا شرع النكاح وحرم السفاح والتبني. 2 - الاختلاط بالمباشرة بين الرجل والمرأة هو الوسيلة الوحيدة لإفضاء كل منهما بما استكن في جسده لا يعدل عنها إلا لضرورة. 3 - التداوي جائز شرعًا بغير المحرم، بل قد يكون واجبًا إذا ترتب عليه حفظ النفس وعلاج العقم في واحد من الزوجين. 4 - تلقيح الزوجة بذات مني زوجها دون شك في استبداله أو اختلاطه بمني غيره من إنسان أو مطلق حيوان جائز شرعًا، فإذا ثبت ثبت النسب، فإن كان من رجل آخر غير زوجها فهو محرم شرعًا ويكون في معنى الزنا ونتائجه. 5 - تلقيح بويضة امرأة بمني رجل ليس زوجها، ثم نقل هذه البويضة الملقحة إلى رحم زوجة الرجل صاحب هذا المني- حرام ويدخل في معنى الزنا. 6 - أخذ بويضة الزوجة التي لا تحمل وتلقيحها بمني زوجها خارج رحمها (أنابيب) وإعادتها بعد إخصابها إلى رحم تلك الزوجة دون استبدال أو خلط بمني إنسان آخر أو حيوان لداع طبي، وبعد نصح طبيب حاذق مجرب بتعيين هذا الطريق - هذه الصورة جائزة شرعًا. 7 - التلقيح بين بويضة الزوجة ونطفة زوجها يجمع بينهما في رحم أنثى غير الإنسان من الحيوانات لفترة معينة يعاد بعدها الجنين إلى ذات رحم الزوجة -فيه إفساد لخليقة الله في أرضه ويحرم فعله. 8 - الزوج الذي يتبنى أي طفل انفصل، وكان الحمل به بإحدى الطرق المحرمة، لا يكون ابنًا له شرعًا، والزوج الذي يقبل أن تحمل زوجته من نطفة غيره، سواء بالزنا الفعلي أو بما في معناه - سماه الإسلام ديوثًا. 9 - كل طفل ناشئ بالطرق المحرمة قطعًا من التلقيح الصناعي، لا ينسب إلى أب جبرًا، وإنما ينسب لمن حملت به ووضعته باعتباره حالة ولادة طبيعية كولد الزنا الفعلي تمامًا.

10 - الطبيب هو الخبير الفني في إجراء التلقيح الصناعي أيًّا كانت صورته، فإن كان عمله في صورة غير مشروعة كان آثمًا وكسبه حرام وعليه أن يقف عند الحد المباح. 11 - إنشاء مستودع تستجلب فيه نطف رجال لهم صفات معينة، لتلقح بها نساء لهن صفات معينة - شر مستطير على نظام الأسرة، ونذير بانتهاء الحياة الأسرية كما أرادها الله. وعلى ضوء هذه القواعد جاءت الفتوى تدور في فلكها فراجعها إن شئت في كتاب الفتاوى المجلد التاسع 1403هـ-1983م، ص 3213 وما بعدها. اهـ. * الحقوق بين الزوجين (¬1): (أ) حقوق الزوج على زوجته: الأصل الذي بنيت عليه هذه الحقوق قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا} (¬2). فحق الرجل على زوجته عظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: "حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه" (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" (¬4). وطاعة المرأة لزوجها من موجبات دخول الجنة: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت" (¬5). فإذا كان الأمر كذلك فجدير بالمرأة المؤمنة أن تعرف حقوق زوجها عليها ومن ذلك: 1 - أن تطيعه فيما يأمرها: فعن حصين بن محصن عن عمته قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أذات ¬

(¬1) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص 418 - 437) مع شيء من الزيادة. (¬2) سورة النساء: 34. (¬3) صحيح: وقد تقدم تخريجه. (¬4) الترمذي (1159)، وابن حبان (1291)، والبيهقي (7/ 291) وهو صحيح لغيره. (¬5) صحيح: ابن حبان (4163) وهو صحيح.

زوج أنت؟ " قلت: نعم، قال: "فأين أنت منه؟ " قلت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: "فكيف أنت له، فإنه جنتك ونارك" (¬1). وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير النساء؟ قال: "التي تطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، وتحفظه في نفسها وماله" (¬2). * تنبيه: طاعة المرأة لزوجها ليست مطلقة فإنها مشروطة بما ليس فيه معصية لله تعالى، فإن أمرها زوجها بمعصية كأن تخلع حجابها أو تترك الصلاة أو أن يجامعها في حيضها أو في دبرها، فإنها لا تطيعه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" (¬3). 2 - أن تَقَرَّ في البيت، ولا تخرج إلا بإذنه: قال تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} (¬4). قال شيخ الإسلام: "لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه، ... وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة، عاصية لله ورسوله ومستحقة للعقوبة" (¬5). 3 - أن تعطيه إذا دعاها إلى الفراش: وقد تقدم هذا قريبًا في "آداب الجماع". 4 - أن لا تأذن لأحد أن يدخل بيته إلا بإذنه: فقد قال صلى الله عليه وسلم: " ... وإنَّ لكم ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه" (¬6). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تأذن المرأة في بيت زوجها وهو شاهد إلا بإذنه" (¬7). وهذا محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به وأما لو علمت رضا الزوج بذلك، فلا حرج عليها إن كان ممن يجوز له الدخول عليها، والله أعلم. ¬

(¬1) النسائي في «العشرة» (ص 106)، والحاكم (2/ 189)، والبيهقي (7/ 291)، وأحمد (4/ 341) وهو حسن. (¬2) النسائي (6/ 68) وهو صحيح وقد تقدم. (¬3) البخاري (7257)، ومسلم (1840). (¬4) سورة الأحزاب: 33. (¬5) «مجموع الفتاوى» (32/ 281). (¬6) صحيح مسلم (1218). (¬7) صحيح مسلم (1026).

5 - أن لا تصوم -صيام تطوع- وزوجها حاضر إلا بإذنه: لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للمرأة أن تصوم -وزوجها شاهد- إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه" (¬1). 6 - أن تُنفق من ماله إلا بإذنه: لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنْفِقُ امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها" (¬2). 7 - أن تقوم بخدمته وخدمة أولاده: فقد كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تخدم زوجها حتى اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى في يدها من الرحى (¬3). وقالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "كنت أخدم الزبير بن العوام [زوجها] خدمة البيت كله، وكان له فرس، وكنت أسوسه، وكنت أحتش له، وأقوم" وكانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له تبعد ثلثي فرسخ، أي عن بيتها (¬4). قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" (34/ 90، 91): "وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه فى مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن، والطعام لماليكه وبهائمه، مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة، وهذا القول ضعيف، كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء، فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب فى السفر الذى هو نظير الإنسان وصاحبه فى المسكن إن لم يعاونه على مصالحه لم يكن قد عاشره بالمعروف. وقيل -وهو الصواب-: وجوب الخدمة، فإن الزوج سيدها فى كتاب الله، وهى عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5)، وعلى العانى [أي: الأسير] والعبد الخدمة، ولأن ذلك هو المعروف، ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه ¬

(¬1) البخاري (5195)، والترمذي (782)، وابن ماجة (1761). (¬2) أبو داود (3565)، والترمذي (670)، وابن ماجة (2295) وسنده حسن. (¬3) صحيح: البخاري (5361)، ومسلم (2182). (¬4) البخاري (5224)، ومسلم (2182). (¬5) يعني حديث: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٍ عندكم» أخرجه مسلم (1218).

الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوَّع ذلك بتنوُّع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القويه ليست كخدمة الضعيفة" اهـ. قلت: وإلى هذا ذهب أبو ثور، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو إسحاق الجوزجاني من الحنابلة، بينما ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب على المرأة خدمة زوجها وينبغي على الزوج أن يوفِّر لها من يقوم بخدمة حوائجها (!!) قالوا: لأن المعقود من جهتها الاستمتاع فلا يلزمها غيره (¬1). قلت: القول بإيجاب إيجاب الخدمة عليها بالمعروف أولى، قال ابن القيم في "الزاد" (5/ 187 - 188): "واحتج من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه، وأيضًا: فإن المهر في مقابلة البُضْع، وكل من الزوجين يقضي وطره من صاحبه، فإنما أوجب الله سبحانه نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج. وأيضًا: فإن العقود المطلقة إنما تُنزَّل على العُرف، والعرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلية، وقولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرُّعًا وإحسانًا يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: لا خدمة عليها وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدًا، ولما رأى أسماء والعلف على رأسها، والزبير معه، لم يقل: لا خدمة عليها، وإن هذا ظلم لها، بل أقرَّه على استخدامها، وأقرَّ سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه أن منهنَّ الكارهة والراضية، هذا أمر لا ريب فيه". اهـ. وعلى كلٍّ لا شك أنه من التعاون على البر والتقوى، وهو مأمور به شرعًا. وليس معنى هذا أن لا يقوم الزوج بمساعدة زوجته في بعض ما تقوم به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأنف أن يقوم بذلك: فعن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -تعني في خدمتهم- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" (¬2). فعلى الزوج أن يراعي ظروف زوجته، فلا يرهقها ويحملها ما لا تستطيع. ¬

(¬1) «فتح القدير» (4/ 199)، و «المبسوط» (5/ 181)، و «الأم» (5/ 87)، و «المجموع» (18/ 256)، و «المغني» (7/ 21)، و «الإقناع» (4/ 139). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (676).

8 - أن تحفظه في عرضها وأولاده وماله: قال تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} (¬1). قال الطبري في "تفسيره": يعني: حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن، في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن في حق الله في ذلك وغيره. اهـ. وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في خير النساء: " ... وتحفظه في نفسها وماله" (¬2). 9 - أن تشكر له، ولا تجحد فضله، وتعاشره بالمعروف: فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه" (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: " ... ورأيت النار، لم أر كاليوم منظرًا قط، ورأيت أكثر أهلها النساء" قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن" قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط" (¬4). ولسنا نعني بالشكر: شكر اللسان فحسب، وإنما نقصد معه إظهاره السرور والراحة بالحياة في كنفه والقيام على أموره وأمور ولده، وخدمته وعدم التخلي عنه عنه (¬5)، وعدم الشكاية منه وغير ذلك. 10 - أن تتزين له وتتجمل: "فإن خير النساء من تسرك إذا نظرت" كما تقدم مرارًا. 11 - أن لا تَمُنَّ عليه إذا أنفقت عليه وعلى أولاده من مالها (¬6): فإن المن يبطل الأجر والثواب، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (¬7). ¬

(¬1) سورة النساء: 34. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) النسائي في «العِشرة» (249) وسنده صحيح. (¬4) البخاري (29)، ومسلم (884). (¬5) «الآداب الشرعية في المعاشرة الزوجية» لعمرو عبد المنعم (ص: 24) بتصرف يسير. (¬6) «الوجيز» (ص 308) بتصرف يسير. (¬7) سورة البقرة: 264.

12 - أن ترضى باليسير وتقنع به ولا تكلفه فوق طاقته (¬1): قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا} (¬2). 13 - أن لا تفعل ما يؤذيه ويغضبه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا" (¬3). 14 - أن تحسن معاملة والديه وأقاربه (¬4). 15 - أن تحرص على الحياة معه فلا تطلب الطلاق لغير سبب شرعي: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" (¬5). 16 - أن تحد عليه إذا مات أربعة أشهر وعشرًا: وقد تقدم هذا في "الجنائز". (ب) حقوق الزوجة على زوجها: وهي حقوق مالية كالمهر -وقد تقدم- والنفقة. وحقوق غير مالية، ومن هذه الحقوق: 1 - حسن العشرة مع الزوجة: والمراد به: إحسان الصحبة، وكف الأذى، وعدم مطل الحقوق مع القدرة، وإظهار البشر والطلاقة والانسباط. والأصل في هذا قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} (¬6). وقوله سبحانه: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (¬7). ¬

(¬1) «الوجيز» (ص 308) بتصرف يسير. (¬2) سورة الطلاق: 7. (¬3) الترمذي (1184)، وابن ماجة (2014) بسند حسن. (¬4) انظر كتابي «250 خطأ من أخطاء النساء» (ص: 102). (¬5) الترمذي (1199)، وأبو داود (2209)، وابن ماجة (2055) وهو صحيح. (¬6) سورة النساء: 19. (¬7) سورة البقرة: 228.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (¬1). وحسن العشرة لفظ جامع ترجع إليه جميع الحقوق، فما سنذكره بعد ذلك إنما هو جزء من حسن العشرة، وإنما نفرده لمزيد العناية به، ومن ذلك: 2، 3، 4 - النفقة، والكسوة، والسُّكنى، بالمعروف: أما النفقة: فالمراد بها ما ينفقه الزوج على زوجته وأولاده من طعام وكسوة وسكنى ونحو ذلك، ونفقة الزوجة واجبة على الزوج بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول (¬2): - أما الكتاب فمن ذلك: 1 - قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} (¬3). 2 - وقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (¬4). قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن، من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره" اهـ. - وأما السنة فمنها: 1 - حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (¬5). 2 - وحديث معاوية القشيري رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ ... قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت" (¬6). ¬

(¬1) الترمذي (3892)، وابن حبان (1312) وهو صحيح. (¬2) «ابن عابدين» (3/ 886)، و «البدائع» (4/ 15)، و «بداية المجتهد» (2/ 94)، و «مغني المحتاج» (3/ 426)، و «المغني» (7/ 563)، و «روضة الطالبين» (9/ 40). (¬3) سورة الطلاق: 7. (¬4) سورة البقرة: 233. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1218). (¬6) حسن: أخرجه أبو داود (2142)، وابن ماجة (1850)، وأحمد (4/ 447)، والنسائي في «العشرة» (269).

3 - وحديث عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطينى وولدى إلا ما أخذتُ وهو لا يعلم، قال: "خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬1). - وأما الإجماع، فقد ذكر غير واحد من أهل العلم اتفاقهم على وجوب نفقة الزوجة على زوجها -إذا كان بالغًا- إلا الناشز. - وأما المعقول: فإن المرأة محبوسة على الزوج، يمنعها من التصرف والاكتساب لتفرغها لحقه، فكان عليه أن ينفق عليها. * سبب وجوب النفقة: ذهب الحنفية إلى أن سبب وجوب النفقة على الزوج: حبس المرأة عليه، وقال الجمهور: سبب وجوب النفقة: الزوجية، أي: كونها زوجة (¬2). * شروط وجوب النفقة: اشترط الجمهور لإيجاب النفقة للزوجة على زوجها شروطًا، قبل الدخول، وبعده (¬3). * الشروط قبل الدخول: 1 - أن تمكنه من الدخول بها: بأن تدعوه -بعد العقد- إلى الدخول بها، فإن لم تفعل أو امتنعت من الدخول بغير عذر فلا نفقة عليه. 2 - أن تكون الزوجة مطيقة للوطء: بأن لا تكون صغيرة أو بها مانع من الوطء. 3 - أن يكون الزواج صحيحًا: فإن كان فاسدًا، فلا نفقة لها على الزوج، ولا يمكن اعتبار الزوجة محبوسة على الزوج، لأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح، ولا يستحق في مقابلته بالاتفاق. * الشروط بعد الدخول: 1 - أن يكون الزوج موسرًا: فلو كان معسرًا لا يقدر على النفقة، فلا نفقة عليه مدة إعساره، لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته .... لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها} (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714). (¬2) «البدائع» (4/ 16)، و «مغني المحتاج» (3/ 425)، و «المغني» (7/ 564). (¬3) «البدائع» (4/ 18)، و «مغني المحتاج» (3/ 435)، و «المغني» (7/ 601)، و «بداية المجتهد» (2/ 94). (¬4) سورة الطلاق: 7.

2 - أن تكون محبوسة عليه (تكون غير ناشز): فإذا خرجت عن طاعته فلا نفقة لها. * فائدة: الزوجة العاملة أو الموظفة، هل لها نفقة؟ إذا كانت المرأة تعمل خارج بيتها (في عمل مباح!!) فإن كان برضا الزوج ولم يمنعها فإنه تجب لها النفقة، لأن الاحتباس عليه حقه، فله أن يتنازل عنه، فإن لم يرض ومنعها من الخروج فخرجت للعمل، سقط حقها في النفقة، لأن الاحتباس في هذه الحالة ناقص (¬1). * تقدير النفقة الواجبة: الأصل في هذا قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ...} (¬2). وقوله سبحانه {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (¬3)، وقوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬4). فالمعتبر إذن: 1 - الكفاية للزوجة والأولاد بالمعروف، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأحوال والأمكنة والأزمنة. 2 - استطاعة الرجل وسعته. وقد أطال الفقهاء -رحمهم الله- في تحديد القدر الواجب في النفقة، وفصلوا في ذلك بما نراه مبنيًّا على أعراف زمانهم (¬5)، وكذلك في مسألة النفقة: هل المعتبر فيها حال الزوج أو الزوجة أو حالهما؟ والصحيح الذي دلت عليه النصوص القرآنية المتقدمة أن المعتبر -في اليسار والإعسار- حال الزوج، وهو مذهب المالكية والشافعية (¬6). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (2/ 891). (¬2) سورة الطلاق: 7. (¬3) سورة البقرة: 236. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) انظر «البدائع» (4/ 23)، و «ابن عابدين» (2/ 886)، و «القوانين الفقهية» (221)، و «بداية المجتهد» (2/ 95)، و «مغني المحتاج» (3/ 426)، و «المغني» (7/ 564 - 571). (¬6) «الشرح الصغير» (2/ 731 - وما بعدها)، و «المغني» (7/ 564 - 571).

* هل يلزم الزوج بنفقة علاج زوجته؟ مذهب الأئمة الأربعة أن الزوج لا يجب عليه نفقة علاج زوجته وتداويها (¬1)!! لكن الظاهر أن مبنى هذا القول على أن المداواة -في الماضي- لم تكن من الحاجات الأساسية ولم تكن تكثر الحاجة إليها، "أما الآن فقد أصبحت الحاجة إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم، لأن المريض يفضل -غالبًا- ما يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوَّجع من الآلام والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟! لذا فإنا نرى وجوب نفقة الدواء على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية، وكما تجب على الوالد نفقة الدواء اللازم للولد بالإجماع، وهل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته حال الصحة، ثم يردَّها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!! " اهـ (¬2). * وأما الكسوة: فقد أجمع أهل العلم على أنه تجب الكسوة للزوجة على زوجها إذا مكنته من نفسها على الوجه الواجب عليها، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (¬3). ولما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث جابر-: " ... ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (¬4). ولأن الكسوة لابد منها على الدوام، فلزمته كالنفقة، كما أجمعوا على أنه يجب أن تكون الكسوة كافية للمرأة، وأن هذه الكفاية تختلف باختلاف طولها وقصرها وسمنها وهزالها وباختلاف البلاد التي تعيش فيها في الحر والبرد (¬5). * فائدة: لو كساها الزوج ثم طلقها أو مات أو ماتت قبل أن تبلى الثياب، فهل يسترجعها؟ إذا استلمت المرأة نفقتها المفروضة ثم طلقها الزوج أو توفي عنها أو توفيت، ¬

(¬1) «ابن عابدين» (2/ 889)، و «الدسوقي» (2/ 511)، و «مغني المحتاج» (3/ 431)، و «كشاف القناع» (5/ 536). (¬2) «الفقه الإسلامي وأدلته» د. وهبة (7/ 794 - 795). (¬3) سورة البقرة: 233. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1218) وقد تقدم. (¬5) «البدائع» (4/ 24)، و «ابن عابدين» (2/ 645 - 654)، و «جواهر الإكليل» (1/ 403)، و «روضة الطالبين» (9/ 47).

فلا يجوز للزوج ولا لورثته استرجاعها في أصحِّ قولي العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والأصح عند الشافعية ووجه عند الحنابلة (¬1). لأنه وفَّاها ما عليه ودفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه، فلم يكن له الرجوع فيها. ولأنها صلة فأشبهت الهبة، ولا يجوز الرجوع في الهبة في حال وفاة الواهب أو الموهوب. * وأما السُّكنى: فهي واجبة للزوجة على زوجها بالاتفاق: 1 - لأن الله تعالى جعل للمطلقة الرجعية السكنى على زوجها، فوجوب السكنى للتي هي في صُلب النكاح أولى. قال الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (¬2). 2 - ولأن الله تعالى أوجب المعاشرة بالمعروف بين الأزواج بقوله: {وعاشروهن بالمعروف} (¬3). ومن المعروف المأمور به أن يُسكنها في مسكن تأمن فيه على نفسها ومالها. 3 - كما أن الزوجة لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون والاستمتاع وحفظ المتاع فلذلك كانت السكنى حقًا لها على زوجها (¬4). * صفة المسكن الشرعي: المعتبر في المسكن الشرعي للزوجة هو سعة الزوج وحال الزوجة، قياسًا على النفقة باعتبار أن كلًّا منهما حق مترتب على عقد الزواج. ولقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث من وجدكم} وقوله سبحانه: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} (¬5). فالواجب يكون بقدر حال المنفعة يسرًا وعسرًا وتوسطًا فكذلك السكنى، وهو مذهب الجمهور. وقال الشافعية: المعتبر في المسكن الشرعي هو حال الزوجة فقط، على خلاف قولهم في النفقة!! ¬

(¬1) «ابن عابدين» (2/ 660)، و «جواهر الإكليل» (1/ 404)، و «روضة الطالبين» (9/ 55)، و «المغني» (7/ 572). (¬2) سورة الطلاق: 6. (¬3) سورة النساء: 19. (¬4) «البدائع» (4/ 15)، و «تحفة المحتاج» (7/ 443)، و «الفرع» لابن مفلح (5/ 577). (¬5) سورة الطلاق: 7.

قالوا: لأن الزوجة ملزمة بملازمة السكن، فلا يمكنها إبداله، فإذا لم يعتبر حالها فذلك إضرار بها، والضرر منهي عنه شرعًا، أما النفقة فيمكنها إبدالها (¬1). قلت: ومذهب الجمهور أولى للآيات المتقدمة، والله أعلم. * فوائد: 1 - سكنى الزوجة مع أهل الزوج (¬2): والمراد بهم هنا: الوالدان وولد الزوج من غير الزوجة. فذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) إلى أنه لا يجوز الجمع بين الأبوين (أو غيرهما من الأقارب) والزوجة في مسكن واحد، ويكون للزوجة الامتناع عن السكنى مع واحد منهما إلا أن تختار هي ذلك، لأن السكنى من حقها فليس له أن يُشرك غيرها فيه، ولأنها تتضرر بذلك. وأما المالكية ففرقوا بين الزوجة الشريفة (ذات القدر) والوضيعة، فمنعوا جمع الشريفة مع أبويه، وأجازوه في الوضيعة إلا أن يكون فيه ضرر عليها. وأما جمع الزوجة وولد الزوج في مسكن واحد: فإن كان كبيرًا يفهم الجماع، لم يجز باتفاق الفقهاء، لما فيه من الضرر بها، وهو حقها فيسقط برضاها. وإن كان ولد الزوج صغيرًا لا يفهم الجماع: فإسكانه معها جائز وليس لها حق الامتناع من السكنى معه. 2 - سكنى أهل الزوجة مع الزوج (¬3): ليس للمرأة أن تُسكن أحدًا من محارمها في منزل زوجها، وللزوج أن يمنعها من إسكانهم معها، إلا أن يرضى فلا حرج حينئذٍ. وأما ولدها من غير الزوج، فلا يجوز لها إسكانه معها بغير رضا الزوج كذلك عند الجمهور، وقيَّد المالكية المنع بما إذا كان الزوج عالمًا به وقت البناء، فإن كان يعلم به ولم يكن له حاضن فليس له منعها من إسكانه معها عندهم. 3 - هل تُجمع الزوجات في بيت واحد؟ اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الجمع بين امرأتين في مسكن واحد، لأن ذلك ¬

(¬1) «البجيرمي على المنهج» (2/ 102)، و «مغني المحتاج» (3/ 432). (¬2) «البدائع» (4/ 24)، «حاشية الدسوقي» (2/ 474)، و «مغني المحتاج» (3/ 430). (¬3) «البحر الرائق» (4/ 210)، و «نهاية المحتاج» (7/ 597)، و «كشاف القناع» (3/ 117).

ليس من المعاشرة بالمعروف، ولأنه يؤدي إلى الخصومة التي نهى الشارع عنها، ولأن كل واحدة منهما قد تسمع حسَّه إذا أتى الأخرى أو ترى ذلك، مما يثير بينهما العداوة والغيرة ونحو ذلك. ومنع الجمع بين امرأتين في مسكن واحد حق خالص لهما، فيسقط برضاهما عند الجمهور (¬1). قلت: الأصل أن يجعل لكل زوجة منهن بيتًا كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ...} (¬2). فذكر سبحانه أنها بيوت ولم تكن بيتًا واحدًا، لكن إذا رضيتا بذلك جاز، لأن الحق لهما، فلهما المسامحة بتركه، والله أعلم (¬3). * تنبيه: سيأتي مزيد بيان لبعض مسائل النفقة والسكنى في أبواب عدة المطلَّقة إن شاء الله. 5 - التلطف بالزوجة وملاعبتها وتقدير صغر سِنِّها: وليكن لهذا الزوج في رسول الله الأسوة الحسنة، فعن عائشة قالت: "كان الحبش يلعبون، فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو" (¬4). ويسابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها ويقول لها: "تعالي أسابقك" فتسبقه، ثم يسابقها بعد أن بدنت وحملت اللحم فيسبقها ويضحك ويقول: "هذه بتلك" (¬5). وقالت عائشة: "كنت ألعب بالبنات [العرائس من القطن] عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إليَّ فيلعبن معي" (¬6). فأي حلم بعد هذا مع الزوجة!! (¬7). ¬

(¬1) «فتح القدير» (4/ 207)، و «مواهب الجليل» (4/ 13)، و «نهاية المحتاج» (7/ 186)، و «كشاف القناع» (5/ 196)، و «الفروع» (5/ 324). (¬2) سورة الأحزاب: 53. (¬3) انظر كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 440) ط. التوفيقية. (¬4) البخاري (5190)، ومسلم (892). (¬5) مسند أحمد (6/ 264) بسند صحيح. (¬6) البخاري (6130)، ومسلم (2440). (¬7) «فقه التعامل بين الزوجين» لشيخنا مصطفى العدوي - أثابه الله - (ص 41).

5 - أن يَسْمُر مع زوجته يُحدِّثها ويستمع إلى حديثها: فهذا النبي صلى الله عليه وسلم مستمعًا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي تقص عليه حديث النسوة اللاتي جلسن وتعاقدن أن لا يكتمن من خبر أزواجهن شيئًا وهو حديث أم زرع وهو حديث طويل، ومع ذلك لا يملُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة وهي تقصُّه عليه. وها هو الحديث أذكره مع بعض فوائده (¬1): قالت عائشة رضي الله عنها: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبارهن شيئًا. قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث (¬2) على رأس جبل (¬3) لا سهل (¬4) فيُرتقى (¬5) ولا سمين (¬6) فيُنتقل (¬7). قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره (¬8) إني أخاف أن لا أَذَرَه (¬9) إن أذكرهُ أذكر ¬

(¬1) السابق ص (43 - 55) والحديث عند البخاري (5189)، ومسلم (2448). (¬2) الغث: الهزيل النحيف الضعيف. (¬3) في رواية: على رأس جبل وعر. (¬4) أي: الجبل ليس بسهل، والمعنى: أن صعوده شاق لوعورته. (¬5) يُرتق أي: يُصعد عليه. (¬6) المراد: اللحم. (¬7) يُنتقل، أي: يتحول. والمعنى الإجمالي لقولها - والله أعلم - أنها شبهت زوجها بلحم الجمل الضعيف الهزيل، وهذا اللحم رغم أنه لحم جمل ضعيف هزيل فهو موضوع على قمة جبل وعر يصعب الصعود إليه، فالجبل ليس بسهل للارتقاء واللحم ليس بسمين يستحق مكابدة المشاق. وتنزيل هذا على الزوج كالتالي: أنها تذم زوجها فتقول: إن لحمه كلحم الإبل ليس كلحم الضأن الطيب، والمعنى: أنها لا تستمتع بزوجها ذلك الاستمتاع المطلوب فهو رجل ضعيف لحمه غير جيد، وكأنها تصف مضاجعته لها، تعني: أنني إذا استمتعت منه بشيء فكأني آكل لحم الجمل الهزيل وهو مع هذه الحالة من الهزال والضعف خُلقه سيئ فلا أحد يعرف كيف يتكلم معه ولا كيف يتخاطب معه ولا يصل إليه لسوء خلقه، وحتى إذا وصلت إليه بعد مكابدتي المشاق فماذا عَساي أن أحصل منه، إنني بعد هذا الجهد للوصول إليه لا أجد شيئًا يستحق أن آخذه وأنتقل به واستمتع به، والله أعلم. (¬8) أبث معناها: أنشر. (¬9) أذره: أتركه، والمعنى: أترك خبره.

عُجَرَهُ (¬1) وَبُجَرَه (¬2). قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق (¬3) إن أنطق أطلَّق وإن أسكت أعلَّق (¬4). قالت الرابعة: زوجي كليل تهامةَ (¬5) لا حَرٌّ ولا قَرٌّ ولا مخافة ولا سآمة (¬6). قالت الخامسة: زوجى إن دخل فَهِد (¬7)، وإن خرج أَسِدَ (¬8)، ولا يَسألُ عما عَهِد (¬9). ¬

(¬1)، (1) عُجره وبُجره: العُجر هي العروق والأعصاب التي تنتفخ وتظهر في الوجه والجسد عند الغضب أو عند الكبر، والبُجر مثلها إلا أنها محتصة بالبطن. والمعنى الإجمالي - والله أعلم - أن المرأة تشير إلى أن زوجها مليء بالعيوب، فهي تقول إنني إذا تكلمت فيه ونشرت أخباره أخشى أن استمر في الحديث ولا انتهى لكثرة ما فيه من شرور وانفعالات، وماذا أذكر من زوجي إن ذكرت منه شيئًا فالذي أذكره هو العُقد الموجودة في وجهه وانتفاخ أوداجه والنتوء الظاهرة في عروق البطن والجسد، هذا الذي أذكره منه. ومن العلماء من قال: إن معنى قولها إني أخاف أن لا أذره أي: أخاف أن لا أتحمل مفارقته فإنه إذا بلغه أنني تكلمت فيه طلقني فأخشى من مفارقته لوجود أولادي وعلاقتي به، والأول أولى، والله أعلم. (¬2) (¬3) العَشَنَّق: هو الطويل المذموم الطول، وقيل: هو السيئ الخُلق، وقيل: هو النجيب الذي يملك أمر نفسه ولا تتحكم فيه النساء، وقيل عكس ذلك، أنه الأهوج الذي لا يستقر على حال. (¬4) أما قولها: إن أنطق أُطلق وإن أسكت أعلق: فمعناه - والله أعلم - إذا تكلمت عنده وراجعته في أمر طلقني وإن سكَتُّ على حالي لم يلتفت إليَّ وتركني كالمعلقة التي لا زوج لها ولا هي أيم، فلا زوج عندها ينتفع به ولا هي أيم تبحث عن زوج لها، والله أعلم. (¬5) قولها: كليل تهامة، أما تهامة فبلاد تهامة المعروفة، والليل في هذه البلاد معتدل والجو فيها طيب لطيف، فهي تصف زوجها بأنه لين الجانب هادئ الطبع رجل لطيف. (¬6) مخافة: من الخوف، والسآمة من قولهم: سأم الرجل، أي: ملَّ وتعب، والمعنى أنني أعيش مع زوجي آمنة مطمئنة مرتاحة البال لست خائفة ولا أملُّ من معيشته معي، وحالي عنده كحال أهل تهامة وهم يستمتعون بلذة ليلهم المعتدل وجو بلادهم اللطيف. (¬7) فهد بفتح الفاء وكسر الهاء وفتح الدال من الفهد المعروف، أي فيه من خصال الفهد. (¬8) أسَد بفتح الألف وكسر السين وفتح الدال من الأسد، أي فيه من خصال الأسد. (¬9) هذا الوصف الذي وصفت به المرأة زوجها محتمل احتمالين: إما المدح وإما الذم. أما المدح فله وجوه، أحدها: أنها تصف زوجها بأنه فهد لكثرة وثوبه عليها وجماعه لها فهي محبوبة عنده لا يصبر إذا رآها، أما هو في الناس إذا خرج فشجاع كالأسد. وقولها: لا يسأل عما عهد أي: أنه يأتينا بأشياء من طعام وشراب ولباس ولا يسأل أين ذهبت هذه، ولا تلك. والوجه الثاني للمدح أنه إذا دخل البيت كان كالفهد في غفلته عما في البيت من خلل وعدم مؤاخذته لها على القصور الذي في بيتها، وإذا خرج في الناس فهو شجاع مغوار كالأسد، ولا يسأل عما عهد، أي أنه يسامحها في المعاشرة على ما يبدو منها من تقصير. أما الذم فهي تصف زوجها بأنه إذا دخل كان كالفهد في عدم مداعبته لها قبل المواقعة، وأيضًا سيئ الخلق يبطش بها ويضربها ولا يسأل عنها، فإذا خرج من عندها وهي مريضة ثم رجع لا يسأل عنها ولا عن أحوالها ولا عن أولاده، والله أعلم.

قالت السادسة: زوجى إن أكل لَفَّ (¬1)، وإن شرب اشتفَّ (¬2)، وإن اضطجع التفَّ (¬3)، ولا يُولجُ الكفَّ ليعلم البثَّ (¬4). قالت السابعة: زوجى غَيَاياء (¬5) -أو: عَيَاياء (¬6) - طباقاء (¬7) كلُّ داء لهُ داءٌّ، شَجَّكِ (¬8) أو فَلَّكِ (¬9) أو جَمَع كُلًّا لكِ. قالت الثامنة: زوجى المسُّ مسُّ أرنَب (¬10)، والريح ريحُ زرْنب (¬11). قالت التاسعة: زوجى رفيعُ العماد (¬12)، طويل النِّجاد (¬13)، عظيم ¬

(¬1) أي: مر على جميع ألوان الطعام التي على السفرة فأكل منها جميعًا. (¬2) اشتف أي: شرب الماء عن آخره. (¬3) أي: التف في اللحاف والفراش وحده بعيدًا عني. (¬4) لا يدخل يده إلى جسدي ويرى ما أنا عليه من حال وأحزان، فهي تصف زوجها بما يُذم به الرجل وهو كثرة الأكل والشرب وقلة الجماع، والله أعلم. (¬5)، (6) الغياياء هو الأحمق، والعياياء (من العي) الذي لا يستطيع جماع النساء. (¬6) طباقاء بلغ الغاية في الحمق. (¬7) شجَّك أي: إذا كلمتيه شجَّك والشج هو الجرح في الرأس. (¬8) والفلول هي الجروح في الجسد، والمعنى: إذا راجعته في شيء ضربني على رأسي فكسرها أو على جسدي فأدماه أو جمعهما لي معًا، أي جمع لي الضرب على الرأس (الذي هو الشج) مع جراح الجسد (الفلول)، والله أعلم. (¬9) (¬10) قولها: المس مس أرنب، أي: أن زوجها إذا مسته وجدت بدنه ناعمًا كوبر الأرنب، وقيل: كَنَّت بذلك عن حسن خلقه ولين عريكته بأنه طيب العرق لكثرة نظافته واستعماله الطيب تظرفًا. وفي رواية: أنا أغلبه والناس يغلب. (¬11) الزرنب نبت له ريح طيب، فهي تصف زوجها بحسن التجمل والتطيب لها، والله أعلم. (¬12) رفيع العماد تعني: أن بيته مرتفع كبيوت السادة والأشراف حتى يقصده الأضياف. (¬13) طويل النجاد: النجاد هو حمالة السيف، كجراب السيف تصفه بالجرأة والشجاعة.

الرماد (¬1)، قريب البيت من الناد (¬2). قالت العاشرة: زوجى مالك (¬3) وما مالك، مالكٌ خيرٌ من ذلك (¬4)، له إبلٌ كثيرات المبارك قليلاتُ المسارح (¬5)، وإذا سمعن صوتَ المزْهر (¬6) أيقنَّ أنهن هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجى أبو زرع فما أبو زرع، أناس (¬7) من حُلىٍّ أذنىَّ، وملأ من شحم عضُديَّ (¬8)، وبجَّحنى فَبَجحَتْ (¬9) إليَّ نفسى، وجدنى فى أهل غُنَيمة بشقٍّ (¬10)، فجعلنى فى أهل صهيل (¬11) وأَطيط (¬12) ودائس (¬13) ومُنق (¬14) ¬

(¬1) المراد بالرماد الحطب الذي نشأ عن إيقاد النار في الخشب والحطب، وكونه عظيم الرماد يدل على أنه كريم يكثر الأضياف من المجيء إليه فيكثر من الذبح والطهي لهم فيكثر الرماد لذلك، وهو أيضًا كريم في أهله. (¬2) قريب البيت من الناد أي: من النادي، فالناس يذهبون إليه في مسائلهم ومشاكلهم، فالمعنى أنها تصفه بالسيادة والكرم وحسن الخلق وطيب المعاشرة، والله أعلم. (¬3) زوجها اسمه مالك. (¬4) أي: خيرٌ من المذكورين جميعًا. (¬5) أي: أن من الإبل من يسرح ليرعى، وكثير منها يبقى بجواره استعدادًا لإكرام الضيف بذبحها. (¬6) المزهر آلة كالعود - على ما قاله بعض العلماء - يُضرب به لاستقبال الأضياف والترحيب بهم. والمعنى: أن الإبل إذا سمعت صوت المزهر علمن أن هناك أضيافًا قد وصلوا، فإذا وصل الأضياف أيقنت الإبل أنها ستذبح، والله أعلم. (¬7) أناس من النوس وهو الحركة، والمعنى حرك أذني بالحلي، والمعني أيضًا: أكثر في أذني من الحلي حتى تدلى منها واضطرب وسمع له صوت. (¬8) أي: أن عضديها امتلأت شحمًا. (¬9) بجحني، أي: عظمني وجعلني أتبجح فعظمت إليَّ نفسي وتبجحت. (¬10) بشق، قيل: هو مكان وقيل: شق جبل، والمعنى وجدني عندما جاء يتزوجني أعيش أنا وأهلي في فقر وفي غنيمات قليلة نرعاها بشق الجبل. (¬11) أي: صهيل الخيول. (¬12) أطيط أي: إبل، أي أنها أصبحت في رفاهية بعد أن كانت في ضنك من العيش. (¬13) الدائس هو ما يُدلس، وهي القمح الذي يداس عليه ليخرج منه الحبُّ ويفصل عنه التبن كما يفعل الآن في بعض بلاد الريف يرمون القمح في طريق السيارات كي تدوسه فتفصل بين الحب والتين، وكان الدائس في زمان السلف هي الدواب. (¬14) المُنق هو الذي له نقيق، قال بعض العلماء: هو الدجاج. والمعنى: أنها أصبحت في ثروة واسعة من الخيل والإبل والزرع والطيور وغير ذلك.

، فَعِنْدَه أقول فلا أقبَّح (¬1)، وأرقُدُ فَأَتَصَبَّحُ (¬2)، وأشرب فأتقنَّح (¬3). أم أبى زرع، فما أم أبى زرع؟ عكومها (¬4) رَدَاحٌ (¬5)، وبيتها فساحٌ. ابن أبى زرع، فما ابن أبى زرع؟ مضجعه كمسلِّ شَطْبَة (¬6). ويُشبعه ذراع الجَفْرة (¬7). بنتُ أبى زرع، فما بنتُ أبى زرع؟ طوعُ أبيها، وطوعُ أمها، وملءُ كِسائها (¬8)، وغيظُ جارتها (¬9). جارية أبى زرع، فما جارية أبى زرع؟ لا تَبُثُّ (¬10) حديثَنا تَبثيثًا، ولا تُنَقَّثُ (¬11) مِيراثنا (¬12) تنقيثًا، ولا تملأ بيتنا تعشيشًا (¬13). ¬

(¬1) أي: لا يقبح قولي ولا يرده بل أنا مُدللة عنده. (¬2) أي: أنام إلى الصباح لا يوقظني أحدٌ لعمل بل هناك الخدم الذين يعملون لي الأعمال فلا يقول لي: قومي جهزي طعام ولا اعلفي دابة ولا هيئي المركب بل هناك من الخدم من يكفيني ذلك. (¬3) أتقَّنح أي: أشرب حتى أرتوي، وقيل: أشرب على مهل لأني لا أخشى أن ينتهي اللبن فهو موجود دائمًا. (¬4) العكوم هي الأعدال والأحمال التي توضع فيها الأمتعة. (¬5) رداح أي: واسعة عظيمة. والمعنى: أنها وصفت والدة زوجها بأنها كثيرة الآلات والأثاث والمتاع والقماش، وبيتها متسع كبير ومالها كثير تعيش في خير كثير وعيش رغيد وفير. (¬6) الشطبة: هي سعف الجريد الذي يشق فيؤخذ منه قضبان رقاق تنسج منه الحصر، والمسل هي العود الذي سُلَّ (أي: سُحب) من هذه الحصيرة. تعني: أن المضجع الذي ينام فيه الولد الصغير، قدر عود الحصير الذي يسحب من الحصيرة، أي: أن الولد لا يشغل حيزًا كبيرًا في البيت. أما الحافظ بن حجر - رحمه الله - فقال: «فتح الباري» 9/ 179): ويظهر لي أنها وصفته بأنه خفيف الوطأة عليها، لأن زوج الأب غالبًا يستثقل ولده من غيرها فكان هذا يخفف عنها، فإذا دخل بيتها فاتفق أنه قال فيه: (أي: نام فيه) مثلًا لم يضطجع إلا قدر ما يسل السيف من غمده ثم يستيقظ؛ مبالغةً في التخفيف عنها. (¬7) الجفرة هي: الأنثى من الماعز التي لها أربعة أشهر. وتعني: أن الولد ليس بكثير الطعام ولا الشراب. (¬8) أي: أن جسمها ممتلئ آتاها الله بسطة فيه. (¬9) قيل: جارتها: ضرتها، وقيل: جارتها على الحقيقة. (¬10) لا تبث أي: لا تنشر ولا تُظهر. (¬11) أي: لا تخولنا فيه ولا تسرق منه. (¬12) في رواية: ميرتنا، والمعنّي بها الطعام. (¬13) أي: أنها نظيفة وتنظف البيت فلا تترك البيت قذرًا دنسًا مليئًا بالخرق ومليئًا بما لا فائدة فيه. ومعنى آخر: أنها لا تدخل على بيتنا شيئًا من الحرام وأيضًا لا تترك الطعام يفسد.

قالت: خرج أبو زرع والأوطابُ تَمْخَضُ (¬1)، فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين (¬2) يلعبان من تحت خصرها برمانتين (¬3)، فطلقنى ونكحها، فنكحت بعده رجلًا سَريًّا (¬4)، ركب شريًّا (¬5)، وأخذ خطيًّا (¬6)، وأراح (¬7) عليَّ نعمًا ثريًّا (¬8)، وأعطانى من كل رائحة (¬9) زوجًا وقال: كُلى أمَّ زرع وميرى (¬10) أهلك، قالت: فلو جمعت كل شىء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبى زرع (¬11)، قالت عائشة: قال رسول الله ¬

(¬1) الأوطاب: هي قدور اللبن وأوعيته، وتمخض أي: تُخضُّ كي يستخرج منها الزبد والسمن. ومن أهل العلم من قال: إنه خرج من عندها وهي تمخض اللبن فكانت متعبة فاستلقت فرآها متعبة فكأنه زهد فيها. (¬2) أي: أنه سُرَّ بالوالدين وأُعجب بهما ومن ثمَّ أحب أن يرزق منها بالولد. (¬3) ذكر بعض أهل العلم أن معناه أن إليتيها عظيمتان فإذا استلقت على ظهرها ارتفع جسمها الذي يلي إليتيها من ناحية ظهرها عن الأرض حتى لو جاء الطفلان يرميان الرمانة من تحتها مرت الرمانة من تحت ظهرها وذلك من عظم إليتيها. وقال آخر أن الطفلين يلعبان وهما مجاورين لها، ومنهم من حمل الرمانتين على ثدييها، ودلَّل بذلك على صغَر سنها أي أن ثديها لم يتدل من الكبر. (¬4) سريًّا أي: من سراة الناس وهم كبراؤهم في حسن الصورة والهيئة. (¬5) شريًّا أي: فرسًا جيدًا خيارًا فائقًا يمضي في سيره بلا فتور. (¬6) هو الرمح الخطي أي: الذي يجلب من موضع يقال له: الخط، وهو موضع بنواحي البحرين كانت تجلب منه الرماح. (¬7) أراح أي: أتى بها إلى المراح وهو موضع الماشية، أو رجع إليَّ (عند رواحه). (¬8) الثرى: هو المال الكثير من الإبل وغيرها. (¬9) في رواية (ذابحة)، المعنى: أعطاني من كل شيء يذهب ويروح صنفين فمثلًا الإبل والغنم والبقر والعبيد وغيرها تروح فكل شيء يروح (أو كل شيء يذبح) أعطاني منه بدلًا من الواحد اثنين أو أعطاني منه صنفًا. (¬10) الميرة هي الطعام، زمنه قول إخوة يوسف - عليهم السلام -: {ونمير أهلنا} [يوسف: 65] أي: نجلب لهم الميرة، والمراد أنه قال لها: صليهم وأوسعي عليهم بالمبرة. فهذه المرأة وصفت زوجها بالسيادة والشجاعة والفضل والجود والكرم فهو رجل يركب أفضل الفرسان ويخرج غازيًا معه سهمٌ جيد من أجود السهام فيرجع منتصرًا غانمًا الغنيمة فيُدخل عليَّ من كل نوع مما يُذبح زوجًا ولا يضيق عليَّ في الإهداء وصلة أهلي بل يقول: كُلي يا أم زرع وصلي أهلك وأكرميهم. (¬11) من العلماء من قال: إن الذي يجمعه هذا الزوج من الغزوة إذا قُسم على الأيام حتى تأتي الغزوة الثانية كان نصيب كل يومٍ من الأيام لا يملأ أصغر إناء من آنية أبي زرع. والذي يظهر لي أنها أرادت المبالغة في فضل أبي زرع، والله أعلم.

-صلى الله عليه وسلم-: "كنت لك كأبى زرع لأم زرع" (¬1). ¬

(¬1) هذا هو القدر المرفوع من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وها هي بعض الفوائد المتعلقة بحديث أم زرع ذكرها الحافظ بن حجر - رحمه الله - فقال: وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفضِ ذلك إلى ما يمنع، وفيه المزح أحيانًا وبسط النفس به ومداعبة الرجل أهل وإعلامه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسده تترتب على ذلك من تجنبها عليه وإعراضها عنه. وفيه منع الفخر بالمال وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين، وإخبار الرجل أهله بصورة حاله معهم وتذكيرهم بذلك لاسيما عند وجود ما طعن عليه من كفر الإحسان. وفيه ذكر المرأة إحسان زوجها، وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها بما يخصها به من قول أو فعل، ومحله عند السلامة من الميل المفضي إلى الجور، وقد تقدم في أبواب الهبة جواز تخصيص بعض الزوجات بالتحف واللطف إذا استوفى للأخرى حقها. وفيه جواز تحدث الرجل مع زوجته في غير نوبتها. وفيه الحديث عن الأمم الخالية وضرب الأمثال بهم اعتبارًا، وجواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومستطابات النوادر تنشيطًا للنفوس. وفيه حض النساء على الوفاء لبعولتهن وقصر الطرف عليهم والشكر لجميلهم، ووصف المرأة زوجها بما تعرفه من حسن وسوء، وجواز المبالغة في الأوصاف، ومحله إذا لم يصر ذلك ديدنًا لأنه يفضي إلى خرم المروءة. وفيه تفسير ما يجمله المخبر من الخبر إما بالسؤال عنه وإما ابتداء من تلقاء نفسه، وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل ولا يكون ذلك غيبة أشار إلى ذلك الخطابي، وتعقبه أبو عبد الله التميمي شيخ عياض بأن الاستدلال بذلك إنما يتم أن لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع المرأة تغتاب زوجها فأقرها، وأما الحكاية عمن ليس بحاضر فليس كذلك وإنما هو نظير من قال: في الناس شخص يسئ، ولعل هذا هو الذي أراده الخطابي فلا تعقب عليه، وقال المازري قال بعضهم: ذكر بعض هؤلاء النسوة أزواجهن بما يكرهون ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم، قال المازري: وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان من تحدث عنده بهذا الحديث سمع كلامهن في اغتياب أزواجهن فأقرهن على ذلك، فأما والواقع خلاف ذلك وهو أن عائشة حكت قصة عن نساء مجهولات غائبات فلا، ولو أن امرأة وصفت زوجها بما يكرهه لكان غيبة محرمة على من يقوله ويسمعه، إلا إن كانت في مقام الشكوى منه عند الحاكم، وهذا في حق المعين فأما المجهول الذي لا يعرف فلا حرج في سماع الكلام فيه لأنه لا يتأذى إلا إذا عرف أن من ذكر عنده يعرفه، ثم إن هؤلاء الرجال مجهولون لا تعرف أسماؤهم ولا أعيانهم فضلًا عن أسمائهم ولم يثبت للنسوة إسلام حتى يجري عليهن حُكم الغيبة فبطل الاستدلال به لما ذكر، وفيه تقوية لمن كره نكاح من كان لها زوج لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني لها بقدر طاقته، ومع ذلك حقرته وصغرته بالنسبة إلى الزوج الأول، وفيه أن الحب يستر الإساءة، لأن أبا زرع مع إساءته لها بتطليقها لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الإفراط والغلة. وقد وقع بعض طرقه إشارة إلى أن أبا زرع ندم على طلاقها وقال في ذلك شعرًا، ففي رواية عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عن عائشة أنها حدثت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي زرع وأم زرع وذكرت شعر أبي زرع على أم زرع. وفيه جواز وصف النساء ومحاسنهن للرجل، لكن محله إذا كن مجهولات، والذي يمنع من ذلك وصف المرأة المعينة بحضرة الرجل أو أن يذكر من وصفها ما لا يجوز للرجال تعمد النظر إليه وفيه أن التشبيه لا يستلزم مساواة المشبه بالمشبه به من كل جهة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت لك كأبي زرع» والمراد ما بينه بقوله في رواية الهيثم في الألفة إلى آخره لا في جميع ما وصف به أبو زرع من الثروة الزائدة والابن الخادم وغير ذلك وما لم يذكر من أمور الدين كلها. وفيه أن كناية الطلاق لا توقعه إلا مع مصاحبة النية فإنه - صلى الله عليه وسلم - تشبه بأبي زرع، وأبو زرع قد طلق فلم يستلزم ذلك وقوع الطلاق لكونه لم يقصد إليه، وفيه جواز التأسي بأهل الفصل من كل أمة ... اهـ (نقلًا عن «فقه التعامل بين الزوجين»).

7 - أن يعلمها أمور دينها ويحثَّها على الطاعة: فكما أن الزوج مطالب بحسن العشرة التي تقتضي التلطف مع الزوجة على النحو الذي تقدم، فإنه -كذلك- مطالب بأن لا يتوانى ولا يفتر عن تعليمها وحثها على طاعة الله تعالى. وقد قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} (¬1). وعن أم سلمة -رضى الله عنها- قالت: استيقظ النبى -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: "سبحان الله، ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحب الحُجَر (¬2)، فرُبَّ كاسية فى الدنيا، عارية فى الآخرة" (¬3). وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أَبَتْ نضح فى وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها فصلَّى، فإن أبى نضحت فى وجهه الماء" (¬4). ¬

(¬1) سورة التحريم: 6. (¬2) يعني: أزواجه كي يقمن فيصلين. (¬3) صحيح البخاري (115). (¬4) مسند أحمد (2/ 250) بسند حسن.

8 - أن يَغُضَّ الطرف عن بعض أخطائها ما لم يكن فيه إخلال بشرع الله: وإلى هذا يرشد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يَفْرِك (¬1) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر" (¬2). 9 - أن لا يؤذيها بضربها في وجهها أو تقبيحها: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " .. ولا تضرب الوجه، ولا تقبح .. " (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم" (¬4). ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ضرَّابًا للنساء، فعن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله" (¬5). * فائدة: ضرب الزوجة مشروع إذا نشزت وتركت طاعة زوجها على النحو الذي في قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا} (¬6)، والضرب في هذه الآية له ثلاثة ضوابط: 1 - أن يكون بعد عدم جدوى الوعظ والهجر في الفراش. 2 - أن يكون ضرب تأديب غير مبرح، يكسر النفس ولا يكسر العظم. 3 - أن يُرفع الضرب ويمنع إذا امتثلت لطاعة زوجها. 10 - أن لا يهجرها -إذا هجرها- إلا في البيت: ففي الحديث المتقدم: "ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" إلا أن تكون هناك مصلحة شرعية في الهجر خارج البيت كما هجر النبي أزواجه شهرًا في غير بيوتهن، وسيأتي في "الإيلاء". 11 - أن يُعِفَّها: فيلبي رغبتها الفطرية ليقصرطرفها عن الحرام، ولذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عثمان ¬

(¬1) أي لا يكرهها ويبغضها. (¬2) صحح مسلم (1469). (¬3) أبو داود (2142)، وابن ماجة (1850)، وأحمد (4/ 447). (¬4) البخاري (4942)، ومسلم (2855). (¬5) مسلم (2328)، والترمذي في «الشمائل» (331)، والنسائي في «العشرة» (281)، وابن ماجة (1984). (¬6) سورة النساء: 34.

بن مظعون إلى ما لأهله عليه من الحق، لما انقطع عنهم إلى العبادة فقال صلى الله عليه وسلم: "وإن لأهلك عليك حقًّا" (¬1)، ووطء المرأة على الزوج في أظهر قولي العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد واختاره شيخ الإسلام (¬2) وحدَّ وجوبه بما كان بقدر حاجتها وكفايتها، وبقدرته بحيث لا ينهك بدنه ويشتغل عن معيشته، ولا عبرة بما وراء ذلك مما قال به الفقهاء من أن الوطء الواجب: هو مرة كل أربعة أشهر، بل الصحيح أن حدَّه قدرة الرجل وكفاية المرأة. 12 - أن يأذن لها إذا استأذنته في الخروج لشهود الجماعة أو زيارة الأقارب إذا أمنت الفتنة: وقد سبق هذا في "الصلاة". 13 - أن لا ينشر سِرَّها ويذكر عيبها: وقد تقدم مثل هذا في حقوق الزوج. 14 - أن يتزين الرجل لزوجته كما تتزين له: قال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي، لأن الله تعالى يقول: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (¬3) (¬4). 15 - أن يحسن الظن بها (¬5): لقوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا} (¬6). وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا} (¬7). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلًا" (¬8). وفي الوقت نفسه -مع حسن الظن- ينبغي للزوج أن يتحفظ ويحتاط ويبتعد عن مسببات الفساد والمخالفات الشرعية. ¬

(¬1) البخاري (1977)، ومسلم (1159). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 202)، و «الإنصاف» (8/ 354)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 271)، و «الجامع لاختيارات ابن تيمية» (2/ 643). (¬3) سورة البقرة: 228. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 453)، وابن أبي شيبة (4/ 196)، والبيهقي (7/ 295). (¬5) «فقه التعامل بين الزوجين» (ص: 78 - 79). (¬6) سورة النور: 12. (¬7) سورة الحجرات: 12. (¬8) صحيح: البخاري (5244) وقد تقدم.

تعدد الزوجات

فلما دخل رجال من بني هاشم على أسماء بنت عميس رضي الله عنها [زوجة أبي بكر] ودخل أبو بكر فكره ذلك وقال: لم أر إلا خيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد برأها من ذلك" ثم قام على المنبر فقال: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان" (¬1). فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى السوء عن أسماء وأحسن الظن بها ولكن مع هذا منع دخول الرجال حتى لا يدع مجالًا للشيطان للوسوسة والتشكيك. 16 - أن يعدل بينها وبين ضرتها في الطعام والشراب واللباس والمبيت: وسيأتي قريبًا. (جـ) الحقوق المشتركة بين الزوجين: 1 - حل الاستمتاع: وهذا إذا تم العقد وتوفرت الشروط من تسليم الزوجة لزوجها وتأمين المسكن والنفقة، وانتفت الموانع كالإحرام ونحوه، فيباح لكل منهما الاستمتاع بالآخر على الوجه الشرعي الذي تقدم. 2 - ثبوت التوارث بينهما: بمجرد العقد إذا مات أحدهما -كما سيأتي في المواريث. 3 - المعاشرة بالمعروف: وقد تقدمت صورها. 4 - ثبوت حرمة المصاهرة بينهما: وقد بينا فيما مضى المحرمات بسبب المصاهرة. تعدد الزوجات (¬2) * مشروعية تعدد الزوجات: قال الله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} (¬3). فإن الله سبحانه وتعالى يخاطب أولياء اليتامى فيقول: إذا كانت اليتيمة في حجر أحدكم تحت ولايته، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليعدل عنها إلى غيرها من النساء، فإنهن كثيرات، ولم يُضيق الله عليه فأحل له من واحدة إلى أربع. ¬

(¬1) صحيح: مسلم (2173)، وقد تقدم. (¬2) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 437 - 442). (¬3) سورة النساء: 3.

فإن خاف أن يجور إذا تزوج أكثر من واحدة فوجب عليه أن يقتصر على واحدة، أو ما ملكت يمينه من الإماء (¬1). وقد تقدم جملة أدلة على الحث على الزواج من أجل إكثار النسل. وقال ابن عباس لسعيد بن جبير: "فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء" (¬2). فهذه الأدلة وغيرها تدل على استحباب التعدد بشروط وضوابط تأتي: * شروط تعدد الزوجات (¬3): 1 - أن يكون قادرًا على العدل بينهن: لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}. 2 - أن يأمن على نفسه الافتتان بهن وتضييع حقوق الله بسببهن: فقد قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم} (¬4). 3 - أن يكون عنده القدرة على إعفافهن وتحصينهن: حتى لا يجلب إليهن الشر والفساد، فالله لا يحب الفساد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" (¬5). 4 - أن يكون بوسعه الإنفاق عليهن: فقد قال الله سبحانه: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله} (¬6). * حكمة مشروعية التعدد (¬7): لا شك أن الطريق التي هي أقوم وأعدل هي إباحة تعدد الزوجات لأمور محسوسة يعرفها كل العقلاء، ومنها: 1 - أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض وتنفس إلى غير ذلك من العوائق المانعة ¬

(¬1) بنحو هذا فسرت عائشة - رضي الله عنها - كما عند البخاري (4576). (¬2) البخاري (5069). (¬3) «أحكام النكاح والزفاف» (ص 145). (¬4) سورة التغابن: 14. (¬5) متفق عليه وقد تقدم. (¬6) سورة النور: 33. (¬7) «أضواء البيان» للشنقيطي (3/ 377).

من قيامها بأخص لوازم الزوجية، والرجل مستعد للتسبب في زيادة الأمة، فلو حُبس عليها في أحوال أعذارها لعطلت منافعه باطلًا في غير ذنب. 2 - أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددًا من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضًا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة، فلو قصر الرجل على واحدة لبقي عدد ضخم من النساء محرومًا من الأزواج فيضطرون إلى ركوب الفاحشة. قلت: وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: " ... ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيِّم الواحد" (¬1). 3 - أن الإناث كلهن مستعدات للزواج، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم، فالمستعدون للزواج من الرجال أقل من المستعدات له من النساء. 4 - أنه قد يوجد عند بعض الرجال -بحكم طبيعتهم النفسية والبدنية- رغبة جنسية جامحة بحيث لا تشبعه امرأة واحدة، فأبيح له أن يشبع غريزته عن طريق مشروع بدلًا من أن يتخذ خليلة تفسد عليه أخلاقه (¬2). 5 - قد يكون التعدد تكريمًا لإحدى القريبات أو ذوات الرحم التي مات زوجها أو طلقها، وليس لها من يعولها غير شخص متزوج (¬3). قلت: رغم أن هذا الأمر مستحب -كما رأيت- وأنه من حكم الشريعة السمحة، إلا أن سوء تطبيقه من بعض الناس، جعله في نظر الكثيرين جريمة ودناءة ونكرانًا للجميل وخسة، إلى غير ذلك من التهم الباطلة (¬4). * بعض الفوائد الفقهية المتعلقة بالتعدد (¬5): 1 - يجوز تفاوت مهور الزوجات وكذلك تفاوت الولائم: فقد تقدم أن النجاشي زوَّج أم حبيبة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف، وقد كان مهور أزواجه صلى الله عليه وسلم أربعمائة (¬6). ¬

(¬1) البخاري (5231)، ومسلم (2671). (¬2)، (5) «هذه هي زوجتي» لعصام الشريف بتصرف يسير (ص 126). (¬3) انظر للرد على بعض هذه التهم والشبهات «عمدة التفسير» (3/ 102) للعلامة أحمد شاكر - رحمه الله تعالى. (¬4) مستفاد من «فقه تعدد الزوجات» لشيخنا مصطفى العدوي، رفع الله قدره. (¬5) (¬6) تقدم الحديث قريبًا.

وقال أنس في تزويج زينب بنت جحش: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلَم على أحد من نسائه ما أولم عليها" (¬1). 2 - لا يجوز للرجل أن يجمع أكثر من زوجة في بيت واحد إلا برضاهما: فالأصل أن يجعل لكل زوجة بيتًا كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} (¬2). فذكر الله -سبحانه- أنها بيوت ولم تكن بيتًا واحدًا، وقد تقدم هذا قريبًا. 3 - القَسْم بين الزوجات: ذهب جمهور العلماء إلى أن الزوج إذا تزوَّج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، ثم يقسم لكل امرأة منهن ليلتها. وإذا تزوَّج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قَسَم (¬3). لحديث أنس قال: "من السُّنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعًا ثم قسم، وإذا تزوَّج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قسم" (¬4). * تنبيه: يسئ بعض الناس فهم هذا الحديث فيظن أنه يباح للزوج إذا تزوج البكر أن يُحبس في البيت سبعًا فلا يخرج حتى لصلاة الجماعة وهذا قول باطل لا دليل عليه، فإن التخلف عن الجماعة لا ينبغي له كسائر الناس ولا فرق. 4 - هل يجب على الرجل أن يساوي بين نسائه في المحبة والجماع؟ المحبة محلها القلب، وقد قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} (¬5). فالمراد الاستطاعة في المحبة والجماع والشهوة. وفي حديث ابن عباس: "أن عمر دخل على حفصة فقال: با بنية لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها -يريد عائشة- فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسَّم" (¬6). ¬

(¬1) تقدم الحديث قريبًا. (¬2) سورة الأحزاب: 53. (¬3) «زاد المعاد» (5/ 151). (¬4) البخاري (5214)، ومسلم (1461). (¬5) سورة النساء: 129. (¬6) البخاري (3/ 49)، ومسلم (1479).

من أحكام المولود

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" (¬1). وقال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أنه لا يجب التسوية بين النساء في الجماع، وذلك لأن الجماع طريقه الشهوة والميل، ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك فإن قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى. أما النفقة: فالظاهر أنه يجب على الرجل أن يُسوِّي بين نسائه في النفقة (¬2). 5 - لا يجوز لامرأة أن تسأل طلاق ضرتها لتنفرد بزوجها: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها. ولتنكح فإن لها ما قدر لها" (¬3). من أحكام المولود (¬4) * من يباشر التوليد؟ (¬5) ينبغي أن تكون المرأة الخبيرة بإجراءات الولادة هي التي تباشر توليد أختها، ومعها من النساء من تعينها على ذلك، فإسناد أمر التوليد إليهن واجب إلا عند الضرورة الملجئة بأن لا يكون هناك من النساء من تحسن هذا الأمر، فإنه يجوز أن يقوم بذلك طبيب مسلم، على ما تقدم تقريره من ضوابط في "أحكام النظر". * استحباب البشرى والتهنئة بالمولود: إذا ولد المولود واستهلَّ صارخًا استحب لمن حضر الولادة من النساء أو من كان قريبًا من مكانها أن يُبشر والده، لما في البشارة من سرور للعبد، فاستحب للمسلم أن يبادر إلى مسرة أخيه وإعلامه بما يفرحه. قال الله تعالى في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {فبشرناه بغلام حليم} (¬6)، وقال: {إنا نبشرك بغلام عليم} (¬7). ¬

(¬1)، (4) «مجموع الفتاوى» (32/ 230). (¬2) البخاري (5152)، ومسلم (1408). (¬3) انظر «تحفة المودود بأحكام المولود» لابن القيم. (¬4) «الفقه الواضح» (2/ 469). (¬5) (¬6) سورة الصافات: 101. (¬7) سورة الحجر: 53.

وقال تعالى: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} (¬1). فإن فاتت الشخص البشارة، بأن علم الوالد بمولوده، استحب التهنئة وهي الدعاء له بالخير. * هل يؤذن في أذن المولود اليمنى ويقيم في اليسرى؟ ورد هذا في بعض الأحاديث لكنها ضعيفة الإسناد، منها حديث أبي رافع قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في أُذُن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة" (¬2). وهو حديث ضعيف فلا ينبغي العمل به حتى يأتي ما يعضده، وقد أورده ابن القيم ومعه حديثان آخران في "تحفة المولود" (ص101) وهما ضعيفان كذلك. * استحباب تحنيك المولود: والتحنيك: أن تمضغ تمرة ويدلك بها فم المولود من الداخل: فعن أبي موسى قال: "ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسمَّاه إبراهيم، وحنَّكه بتمرة [ودعا له بالبركة ودفعه، وكان أكبر ولد موسى] " (¬3). * استحباب العقيقة: العقيقة أصلها: الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة، لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح. وقيل: العقيقة هي الذبح نفسه. ويستحب في اليوم السابع من ولادة المولود أن يقوم والده بذبح شاتين عن الغلام -أو شاة إن لم يستطع- وذبح شاة عن البنت: فعن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى" (¬4). وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة" (¬5). ¬

(¬1) سورة مريم: 7. (¬2) أبو داود (5105)، والترمذي (1514)، والحاكم (3/ 179) بسند ضعيف، وقد حسنه لغيره الألباني في «الإرواء» (1173) ثم رجع عنه فضعفه في «الضعيفة» (321). (¬3) البخاري (5467)، ومسلم (2145). (¬4) صحيح: البخاري (5471)، والترمذي (1515)، وابن ماجة (3164). (¬5) الترمذي (1513)، وأحمد (6/ 31)، وصححه الألباني في «الإرواء» (1166).

وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه" (¬1). فيستحب الأكل والإطعام والتصدق من الذبيحة. ولا يجزئ في العقيقة إلا ما يجزئ في الأضحية، بأن تكون من المعز أو الضأن سليمة من العيوب ونحو ذلك. * حلق رأسه والتصدق بوزن شعره فضة: عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برأس الحسن والحسين يوم سابعهما، فحلقا، وتصدق بوزنه فضة" (¬2). * تنبيه: لا يجوز حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه وهو ما يسمى "القزع" فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع" (¬3). * ختان المولود: وقد وردت بعض الأحاديث في استحباب ختانه يوم السابع وفي أسانيدها ضعف فربما تقوَّى بعضها ببعض ومن ذلك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام" (¬4). * تسمية المولود (¬5): (أ) اعلم أن الأب أحق بتسمية المولود، وليس للأم حق منازعته في ذلك، لكن الأفضل أن يتشاورا ويتراضيا على التسمية، فإذا تنازعا، فالتسمية للأب. (ب) اختيار الاسم: يجب على الأب اختيار الاسم الحسن في اللفظ والمعنى في قالب النظر الشرعي واللسان العربي، فيكون حسنًا، عذبًا في اللسان، مقبولًا للأسماع، شريفًا كريمًا، ووصفًا صادقًا، خاليًا مما دلت الشريعة على تحريمه أو كراهته. ¬

(¬1) أبو داود (2837)، والترمذي (1522)، والنسائي (7/ 166)، وابن ماجة (3165) وهو صحيح. (¬2) الترمذي (1519)، والحاكم (4/ 237)، والبيهقي (9/ 304) واللفظ له وهو صحيح كما ف «الإرواء» (1164). (¬3) البخاري (5920)، ومسلم (113). (¬4) الطبراني في «الصغير» (891)، والبيهقي (8/ 324) وفي سنده ضعف. (¬5) انظر «تسمية المولود بآداب وأحكام» لعلامة بكر أبي زيد.

(جـ) الأسماء المستحبة: وهي مراتب متعددة فأفضلها على الترتيب: 1 - عبد الله وعبد الرحمن: لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن" (¬1). 2 - الأسماء المعبدة لأي اسم من أسماء الله الحسنى: مثل: عبد العزيز، عبد الكريم، عبد الملك ... وهكذا. 3 - أسماء الأنبياء والرسل. 4 - أسماء الصالحين من المسلمين وعلى رأسهم الصحابة: فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم" (¬2). 5 - ما كان وصفًا صادقًا للإنسان بالشروط التي تأتي: * شروط التسمية وآدابها: 1 - أن يكون عربيًّا، فيخرج بهذه الأسماء الأعجمية المولدة مثل: "ديانا، هايدي، شيريهان، ... " وغيرها. 2 - أن يكون حسن المبنى والمعنى. 3 - أن يراعى في التسمية قلة الحروف ما أمكن. 4 - أن يراعى في التسمية خفة النطق. (د) الأسماء المحرمة: 1 - كل اسم معبد لغير الله، مثل: (عبد الرسول- عبد الحسن ... إلخ). 2 - التسمية بالأسماء التي تختص بالله تعالى مثل: (الرحمن-الخالق ... إلخ). 3 - التسمية بالأسماء الأعجمية المولدة للكافرين الخاصة بهم مثل: (جرجس-جورج-ديانا-سوزان ... إلخ). 4 - التسمي بأسماء الأصنام المعبودة من دون الله مثل: (اللات-العزى ... إلخ). 5 - التسمية بالأسماء الأعجمية كالتركية أو الفارسية مما لا تتسع له لغة العرب مثل: (ناريمان-جِهان-نيفين ... إلخ). 6 - كل اسم فيه دعوى ليست في المسمى مما فيه تزكية وكذب. 7 - التسمية بأسماء الشياطين مثل: (خنزب - الأعور ... إلخ). ¬

(¬1)، (4) صحيح: مسلم. (¬2)

النشوز وعلاجه

(هـ) الأسماء المكروهة: 1 - ما تنفر منها القلوب لمعانيها أو ألفاظها لما تثيره من سخرية أو إحراج لأصحابها وتأثيرها عليهم فضلًا عن مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم بتحسين الأسماء. ومن هذه الأسماء مثل: (خنجر-فاضح-هُيام وسُهام [داء يصيب الإبل] ... إلخ). 2 - التسمية بأسماء لها معانٍ رخوة شهوانية مثل: (أحلام-غادة-فاتن ... إلخ". 3 - تعمد التسمية بأسماء الفسَّاق والماجنين من الممثلين والمطربين. 4 - التسمية بأسماء فيها معاني الإثم والمعصية مثل: (ظالم بن سرَّاق). 5 - أسماء الفراعنة والجبابرة مثل: (فرعون-هامان-قارون ... إلخ). 6 - التسمية بأسماء الحيوانات المشهورة بالصفات المستهجنة مثل: (حنش -حمار- كلب-قنفذ ... إلخ). 7 - الأسماء المضافة إلى (الدين) أو (الإسلام) مثل: نور الدين -شهاب الدين- سيف الإسلام. 8 - الأسماء المركبة مثل: (محمد أحمد -ونحو ذلك) لما فيها من الاشتباه والالتباس. 9 - التسمية بأسماء الملائكة مثل: (جبريل -ميكائيل ... إلخ). النشوز وعلاجه (¬1) * تعريف النشوز: النشوز: من النشز وهو المكان المرتفع، وفي الاصطلاح: معصية المرأة لزوجها فيما فرض الله عليها من طاعته، فكأنها ارتفعت وتعالت عليه (¬2). * حكمه: نشوز المرأة حرام، لأن الله تعالى قد رتَّب عليه عقوبة الناشزة إذا لم ترتدع بالوعظ، ولا تكون العقوبة إلا بفعل محرم أو ترك واجب (¬3)، قال الله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا} (¬4). ¬

(¬1) انظر: «أحكام المعاشرة الزوجية» لزينب شرقاوي، (ص 283) وما بعدها والمراجع الآتية بعده. (¬2) «المصباح المنير» (2/ 605)، و «مغني المحتاج» (3/ 259)، و «المغني» (7/ 46). (¬3) «تفسير القرطبي» سورة النساء: 34، وانظر «السابق». (¬4) سورة النساء: 34.

* أساليب علاج الناشزة: إذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز: كأن لا تصير إليه إلا وهي كارهة أو أن يجد منها إعراضًا وعبوسًا بعد لطف وطلاقة وجه، أو أن تخاطبه بكلام خشن بعد أن كان لينًا، أو أن تتثاقل إذا دعاها إلى فراشه. أو ظهر منها النشوز واضحًا: كأن تمتنع عن فراشه أو أن تخرج من بيته بغير إذنه، أو ترفض السفر معه ونحو ذلك، فإنه يُشرع للزوج أن يعالجها بالأساليب الواردة في الآية الكريمة على الترتيب، فيبدأ معها بـ: [1] الوَعْظ: فيعظها بالرفق واللِّين، ويذكِّرها بما أوجب الله عليها من طاعته وعدم مخالفته، ويرغِّبها في ثواب الله على طاعته، وفي أن تكون من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ويخوِّفها من عقاب الله على معصيته، ومن أنه -إذا استمرت على ما هي عليه- يحق له أن يهجرها ثم يضربها (¬1). فمن النساء من تردُّها الكلمة عن عنادها وغيِّها، فتستجيب للوعظ والترغيب والترهيب، وعندئذ لا يجوز له هجرها ولا ضربها، قال الله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} (¬2). لكن من النساء من لا يؤثر فيها الكلام ولا الوعظ، فيلجأ إلى العلاج الثاني وهو: [2] الهَجْر في المضجع: الهجر: من هجرته أي قطعته، قال الله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} (¬3). أي: في المنام توصُّلًا إلى طاعتهن، فيخوِّفها بالاعتزال عنها، وترك جماعها ومضاجعتها فلعلَّها ممن لا تحتمل الهجر، فإن استجابت، وإلا هجرها فعليًّا. وقد تعددت أقوال العلماء في كيفية الهجر في المضجع: فقيل يهجرها بترك جماعها، وقيل: بل يجامعها لكن لا يكلمها حال مضاجعته لأن ذلك حق مشترك بينهما ولا يكون التأديب بما فيه ضرر، وقيل: يهجر جماعها عند غلبة شهوتها وحاجتها هي، لا في وقت حاجته إليها لأن الهجر لتأديبها هي لا لتأديبه. ¬

(¬1) «البدائع» (2/ 334)، و «منح الجليل» (2/ 176)، و «مغني المحتاج» (3/ 256)، و «كشاف القناع» (5/ 233). (¬2) سورة النساء: 34. (¬3) سورة النساء: 34.

والصحيح أن يهجرها كيف شاء بما يناسب حالها، ومما يكون به الزجر والردع عن النشوز (¬1)، لكن ينبغي على الزوج أن لا يهجر زوجته إلا في البيت لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه: " ... ولا تهجر إلا في البيت" (¬2) لئلا يظهر الهجر أمام الغرباء، إذ لو هجرها أمام الغرباء كان في ذلك إهانة لها مما يزيد المشكلة وقد يزيدها نشوزًا، فمراعاة هذا الأدب مما يساعد على عودة الوئام بين الزوجين. لكن ... إن رأى في هجرها خارج البيت مصلحة شرعية فله أن يفعل، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه شهرًا في غير بيوتهن (¬3). وينبغي عليه -كذلك- أن لا يظهر الهجر أمام أطفاله، فإنه يورث في نفوسهم شرًّا وفسادًا. * مدة الهجر: للعلماء في أقصى مدة الهجر قولان (¬4): الأول: مدة الهجر شهر وله أن يزيد إلى أربعة أشهر: وهو مذهب المالكية، ومستندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا، وأن مدة الإيلاء إلى أربعة أشهر -كما سيأتي-. الثاني: له أن يهجر ما شاء حتى ترجع: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والحنابلة ويُستدل لهم بأن الآية -في الهجر- مطلقة غير مقيدة بمدة، والأصل بقاء المطلق على إطلاقه حتى يدلَّ الدليل على تقييده. وأما القياس على الإيلاء فقياس مع الفرق، لأن الهجر في النشوز تأديب لها على تمردها، أما الإيلاء فقد يكون من غير تمرُّد من الزوجة ولذا لم يُشرع الإيلاء أكثر من أربعة أشهر لما فيه من ظلم للمرأة، ثم إن الإيلاء يمين (حلف) بخلاف الهجر. وإذا كان كذلك فلا يصح تقييد مطلق الآية بهذا، وهو الأرجح، والله أعلم. * فائدة: يجوز الهجر بترك الكلام مع الناشز اتفاقًا: لكنهم اختلفوا في مدة ¬

(¬1) «البدائع» (2/ 334)، و «منح الجليل» (2/ 176)، و «مغني المحتاج» (3/ 259)، و «المغني» (7/ 46)، وانظر «أحكام المعاشرة الجنسية» (ص: 292). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (2142)، وابن ماجة (1850) وقد تقدم. (¬3) صحيح: يأتي تخريجه في «الإيلاء» - إن شاء الله. (¬4) المراجع الفقهية السابقة.

الهجر بترك الكلام: فقال الجمهور: لا يجوز أن يهجر كلامها أكثر من ثلاثة أيام حتى لو استمرت على نشوزها (¬1)، واستدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" (¬2). وقد يقال: "إذا لم يُفد الهجر بالكلام -في ثلاثة أيام- فلن يفيد في أكثر من ذلك، لأن تأثيره أقل على المرأة من الهجر في المضجع" (¬3). وذهب بعض الشافعية إلى أنه يجوز للزوج أن لا يكلم الزوجة الناشز أكثر من ثلاثة أيام إذا قصد تأديبها وردَّها عن النشوز، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم "هجر الثلاثة الذين خلِّفوا أكثر من ثلاث" (¬4). فإذا كانت المرأة ممن لا يفيد معها كلام ولا هجر، لشراسة في خلقها وعناد في طبعها، فلابد من الأسلوب الثالث وهو: [3] الضرب: وهو جائز للزوج على زوجته الناشز إذا لم يُفد معها الوعظ والهجر، اتفاقًا. لكن ينبغي أن يُراعي في الضرب ما يأتي: 1 - أن لا يكون الضرب مبرحًا: كأن يكسر عظمًا أو يُشوِّه لحمًا كضرب المنتقم؛ فإن قوله تعالى: {واضربوهن} (¬5) مقيَّد بكونه غير مبرح: فعن عمرو بن الأحوص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هنَّ عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح ... " (¬6). فالمراد من الضرب: التأديب لا الإتلاف والتشويه، والمطلوب: ضرب يكسر النفس ويردُّها، ولا يكسر العظم. ¬

(¬1) «البدائع» (2/ 334)، و «مواهب الجليل» (4/ 15)، و «مغني المحتاج» (2/ 259)، و «المغني» (7/ 46). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم. (¬3) «أحكام المعاشرة الزوجية» (ص: 292). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري ومسلم في قصة طويلة. (¬5) سورة النساء: 34. (¬6) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (1163)، وابن ماجة (1851)، وفي سنده ضعف وله شاهد عند أحمد (5/ 72)، يحسَّن به.

2 - أن لا يزيد في ضربه على عشر ضربات: لحديث ... أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" (¬1). وهذا مذهب الحنابلة (¬2). 3 - أن لا يضرب الوجه ولا يقع الضرب على المهالك: لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث معاوية بن حيدة-: " ... ولا تضرب الوجه، ولا تُقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت" (¬3). لما في هذا الفعل من الاستهانة بالمرأة وتحقيرها ولما فيه من الإيذاء والتشويه، فلو فعل ذلك فهو جانٍ، ولها طلب التطليق والقصاص. 4 - أن يغلب على ظنه أن ضربه سيزجرها: لأن الضرب وسيلة إصلاح، والوسيلة لا تشرع عند ظن عدم ترتُّب المقصود عليها، وإلا فلا يضربها (¬4). 5 - أن يرفع الضرب عنها إذا أطاعته: لقول الله سبحانه: {واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} (¬5). * تنبيه: لا ينبغي للزوج أن يتخذ من هذه الوسيلة العلاجية (الضرب) التي شرعها الله في بعض الأوقات (وقت النشوز بعد فشل الوعظ والهجر) ديدنًا، فيضرب زوجته -نشزت أو لم تنشز- فإن هذا لا يجوز، وهو خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم: 1 - فعن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله" (¬6). 2 - وعاب على أبي جهم كثرة ضربه للنساء وقال لفاطمة بنت قيس ناصحًا لها في شأن الزواج: "أما أبو الجهم فضرَّاب للنساء" وفي لفظ: "فلا يضع عصاه عن عاتقه" (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري. (¬2) «المغني» (7/ 46)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 106). (¬3) حسن: تقدم مرارًا. (¬4) «منح الجليل» (2/ 176)، و «مغني المحتاج» (3/ 260). (¬5) سورة النساء: 34. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم، والترمذي في «الشمائل» (331)، والنسائي في «العشرة» (281)، وابن ماجة (1984). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1480)، والنسائي (3245)، وأبو داود (2284).

3 - وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم" (¬1). وأما ما يُروى مرفوعًا: "لا تسأل الرجل فيما ضرب امرأته" (¬2) فضعيف لا يحتج به. * الخلاف بين الزوجين وعلاجه: إذا تسرَّب الشقاق والبغضاء إلى بيت الزوجية، فقد شرع الله سبحانه إرسال حكمين لحدِّ هذا الخلاف، وإزجاء النصيحة إلى الزوجين، أحدهما يمثل الزوج والآخر يمثل الزوجة، إذ أن استمرار الشقاق بينهما معناه: هدم الأسرة وتشتيت الأطفال، وقطع الصلات والعلاقات وربما الأرحام!! قال الله سبحانه: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} (¬3). وينبغي على الحكمين أن يبذلا جهدهما في عملية الإصلاح وإزالة الشقاق بينهما، وأن يكونا صادقين في الإصلاح بينهما، وعليهما أن يأخذا على يد المسيء منهما، وأن يُلزماه جانب الحق (¬4). * سُلْطَةُ الحَكَمَيْنِ: إذا بذل الحكمان ما في وسعهما للإصلاح بين الزوجين، فوجدا أنه غير ممكن فهل لهما سلطة التفريق بينهما؟ أم لابد من الرجوع إلى الزوجين؟ قولان للعلماء. والأصح أن الحكمين قاضيان وليسا وكيلين، فلهما أن يفرقا بين الزوجين سواء رضيا أم لا، ولو بدون أمر من القاضي ولا بتوكيل من الزوجين، وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول عند الشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬5)، ويدل عليه: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم. (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (2147)، وابن ماجة (1986)، وأحمد (1/ 20) عن عمر مرفوعًا. (¬3) سورة النساء: 35. (¬4) «البدائع» (2/ 334)، و «منح الجليل» (2/ 177)، و «مغني المحتاج» (3/ 261)، و «المغني» (7/ 48)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 106). (¬5) «بداية المجتهد» (2/ 163)، و «الخرشي» (4/ 9)، و «المغني» (7/ 49)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 25).

1 - قوله تعالى: {فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها} (¬1). "هذا نص من الله تعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى، فإذا بيَّن الله -سبحانه- كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ -فكيف بعالم- أن يركب معنى أحدهما على الآخر، فذلك تلبيس وإفساد للأحكام" (¬2) اهـ. 2 - وقوله تعالى: {إن يريدا إصلاحًا} (¬3). المراد بهما: الحكمان لا الزوجان، فدلَّ على عدم اعتبار رضا الزوجين، وعلى أن للحكمين إرادةً وحقَّ تصرف خارجةً عن إرادة الزوجين، ولو كانا وكيلين لكانت إرادتهما في التصرف هي إرادة الزوجين (¬4). 3 - وعن عبيدة قال: "شهدت عليَّ بن أبي طالب، وجاءته امرأة وزوجها، مع كلٍّ منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكمًا وهؤلاء حكمًا، فقال عليٌّ للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تفرِّقا فرَّقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما، فقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال عليُّ: كذبت، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى لي وعَلَيَّ" (¬5). وقول عليٍّ رضي الله عنه للحكمين كان بمحضر الصحابة، ولم ينكر أحد عليه فكان إجماعًا من الحاضرين. 4 - ولما حصل شقاق بين عقيل بن أبي طالب وزوجه فاطمة بنت عتبة، اشتكت فاطمة لعثمان رضي الله عنه فأرسل ابن عباس ومعاوية حكمين بينهما، فقال ابن عباس: "لأفرقنَّ بينهما" (¬6). ¬

(¬1) سورة النساء: 35. (¬2) «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 424). (¬3) سورة النساء: 35. (¬4) «تفسير القرطبي» (5/ 175)، و «زاد المعاد» (4/ 33). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 512)، والبغوي في «شرح السنة» (9/ 190)، والنسائي في «الكبرى» (4678)، وسعيد بن منصور (628)، والشافعي (655)، والبيهقي (7/ 305). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه الطبري (5/ 74)، وعبد الرزاق (6/ 5132)، والشافعي (656)، ومن طريقه البيهقي (7/ 306).

وعلى ما تقدم، يحق للحكمين -إذا رأيا- أن يطلقا عليه، وأن يخالعاها، وقضاؤهما نافذ، والله أعلم. * إذا اختلف الحكمان: فطلَّق أحدهما بطلقة واحدة، والآخر باثنتين -على القول بوقوعه- أو يخالع أحدهما على ألف والآخر على ألفين ونحو ذلك، ففي هذه الحالة لا يؤخذ بحكمهما اتفاقًا، ويبعث القاضي حكمين غيرهما حتى يجتمعا على شيء. وإذا لم يجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما، فأجاز الجمهور -خلافًا للمالكية- إرسال حكمين من الأجانب (من غير أهلها) ويكون حكمهما نافذًا إذا اتفقا (¬1). ¬

(¬1) «فتح القدير» (3/ 223)، و «مواهب الجليل» (4/ 17)، و «مغني المحتاج» (3/ 261)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 106).

11 - كتاب الفرق بين الزوجين

11 - كتاب الفرْق بين الزوجين

الطلاق وأحكامه

الطلاق وأحكامه * تعريف الطلاق (¬1): الطلاق لغةً: حلُّ الوثاق ورفع القيد، مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك. وفي اصطلاح الشرع: حلُّ قيد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه، أو رفع قيد النكاح في الحال (أي: بالطلاق البائن) أو في المآل (أي: بعد العدة بالطلاق الرجعي) بلفظ مخصوص. والمراد بالنكاح هنا: النكاح الصحيح خاصة، فلو كان فاسدًا لم يصحَّ فيه الطلاق، ولكن يكون متاركةً أو فسخًا. والفسخ يخالف الطلاق في أنه نقض للعقد وتنهدم به آثاره وأحكامه التي نشأت عنه، وأما الطلاق فلا ينقض العقد، ولكن يُنهى آثاره فقط. والمتاركة: ترك الرجل المرأة المعقود عليها بعقد فاسد قبل الدخول أو بعده، فهي توافق الطلاق في حق إنهاء آثار النكاح، وأنها حق للرجل وحده، وتخالفه في أنها لا تحسب عليه واحدة وأنها تختص بالعقد الفاسد والوطء بشبهة، وأما الطلاق فيختص بالعقد الصحيح. * مشروعية الطلاق: الطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول: (أ) فمن الكتاب: 1 - قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (¬2). 2 - قوله سبحانه: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين * وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ....} (¬3). 3 - قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} (¬4). ¬

(¬1) «المصباح المنير»، و «ابن عابدين» (3/ 226)، و «مغني المحتاج» (3/ 279)، و «المغني» (7/ 296). (¬2) سورة البقرة: 229. (¬3) سورة البقرة: 226 - 237. (¬4) سورة الطلاق: 1.

4 - وقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ...} (¬1). 5 - وقال سبحانه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ...} (¬2). (ب) ومن السنة: 1 - عن عمر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلَّق حفصة ثم راجعها" (¬3). 2 - عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلِّقها، فأبَيْتُ، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلِّقها" (¬4). 3 - عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه أو جده -وافد بني المنتفق- أنه قال يا رسول الله، إن لي امرأة -فذكر من طول لسانها وإيذائها- فقال: "طلِّقها" قال: يا رسول الله، إنها ذات صحبة وولد، قال: "فأمسكها وأمرها، فإن يك فيها خير فستفعل ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك" (¬5). (جـ) وأما الإجماع والمعقول: فقال ابن قدامة -رحمه الله-: "وأجمع الناس على جواز الطلاق، والعبرة دالة على جوازه" فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة وضررًا مجردًا، بإلزام الزوج النفقة والسكنى وحبس المرأة مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك الشرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه" اهـ (¬6). * الحكم التكليفي للطلاق (¬7): بعد إجماع المسلمين من زمن النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية الطلاق، اختلف أهل العلم في الحكم التكليفي للطلاق: ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 49. (¬2) سورة البقرة: 231. (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (2283)، والنسائي (6/ 213)، وابن ماجة (2016) وغيرهم. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (5138)، والترمذي (1189)، وابن ماجة (2088). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (142)، وأحمد (4/ 33). (¬6) «المغني» (7/ 96)، وانظر «الإفصاح» لابن هبيرة (2/ 147). (¬7) «ابن عابدين» (3/ 227)، و «فتح القدير» (3/ 21)، و «الدسوقي» (2/ 361)، و «المغني» (7/ 97)، و «كشاف القناع» (5/ 261)، و «مغني المحتاج» (3/ 279).

فذهب الجمهور إلى أن الأصل في الطلاق الإباحة، والأولى عدم ارتكابه -لما فيه من قطع الألفة- إلا لعارض، وقد يخرج عن هذا الأصل في أحوال. وذهب آخرون إلى أن الأصل فيه الحظر، ويخرج عن الحظر في أحوال، والعمدة عندهم حديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" (¬1) وهو حديث ضعيف. وعلى كلٍّ: فالفقهاء متفقون -في النهاية- على أن الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة بحسب الظروف والأحوال: 1 - فيكون محرَّمًا: كطلاق المرأة في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وهو "طلاق البدعة" وسيأتي الكلام عليه، وهو مجمع على تحريمه، وكذلك إذا خشي بطلاقه على نفسه الزنا. 2 - ويكون مكروهًا: وهو عند عدم الحاجة إليه مع استقامة الزوجين، وربما يكون هذا محرمًا عند بعضهم، قلت: قد يُستدل للكراهة أو التحريم بحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجىء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجىء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأته، قال: فيُدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت" (¬2). وعن عمرو بن دينار قال: "طلَّق ابن عمر امرأة له، فقالت له: هل رأيت مني شيئًا تكرهه؟ قال: "لا"، قالت: ففيم تطلق المرأة العفيفة المسلمة؟ قال: فارتجعها" (¬3). 3 - ويكون مباحًا: عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة وسوء عشرتها والتضرر بها من غير حصول الغرض منها. 4 - ويكون مستحبًّا: عند تفريط المرأة في حقوق الله تعالى الواجبة عليها كالصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها عليها، أو تكون امرأة غير عفيفة، لأن في إمساكها نقصًا لدينه، ولا يأمن إفسادها لفراشه، وإلحاقها به ولدًا ليس هو منه، ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2177 - 2178)، والبيهقي (7/ 322)، وابن أبي شيبة (5/ 253) وغيرهم والصواب إرساله، وانظر «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 431)، و «التلخيص» (3/ 205)، و «العلل المتناهية» (2/ 638). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1099).

شروط الطلاق

ولا بأس بعضلها في هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي منه، قال تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلَّا أن يأتين بفاحشة مبينة} (¬1). وقد يكون الطلاق في هذا الموضع واجبًا. 5 - ويكون واجبًا: كالمُولي -وستأتي أحكام الإيلاء- إذا أبى الفيئة إلى زوجته بعد التربُّص (على قول الجمهور). وكطلاق الحكمين في الشقاق إذا تعذَّر عليهما التوفيق بين الزوجين ورأيا الطلاق. * الطلاق بيد الزوج: جعل الله تعالى للزوج حق مفارقة زوجته إذا وجد ما يدعوه إلى ذلك بعبارته وإرادته المنفردة (¬2)، "ولم يجعل الطلاق بيد الزوجة بالرغم من أنها شريكة في العقد حفاظًا على الزواج، وتقديرًا لمخاطر إنهائه بنحو سريع غير متَّئد، والرجل -عادة- يكون أمثر تقديرًا لعواقب الأمور، وأبعد عن الطيش في التصرُّف، وأما المرأة فهي -غالبًا- أشد تأثرًا بالعاطفة، فربما أوقعت الطلاق -إذا ملكته- لأهون الأسباب. ثم إن الطلاق يستتبع تكاليف مالية من شأنها حمل الرجل على التروِّي في إيقاع الطلاق، وأما المرأة فلا تتضرر ماليًّا بالطلاق، فلا تتروَّى في إيقاعه بسبب سرعة تأثرها وانفعالها" (¬3). وقد يقوم بالطلاق غير الزوج بإنابته، كما في الوكالة والتفويض (¬4)، أو بدون إنابة، كالقاضي في بعض الأحوال للضرورة. شروط الطلاق يشترط لصحة الطلاق شروط موزَّعة على أطراف الطلاق الثلاثة: المطلِّق، والمطلَّقة، وصيغة الطلاق. ¬

(¬1) سورة النساء: 19. (¬2) فإن المخاطب بالتطليق في الآيات والأحاديث المتقدمة هم الأزواج لا الزوجات، ويستدل العلماء على هذا كذلك بما يُروى مرفوعًا: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» لكنه ضعيف أخرجه ابن ماجة (2081)، والبيهقي (7/ 360) عن ابن عباس. (¬3) «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 360) بتصرف واختصار. (¬4) وستأتي أحكام التوكيل والتفويض بالطلاق.

أولا: الشروط المتعلقة بالمطلق

أولًا: الشروط المتعلقة بالمطلِّق: [1] أن يكون زوجًا: أي أن بينه وبين من يريد تطليقها عقد زواج صحيح، فلو قال -قبل أن يتزوجها-: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، فلا عبرة بقوله ولا يعتد به، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك" (¬1). فلا يملك الرجل طلاقًا، إلا إذا كان زوجًا، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ...} (¬2). فذكر الطلاق بعد النكاح. [2] البلوغ: ذهب الجمهور إلى عدم وقوع طلاق الصغير مميزًا كان أو غير مميِّز، لأن الطلاق ضرر محض فلا يملكه الصغير، وكذلك لا يملكه وَليُّه (¬3)، ولحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" (¬4) فإذا كان الصبي غير مكلف لم يقع طلاقه. وذهب الحنابلة إلى أن الصبي إذا كان مميزًا يعقل الطلاق، ويعلم أن زوجته تبين به وتحرم عليه، فإن طلاقه يقع، واستدلوا بما يُروي مرفوعًا: "كل طلاق جائز، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله" (¬5). وبما رُوي عن عليٍّ أنه قال: "اكتموا الصبيان النكاح" (¬6) فيفهم منه أن فائدته ألا يطلقوا، ولأنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق فوقع كطلاق البالغ. ¬

(¬1) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي (1181)، وأبو داود (2190)، وابن ماجة (2047) وله شواهد كثيرة. (¬2) سورة الأحزاب: 49. (¬3) «المدونة» (2/ 127)، و «الأم» (6/ 258)، و «ابن عابدين» (3/ 230)، و «مغني المحتاج» (3/ 279). (¬4) صحيح لغيره: أخرجه أبو داود (4398)، وابن ماجة (2041) وله شواهد عند أبي داود (4401)، وأحمد (1/ 116) بسند صحيح موقوفًا، ولا يصح رفعه. (¬5) صحيح موقوفًا: أخرجه بنحوه عبد الرزاق (7/ 78)، وسعيد بن منصور (1113)، والبيهقي (7/ 359). (¬6) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 74).

وبنحو هذا قال ابن المسيب وعطاء والحسن والشعبي وإسحاق وكأنه اختيار الإسلام إذ قال: "لكن الصبي المميز والمجنون الذي يميز أحيانًا يعتبر قوله حين التمييز" اهـ (¬1). [3] العقل: فلا يصحُّ طلاق المجنون والمعتوه (¬2)، لفقدان أهلية الأداء في الأول، ونقصانها في الثاني، ويدل على ذلك الحديث المتقدم: "رفع القلم عن ثلاثة ... وعن المجنون حتى يعقل" (¬3). وفي حديث ماعز -لما اعترف للنبي صلى الله عليه وسلم بالزنا- قال النبي صلى الله عليه وسلم له: "أبك جنون؟ ... " (¬4). فدلَّ على أن الإقرار من المجنون لا يصح، فكذلك سائر التصرفات والإنشاءات (¬5) وقال عليُّ بن أبي طالب: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه" (¬6) والمراد بالمعتوه هنا: الناقص العقل فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران. هذا في الجنون الدائم المطبق، أما الجنون المتقطع، الذي يغيب فترة عن صاحبه ثم يعود إليه، فإن طلَّق حال جنونه لم يقع، وإن طلق حال إفاقته وقع لكمال أهليته. وقد ألحق العلماء بالمجنون: النائم والمغمى عليه والمدهوش (¬7)، لانعدام الأهلية لديهم وللحديث المتقدم. * طلاق السكران: وأما السكران الذي وصل إلى درجة الهذيان وخلط الكلام، ولا يعلم ما يقول، ولا يعي بعد إفاقته ما صدر منه حال سكره، والسكران لا يخلو من أحد حالين: ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (33/ 108)، وانظر: «المغني» (7/ 116)، و «فتح الباري» (9/ 393)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 102 - 103). (¬2) وهو القليل الفهم، المختلط الكلام، الفاسد التدبير، لكن لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون (ابن عابدين 3/ 243). (¬3) صحيح لغيره: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1695) وغيره عن بريدة، ونحوه في البخاري (5270) عن جابر بدون ذكر اسم الرجل. (¬5) «نيل الأوطار» (6/ 280) ط. الحديث. (¬6) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1113)، وعبد الرزاق (7/ 78). (¬7) المدهوش: هو الذي فقد تمييزه من غضب أو غيره، فلا يدري ما يقول.

(أ) أن يكون غير مُتعدٍّ بسكره: كأن يسكر مضطرًا أو مكرهًا أو تناول دواء العلاج الضروري إذا تعين بقول طبيب مسلم ثقة، أو تعاطي البنج، أو لم يعلم أنه مسكر، ونحو ذلك -وهو نادر- فهذا لا يقع طلاقه بإجماع العلماء (¬1)، لفقدان العقل لديه كالمجنون دون تعدٍّ. (ب) أن يكون متعديًا بسُكره: كأن يشرب الخمر عالمًا به مختارًا لشربه، أو تناول مخدرًا ونحو ذلك، فهذا اختلف أهل العلم في وقوع طلاقه على قولين (¬2): الأول: يقع طلاقه حال سُكره: وهو مذهب جمهور العلماء، منهم أبو حنيفة وصاحباه ومالك والشافعي في أصح قوليه وأحمد في المشهور عنه، وبه قال ابن المسيب والحسن والشعبي وعطاء والأوزاعي والثوري وطائفة من السلف، وحجة هذا المذهب ما يلي: 1 - أن حكم التكليف جار عليه، فيؤاخذ بجنايته، قالوا: ويدل عليه قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون ...} (¬3). فنهيهم حال السكر عن قربان الصلاة يقتضي عدم زوال التكليف!! وأُجيب: بأن هذا ضعيف، فإنه إن أُريد أن وقت السكر يؤمر ويُنهى فهذا باطل، فإن من لا عقل له ولا يفهم الخطاب ولا يعقل ما يقول فليس بمكلف، إذ الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل. وأما الآية الكريمة ففيها نهي لهم أن يسكروا سكرًا يفوتون به الصلاة أو نهي لهم عن الشرب القريب من وقت الصلاة، أو نهي لمن يدب فيه أوائل النشوة، وأما في حال السكر فلا يخاطب بحال (¬4). 2 - أن في إيقاعه عقوبة له، وأُجيب: بأن الشريعة لم تعاقب أحدًا بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه، بل يكفيه الحد وقد وحصل رضا الله عز وجل ¬

(¬1) «المغني» (7/ 116)، و «الإجماع» لابن المنذر (ص: 100). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 239)، و «الهداية» (1/ 230)، و «الدسوقي» (2/ 365)، و «بداية المجتهد» (2/ 138)، و «مغني المحتاج» (3/ 279)، و «الأم» (5/ 253)، و «المغني» (7/ 114 - 115) ط. المنار، و «الإنصاف» (8/ 433)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 102 - 108)، و «زاد المعاد» (5/ 211 - وما بعدها)، و «المحلي» (10/ 208)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 86 - 99). (¬3) سورة النساء: 43. (¬4) «مجموع الفتاوى» (33/ 106).

من هذه العقوبة بالحد، وعقوبته بغيره تغيير لحدود الشريعة، ثم إن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها ما لا يجوز. 3 - أن الصحابة جعلوا السكران كالصَّاحي في الحد بالقذف، فإنهم قالوا: "إذا شرب سكر، وإذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى، وحدُّ المفتري ثمانون" (¬1) وهو ضعيف. وأجيب: بأن هذا لو ثبت، فإنه يبيِّن "أن اقدامه على السكر الذى هو مظنة الافتراء يلحقه بالمقدم على الافتراء، إقامةً لمظنة الحكمة مقام الحقيقة، لأن الحكمة هنا فيه مستترة، لأنه قد لا يُعلم افتراؤه، ولا متى يفتري، ولا على من يفتري، كما أن المضطجع يُحدث ولا يدرى هل هو أحدث أم لا؟ فقام النوم مقام الحدث، فهذا فقه معروف، فلو كانت تصرفاته من هذا الجنس لكان ينبغى أن يطلق امرأته سواء طلق أو لم يطلق، كما يحدُّ حد المفتري سواء افترى، أو لم يفتر، وهذا لا يقوله أحد" (¬2). 4 - أنه لا يعلم زوال عقله إلا بقوله، وهو فاسق بشربه، فلا يقبل قوله في عدم العقل والسكر. 5 - ما يُروى مرفوعًا: "كل الطلاق جائز، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله" (¬3) لكنه ضعيف. القول الثاني: لا يقع طلاق السكران مطلقًا: وهو القول القديم للشافعي واختاره المزني والطحاوي من الحنفية والرواية الأخرى عن أحمد، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث وإسحاق وأبي ثور وهو اختيار شيخ الإسلام وهو مروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحجة هذا القول ما يلي: 1 - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ...} (¬4). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه مالك (1533)، والشافعي (293)، وعبد الرزاق (7/ 378)، والدارقطني (3/ 157، 166)، والحاكم (4/ 417)، والبيهقي (8/ 320). (¬2) «مجموع الفتاوى» (33/ 105). (¬3) ضعيف: أخرجه الترمذي بسند ضعيف، وقد تقدم أنه قد صحَّ نحوه على عليٍّ موقوفًا وليس فيه: «المغلوب على عقله». (¬4) سورة النساء: 43.

قالوا: فجعل قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول، فبطلت صلاته وعبادته لعدم عقله، فبطلان عقوده أولى وأحرى كالنائم والمجنون ونحوهما. 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ... " (¬1) والسكران لا نية له ولا قصد، والعقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصود. 3 - حديث بريدة -في قصة ماعز واعترافه بالزنا- وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشرب خمرًا؟ " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ... الحديث (¬2). فجعل صلى الله عليه وسلم السكر كالجنون في إسقاط العقوبة. وأجيب بأن هذا في باب الحدود، والحدود تُدرأ بالشبهات! 4 - حديث عليٍّ في قصة سُكر حمزة بن عبد المطلب ودخول النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وفيه: " ... فإذا هم شرب فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة قد ثمل محمرةً عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .... ثم قال: هل أنتم إلا عبيد لأبى، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قد ثمل، فنكص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عقبيه القهقرى وخرجنا معه" (¬3). قال ابن حزم (10/ 211): فهذا حمزة رضي الله عنه يقول وهو سكران ما لو قاله غير سكران لكفر، وقد أعاذه الله من ذلك، فصحَّ أن السكران غير مؤاخذ بما يفعله جملة ... اهـ. وقال الحافظ: وهو من أقوى أدلة من لم يؤاخذ السكران بما يقع منه في حال سُكره من طلاق وغيره. اهـ. واعترض بأن الخمر حينئذٍ كانت مباحة فيسقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحال (!!) وأجيب: بأن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه، ولا يفترق الحال بأن يكون الشراب مباحًا أو لا. 5 - ما صحَّ عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "كل الطلاق جائز إلا طلاق النشوان، وطلاق المجنون" (¬4) قال شيخ الإسلام (33/ 102): ولم يثبت عن الصحابة خلافُه فيما أعلم. 6 - وعن عمر بن عبد العزيز "أنه أُتي برجل طلَّق امرأته وهو سكران، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (3091). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1112)، وعبد الرزاق (12308)، وابن أبي شيبة (5/ 39)، والبيهقي (7/ 359).

فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو أنه طلَّق وما يعقل، فحلف، فردَّ عليه امرأته وضربه الحد" (¬1). 7 - "من سكر بشرب محرَّم فلا ريب أنه يأثم بذلك، ويستحق من عقوبة الدنيا والآخرة ما جاء به أمر الله تعالى، فهذا الفرق ثابت بينه وبين من سكر سكرًا يُعذر فيه، لكن كون عهده الذى يعاهد به الآدميين يترتب عليه أثره ويحصّل مقصوده، فهذا لا فرق فيه بين سكر المعذور وغير المعذور، لأن هذا إنما كان الموجب لصحته أن صاحبه فَعَله وهو عاقل مميِّز، لا أنه برٌّ وفاجر، والشرع لم يجعل السكران بمنزله الصاحى أصلًا" (¬2). قلت: القول بعدم وقوع طلاق السكران مطلقًا أرجح وأليق بمقاصد الشريعة وأصولها، ثم إنه لا فرق بين زوال العقل بمعصية أو غيرها، فإن من كَسَرَ ساقيه يجوز له أن يصلي قاعدًا، ومن ضربتْ بطن نفسها -وهي حامل- فنفست سقطت عنها الصلاة، وهذا هو القول المعمول به في المحاكم المصرية، والله أعلم. [4] القصد والاختيار: والمراد به هنا: إرادة التلفظ بلفظ الطلاق (¬3) باختياره من غير إجبار، ولو لم ينوه، فلا يقع طلاق فقيه يُعلِّم طلابه ولا حاك عن نفسه أو غيره، لأنه لم يقصد معناه وإنما قصد التعليم أو الحكاية، ولا طلاق أعجمي لُقِّن لفظ الطلاق بلا فهم منه لمعناه، وهذا متفق عليه (¬4). وأما المخطئ، والمكره، والغضبان، والسفيه، والمريض، فقد اختلف أهل العلم في صحة طلاقهم: (أ) طلاق المخطئ (¬5): وهو من لم يقصد التلفظ بالطلاق أصلًا، وإنما قصد لفظًا آخر فسبقه لسانه إلى الطلاق من غير قصد، كأن يريد أن يقول لزوجته: أنت طاهر، فإذا به يخطئ ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1110)، وابن أبي شيبة (5/ 39). (¬2) «مجموع الفتاوى» (33/ 108). (¬3) وليس المراد هنا: النية لإيقاع الطلاق وإنما انتقاؤه للفظ الطلاق وإن لم يُرِدْ إيقاعه، فلينتبه!! (¬4) «فتح القدير» (3/ 39)، و «القوانين» (ص 230)، و «مغني المحتاج» (3/ 287)، و «كشاف القناع» (5/ 263). (¬5) «ابن عابدين» (3/ 230)، و «الدسوقي» (2/ 266)، و «مغني المحتاج» (3/ 287)، و «المغني» (7/ 118)، و «المحلي» (10/ 200).

ويقول: أنت طالق [وهو غير هازل، فالهازل قاصد للفظ الطلاق وإن كان غير قاصد للفرقة وطلاقه صحيح كما سيأتي] فهذا المخطئ اختلف أهل العلم في صحة طلاقه: فذهب الجمهور إلى أن طلاقه لا يقع قضاءً وديانة (¬1)، إذا ثبت خطؤه بالقرائن، فإذا لم يثبت خطؤه وقع الطلاق قضاءً، ولم يقع ديانة، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬2). ولا يقاس المخطئ على الهازل، لأن وقوع طلاق الهازل جاء للنص على خلاف القياس كما سيأتي في موضعه، ولأن الهازل قصد اللفظ فاستحق العقوبة بخلاف المخطئ. وعند الحنفية يقع طلاقه قضاءً سواء ثبت خطؤه أم لا، ولا يقع ديانةً، وذلك لخطورة محل الطلاق وهو المرأة، ولأن في عدم إيقاعه فتح باب الادِّعاء بذلك بغير حق للتخلص من وقوع الطلاق، وهو ذريعة يجب سدُّها. (ب) طلاق المُكره: ذهب جمهور العلماء، منهم: مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وطائفة من السلف، وهو مروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم ذهبوا إلى عدم وقوع طلاق المكره (¬3) بغير حق، وهو اختيار شيخ الإسلام، وحجتهم ما يلي: 1 - قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} (¬4). فلما وضع الله عن المكره على الكفر حكم الكفر، سقطت أحكام الإكراه عن القول كلِّه، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس، سقط ما هو أصغر منه (¬5). ¬

(¬1) وقوعه ديانةً أي: فيما بينه وبين الله تعالى، وقضاءً أي إذا رفع إلى القاضي فيحكم به. (¬2) صححه الألباني: أخرجه ابن ماجة (2045) وغيره وأعلُّه أبو حاتم كما في «العلل» (1/ 431) فليحرر. (¬3) «الكافي» لابن عبد البر (2/ 571)، و «بداية المجتهد» (2/ 137)، و «مغني المحتاج» (3/ 289)، و «حاشية الجمل» (4/ 323)، و «المغني» (7/ 118)، و «الإنصاف» (8/ 439)، و «المحلي» (1/ 202). (¬4) سورة النحل: 106. (¬5) نقل البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 356) نحوه عن الشافعي - رحمه الله -.

2 - حديث: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد تقدم في "طلاق المخطئ". 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق، ولا عتاق، في غلاق" (¬1) أي: إكراه. 4 - عن ثابت بن الأحنف: "أن عبد الرحمن بن زيد توفي وترك أمهات أولاده، قال: فخطبتُ إحداهن إلى أسيد بن عبد الرحمن، وهو أصغر من عبد الله بن عبد الرحمن، فأنكحني، فلما بلغ ذلك عبد الله، بعث إليَّ، فاحتملت إليه، فإذا حديد وسياط، فقال: طَلِّقها وإلا ضربتك بهذه السياط، وإلا أوثقتك بهذا الحديد، قال: فلما رأيت ذلك طلقتها ثلاثًا، أو قال: بتتُّها، فسألت كل فقيه بالمدينة، فقالوا: ليس بشئ، فسألت ابن عمر فقال: ائت ابن الزبير، قال: فاجتمعت أنا وابن عمر عند ابن الزبير بمكة، فقصصت عليهما، فردَّاها عليَّ" (¬2). 5 - ولأنه منعدم الإرادة والقصد، فكان كالمجنون والنائم. * فائدة: ذكر ابن قدامة للإكراه الذي لا يقع به الطلاق ثلاثة شروط (¬3): " (أ) أن يكون من قادرٍ بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه. (ب) أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به، إن لم يُجبه إلى ما طلبه. (جـ) أن يكون مما يستضر به ضررًا كثيرا كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويلين، فأما السب والشتم فليس بإكراه، وكذلك أخذ المال اليسير" اهـ. * وخالف أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبعض السلف، فقالوا: يقع طلاق المكره، لأنه عرف الشَّرين واختار أهونهما، وهذا آية القصد والاختيار، إلا أنه غير راضٍ بحكمه وذلك غير مُخلٍّ به، كالهازل (¬4). قلت: ومذهب الجمهور أقوى لقوة أدلته، والله أعلم. * تنبيه: هذا كله في الإكراه بغير حق، لكن لو أكُره على الطلاق بحق، كالمُؤلي إذا انقضت مدة الإيلاء بدون فئ، فأجبره القاضي على الطلاق فطلَّق، فإنه يقع بالإجماع. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2193)، وأحمد (6/ 276)، والحاكم (2/ 198)، وانظر «جامع أحكام النساء» (4/ 115). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (11410) ونحوه عند مالك (2/ 587)، والبيهقي (7/ 358) بسياق أطول. (¬3) «المغني» (7/ 119). (¬4) «الهداية» (1/ 299)، و «فتح القدير» (3/ 488)، و «نصب الراية» (3/ 222).

(جـ) طلاق الغضبان: الغضب: حالة من الاضطراب العصبي، وعدم التوازن الفكري، تحل بالإنسان إذا عدا عليه أحد بالكلام أو غيره. والغضب على ثلاثة أقسام (¬1): 1 - "أن يحصل للإنسان مبادؤه وأوائله، بحيث لا يتغير عقله ولا ذهنه، ويعلم ما يقول ويقصده، فهذا لا إشكال في وقوعه طلاقه، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردد فكره". قلت: (أبو مالك): وهذا هو الغالب في طلاق الرجال، إنما يكون في حال الغضب، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان مطلقًا، لكان لكل أحد أن يقول: كنت غضبان!! 2 - "أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة، فلا يعلم ما يقول، ولا يريده، فهذا لا يتوجَّه خلاف في عدم وقوع طلاقه". قلت: وعليه يحمل حديث: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (¬2) فقد قال أبو داود في "سننه" عقب الحديث: والإغلاق، أظنه الغضب. اهـ (¬3). 3 - "من توسَّط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه، ولم ينته إلى آخره بحيث صار كالمجنون، فهذا موضوع الخلاف، ومحل النظر". قلت: في هذه الحالة يصل به الغضب إلى درجة يغلب عليه فيها الخلل والاضطراب في أقواله، وأفعاله، فيمنعه من التثبت والتروي، وإن كان لا يزيل عقله بالكلية، وهي حالة نادرة كذلك، ومذاهب الأئمة الأربعة: أنه يقع طلاق الغضبان بهذه الكيفية (¬4) وقال آخرون: لا يقع في هذه الحالة، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، حيث قال: والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه، وعتقه، وعقوده، التي يُعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من الإغلاق كما فسَّره به الأئمة (¬5). ¬

(¬1) «زاد المعاد» (5/ 214)، و «إعلام الموقعين» (2/ 41). (¬2) ضعيف: تقدم قريبًا. (¬3) على أنه قد فسِّر الإغلاق بالإكراه وبالجنون وبتطليق الثلاث دفعة واحدة وغير ذلك. (¬4) «ابن عابدين» (3/ 243)، و «الدسوقي» (2/ 366)، و «حاشية الجمل» (4/ 324)، و «كشاف القناع» (5/ 235). (¬5) «إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان» لابن القيم (ص: 13).

وإلى هذا مال ابن عابدين -رحمه الله- فقال: " ... فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه، إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال: لا تعتبر أقواله، وإن كان يعلمها ويريدها، لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح كما لا تعتبر من الصبي العاقل" اهـ. (د) طلاق السفيه: السفيه: خفيف العقل، الذي يتصرف في المال على غير وفق العقل والشرع. وطلاق السفيه يقع عند أكثر أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وغيرهم، ومنعه عطاء والشيعة الإمامية. وصحته أولى، لأن السفيه مكلف مالك لمحل الطلاق، ولأنَّ السَّفَه موجب للحجر في المال خاصته، وهذا تصرف في النفس، وهو غير متهم في حق نفسه، فإن نشأ عن طلاق السفيه آثار مالية كالمهر فهي تبع لا أصل، والله أعلم (¬1). (هـ) طلاق المريض (طلاق الفرار) (¬2): إذا طلَّق المريض -مرض الموت- زوجته المدخول بها في مرضه بغير طلب منها أو رضا طلاقًا بائنًا، ثم مات وهي في عدتها من طلاقة هذا، فهل يقع طلاقه أم لا؟ وهل ترثه المطلقة أم لا؟ ليس في هذه المسألة نصٌ من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب الجمهور إلى أنه يُعدُّ فارًّا من إرثها حكمًا، فترث منه رغم وقوع الطلاق عليها (!!) عملًا بسدِّ الذريعة لقطع حظها من الميراث ومعاملة له بنقيض قصده، وهؤلاء إنما استأنسوا بفتوى عمر وعثمان رضي الله عنهما. ثم انقسم هؤلاء ثلاث فرق: 1 - فقالت طائفة: ترث ما دامت في العدة لأن العدَّة عندهم من بعض أحكام الزوجية، وكأنهم شبَّهوها بالمطلقة الرجعية، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 238)، و «مغني المحتاج» (3/ 279)، و «الدسوقي» (2/ 365). (¬2) «ابن عابدين» (2/ 418)، و «فتح القدير» (4/ 146 - وما بعدها)، و «الدسوقي» (2/ 352)، و «بداية المجتهد» (2/ 139)، و «المدونة» (2/ 132)، و «الأم» (3/ 254)، و «مغني المحتاج» (3/ 293)، و «المغني» (6/ 329)، و «المحلي» (10/ 218 - وما بعدها) وفيه بحث نفيس.

2 - وقالت طائفة: ترث ما لم تتزوَّج، وبه قال ابن أبي ليلى والإمام أحمد، لكنه خلاف الأصحِّ عند الحنابلة، ولعلهم لحظوا إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث زوجين. قلت: كذا وجَّهه ابن رشد، والذي يظهر لي أن المراد بقولهم (ما لم تتزوج) أي: ما لم يمكنها التزوَّج أي بانقضاء العدة، فرجع إلى الأول، وقد أشار إلى ذلك ابن الهمام. 3 - وقالت طائفة: ترثه مطلقًا، سواء كانت في العدة أم لا، تزوجت أم لم تتزوج، وهو مذهب مالك والليث!! وحجتهم الرواية الآتية عن عثمان رضي الله عنه وقد صحَّ خلافها كذلك كما سيأتي، واحتج هؤلاء جميعًا على توريثها بما يأتي: (أ) أن عثمان بن عفان: "ورَّث امرأة عبد الرحمن بن عوف بعد انقضاء العدة وكان طلَّقها مريضًا" (¬1). (ب) عن ابن أبي مليكة "أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يطلق المرأة فيبتُّها، ثم يموت وهي في عدتها؟ فقال ابن الزبير: طلق عبد الرحمن بن عوف ابنة الأصبغ الكلبى فبتَّها ثم مات وهي في عدتها، فورَّثها عثمان، قال ابن الزبير: وأما أنا فلا أرى أن ترث المبتوتة" (¬2). (ج) عن ابن عمر قال: "طلَّق غيلان بن سلمة الثقفي نساءه، وقسَّم أمواله بين بنيه في خلافة عمر، فبلغ ذلك عمر، فقال: طلَّقت نساءك، وقسمت مالك بين بنيك؟ قال: نعم، قال: والله إني لأرى الشيطان فيما يسرق من السمع سمع بموتك، فألقاه في نفسك، فلعلك أن لا تمكث إلا قليلًا، وايم الله لئن لم تراجع نساءك، وترجع في مالك، لأورثهن منك إذا متَّ، ثم لآمرنَّ بقبرك فليرجمنَّ كما رجم قبر أبي رغال" (¬3). قالوا: وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليهما فكان إجماعًا!! * بينما ذهب الشافعي -في الجديد- وابن حزم إلى أن الطلاق يقع وأنها لا ترث منه سواء مات في عدتها أو بعدها، لما يأتي: 1 - أنه طلَّق وهو بالغ غير مغلوب على عقله فجاز طلاقه كما لو كان صحيحًا. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12191، 12195). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12192)، وابن أبي شيبة (5/ 217). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12216).

2 - لأنه إذا طلقها بائنًا انقطعت الزوجية، ولا يجوز توريثها بلا سبب ولا نسب. 3 - أن فتوى عثمان وعمر رضي الله عنهما معارضة بفتوى ابن الزبير وقد أجيب عن هذا بأن ابن الزبير لم يكن في ذلك الزمان من الفقهاء، إذ لم يعرف له قبل ذلك فتوى ولا شهرة بفقه!! ثم إنه قال في بعض الروايات: "لو كنت أنا لم أورثها" فأراد به: لعدم علمي إذ ذاك بأن الحكم الشرعي في حقها ذلك!! قلت: أما الوجه الأخير فيأباه السياق الذي قدمتُه من قوله: "وأما أنا فلا أرى أن ترث المبتوتة" وهذا واضح. 4 - أن التعليل لعدم إيقاع الطلاق بأنه يُظَن أنه يريد ظلمهما والفرار من توريثها، فهذا الظن لا ينبغي أن تُبطل به الأحكام الشرعية، ثم إن هذا الظن موجود في حال صحته وقوته كذلك. * الراجح: لا يخلو الأمر -على التحقيق- من أحد أمرين: إما أن يكون الطلاق قد وقع فتنقطع الزوجية ويسقط التوارث، وإما أن لا يقع الطلاق ولا يعتد به في مرض الموت مطلقًا فالزوجية قائمة والتوارث ثابت، أما أن يكون طلاق تبث به بعض أحكامه دون بعض، فهذا خلاف الأصول. وعلى هذا، فمن جعل فتوى عثمان وعمر (¬1) رضي الله عنهما ولم يعتدَّ بمخالفة ابن الزبير لزمه أن يقول بعدم وقوع الطلاق، وأوجب لها الميراث. ومن لم يجعل ذلك حجة عمل بالأصل وهو وقوع الطلاق من المريض -كغيره- وسقوط التوارث، وهو الأقرب والله أعلم. * فائدتان: 1 - إذا طلقَّها طلاقًا رجعيًّا فمات في مرضه أو لم يمت فيه، أو ماتت هي، فإنهما يتوارثان بالاتفاق. 2 - وإذا طلبت هي الطلاق أو قال لها: اختاري، فاختارت نفسها عليه، أو اختلعت، فقال الأوَّلون -إلا أبا حنيفة-: ترثه، وقال أبو حنيفة: لا ترث. قلت: قول أبي حنيفة هو مقتضى النظر، فإن طلبها الطلاق ورغبتها فيه ينفي معنى الفرار الذي لأجله أوجبوا لها الميراث، والله أعلم. ¬

(¬1) على أنه ليس في أثر عمر أن الرجل كان مريضًا، فلينتبه!!

* طلاق الكافر، هل يقع؟ فائدة هذه المسألة تظهر فيما إذا طلَّق الرجل -وهو كافر- زوجته تطليقتين ثم أسلم، فهل تُحسبان عليه ويبقى له عليها تطليقة واحدة؟ أو لا تُحسبان ويبقى له ثلاث؟ اختلف أهل العلم في ذلك على قولين (¬1): الأول: يقع طلاق المشرك ويُحسب عليه، وهو مذهب جمهور العلماء، وحجتهم: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت نكاح المشرك وأقرَّ أهله عليه في الإسلام، فكذلك الطلاق، لأن الطلاق يثبت بثبوت النكاح ويسقط بسقوطه. 2 - أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة على الراجح. الثاني: لا يقع طلاق المشرك ولا يُحسب عليه: وهو مذهب مالك وداود وابن حزم، وبه قال الحسن وقتادة وربيعة، وحجتهم ما يلي: 1 - قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين} (¬2). 2 - حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يهدم ما قبله" (¬3). 3 - أنه أسلم رجال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يسألهم عن عدد تطليقاتهم قبل الإسلام وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم من المقال. 4 - أن الأصل في جميع أفعال الكافر عدم الاعتبار بها، فخرج النكاح بإقراره صلى الله عليه وسلم وبقي الطلاق على الأصل. قلت: وهذا هو الأقرب، والله أعلم. * طلاق الهازل: (أ) ذهب جمهور أهل العلم إلى أن من تلفَّظ -ولو هازلًا أو لاعبًا- بصريح لفظ الطلاق، فإنه يقع طلاقه إذا كان بالغًا عاقلًا، ولا ينفعه حينئذٍ أن يقول: كنت لاعبًا أو هازلًا، أو لم أنو به طلاقًا، أو ما أشبه ذلك، واحتجوا بما يلي: ¬

(¬1) «الأم» (5/ 79)، و «المدونة» (2/ 127)، و «فتح الباري» (9/ 390)، و «المحلي» (10/ 201)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 108). (¬2) سورة الأنفال: 38. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم وغيره.

1 - قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزوًا} (¬1). 2 - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدُّهنَّ جدٌّ، وهزلهن جدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة" (¬2). "قالوا: لو أطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول: كنت في قولي هازلًا، فيكون في ذلك إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى، وذلك غير جائز، فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه، ولم يُقبل منه أن يدَّعى خلافه، وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له" (¬3). 3 - قال ابن القيم -رحمه الله-: " ... الهازل قاصد للفظ الطلاق غير مريد لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنما إلى المكلَّف الأسباب، وأما ترتب أحكامها فهو إلى الشارع وتكليفه، فإذا قصده رتَّب الشارع عليه حكمه جدَّ به أو هَزَل، وهذا بخلاف النائم والمبرسم والمجنون والسكران وزائل العقل، فإنهم ليس لهم قصد صحيح وليسوا مكلفين، فألفاظهم لغو بمنزلة ألفاظ الطفل الذي لا يعقل معناها ولا يقصدها، وسر المسألة: الفرق بين من قصد اللفظ وهو عالم به ولم يُرد حكمه، وبين من لم يقصد اللفظ ولم يعلم معناه، فالمراتب التي اعتبرها الشرع أربع: إحداها: أن يقصد الحكم ولا يتلفَّظ به. الثانية: أن لا يقصد اللفظ ولا حكمه. الثالثة: أن يقصد اللفظ دون حكمه. الرابعة: أن يقصد اللفظ والحكم. فالأوُليان لغو، والآخرتان معتبرتان، هذا الذي استفيد من مجموع نصوصه وأحكامه" اهـ (¬4). (ب) وذهب مالك -وهو قول عن أحمد- وغيره إلى أن التلفظ بصريح الطلاق يشترط لوقوعه وجود النية والعلم باللفظ مع إرادة مقتضاه، واحتجوا بما يلي: ¬

(¬1) سورة البقرة: 231. (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجة (2039) بسند ضعيف، وله شواهد ضعيفة اختلف في تحسينه بها، وقد حسَّنه الألباني في «الإرواء» (6/ 224). (¬3) «معالم السنن» للخطابي. (¬4) «زاد المعاد» (5/ 204 - 205).

ثانيا: الشروط المتعلقة بالمطلقة

1 - قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} (¬1). قالوا: فدلَّ على اعتبار العرز، والهازل لا عزم منه، وأجيب بأن الاستدلال بالآية على تلك الدعوى غير صحيح من أصله، فإنها نزلت في المولى (¬2). 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ... " (¬3). ثانيًا: الشروط المتعلِّقة بالمطلَّقة: يُشترط في المطلَّقة ليقع عليها الطلاق ما يلي: 1 - أن تكون الزوجية قائمة بينها وبين زوجها حقيقة أو حكمًا (¬4): كأن تكون المطلَّقة زوجة للمطلق، أو معتدَّة من طلاقه الرجعى. فإذا كانت معتدة من طلاق بائن أو فسخ، فذهب الجمهور إلى عدم وقوع الطلاق عليها لانقضاء النكاح بالبينونة والفسخ، وذهب الحنفية إلى أن المبانة بينونة صغرى في عدتها زوجة من وجه بدلالة جواز عودها إلى زوجها بغير عقد جديد أثناء العدة، وعدم حل زواجها من غيره قبل انقضاء العدة، فلهذا يجوز تطليقها. وإذا طلقت المرأة قبل الدخول والخلوة، فلا عدة عليها، لقوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (¬5). ويكون طلاقًا بائنًا فلا يلحقها طلاق آخر عند الحنفية والشافعية، فلو قال الرجل لزوجته التي لم يدخل ولم يختل بها: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) فلا تقع إلا طلقة واحدة لأنها بالتطليقة الأولى صارت بائنًا من زوجها، وأصبحت أجنبية، فلا يلحقها طلاق آخر. وقال المالكية والحنابلة: يقع بهذه الألفاظ المتتابعة ثلاث طلقات، لأنه نسق أي: غير مفترق، لأن الواو تقتضي الجمع ولا ترتيب فيها، فيكون الرجل موقعًا للثلاث جميعًا فيقعن عليها (¬6)، إلا أنه إذا قصد بالثانية والثالثة تأكيد ما قبلها، فيُصدَّق -عند المالكية- قضاءً بيمين، وديانة بغير يمين. ¬

(¬1) سورة البقرة: 227. (¬2) «نيل الأوطار» (6/ 278) ط. الحديث. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1)، ومسلم. (¬4) «ابن عابدين» (3/ 344)، و «القوانين الفقهية» (229)، و «الشرح الكبير» (2/ 370) مع الدسوقي، و «مغني المحتاج» (3/ 292)، و «المغني» (7/ 233). (¬5) سورة الأحزاب: 49. (¬6) سيأتي تحرير مسألة: هي يقع طلاق الثلاث دفعة واحدة؟ قريبًا إن شاء الله.

ثالثا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق

2 - أن يُعيِّن الزوجُ المطلقة بالإشارة أو بالصفة أو بالنية: فأيُّها قدَّم جاز، فإن عيَّن المطلقة بالإشارة والصفة والنية وقع عليها الطلاق اتفاقًا، كأن يقول لزوجته التي اسمها زينب مشيرًا إليها قاصدًا طلاقها: (يا زينب، أنت طالق). وكذلك لو أشار إلى واحدة من نسائه دون أن يصفها بوصف، ولم ينو غيرها، يقع الطلاق اتفاقًا، وكذلك إذا وصفها بوصفها دون الإشارة ودون قصد غيرها، كأن يقول: (سلمى طالق). فإن قال: (إحدى نسائي طالق) ونوى واحدة ولم يُشر إلى إحداهن، فإنها تطلَّق دون غيرها. * وإن أشار إلى واحدة ووصف غيرها: كأن يقول لزوجته سلمى: (أنت يا زينب طالق) وكانت زينب زوجته كذلك، طُلِّقت المشار إليها (سلمى) دون الغائبة الموصوفة، قضاء عن الحنفية، للقاعدة: (الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر) (¬1) وكذلك لو أشار إليها ووصفها بغير وصفها، فإنها تطلق للقاعدة السابقة. ثالثًا: الشروط المتعلقة بصيغة الطلاق: الأصل في الطلاق أن يعبَّر عنه باللفظ، وقد يُستعاض عن اللفظ في بعض الأحوال بالكتابة أو الإشارة. (أ) الطلاق باللَّفظ (¬2): لفظ الطلاق إما أن يكون صريحًا أو كناية: فالصريح: هو الذي يُفهم منه -عند التلفظ به- معنى الطلاق، ولا يحتمل معنى آخر، لعدم استعماله إلا في الطلاق غالبًا، لغة أو عرفًا، كقول الرجل: (أنت طالق-طلقتك-أنت مطلقة) ونحو ذلك اتفاقًا. واستُعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم، فمن ذلك: قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ...} (¬3). ¬

(¬1) «مجلة الأحكام العدلية» (مادة / 65). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 247 - 296)، و «الدسوقي» (2/ 378)، و «مغني المحتاج» (3/ 280)، و «المغني» (7/ 318 - 319)، و «المحلي» (10/ 185 - 196) وفيه بحث مانع، و «جامع أحكام النساء» (4/ 59 - 63)، و «نيل المآرب» (2/ 237). (¬3) سورة الطلاق: 1.

وقوله عز وجل: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ...} (¬1). وقوله سبحانه: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقًّا على المتقين} (¬2). وقد ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى اعتبار ألفاظ: الفراق والسراح كالطلاق في كونها صريحة في معنى الطلاق، لورود الثلاثة في كتاب الله بهذا المعنى: ففي ذكر الفراق بمعنى الطلاق: قال الله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (¬3). وقال سبحانه: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} (¬4). وفي ذكر التسريح بمعنى الطلاق، قال الله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (¬5). وقال سبحانه: {... وأسرحكن سراحًا جميلا} (¬6). قلت: الأظهر قول الحنفية والمالكية (¬7) بأن ألفاظ الفراق والتسريح ليست صريحة وإنما هي كناية لأنهما يشترك في معناهما الطلاق وغيره، فقد قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} (¬8). وقال سبحانه: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} (¬9). وليس للتفرق هنا علاقة بالطلاق كما هو ظاهر. وكذلك قوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ... وسرحوهن سراحًا جميلًا} (¬10). فذكر التسريح بعد الطلاق، وهو هنا بمعنى الإرسال كما قال كثير من أهل العلم (¬11). فإذا كان كذلك فإن ألفاظ الفراق والتسريح تعتبر من الكنايات. ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 49. (¬2) سورة البقرة: 241. (¬3) سورة الطلاق: 2. (¬4) سورة النساء: 130. (¬5) سورة البقرة: 229. (¬6) سورة الأحزاب: 28. (¬7) والمالكية مع اعتبارهم ألفاظ الفراق والتسريح كنائية إلا أنهم ألحقوها بالصريحة في وقوع الطلاق بها بغير نية (!!). (¬8) سورة آل عمران: 103. (¬9) سورة البينة: 4. (¬10) سورة الأحزاب: 49. (¬11) «جامع أحكام النساء» لشيخنا - رفع الله مقامه - (4/ 60).

وينبغي أن يُعلم أن "تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيمًا صحيحًا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكمًا ثابتًا للفظ لذاته، فرُبَّ لفظ صريح عند قوم كناية عند آخرين، أو صريح في زمان أو مكان كناية في غير ذلك الزمان والمكان، والواقع شاهد بذلك، فهذا لفظ السَّراح لا يكاد أحد يستعمله في الطلاق لا صريحًا ولا كناية، فلا يسوغ أن يقال: من تكلم به لزمه طلاق امرأته، نواه أو لم ينوه!!، ويدعي أنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال، فإن هذه دعوى باطلة شرعًا واستعمالًا، أما الاستعمال فلا يكاد أحد يطلق به ألبتة، وأما الشرع فقد استعمله في غير الطلاق ... " اهـ (¬1). * ولا تشترط النية في وقوع الطلاق الصريح: وكذلك إذا صرَّح بالطلاق ولو نوى نية مناقضة، فإنه يقع قضاءً، فلو أطلق اللفظ الصريح ثم قال: لم أنو به شيئًا، وقع الطلاق، ولو قال: نويت غير الطلاق، لم يصدق قضاءً، وصُدِّق ديانة، هذا إذا لم تَحُفَّ باللفظ من قرائن الحال ما يدل على صدق نيته في إرادة غير الطلاق، فإن وُجدت قرينة تدل على عدم قصده الطلاق صدق قضاءً أيضًا، ولم يقع به عليه طلاق، كالمكره والمخطئ على ما تقدم. وعلى هذا فيشترط -فقط- لمن أطلق اللفظ الصريح أن يفهم معناه ويختاره، لا أن ينوي إيقاعه فهذا لا يشترط في اللفظ الصريح. 2 - وأما الكناية: وهو اللفظ الذي لم يوضع للطلاق خاصة، وإنما احتمله وغيره، فإذا لم يحتمله أصلًا لم يكن كناية، وكان لغوًا، ولم يقع به شيء (¬2). ومثال اللفظ الكنائي، أن يقول الرجل: (سرحتُك-أنت مسرَّحة-فارقتك- أنت مفارقة). وكأن يقول: (اعتدِّى-واستبرئي رحمك- الحقي بأهلك- أنت خليَّة- أنت مُطْلَقة- بغير تشديد-ونحو ذلك) عند بعض العلماء (¬3). ¬

(¬1) «زاد المعاد» (5/ 321 - 322). (¬2) «المغني» لابن قدامة (7/ 329). (¬3) وقد ذهب أبو محمد بن حزم - رحمه الله - في «المحلي» (10/ 185 - 196) إلى أن الطلاق لا يقع بحال إلا إذا كان بأحد الألفاظ الثلاثة الواردة في كتاب الله. (الطلاق - الفراق - السراح) وما عداها فلا يقع به طلاق البتة سواء نوى الطلاق أو لم ينوه، وقد ذكر الألفاظ الأخرى ثم قال: «وهذه الألفاظ جاءت فيها آثار مختلفة الفتيا عن نفر من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولم يأت فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أصلًا، ولا حجة في كلام غيره - عليه الصلاة والسلام - لاسيما في أقوال مختلفة ليس بعضها أولى من بعض ...» اهـ.

ولابد من النية لوقوع الطلاق الكنائي: لأن اللفظ يحتمل الطلاق وغيره، فلا يُصرف إلى الطلاق إلا بنية، وأما وقوعه بالنية فلأن اللفظ يحتمله فيصرف إليه بها. * فائدة: هل تَحل قرائن الحال محلَّ النية في وقوع الطلاق الكنائي؟ (¬1). فلو قال الرجل لزوجته في حال غضبع وشجاره معها: (الحقي بأهلك) (¬2) ولم ينو الطلاق، فهل يقع؟ 1 - ذهب الحنفية وهو المعتمد عند الحنابلة أن القرائن تحل محلَّ النية في الطلاق الكنائي، فيقع الطلاق عندهم في هذه الحالة وإن لم ينوه (!!) 2 - وأما المالكية والشافعية -وهو رواية عند الحنابلة- فلم يعتبروا قرائن الحال هنا، فلا يقع الطلاق عندهم باللفظ الكنائي إلا إذا نوى الطلاق. قلت: وهذا هو الأرجح، والله أعلم. * إذا طلَّق امرأته في نفسه ولم يتلفَّظ به لم يقع: لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" (¬3). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 247)، و «الدسوقي» (2/ 378)، و «مغني المحتاج» (3/ 280)، و «المغني» (7/ 322). (¬2) اختلف العلماء في قوله (الحقي بأهلك) هل هو من ألفاظ الطلاق يقع به الطلاق أصلًا أو لا؟ والذي يظهر أنه لا يقع به طلاق، وأما حديث عائشة: أنَّ ابنة الجون لما أُدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: «لقد عُذت بمعاذ، الحقي بأهلك» فليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عقد عليها، ويؤيده أنه في بعض طُرق البخاري (5257) أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل عليها قال: «هبي نفسك لي ...». ورواية عند البخاري (5637)، ومسلم (2007) أنها لما قالت: «أعوذ بالله منك، قال: «قد أعذتك مني» فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ فقالت: لا، قالوا: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليخطبك ... الحديث» ففيهما أنه لم يكن عقد عليها. ويؤيد هذا أيضًا ما في البخاري (4418)، ومسلم (2769) في قصة كعب بن مالك وصاحبيه: «... فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ أو ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها ... فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر» وهو صريح في أن هذا اللفظ لا يعد طلاقًا، لكن قد جاء في قصة إسماعيل - عليه السلام - مع زوجته لما أخبرته بمجيء الشيخ وطلبه منه أن يغيِّر عتبة بابه، فقال إسماعيل - عليه السلام -: «ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلَّقها ...» الحديث رواه البخاري (3364)، فلو قيل: هو من الألفاظ الكنائية في الطلاق التي يقع بها إذا وجدت النية، لأجل هذا الحديث، فليس هذا ببعيد كذلك، والله تعالى أعلم. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5269)، ومسلم (127).

وبهذا قال عامة أهل العلم (¬1). * إذا قال لامرأته: (أنت عليَّ حرام)، هل يقع طلاقًا؟ لم يقع في القرآن الكريم -صريحًا- ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نصٌّ ظاهر صحيح يُعتمد عليه في حكم هذه المسألة، ولذا تجاذبها العلماء، واختلفوا فيها على أقوال كثيرة ذكر ابن حزم منها اثنى عشر وذكر ابن القيم ثلاثة عشر مذهبًا أصولًا تفرَّعت إلى عشرين مذهبًا (¬2)، وأقرب هذه الأقوال أربعة: الأول: إن نوى به الطلاق وقع طلاقًا، وإن لم ينوه كان يمينًا، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك -في المدخول بها- والشافعي ورواية عن أحمد (¬3)، على اختلاف بينهم في بعض الجزئيات والتفصيلات، وحجتهم: أن الطلاق نوع تحريم فصحَّ أن يكنى به عنه كسائر كنايات الطلاق لمن يشترط لوقوعه النية كما تقدم. فإن لم توجد نية الطلاق فهو يمين لقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تيتغي مرضات أزواجك ... قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (¬4). قال القرطبي: تحليل اليمين كفارتها. اهـ. الثاني: يقع ظهارًا نوى الظهار أو لم ينوه، ويكون فيه كفارة ظهار: وهو مذهب أحمد وقول للشافعي، وقد صح عن ابن عباس (¬5). وحجة هذا القول أن الله تعالى جعل التشبيه بمن تحرم عليه ظهارًا، فالتحريم أولى، قال ابن القيم: وهذا أقيس الأقوال، ويؤيده أن الله تعالى لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم، وإنما ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له مباشرة الأقوال والأفعال التي يترتب عليها التحريم، فإذا قال: (أنت عليَّ كظهر أمي، أو: أنت عليَّ حرام) فقد قال المنكر من القول والزور وكذب على الله تعالى، فإنه لم يجعلها عليه كظهر أمِّه ولا جعلها عليه حرامًا -فقد أوجب بهذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار (¬6). ¬

(¬1) «المغني» (7/ 121)، و «فتح الباري» (9/ 394). (¬2) انظر «المحلي» (10/ 124 - 128)، و «زاد المعاد» (5/ 302 - 313)، و «إعلام الموقعين»، و «نيل الأوطار» (6/ 313). (¬3) «جواهر الإكليل» (1/ 347)، و «ابن عابدين» (3/ 254)، و «حاشية الجمل» (4/ 331)، وما تقدم. (¬4) سورة التحريم: 1، 2. (¬5) «المغني» (7/ 414)، و «الإنصاف» (8/ 486). (¬6) وستأتي أحكام الظهار قريبًا - إن شاء الله.

الثالث: أنه يمين يكفَّر عنه بكفارة اليمين سواء نوى الطلاق أو غيره: وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور وبه قال أبو بكر وعمر وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم (¬1)، وحجة هذا القول: 1 - قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ... قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (¬2). 2 - وسبب نزول الآية: تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه احتباسه عند بعض نسائه وشرب العسل. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلًا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فتواطئت أنا وحفصة أن أيَّتُنَا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير (¬3)؟ قال: "لا، ولكني كنت أشرب عسلًا عند زينب بنت جحش فلن أعود، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا" (¬4). وفي لفظ للبخاري: فنزلت {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ...} (¬5). 3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا حرَّم الرجل امرأته، فهي يمين يكفِّرها، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬6) " (¬7). الرابع: أنه لغو وباطل ولا يترتب عليه شيء لا طلاق ولا يمين: وهو قول الظاهرية وأكثر أصحاب الحديث وأحد قولي المالكية وهو مروي عن ابن عباس وحجتهم ما يلي: 1 - حديث عائشة السابق، قال الحافظ: "واستدل القرطبي وغيره بقوله: (حلفت) فتكون الكفارة لأجل اليمين لا لمجرد التحريم، وهو استدلال قوي لمن يقول: إن التحريم لغو لا كفارة فيه بمجرده، وحمل بعضهم قوله: (حلفت) على التحريم ولا يخفى بُعده" اهـ. ¬

(¬1) «المحلي» (10/ 124 - 1287)، و «نيل الأوطار» (6/ 313) وما بعدها. (¬2) سورة التحريم: 1، 2. (¬3) جمع مغفور: وهو صمغ حلو له رائحة كريهة (الفتح (9/ 290) - سلفية). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4912)، ومسلم. (¬5) سورة التحريم: 1. (¬6) سورة الأحزاب: 21. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم بهذا اللفظ (1473).

قلت: وعليه يُحمل قول الله تعالى: {وقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (¬1). أي تحلَّة الحلف لا أن التحريم يمين. 2 - قال تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك ...} (¬2). فأنكر سبحانه تحريم ما أحله الله له والزوجة مما أحل الله، فتحريمها منكر والمنكر مردود لا حكم له إلا التوبة والاستغفار. 3 - عن ابن عباس قال: "إذا حرَّم امرأته ليس بشيء، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬3) " (¬4). 4 - قال الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} (¬5). فمن قال لامرأته -الحلال له بحكم الله تعالى- هي حرام، فقد كذب وافترى، ولا تكون عليه حرامًا بقوله، لكن بالوجه الذي حرمها الله به. 5 - قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬6). وتحريم الحلال ليس في أمر الله عز وجل فوجب ان يُردَّ. * الراجح: الذي يظهر لي بعد دراسة أدلة المذاهب في المسألة أن يقال: لا يخلو من قال لزوجته: (أنت عليَّ حرام) من أحد حالين: الأول: أن لا يكون نوى الطلاق بمعنى أنه أراد تحريم عين المرأة فالصحيح أن قوله لغو باطل لا يترتب عليه شيء لما تقدم في أدلة المذهب الرابع. الثاني: أن يكون نوى الطلاق بهذا القول، فالظاهر أنه لا مانع من إلحاق لفظ التحريم بالألفاظ الكنائية التي يقع بها طلاق عند وجود نيَّته، بناء على ما تقدم ترجيحه من أن الألفاظ لا تراد لعينها، بل للدلالة على مقاصدها، فإذا تكلَّم بلفظ دالٍّ على معنى، وقصد به ذلك المعنى ترتَّب عليه حكمه، ولذا ذكر الله تعالى ¬

(¬1) سورة التحريم: 2. (¬2) سورة التحريم: 1. (¬3) سورة الأحزاب: 21. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري بهذا اللفظ (5266)، وقد حُمل هذا اللفظ على لفظ مسلم المتقدم بأن المراد بقوله ليس بشيء، أي ليس بطلاق فلا ينبغي أن يكون يمينًا، والله أعلم. (¬5) سورة النحل: 116. (¬6) صحيح.

الطلاق ولم يعيِّن له لفظًا، فعُلم أنه ردَّ الناس إلى ما يتعارفونه طلاقًا، فأيُّ لفظ جرى عرفهم به، وقع به الطلاق مع النية والله أعلم. وأما أنه يقع ظهارًا فلو كان صحيحًا، لكفَّر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة الظهار، ولو فعل لاشتهر عنه ذلك، فدلَّ على أنه لم يفعل. (ب) الطلاق بالكتابة: إذا كان الرجل غائبًا، فكتب إلى زوجته بطلاقها، وقع الطلاق إذا نواه، عند جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم (¬1)، ويدلُّ على هذا: 1 - حديث فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقَّها ألبتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فقال: "ليس لك عليه نفقة" ... الحديث (¬2). 2 - عن الزهري قال: "إذا كتب إليها بطلاقها، فقد وقع الطلاق عليها، فإن جحدها استُخلف" (¬3). 3 - وعن الحسن البصري -في رجل كتب بطلاق امرأته ثم محاه قبل أن يتكلَّم- قال: "ليس بشيء إلا أن يمضيه أو يتكلم به" (¬4). 4 - وعن إبراهيم النخعي قال: "إذا خط الرجل بيده الطلاق فهو طلاق" (¬5). 5 - ولأن الكتابة حروف يُفهم منها الطلاق، فإذا أتى فيها بالطلاق وفهم منها ونواه، وقع كاللفظ. بينما ذهب أبو محمد بن حزم -رحمه الله- إلى أن الطلاق لا يقع إلا على اللفظ، وأما الكتابة فلا تكون عنده طلاقًا (!!) والحديث حجة عليه، فالصحيح وقوع الطلاق بالكتابة مع النية له، فإن لم ينو الطلاق لم يقع -عند الجمهور- "لأن الكتابة محتملة، فإنه قد يقصد بها تجربة القلم، وتجويد الخط، وغمَّ الأهل، فلم يقع ككنايات الطلاق، ولأنه لو نوى باللفظ غير الإيقاع لم يقع، فالكتابة أولى" (¬6). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (2/ 246)، و «القوانين الفقهية» (230)، و «الأم» (5/ 181)، و «المغني» (7/ 239)، و «المحلي» (10/ 196). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1480)، وأبو داود (2284)، (6/ 210). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (11433). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1183). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور. (¬6) «المغني» لابن قدامة (7/ 239) ط. المنار.

الإشهاد على الطلاق

وقد اشترط فقهاء الحنفية لوقوع الطلاق بالكتابة أن تكون: (مستبينة ومرسومة) ومعنى كونها مستبينة: أن تكتب على الصحيفة أو الحائط أو نحو ذلك بحيث يمكن فهمها وقراءتها ومعنى كونها مرسومة عندهم أن يكون الطلاق مصدرًا ومعنونًا، أي مرسلًا باسمها. فائدة: إذا أرسل إليها الطلاق عن طريق الوسائل الحديثة: كالفاكس أو الحاسب الآلي (الكمبيوتر) المرتبط بشبكة الإنترنت (البريد الإلكتروني) ونحو ذلك، فإن كان المرسل إليها صورة من خطِّه فيلحق بما تقدم تحريره. وإن كان بخط الآلة، فالذي يظهر أنه لا يقع حتى تتأكد من أن زوجها هو الذي أرسله وتأمن التزوير؛ لأنه يُبنى على ذلك اعتدادها واحتساب العدة من وقت صدور الطلاق، والله أعلم. فائدة: اشترط بعض أهل العلم إثبات الكتاب بشاهدي عدل أن هذا كتابه: فقد نقله ابن قدامة في «المغني» (7/ 239): «عن أحمد في رواية حرب في امرأة أتاها كتاب زوجها بخطِّه وخاتمه بالطلاق: لا تتزوَّج حتى يشهد عندها شهود عدول، قيل له: فإن شهد حامل الكتاب؟ قال: لا، إلا شاهدان، فلم يقبل قول حامل الكتاب وحده حتى يشهد معه غيره، لأن الكتب المثبتة للحقوق لا تثبت إلا بشاهدين ككتاب القاضي ...» اهـ. (جـ) الطلاق بالإشارة (¬1): من كان قادرًا على الكلام لا يصح طلاقه بالإشارة عند الجمهور - خلافًا للمالكية - وأما الأخرس، فالجمهور على وقوع الطلاق بإشارته، وقيَّده الحنفية - وهو قول عند الشافعية - بأن يكون عاجزًا عن الكتابة وإلا لم تجز إشارته؛ لأن الكتابة أدلُّ على المقصود، فلا يعدل عنها إلى الإشارة إلا لضرورة العجز عنها. الإشهاد على الطلاق استحب جماهير العلماء من السلف والخلف منهم الأئمة الأربعة وغيرهم أن يُشهد الرجلُ على طلاقه، لما فيه من حفظ الحقوق، ومنع التجاحد بين الزوجين، قال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله} (¬2). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 241)، و «الدسوقي» (2/ 384)، و «مغني المحتاج» (3/ 284)، و «المغني» 07/ 423). (¬2) سورة الطلاق: 2.

وقد حملوا الأمر بالإشهاد في هذه الآية على أنه أمر ندب لا إيجاب، وقد يؤيد هذا الحمل: 1 - حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مره فليراجعها ...» الحديث (¬1). وليس فيه الأمر بالإشهاد على الطلاق ولا على الرجعة. 2 - وعن ابن عمر «أنه طلق امرأته صفية بنت أبي عبيد تطليقة أو تطليقتين فكان لا يدخل عليها إلا بإذن، فلما راجعها أشهد على رجعتها ودخل عليها» (¬2). 3 - أن الطلاق ورد في عدة آيات غير مقرون بالإشهاد، وكذلك في السنة. 4 - أن الطلاق من حقوق الزوج، فلا يحتاج إلى بيِّنة كي يباشر حقه. 5 - أنه كسائر الإشهاد. وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن الإشهاد على الطلاق مستحب غير واجب، إلا أن هذه دعوى غير مسلَّمة، فقد رُوي القول بوجوب الإشهاد عن علي بن أبي طالب (!!) وعمران بن حصين - رضي الله عنهما -، وعطاء وابن جريج وابن سيرين، وهو القول القديم للشافعي - ثم استقر مذهبه على الاستحباب - وبه قال أبو محمد بن حزم، وهو مذهب أهل البيت - رضي الله عنهم -، ويُستدل لهم بما يلي: 1 - ظاهر الأمر في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (¬3). وهو يقتضي الوجوب. 2 - أن الله تعالى قد قرن في الآية بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، فكل من طلَّق ولم يشهد ذوي عدل أو راجع ولم يشهد ذوي عدل متعدٍّ لحدود الله تعالى (¬4). 3 - عن مطرف بن عبد الله: أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها، ولم يُشهد على طلاقها ولا على رجعتها؟ فقال: «طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أُشْهِدْ على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تعد» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 373). (¬3) سورة الطلاق: 2. (¬4) «المحلي» (10). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2186).

فدلَّ على أن السنة الإشهاد، لكن لا يخفى أنه لا يدل على الوجوب، لتردد كونه من سنته - صلى الله عليه وسلم - بين الإيجاب والندب. قلت: لو قيل بوجوب الإشهاد على الطلاق وتوثيقه لم يكن هذا بعيدًا، بل ربما يتعيَّن ذلك لاسيما في هذا الزمان الذي خربت فيه الذمم، ورقَّ منه الدين، منعًا للتجاحد، وحسمًا لمادة الخلاف والنزاع، وما نسمع به ونراه مما تعج به محاكم الأحوال الشخصية من القضايا والحوادث الناجمة عن عدم توثيق الطلاق والإشهاد عليه، ليحملنا على القول بوجوبه وإثم تاركه. على أنه ينبغي التنبيه على أن هذا الإشهاد ليست شرطًا في صحة الطلاق وإنما قد يأثم تاركه، والله تعالى أعلم بالصواب. فائدة: إذا ادَّعت المرأة الطلاق على زوجها وأنكر الزوج (¬1): ههنا حالات: 1 - إذا لم يكن معها شاهد، لم تقبل دعواها، ولا يحلَّف الرجل بدعواها. 2 - إذا أقامت شاهدي عدل على طلاقها، قضي لها بذلك. 3 - إذا أقامت على الطلاق شاهدًا واحدًا، لم يكفها، ولا يؤخذ بيمينها مع الشاهد؛ لأن الشاهد واليمين إنما يكون في الأموال خاصة، فلا يثبت الطلاق بذلك، وهل يُحلَّف الزوج؟ فيه قولان: فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد إلى أنه يُحلَّف، فإنه حلف برئ من دعواها. وإن نَكَل (رفض الحلف) فهل يُقضى عليه بطلاق زوجته زوجته بالنكول مع شاهدها؟ فيه روايتان عن مالك، أصحهما أنه يُحكم في الطلاق بشاهد ونكول المدَّعى عليه، ويؤيده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ادَّعت المرأة طلاق زوجها، فجاءت على ذلك بشاهد واحد عدل، استُحلف زوجُها، فإن حلف بطلت عنه شهادة الشاهد، وإن نَكَل فنُكُوله بمنزلة شاهد آخر، وجاز طلاقه» (¬2). فدلَّ على أن النكول بمنزلة البيِّنة، فلما أقامت شاهدًا واحدًا - وهو شطر البيِّنة - كان النكول قائمًا مقام تمامها، والله أعلم. ¬

(¬1) «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 282 - 285) باختصار. (¬2) أخرجه ابن ماجة (2038).

أنواع الطلاق

أنواع الطلاق يمكن تقسيم الطلاق إلى أنواعُ مختلفة بحسب النظر إليه: 1 - فهو من حيث الصيغة المستعملة فيه، على نوعين: صريح وكنائي، وقد تقدم الكلام عليهما. 2 - ومن حيث الأثر الناتج عنه، على نوعين: رجعي وبائن. 3 - ومن حيث صفته على نوعين: سُنِّي وبدعي. 4 - ومن حيث وقت وقوع الأثر الناتج عنه على ثلاثة أنواع: مُنجَّز، ومعلَّق على شرط، ومضاف إلى المستقبل، وإليك تفصيل هذه الأنواع وما يتعلق بها من أحكام: أولًا: الطلاق الرجعي والبائن [1] الطلاق الرجعي: هو ما يجوز معه للزوج ردُّ زوجته في عدَّتها من غير استئناف عقد جديد، ولو من غير رضاها، ويكون ذلك بعد الطلاق الأول والثاني غير البائن إذا تمت المراجعة قبل انقضاء العدة، فإذا انتهت العدة صار الطلاق بائنًا، فلا يملك الزوج إرجاع زوجته المطلقة إلا بعقد جديد. مشروعية الرُّجعة: والأصل في هذا قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (¬1). والمراد بالإمساك بالمعروف هنا: مراجعتها وردُّها إلى النكاح ومعاشرتها بالمعروف وقال سبحانه: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلاحًا} (¬2). فدلَّ على أن أزواج المطلقات أحق بمراجعتهن في مدة العدة، بشرط أن لا يقصدوا بمراجعتهن الإضرار بهن ليخالعوهن أو نحو ذلك. وظاهر الآية الكريمة أن كل أزواج المطلقات أحق بردهن من غير فرق بين الرجعية والبائن، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها، قال تعالى: {إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ ¬

(¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) سورة البقرة: 228.

تَعْتَدُّونَهَا} (¬1). والطلاق قبل الدخول بائن، فإنه لا عدة للرجل عليها فيه، وإنما تكون الرجعة في العدة. وقد تقدم حديث ابن عمر أنه لما طلق امرأته في الحيض، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «مره فليراجعها» (¬2). وأجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلَّق دون الثلاث والعبد دون اثنتين، أن لهما الرجعة في العدَّة (¬3). حكمة مشروعية الرَّجعة: «إن الحاجة تمسُّ إلى الرجعة، لأن الإنسان قد يُطلِّق امرأته ثم يندم على ذلك، على ما أشار الربُّ سبحانه وتعالى بقوله: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} (¬4). فيحتاج إلى التدارك، فلو لم تثبت الرَّجعة لا يمكنه التدارك لما عسى أن لا توافقه المرأة في تجديد النكاح، ولا يمكنه الصبر عنها فيقع في الزنا» (¬5) لذا شُرعت الرَّجعة للإصلاح بين الزوجين وهذه حكمة جليلة، فتبارك الله أحكم الحاكمين. فإن طلقها الثالثة: فإن المرأة تبين منه، وتحرم على زوجها فلا يحل له مراجعتها حتى تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا، قال تعالى: {فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬6). ويشترط أن يطأها الزوج وطأ صحيحًا، لحديث عائشة - رضي الله عنها -: أن امرأة رفاعة القرظي جاءت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن فارعة طلقني فبتَّ طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسيلتك وتذوقي عسيلته» (¬7). ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 49. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «المغني» (7/ 515)، و «الإفصاح» (2/ 158)، و «البدائع» (3/ 181). (¬4) سورة الطلاق: 1. (¬5) «بدائع الصنائع». (¬6) سورة البقرة: 230. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

من أحكام الرَّجعة والطلاق الرجعي: شروط صحة الرَّجعة (¬1): 1 - أن تكون الرَّجعة بعد طلاق رجعي: (بعد الطلقة الأولى أو الثانية) سواء صدر من الزوج أو من القاضي، لأنها استئناف للحياة الزوجية التي قُطعت بالطلاق، فلولا وقوعه لما كان للرَّجعة فائدة، وهذا الشرط متفق عليه. 2 - أن تحصل الرَّجعة بعد الدخول بالزوجة المطلقة: فإن طلقها قبل الدخول وأراد مراجعتها فليس له ذلك بالاتفاق، لقوله تعالى: {إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (¬2). وقد اعتبر الحنابلة - خلافًا للجمهور - الخلوة الصحيحة في حكم الدخول من حيث صحة الرَّجعة بعدها. 3 - أن تكون الرَّجعة أثناء فترة المدَّة: فإن انفضت عدتها فلا يصح ارتجاعها باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (¬3). ولأن الرجعة استدامة ملك، والملك يزول بعد انقضاء العدة، فلا تتصور الاستدامة. 4 - أن لا تكون الفرقة - قبل الرَّجعة - عن فسخ عقد النكاح. 5 - أن لا تكون الفرقة بعِوَض: فإن كانت بعوض فلا تصح الرَّجعة، لأنها حينئذٍ تَبِين منه لافتدائها نفسها من الزوج بما قدمته له من عوض مالي ينهي هذه العلاقة. 6 - أن تكون الرَّجعة منجَّزة: فلا يصح تعليقها على شرط أو إضافتها إلى زمن المستقبل، عند جمهور الفقهاء، قالوا: لأن الرجعة استدامة لعقد النكاح أو إعادة له، والنكاح لا يقبل التعليق والإضافة، فتأخذ الرَّجعة حكمه. الرَّجعة حق الزوج لا يملك إسقاطه (¬4): الرَّجعة حق الزوج ما دامت المطلقة في العدة، سواء رضيت بذلك أم لم ترض، لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (¬5). وهذا الحق للمرتجع أثبته الشرع له، فلا يقبل الإسقاط ولا التنازل عنه، فلو قال الزوج: (طلقتك ولا رجعة لي عليك، أو: أسقطت حقي في الرجعة) فإن حقه في الرجعة لا يسقط لأن إسقاطه يعد تغييرًا لما شرعه الله، ولا يملك أحد أن يغيِّر ما شرعه الله، والله سبحانه رتَّب حق الرجعة على الطلاق الرجعي في قوله: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (¬6). وإذا كانت الرجعة حقًّا للزوج على مطلقته، فله أن يباشر هذا الحق فيردَّها، وله أن يراجعها ويتركها حتى تنقضي العدة فتبين منه، وقد دلَّ على هذا قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (¬7). وقوله سبحانه: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (¬8). وقد تجب الرَّجعة على الزوج: وذلك إذا طلَّقها طلقة رجعية أثناء حيضها كما سيأتي في الطلاق البدعي، إن شاء الله. ولا يشترط رضا المرأة في الرَّجعة: لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (¬9). ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 185)، و «الخرشي» (4/ 80)، و «الأم» (6/ 243)، و «مغني المحتاج» (4/ 337)، و «كشاف القناع» (5/ 341)، و «المغني» (8/ 485). (¬2) سورة الأحزاب: 49. (¬3) سورة البقرة: 228. (¬4) «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 463 - 464)، و «المفصَّل» لعبد الكريم زيدان (8/ 18). (¬5) سورة البقرة: 228. (¬6) سورة البقرة: 229. (¬7) سورة الطلاق: 2. (¬8) سورة البقرة: 229. (¬9) سورة البقرة: 228.

فجعل الحق لهم، وقال سبحانه: {فأمسكوهن بمعروف} (¬1). فخاطب الأزواج بالأمر، ولم يجعل للنساء اختيارًا؛ ولأن الرجعة إمساك للمرأة بحكم الزوجية، فلم يعتبر رضاها في الرجعة، كالتي في عصمته تمامًا. ولا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة، والرَّجعة إمساك لها، واستبقاء لزواجها (¬2). عدم خروج المطلقة الرجعية من بيتها (¬3). إعلام الزوجة بالرَّجعة (¬4): ذهب جمهور الفقهاء إلى أن إعلام الزوجة بالرجعة مستحب، لما فيه من قطع المنازعة التي قد تنشأ بين الرجل والمرأة، فربما تتزوَّج غيره بعد انقضاء العدة - وهي ¬

(¬1) سورة الطلاق: 2. (¬2) «السابق» (7/ 469). (¬3) انظر: جامع أحكام النساء (4/ 262). (¬4) «البداية» (4/ 597)، و «فتح القدير» (4/ 18)، و «الخرشي» (4/ 87)، وحاشية الجمل» (4/ 393)، و «كشاف القناع» (5/ 344)، و «المحلي» (10/ 251)، و «تفسير القرطبي».

تظن أنه لم يراجعها - وحينئذٍ لو أثبت الزوج الرَّجعة بالبيِّنة فإنه يثبت زواجه الأول بمراجعتها، ويُفسخ زواجها الثاني وتعتد منه إن كان دخل بها ثم تعود للأول (¬1). وتكون هي عاصية بترك سؤال الزوج، ويكون هو مُسيئًا بترك إعلامها بالرجعة. ومع هذا لو لم يُعلمها صحت الرجعة؛ لأنها استدامة النكاح القائم وليست بإنشاء، فكان الزوج متصرفًا في خالص حقه، فلم يتوقف تصرُّفه على علم الغير. وذهب الظاهرية إلى وجوب إعلام الزوجة بالرجعة، فإن لم يعلمها لم يعتبر مراجًعا، لقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (¬2) فالرجعة هي الإمساك، ولا تكون - بنص كلام الله تعالى - إلا بمعروف، ومن المعروف إعلامها، فإن لم يعلمها لم يمسك بمعروف ولكن بمنكر. ولقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} (¬3) وإنما يكون البعل أحق بردها إن أرادوا إصلاحًا بنص القرآن، فإن كتمها الردَّ أو ردَّ بحيث لا يُبلغها، فلم يرد إصلاحًا بلا شك، بل أراد الفساد فليس ردًّا ولا رجعة أصلًا. قلت: وهذا هو الأرجح - في نظري - والأليق بمقاصد الشريعة وأصولها، وهو قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -، فقد روي ابن حزم بسنده إلى عمر أنه قال - في امرأة طلقها زوجها فأعلمها ثم راجعها ولم يُعلمها حتى انقضت عدتها: «قد بانت منه» (¬4). ويترتب عليه أن الرجل إذا أرجع زوجته دون إعلامها فتزوجت غيره بعد انتهاء عدتها، فإن الزواج الثاني يكون صحيحًا؛ لأن الرجعة لم تقع أصلًا، والله أعلم. هل تتزيَّن المطلقة الرجعية لزوجها، وماذا يرى منها؟ (¬5) ذهب الشافعية والمالكية - في المشهور - إلى أنه لا يجوز للمطلَّقة طلاقًا رجعيًّا ¬

(¬1) هذا عند الجمهور، وعند مالك: أنه إن دخل بها الثاني فهي امرأته ويبطل نكاح الأول وهو رواية عن أحمد. (¬2) سورة الطلاق: 2. (¬3) سورة البقرة: 228. (¬4) وثبت خلافه عن علي بن أبي طالب حيث قال فيمن طلق امرأته وأشهد على رجعتها ولم تعلم بذلك: «هي امرأة الأول، دخل بها الآخر أم لم يدخل». أخرجه الشافعي كما في مسنده (2/ رقم 126 - شفاء العي) ومن طريقه البيهقي (7/ 373) وسنده صحيح. (¬5) «المبسوط» (6/ 25)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «روضة الطالبين» (8/ 221)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 246).

أن تتزيَّن لزوجها وأنه لا يستمتع منها بشيء، لأنها أجنبية عنه؛ ولأن النكاح يبيح الاستمتاع فيحرمه الطلاق لأنه ضدُّه، فإن وطئ الزوج المطلَّقة فلا حدَّ عليهما!! وقد صح نحو هذا عن عطاء، فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما يحل للرجل من امرأته يُطلِّقها فلا يبتُّها؟ قال: «لا يحل له منها شيء ما لم يراجعها» (¬1). وذهب الحنفية والحنابلة والظاهرية إلى أن المطلَّقة - رجعيًّا - تتزين لزوجها بما تفعله النساء لأزواجهن من أوجه الزينة واللبس، لترغيب الزوج في المراجعة، فلعله يراها في زينتها فتروق في عينه ويندم على طلاقها فيراجعها، وللزوج أن ينظر إلى ما شاء منها. واستدلوا على ذلك بأن المطلقة الرجعية في حكم الزوجة والنكاح قائم من وجه، وهو كونها في العدة، لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (¬2) فسمَّاه الله بعلًا، قلت: وهو الأظهر للآية الكريمة، ولعدم الدليل على ما يمنع أو يحدد رؤية شيء من المرأة، لكن ذهب الفقهاء إلى أنه ينبغي أن يستأذن قبل أن يدخل عليها إذا كان لا ينوي الرَّجعة، والسبب في ذلك أنهّا قد تكون متجردة من الثياب فيقع نظره على موضع الجماع فيكون مراجعًا عند من اعتبر ذلك رجعة، وسيأتي قريبًا. أما إذا كان ينوي مراجعتها فلا بأس أن يدخل عليها، لأن في نيَّته مراجعتها فكانت زوجة له لاسيما وأن الرجعة لا تحتاج إلى موافقة المرأة. وقد صحَّ عن ابن عمر «أنه طلق امرأته صفية بنت أبي عبيد تطليقة أو تطليقتين، فكان لا يدخل عليه إلا بإذنه، فلما راجعها أشهد على رجعتها ودخل عليها» (¬3). هل يلحق المطلَّقة رجعيًّا طلاق في العدة؟ المطلَّقة الرجعية في حكم الزوجة التي في العصمة، ولذا فقد ذهب جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم (¬4) إلى أنه يلحقها - في عدتها - طلاق الزوج، كما يلحقها ظهاره ولعانه وإيلاؤه، ويرث أحدهما الآخر، بل نقل ابن قدامة الإجماع على هذا (!!). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11030 - 11032). (¬2) سورة البقرة: 228. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 373). (¬4) «ابن عابدين» (3/ 397)، و «أسهل المدارك» (2/ 138)، و «تكملة المجموع» (17/ 262)، و «المغني» (8/ 477).

بينما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن الرجعية لا يلحقها الطلاق وإن كانت في العدة، واحتج بقوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (¬1). وهو «يدلُّ على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها؛ لأنه إنما أباح الطلاق للعدة أي لاستقبال العدة (¬2)، فمتى طلقها طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بَنَتْ على العدَّة ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين ... ومن اخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول: إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدَّة، وما كان صاحبه مخيَّرًا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا مُنتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة، فلا يكون جائزًا، فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة؛ ولأنه قال: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (¬3). فخيَّره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي عدتها فيُسرِّحها بإحسان، فإذا طلَّقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يُسرِّح بإحسان» اهـ (¬4). قلت: الظاهر أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف بين ابن تيمية والجمهور في مسألة: هل يقع طلاق الثلاث دفعه واحدة ثلاثًا أم واحدة؟ وسيأتي تحريرهُ إن شاء الله. كيفيِّةُ الرَّجعة: [1] الرَّجعة بالقَوْل (¬5): لا خلاف بين أهل العلم في أن الرَّجعة تصحُّ بالقول الدالِّ عليها، كأن يقول لمطلَّقته وهي في العدة: (راجعتُك - ارتجعتك - رددتُك لعصمتي) وما يؤدي هذا المعنى، أو أن يقول ذلك بصيغة الغيبة: (راجعتُ امرأتي) ونحو ذلك. ¬

(¬1) سورة الطلاق: 1. (¬2) أخرجه النسائي (6/ 139)، وابن جرير (28/ 84)، وابن أبي شيبة (5/ 2) بسند صحيح عن ابن عباس في قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} قال: «قُبُلَ عدَّتهن»، وعند عبد الرزاق (6/ 303)، وسعيد بن منصور (1058) بسند صحيح إلى عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقرأ: (فطلقوهن لقُبُل عدتهن). (¬3) سورة الطلاق: 2. (¬4) «مجموع الفتاوى» (33/ 79 - 80). (¬5) «البدائع» (3/ 181)، و «الخرشي» (4/ 80)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «كشاف القناع» (5/ 342).

وألفاظ الرجعة منها ما هو صريح ومنها ما هو كناية. (أ) فالصريح: ما يدلُّ على الرجعة لا على غيرها، كالألفاظ المتقدمة، ولذا فإنها تقع بها الرجعة من غير احتياج إلى النية. (ب) والكناية: ما يدل على الرجعة ويحتمل معنى آخر غيرها، كأن يقول: (أنت عندي كما كنت - أنت امرأتي - رددتك - أمسكتُك) (¬1) ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ الكنائية تقع بها الرَّجعة إذا نوى بها ذلك وإلا لم تقع. [2] الرجعة بالفِعْل (¬2): اختلف أهل العلم في حصول الرَّجعة بأفعال مادية يقوم بها الزوج المرتجع تجاه مطلَّقته الرجعية، على أربعة أقوال: الأول: تحصل الرَّجعة بالجماع ومقدماته كلمسها أو تقبيلها بشهوة، سواء نوى الرجعة أو لم ينو، وكذلك بالنظر إلى فرجها - لا إلى غيره - وهذا مذهب الحنفية، وحجتهم: 1 - أن الرجعة استدامة للنكاح القائم من كل وجه فلا تختص بالقول؛ لأن الفعل قد يقع دالًا على الاستدامة. 2 - والفعل الدال على استدامة النكاح لابد أن يختص بالنكاح ولا يجوز بغيره كالوطء والتقبيل واللمس بشهوة والنظر إلى الفرج بشهوة. وعندهم إذا حدثت هذه الأشياء من المرأة - كأن قبَّلته أو لمسته بشهوة - فتصحُّ الرجعة كذلك إذا لم يمنعها. الثاني: تحصل الرَّجعة بالجماع ومقدماته بشرط أن ينوي بذلك الرَّجعة: وهو مذهب المالكية، ولعلَّ حجتهم عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» (¬3). ¬

(¬1) لأن قوله «رددتك» يحتمل الرد إلى الزوجية أو إلى بيت أبيها، وقوله «أمسكتك» يحتمل الإمساك بالزوجية أو الإمساك عن الخروج من بيتها في عدَّتها، فاحتاج إلى النية لصرف اللفظ إلى أحدهما. (¬2) «البدائع» (3/ 183)، و «المبسوط» (6/ 21)، و «الخرشي» (4/ 81)، و «الدسوقي» (2/ 370) و «الأم» (6/ 244)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «روضة الطالبين» (8/ 217)، و «المغني» (7/ 283)، و «كشاف القناع» (5/ 343)، و «المحلي» (10/ 251)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 381). (¬3) متفق عليه: تقدم كثيرًا.

الثالث: تحصل الرَّجعة بالجماع فقط سواء نوى الرجعة أو لم ينوها: وهذا هو المذهب عند الحنابلة وهو الرواية المختارة عندهم عن أحمد، وهو قول ابن المسيب والحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس والزهري والثوري والأوزاعي. واستدل الحنابلة على الرجعة بالوطء بما يلي: 1 - أن فترة العدة تؤدي إلى بينونة المطلقة من حيث إن انقضاء العدة يمنع صحة الرجعة، فإن وطئها في المدة عادت إليه كالإيلاء. 2 - أن الطلاق سبب لزوال الملك ومعه خيار، فتصرف المالك بالوطء يمنع عمله كوطء البائع الأمة المبيعة مدة الخيار. واستدلوا على عدم حصول الرجعة بالأفعال دون الوطء بما يلي: 1 - أن مقدمات الوطء ونحوها إذا حدثت لا يترتب عليها عدة ولا يجب بها مهر فلا تصح بها الرجعة. 2 - أن هذه الأفعال ليست في معنى الوطء، إذ الوطء يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة بخلافها. 3 - أن ينظر إلى موضع الجماع أو اللمس يحدث من غير الزوج للحاجة، فلا تكون رجعة من هذه الجهة. واختلف الحنابلة في الخلوة الصحيحة هل تصح معها الرجعة؟! على قولين. الرابع: لا تحصل الرَّجعة إلا بالقول، لا بالوطء ولا بغيره: وهو مذهب الشافعية وأبي محمد بن حزم وحجتهم: 1 - أن الرجعة استباحة بضع مقصود بالقول فلم يصحَّ بالفعل مع القدرة على القول كالنكاح. 2 - أن المرأة في الطلاق الرجعي تعتبر أجنبية عن الزوج - عند الشافعية فقط - فلا يحل له وطؤها، والرجعة في القدرة تعتبر إعادة لعقد الزواج (!!) وكما أنه لا يصح إلا بالقول الدال عليه فكذلك الرجعة. 3 - ولأنه لم يأت بأن الجماع رجعة قرآن ولا سنة، ولا خلاف في أن الرجعة بالكلام رجعة. 4 - أن الإمساك بالمعروف المأمور به ما عرف به ما في نفس الممسك الرادّ، ولا يعرف ذلك إلا بالكلام.

الراجح: أقول: أما القول الأخير فلا أراه متجهًا؛ لأن قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر - في شأن ابنه -: «مره فليراجعها» (¬2) أعم من كون ذلك يختص بالقول، فلا يجوز تخصيص الرجعة بالقول دون الفعل إلا بدليل ولا دليل (¬3). ثم الذي يظهر أن أعدل الأقوال في حصول الرجعة بالجماع أنه يقع به إذا نوى به الرجعة، كما ذهب إليه مالك وهو رواية عن أحمد وإسحاق وهو اختيار شيخ الإسلام. وأما حصول الرجعة بمقدمات الجماع، فلو قيل تقع بها الرجعة بشرط النية من الزوج لم يكن بعيدًا، وإلا فلا تقع بها الرجعة. الإشهاد على الرَّجعة (¬4): قال الله سبحانه: {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (¬5). والمراد بالإمساك بالمعروف: الرَّجعة. وقد أختلف أهل العلم في حكم الإشهاد على الرجعة على قولين: الأول: أن الإشهاد على الرَّجعة واجب، وهو مذهب الشافعي القديم وهو رواية ثانية عن أحمد، وأبي محمد بن حزم واختيار شيخ الإسلام، وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (¬6). وهو ظاهر في الوجوب بمطلق الأمر، وهو ما فهمه عمران بن حصين. ¬

(¬1) سورة البقرة: 228. (¬2) صحيح: تقدم مرارًا وسيأتي. (¬3) نحوه في «نيل الأوطار» (6/ 299) ط. الحديث. (¬4) «البدائع» (3/ 181)، و «المبسوط» (6/ 22)، و «الخرشي» (4/ 87)، و «الدسوقي» (2/ 377)، و «تكملة المجموع» (16/ 269)، و «مغني المحتاج» (3/ 336)، و «روضة الطالبين» (8/ 216)، و «كشاف القناع» (5/ 342)، و «المغني» (7/ 382)، و «المحلي» (10/ 251)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 129). (¬5) سورة الطلاق: 2. (¬6) سورة الطلاق: 2.

2 - فقد سأله رجل عمن طلق امرأته طلاقًا رجعيًّا ثم وقع بها ولم يُشهد فقال: «طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على ذلك ولا تعد» (¬1). 3 - ولأن الرجعة استباحة بُضع مقصود فلم يصحَّ من عير إشهاد كالنكاح. 4 - أن الله - عز وجل - قد قرن - في الآية الكريمة السابقة - بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردُّ» (¬2). الثاني: أن الإشهاد على الرَّجعة مستحب وليس بواجب: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - وهو الأظهر في المذهب، وإحدى الروايتين عن أحمد، وحجتهم: 1 - الإشهاد يحب في النكاح لإثبات الفراش (الزوجية) وهو ثابت هنا، ثم إن الرَّجعة استدامة للنكاح وليس ابتداءً فلم تلزمها شهادة. 2 - أن الرجعة حق للزوج لا يفتقر لقبول المرأة أو وليها فلم تجب فيه الشهادة. 3 - قالوا: أما الأمر بالإشهاد في الآية الكريمة فمحمول على الندب لا الإيجاب لأمور: (أ) أنه كقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} (¬3) والبيع يصح بغير إشهاد عند الجمهور. (ب) أن الإشهاد على الرجعة إنما هو للأمن من الجحود وقطع باب النزاع وسد باب الخلاف، فهو من باب الاحتياط. (جـ) أن الآية جعلت له الإمساك أو الفراق ثم ذكرت الإشهاد فعلم أن الرجعة تحصل قبل الإشهاد، وأنه ليس بشرط فيها. (د) لما كانت الفرقة حقًا للزوج وجازت بغير إشهاد، وكانت الرجعة حقًّا له وجب أن تجوز بغير إشهاد. الراجح: الذي يترَّجح لديَّ وجوب الإشهاد في الرَّجعة لظاهر الأمر في الآية الكريمة ولما تقدم من أدلة الفريق الأول، ولما فيه من منع إنكار الزوج ودوامه ¬

(¬1) إسناده صحيح: تقدم قريبًا في «الإشهاد على الطلاق». (¬2) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬3) سورة البقرة: 282.

مع امرأته فيفضي إلى الحرام، ومنع إنكار الزوجة لتتزوَّج غيره بعد انقضاء العدة - بحجة عدم ارتجاعها - فتقع في الحرام، وهو أولى من إيجاب الإشهاد على الطلاق الذي رجَّحناه آنفًا، قال شيخ الإسلام: «ثم من العجب أن الله أمر بالإشهاد في الرجعة ولم يأمر به في النكاح، ثم يأمرون به في النكاح، ولا يوجبه أكثرهم في الرجعة!!» اهـ. اختلاف الزوجين في الرجعة (¬1): 1 - إذا اختلف الزوجان في حصول الرجعة: فادَّعى الزوج عليها أنه راجعها أمس مثلًا فأنكرت هي، صُدِّق إن كانت في العدة اتفاقًا؛ لأنه أخبر بما يملك استئنافه فلا يكون متهمًا في الإخبار. 2 - فإذا قال بعد انقضاء العدة أنه كان راجعها في العدة، فأنكرت: (أ) فإن أثبت دعواه بالبيِّنة، صحت رجعته. (ب) فإن عجز الزوج عن الإثبات، فالقول قولها؛ لأنه ادَّعى مراجعتها في زمن لا يملك مراجعتها فيه. 3 - وإذا قال الزوج للمعتَّدة: (قد راجعتُك) فقالت: (قد انقضت عدَّتي): (أ) فإن كانت المدة بين الطلاق وبين الوقت الذي تدعي المرأة انقضاء العدة عنده كافيًا لانقضاء العدة، قُبل قولها بيمينها، ولم تثبت الرجعة. (ب) وإن كانت هذه المدة لا تكفي لانقضاء العدة، بأن كانت أقل من مدة تنتهي فيها العدة شرعًا، لم يعتبر قولها، وتصح الرجعة، لظهور قرينة كذبها. قلت: ومن هنا ندرك أهمية الإشهاد والتوثيق للطلاق والرجعة، فلا ينبغي التهاون في ذلك، لاسيما في زمان الفتنة والله أعلم. فائدة: الطلاق الرجعي ينقص عدد التطليقات: تقدم أن الرجل يمتلك ثلاث تطليقات على زوجته، وهذه التطليقات تنقص بكل طلاق رجعيًّا كان أو بائنًا - ومراجعة الرجل امرأته في العدة لا تمحو احتساب تطليقه عليه، فإن كان طلقها الأولى ثم راجعها فقد بقي له اثنتان، وإن كان طلقها ¬

(¬1) «المبسوط» (6/ 22)، و «البدائع» (3/ 185)، و «مغني المحتاج» (3/ 338)، و «المجموع» (16/ 271)، و «المغني» (7/ 285 - 289).

الثانية ثم راجعها بقي له تطليقة واحدة، وعلى هذا اتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (¬1). [2] الطلاق البائن: وهو الذي لا يكون فيه للزوج حقُّ الرَّجعة على مطلَّقته، وهو على نوعين: بائن بينونة صغرى، وبائن بينونة كبرى: (أ) الطلاق البائن بينونة صغرى: هو الذي لا يملك الزوج فيه أن يرجع مطلقته إليه إلا بعقد جديد ومهر جديد ويترتب على هذا النوع من الطلاق ما يلي: آثار وأحكام الطلاق البائن بينونة صغرى (¬2): 1 - إزالة الملك لا الحل: بمعنى أنه تنقطع به رابطة الزوجية، فتصير أجنبية عنه، وتنتهي الحقوق الزوجية لكل منهما على الآخر - سوى النفقة للزوجة ما دامت في العدة إذا كانت حاملًا بلا خلاف، وفي وجوب نفقتها عليه إذا كانت غير حامل خلاف سيأتي بحثه. ولا يشترط لحلها لمطلِّقها أن تتزوَّج زوجًا آخر، وإنما للزوج أن يرجعها إلى عصمته (يتزوَّجها) بعقد ومهر جديدين (¬3). 2 - لا يملك المطلِّق حق الرجعة في العدة: ولكن له أن يتزوجها برضاها أثناء العدة (¬4) وبعدها بعقد ومهر جديدين كما تقدم. 3 - حلول المهر المؤجَّل: الذي لم يعيَّن في العقد لأن هذا أقرب الأجلين: الموت أو الطلاق، وقد تقدم في «أحكام الصداق». 4 - لا ظهار ولا إيلاء ولا لعان ولا توارث بينهما: لوقوع البينونة بمجرد وقوع الطلاق (¬5). 5 - إنقاص عدد التطليقات: فالطلاق البائن بينونة صغرى ينقص عدد التطليقات التي يمتلكها الزوج المطلِّق على زوجته، فإذا أعادها بعقد نكاح جديد قبل أن تنكح زوجًا غيره، وكان قد طلقها تطليقة واحدة بائنة، عات بتطليقتين ¬

(¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) «المفصل في أحكام المرأة» للدكتور عبد الكريم زيدان (8/ 59 - 60) بتصرف. (¬3) «المغني» (7/ 274)، و «البدائع» (3/ 187). (¬4) محل هذا عند من يقول إن الطلاق البائن بينونة صغرى يكون بغير الطلاق قبل الدخول - وهذا ليس فيه عدة - وسيأتي تحريره. (¬5) «البدائع» (3/ 187).

يملكهما عليها، وكذلك الحكم إذا أعادها بعقد جديد بعد أنكحت زوجًا غيره، وطلقها أو مات عنها قبل أن يدخل بها، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم (¬1). وأما ما عدا هذه الحالات ففيه خلاف في احتساب عدد التطليقات، يأتي تحريرهُ بعده في «مسألة الهدم» إن شاء الله. مسألة الهدم: ويُقصد بها: (إذا طلَّق الرجل امرأته مرة أو اثنتين فتزوجت بآخر، فطلَّقها الثاني، ثم رجعت إلى الأول، فهل تُحسب التطليقات الأولى من الثلاث وتعود إليه على ما بقي من الثلاث؟ أم أن زواجها بغيره قد هدم التطلقيات الأولى فيبقى لها عليها ثلاث كاملة؟). وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين (¬2): الأول: تُحسب التطليقات في الزواج، فترجع إلى الزوج الأول على ما بقي من التطليقات: بمعنى أنه: إن كان طلقها واحدة عادت إليه وهو يملك عليها تطليقتين، وإن كان طلقها تطليقتين عادت إليه وهو يملك عليها تطليقة واحدة. وهذا قول عمر بن الخطاب وعلي وعمران بن حصين وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال ابن المسيب والحسن والثوري ومحمد بن الحسن ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول ابن المنذر، وحجتهم: 1 - أن الزواج الثاني هو الذي ينهي حرمة المطلقة ثلاثًا على زوجها الأول بدليل قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (¬3). ولا إنهاء للحرمة قبل ثبوتها، ولا ثبوت لها إلا بعد الطلاق الثلاث (¬4). ¬

(¬1) «فتح القدير» (3/ 178)، و «المغني» (7/ 261). (¬2) «البدائع» (3/ 127)، و «فتح القدير» (3/ 178 - مع الهداية)، و «الأم» (5/ 250)، و «مغني المحتاج» (3/ 293)، و «الشرح الصغير» (1/ 467 - ط. الحلبي)، و «المغني» (7/ 261)، و «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (4/ 239 - 242). (¬3) سورة البقرة: 230. (¬4) يقولون هذا: لأنه إذا طلق ثلاثًا ثم تزوجت غيره ثم عادت إليه بعقد جديد فيكون له عليها ثلاث تطليقات جديدة باتفاق العلماء، وانظر المراجع السابقة مع «ابن عابدين» (3/ 418).

2 - وفتوى عمر بذلك: فعن أبي هريرة قال: سألت عمر بن الخطاب عن رجل من أهل البحرين طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم انقضت عدَّتها، فتزوَّجها رجل غيره ثم طلَّقها أو مات عنها، ثم تزوجها زوجها الأول، قال: «هي عنده على ما بقي» (¬1). الثاني: الزواج الثاني هدم التطليقات الأولى، فترجع إلى الأول وله عليها ثلاث تطليقات: وهذا قول ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - وبه قال عطاء والنخعي وشُريح وأبو حنيفة وأبو يوسف وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وحجتهم: 1 - أن وطء الزوج الثاني مثبت لحل الزوجة لزوجها الأول بعقد جديد فيتسع لثلاث تطليقات كما يثبته لو كانت مطلقة ثلاثًا. 2 - ولأن وطء الزوج الثاني يهدم التطليقات الثلاث [وهذا متفق عليه] لو أوقعها الأول، فأولى أن يهدم ما دونها من طلقة أو طلقتين. متى يقع الطلاق بائنًا بينونة صغرى؟ يقع هذا النوع من الطلاق في الحالات الآتية: 1 - الطلاق قبل الدخول: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (¬2). فدلَّت الآية الكريمة على أن المطلَّقة قبل الدخول لا عدة عليها، فلا يملك المطلق رجعتها، ولا يكون طلاقًا رجعيًّا، بل يكون بائنًا، وعلى هذا إجماع أهل العلم (¬3). فائدة: الطلاق بعد الخلوة وقبل الدخول حقيقة بائن عند الجمهور: لعدم الدخول الحقيقي فلا تجب فيه العدة، ولا يملك الزوج رجعتها، وأما ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي - كما في مسنده - (2/ رقم 125 - شفاء العي) ومن طريقة البيهق (7/ 364). (¬2) سورة الأحزاب: 49. (¬3) على بعض الخلاف بينهم فيما إذا طلقها ثلاثًا بلفظ واحد أو متفرقة، فمن قال: تقع ثلاثًا، جعل البينونة الكبرى، ومن لم يوقعه إلا واحدة جعل البينونة صغرى، وسيأتي تحرير الصواب في هذه المسألة، وانظر «المغني» (7/ 264).

ثبوت العدة عند الحنفية في الطلاق بعد الخلوة الصحيحة فهو للاحتياط وليس لثبوت حق الرجعة (¬1). 2 - الطلاق على مال (الخُلع) عند الجمهور: الطلاق على مال يقع بائنًا عند الجمهور؛ لأن الزوجة ما دفعت المال لزوجها في الخُلع ليطلِّقها إلا لتملك نفسها وتخلص من قيد الزوجية، ولا يتأتَّى لها ذلك بجعل الطلاق رجعيًّا، بل بجعله بائنًا (¬2). قلت: عدُّ الخلع طلاقًا بائنًا على معنى أن الزوج يعيد زوجته برضاها - بعده إذا أراد - إلى عصمته بعقد جديد ومهر جديد، صحيح لا غبار عليه، وإما أن يكون على معنى أنها طلقة تحسب عليه من الثلاث فلا؛ لأن الصواب أن الخلع فسخ وليس بطلاق فلا تحتسب من الثلاث طلاقًا لقول الجمهور كما سيأتي تحريره، والله أعلم. 3 - بعض أحوال التفريق بين الزوجين: تقع طلاقًا بائنًا بينونة صغرى، كما في التفريق للعيب أو الضرر أو للإيلاء، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. تنبيه: الطلاق باللفظ الصريح الموصوف أو الكنائي على المدخول بها يقع رجعيًّا ولا يكون بائنًا على الراجح (¬3): فلو قال لامرأته: (أنت طالق البتة - أنت طالق بائن) وقعت طلقة رجعية، لأنه لما قال: (أنت طالق) فقد أتى بصريح الطلاق، وأنه يستدعي الرجعة حيث أنها تعقب قوله، فلما قال (بائن) فقد أراد تمييز المشروع، وهو الرجعة، فيرد عليه؛ ولأن الأصل في الطلاق أن يكون رجعيًّا، والاستمساك بهذا الأصل أولى من التحول عنه لوصف ألحقه المطلق بلفظ الطلاق، وهذا هو الموافق لحكمة تشريع الطلاق، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام (¬4). وإذا كان الطلاق الصريح لا يقع إلا رجعيًّا، فالكناية - التي هي أضعف من التصريح لاحتمالها الطلاق وغيره - يكون الطلاق بها رجعيًّا بالأولى. ¬

(¬1) «بدائع الصنائع» (3/ 109). (¬2) «السابق» (3/ 109)، و «ابن عابدين» (3/ 400)، و «الخرشي» (4/ 16)، و «مغني المحتاج» (3/ 337)، و «المغني» (7)، و «المبدع» (7/ 390). (¬3) إلا أن يكون الطلاق مكملًا للثلاث فيكون بائنًا بينونة كبرى كما لا يخفى. (¬4) «الأم» (5/ 241)، و «المحرر» (2/ 55)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 155).

ولأن الطلاق وضع شرعي لا يتأثر بالنية، فقصد البينونة بالكناية يكون تغييرًا للوضع الشرعي (¬1). (ب) الطلاق البائن بينونة كبرى: وهو الذي لا يملك منه الزوج إرجاع مطلقته لا في عدتها ولا بعد انتهائها إلا بعقد جديد ومهر جديد، وبعد أن تكون قد نكحت زوجًا آخر ودخل بها الثاني ثم فارقها بموته أو طلاقه ثم انتهت عدَّتها منه. ويشترط في النكاح الذي يحصل به التحليل للزوج الأول ما يلي: 1 - أن يكون نكاحًا صحيحًا ظاهرًا وباطنًا: ومعنى صحته ظاهرًا: استيفاء شروط انعقاد العقد وشروط صحته، فلو كان العقد فاسدًا لم يحصل به التحليل عند جماهير أهل العلم (¬2). ومعنى صحته باطنًا: أن يكون المقصود منه تحقيق أغراض النكاح كتكوين الأسرة وإعفاف كل منهما نفسه وإنجاب الذرية، فإن قُصد به التحليل الأول لم يحصل التحليل كما تقدم هذا في «الأنكحة الفاسدة». 2 - أن يجامعها الزوج الثاني: فلا يكفي مجرد العقد الصحيح بدون الدخول، على هذا اتفاق جماهير السلف والخلف - إلا ابن المسيب - وبهذا جاءت السنة: فعن عائشة - رضي الله عنها -: أن رفاعة القرظي تزوَّج امرأة، ثم طلقها، فتزوَّجت آخر، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أنه لا يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل الهُدبة، فقال: «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟، لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك» (¬3). والعُسيلة عند الجمهور: حلاوة الجماع التي تحصل بتغييب الحشفة في الفرج ولو من غير إنزال. وقد اشترط جمهور الحنابلة أن يكون الوطء حلالًا، فلو وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام لم يكن كافيًا لإحلال المرأة لزوجها الأول، والصواب - الذي اختاره ابن قدامة - أنه يكفي لأن هذا واجد للعُسيلة وداخل في عموم قوله تعالى: ¬

(¬1) وانظر لمذاهب العلماء في الكنائي: «البدائع» (3/ 111)، و «القوانين الفقهية» (253)، و «كشاف القناع» (3/ 151)، و «المغني» (7/ 133). (¬2) «المغني» (7/ 275). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

{حتى تنكح زوجًا غيره} (¬1). ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام، فأحلَّها كالوطء الحلال، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك (¬2). أحكام وآثار هذا الطلاق: 1 - تترتب على هذا النوع من الطلاق الآثار التي تترتب على البائن بينونة صغرى، وقد تقدمت. 2 - لا تحل للزوج إلا إذا تزوجت غيره زواجًا صحيحًا على النحو المتقدم بيانه، ثم يفارقها بموت أو طلاق، وتعتد منه. فائدة: الزواج الثاني يهدم الطلقات الثلاث: فإذا تزوجت زوجها الأول بعد مفارقة الثاني وقضاء العدة من زواجه، فإن زوجها الأول يملك عليها ثلاث تطليقات جديدة بإجماع أهل العلم (¬3). متى يقع الطلاق بائنًا بينونة كبرى؟ يقع هذا النوع من الطلاق إذا كان مكملًا للطلقات الثلاث، لقوله تعالى: {طَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ ... فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬4). وعلى هذا إجماع أهل العلم (¬5). هل يقع الطلاق بائنًا بينونة كبرى بلفظ الثلاث أو ثلاثًا في مجلس واحد؟ كأن يقول الرجل لامرأته: (أنت طالق ثلاثًا، أو: طالق طالق طالق) وهذه مسألة شهيرة، وفيها خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال مشهورة، أذكرها مع أدلة كل فريق ومناقشة ما تيسَّر من ذلك، نظرًا لأهميتها وعموم البلوى بها (¬6): ¬

(¬1) سورة البقرة: 230. (¬2) «المغني» (7/ 276). (¬3) «المغني» (7/ 261). (¬4) سورة البقرة: 229، 230. (¬5) «تفسير القرطبي» [سورة البقرة: 230]. (¬6) «ابن عابدين» (3/ 235)، و «شرح المعاني» (3/ 255)، و «المبسوط» (6/ 57)، و «فتح القدير» (3/ 329)، و «القوانين الفقهية» (251)، و «جواهر الإكليل» (1/ 338)، و «بداية المجتهد» (2)، و «الأم» (5/ 163)، و «تكملة المجموع» (15/ 404)، و «روضة الطالبين» (8/ 77)، و «مغني المحتاج» (3/ 310)، و «المغني» (7/ 102 - 104)، و «الإنصاف» (8/ 454)، و «كشاف القناع» (5/ 240)، و «الإفصاح» (2/ 148)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 8 - 98)، و «زاد المعاد» (5/ 241 - 272)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 283 - 325)، و «فتح الباري» (9/ 275 - 278)، و «المفصل» (8/ 62 - 88)، و «أضواء البيان» (1/ 221 - 268)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 64 - 72).

القول الأول: أن هذا الطلاق مباح، ويقع ثلاثًا: وهو قول الشافعي والرواية القديمة عن أحمد وابن حزم. القول الثاني: أن هذا الطلاق محرَّم، لكنه يقع ثلاثًا: وهو قول أبي حنيفة ومالك والرواية المتأخرة عن أحمد، وهو منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين. فاتفق الطائفتان على وقوع هذا الطلاق ثلاثًا، وهو قول الجماهير من السلف والخلف واستدلوا بما يأتي: 1 - قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (¬1). قالوا: فهذا الطلاق يقع على الثلاثة المجموعة وغير مفرقة (¬2). وأُجيب: بأن الآية الكريمة لا علاقة لها بإباحة الثلاث مجموعة أو مفرقة، لأن موضوعها بيان حرمة المطلقة في تطليقها الثالثة على مطلقها حتى تنكح زوجًا غيره. 2 - قوله تعالى: {الطلاق مرتان} (¬3)، قالوا: فعلمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين، فيجوز الجمع بين الثلاث!! وأجيب: بأنه ليس المراد حصر الطلاق كله في المرَّتين حتى يلزم الجمع بين اثنتين في إحدى التطليقتين كما ذكر، بل المراد به الطلاق الذي يملك بعده الرجعة كما فسَّره جماهير المفسِّرين (¬4). 3 - حديث سهل بن سعد في قصة تلاعن عويمر العجلاني وزوجته في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: «قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة: 230. (¬2) «المحلي» (10/ 107). (¬3) سورة البقرة: 230. (¬4) «أضواء البيان» (1/ 221 - 222). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (5259)، ومسلم (1492).

قالوا: فلم يُنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه إيقاع الطلقات الثلاث مجموعة، ولو كان ممنوعًا أنكره، ولو أن الفرقة وقعت بنفس اللعان. وأُجيب: بأن هذا لا حجة فيه، لأن الزوجة بعد اللعان تحرم على زوجها تحريمًا مؤبدًا، فما ذاد الطلاق الثلاث هذا التحريم إلا تأكيدًا وقوة، ثم إن هذا الطلاق قد وقع على أجنبيه لوقوع الفرقة بينهما باللعان. ويؤيد هذا قول سهل في الرواية الأخرى: «طلقها ثلاثًا فأنقذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬1) فدلَّ على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختصاص الملاعن بذلك. 4 - حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلَّقها ثلاثًا، ثم انطلق إلى اليمين، فانطلق خالد بن الوليد في نفر، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة أم المؤمنين، فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثًا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس لها نفقة، وعليها عدة» (¬2). 5 - وحديث عائشة: أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا، فتزوَّجت، فطلقت، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتحلُّ للأول؟ قال: «لا، حتى يذوق عُسَيْلتها كما ذاق الأول» (¬3). قالوا: فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديثين - تطليقهما ثلاثًا!! وأُجيبَ: بأن التطليق ثلاثًا الوارد في الحديثين، لم يكن مجموعًا، لأن زوجها كان قد طلقَّها تطليقتين من قبل ثم طلقها آخر الثلاث، كما جاء في بعض روايات حديث عند مسلم: «فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ..». ولأن الحال عندهم كان معلومًا منه أن قوله (ثلاثًا) إنما تكون واحدة بعد واحدة، وهذا هو مقتضى اللغة والشرع. 6 - ما رُوي: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وقال: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله ما أردتَ إلا ¬

(¬1) أخرجه ابن عوانة (3/ 200)، والطبراني في «الكبير» (6/ 117) وفي سندها لين. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1480) وغيره. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5261)، ومسلم (1433)، والنسائي (6/ 148)، وأبو داود (2309).

واحدة؟» فقال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردَّها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلَّقها الثانية في زمن عمر بن الخطاب، والثالثة في زمن عثمان» (¬1). قالوا: فقد أحلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد بالبتة واحدة، فدلَّ على أنه لو أراد بها أكثر لواقع ما أراده، ولو لم يفترق الحال لم يحلفه. وأجيب: بأن هذا الحديث مضطرب لا يصح وقد أعلَّه الأئمة كأحمد والبخاري وغيرهم (¬2)، ثم إن في بعض طرقه: أنه طلقها ثلاثًا في مجلس واحد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «في مجلس واحد»؟ قال: نعم، قال: «فإنما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت» وهو ضعيف كذلك وإن كان أمثل الطرق!! 7 - ما يُروي عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة عن أبيه عن جده قال: طلق جدِّي امرأةً له ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما اتقى الله جدُك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء غفر له» (¬3) وأجيب: بأنه باطل لا يحتج به. 8 - وما يُروى عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه طلق امرأة وهي حائض، ثم أراد أن يُتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله، أخطأت السنة» ... فقلت: يا رسول الله، لو كنت طلقتها ثلاثًا، أكان لي أن أجمعها؟ قال: «لا، كانت تبينُ، وتكون معصية» (¬4). وأجيب عن الحديث بأنه منكر، لا يصح. 9 - وما يُروى عن معاذ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا ألزمناه بدعته» (¬5). ¬

(¬1) ضعيف مضطرب: له طرق عند أبي داود (2196 - 2206)، والترمذي (1177)، وأحمد (1/ 265)، وعبد الرزاق (11334 - 11335)، والحاكم (2/ 491)، والبيهقي (2/ 491) وغيرهم وانظر «إرواء الغليل» (7/ 139). (¬2) «الكامل» لابن عدي (5/ 208)، و «الضعفاء» للعقيلي (2/ 90)، و «الميزان» (3/ 161)، و «العلل المتناهية» (2/ 639)، و «التمهيد» (15/ 79) عن «جامع أحكام النساء» (4/ 66 - 67). (¬3) باطل: أخرجه عبد الرزاق (11339)، والدارقطني (4/ 12). (¬4) منكر: أخرجه الدارقطني (4/ 31)، والبيهقي (7/ 330)، وانظر «الإرواء» (2054). (¬5) باطل: أخرجه الدارقطني (4/ 20).

وأجيب: بأنه حديث باطل. 10 - وعن مجاهد: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: «عصيت ربك، وفارقتك امرأتك» (¬1) وفي لفظ: أن رجلًا طلق ألفًا، قال: «يكفيك من ذلك ثلاث». قالوا: فتوى ابن عباس تدل على أن من طلق زوجته ثلاثًا مجموعة بانت منه. وأجيب: بأن هذه فتواه ورأيه، لكنه قد روي أن طلاق الثلاث كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقع واحدة - كما سيأتي - والحجة فيما رواه مرفوعًا لا في رأيه وفتواه كما هو مقرر في الأصول. 11 - أن وقوعه ثلاثًا قد انعقد الإجماع عليه في عهد عمر، ولا يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالف فيه (!!). وأجيب: بأنه ليس في المسألة إجماع، فالنزاع فيها قديم، والقول بوقوعها واحدة كان معروفًا في عهد أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر وهو مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم. 12 - أن الله تعالى ملَّك الزوج ثلاث تطليقات، وجعل إيقاعها إليه، فإن جمع الثلاث فعلى القول بجواز ذلك فقد فعل ما أبيح له فيصح، وإن قلنا بتحريمه، فالشارع ملَّكه تفريق الطلقات الثلاث فسحة له، فإذا جمعها فقد جمع ما فسخ له في تفريقه، فلزمهُ حكمه كما لو فرَّقه. القول الثالث: أن هذا الطلاق محرَّم، ويقع واحدة رجعية: وهو منقول عن طائفة من الصحابة منهم: الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس (وروي عن ثلاثتهم خلافه) وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم كطاووس ومحمد بن إسحاق، وبه قال داود الظاهري وأكثر أصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وانتصر له شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واحتجوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {الطلاق مرتان} (¬2). فبيَّن أن الطلاق الذي ذكره والطلاق ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الدارقطني (4/ 13 - 60)، والطحاوي (2/ 33)، والبيهقي (7/ 337)، وانظر «الإرواء» (2056). (¬2) سورة البقرة: 229.

الرجعي الذي يكون فيه أحق بردها هو مرتان، مرة بعد مرة، كما إذا قيل للرجل: سبح مرتين أو سبِّح ثلاث مرات أو مائة مرة، فلابد أن يقول: سبحان الله، سبحان الله، حتى يستوفى العدد، ولو قال: سبحان الله كذا مرة (مجملة) لم يكن سبِّح إلا مرة واحدة. فكذلك من قال لامرأته: (أنت طالق اثنتين أو ثلاثًا أو عشرًا أو ألفًا) لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة (¬1). وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم المؤمنين جويرية: «لقد قلتُ بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قُلته لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (¬2). فمعناه: أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك، وليس المراد أنه سبَّح تسبيحًا بقدر ذلك. فإذا أراد المطلق أن يغيِّر الصفة الشرعية للطلاق بأن يجعله سببًا لفرقة لا رجعة فيها بجمع الثلاث، لم يكن له ذلك لأنه من قبيل تغيير شرع الله ونسخه بعد وفاة رسول الله، وهذا لا يجوز، وعلى هذا يقع الطلاق طلقة واحدة رجعية وتُلغى الثلاث. وأجيب: بأن الطلاق بجمع الثلاث وإن كان منهيًّا عنه، ولكن هذا لا يمنع من وقوعه كالظهار، فإن الله قد سماه منكرًا من القول وزورًا، ولم يمنع ذلك من تحريم زوجته عليه حتى يفعل ما أمره الله به!! ورُدَّ عليه: بأنه لا يصح قياس الطلاق على الظهار، فإن الظهار محرَّم في نفسه، وهو جريمة رتَّب الشارع عليها جزاء هي الكفارة، بخلاف الطلاق (¬3). 2 - عن طاووس عن ابن عباس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: «إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناه فلو أمضيناه عليهم» فأمضاه عليهم» (¬4). ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (33/ 11). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2726) وغيره. (¬3) «المفصَّل» لعبد الكريم زيدان (8/ 74). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2472)، وأبو داود (2200)، والنسائي (6/ 145).

وفي لفظ عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك (¬1)، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ فقال: «قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم» (¬2). وقد اعتُرض على الحديث بأمور منها: الأول: الطعن في ثبوت الحديث: فادعى بعضهم شذوذ رواية طاووس، باعتبار تكاثر الروايات - الموقوفة (!!) - على ابن عباس بلزوم الثلاث، قالوا: ولا يُظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ويفتى بخلافه، فيتعيَّن المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. وأُجيب: بأن الأئمة الأثبات - كعمرو بن جريج - رووه عن ابن طاووس - وهو إمام - عن طاووس عن ابن عباس، ورواه إبراهيم بن ميسرة - وهو ثقة حافظ - عن ابن عباس، وانفراد الصحابي لا يضر ولو لم يرو عنه أصلًا إلا واحد، ثم إن العبرة برواية الصحابي لا برأيه. وعكَّر بعضهم: بأن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده متوفرة لاسيما وقد غيَّر ذلك عمر ولم ينكر أحد من الصحابة، فكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما أن يكون الذي رواه طاووس عن ابن عباس ليس معناه أن الثلاث بلفظ واحد، وإنما ثلاثة ألفاظ في وقت واحد - وبهذا جزم النسائي وصححه النووي والقرطبي - فلا يكون هناك إشكال في تغيير عمر. وإما أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحاد مع توفُّر الدواعي إلى نقله (¬3)، قال العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: «والأول أولى وأخف من الثنائي» اهـ. قلت: (أبو مالك): أما الثاني فلا ينبغي أن يُضعَّف الحديث به لا سيما مع رواية الثقات الأثبات له وعدم صراحة ما يعارضه، وأما الأول فمحتمل، قال العلامة أبو الأشبال - رحمه الله: «والذي نراه أن قول القائل: (أنت طالق ثلاثًا) لا يخرج عن أنه نطق بالطلاق مرة واحدة وأنه لا يصلح أن يكون موضع خلاف بين الصحابة أو غيرهم، وإنما الذي اختلفوا فيه وأمضاه عمر بن الخطاب، هو ما إذا قال لامرأته ¬

(¬1) هناتك أي: أخبارك وأمورك. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1472). (¬3) «أضواء البيان» للشنقيطي (1/ 254 - 255).

ثلاث مرات كررها: (أنت طالق) سواء كانت في مجلس واحد أو في مجالس متعددة ما دامت ف العدة، فهذا جعله عمر ثلاث تطليقات باعتبار أن الطلاق يلحق المعتدة، وهي قد صارت معتدة باللفظ الأول من التطليقات التي كررها المطلق ثلاث مرات، وكان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر: تعتبر المرة الأولى ثم لا يلحقها بعد ذلك المرتان اللتان بعدها لأنها معتدة، فلما تكرَّر في ألفاظ الصحابة والتابعين الكلام في وقوع الطلاق الثلاث أو عدمه فهم منه الفقهاء أن المراد هو لفظ (أنت طالق ثلاثًا) وهذا مما تنبو عنه قواعد اللغة وبديهة العقل ...» اهـ. المراد (¬1). قلت: يخرج بهذا التحقيق لفظ (أنت طالق ثلاثًا) من خلاف الصحابة، لكن بقي الخلاف في المسألة كما هو في إمضاء عمر لتكرار الثلاث في المجلس الواحد على خلاف ما كان في الصدر الأول، وهو ما نحن بصدد تحريره!! الاعتراض الثاني: دعوى أن حديث ابن عباس منسوخ وأن ابن عباس علم بالناسخ: فقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: «يُشبه أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ المروي عنه بأن الثلاث تقع واحدة» قال البيهقي: ويقوى ما قاله الإمام الشافعي ما أخرج أبو داود عن ابن عباس قال: «كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك» (¬2) إلا أنه لم يشتهر الناسخ فبقى الحكم المنسوخ معمولًا به إلى أن أنكره عمر. وأُجيب عن هذا: بأن هذه الرواية واردة بشأن ما كان عليه أمر المراجعة حيث كان الرجل يطلق امرأته يراجعها بغير عدد فنُسخ ذلك وقصر على ثلاث فبها تنقطع الرجعة، ثم كيف يستمر العمل بالمنسوخ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ولا تعلم الأمة بالناسخ، وهو من أهم الأمور المتعلقة بحلِّ الفروج؟! ثم كيف يقول عمر: «إن الناس قد استعجلوا في شيء قد كانت لهم فيه أناة» وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم إن عمر لم يذكر علمه بالناسخ، وإنما ذكر رأيه فيما ذهب إليه وتبرير هذا الرأي، ولو كان هناك ناسخ لذكره وبينه، إذ في بيانه ما يكفي ويغني عن تعليل رأيه. الاعتراض الثالث: أن حديث ابن عباس محمول على الحكم في غير المدخول بها: ولا يتعلق بالمدخول بها لما جاء في رواية لأبي داود أنه لما قال القائل لابن ¬

(¬1) «الروضة الندية» (2/ 52 - 53) الحاشية. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (2195)، والنسائي (6/ 212).

عباس: أما علمتَ أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا [قبل أن يدخل بها] جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر؟ قال: «بلى» (¬1). وأيَّدوا هذا بأن غير المدخول بها إذا قال لها زوجها: (أنت طالق) فقد بانت منه فإذا أضاف كلمة (ثلاثًا) لغا العدد لوقوعه بعد البينونة. وأُجيب عنه: بأن زيادة [قبل أن يدخل بها] منكرة لا تصح، وعلى فرض ثبوتها فإنها لا تمنع صدق رواية مسلم لحديث ابن عباس على المطلقة بعد الدخول، لأن غاية ما في رواية أبي داود - إن صحت - أنه وقع فيها التنصيص على بعض أفراد العام في رواية مسلم، وهذا لا يوجب تخصيصها بها كما هو مقرر في الأصول (¬2). ثم يرد على ما قالوه: أن قول الرجل لزوجته غير المدخول بها: (أنت طالق ثلاثًا) كلام متصل غير منفصل، فكيف يصح جعله كلمتين وإعطاء كل كلمة حكمًا؟!. الاعتراض الرابع: حمل حديث ابن عباس على صورة خاصة: وهي قول المُطلِّق: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) وأن قائل هذا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا استئناف الطلاق وتعدده فلم يريدوا تأسيس طلاق ثان وثالث، وكانوا لسلامة صدورهم - يصدَّقون بدعواهم، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع (!!) ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد، حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم. وأُجيب عنه: بأنه لو كان الحديث محمولًا على ما ذكروه لظلَّ الحكم بدون تغيير؛ لأن المدار إذا كان على قصد التأكيد فتقع الثلاث واحدة، وإن كان على قصد التأسيس فتقع ثلاثًا، فإن الحكم يترك لنية المطلق وينبغي تصديقه، سواء كان برًّا أو فاجرًا؛ لأن الطلاق حقه، واللفظ يحتمل التأكيد والتأسيس، والسبيل لحمل ¬

(¬1) منكر: وانظر «السلسة الضعيفة» للعلامة الألباني - رحمه الله - (1133). (¬2) قلت: على أنه قد يقال: إن هذا ليس من باب العام والخصوص، وإنما هو من باب المطلق والمقيَّد، والمقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيَّد لاسيما إن اتحد الحكم والسبب، كما هنا، وعلى كلٍّ فالزيادة لا تثبت، والله أعلم.

اللفظ على أحدهما ما نواه، ونيَّته تعرف عن طريقه وما يدَّعيه، وإن كان ادعاء التأكيد لا يقبل في أحكام الدنيا، فإنه لا يقبل من البر كما لا يُقبل من الفاجر. ثم إنه لا وجه مقبول للقول بأن الخداع كثر في الناس في زمان عمر؛ لأن الناس في زمنه هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في غالبيتهم العظمى، ومن وُجد فيهم من التابعين فهم تلامذتهم، وزمان عمر هو خير الأزمان بعد زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن أبي بكر فكيف يصح القول بكثرة الخداع فيهم؟ غاية ما في الأمر أنه أسلوب لإيقاع الطلاق - قد يقع من البعض، خلافًا للأسلوب الشرعي لأنهم غير معصومين، وهذا لا يقدح في عدالتهم ولا يعني الخداع منهم. الاعتراض الخامس: حمل حديث ابن عباس على تغيُّر عادات الناس: فقالوا: الطلاق الذي يوقعه الناس في زمن عمر بصيغة الثلاث، كانوا يوقعونه قبل ذلك واحدة بقول المطلق (أنت طالق) لأنهم ما كانوا يستعملون الثلاث أصلًا أو كانوا يستعملونه نادرًا، فلما كثر استعمالهم للفظ الثلاث في زمن عمر أمضاه عليهم وأجازه، فلم يفعل عمر أكثر من تنفيذه حكم الثلاث عليهم وهو حكم مقرر شرعًا له، وعليه يكون حديث ابن عباس واردًا لبيان اختلاف عادات الناس في كيفية أو صيغة الطلاق، وليس في وقوعه حسب الكيفية. وأجيب عنه: بأن الناس ما زالوا يطلقون واحدة أو ثلاثًا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله ثلاثًا، فمنهم من ردَّها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى واحدة، ومنهم من أنكر عليه وغضب عليه لإيقاعه الطلاق ثلاثًا وجعله متلاعبًا بكتاب الله ولم يعرف ما حكم به عليه (¬1). ثم إن قول عمر: «فلو أمضيناه عليهم» يدلُّ على أن الطلاق الثلاث في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر لم يُعتبر وقوعه ثلاثًا - رغم استعماله - حتى رأى عمر ذلك. 3 - (من أدلة التابعين) أمثل طرق حديث ابن عباس - في قصة ركانة - قال: طلَّق ركانة بن يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف طلَّقتها؟» قال: طلَّقتها ثلاثًا، قال: فقال: «في مجلس واحد؟» قال: نعم، قال: «فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت» (¬2). ¬

(¬1) ستأتي هذه الأحاديث عقبه، وهي ضعيفة. (¬2) ضعيف: وقد تقدم الكلام عليه في أدلة الفريق الأول.

وأجيب: بأن للحديث لفظًا آخر: أنه طلَّق امرأته البتة وقال: ما أردت إلا واحدة فردَّها عليه واحدة، قلت: الحديث ضعيف لاضطرابه على كل حال كما تقدم بيانه. 4 - ما ورد عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال سمعت محمود بن لبيد قال: «أُخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!» حتى قام رجل وقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟» (¬1). قالوا: فكيف يُظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره في شرعه وحكمه وأنفذه؟ وقد جعله مستهزئًا بكتاب الله تعالى؟! وهو صريح في أن الله تعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله من أحكامه. وأُجيب عن الحديث: بأن قد أُعلَّ بعلتين: الأول: أنه مرسل إذ أن محمود بن لبيد لم تثبت له صحبة على قول بعض أهل العلم (!!) والثانية: أن مخرمة بن بكير مُتكلَّم في سماعه من أبيه. قلت: أما سماع محمود بن لبيد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالصحيح ثبوته، فقد روي أحمد (5/ 427) بسند حسن عن محمود بن لبيد قال: «أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا المغرب في مسجدنا فلما سلَّم منها قال: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» وقد تقدم في الصلاة. وأما سماع مخرمة بن بكير من أبيه فقد صرَّح غير واحد من أهل العلم بأن روايته عنه منقطعة. 5 - عن ابن عباس قال: «إذا قال: (أنت طالق ثلاثًا) بفم واحد، فهي واحدة» (¬2). 6 - وَوَجَّهوا إمضاء عمر - رضي الله عنه - الثلاث بلفظ واحد بأن عمر «لما رأى الناس قد أكثروا مما حرَّمه الله عليهم من جميع الثلاث، ولا ينتهون من ذلك إلا بعقوبة، رأى عقوبتهم بإلزامهم بها لئلا يفعلوه، إما من نوع التعزير العارض الذي يُفعل عند الحاجة، وإما ظنَّا أن جعلها واحدة كان مشروطًا بشرط وقد زال» (¬3). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه النسائي (6/ 142). (¬2) صحيح: انظر «الإرواء» (7/ 121 - 122). (¬3) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (33/ 15 - 16).

ثانيا: الطلاق السني والبدعي

«والذي يُحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين: إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على الأربعين في الخمر، وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازمًا، وتارة غير لازم، وأما القول بكون الثلاث شرعًا لازمًا كسائر الشرائع: فهذا لا يقوم عليه دليل شرعي» (¬1). «ولا يجوز لأحد أن يظن بالصحابة أنهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعوا على خلاف شريعته - بل هذا من أقوال أهل الإلحاد - ولا يجوز دعوى نسخ ما شرعه الرسول بإجماع أحد بعده، كما يظن طائفة من الغالطين، بل كل ما أجمع عليه المسلمون فلا يكون إلا موافقًا لما جاء به الرسول لا مخالفًا له، بل كل نص منسوخ بإجماع الأمة، فمع الأمة النص الناسخ له، تحفظ الآن النص الناسخ كما تحفظ المنسوخ، وحفظ الناسخ أهم عندها» (¬2). الترجيح: بعد هذا العرض لطرف من أدلة الفريقين وما نوقشت به، فإنه يتبيَّن للباحث أن المسألة من المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف، ولا ينبغي لأحد من الطائفتين أن يشدد النكير على الآخر. وإن كان الذي يبدو لي أن أقوى الأدلة على الإطلاق حديث ابن عباس المتقدم، ولم يأت من حاول التخلص منه بحجة تُنفق، فالذي يترجَّح لدي هو أن طلاق الثلاث - ولو بالتكرار لقوله (أنت طالق) - لا يقع إلا واحدة رجعية، على أنني أقول: هذا هو الأصل، لكن لو رأى القاضي المصلحة في إيقاع هذا النوع ثلاثًا من باب التعزير ونحوه، فله في فعل عمر وإقرار الصحابة متنفَّس وهذا هو الذي تُعمل فيه جميع الأدلة حسب مواردها، والله تعالى أعلم بالصواب. ثانيًا: الطلاق السُّنِّي والبدعي ينقسم الطلاق من حيث وصفه الشرعي (أو من حيث كيفية إيقاعه) إلى سُنِّي وبدعي. والمراد بالسُّني: ما وافق السنة في كيفية إيقاعه، وليس المراد بهذا أن الطلاق بهذه الكيفية سنة!! فإن الطلاق تتناوله الأحكام الشرعية الخمسة كما تقدم. ¬

(¬1) «السابق» (33/ 97 - 98). (¬2) «السابق» (33/ 32).

والبدعي: ما خالف السنة في ذلك. [1] طلاق السنة: وهو الطلاق الذي وافق أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأُوقع على الوجه المأذون به شرعًا، والوجه الشرعي يتعلق بأمرين: وقت إيقاعه، وعدد الطلاق. (أ) الطلاق السني من حيث (وقت إيقاعه): أولًا: بالنسبة للمرأة المدخول بها ممن تحيض: يشترط لكون طلاق المرأة المدخول بها من ذوات القروء (ممن تحيض) شروط: 1 - أن يطلقها في طهر، لا في حيض ولا نفاس. 2 - أن لا يكون جامعها في هذا الطهر قبل طلاقها. قال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} (¬1). قال ابن مسعود: {فطلقوهن لعدتهن}: بالطهر في غير جماع» (¬2). وقال ابن عباس: «فطلقوهن لقُبل عدَّتهن» (¬3). فالمراد من الآية الكريمة: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، وسيأتي في حديث ابن عمر تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية. وعن نافع وسالم وعبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْهُ فليراجعْها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلَّق لها النساء» (¬4). وقد دلَّ الحديث على أن الرجل ينتظر أن تطهر المرأة طهرين - بعد الحيضة التي طلَّقها فيها - حتى يحلَّ له طلاقها. ¬

(¬1) سورة الطلاق: 1. (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 140)، وعبد الرزاق (6/ 302)، وابن أبي شيبة (5/ 1). (¬3) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 139)، وعبد الرزاق (6/ 303)، وابن أبي شيبة (5/ 2). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5251 - 7160)، ومسلم (1471).

وقد رواه أكثر الرواة عن ابن عمر أنه يمكث حتى تطهر ثم يكون له أن يطلقها، ومن ذلك ما رواه يونس بن جبير عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أمره أن يراجعها فإذا طهرت فأراد أن يُطلقها فليطلقها ...» (¬1). ولذا اختلف أهل العلم في الانتظار للطهر الثاني (¬2) فذهب مالك - وهو أصح الوجهين عند الشافعية والأرجح عند الحنفية - والحنابلة في ظاهر المذهب - إلى وجوب ذلك وتحريم تطليقها الذي يعقب الحيضة التي طلقها فيها وهو اختيار شيخ الإسلام. واستندوا للرواية الأولى. بينما ذهب أحمد في رواية - ونسبه الصنعاني إلى أبي حنيفة - إلى أن الانتظار للطهر الثاني مستحب وليس بواجب، واستندوا للرواية الثانية. قلت: الرواية الأولى يرويها أثبت الناس في ابن عمر، والثانية يرويها الأكثرون، فيصعب ترجيح إحداهما، فالأَوْلى أن يجمع بينهما بما ذكره ابن قدامة في المغني من أنه: «إن راجعها وجب إمساكها حتى تطهر، واستحب إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر». اهـ، ثم إن هذا القول يتأيَّد بحديث ابن عمر: «مرة فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا» (¬3). وليس فيه التقييد بالانتظار للطهر الثاني، ثم لأن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال فوجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الذي بعده وكما يجوز في الطهر الذي لم تقدمه طلاق في الحيض والله أعلم. فائدة: وجه استحباب الانتظار للطهر الثاني: أنه إذا أمسكها إلى الطهر الثاني، فإن مقامها معه سيطول، وقد يجامعها في هذه الفترة، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها، فيُقلع عن رغبته في طلاقها ويستقر على إرادة إمساكها. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5258)، ومسلم (1471). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 230)، و «المدونة» (2/ 70)، و «فتح الباري» (9/ 349 - المعرفة)، و «سبل السلام» (ص 1078)، و «المغني» (7/ 101)، و «كشاف القناع» (3/ 143)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 31 - 32). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1471)، وأبو داود (2181)، والترمذي (1176)، والنسائي (6/ 141) وابن ماجة (2023).

3 - أن لا يطلقها - إذا طهرت - إلا بعد أن تغتسل: ففي رواية من حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْ عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت فليتركها حتى تحيض، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسَّها حتى يطلقها، فإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فإنها العدة التي أمر الله - عز وجل - أن تُطلَّق لها النساء» (¬1). قال الحافظ في قول: «فإذا اغتسلت من حيضتها»: هذا مفسِّر لقوله «فإذا طهرت» فليحمل عليه. اهـ (¬2). ثانيًا: بالنسبة لغير المدخول بها: إذا تزوَّج الرجل المرأة فلم يدخل بها - وكانت ممن تحيض أو لا تحيض - فإنه يُباح له أن يطلِّقها متى شاء، وفي الطهر أو الحيض، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬3). فغير المدخول بها ليس عليها عدة تطلق لها وتراعى في تطليقها فلا يشملها قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (¬4). ثالثًا: بالنسبة لمن لا تحيض (لصغرها أو كبرها): وهذه يطلقها زوجها متى شاء سواء كان وطئها أو لم يكن وطئها، فإن هذه عدتها ثلاثة أشهر ففي أي وقت طلقها لعدتها، فإنها لا تعتد بقروء ولا بحمل (¬5)، قال الله تعالى: {واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬6). فدلت على أنه لا عدة لهما بالقروء حتى يُطلقها لعدتهما، فمتى وقع الطلاق ابتدأ حساب العدة وهي ثلاثة أشهر من تاريخ وقوع الطلاق. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 140). (¬2) «فتح الباري» (9/ 350) وهذا منصوص قول مالك كما في «المدوَّنة» (2/ 70). (¬3) سورة الأحزاب: 49. (¬4) سورة الطلاق: 4. (¬5) «مجموع الفتاوى» (33/ 5)، وانظر «الأم» (5/ 181). (¬6) سورة الطلاق: 4.

ولو جامع الصغيرة التي لم تحض أو الآيسة فالطلاق مشروع لأن العلة في تحريم الطلاق في الطهر الذي حصل فيه الجماع - في ذوات الأقراء - احتمال أن تحبل بالجماع فيندم، وهذا المعنى لا يوجد في الآيسة والصغيرة ولو وُجد الجماع، ولأن الإياس والصغير في الدلالة على براءة الرحم فوق الحيضة - في ذوات الأقراء - فلما جاز الإيقاع ثمة عقيب الحيضة فلأن يجوز هنا عقيب الجمع أولى» (¬1). رابعًا: بالنسبة للحامل التي تبيَّن حملُها: فإنها تُطلق في أي وقت شاء زوجها كذلك لما يأتي: 1 - قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (¬2). فجعل عدة الحامل وضع الحمل، ووقت وضع الحمل مجهول لاختلاف النساء وأحوالهن، فلا يمكن تحديد وقت معيَّن تطلق فيه الحامل (¬3). 2 - حديث ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مره فليراجعها، ثم ليطلِّقها طاهرًا أو حاملًا» (¬4). قال الخطابي: «فيه بيان أنه إذا طلَّقها وهي حامل فهو مطلق للسنة، ويطلقها في أي وقت شاء في الحمل، وهو قول كافة العلماء» اهـ (¬5). 3 - ويُروى عن ابن عباس أن قال: «الطلاق على أربعة منازل: منزلان حلال، ومنزلان حرام، فأما الحرام: فأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أيشتمل الرحم على شيء أم لا، وأن يطلقها وهي حائض، وأما الحلال: أن يطلقها لأقرائها طاهرًا من غير جماع، وأن يطلقها حاملًا مستبينًا حملها» (¬6). 4 - ولأن مطلق الحامل التي استبان حملها قد طلق على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم، كما أنها ليست مرتابة في عدَّتها، لعدم اشتباه الأمر عليها أنها حامل» (¬7). ¬

(¬1) «بدائع الصنائع» (3/ 89). (¬2) سورة الطلاق: 4. (¬3) «المفصل في أحكام المرأة» (8/ 100). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1471) وغيره وقد تقدم قريبًا. (¬5) معالم السنن (6/ 163) ط. المكتبة العلمية. (¬6) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (6/ 303)، والدارقطني (4/ 5 - 37)، والبيهقي (7/ 325) ومعناه صحيح. (¬7) «المغني» لابن قدامة (7/ 105) ونحوه في «فتح الباري» (9/ 350 - المعرفة).

(ب) الطلاق السني من حيث العدد: والجامع له أن يطلِّق طلقة واحدة، ولا يُتْبِعُها بأخرى أثناء العدة. أولًا: بالنسبة للمدخول بها ممن تحيض: يتحقق طلاق السنة بإيقاع طلقة واحدة على المرأة في طهر لم يجامعها فيه - كما تقدم - ويتركها حتى تنقضي عدتها (ثلاثة قروء) فتبين منه، ولا يتبعها طلاقًا آخر قبل انقضاء عدتها، فإن فعل فهو طلاق بدعة عند الجمهور خلافًا للشافعي وابن حزم وقد تقدمت أدلة ذلك في مسألة «طلاق الثلاث المجموعة». ولو طلقها ثلاثًا في ثلاثة أطهار [عند كل طهر طلقة واحدة] كان حكمه حكم جمع الثلاث في طهر، عند أحمد ومالك، وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد. وعند الحنفية: لا بأس بذلك وهو (حسن) عندهم (¬1). ثانيًا: بالنسبة لغير المدخول بها: فهي كالمدخول بها، فإذا طلق غير المدخول بها ثلاثًا كان طلاقه خلاف طلاق السنة (¬2). ثالثًا: بالنسبة لمن لا تحيض (لصغر أو كبر): فهذه عدَّتها تكون بالأشهر كما قال تعالى: {واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬3). فطلاق السنة لها أن يطلقها طلقة واحدة ويتركها حتى تنقضي عدتها بمضي ثلاثة أشهر من وقت طلاقها عند الجمهور، وعند الحنفية إن طلقها واحدة كل شهر فهو حسن، وهذا جائز عند الشافعية على قاعدتهم في إباحة جمع الثلاث كما تقدم. رابعًا: بالنسبة للحامل: فطلاق السنة أن تُطلق طلقة واحدة، لا تُتْبَعُ بأخرى حتى تنقضي عدتها وهي وضع الحمل، لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (¬4). ¬

(¬1) «الهداية» (3/ 23 - مع فتح القدير)، و «الشرح الصغير» للدردير (2/ 361)، و «المغني» (7/ 98). (¬2) «الهداية» (3/ 23). (¬3) سورة الطلاق: 3. (¬4) سورة الطلاق: 4.

[2] طلاق البدعة: وهو المخالف لطلاق السنة، سواء كانت المخالفة من جهة وقت إيقاع الطلاق، أو من جهة عدد التطليقات التي يوقعها. فإن طلق امرأته وهي حائض، أو طلقها بعدما طهرت لكن جامعها في هذا الطهر، أو طلقها ثلاثًا في طهر فهو طلاق بدعة، وهو محرم، يأثم فاعله في قول عامة أهل العلم. حكم الطلاق البدعي: 1 - هل يقع طلاق البدعة؟ تقدم فيما مضى تحرير حكم وقوع طلاق البدعة من حيث العدد، والمراد هنا تحرير: «هل يقع الطلاق في الحيض؟ وهل يحسب الطلاق في الحيض تطليقة؟» فأقول: اختلف أهل العلم في وقوع الطلاق في الحيض - بعد الاتفاق على أنه مُحرَّم يأثم فاعله - على قولين: الأول: أن الطلاق في الحيض يقع ويُحسب: وهو قول عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم (¬1)، وحجتهم ما يلي: 1 - حديث ابن عمر في تطليقه امرأته وهي حائض وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «مُرْه فليراجعها ...» (¬2) والمراجعة لا تكون إلا من طلاق قد وقع. وأجاب المخالفون: بأن الأمر بالمراجعة لا يستلزم وقوع الطلاق، بل لما طلقها طلاقًا محرَّمًا حصل منه إعراض عنها ومجانبة لها، لظنه وقوع الطلاق، فأمره أن يردَّها إلى ما كانت عليه. 2 - عن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ليراجعها» قلت - أي أنس لابن عمر -: تحتسب؟ قال: «فمه؟!» (¬3). قال الحافظ في «الفتح» (9/ 265 سلفية): قوله (فمه) أصله (فما) وهو استفهام فيه اكتفاء، أي: فما يكون إن لم تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية وهي كلمة تقال للزجر، أي: كفَّ عن هذا الكلام فإنه لابد من وقوع الطلاق ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 232)، و «المبسوط» (6/ 57)، و «الشرح الصغير» (2/ 308)، و «المجموع» (15/ 398)، و «المغني» (7/ 366). (¬2) صحيح: تقدم مرارًا. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5252)، ومسلم (1471).

بذلك. قال ابن عبد البر: معناه: فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكارًا لقول السائل: (أيعتد بها؟) فكأنه قال: وهل من ذلك بد؟ (¬1). اهـ. 3 - وعن يونس بن جبير قال سألت ابن عمر فقال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مُره أن يراجعها ثم يطلق من قُبل عدتها» قلت - أي: يونس لابن عمر -: أفتعتد بتلك التطليقة؟ قال: «أرأيت إن عجز واستحمق» (¬2). قال ابن عبد البر في «التمهيد» (5/ 66) في قوله (أرأيت إن عجز واستحمق): بمعنى تعاجز عن فرض آخر من فرائض الله فلم يُقمه، واستحمق فلم يأت به، أكان يعذر فيه؟! اهـ. وقال النووي: معناه: أفيرتفع عنه الطلاق وإن عجز واستحمق؟ وهو استفهام إنكار وتقديره: نعم، تُحسب ولا يمتنع احسابها لعجزه وحماقته. اهـ. واعترض ابن القيم على هذا الاستدلال فقال: هذا رأي محض، ومعناه: أنه ركب خطة عجز، واستحمق، أي: أتى أحموقة وجهالة فطلق في زمن لم يؤذن له في الطلاق فيه ... وهذا ليس بدليل على وقوع الطلاق. اهـ (¬3). وقد يجاب عن الاعتراض: بأنه في رواية أحمد (2/ 43) بسند صحيح قال يونس: فقلت لابن عمر: أيحسب طلاقه ذلك طلاقًا؟ قال: «نعم»، أرأيت إن عجز واستحنق» وفي رواية عنده أيضًا (2/ 79) أنَّه قال: «ما يمنعه؟ نعم أرأيت إن عجز واستحمق؟». 4 - وأصرح مما تقدم، حديث ابن عمر قال: «حُسبتْ عليَّ بتطليقة» (¬4). وفي رواية قال ابن عمر: «فراجعتها، وحَسَبْتُ لها التطليقة التي طلقتها» (¬5). واعتُرض: بأنه ليس فيه ما يفيد رفع ذلك للنبي ظ، فقوله (حُسبت عليَّ) من الذي حسب؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عمر - رضي الله عنه -؟ أو أنه هو الذي حسبه؟ (¬6). ¬

(¬1) «التمهيد» لابن عبد البر (15/ 66). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5258)، ومسلم (1471). (¬3) «تهذيب السنن» (3/ 102 - مع مختصر المنذري). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5253). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1471، والنسائي رقم (3391). (¬6) «تهذيب السنن» (3/ 101 - 102).

وأجاب الحافظ عن الاعتراض فقال: وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حُسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيدًا جدًّا، مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يُتخِيَّل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئًا برأيه، وهو ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيَّظ من صنيعه، كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة؟! اهـ (¬1). قلت: وهذا الذي ذكره الحافظ يتأيد في الحديث الآتي: 5 - عن نافع عن ابن عمر: «أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فجعلها واحدة» (¬2) وهو نصٌ في موضع النزاع فيجب المصير إليه ثم يتأيد كله بفتوى ابن عمر في هذه المسألة: 6 - فعن نافع قال: «... فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض يقول: «أنا أنت طلقتها واحدة أو اثنتين، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسَّها، وأما أنت طلَّقتها ثلاثًا فقد عصيب ربَّك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وبانت منك» (¬3). 7 - ولأنَّه طلاق من مكلَّف في محل الطلاق فوقع، كطلاق الحامل. 8 - ولأن الطلاق ليس مما يتقرب به إلى الله تعالى فيُعتبر لوقوعه موافقة السنة، وإنما هو زوال عصمة فها حق لآدمي، فكيفما أوقعه وقع، فإن أوقعته لسنة هُدِىَ ولم يأثم، وإن أوقعه على غير ذلك أثم ولزم ذلك، ومحال أن يلزم المطيع ولا يلزم العاصي (¬4). القول الثاني: أن الطلاق في الحيض لا يقع ولا يُحسب: وهو قول طاووس وعكرمة وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق وأهل الظاهر: داود وابن حزم، وهو مذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (¬5)، وحجة هذا القول: 1 - حديث أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن ¬

(¬1) «فتح الباري» (9/ 266 - سلفية). (¬2) صحيح: أخرجه الطيالسي (68)، والدارقطني (4/ 9)، والبيهقي (7/ 326). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1471)، والنسائي (6/ 213). (¬4) «التمهيد» (15/ 59)، و «المغني» (7/ 366) بنحوه. (¬5) «الإنصاف» (8/ 448)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 66) ومواضع، و «الزاد» (5/ 218 - وما بعدها).

عمر قال: كيف ترى في رجل طلَّق امرأته حائضًا؟ قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردَّها عليَّ [ولم يرها شيئًا] وقال: «إذا طهرت فليطلق أو ليمسك» (¬1). وأُجيب عنه: بأن زيادة (ولم يرها شيئًا) شاذة، وقد أطبق العلماء على تضعيفها منهم أبو داود والخطابي والشافعي وابن عبد البر (¬2). 2 - روي ابن حزم - ونقله عنه ابن القيم - عن نافع عن ابن عمر أنه قال - في الرجل يطلق امرأته وهي حائض -: «لا يعتد بذلك» (¬3). وقد أُجيب: بأن هذا الأثر قد أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (5/ 5) من نفس الطريق عن نافع عن ابن عمر - في الذي يطلق امرأته وهي حائض - قال: «لا تعتد بتلك الحيضة»!! فذكرها ابن حزم مختصرة وفرق بين اللفظين، فهذا معناه: لا يعتد بتلك الحيضة من أقرائها الثلاثة التي في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (¬4). وليس فيه تعرض لاحتساب التطليق أو عدمه (¬5). 3 - عن طاووس قال: «وجه الطلاق أن يطلقها طاهرًا من غير جماع وإذا استبان حملها» (¬6). 4 - عن خلاس بن عمرو أنه قال - في الرجل يطلق امرأته وهي حائض -: «لا يعتد بها» (¬7). قلت: لا يخفى أن قول طاووس وخلاس رحمهما الله - إن ثبت - إنما يفيد في إثبات الخلاف بين السلف في المسألة، لكنه لا يُعدُّ دليلًا يستدل به. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (2185) وغيره وقد جمع شيخنا - حفظه الله - طرقه وأبان علَّته في «جامع أحكام النساء» (4/ 42). (¬2) «السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 327)، و «الفتح» (9/ 354 - المعرفة)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 45 - 47). (¬3) إسناده ليِّن: أخرجه ابن حزم في «المحلي» (10/ 163). (¬4) سورة البقرة: 228. (¬5) نبَّه عليه شيخنا - رفع الله مقامه - في «جامع أحكام النساء» (4/ 47 - 48). (¬6) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10923). (¬7) إسناده ضعيف: أخرجه ابن حزم (10/ 163).

ثالثا: الطلاق المنجز والمضاف والمعلق

5 - أن العبادات والعقود المحرَّمة إذا فعلت على الوجه المحرَّم لم تكن لازمة صحيحة، فإن النهي يقتضي الفساد، ولأنه طلاق منه منه الشرع فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه فكذلك يفيد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للمنع فائدة، وقد أطال ابن القيم بمعارضات كثيرة من هذا الجنس. وأجيب: بأن هذا قياس في معارضة النص - من صاحب القصة - فهو فاسد الاعتبار، وقد عورض هذا بقياس أحسن منه وهو ما تقدم نقله عن ابن عبد البر من أن الطلاق ليس من أعمال البر التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وإنما هو إزالة عصمة فيها حق لآدمي فكيفما أوقعه وقع ... اهـ. الراجح: من خلال الأدلة المتقدمة أن مذهب الجماهير من السلف والخلف من إيقاع الطلاق على الحائض هو الأقوى، والله أعلم. تنبيه: يترتب على هذا أنه تجب على المرأة العدة: إذا طُلِّقت في الحيض، وهي في هذه الحالة تعتدُّ بحيضة على النحو الذي تقدم بيانه. من طلَّق طلاق بدعة، هل يجب عليه مراجعتها؟ تقدَّم أن ابن عمر لما طلَّق امرأته وهي حائض، أخبر عمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «مُرْهُ فليراجعها ...». وهو أمر استحباب عند أبي حنيفة والشافعي والأوزاعي وأحمد في المشهور عنه، وحكاه النووي عن سائر الكوفيين وفقهاء المحدِّثين. وقال مالك وأصحابه: هي واجبة يُجبر عليها ما بقي من العدة شيء، وهذا هو الأصح عند الحنفية وبه قال داود الظاهري، وهو الأرجح عملًا بحقيقة الأمر، ورفعًا للمعصية بالقدر الممكن برفع أثره وهو العدة، ودفعًا لضرر تطويل العدة (¬1). ثالثًا: الطلاق المُنجَّز والمضاف والمعلَّق [1] الطلاق المُنَجَّز: وهو الطلاق الخالي في صيغته عن التعليق على شرط أو الإضافة إلى المستقبل، بل يقصد به المطلِّق وقوع الطلاق في الحال، كقوله (أنتِ طالق). حكمه: ينعقد هذا الطلاق سببًا للفرقة في الحال، ويعقبه أثره بدون تراخٍ ما دام ¬

(¬1) «طرح التثريب» للعراقي (7/ 88 - 89).

مستوفيًا لشروطه، فإذا قال لها: (أنت طالق) طلقت للحال وبدأ عدَّتها - إن كانت من ذوات العدة - هذا مع ملاحظة الفارق بين البائن والرجعي. [2] الطلاق المُضاف: هو الذي قُرنت صيغته بوقت، ويقصد المطلق بذلك وقوع الطلاق عند حلول ذلك الوقت، كقوله: (أنت طالق أول الشهر القادم - أو آخر النهار). حكمه: إذا طلق الرجل امرأته لأَجَل، بأن أضافه إلى المستقبل، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال (¬1): الأول: ينعقد الطلاق في الحال، لكن لا يقع إلا عند حلول الأجل المضاف إليه: وهو قول أبي عبيد وإسحاق والشافعي وأحمد وداود الظاهري وأصحابهم. الثاني: يقع الطلاق في الحال منجزًا: وهو قول ابن المسيب وأحد قولي أبي جنيفة والليث ومالك. الثالث: لا يقع لا في الحال ولا عند حلول الأجل: وهو مذهب أبي محمد بن حزم، وقد ناقش أدلة مخالفيه وفنَّدها، وانتصر لمذهبه بما حاصله: 1 - أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك، وقد علَّمنا الله الطلاق على المدخل بها وغير المدخول بها، وليس هذا فيما علمنا {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} (¬2). 2 - أن النكاح إلى أجل لا يجوز، فقياس الطلاق عليه أولى من قياسه على المداينة والعتق. 3 - أن خلاف هذا القول يستلزم تحريم فرج بالظن على من أباحه الله تعالى له باليقين. [3] الطلاق المعلَّق على شرط: وهو أن يعلِّق طلاق زوجته على حصول أمر، سواء كان هذا الأمر فعل المطلِّق أو المطلَّقة، أو لم يكن من فعل أحد. فإن كان من فعل المطلق أو المطلقة أو غيرهما سُمِّي «يمينًا» عند الجمهور ¬

(¬1) «المحلي» (10/ 213 - 216)، و «ابن عابدين» (3/ 265)، و «الدسوقي» (2/ 390)، و «مغني المحتاج» (3/ 314)، و «المغني» (7/ 363). (¬2) سورة الطلاق: 1.

مجازًا، لما فيه من معنى القسم، وهو: تقوية عزم الحالف أو عزم غيره على فعل شيء أو تركه، كأن يقول لزوجته: (إن خرجت من البيت فأنت طالق) أو: (إن سافرتُ أنا، فأنتِ طالق) أو (إن زارك فلان فأنت طالق). فإن كان الطلاق مُعلَّقًا على فعل أحد، كأن يقول لها: (أنت طالق إن طلعت الشمس) فإنه يسمى «تعليقًا» لا يمينًا لانتفاء معنى اليمين، وقيل: يسمى يمينًا أيضًا (¬1). حُكْم الحلف بالطلاق: إذا علَّق الرجل طلاق امرأته على شرط، ثم حدث هذا الشرط، كأن يقول: (أنت طالق لو خرجْت) فَخَرَجَتْ، فهل يقع الطلاق؟ والجواب: أن هذا الرجل، لا يخلو حاله من أحد أمرين: 1 - أن يكون قصد بذلك إيقاع الطلاق حقيقة إذا حصل الشرط الذي علَّق عليه، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه عند حصول الشرط عند جمهور أهل العلم. وخالف ابن حزم فقال: لا يقع سواء برَّ أو حنث، بناءً على أصله المعروف: أنه لا طلاق إلا كما أمر الله - عز وجل -، ولا يمين إلا كما أمر الله تعالى وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفًا فليحلف بالله» (¬2). فدلَّ على أن كل حلف بغير الله عز وجل فإنه معصية وليس يمينًا. قلت: والأوَّل أظهر، بل قال شيخ الإسلام: «... وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلَّق، ولم نعلم فيه خلافًا قديمًا، لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق، وهو قول الإمامية، مع أن ابن حزم ذكر في «كتاب الإجماع» إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق، وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين ...» اهـ (¬3). 2 - أن يكون قصد بذلك حمل الزوجة (حضَّها) على الفعل أو الترك، ولم يكن في نيته الطلاق حقيقة عند وقوع الشرط، بل إنه يكره طلاقها إذا فعلت ما علَّق طلاقها عليه. فللعلماء في هذا النوع قولان: ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 241)، و «المغني» (7/ 369)، وانظر «مجموع الفتاوى» (33/ 47). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6646)، ومسلم (1646). (¬3) «المحلي» (10/ 211)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 46، 47).

الأول: أنه يقع عند حصول الشرط كذلك: وهو مذهب جمهور الفقهاء منهم الأئمة الأربعة (¬1)، وحجتهم ما يلي: 1 - ما ذكره البخاري تعليقًا عن نافع قال: طلَّق رجل امرأته البتة إنْ خرجتْ، فقال ابن عمر - رضي الله عنه -: «إن خرجت فقد بُتَّتْ منه، وإن لم تخرج فليس بشيء» (¬2). قال السُّبْكي - رحمه الله -: فأوقع ابن عمر الطلاق على الحالف به عند الحنث في يمينه، ولا يُعرف أحد من الصحابة خالف ابن عمر في هذه الفتوى (!!) ولا أنكرها عليه. اهـ (¬3). 2 - ما يُروي عن عروة بن الزبير قال: ضرب الزبير أسماء بنت أبي بكر فصاحت بعبد الله بن الزبير، فلما رآه قال: «أمُّك طالق إن دخلت» فقال له عبد الله: «أتجعل أمِّي عُرضة ليمينك؟» فاقتحم عليه فخلَّصها فبانت منه، قال: «ولقد كنت غلامًا ربما أخذت بشعر منكبي الزبير» (¬4) والشاهد فيه قوله: «فبانت منه» لكنه ضعيف. 3 - ما جاء عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فَعَلتْ كذا وكذا فهي طالق فتفعله، قال: «هي واحدة، وهو أحق بها» (¬5) وفيه ضعف. 4 - ما جاء عن طريق الحسن: أن رجلًا تزوَّج امرأة وأراد سفرًا، فأخذه أهل امرأته، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء، فلما قدم خاصموه إلى علي بن أبي طالب، فقال عليٌّ: «اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا؟!» فردَّها عليه (¬6). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 253)، و «القوانين الفقهية» (ص 200)، والخرشي (4/ 54)، و «روضة الطالبين» (8/ 114)، و «مغني المحتاج» (3/ 316)، و «المغني» (7/ 397)، و «كشاف القناع» (5/ 254). (¬2) أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم (9/ 300 - سلفية) ولم يصله الحافظ في «التعليق» (4/ 453)!! (¬3) «الدُّرة المضية في الرد على ابن تيميَّة» (ص 16). (¬4) إسناده ضعيف: أخرجه الطبراني في «الكبير» (1/ 121)، والذهبي في «السير» (2/ 291)، وانظر «الميزان» (4/ 178). (¬5) إسناده منقطع: أخرجه البيهقي (7/ 356) وهو منقطع بين إبراهيم وابن مسعود. (¬6) إسناده منقطع: أخرجه ابن حزم في «المحلي» (10/ 212)، والحسن لم يسمع من عليٍّ.

وقد أجيب عنه: بأن عليًّا - رضي الله عنه - إنما أنكر عليهم اضطهادهم للرجل حتى حلف بالطلاق، وليس فيه أنه أوقع الطلاق!! 5 - ما يُروى عن عائشة قالت: «كل يمين - وإن عظمت - ففيها الكفارة إلا العتق، والطلاق» (¬1) وهذا لو صحَّ فلا تعلق له بوقوع الطلاق أو عدمه، إنما هو في الكفارة إذا حنث. 6 - أن آيات الطلاق فيها تفويض الأمر للزوج، وهي مُطْلقَة لم تفرِّق بين منجَّز ومعلَّق، والأصل أن يُعمل بالمطلق على إطلاقه حتى يأتي ما يقيِّده. 7 - لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون عند شروطهم» (¬2). القول الثاني: أن الطلاق لا يقع: وهو قول عكرمة وطاووس وابن حزم وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية - ونسبه إلى أبي حنيفة!! وطائفة من أصحاب الشافعي - وتلميذه ابن القيم (¬3)، واحتجوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (¬4)، وقوله سبحانه: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} (¬5). قال شيخ الإسلام: والحلف بالطلاق من أيمان المسلمين المكفَّرة، وهو داخل في جملة الأيمان بالآية. 2 - وبمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفِّر عن يمينه، وليأت الذي هو خير» (¬6). 3 - قول سبعة من الصحابة بعدم وقوع الحلف بالعتق، وهم: ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وأم سلمة وحفصة، وزينب ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، على ما ذكر ابن تيمية، فكذا الطلاق بالقياس الصحيح. ¬

(¬1) لم أجده مسندًا: وقد ذكره السبكي في «الدرة المضية» (17/ 18). (¬2) صحيح: تقدم تخريجه في «الزواج». (¬3) «مصنف عبد الرزاق» (6/ 406)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 44) وما بعدها، و «إعلام الموقعين» (4/ 79 - ط. الحديث) وما بعدها، و «المحلي» (10/ 211)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 129 - وما بعدها). (¬4) سورة التحريم: 2. (¬5) سورة المائدة: 89. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1650) وغيره.

قلت: صحَّ عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: «قالت لي مولاتي ليلى ابنة العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك. قال: فأتيت زينب ابنة أم سلمة وكانت إذا ذكرت امرأة بفقه ذكرت زينب، قال: فجاءت معي إليها فقالت: أفي البيت هاروت وماروت، فقالت يا زينب جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وهي يهودية ونصرانية، فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وامرأته، قال فكأنها لم تقبل ذلك، قال: فأتيت حفصة فأرسلت معي إليها فقالت يا أم المؤمنين جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية، قال: فقالت حفصة: يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وامرأته فكأنها أبت، فأتيت عبد الله بن عمر فانطلق معي إليها فلما سلم عرفت صوته فقالت: بأبي أنت وبآبائي أبوك فقال: أمن حجارة أنت أم من حديد أم من أي شيء أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي منهما قالت يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية قال يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلى بين الرجل وامرأته» (¬1). والشاهد أنها لما قالت: «كل مملوك لها حر» إن لم يفرق بين أبي رافع وامرأته، أفتاها الصحابة بأن عليها كفارة يمين، ولم يوجبوا عليها عتقًا، «فإذا أفتوا في الحلف بالعتق - الذي هو أحب إلى الله تعالى من الطلاق - أنه لا يلزم الحالف، بل يجزئه كفارة يمين، فكيف يكون قولهم في الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله؟ ...» (¬2). وقد أجاب عنه البيهقي فقال: وهذا في غير العتق، فقد روي عن ابن عمر من وجه آخر أن العتاق يقع، وكذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ... ، وكأن الراوي قصر بنقله في رواية بكر بن عبد الله المزني (¬3)، أو لم يكن لها في الوقت مملوك فلم يتعرضوا له. 4 - أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين، أحدهما: أن يكون الملتزم ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (16000)، والبيهقي (10/ 66). (¬2) «مجموع الفتاوى» (33/ 50). (¬3) قلت: نعم، قد أخرجه عبد الرزاق (16001) عن معمر عن أبان عن بكر بنحوه ولم يذكر: «كل مملوك لها حر»!!.

قربةً، والثاني: أن يكون قصده التقرب إلى الله به، لا الحلف به، فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة ... لم يلزم، بل تجزئه كفارة يمين. وهنا الحالف بالطلاق هو التزام وقوعه على وجه اليمين، وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به وهذا - الأخير - لا يلزمه بالاتفاق، لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط، بل قصد الحلف به (¬1). 5 - أن القول بعدم وقوع الطلاق المعلَّق على فعل المرأة، يمنع أن تتعمد المرأة فعله لتحنيثه وإيقاع الطلاق، وهو ملحظ أشهب من أصحاب مالك، قال ابن القيم: «وهذا القول هو الفقه بعينه، ولاسيما على أصول مالك وأحمد في مقابلة العبد بنقيض قصده، كحرمان القاتل ميراثه من المقتول ... وتوريث امرأة من طلقها في مرض موته فرارًا من ميراثها .. ، فمعاقبة المرأة ههنا بنقيض قصدها هو محض القياس والفقه، ولا ينتقض هذا على أشهب بمسألة «المخيَّره» ومن جعل طلاقها بيدها؛ لأن الزوج قد ملكها ذلك وجعله بيدها، بخلاف الحالف فإنه لم يقصد طلاقها بنفسه ...» اهـ. الترجيح: قد رأيتَ أنّه ليس في المسألة نص صريح من قرآن أو سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيها إجماع ثابت، والذي يظهر لي أن الأقرب إلى روح الشريعة ومقاصدها أن لا يقع الحلف بالطلاق (الطلاق المعلق على شرط) إذا كان الحالف لا يقصد به إلا التهديد أو الحض أو المنع من فعل، وهذا هو المعمول به اليوم في المحاكم المصرية فقد تضمنت المادة الثانية من القانون رقم 25 لسنة 1929 ما نصه: (لا يقع الطلاق غير المنجَّز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه لا غير). وأما إذا قصد به وقوعه حقيقة عند حصول الشرط، فإن هذا يقع طلاقه كما تقدم والله أعلم. فوائد (¬2) (على القول بوقوع الطلاق المعلَّق): 1 - لو علَّق الرجل طلاق امرأته على فعل، ثم حصل منه الفعل المعلَّق عليه ناسيًا أو مكرهًا فإن الطلاق يقع كذلك عند الجمهور، وعند الشافعية فيه قولان: أظهرهما أنه لا يقع الطلاق. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (33/ 56 - 57). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 352)، و «الدسوقي» (2/ 375)، و «مغني المحتاج» (3/ 293 - 316)، و «المغني» (7/ 294).

2 - إذا علق الطلاق على شرط، فإنها تبقى حلالًا له يطؤها متى شاء ما دام لم يحصل الفعل المعلَّق عليه عند الجمهور، خلافًا لمالك (!!). قلت: إذا كان الطلاق لم يقع، فلم يُمنه من وطئها؟!! 3 - إذا علقَّ الزوج الطلاق على شرط، فإنه ينحلُّ بحصول الشرط المعلق عليه مرة واحدة، مع وقوع الطلاق به على الزوجة في هذه المرة، فإذا عادت إليه ثانية في العدة أو بعدها، لم تقع عليها به طلقة أخرى لانحلاله، هذا ما لم يكن التعليق بلفظ (كلما فعلت ...) فإنه يقع عندهم كلما فعلته. وكذلك تنحلُّ اليمين المعلقة على شرط بزوال الحلِّ بالكلية، كأن تبين منه قبل أن تفعل الشرط، فلو تزوجها بعد التحليل، وفعلت الشرط لم يقع الطلاق عند جمهورهم. كما تنحلُّ اليمين المعلقة على شرط بردَّة الحالف عند أبي حنيفة وصاحبيه. وتنحلُّ اليمين المعلقة على شرط كذلك بفوت محلِّ البر، فإذا قال لها: (أنت طالق إن دخلت دار فلان) ثم خربت الدار ونحو ذلك انحلت اليمين حتى لو كان الدار الخربة بنيت ثانية فدخلتها. فائدة (على القول بعدم وقوع الطلاق المعلَّق ممن لم يقصده): ماذا على من حلف بالطلاق (علَّقه على شرط) إذا حصل الشرط؟ (¬1). هذا النوع من الأيمان - الذي يدخل فيه الحلف بالطلاق - كقوله (إن فعلت كذا فعبيدي أحرار - أو عليَّ أن أحج - أو عليَّ الطلاق أي: إن لم يحصل كذا) العلماء فيها ثلاثة أقوال: الأول: يلزمه ما حلف به إذا حنث: وهو القول الجاري على مسلك الجمهور كما تقدم. الثاني: أنها يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث، لا كفارة ولا وقوع طلاق، وهذا مذهب الظاهرية. الثالث: أنها يمين منعقدة، تكفَّر إذا حنث كغيرها من الأيمان: وهو مذهب شيخ الإسلام مستندًا لفتوى الصحابة في الحلف بالعتق، قلت: وهو الأشبه بالصواب والعلم عند الله. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (33/ 50).

إذا علَّق الطلاق بالنكاح: إذا قال الزوج: (إذا تزوجت فلانة فهي طالق) ثم تزوَّجها، فإن هذا الطلاق لا يقع في أصحِّ قولي العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد واختيار شيخ الإسلام (¬1). قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} (¬2). فذكر سبحانه النكاح قبل الطلاق. وقد سئل ابن عباس عن الرجل يقول: (إذا تزوجت فلانة فهي طالق، فقال: «ليس بشيء إنما الطلاق لمن ملك» قالوا: فابن مسعود قال: «إذا وقَّت وقتًا فهو كما قال، قال: «يرحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال، لقال الله: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن» (¬3). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» (¬4). الاستثناء في الطلاق: الاستثناء شرعًا: هو التعليق على مشيئة الله تعالى، والمراد بالاستثناء في الطلاق أن يقول الزوج لزوجته: (أنت طالق إن شاء الله) فهل يقع الطلاق؟ لأهل العلم في هذه المسألة مذهبان (¬5): الأول: لا يقع الطلاق (ينفعه الاستثناء): وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن حزم ومستندهم ما يلي: 1 - أن الاستثناء في الطلاق داخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» (¬6). ¬

(¬1) «روضة الطالبين» (8/ 68)، و «منتهي الإرادات» (2/ 280)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 233). (¬2) سورة الأحزاب: 49. (¬3) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 320). (¬4) صحيح بطرقه: أخرجه الترمذي (1181)، وأبو داود (2190)، وابن ماجة (2047) وغيرهم وله شواهد كثيرة. (¬5) «ابن عابدين» (3/ 366)، و «القوانين الفقهية» (243)، و «مغني المحتاج» (3/ 302)، و «الروضة» (8/ 96)، و «المغني» (7/ 402)، و «الفتاوى» (35/ 284). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (6639)، ومسلم (1654).

وأجيب: بأن قول القائل: (أنت طالق إن شاء الله) ليس يمينًا فلا يحمَّل النص ما لا يحتمله، وإنما يدخل في النص الحلف بالطلاق. 2 - ما يُروى عن ابن عباس مرفوعًا: «من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو غلامه حر إن شاء الله، أو عليه المشي إلى بيت الله إن شاء الله - فلا شيء عليه» (¬1). وقد ورد نحوه عن معاذ مرفوعًا وفيه التفريق بين الطلاق - فلا يقع - والعتاق، وهو منكر كذلك. 3 - قال الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} (¬2). قال ابن حزم: ونحن نعلم أن الله تعالى لو أراد إمضاء هذا الطلاق ليسَّره لإخراجه بغير استثناء، فصحَّ أنه تعالى لم يُرد وقوعه إذا يسَّره لتعليقه بمشيئته عز وجل. اهـ. 4 - عن الثوري - في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله تعالى - قال: قال طاووس وحماد: «لا يقع عليها الطلاق» (¬3). الثاني: يقع الطلاق (لا ينفعه الاستثناء): وهو مذهب مالك وأحمد والليث والأوزاعي وأبي عبيد واختيار شيخ الإسلام، ومستند هذا المذهب ما يلي: 1 - ما رُوي عن ابن عباس أنه قال: «إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق» (¬4). 2 - ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد قالوا: «كنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى الاستثناء جائزًا في كل شيء إلا العتاق والطلاق» (¬5). قال ابن قدامة: وهذا نقل للإجماع، وإن قدر أنه قول بعضهم، ولم يُعلم لهم مخالف، فهو إجماع. اهـ. قلت: يعني: الإجماع السكوتي، وليس هو بحجة، على أن هذه الآثار عن ¬

(¬1) منكر: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1/ 338 ط. الفكر)، وعنه البيهقي (7/ 361)، وانظر «الإرواء» (7/ 154). (¬2) سورة التكوير: 29. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11326). (¬4) قال الألباني في «الإرواء» (2071): لم أره عن ابن عباس من قوله، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري ... وإسناده صحيح. (¬5) لم أجده مسندًا. وقد ذكره ابن قدامة في «المغني».

التخيير في الطلاق

الصحابة لا يصح منها شيء، فالذي يترجح لديَّ أن الاستثناء يبطل الطلاق، ولا يقع الطلاق إذا استثنى فإن الطلاق - ذاته - قد صحَّ اعتباره يمينًا منعقدة، والأصل أن كل ما صلح أن يكون يمينًا - كالطلاق على ما تقدم - دخله الاستثناء وأثر فيه، وقد كان ينبغي أن يكون هذا قول شيخ الإسلام - في نظري - لولا هذه الآثار عن الصحابة، وقد رأيتَ أنها لا تثبت، على أنه - رحمه الله - قد نص في الفتاوى (33/ 239) على أن الرجل لو اعتقد أن استثناءه في الطلاق لا يوقعه، وكان مقصوده تخويفها بهذا الكلام - لا إيقاع الطلاق - لم يقع الطلاق. اهـ. والله أعلم. التخييرُ في الطلاق 1 - تعريفه ومشروعيته: التخيير في الطلاق: هو أن يخيِّر الرجل زوجته بين أن تبقى معه وبين فعل شيء معين، كأن يقول لها: (أنت مُخَيَّرة، إما أن تتركي العمل خارج البيت - مثلًا - أو تفارقيني) فلها أن تختار ما تشاء. والأصل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (28) وإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وتخيير النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه كما ستأتي الأحاديث بذلك، ومجرد التخيير لا يُعدُّ طلاقًا عند جماهير العلماء. 2 - إذا اختارت زوجها أو ردَّتْ الخيار، لم يقع عليها طلاق (¬2): وعلى هذا جماهير أهل العلم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري وابن المنذر وغيرهم، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم -، ويدل على ذلك: (أ) حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خيَّرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله، فلم يَعدَّ ذلك علينا شيئًا» (¬3). ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 28، 29. (¬2) «ابن عابدين» (3/ 321)، و «جواهر الإكليل» (1/ 360)، و «المجموع» (15/ 409)، و «كشاف القناع» (5/ 257)، و «فتح الباري» (9/ 281). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5262)، ومسلم (1477).

(ب) وعن مسروق قال: سألت عائشة عن الخيرة، فقالت: «خيَّرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أفكان طلاقًا؟» قال مسروق لا أبالي أخيَّرتُها واحدة أو مائة بعد أن تختارني (¬1). (جـ) ولأن التخيير: ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقًا لاتحدا، فدلَّ على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق، واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة. 3 - إذا اختارت نفسها، هل تقع طلقة واحدة رجعية أو بائنًا أو ثلاثًا؟ مفهوم حديثي عائشة - رضي الله عنها - أن الرجل لو خيَّر امرأته فاختارت نفسها أن يكون طلاقًا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق، ومن ثم اختلف أهل العلم فيما يقع - من الطلاق - باختيارها نفسها على ثلاثة أقوال (¬2). الأول: تقع طلقة واحدة رجعية: وهو مذهب الشافعي وأحمد، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعبد الله بن عمرو وغيرهم. الثاني: تقع طلقة بائنة: وهو مذهب أبي حنيفة وبه قال ابن شبرمة. الثالث: تقع ثلاثًا في المدخول بها: وهو مذهب مالك. (قلت): الأول أقربها، وإن كان الذي يظهر من الآية الكريمة: {... إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلًا} (¬3). أن مجرد اختيارها نفسها لا يكون طلاقًا بل لابد من إنشاء الزوج الطلاق فإن قوله {فتعالين أمتعكن وأسرحكن}. أي: بعد الاختيار، ودلالة هذا المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم من حديثي عائشة. ثم إن تخيير الرجل لزوجته - من غير إرادة الطلاق حقيقة - قد فشا بين المسلمين في هذه الأيام، وما أكثر ما تتبجَّح به الزوجات من تفضيلهن للشيء التافه!! على بقائهن مع أزواجهن عند أهون خلاف، فإيقاع هذا طلاقًا دون إنشاء الزوج له ودون إرادته إياه، مع عدم الدليل في المسألة من قرآن أو سنة مرفوعة، ينافي مقاصد الشريعة وأصولها، والعلم عند الله. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5263)، ومسلم (1477). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 322)، و «جواهر الإكليل» (1/ 359)، و «المجموع» (15/ 410)، و «الجمل» (4/ 338)، و «كشاف القناع» (5/ 255)، و «المغني» (7/ 409)، و «الفتح» (9/ 281). (¬3) سورة الأحزاب: 28.

التوكيل أو التفويض في الطلاق

وإلى أن التخيير لا يكون طلاقًا سواء اختارت أو اختارت نفسها - إلا أن يُطلِّق الزوج - ذهب أبو محمد بن حزم (¬1)، وهو الأقرب إلى الدليل. 4 - التخيير، هل هو على الفور أو التراخي؟ (¬2): ذهب جماهير أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي، وكثير من الصحابة والتابعين، إلى أن التخيير على الفور، فإن اختارت في وقتها، وإلا فلا خيار لها بعده. قال الحافظ: ويمكن أن يقال: يُشترط الفور أو ما داما في المجلس عند الإطلاق، فأما إذا صرَّح الزوج بالفُسحة في تأخيره بسبب يقتضي ذلك فيتراخى، وهذا الذي وقع في قصة عائشة، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل خيار كذلك» اهـ. قلت: يشير إلى قول عائشة - رضي الله عنها -: «لما أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: «إني لمخبرك خبرًا، فلا عليك أن لا تستأمري أبويك ...» فقالت: أفي هذا الأمر استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» (¬3). التوكيل أو التفويض في الطلاق الطلاق تصرُّف شرعي قولي، وهو حق ملَّكه الله تعالى للرجل وجعله بيده، لكن هل يملك الرجل الإنابة والتوكيل فيه كسائر التصرفات القولية الأخرى التي يملكها أم لا؟ لأهل العلم في هذا الباب اتجاهان: الاتجاه الأول: الطلاق تدخله الإنابة: وعلى هذا جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، يقولون: هو يملك الطلاق، فيملك الإنابة فيه كسائر التصرفات القولية التي يملكها. كالبيع والإجارة ونحوها، فإذا قال الزوج لآخر: وكلتك بطلاق زوجتي فلانة، فطلَّقها عنه، جاز، وكذلك لو قال لزوجته نفسها: وكلتك بطلاق نفسك (¬4)، فطلقت نفسها جاز أيضًا، ولا تكون في هذا أقل من الأجنبي. ¬

(¬1) «المحلي» لابن حزم (10/ 116 - وما بعدها) وفيه بحث نفيس. (¬2) «الهداية» (3/ 414)، و «جواهر الإكليل» (1/ 358)، و «حاشية الجمل» (4/ 339)، و «المغني» (7/ 407)، و «طرح التثريب» (7/ 106). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4786)، ومسلم (1475). (¬4) وهو المعروف في هذه الأيام بجعل «العصمة بيدها»!!.

وعند هؤلاء تقسيمات وتفريعات: 1 - فعند الحنفية: إذن الزوج لغيره في تطليق زوجته ثلاثة أنواع: تفويض، وتوكيل، ورسالة. وللتفويض عندهم ثلاثة ألفاظ: تخيير، وأمر بيد، ومشيئة، وعندهم بين التفويض والتوكيل فروق. 2 - وعند المالكية: النيابة على أربعة أنواع: توكيل وتخيير وتمليك ورسالة، وفيها عندهم فروق. 3 - وعند الشافعية والحنابلة: يجوز أن ينيب زوجته ويسمى «تفويضًا» وله أن يُنيب غيرها ويسمى «توكيلًا» ولكل منهما أحكام وشروط، يراجعها من شاء في كتب الفروع. والذي قد يُحتاج إليه من المسائل على هذا الاتجاه ما يلي: [1] إذا ملَّكها أمر الطلاق، فهل تملكه مطلقًا؟! أم يتقيد بالمجلس الذي وكلَّها فيه؟ لأصحاب الاتجاه الأول في هذه المسألة رأيان (¬1): الأول: تملك أمر الطلاق مطلقًا، ولا يتقيَّد بحدٍّ معين حتى يفسخه بنفسه: وهو مذهب أحمد وهو مروي عن علي - رضي الله عنه -، وبه قال الحكم وأبو ثور وابن المنذر. وحجتهم: 1 - تخيير النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه، وإمهاله عائشة حتى تستأمر أبويها. 2 - قول عليٍّ - رضي الله عنه - في رجل جعل أمر امرأته بيدها -: «هو لها حتى تنكل» (¬2). قال ابن قدامة: «ولا نعرف له من الصحابة مخالفًا، فيكون إجماعًا!!» اهـ. 3 - ولأنه نوع توكيل في الطلاق فكان على التراخي كما لو جعله لأجنبي. الثاني: يتقيَّد تفويضها بالمجلس، ولا طلاق لها بعده: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وحجتهم: أن التفويض تخيير لها، فكان مقصورًا على المجلس، كقوله: اختاري. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 315)، و «جوهر الإكليل» (1/ 357)، و «الجمل» (4/ 340)، و «المغني» (7/ 403). (¬2) نسبه إليه ابن قدامة، والذي عند البيهقي (7/ 348) بسند ضعيف عن علي: «إذا ملك الرجل امرأته مرة واحدة، فإذا قضيت فليس له من أمرها شيء، وإن لم تقض فهي واحدة وأمرها إليه» وهو عكس ما حكاه ابن قدامة!!

قلت: يتأتَّى على القول الأول ما يعرف بجعل الرجل «العصمة بيد زوجته» فتطلق نفسها متى شاءت!! وقد صدر من بعض المحاكم الشرعية المصرية (¬1) حكم بني على أن التفويض إذا كان في حين عقد الزواج وبصيغة مطلقة لا يتقيَّد بالمجلس فتطلَّق نفسها متى شاءت، وإلا خلا التفويض من الفائدة، وأُيِّد هذا الحكم استئنافيًا. [2] الرجوع في التفويض (¬2): إذا أراد الزوج - بعد تفويض زوجته بالتطليق وقبل تطليقها - أن يفسخ هذا التفويض، فإن له ذلك ويبطل التفويض بفسخه، عند الشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق، لأنه توكيل، فكان له حق الرجوع فيه كالتوكيل في البيع، وكما لو خاطب بذلك أجنبيًّا. وعند أبي حنيفة ومالك: ليس له الرجوع، ولعل مرادهما: ليس له الرجوع في المجلس، فإن التفويض مقيَّد عندهما بالمجلس، وليس من حقها التطليق بعده كما تقدم. [3] عدد التطليقات الذي تملكه الزوجة المفوَّضة: إذا فوَّض الرجل لزوجته تطليق نفسها، فلو طلَّقت نفسها ثلاثًا - على القول بوقوعه - فهل يقع ثلاثًا؟ ذهب أحمد وظاهر مذهب مالك في المدخول بها، أنها تقع ثلاثًا، لأنها مفوَّضة في العدد فلها إيقاع ما فوض إليها، ولو قال: أردتُ واحدة، لم يُقبل منه؛ لأنه لما قال لها (طلقي نفسك) اقتضى العموم في جميع أمرها، وبه يقول ابن عمر كما سيأتي. وقال أبو حنيفة والشافعي ورواية ثانية عن أحمد: تقع تطليقة واحدة، وهو قول مالك في غير المدخول بها، لكن الشافعي وأحمد في هذه الرواية قد قيداه بما إذا نوي الرجل غير الثلاث فردًّا الحكم إلى نيته؛ لأنه الذي فوضها فيرجع إلى نيتَّه (¬3). ¬

(¬1) «أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية» ص (152). (¬2) المراجع الفقهية السابقة. (¬3) المراجع السابقة.

الاتجاه الثاني: الطلاق لا تدخله الإنابة: وهذا قول طاووس وأبي محمد بن حزم - رحمهما الله - ويُحتمل أن يكون مذهب ابن عباس - رضي الله عنه -، وحجة هذا القول: أن الله تعالى إنما جعل الطلاق إلى الرجال: 1 - قال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (¬1). 2 - وقال سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (¬2). 3 - وقال سبحانه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} (¬3). والآيات في هذا كثيرة جدًّا. 4 - وكقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} (¬4). ومن تمام القوامة أن يكون الطلاق بيد الرجل (¬5). 5 - وقال سبحانه: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلًا} (¬6). قال ابن حزم: «فإنما نصَّ الله تعالى أنه - عليه الصلاة والسلام - إن أردن الدنيا ولم يردن الآخرة طلقهن حينئدٍ من قبل نفسه مختارًا للطلاق لا أنهن طوالق بنفس اختيارهن الدنيا، ومن ادَّعى غير هذا فقد حرَّف (!!) كلام الله عز وجل، وأقحم في حكم الآية كذبًا (!!) محضًا ليس فيها منه نصٌّ ولا دليل» اهـ (¬7). 6 - وعن مجاهد: أن رجلًا جاء إلى ابن عباس فقال: لمَّا ملَّكت امرأتي أمرها طلَّقتني ثلاثًا، فقال: «خطأ الله نوترها، إنما الطلاق لك عليها، وليس لها عليك» (¬8). 7 - عن ابن جريج قال: أخبرني ابن طاووس عن أبيه وقلت له: فكيف كان ¬

(¬1) سورة الطلاق: 1. (¬2) سورة البقرة: 230. (¬3) سورة البقرة: 232. (¬4) سورة النساء: 34. (¬5) «جامع أحكام النساء» (4/ 74). (¬6) سورة الأحزاب: 28. (¬7) «المحلي» (10/ 123) وكلامه متَّجه إلا أن في عبارته من الشدَّة ما لا يخفى. (¬8) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11918).

أبوك يقول في رجل ملَّك امرأته أمرها، أتملك أن تطلق نفسها؟ قال: لا، كان يقول: «ليس إلى النساء طلاق» (¬1). الراجح من الاتجاهين: ليس في المسألة نص قاطع من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة المرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو ذهب ذاهب إلى أن الطلاق لا يكون إلا بيد الرجل ولو فوّض - غيره لم يكن قد أبعد كثيرًا، وإن كان الذي يظهر لي الاتجاه الأول وهو أن الطلاق لا مانع من أن تدخله النيابة: لأن الصحابة لم يُنكروا ذلك، حتى أن ما تقدم عن ابن عباس من قول: «إنما الطلاق لك عليها وليس لها عليك» فيحتمل أن يكون إنما أنكر كونها طلقته، وأما تطلق نفسها منه فلا مانع منه كما يظهر في الأثر الآتي: عن علقمة عن ابن مسعود قال: جاء إليه رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس، فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع، فقال: إن الذي بيدي من أمري بيدك، قالت: فأنت طالق ثلاثًا، فقال [أي: ابن مسعود]: «أراها واحدة وأنت أحق بالرجعة وسألقي أمير المؤمنين عمر» فلقيه فقصَّ عليه القصة قال: فقال: «فعل الله بالرجال، وفعل الله بالرجال، يعمدون إلى ما في أيديهم فيجعلونه في أيدي النساء بفيها التراب، ماذا قلتَ؟» قال: «قلتُ: أراها واحدة وهو أحق بها» قال: [أي: عمر]: «وأنا أرى ذلك، ولو رأيتَ غير ذلك لرأيتُ أنك لم تُصب». قال منصور (¬2): فقلت لإبراهيم: فإن ابن عباس يقول: خطأ الله نوترها، لو كانت قالت: طلَّقت نفسي؟ فقال إبراهيم: هما سواء (¬3). وعن ابن عمر قال: «إذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها واحدة فهي واحدة، أو اثنتين فثنتين، أو ثلاث فثلاث، إلا أن يناكرها ويقول: لم أجعل الأمر إليك إلا في واحدة فيحلف على ذلك، وإن ردَّت الأمر فليس بشيء» وكان يقول: «القضاء ما قضت» (¬4). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11913). (¬2) وهو الراوي عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 520)، وسعيد بن منصور (1640)، والبيهقي (7/ 347). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1620)، ومالك (2/ 553)، وعبد الرزاق (11909).

العدة

قلت: وقد تقرر جواز التوكيل فلا فرق بين الطلاق وغيره، فلا يخرج عن ذلك إلا ما خصه دليل، والآيات الكريمة لا تصلح دليلًا على المنع منه، ولا يتعارض هذا مع ما جنحتُ إليه آنفًا من أن التخيير لا يعدُّ طلاقًا ولا يقع به - إذا اختارت نفسها - دون إنشاء الزوج، فبين المسألتين فرق والله أعلم. العِدَّة تعريف العِدَّة: العدة لغةً: مأخوذة من العد والحساب، والعدُّ هو الإحصاء، وسميت بذلك لاشتمالها على العدد من الأقراء أو الأشهر غالبًا. والعدَّة اصطلاحًا: هي المدة التي حدَّدها الشارع بعد الفُرقة، ويجب على المرأة الانتظار فيها بدون زواج حتى تنقضي (¬1). حكمة مشروعيته: شُرعت العدَّة لمعان وحكم اعتبرها الشارع، منها (¬2): 1 - العلم ببراءة الرحم، وأن لا يجتمع ماءُ الواطئين فأكثر في رحم واحد فتختلط الأنساب وتفسد. 2 - تعظيم خطر الزواج ورفع قدره وإظهار شرفه. 3 - تطويل زمان الرجعة للمطلق لعلَّه يندم ويفئ فيصادف زمنًا يتمكن فيه من الرجعة. 4 - قضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزيُّن والتجمل، ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد. 5 - الاحتياط لحق الزوج ومصلحة الزوجة، وحق الولد، والقيام بحق الله الذي أوجبه، ففي العدة أربعة حقوق. حُكم العدة التكليفي: العدة واجبة على المرأة عند وجود سببها، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع: ¬

(¬1) «الفقه الإسلام وأدلته» (7/ 625). (¬2) «إعلام الموقعين» (2/ 85).

(أ) فأما الكتاب فمنه: قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (¬1). وقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ... وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (¬2). وقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (¬3). (ب) وأما السنة فمنها: حديث أم عطية - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحدُّ امرأة على ميت فوق ثلاث إلا زوج أربعة أشهر وعشرًا» (¬4). وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم مكتوم، وأحاديث أخرى تأتي. (جـ) وقد أجمعت الأمة على مشروعية العدة ووجوبها [في الجملة] من عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا دون نكير من أحد (¬5) وإنما اختلفوا في أنواع منها. هل على الرجل عِدَّة؟ (¬6) لا تجل العدة على الرجل، فإنه يجوز له بعد فراق زوجته أن يتزوج غيرها دون انتظار مضي مدة عدَّتها، إلا إذا كان هناك مانع يمنعه من ذلك، كما لو أراد الزواج بأختها أو خالتها أو عمتها أو غير ممن لا يحل له الجمع بينهما، أو طلق رابعة ويريد الزواج بأخرى، فيجب عليه الانتظار في عدة الطلاق الرجعي بالاتفاق، ولا يجب في عدة الطلاق البائن عند الجمهور خلافًا للحنفية. وهذا الانتظار من الرجل لا يُطْلَق عليه «عدة» لا لغةً ولا اصطلاحًا، وإن كان يحمل معنى العدة. أنواع العدَّة: العدة - من جهة إحصائها وحسابها - على ثلاثة أنواع: عدة بالأقراء، وعدة بالأشهر، وعدة بوضع الحمل. ¬

(¬1) سورة البقرة: 228. (¬2) سورة الطلاق: 4. (¬3) سورة البقرة: 234. (¬4) صحيح: يأتي تخريجه قريبًا. (¬5) «المغني» (7/ 448) ط. الرياض الحديثة. (¬6) «البدائع» (3/ 193)، و «الدسوقي» (2/ 469)، و «مغني المحتاج» (3/ 384)، و «المغني» (7/ 448).

والعدة من جهة حال المعتدَّة على أنواع نذكرها فيما يلي: [أ] من تعتدَّ بالقُروء: القُرْءُ لغةً: لفظ مشترك، يطلق على الطُّهر والحيض. والقُرْء اصطلاحًا: اختلف أهل العلم في معناه - بسبب كونه لفظًا مشتركًا بين معنيين - على قولين (¬1): الأول: أن القُرء هو الطُّهر (الفترة بين الحيضتين): وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر من الصحابة - رضي الله عنهم -، واستدلوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (¬2). قالوا: واللام هي لام الوقت والمعنى: في زمان عدتهن أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالطلاق في الطهر - لا في الحيض لحرمته بالإجماع - فعلم أن القُرءْ: الطهر الذي يسمى عدة وتُطلَّق فيه النساء. 2 - حديث ابن عمر في تطليقه امرأته وهي حائض، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ، تلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يُطلَّق لها النساء» (¬3). قالوا: فعلم أن العدَّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر بعد الحيضة، ولو كان القُرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة لا في العدة، وكان ذلك تطويلًا وهو غير جائز، كما لو طلقها في الحيض. 3 - حديث عائشة أنها قالت: «القروء: الأطهار» (¬4) قال الشافعي في «الأم» (5/ 209): والنساء بهذا أعلم لأنه فيهن لا في الرجال. اهـ. ¬

(¬1) المراجع السابقة ومعها: «فتح القدير» (4/ 308)، و «كشاف القناع» (5/ 417)، و «أعلام الموقعين» (1/ 25)، و «زاد المعاد» (5/ 600 - 650) وفيه بحث مستفيض. (¬2) سورة الطلاق: 1. (¬3) صحيح: تقدم مرارًا. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (2/ 110 - شفاء العي)، والبيهقي (7/ 415).

4 - ولأن القرء مشتق من الجمع، فيقال: قرأت كذا في كذا إذا جمعته فيه، وإذا كان الأمر كذلك: كان بالطهر أحق من الحيض؛ لأن الطهر اجتماع الدم في الرحم والحيض خروجه منه، وما وافق الاشتقاق كان اعتباره أولى من مخالفته. القول الثاني: أن القُرء هو الحيضة: وهو قول أكابر الصحابة، منهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود ومعاذ وغيرهم، وطائفة من التابعين وأئمة الحديث، وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق وأحمد في الرواية الأخرى وهي التي استقر عليها مذهبه، وحجتهم: 1 - أن قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (¬1). فيه الأمر بالاعتداد بثلاثة قروء، ولو حمل القُرء على الطهر لكان الاعتداد بطهرين وبعض الثالث، لأن بقية الطهر الذي صادفه الطلاق محسوب من الأقراء - عند أصحاب القول الأول - والثلاثة اسم لعدد مخصوص فلا يقع على ما دونه، فيكون ترك العمل بالكتاب. أما لو حمل على الحيض، فيكون الاعتداد بثلاث حيضات كوامل لأن ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة، فكان الحمل على الحيض أولى لموافقة ظاهر القرآن. 2 - أن لفظ القرء لم يستعمل في لسان الشرع إلا للحيض، ولم يجيء في موضع واحد منه استعماله للطهر فحمله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى بل متعين: - فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال للمستحاضة: «تدع الصلاة أيام أقرائها» (¬2). وقال لفاطمة بنت جيش: «انظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مرَّ قرؤك فتطهري ثم صلي بين القرء إلى القرء» (¬3) قالوا: فالقرء هنا الحيض بلا شك. 3 - قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} (¬4). فجعل كل شهر بإزاء حيضة، وعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض. ¬

(¬1) سورة البقرة: 228. (¬2) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (297)، والترمذي (126)، وابن ماجة (625)، والدارقطني (1/ 208)، وله طرق قد يحسَّن بمجموعها والله أعلم. (¬3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأصله في البخاري بدون لفظ القُرء. (¬4) سورة الطلاق: 4.

4 - حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «طلاق الأَمَةِ اثنتان، وعدَّتها حيضتان» (¬1). ومعلوم أنه لا تفاوت بين الحرة والأمة فيما يقع به الانقضاء، فدل على أن أصل ما تنقضي به العدة هو الحيض. 5 - أن عدة المختلعة حيضة - كما تقدم تحريره - وكذلك الأمة فإنها تُستبرأ بحيضة، كما تقدم - في «الطهارة» في حديث أبي سعيد في سبايا أوطاس - من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» (¬2). 6 - ولأن المقصود الأصلي من العدة التعرف على براءة الرحم - وإن كان لها فوائد أخرى - والعلم ببراءة الرحم يصل بالحيض لا بالطهر، فكان الاعتداد بالحيض لا بالطهر. 7 - ولأن الأدلة والعلامات والحدود والغليات إنما تحصل بالأمور الظاهرة المتميزة عن غيرها، والطهر هو الأمر الأصلي، فمتى كان مستمرًّا لم يكن له حكم يُفرد به في الشريعة، وإنما الأمر المتميز هو الحيض، وهو الذي تتغير به أحكام المرأة. هذا طرف من أدلة كل فريق، ولكل فريق أجوبة ومناقشات على الآخر (¬3)، تركت ذكرها خشية الإطالة، لكن يهمني هنا أمران: 1 - ثمرة هذا الخلاف: أن المرأة لو طُلِّقت طاهرًا وبقي من طهرها شيء ولو لحظة: فعلى القول بأن القرء هو الطهر: يحسب ما بقي من الطهر قرءًا، وتنقضي عدتها - في هذه الحالة - برؤية الدم من الحيضة الثالثة. وعلى القول بأن القرء هو الحيضة: لا عبرة بما بقي من الطهر، وتنقضي عدتها بانقضاء دم الحيضة الثالثة، وهل يشترط الغسل بعد ذلك لانقضاء العدة؟ فيه خلاف. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2189)، والترمذي (1182)، وابن ماجة (2080)، والدارقطني (3/ 39) ولا يصح مرفوعًا، وقد صحَّ موقوفًا عن عمر، وابن عمر. (¬2) حسن لغيره: تقدم في أبواب «الحيض». (¬3) وقد أطال ابن القيم في «الزاد» (5/ 600) وما بعدها النفس في ذكر هذا المناقشات فليراجعها من شاء.

2 - الراجح من القولين: الذي يبدو لي من دراسة أدلة الفريقين ومناقشاتهما أن الأرجح أن القرء هو الحيض، وإن كان القول الأول ليس ببعيد، إلا أن هذا أقرب والله أعلم. وإليك الحالات التي تعتد فيها المرأة بالقروء: (1) المطلقة (¬1) بعد الدخول، وهي ممن يحيضن: المرأة الحرة التي تحيض وتطهر (من ذوات القروء) إذا طُلِّقت - بعد الدخول بها - عدَّتُها ثلاثة قروء (ثلاث حيضات على ما تقدم ترجيحه) لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (¬2). فتنقضي عدَّتُها - على القول الراجح - إذا طهرت من الحيضة الثالثة بعد الطلاق، وهل يتوقف انقضاء العدة على اغتسالها منها؟ أم تنقضي العدة بمجرد انقطاع الدم؟ قولان للعلماء، أظهرهما اشتراط الاغتسال، لقوله تعالى - في الجماع بعد الحيض -: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (¬3). أي: يغتسلن، وهذا هو المشهور عن أكابر الصحابة، وعليه: لزوجها أن يراجعها إذا انقطع الدم قبل أن تغتسل، قلت: لو قيَّد هذا المذهب بأن لزوجها مراجعتها - بعد انقطاع الدم - حتى يخرج وقت الصلاة التي طهرت في وقتها، كما هو مذهب أبي حنيفة والثوري ورواية عن أحمد - لكان سديدًا منعًا للتحايل، والله أعلم. فائدتان: الأولى: زوجة المسلم الكتابية عدَّتها كعدة المسلمة: لعموم الأدلة الموجبة للعدة لا فرق بينهما؛ لأن العدة تجب بحق الله وحق الزوج، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (¬4). ¬

(¬1) سواءً كانت رجعية أو بائنة أو مبتوتة، عند الأئمة الأربعة والظاهرية، لكن رأي شيخ الإسلام في «الفتاوى» (32/ 342) أن المطلقة ثلاثًا تستبرئ بحيضة واحدة لا بثلاث (!!) ولا سلف له في هذا، فليحرر. (¬2) سورة البقرة: 228. (¬3) سورة البقرة: 222. (¬4) سورة الأحزاب: 49.

فجعلها حق الزوج، والكتابية أو الذميَّة مخاطبة بحقوق العباد، فتجب عليها العدة، وتجبر عليها لأجل حق الزوج والولد؛ لأنها من أهل إيفاء حقوق العباد. وعلى هذا اتفاق الأئمة الأربعة والثوري وأبي عبيد (¬1). الثانية: المطلَّقة قبل الدخول لا عدة عليها: لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (¬2). وعلى هذا إجماع العلماء، فيجوز للمرأة، إذا طلقت قبل الدخول أن تتزوَّج إن شاءت - فور طلاقها. لكن إذا مات زوج المرأة - ولم يدخل بها - فإنها تعتد عدوة الوفاء كما سيأتي: (2) المختلعة تعتد بحيضة: وقد مرَّ في «الخلع» أن المرأة المختلعة تعتدُّ بحيضة واحدة في أرجح قولي العلماء. (3) الملاعنة: عدة الملاعنة كعدة المطلقة، لأنها مفارقة في الحياة فأشبهت المطلقة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، خلافًا لابن عباس فالمروي عنه أن عدتها تسعة أشهر (¬3). (4) الموطوءة بشبهة: وهي التي زُفَّت إلى غير زوجها، والموجودة ليلًا على فراشه إذا ادَّعى الاشتباه، وهذه عدَّتها كعدة المطلقة عند جمهور الفقهاء، للتعرف على براءة الرحم لشغله ولحقوق النسب فيه، كالوطء في النكاح الصحيح، فكان مثله فيما تحصل البراءة منه؛ ولأن الشبهة تقام مقام الحقيقة في موضع الاحتياط وإيجاب العدة من باب الاحتياط. وإذا وُطئت المزوَّجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدَّتها (¬4). لكن شيخ الإسلام اختار أن الموطوءة بشبهة ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة واحدة، لأنها ليست زوجة، والقرآن ليس فيه إيجاب العدة بثلاثة قروء إلا على ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 191)، و «الدسوقي» (2/ 475)، و «مغني المحتاج» (3/ 188)، و «المغني» (7/ 448). (¬2) سورة الأحزاب: 49. (¬3) «المغني» (7/ 449). (¬4) «البدائع» (3/ 192)، و «الدسوقي» (2/ 471)، و «مغني المحتاج» (3/ 396)، و «المغني» (7/ 450).

المطلقات، وليست الموطوءة بشبهة أعظم من المستبرأة التي يلحق ولدها سيدها ومن المختلعة، وهما تستبرآن بحيضة واحدة، فهذه أولى، وهذا وجه في مذهب أحمد (¬1)، قلت: وله وجه قوي. (5) المزني بها: المرأة التي وقعت في الزني، للعلماء فيها ثلاثة أقوال (¬2): الأول: لا عدة عليها، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي، سواء كانت حاملًا أو غير حامل، وهو مروي عن أبي بكر وعمر وعليٍّ - رضي الله عنهم -؛ لأن العدة شُرعت لحفظ النسب، والزنى لا يتعلق به ثبوت النسب، فلا يوجب العدة. الثاني: عدتها كعدة المطلقة (ثلاثة قروء): وهو المعتمد في مذهب المالكية والحنابلة وبه قال الحسن والنخعي، لأنه وطء يقتضي شغل الرحم فوجب منه العدة، ولأنها حرَّة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة (!!). الثالث: أنها تُستبرأ بحيضة واحدة: وهو قول مالك ورواية عن أحمد نصرها شيخ الإسلام بنحو ما تقدم في الموطوءة بشبهة، قلت: وهو الأشبه بالصواب والله أعلم. (6) المفارقة لزوجها بسبب إسلامها وبقائه على كُفره (¬3): وهذه تُستبرأُ بحيضة واحدة، لا بثلاثة قروء في أرجح قولي العلماء، وهو قول أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام: لحديث ابن عباس: «... وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح» (¬4). وقال الجمهور: عدتها كعدة المطلقة الحرة (ثلاثة قروء) وأجابوا عن الحديث السابق بأن المراد: تحيض ثلاث حيض؛ لأنها صارت بإسلامها وهجرتها من الحرائر بخلاف ما لو سُبيتْ، قلت: ولفظ الحديث لا يساعد على هذا التأويل والله أعلم. [ب] من تعتدُّ بوضع الحمل (المطلقة الحامل): عدَّة المطلقة وهي حامل: بوضع الحمل، سواء كانت بائنة أو رجعية، مُفارقة ¬

(¬1) «الإنصاف» (9/ 295)، و «الفروع» (5/ 550)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 110). (¬2) «البدائع» (3/ 192)، و «مغني المحتاج» (3/ 382)، و «المغني» (9/ 79 - مع الشرح)، و «الفتاوى» (32/ 111). (¬3) «المبسوط» (5/ 57)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 336)، و «فتح الباري» (9/ 328 - سلفية). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5286).

في الحياة أو متوفى عنها زوجها - على الأصح - لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (¬1). ولأن القصد من العدة براءة الرحم، وهي تحصل بوضع الحمل. واختلف الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وسيأتي تحريره. متى يجوز للمعتدة بوضع الحمل الزواج: بالوضع أم بالطهر من النفاس؟ (¬2). الذي عليه جمهور العلماء وأئمة الفتوى أن المرأة لها أن تتزوَّج بعد وضع الحمل - ولو في النفاس - لأن العدة انقضت بالوضع، إلا أن زوجها - الثاني - لا يقربها حتى تطهر لقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (¬3). ويدل على ما ذهب إليه الجمهور فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - لسبيعة الأسلمية لما مات زوجها وهي حامل، قالت: «فأفتاني إذا وضعتُ أن أنكح» (¬4). [جـ] من تعتدُّ بالأشهر: المرأة تعتد بالأشهر في الحالات الآتية: (1) المطلقة التي لا تحيض: إما بسبب صغرها، أو لكبرها ويأسها من المحيض، فعدَّتها ثلاثة أشهر بنص القرآن: قال تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} (¬5) (¬6). ولأنها لا تحيض فكانت الأشهر هنا بدلًا عن الأقراء، والأصل مقدَّر بثلاثة، فكذلك البدل. فائدة: إذا اعتدَّت المرأة بالأشهُر ثم حاضت بعد فراغها، فقد انقضت العدة، ولا تلزمها العدة بالأقراء. ¬

(¬1) سورة الطلاق: 4. (¬2) «المغني» (9/ 110 - مع الشرح الكبير)، و «الموسوعة الفقهية» (29/ 321). (¬3) سورة البقرة: 222. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5319). (¬5) سورة الطلاق: 4. (¬6) قوله تعالى: {إن ارتبتم}، قيل معناه: إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه، فهو ثلاثة أشهر، وقيل معناه: إن ارتبتم في دم يخرج هل هو دم حيض أو استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك.

ولو حاضت أثناء الأشهر، فيأتي الكلام عليها في «تحوُّل العدة» إن شاء الله. (2) المطلقة المرتابة (ممتدة الطُّهر) (¬1): إذا كانت المرأة ممن تحيض (ذوات الأقراء) ثم ارتفع حيضها بسبب غير معروف (بدون حمل ولا يأس) فإنها تسمى (المرتابة) فإذا فارقها زوجها، فإنها تتربَّص (تنتظر) تسعة أشهر - وهي مدة الحمل غالبًا لتتبين براءة الرحم - ثم تعتد بثلاثة أشهر، فتكمل سنة تنقضي بها عدَّتها وتحل للأزواج. وهذا مذهب المالكية والحنابلة، والقول القديم للشافعي، وبه قال عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -، واحتج القائلون بذلك بقول عمر - رضي الله عنه - في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضها لا يُدرى ما رفعه - قال: «تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل فتعتد بثلاثة أشهر، فذلك سنة» (¬2) ولا يُعرف له مخالف ولم يكره عليه أحد. وأما الحنفية والشافعية - في الجديد - فقالوا: تصبر أبدًا حتى تحيض فتعتد بالأقراء أو تيأس فتعتد بالأشهر لأن الله تعالى لم يجعل الاعتداد بالأشهر إلا للتي لم تحض والآيسة، وليست هذه واحدة منهما (!!!). قلت: والأول أرجح، لكن هل يقال لو تأكدت من خلوها من الحمل عن طريق الكشف بالأجهزة الحديثة تتربص ثلاثة أشهر؟! (3) المطلَّقة المستحاضة المتحيِّرة (¬3): إذا كانت المطلفة المعتدة من ذوات الحيض، واستمر نزول الدم عليها بدون انقطاع (استحاضة) فلا يخلو حالها من أحد أمرين: (أ) أن تستطيع التمييز بين الحيض والاستحاضة: برائحة أو لون أو كثرة أو عادة، فهذه تسمى «غير متحيِّرة» فتعتد بالأقراء لأنها ترد إلى أيام عادتها المعروفة لها، ولأن الدم المميز بعد طهر تام يعدُّ حيضًا، فتعتد بالأقراء لا بالأشهر. (ب) أن لا تستطيع التمييز: وهذه تسمى «متحيِّرة»، وقد اخْتُلف في عدتها: فذهب الجمهور من الحنفية والشافعية وهو قول عند الحنابلة: إلى أن عدة ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 195)، و «الدسوقي» (2/ 470)، و «مغني المحتاج» (3/ 387)، و «المغني» (7/ 466) ط. الرياض. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (2/ 107 - شفاء العي). (¬3) «فتح القدير» (4/ 312)، و «الدسوقي» (2/ 470)، و «مغني المحتاج» (3/ 385)، و «المغني» (7/ 468).

المستحاضة ثلاثة أشهر، بناء على أن الغالب نزول الحيض مرة في كل شهر، أو لاشتمال كل شهر على طهر وحيض غالبًا، ولأنها في هذه الحالة مرتابة فتدخل في قوله تعالى: {إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} (¬1). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحمنة بنت جحش: «تلجمي وتحيَّضي في كل شهر في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام» (¬2) فجعل لها حيضة في كل شهر تترك معها الصلاة والصيام، فيجب أن تنقضي به العدة، لأن ذلك من أحكام الحيض. وذهب المالكية والحنابلة في قول وإسحاق إلى أن عدة المستحاضة المتحيرة سنة كاملة، لأنها بمنزلة من رُفعت حيضتها ولا تدري ما رفعها، ولأنها لم تتيقن لها حيضًا - مع أنها من ذوات القروء - فكانت عدتها سنة كالتي ارتفع حيضها!! قلت: والأول أرجح والله أعلم. (4) المرأة المتوفَّى عنها زوجها: المرأة إذا توفى عنها زوجها - بعد زواج صحيح - سوا كانت الوفاة قبل الدخول أو بعده، وسواء كانت ممن تحيض أم لا - بشرط أن لا تكون حاملًا - فإنها يجب عليها أن تعتد أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام بلياليهن من تاريخ وفاته، لعموم قوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ} (¬3). ولحديث حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا» (¬4). وتستثنى الحامل، فإنها لو مات زوجها فعدتها أن تضع حملها - كما لو لم يَمُتْ - لعموم قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (¬5). ولحديث المسور بن مخرمة: «أن سُبيعة الأسلمية نفُستْ بعد وفاة زوجها بليال فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت» وفي لفظ من حديث ¬

(¬1) سورة الطلاق: 4. (¬2) حسّنه الألباني. وانظر «الإرواء» (188) والأظهر ضعفه والله أعلم. (¬3) سورة البقرة: 234. (¬4) صحيح: يأتي في «الإحداد». (¬5) سورة الطلاق: 4.

ابن أرقم: «قالت: فأفتاني - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وضعتُ أن أنكح» (¬1) وعن عمر - رضي الله عنه - قال: «لو وضعت وزوجها على السرير لم يُدفن بعدُ لحلَّت» (¬2). وبهذا قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار، خالف في ذلك عليٌّ - رضي الله عنه - فقال: «تعتد آخر الأجلين» (¬3) ومعناه: أنها إن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع، وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع، وبه قال ابن عباس ويقال إنه رجع عنه، وقوَّاه الحافظ. قال ابن عبد البر: لولا حديث سبيعة لكان القول ما قال عليٌّ وابن عباس لأنهما عدتان مجتمعتان بصفتين، وقد اجتمعا في الحامل المتوفى عنها زوجها، فلا تخرج من عدَّتها إلا بيقين، واليقين آخر الأجلين. اهـ. قلت: فالقول قول الجماهير، والله أعلم. فائدة: عدَّة المتوفى عنها زوجها ليست للعلم ببراءة الرحم، فإنها تجب قبل الدخول بخلاف عدة الطلاق، و «أما عدة الوفاة فهي حرم لانقضاء النكاح، ورعاية لحق الزوج، ولهذا تَحُدُّ المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج، فجعلت العدة حريمًا لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن، فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني، ولا يتصل الناكحان، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عظم حقُّه، حرم نساؤه بعده؟ وبهذا اختص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن أزواجه في الدنيا هنَّ أزواجه في الآخرة بخلاف غيره، فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها، تضررت المتوفى عنها، وربما كان الثاني خيرًا لها من الأول ... فلا أقل من مدة تتربَّصها، وكانت في الجاهلية تتربَّص سنة، فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشر» (¬4) اهـ. تحوُّل العدة (¬5): العدة قد تنتقل من حالة إلى أخرى كما يلي: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5318 - 5319) ومالك. (¬2) ") صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (1522)، والبيهقي (7/ 430). (¬3) صحيح: أخرجه الطبري (28/ 143). (¬4) نقله ابن القيم في (5/ 665 - 666) عن ابن تيمية، رحمهما الله. (¬5) «البدائع» (3/ 200)، و «الدسوقي» (2/ 473)، و «القوانين» (299)، و «مغني المحتاج» (3/ 386)، و «روضة الطالبين» (8/ 370 - 372)، و «المغني» (9/ 102) مع الشرح الكبير و» الموسوعة الفقهية» (29/ 322).

(1) تحول العدة من الأشهر إلى الأقراء: اتفق الفقهاء على أن الصغيرة أو البالغة التي لم تحض إذا اعتدت بالأشهر، ثم حاضت قبل انقضاء عدتها - ولو بساعة - لزمها استئناف العدة (ابتداؤها من جديد) وحسابها بالأقراء، لأن الأشهر بدل عن الأقراء فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل كالتيمم مع الماء. أما إذا انقضت العدة بالأشهر ثم حاضت بعدها - ولو بلحظة - لم يلزمها استئناف العدة. وأما الآيسة إذا اعتدت ببعض الأشهر ثم رأت الدم، فللعلماء فيها قولان: الأول: تتحول عدتها إلى الأقراء، لأنها لما رأت الدم دلَّ على أنها لم تكن آيسة، وأنها أخطأت في الظن، فلا يعتد بالأشهر في حقها لأنها بدل فلا يعتبر مع وجود الأصل، وهو مذهب الشافعية ورواية عند الحنفية. الثاني: يرجع إلى القرائن، لأنه دم مشكوك فيه، فإن ظهر أنه حيض، فتتحول إلى الأقراء وإلا فلا، وهو مذهب المالكية والحنابلة وهو رواية عند الحنفية. (2) تحول العدة من الأقراء إلى الأشهر: تنتقل العدة من الأقراء إلى الأشهر - عند الجمهور - في حق من حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست من الحيض، فتستقبل العدة بالأشهر، لقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} (¬1). والعدة لا تُلَّفق من جنسين، وقد تعذر إتمامها بالحيض فوجب استئنافها (من جديد) بالأشهر. وإياس المرأة أن تبلغ من السن ما لا يحيض فيه مثلها عادة، فإذا بلغت هذه السن مع انقطاع الدم كان الظاهر أنها آيسة من الحيض حتى يتضح خلافه. (3) تحول المعتدة من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة: إذا طلق الرجل امرأته طلاقًا رجعيًّا، ثم توفي وهي في العدة، سقطت عنها عدة الطلاق، واستأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا من وقت الوفاة؛ لأن المطلقة الرجعية زوجة ما دامت في العدة، فدخلت في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (¬2). وقد نقل ابن المنذر الإجماع على هذا. ¬

(¬1) سورة الطلاق: 4. (¬2) سورة البقرة: 234.

أما إذا طلقها طلاقًا بائنًا - في حال صحته أو بناء على طلبها - ثم توفي عنها، فإنها تكمل عدة الطلاق، ولا تنتقل إلى عدة الوفاة، لانقطاع الزوجية بينهما من وقت الطلاق بالإبانة، فلا توارث بينهما لعدم وجود سببه، فتعذَّر إيجاب عدة الوفاء وبقيت عدة الطلاق على حالها. ولو طلقها طلاقًا بائنًا في مرض موته، ففيه خلاف مبناه على ما تقدم من الخلاف في بقاء النكاح حكمًا في حق الإرث لتهمة الفرار - وقد تقدم - فمن قال ترثه لشبهة قيام الزوجية، قال: تعتد بأبعد الأجلين احتياطًا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والثوري. ومن قال: الإرث الذي ثبت معاملة بنقيض القصد لا يقتضي بقاء الزوجية، وأنها حينئذٍ بائن من النكاح، قال: ليس عليها عدة وفاة، وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، قلت: وهذا أقرب، والله أعلم. (4) تحول العدة من القروء أو الأشهر إلى وضع الحمل: إذا ظهر أثناء العدة بالقروء أو الأشهر، أو بعدها، أن المرأة حامل من الزوج، فإن العدة تتحول إلى وضع الحمل، ويسقط حكم ما مضى من القروء والأشهر، ولا يكون ما رأته من الدم حيضًا، ولأن وضع الحمل أقوى دلالة على براءة الرحم من آثار الزوجية التي انقضت، ولقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (¬1). وبهذا قال جمهور الفقهاء. مكان العِدَّة (أين تعتدُّ المرأة؟» (¬2): [1] بالنسبة للمعتدة من طلاق أو فسخ: ذهب جمهور العلماء إلى أن المعتدَّة من طلاق أو فسخ تعتد في مسكن الزوجية الذي كانت تسكنه قبل مفارقة زوجها، وهذا وجب عليها بطريق التعبد، فلا يسقط بالتراضي أو غيره، إلا بعذر شرعي، وكذلك لا يجوز لزوجها أن يخرجها عنه حتى تنقضي العدة لقوله تعالى: {واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (¬3). ¬

(¬1) سورة الطلاق: 4. (¬2) «البدائع» (3/ 200)، و «فتح القدير» (4/ 344 - الحلبي)، و «الدسوقي» (2/ 484)، و «التاج والإكليل» (1/ 391)، و «مغني المحتاج» (3/ 401)، و «روضة الطالبين» (8/ 410)، و «المغني» (9/ 170)، و «نيل الأوطار» (7). (¬3) سورة الطلاق: 1.

وهذا الحكم في غير المبتونة، فإنها تعتد حيث شاءت - على الأرجح - لما سيأتي من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتوم، وقد كانت طُلِّقت البتة (¬1). وهل للمعتدَّة الخروج من بيتها؟ اختلف العلماء في هذا بعد اتفاقهم على أنه يجب عليها ملازمة المسكن في العدة، وأنها لا تخرج منه إلا لحاجة أو عذر: 1 - ففي المطلقة الرجعية: فالأحناف والشافعية: لا يجوز لها الخروج من مسكن العدة لا ليلًا ولا نهارًا للآية الكريمة، ولأن الرجعية زوجته فعليه القيام بكفايتها، فلا تخرج إلا بإذنه. وقال المالكية والحنابلة: يجوز لها الخروج نهارًا لقضاء حوائجها، وتلزم منزلها بالليل لأنه مظنة الفساد واستدلوا بحديث جابر قال: طُلقت خالتي ثلاثًا، فخرجت تجدُّ نخلًا لها، فلقيها رجل فنهاها، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت ذلك له، فقال: «اخرجي فجدِّين خلك، فلعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرًا» (¬2) قلت: في الاستدلال به نظر ظاهر، فالحديث صريح في أنها مبتوتة، والكلام هنا على الرجعية (!!) والأظهر القول الأول لعموم الآية وعدم المخصص. وأما المطلقة البائن: فذهب الجمهور، ومعهم الثوري والأوزاعي والليث - خلافًا للحنفية - (¬3) إلى أنه يجوز لها الخروج نهارًا لقضاء حوائجها ولتتكسَّب سواء كانت بائنًا بينونة صغرى أو كبرى لحديث جابر المتقدم، وهو نص في المسألة فيتعيَّن القول به والله أعلم. [2] بالنسبة للمعتدة من وفاة الزوج: ذهب جمهور العلماء إلى أن المعتدة من وفاة زوجها يجب عليها أن تعتدَّ في بيت الزوجية كذلك حتى أنها لو كانت حين وفاته عند أهلها - أو نحوه - فعليها أن تعود لتعتد في بيت زوجها الذي كانت تسكنه قبل وفاته، وحجتهم: 1 - حديث فريعة بنت مالك بن سنان - أخت أبي سعيد الخدري - «أنها جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة وأن زوجها خرج في ¬

(¬1) صحيح: يأتي في «النفقة والسكنى للمعتدة». (¬2) صحيح: أخرجه مسلم. (¬3) «البدائع» (3/ 205)، و «الدسوقي» (2/ 486)، و «مغني المحتاج» (3/ 403)، و «المغني» (9/ 170 - وما بعدها).

طلب أعبد به أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه قالت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم» فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له قال فكيف قالت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» (¬1) وإسناده ضعيف. 2 - ما روي عن مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد عن نسائهم وكُنَّ متجاورات في داره فجئن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقُلن: إنا نستوحش يا رسول الله بالليل فنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا تبددنا بيوتنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تحدَّثن عند إحداكن ما بدا لكُنَّ حتى إذا أردتن النوم فلتأت كل امرأة إلى بيتها» (¬2). 3 - أنه صحَّ هذا القول عن ابن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما (¬3). بينما ذهب آخرون إلى أن المعتدة من الوفاة تعتد حيث شاءت، وهو قول جماعة من الصحابة، ويستدل لهذا القول بما يلي: 1 - ما رُوي عن عليٍّ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المتوفَّى عنها زوجها أن تعتد حيث شاءت» (¬4). لكنه ضعيف. 2 - أن قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (¬5). ناسخ للآية التي جعلت العدة للمتوفى عنها زوجها حولًا كاملًا وهي قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج} (¬6). والفسخ إنما وقع على ما زاد على أربعة أشهر وعشر، فبقي ما ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي (6/ 199)، وابن ماجة (2031) والرواية عن فريعة مجهولة. (¬2) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (12077) وفه عنعنة ابن جريج وإرسال مجاهد. (¬3) أسانيدها صحيحة: أخرج أثر ابن عمر: عبد الرزاق (7/ 31)، والبيهقي (7/ 436)، وأثر ابن مسعود: أخرجه عبد الرزاق (12068)، وسعيد بن منصور (1342)، والبيهقي (7/ 436)، وانظر «جامع أحكام النساء» (2/ 55). (¬4) ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 315) وفيه أبو مالك النخغي: ضعيف، ومحبوب بن محرز كذلك. (¬5) سورة البقرة: 234. (¬6) سورة البقرة: 240.

سوى ذلك من الأحكام، ثم جاء الميراث فنسخ السكني، وتعلق حقها بالتركة، فتعتد حيث شاءت، وهذا قول ابن عباس وعطاء (¬1). 3 - قول ابن عباس: «إنما قال الله تعتد أربعة أشهر وعشرًا ولم يقل تعتد في بيتها، تعتدُّ حيث شاءت» (¬2). 4 - عن عروة قال: «كانت عائشة تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدَّتها» (¬3). 5 - وعن جابر قال: «تعتد المتوفى عنها حيث شاءت» (¬4). 6 - وعن الشعبي قال: «كان عليٌّ يرُحِّلهنَّ، يقول: ينقلهنَّ» (¬5). 7 - أنه قد قتل من الصحابة - رضي الله عنهم - على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير، واعتدَّ أزواجهم بعدهم، فلو كان كل امرأة منهن تلازم منزلها زمن العدة، لكان ذلك من أظهر الأشياء، ولما خفي على من هو دون ابن عباس وعائشة وجابر وعليًّ، فكيف خفي عليهم. قلت: ليس في المسألة حديث صحيح مرفوع، وقد صحَّ عن الصحابة كلا القولي، فالمسألة اجتهادية، فالظاهر أنه لا مانع من اعتدادها حيث شاءت لكن الأورع اعتدادها في بيت زوجها إلا لعذر، ولذا قال الزهري - رحمه الله -: «أخذ المترخِّصون بقول عائشة، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر» (¬6) والله أعلم بالصواب. إحداد المعتدَّة: الإحداد لغةَ: المنع، وفي الاصطلاح: امتناع المرأة من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة في أحوال مخصوصة. حكم الإحداد: [1] المتوفى عنها زوجها: يجب عليها الإحداد في عدة الوفاة ولم لم يدخل ¬

(¬1) انظر «سنن أبي داود» (2301)، والنسائي (6/ 200)، و «صحيح البخاري» (5344). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12052)، والبيهقي (7/ 435). (¬3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12052)، والبيهقي (7/ 435). (¬4) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12059). (¬5) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (12056)، والبيهقي (7/ 436). (¬6) «مصنف عبد الرزاق» (12080).

بها، عند جماهير العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج: أربعة أشهر وعشرًا» (¬1). والزوجة الصغيرة تحد على زوجها: عند جمهور العلماء خلافًا للحنفية وعلى وليِّها أن يمنعها من فعل ما ينافي الإحداد، لأن الإحداد تبع للعدة، ولحديث أم سلمة: أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله، إن ابنتي تُوفِّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال: «لا» مرتين أو ثلاثًا ... الحديث (¬2) ولم يسألها عن سنِّها، وترك الاستفصال في مقام السؤال دليل على العموم. وهل تحدُّ الزوجة الكتابية؟ ذهب الجمهور - خلافًا للحنفية ورواية عن مالك - إلى أن الكتابية إذا مات زوجها المسلم وجب عليها أن تحدَّ عليه، لعموم الأدلة السابقة في الزوجات ولأن الإحداد تبع للعدة. وأما إحداد المرأة على قريبها - غير الزوج -: فلا يجب، بل هو جائز لمدة ثلاثة أيام فقط، ولا يجوز الزيادة عليها، لحديث زينب بنت أبي سلمة قالت: لما أتي أمَّ حبيبة نَعيُ أبي سفيان (¬3) دعت في اليوم الثالث بصفرة، فمسحت بها ذراعيها وعارضيها، وقالت: كنتُ عن هذا غنية، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحدُّ عليه أربعة أشهر وعشرًا» (¬4). وعلى هذا فللزوج أن يمنعها من الإحداد على القريب إن شاء، فلو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه باتفاق العلماء. [2] المعتدة الرجعية: المطلقة الرجعية لا إحداد عليها - في عدَّتها - بالإجماع، بل يطلب منها أن تتعرض لمطلقها وتتزيَّن له، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، على أن للشافعي رأيًا أنها تحد إذا لم ترجُ الرَّجعة (!!). [3] المعتدة من طلاق بائن: للعلماء في إحدادها في العدة قولان: الأول: عليها الإحداد، وهو مذهب الحنفية - والشافعي في القديم - وإحدى ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5334 - ومواضع)، ومسلم (1486 - ومواضع). (¬2) صحيح. (¬3) وهو أبوها. (¬4) صحيح.

الروايتين في مذهب أحمد، وعللوا ذلك بأن إحدادها لفوات نعمة النكاح، فهي تُشبه من وجه من توفى عنها زوجها (!!). الثاني: لا إحداد عليها، وهو مذهب مالك والشافعي في الجديد - إلا أنه استحبُّه - وأحمد في الرواية الأخرى وهو المذهب وبه قال جماعة من السلف وأبو ثور وابن المنذر، قالوا: لأن الزوج هو الذي فارقها نابذًا لها، فلا يستحق أن تحد عليه (!!). قلت: والثاني أرجح لأن الشرع علَّق الإحداد على الوفاة، وليس في لسان الشرع - فيما أعلم - تعليق إحداد طلاق، والله أعلم. النفقة والسكنى للمعتدة: [1] بالنسبة للمعتدة من طلاق رجعي: المعتدة من طلاق رجعي تعتبر زوجة، لأن ملك النكاح قائم، ولذا اتفق أهل العلم على وجوب ما يلزم معيشتها من نفقة وسكنى وكسوة، سواء كانت حاملًا أو حائلًا (غير حامل) لبقاء آثار الزوجية مدة العدة، ولقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (¬1). ولحديث فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» (¬2). [2] بالنسبة للمعتدة من طلاق بائن: فلها حالتان: (أ) أن تكون حاملًا: فتجب لها النفقة والسكنى حتى تضع حملها بلا خلاف بين أهل العلم، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} (¬3). ولما في بعض طرق حديث فاطمة بنت قيس: وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة نفقة، فقالا لها: والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملًا، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له قولها، فقال: «لا نفقة لك» ... الحديث (¬4). (ب) أن لا تكون حاملًا: لأهل العلم في حكم النفقة والسكنى للمطلَّقة طلاقًا بائنًا - غير الحامل - في عدتها ثلاثة أقوال: ¬

(¬1) سورة الطلاق: 6. (¬2) صحيح: أخرجه النسائي (6/ 144) بسند صحيح. (¬3) سورة الطلاق: 6. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1480).

الأول: لها النفقة والسكنى: وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود، ومأخذ هذا القول أن قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم ...} (¬1). عام في جميع المطلقات لأنها ذُكرت بعد قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (¬2). وهذه انتظمت الرجعية والبائن. الثاني: لها السكنى دون النفقة: وهو مذهب مالك والشافعي والرواية الثانية عن أحمد، ومأخذه أن الله تعالى أطلق السكنى لكل مطلقة من غير تقييد في قوله {أسكنوهن من حيث سكنتم} (¬3). فكانت حقًّا لهن، لأنه لو أراد غير ذلك لقيَّد كما فعل في النفقة إذا قيَّدها بالحمل. الثالث: ليس لها سكنى ولا نفقة: وهو قول أحمد - في رواية - وإسحاق وأبي ثور وداود وأصحابه وسائر أهل الحديث، وبه قال ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس - وكانت تناظر عليه - وطائفة من السلف، قلت: وهو الأرجح لما يأتي: 1 - حديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلَّقها البتة، فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السكنى والنفقة، قالت: «فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن اعتدَّ في بيت أم مكتوم» (¬4). وقد طمن عمر - رضي الله عنه - في هذا الحديث: فعن أبي إسحاق قال: «كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفًّا من حصى، فحصبه به، فقال: ويلك، تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: «لا نترك كتاب الله وسنَّة (¬5) نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت؟ لها السكنى والنفقة» قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (¬6) (¬7). ¬

(¬1) سورة الطلاق: 6. (¬2) سورة الطلاق: 1. (¬3) سورة الطلاق: 6. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1480). (¬5) ") قوله (وسنة نبينا) قال الدارقطني هذه زيادة غير محفوظة، قلت: وهذا لا شك فيه لأن هذه السنة لو كانت عند عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تكلمت فاطمة ولا دعت للمناظرة ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين. (¬6) سورة الطلاق: 1. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1480/ 46).

وأنكرت عائشة قول فاطمة هذا: وأخبرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أرخص لها في ترك السكنى لكونها كانت في مكان وَحْش فخيف على حياتها (¬1). والجواب عن هذه المطاعن أن يقال (¬2): 1 - أن كون الراوي امرأة ليس بمطعن بلا شك، والعلماء قاطبة على خلافه من الاحتجاج برواية النساء كالرجال، وهي قد حفظتْ الحكم لاسيما والقصة وقعت معها، حتى أنها ناظرت من خالفها على كتاب الله كما سيأتي. - ثم إن الطعن في روايتها بأنها مخالفة للقرآن يجاب عنه بأنه على فرض أن روايتها مخالفة للقرآن فهي مخالفة لعمومه، فتكون تخصيصًا للعام، فحكمها حكم تخصيص قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} (¬3). بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو أختها أو خالتها، فإن القرآن لم يخصَّ البائن بأنها لا تخرج ولا تُخرج، وبأنها تسكن من حيث يسكن زوجها بل إما أن يعمها ويعمَّ الرجعية - فيكون مخصصًا برواية فاطمة - وإما أن يكون مختصًّا بالرجعية، وهو الصواب للسياق لمن تدبَّره: فإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬4). فذكر سبحانه لهؤلاء المطلقات أحكامًا متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض متعلقة بمن لهم عند بلوغ الأجل (العدة) الإمساك والتسريح وقال: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا}. والمراد به الرجعة، كما قالت فاطمة بنت قيس نفسها عندما أنكر عليها مروان حديثها: «بيني وبينكم القرآن: قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}. إلى قوله: {لا تدري لعل الله ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري. (¬2) «زاد المعاد» (5/ 526 - 542) بتصرف واختصار. (¬3) سورة النساء: 24. (¬4) سورة الطلاق: 1 - 3.

يحدث بعد ذلك أمرًا} (¬1). قالت: هذا لمن كان له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ ...» الحديث (¬2). ثم أمر بالإشهاد أي على الرجعة، فكانت هذه الأحكام المذكورة متعلقة بالمطلقة الرجعية وحدها، فلما ذكر بعد ذلك الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات بقوله {اسكنوهن ...} (¬3). كان المراد الرجعيات كذلك لتتَّحد الضمائر، ويؤيد هذا الفهم ما يأتي من الأدلة. 2 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية لحديث فاطمة -: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» (¬4) قلت: وهو صريح في محل النزاع فيتعين المصير إليه، ثم فيه الرد على تعليل عائشة - رضي الله عنها - لإخراج فاطمة من بيتها، لأنه صرَّح بأن العلة في استحقاق النفقة والسكنى هي إمكان الرجعة. 3 - أنَّ مقتضى النظر: فإن النفقة إنما تكون للزوجة، فإذا بانت منه صارت أجنبية، حكمها حكم سائر الأجنبيات، ولم يبق إلا مجرد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب لها نفقة. 4 - ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكن من الاستمتاع، وهذا لا يمكن استمتاعه بها بعد البينونة. 5 - ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجل العدة، لوجبت للمتوفى عنها من ماله، ولا فرق، فإن كل واحدة منهما قد بانت عنه وهي معتدَّة منه، قد تعذَّر منهما الاستمتاع، والله أعلم. [3] بالنسبة للمعتدة من وفاة زوجها: ذهب الحنفية والحنابلة - وهو قول عند الشافعية - إلى أن المتوفى عنها زوجها لا نفقة ولا سكنى لها من ماله في العدة، وليس لها إلا مقدار ميراثها إن كانت وارثة: لأن المال صار - بموته - للغرماء أو الورثة أو الوصية، ويؤيده قول ابن عباس بأن آية الميراث نسخت قوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا وصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلَى الحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} (¬5). وقد تقدم. ¬

(¬1) سورة الطلاق: 1. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1480/ 41). (¬3) سورة الطلاق: 6. (¬4) تقدم قريبًا. (¬5) سورة البقرة: 240.

وقد ذهب الشافعية - في الأظهر - والمالكية إلى أن لها السكنى بشرطين: أن يكون دخل بها، وأن يكون المسكن ملكه، وحجتهم حديث فريعة المتقدم، وهو ضعيف. قلت: والأول أظهر. فإن كانت المتوفى عنها زوجها حاملًا فقال الأكثرون: لا نفقة لها من ماله، لأن نفقته على زوجته وأولاده الأحياء تسقط عنه بموته فكذلك الحامل من أزواجه. فالحاصل أن المتوفى عنها، ليس لها حق في نفقة أو سكن إلا مقدار ميراثها سواء كانت حاملًا أو حائلًا والله أعلم. متعة المطلَّقات: المتعة: مال يدفعه الزوج لمطلَّقته، وقد يكون هذا المال ثيابًا أو كسوة أو نفقة أو خادمًا أو غير ذلك مما يستمتع به، ويختلف مقدارها بحسب حال الزوج يسرًا وعسرًا، قال الله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} (¬1). وقال سبحانه: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقا على المحسنين} (¬2). وقد اختلف أهل العلم في حكم المتعة على ثلاثة أقوال (¬3): الأول: تجب المتعة لكل مطلَّقة: وهو مروي عن عليِّ بن أبي طالب والحسن وسعيد بن جبير وجماعة من السلف وأبي ثور والظاهرية وهو رواية عن أحمد ونصرها شيخ الإسلام، لعموم الآيات الآمرة بها. الثاني: تستحب المتعة لكل مطلقة ولا تجب: وهو مذهب مالك والليث بن سعيد وشريح، لتقييد المتعة بأنها حق على المتقين والمحسنين وتقييدها بالمعروف. الثالث: تجب المتعة للمفوضة - وهي المطلقة قبل الدخول بها التي لم يفرض لها مهر - دون من فُرض لها المهر: وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه والشافعي والأوزاعي وأحمد في رواية الجماعة عنه، وهو قول ابن عمر وابن عباس وطائفة ¬

(¬1) سورة البقرة: 241. (¬2) سورة البقرة: 236. (¬3) «ابن عابدين» (3/ 111)، و «المغني» (10/ 139 - الكتاب العربي)، و «الحاوي» (13/ 101)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 27)، و «المحلي» (10/ 245).

الخلع

من السلف، واحتجوا بقول ابن عمر: «لكل مطلقة متعة إلا التي طلقها ولم يدخل بها وقد فرض لها فلها نصف الصداق، ولا متعة لها» (¬1). والتحقيق ... أن يقال: عموم الآيات السابقة تدل على أن المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء كانت مدخولًا بها أو لا، وسواء كان مهرها مفروضًا أو غير مفروض، لكن ينبغي التنبُّه إلى أن ما تستحقه المطلقة قبل الدخول من المتعة ليس أمرًا زائدًا على نصف المهر المنصوص عليه، فمتعتها هي نصف المهر لا غيره. فإن الله تعالى أوجب للمطلقات قبل الدخول متعة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ ...} (¬2). وهذه المتعة أعم من أن تكون مقدَّرة أو غير مقدَّرة، وقد فصَّلَت هذا العموم آيات البقرة، فجعلت لمن سُمِّي لها مهر نصف المهر إذا طلقت قبل الدخول، أما التي لم يُسمَّ لها مهر فلها متعة غير مقدَّرة، قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ... عقدة النكاح} (¬3) (¬4). قلت: وهذا قول الجمهور، وهو عين ما قاله ابن عمر - رضي الله عنه -، والله أعلم. الخُلْع تعريف الخلع: الخُلعُ لغةً: هو النزع والتجريد، يقال: خلع الثوب والرداء يخلعه خلعًا: جرَّده، والخُلع - بالضم -: اسم من الخلع، والمرأة لباس الرجل مجازًا. والخُلع اصطلاحًا تعددت عبارات الفقهاء في تعريفه، وخلاصة هذه التعريفات أنه: «وقوع الفُرقة بين الزوجين بتراضيهما، وبعوض تدفعه الزوجة لزوجها» (¬5). مشروعيته: والأصل في مشروعيته الخلع: ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 126). (¬2) سورة الأحزاب: 49. (¬3) سورة البقرة: 236، 237. (¬4) أفاده الدكتور عمر الأشقر - حفظه الله - في «أحكام الزواج» (ص 272 - 273). (¬5) «المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم» د. عبد الكريم زيدان (8/ 114).

1 - قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} (¬1). 2 - حديث ابن عباس قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ما أنفقتم على ثابت في دين ولا خُلق، إلا أني أخاف الكفر (¬2)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فتردِّين عليه حديقته؟» قالت: نعم، فردَّت عليه وأمره ففارقها» (¬3). 3 - وقد أجمع العلماء لا خلاف بينهم - إلا بكر بن عبد الله المزني - في مشروعية الخلع (¬4). حكمة مشروعيته (¬5): قال الله تعالى: {ولا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ...} (¬6). فتشريع الخُلع هو للتوقِّي من تعدِّي حدود الله التي حدَّها للزوجين من حسن المعاشرة، وقيام كل منهما بما عليه من حقوق الآخر، مع ملاحظة المماثلة في الحقوق وقيام الزوجة بما تستدعيه وتستلزمه قوامة الرجل على المرأة، وما يلزمها من قيام بأمور البيت وتربية الأولاد وعدم المُضارَّة. وتشريع الخلع هو في المقام الأول لإزالة الضرر عن الزوجة بسبب بقاء النكاح بينها وبينه، لبغضها له، أو لعدم قيامه بحقوقها. ثم هو في المقام الثاني لمصلحة الزوج ودفع الضرر عنه، وإنما جُعلت مصلحة الزوج في المقام الثاني، لأنه يستطيع التخلص من ضرر بقاء رابطة الزوجية بإرادته المنفردة - بالطلاق - دون توقف على رضا وموافقة الزوجة. الحكم التكليفي للخُلع: الخُلع على ثلاثة أَضْرُب: ¬

(¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) يحتمل أنها تريد بالكفر كفران العشير إذ هو تقصير المرأة في حق زوجها. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5276)، وأبو داود (2229)، وابن ماجة (2056). (¬4) «المغني» (7/ 52)، و «الفتح» (9/ 315). (¬5) «تفسير المنار» (2/ 388)، و «المفصَّل» (8/ 125). (¬6) سورة البقرة: 229.

[1] مُباح: وهو أن تكره المرأة البقاء مع زوجها لبغضها إياه، وتخاف ألا تؤدي حقَّه، ولا تقيم حدود الله في طاعته، فلها أن تفتدي نفسها منه، لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح علهما فيما افتدت به} (¬1). ولحديث ابن عباس - المتقدم قريبًا - قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم، فردَّت عليه، وأمره ففارقها» (¬2). ولأن حاجتها داعية إلى فرقته، ولا تصل إلى الفرقة إلا ببذل العِوَض فأبيح لها ذلك. ويستثنى من ذلك ما لو كان الزوج له ميل إليها ومحبة فحينئذٍ يستحب صبرها وعدم افتدائها (¬3). [2] مُحَرَّم: وله حالتان، إحداهما من جانب الزوجة والأخرى من جانب الزوج: (أ) فأما من جانب الزوجة: فكما إذا خالعته من غير سبب مع استقامة الحال بينهما لظاهر قوله تعالى: {ولا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4). ولحديث ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» (¬5). وفي الباب عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المختلعات هُنَّ المنافقات» (¬6). وهو ضعيف. ¬

(¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «ابن عابدين» (3/ 441)، و «المجموع» (16/ 3)، و «المغني» (7/ 51 - 54)، و «المحلي» (10/ 235). (¬4) سورة البقرة: 229. (¬5) إسناده ظاهر الصحة. أخرجه أبو داود (2226)، وابن ماجة (2055)، وأحمد (5/ 283) وفي سنده اختلاف قد يعلُّ به الحديث، وانظر «جامع أحكام النساء» لشيخنا - حفظه الله - (4/ 172). (¬6) ضعيف: أخرجه النسائي (6/ 168) وغيره، والحسن لم يسمع أبا هريرة كما قال أهل الشأن، وللحديث طرق ضعيفة، صححه بها العلامة الألباني فأودعه في «صحيح الجامع» (1934).

(ب) وأما من جانب الزوج: فكما إذا عضل الرجل زوجته بأذاه لها ومنعها حقها ظلمًا لتفتدي نفسها منه، لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما اتيتموهن} (¬1). فإن فارقها - في هذه الحالة - بعوض لم يستحقَّه؛ لأنه عوض أكرهت على بذله بغير حق فلم يستحقه. لكن إن زنت فعضلها لتفتدي نفسها منه جاز وصحَّ الخلع لقوله تعالى: {لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} (¬2). والاستثناء من النهي إباحة. وإن ضربها لغير قصد أخذ شيء منها فخالعته لذلك صحَّ الخُلع، لأنه لم يعضلها ليأخذ مما آتاها شيئًا (¬3). [3] مُستحَبٌّ: ويكون طلب الزوجة للخلع من زوجها مستحبًّا إذا كان مفرِّطًا في حقوق الله تعالى - عند الحنابلة (¬4) - قلت: وربما يكون واجبًا في بعض الحالات كأن يكون الزوج مُصرًّا على ترك الصلاة (¬5) بالرغم من تذكيرها له بلزوم ما فرض الله عليه، وكأن يكون مدمنًا لتعاطي المخدرات ونحوها أو مرتكبًا للكبائر، أو كان يأمرها بالمحرمات ونحوها. «وهكذا الحكم فيما لو كان الزوج متلبِّسًا باعتقاد أو فعل يخرجه من الإسلام ويجعله مرتدًا، ولا تستطيع المرأة إثبات ذلك أمام القضاء ليحكم بالتفريق، أو تستطيع إثبات ذلك ولكن القاضي لا يحكم بردَّته ولا يحكم بوجوب التفريق، فعليها في هذه الحالة أن تطلب من هذا الزوج أن يخالعها ولو على مال تدفعه له، لأنه لا ينبغي للمسلمة أن تكون زوجة لمثل هذا الرجل المتلبِّس بما يكفر به اعتقادًا أو فعلًا» اهـ (¬6). ¬

(¬1) سورة النساء: 19. (¬2) سورة النساء: 19. (¬3) «ابن عابدين» (3/ 445)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 593)، و «الأم» (5/ 178)، و «الجمل» (4/ 292)، و «المغني» (7/ 54 - 56)، و» الإنصاف» (8/ 383). (¬4) «غاية المنتهى» (3/ 112). (¬5) فإنه قد حصل الخلاف في كفر تاركها عمدًا على ما تقدم في «الصلاة». (¬6) «المفصَّل في أحكام المرأة» (8/ 122).

حقيقة الخُلع (التكييف الفقهي للخُلع): اتفق جمهور العلماء على أن الخلع إذا كان بلفظ الطلاق أو نيَّته فإنه يقع طلاقًا. وإنما الخلاف بينهم في وقوعه بغير لفظ الطلاق ولم ينو به صريح الطلاق أو كنايته، وكان المراد الفداء لأجل المخالعة، على قولين: الأول: الخُلع طلقة بائنة: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - ورواية عن أحمد وابن حزم - إلا أنه قال: طلقة رجعية - وبه قال عطاء والنخعي والشعبي والزهري والأوزاعي والثوري، وهو مروي عن عثمان وعليٍّ وابن مسعود - رضي الله عنهم (¬1) - ولا يثبت عن أحد من الصحابة ذلك - وحجة هذا القول ما يلي: 1 - ما ورد في بعض طرق حديث ابن عباس - في قصة امرأة ثابت بن قيس - وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لثابت: «اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة» (¬2) وأجيب: بأن الحديث بهذا اللفظ مرسل كما أشار البخاري، والطرق الصحيحة الموصولة ليس فيها ذكر التطليق!! 2 - ما ورد في بعض طرق الحديث السابق عن ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخلع تطليقة بائنة» (¬3). وأجيب: بأنه ضعيف، فلا يحتج به. 3 - ما روُي أن أم بكرة الأسلمية كانت تحت عبد الله بن أُسيد واختلعت منه، فندما، فارتفعا إلى عثمان بن عفان، فأجاز ذلك، وقال: «هي واحدة إلا أن تكون سمَّت شيئًا فهو على ما سمَّت» (¬4) وأجيب: بأن هذا لا يثبت عن عثمان، بل ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 444)، و «الكافي» (2/ 593)، و «الأم» (5/ 181)، و «روضة الطالبين» (7/ 375)، و «المغني» (7/ 56)، و «الإنصاف» (8/ 392)، و «المحلي» (10/ 238). (¬2) أخرجه البخاري (5273)، والبيهقي (7/ 313) من طريق أزهر بن جميل، وقد أشار البخاري إلى إرساله فقال عقبه: «لا يتابع فيه عن ابن عباس» قلت: اللفظ الثابت هو الذي تقدم قريبًا. (¬3) ضعيف: أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 316) وفي سنده عباد بن كثير: ضعيف. (¬4) ضعيف: أخرجه الشافعي (165 - شفاء العي)، والبيهقي (3/ 231) وضعفه أحمد كما في «التلخيص» (3/ 231).

الثابت عنه أنه لا يرى عليها العدة وأنها تستبرئ بحيضة - كما سيأتي - فلو كان عنده طلاقًا لأوجب فيه العدة!! 4 - ما رُوي عن ابن مسعود أنه قال: «لا تكون تطليقة بائنة إلا في فدية أو إيلاء» (¬1). وأجيب: بأنه ضعيف، ولو صحَّ فإنه يدلُّ على أن الطلقة في الخلع تقع بائنة، لا أن الخلع يكون طلاقًا بائنًا، وبين الأمرين فرق ظاهر. 5 - ما رُوي عن عليِّ بن أبي طالب أن الخلع طلاق، وأجيب: بأنه ضعيف كذلك، قال ابن حزم: روينا من طريق لا يصح عن عليٍّ - رضي الله عنه -. اهـ. ولذا قال شيخ الإسلام (32/ 289): وما علمتُ أحدًا من أهل العلم صحح ما نُقل عن الصحابة من أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث. اهـ. وقال ابن خزيمة - كما في «التخليص الحبير» (3/ 231) -: «إنه لا يثبت عن أحد أنه رأى الخلع طلاق» اهـ. 6 - أن الفرقة؟؟؟؟ ص 345 هي الطلاق دون الفسخ فوجب أن يكون طلاقًا، ولأنه أتى بكناية الطلاق قاصدًا قراءتها فكان طلاقًا كغير الخلع من كنايات الطلاق. القول الثاني: الخُلع فسخ وليس بطلاق: وهو القول القديم للشافعي والرواية المشهورة عن أحمد، وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود، وهو مذهب ابن عباس - رضي الله عنه - وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم (¬2)، واحتجوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف ... وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} (¬3). قالوا: فذكر الله الطلاق مرتين ثم ذكر الخلع بقوله: {فلا جناح عليهما فيما ¬

(¬1) ضعيف. (¬2) «المغني» (7/ 56)، و «الإنصاف» (8/ 392)، و «روضة الطالبين» (7/ 375)، و «المحلي» (10/ 238)، و «معالم السنن» (3/ 143)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 289 - وما بعدها)، و «زاد المعاد» (5/ 197)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 160 - وما بعدها). (¬3) سورة البقرة: 229، 230.

افتدت به} ثم قال سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} (¬1) فلو كان الخلع طلاقًا لكان عدد التطليقات أربعًا. وهذا هو فهم ابن عباس للآية الكريمة: فقد سئل عن رجل طلَّق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال ابن عباس: «ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك، فليس الخلع بطلاق، ينكحها» (¬2) وقد أجيب عن الآية: بأن الله تعالى ذكر التطليقة الثالثة بعوض وبغير عوض، وبهذا لا يصير الطلاق أربعًا. 2 - وعن عكرمة عن ابن عباس قال: «ما أجازه المال فليس بطلاق» (¬3). 3 - حديث الربيِّع بنت معوَّذ قالت: اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألته: ماذا عَلَيَّ من العدَّة؟ فقال: «لا عدة عليك إلا أن تكوني حديثة عهد به فتمكثي حتى تحيضي حيضة» قال: «وأنا متبع في ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مريم المغالية كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فاختلعت منه» (¬4). وقد رُوي عن ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّتها حيضة» (¬5) وفيه ضعف. ووجه الدلالة منهما: أن الخلع لو كان طلاقًا لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - على الأمر بالاعتداد بحيضة، وهذا أقوى أدلة هذا القول. الراجح: والذي يظهر أن كون الخُلع فسخًا لا طلاقًا هو الأقوى، والله أعلم. ثمرة الخلاف السابق وأثره: يتفرَّع على القول بأن الخُلع فسخٌ وليس بطلاق، ألا يُحسب من التطليقات الثلاث، فلو خالعها بعد تطليقتين فله أن يتزوَّجها، حتى وإن خالعها مائة مرة. ¬

(¬1) سورة البقرة: 229، 230. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (6/ 487)، وسعيد بن منصور (1455)، والبيهقي (7/ 316). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11768). (¬4) صحيح لطرقه: أخرجه النسائي (6/ 186)، وابن ماجة (2058) وله طرق وشواهد. (¬5) ضعيف: أخرجه أبو داود (2229)، واختلف في وصله وإرساله، وفيه عمرو بن مسلم: ضعيف.

أركان الخلع وما يتعلق بها

أركان الخلع وما يتعلق بها الخُلع تصرفٌ شرعي من قبل الزوجين بصيغة معينة تترتب عليه الفرقة بينهما نظير مال تدفعه الزوجة إلى الزوج. وبهذا يتبيَّن أن أركان الخُلع أربعة: الزوجان - ويسميان: المخالَع والمختلعة - وصيغة الخلع والعوض. الركن الأول: المخالَع (الزوج): اتفق الفقهاء على أنه يشترط في المخالع أن يكون ممن يملك التطليق، والقول الجامع في شروط المخالع أن يقال: (من جاز طلاقه جاز خُلعه). ولهذا أجاز الجمهور - المالكية والشافعية والحنابلة - خُلع المحجور عليه لفلس أو سفه أو رقٍّ لأنهم يملكون الطلاق. لكن لا يجوز تسليم المال إلى المحجور عليه، لأن الحجر أفاد منعه من التصرف (¬1). خلع المريض مرض الموت (¬2): إذا صح طلاق المريض مرض الموت بغير عوض، فلأن يصح بعوض أولى، لكنهم اختلفوا في حق المختلعة - في هذه الحالة - في الميراث من زوجها: فذهب الجمهور -خلافًا للمالكية - إلى أنها لا ترث منه لوقوع البينونة بالفرقة، ولأن الفرقة وقعت بقبولها ورضاها، فكأنه طلَّقها بسؤالها وطلبها فانتفت التهمة. لكن قال الحنابلة: لو أوصى لها - بعد مخالعتها - بمثل ميراثها أو أقل صحَّ، لأنه لا تهمة في أنه طلَّقها ليعطيها ذلك، فإنه لو لم يفارقها عن طريق المخالعة لأخذت ما أوصى لها به عن طريق الميراث، وإن أوصى لها بزيادة على ميراثها فللورثة منه الزائد عنها، لأنه اتهم في أنه قصد إيصال ذلك إليها. قال الدكتور زيدان معقبًّا على قول الحنابلة هذا: «إذا كان هذا التوجيه مقبولًا، فإن الأولى قبولًا أن يقال: يُنظر إلى بدل الخلع الذي بذلته له وينقص مقدار هذا البدل من الموصى به لها، فالباقي إن كان أكثر من ميراثها منه لو لم تخالعه، هو ¬

(¬1) «جواهر الإكليل» (1/ 332)، و «الروضة الطالبين» (7/ 383)، و «المغني» (7/ 87). (¬2) «المبسوط» (6/ 193)، و «الشرح الكبير» (2/ 352)، و «معني المحتاج» (3/ 265)، و «المغني» (7/ 89).

الذي يسترد منها، أما إذا كان الباقي أقل من ميراثها منه لو لم تخالعه، فلا سبيل إلى استرداد شيء منه للورثة، وهذا - كما يبدو لي - هو مقتضى العدل والتسوية بين المخالع والمختلعة» اهـ (¬1). الركن الثاني: المختلعة (الزوجة): يشترط في المختلعة شرطًا: [1] أن تكون زوجة شرعًا: لأن الغرض من الخُلع هو خلاصها من قيد الزوجية، وهذا القيد إنما يكون في النكاح الصحيح حيث تكون زوجة شرعية، لكن: هل يشترط قيام الزوجية فعلًا؟ بمعنى: هل تخالع المعتدَّة؟ (¬2) (أ) المعتدة من طلاق رجعي: في حكم الزوجة حال قيام الزوجية - ما دامت في العدة - لأن الطلاق الرجعي لا يرفع الحل ولا الملك - كما تقدم - فتصح مخالعتها بعوض لفكاكها عن رباط الزوجية (¬3). (ب) المعتدة من طلاق بائن: لا يصح خُلعها؛ لأنه لا يملك نكاحها حتى يزيله، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وحكي الماوردي فيه إجماع الصحابة. وذهب الحنفية والمالكية إلى أن المخالفة تصح لكن لا يلزمها المال، لأن إعطاءه لتحصيل الخلاص المنجِّز، وهو حاصل (!!) (¬4). قلت: والأوَّل أصحُّ لأنها في العدة من الطلاق البائن ليست زوجة، والله أعلم. [2] أن تكون أهلًا للتبرُّع والتصرف في المال: بأن تكون بالغة عاقلة رشيدة. فإذا كانت الزوجة صغيرة أو مجنونة: فلا يصحُّ منها الخلع، وسواء كانت الصغيرة مميزة أو غير مميزة، لأن الخلع كالتبرع، والصغيرة والمجنونة ليستا من أهل التبرع (¬5). ¬

(¬1) «المفصَّل في أحكام المرأة» (8/ 137). (¬2) «السابق» (8/ 140 - 142) بتصرف. (¬3) «المبسوط» (6/ 175)، و «مغني المحتاج» (3/ 265)، و «المغني» (7/ 279). (¬4) «ابن عابدين» (3/ 307)، و «الشرح الصغير» (1/ 446)، و «مغني المحتاج» (3/ 265)، و «المغني» (7/ 59). (¬5) «المبسوط» (6/ 178)، و «مغني المحتاج» (3/ 263)، و «المغني» (7/ 83).

وهل يُخالع الأب - أو الولي - عن الصغيرة؟ (¬1) ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة - على المذهب - إلى أنه لا يجوز للأب خلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها، لأنه لا نظر له فيه، إذ البُضع غير مُتقوَّم، والبدل متقوَّم، بخلاف النكاح، لأن البضع متقوم عند الدخول، ولأنه بذلك يسقط حقها من المهر والنفقة والاستمتاع، وإذا لم يجز، لا يسقط المهر ولا يستحق مالها، وللزوج مراجعتها إن كان بعد الدخول. ومذهب المالكية - وخرَّجه بعض متأخري الحنابلة عن أصول أحمد - وهو اختيار شيخ الإسلام: أن للأب أن يخالع عن ابنته الصغيرة بمالها إذا رأى المصلحة لها، كتخليصها ممن يتلف مالها، ويُخاف منه على نفسها وعقلها. وخرَّجه بعضهم على أن للأب العفو عن نصف المهر في الطلاق قبل الدخول بناء على أنه الذي بيده عقدة النكاح - وقد تقدم تحريره - وردَّه في «المهذَّب» بقوله: «وهذا خطأ، لأنه إنما يملك الإبراء - على هذا القول - بعد الطلاق، وهذا الإبراء (أي: في الخلع) قبل الطلاق» اهـ. فإن خالع الولي عنها بشيء من ماله جاز؛ لأنه يصح عندهم خُلع الأجنبي والتزامه ببدل الخلع فالأب أولى. خُلع المريضة في مرض موتها (¬2): اتفق الفقهاء - في الجملة - على أنه تصح مخالعة المرأة المريضة مرض الموت لزوجها في مرضها، لأنه معاوضة كالبيع، وإنما الخلاف بينهم - إلا الظاهرية - في القدر الذي يأخذه الزوج في مقابل ذلك، مخافة أن تكون الزوجة راغبة في محاباته على حساب الورثة. 1 - فعند الحنفية: يأخذ الأقل من ميراثه منها ثم يفارقها أو بدل الخُلع أو ثلث تركتها، هذا إن ماتت في العدة، فإن ماتت بعد العدة، أو قبل الدخول، أخذ زوجها الأقل من: بدل الخلع أو ثلث التركة. ¬

(¬1) «الهداية» (3/ 218 - مع فتح القدير)، و «الشرح الصغير» (1/ 442)، و «المجموع» (16/ 9)، و «المغني» (7/ 83)، و «الإنصاف» (8/ 388)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 26). (¬2) «المبسوط» (6/ 192)، و «الشرح الصغير» (1/ 445)، و «مغني المحتاج» (3/ 264)، و «المجموع» (16/ 37)، و «المغني» (7/ 88)، و «كشاف القناع» (3/ 137)، و «المحلي» (10/ 218).

2 - وعند المالكية والحنابلة: يأخذ بدل الخلع إن كان بقدر ميراثه منها أو أقل. 3 - وعند الشافعية: أن الخلع إن كان بمهر المثل نفذ دون اعتبار الثلث، وإن كان بأكثر فالزيادة كالوصية للزوج، وتعتبر في الزيادة الثلث، أي أنه يستحق مهر المثل والزيادة في حدود ثلث التركة!! 4 - وأما الظاهرية: فلا فرق عندهم بين طلاق المريض أو المريضة وغيره ولا تأثير للمرض في صحة الطلاق - والخلع عند ابن حزم طلاق - وعليه يأخذ الزوج ما خالع عليه ولو زاد على ميراثه أو الثلث. خُلع الفضولي (الأجنبي) عن الزوجة (¬1): الفضولي هو الذي ليست له صفقة تُخوِّله إجراء المخالعة عنها، إذ ليس هو بوليٍّ لها ولا وكيل عنها في موضوع الخلع، فهل يصح خُلعه عن المرأة بغير إذنها وتوكيلها؟ قولان لأهل العلم: الأول: يجوز ويصح مخالعته: كأن يقول الأجنبي للزوج: «طلِّق امرأتك بألفٍ عليَّ» وهذا قول أكثر أهل العلم: أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم، وحجتهم: 1 - أن الأجنبي بذل ماله في مقابل إسقاط حق عن غيره، كما لو قال: أعتق عبدك وعلىَّ ثمنه. 2 - أن الطلاق مما يستقل به الزوج، والأجنبي مستقل بالالتزام، وله بذل المال، والتزامه على وجه الفداء عن الزوجة، لأن الله تعالى قد سمى الخلع فداء، فجاز كفداء الأسير. الثاني: لا تصح مخالعة الأجنبي: وهو مذهب ابن حزم وأبي ثور وحجتهم: 1 - أن مخالعة الأجنبي ببذله ماله سفه منه، لأنه يبذله في مقابلة ما لا منفعة له فيه، وقد يجاب عن ذلك: بأنه قد يكون له فيه غرض ديني بأن رآهما لا يقيمان حدود الله أو اجتمعا على محرَّم، فرأى أن التفريق بينهما ينقذهما من ذلك فيفعل طلبًا للثواب، وغير ذلك. 2 - أن الخلع من عقود المعاوضات فلا يجوز لزوم العوض لغير صاحب ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 458)، و «الشرح الكبير» (2/ 347)، و «مغني المحتاج» (3/ 276)، و «المغني» (7/ 85)، و «المحلي» (10/ 235، 244).

المعوض كالبيع، ولأن الله تعالى أضاف الفدية إلى الزوجة فقال سبحانه {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬1). 3 - أن الأصل بقاء النكاح إلى أن يثبت المزيل له، وحينئذ فلا يملك الزوج البدل، ولا يقع الطلاق إن لم يتبع به، فإن أتبع به كان رجعيًّا. قلت: أما صحة مخالعة الفضولي مطلقًا وبدون إذن الزوجة وعلمها، فلا أراه متَّجهًا، لاحتمال أن يخالع عنها ببذله ماله ليغري زوجها على مفارقتها نكاية بها وإضرارًا، أو أن يخالع عنها لمصلحته كأن يريد بذلك تزويجها أو تزويج زوجها قريبة له، ونحو ذلك، لكن لو علم من حال الزوجة إرادتها للخُلع لمسوِّغ شرعي ولكن ليس عندها من المال ما تبذله، فأعطاها ما تبذله وتخالع هي فهذا أحسن. وهذا القول يلزم القائلين بأن الخلع فسخ، إذ أن الفسخ بلا سبب لا ينفرد به الزوج، فلا يصح طلبه منه، والله أعلم. الركن الثالث: العِوَض (المال): العِوَض: ما يأخذه الزوج من زوجته في مقابل خلعه لها، وضابطه عند الجمهور: أن يصلح جعله صداقًا، فإن ما جاز أن يكون مهرًا: جاز أن يكون بدل الخلع. هل يصح «خُلع» بدون عوَض؟ اختلف العلماء فيما إذا قالت المرأة لزوجها: (اخلعني) فقال لها: (قَد خلعتك) ولم يكن هذا على عوض، هل يصح عقد الخلع؟ على قولين (¬2): الأول: يصح الخلع بلا عوض: وهو مذهب الحنفية والمالكية ورواية في مذهب أحمد، وحجتهم: 1 - أن الخلع قطع للنكاح فصحَّ من غير عوض كالطلاق. 2 - ولأن الأصل في مشروعية الخلع أن توجد من المرأة رغبة عن زوجها وحاجة إلى فراقه، فتسأله فراقها، فإذا أجابها حصل المقصود من الخلع، فصحَّ كما لو كان بعوض. ¬

(¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) «ابن عابدين» (3/ 440)، و «الشرح الصغير» (1/ 44)، و «جواهر الإكليل» (1/ 332)، و «مغني المحتاج» (3/ 268)، و «الأم» (5/ 183)، و «المغني» (7/ 67)، و «كشاف القناع» (3/ 130)، و «الفتاوى» (32/ 304)، و «المحلي» (10/ 235).

الثاني: لا يصح إلا بعوض: وهو مذهب الشافعي والرواية الأخرى عن أحمد، وهو الذي استقر عليه متأخرو فقهاء الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام، والظاهر أنه مذهب ابن حزم، وحجتهم ما يلي: 1 - أن الله تعالى علَّق الخلع على مسمَّى الفدية، فقال عز وجل: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬1). 2 - أن امرأة ثابت بن قيس لما أرادت أن تخالع زوجها، قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فتردِّي عليه حديقته؟» قالت: نعم، فردَّت عليه، وأمره ففارقها (¬2) قلت: وهو في معنى الشرط. 3 - أن حقيقة الخلع: إن كان فسخًا - على ما هو الأرجح - فلا يملك الزوج فسخ النكاح إلا بعيبها. 4 - أنه لو قال: (فسخت النكاح) ولم ينو به الطلاق لم يقع شيء، بخلاف ما إذا دخله العوض فإنه يصير معاوضة، فلا يجتمع له العوض والمعوض. وعلى القول بأن الخلع طلاق، فهو كناية لا يقع إلا بالنية أو بذل المعوض، وههنا لم يوجد واحد منهما. وعلى فرض أنه طلاق وليس فيه عوض، لا يقتضي البينونة إلا أن تكمل الثلاث. الراجح: والذي يبدو لي أنه لا يكون خُلعًا إلا إذا كان على عوض، ولا أعرف في الكتاب أو السنة ما يدل على صحة الخلع بدون عوض، والله أعلم. مقدار العِوَض في الخلع: اختلف الفقهاء في مقدار العوض الذي يجوز بذله وأخذه، على ثلاثة أقوال (¬3): الأول: لا يُستحب أن يكون أكثر مما أعطاه: وهو قول الحنابلة، والظاهر منه ¬

(¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) صحيح: تقدم مرارًا. (¬3) «الهداية» (3/ 203)، و «البحر الرائق» (4/ 83)، و «حاشية الصاوي» (2/ 517)، و «روضة الطالبين» (7/ 374)، و «مغني المحتاج» (3/ 265)، و «المغني» (7/ 52)، و «المحلي» (10/ 240).

أنه يصح - عندهم - الخلع على أكثر من الصداق إلا أنه يكره، وبه قال ابن المسيب وطاووس والزهري وعطاء (¬1) ونقله الحافظ عن عليٍّ (¬2) وأبي حنيفة وإسحاق. واحتجوا بزيادة وردت في حديث امرأة ثابت بن قيس وفيه: «فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الحديقة ولا يزداد» (¬3) وهذه الطريقة معلَّة بالإرسال. ولها شواهد مرسلة منها ما جاء عن طريق عطاء - فذكر قصة المختلعة - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما الزيادة من مالك فلا» (¬4). الثاني: يجوز بما تراضيا عليه قلَّ أو كَثُر: وهو مذهب الجمهور، منهم مالك والشافعي، وابن حزم، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة والنخعي وغيرهم، وحجتهم ما يلي: 1 - قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬5). فهذا عموم يشمل ما افتدت به سواء كان بقدر ما أعطاه الزوج أو أكثر أو أقل. 2 - ما جاء من طريق عبد الله بن عقيل «أن الربيع بنت معوذ حدثته أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه، فخاصمته في ذلك إلى عثمان بن عفان فأجازه، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه» (¬6) قالوا: فدلَّ على أن للزوج أن يأخذ من زوجته في الخلع كل ما تملك من قليل أو كثير، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها (وهو ما يربط به الشعر بعد جمعه) ولم ينكر أحد من الصحابة على عثمان فيما أفتى به المرأة. 3 - عن نافع «أن ابن عمر جاءته مولاة اختلعت من كل شيء لها، وكل ثوب عليها حتى نفسها، فلم ينكر ذلك عبدُ الله» (¬7). ¬

(¬1) الأسانيد إليهم صحيحة، انظر «جامع أحكام النساء» (4/ 159). (¬2) إسناده ضعيف إلى على. أخرجه ابن حزم (10/ 240) من طريق عبد الرزاق، وفيه ليث ابن أبي سليم. (¬3) أُعلَّ بالإرسال: أخرجه ابن ماجة (2056)، وانظر «جامع أحكام النساء» (4/ 156). (¬4) مرسل: أخرجه عبد الرزاق (6/ 502)، وابن أبي شيبة (5/ 122)، وانظر «السابق» (4/ 158). (¬5) سورة البقرة: 229. (¬6) إسناده ليِّن: علَّقه البخاري في «الصحيح» (9/ 306) ووصله ابن حجر، وابن حزم (10/ 240) بسند لين. (¬7) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (11853).

الثالث: التفصيل حسب نشوز الزوج أو الزوجة: وهو قول الحنفية، قالوا: (أ) إن كان النشوز من جهة الزوج كُره له كراهة تحريم أخذ شيء منها، لقوله تعالى: {وإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬1). ولأنه أوحشها بالفراق فلا يزيد إيحاشها بأخذ المال. (ب) وإن كان النشوز من جهة الزوجة فله أن يأخذ ما تبذله ولو زاد على ما أعطاها، وعندهم رواية أخرى أنه لا يأخذ - في هذه الحالة - أكثر مما أعطاها. قلت: بقول الحنفية أقول عند إعضال الزوج وحدوث النشوز من جهته، وأما إن كان من جهتها فلا مانع من اتفاقهم على ما فوق مهرها إذا تراضيا، لعموم الآية الكريمة ولعدم ثبوت ردِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على مهرها، والله أعلم. فوائد تتعلق بالعوَض: [1] المهر المؤجَّل يصلح أن يكون عوضًا في الخُلع (¬2): لأنه دين في ذمة الزوج، والدين مال حكمي أي له حكم المال، فيدخل في عموم قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬3). [2] يجوز أن يكون العوض منفعة (¬4): كأن يخالعها على إرضاع ولده منها، أو من غيرها مدة معلومة - كما ذكر المالكية والشافعية - أو مطلقة - كما ذكر الحنابلة - فإن ماتت المرضعة أو الصبي أو جفَّ لبنها قبل ذلك، فعليها أجرة المثل لما بقي من المدة، لأنه عوض معين تلف قبل قبضه فوجبت قيمته أو مثله. [3] لا يجوز أن يكون العوض (إخراج المرأة من مسكنها (¬5): لأن سكناها فيه إلى انقضاء العدة حق لله، قال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} (¬6). فلا يجوز لأحد إسقاطه لا بعوض ولا بغيره. الركن الرابع: صيغة الخلع: وهو ما ينعقد به عقد الخُلع، وهو الإيجاب من أحد طرفي هذا العقد، والقبول من الطرف الآخر، فصيغة العقد ما يتحقق به الإيجاب والقبول. ¬

(¬1) سورة النساء: 20. (¬2) «فتح القدير» (3/ 216)، و «نهاية المحتاج» (6/ 391)، و «المفصَّل» (8/ 199). (¬3) سورة البقرة: 229. (¬4) «الدسوقي» (2/ 357)، و «روضة الطالبين» (7/ 399)، و «المغني» (7/ 64 - 65). (¬5) «البدائع» (3/ 153)، و «الدسوقي» (2/ 350 - الفكر)، و «مغني المحتاج» (3/ 265). (¬6) سورة الطلاق: 1.

والصيغة في إنشاء العقود تكون باللفظ، هذا هو الأصل، فإن تعذَّر اللفظ - كما في الأخرس والخرساء - فالصيغة تكون بالإشارة المفهمة. ألفاظ الخُلع (¬1): 1 - ألفاظ الخُلع عند الحنفية سبعة: (خالعتُك - باينتك - بارأتك - فارقتك - طلقي نفسك على ألف (مثلًا) والبيع: كبِعتُ نفسَك - والشراء: كاشتري نفسك). 2 - وألفاظ عند المالكية أربعة: (الخلع - الفدية - الصلح - المبارأة) وكلها تأول إلى معنى واحد، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها. 3 - وألفاظه عند الشافعية والحنابلة تنقسم إلى صرح وكناية: فالصريح المتفق عليه عندهم لفظان: لفظ (خلع) وما يشتق منه لأنه ثبت له العرف، ولفظ (المفاداة) وما يشتق منه لوروده في القرآن، وزاد الحنابلة لفظ (فسخ) لأنه حقيقة فيه، وهو من الكنايات عند الشافعية ومن الكنايات عندهم لفظ (بيع) و (المبارأة) و (أبنتك). وصريح الخلع وكنايته، كصريح الطلاق وكنايته عند الشافعية والحنابلة. والتحقيق: أن التعويل في الخلع على العوض، لا على مجرد اللفظ، فلا يشترط له لفظ معيَّن، ولا صيغة معينة، سواء كان بلفظ الخلع أو غيره، حتى لو بلفظ الطلاق، قال شيخ الإسلام: «... فمتى فارقها بعوض فهي مفتدية لنفسها به، وهو خالع لها بأي لفظ كان، لان الاعتبار في العقود بمعانيها لا بالألفاظ، وقد ذكرنا وبيَّنا أن الآثار الثابتة في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس وغيره تدلُّ دلالة بيِّنة أنه خلع، وإن كان بلفظ الطلاق ...» اهـ (¬2). وقال - رحمه الله -: «... فالفرق بين لفظ ولفظ في الخلع قول محدث، لم يُعرف عن أحد من السلف: لا الصحابة ولا التابعين، ولا تابعيهم، والشافعي - رضي الله عنه - لم ينقله عن أحد، بل ذكر أنه يحسب أن الصحابة يفرقون، ومعلوم أن هذا ليس نقلًا لقول أحد من السلف» اهـ (¬3). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 443)، و «الدسوقي» (2/ 351)، و «مغني المحتاج» (3/ 268)، و «المغني» (7/ 57)، و «المحلي» (10/ 235). (¬2) الفتاوى. (¬3) الفتاوى (32/ 300).

وقال ابن القيم: «وأيضًا فإنه سبحانه علَّق عليه أحكام الفدية بكونه فدية، ومعلوم أنَّ الفدية لا تختص بلفظ - ولم يُبيّن الله سبحانه لها لفظًا معينًا، وطلق الفداء طلاق مقيَّد ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطلق، كما لا يدخل تحتها في ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة، وبالله التوفيق» اهـ. (¬1). قلت: وهو الصحيح: أن الخلع فسخ بأي لفظ وقع ولو بلفظ الطلاق، بل ولو بنية الطلاق ما دام على عوض، وهذا هو المنقول عن ابن عباس وأصحابه وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه (¬2). ويبدو أنه مذهب الظاهرية والله أعلم. هل يشترط - لجواز الخُلع - إذنُ القاضي؟ (¬3) ذهب الحسن البصري إلى عدم جواز الخلع دون السلطان، واختاره أبو عبيد واستدل بقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله} (¬4). وقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها} (¬5). قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولم يقل: فإن خافا. قلت: وقد يحتج القائل بهذا - وإن كنت لم أره - بحديث امرأة ثابت بن قيس إذا رفعت الأمر - في إرادتها الخلع - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لا يفيد الشرطية كما لا يخفى. وذهب الجماهير من أهل العلم إلى جواز الخلع من غير إذن القاضي، واحتجوا بما يلي: 1 - أجابوا عن قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله} (¬6) بأن المراد منها: إذن الأئمة وتمكينهم من الخلع إذا خافوا عليهما عدم القيام بالواجب فيما إذا ارتفعوا إليهم، وليس المراد وجوب الترافع إليهم لأخذ الإذن منهم لإجازة الخلع فيما بينهم. ¬

(¬1) «زاد المعاد» (5/ 200). (¬2) «الفروع» (5/ 346)، و «الإنصاف» (8/ 393). (¬3) «فتح الباري» (9/ 308) - سلفية)، و «فتح القدير» (3/ 202)، و «المبسوط» (6/ 173)، و «الدسوقي» (2/ 347)، و «المغني» (7/ 52)، و «المحلي» (10/ 237). (¬4) سورة البقرة: 229. (¬5) سورة النساء: 35. (¬6) سورة البقرة: 229.

وعلى هذا فالأئمة والحكام يمنعونهم من الخلع عند عدم هذا الخوف بالقول والفتوى، وليس بالحكم والالتزام. 2 - قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬1). فيه إباحة الأخذ من الزوجة بتراضيهما من غير سلطان. 3 - عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: أُتي بشر بن مروان في خلع كان بين رجل وامرأة فلم يجزه، فقال له عبد الله بن شهاب الخولاني: «قد أُتي عمر في خلع فأجازه» (¬2) أي بدون إذن السلطان. 4 - أن الطلاق جائز دون الحاكم وإذنه، فكذلك الخلع. 5 - أن الخلع عقد معاوضة فلم يفتقر إلى السلطان كالبيع والنكاح. والراجح: قول الجمهور - بلا شك - لعدم الدليل على اشتراط إذن القاضي، لكن ينبغي أن يلاحظ ما ذكرناه من أهمية الإشهاد على الطلاق وتوثيقه، فالأمر في الخلع أعظم، والله أعلم. هل للقاضي أن يحكم بالخلع من غير رضا الزوج؟ (¬3) تقدم في قصة امرأة ثابت «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «فتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فردَّت عليه وأمره ففارقها» وهو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب - عند الجمهور - فلذا فإنه لا يصح الخلع إلا برضا الزوج، ولذا قال ابن حزم: «فلها أن تفتدي منه، ويطلقها إن رضى هو» اهـ. لا يشترط الطُّهر لصحة الخُلع: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخلع جائز في كل وقت، حتى ولو في الحيض، أو في الطهر الذي جامعها فيه، لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بتطويل العدة، والخلع شُرع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة، والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وذلك أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما - أي الضررين - بأدناهما، ولذلك لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلعة عن ¬

(¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) علَّقه البخاري (9/ 306)، ووصله ابن أبي شيبة. (¬3) «المحلي» (10/ 235)، و «فتح الباري» (9/ 312 - سلفية).

حالها، ولأن ضرر تطويل العدة عليها، والخلع يحصل بسؤالها فيكون ذلك رضا منها به، ودليلًا على رجحان مصالحها فيه (¬1). قلت: وهذا مما يزيد الاطمئنان إلى ترجيح أن الخلع فسخ وليس بطلاق فتأمَّل!! اختلاف الزوجين في الخُلع أو في العِوَض (¬2): 1 - إذا أقر الزوج الخُلع، والزوجة تنكره: بانت بإقراره اتفاقًا، وأما دعوى المال: فتبقى بحالها - كما ذكر الحنفية - ويكون القول قولها فيها، لأنها تنكر، وعند الجمهور: القول قولها - في نفس العوض - بيمينها. 2 - أما إذا ادَّعت الزوجة الخلع، والزوج ينكره، فإنه لا يقع كيفما كان - كما ذكر الحنفية - ويصدَّق الزوج بيمينه في هذه المسألة عند الشافعية، لأن الأصل عدمه، والقول قوله وعند الحنابلة: لا شيء عليه لأنه لا يدعيه. 3 - إذا اتفقا على الخلع، واختلفا في قدر العِوَض أو جنسه أو حلوله أو صفته، فالقول قول المرأة - عند الحنفية والحنابلة في رواية. وعند المالكية: القول قولها بيمينها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «البينة على المدَّعى، واليمين على من أنكر». وفي رواية عن أحمد: أن القول قول الزوج، لأن البُضع يخرج من ملكه فكان قوله في عوضه. وعند الشافعية: إن كان لأحدهما بيِّنة عمل بها، وإن لم يكن لأحدهما بيِّنة، أو كان لكل منهما بيِّنة وتعارضتا: تحالفا كالمتابعين، ويجب ببينونتهما بفوات العوض مهر المثل - وإن كان أكثر مما ادَّعاه - لأنه المردُّ!! عِدَّةُ المُخْتَلِعَة: اختلف أهل العلم في عدَّة المختلعة، على قولين (¬3): ¬

(¬1) «المغني» (7/ 52)، وانظر نحوه في «المجموع» (16/ 13). (¬2) «ابن عابدين» (2/ 564 - ط. بولاق)، و «جواهر الإكليل» (1/ 336)، و «مغني المحتاج» (3/ 277)، و «المغني» (7/ 93)، و «كشاف القناع» (5/ 230). (¬3) «فتح القدير» (3/ 269)، و «الدسوقي» (2/ 468)، و «روضة الطالبين» (8/ 365)، و «المغني» (7/ 449)، و «الإنصاف» (9/ 279)، و «مجموع الفتاوى» (32/ 323) وما بعدها.

الأول: عدة المختلعة هي عدَّة المطلَّقة (ثلاثة قروء): وهو قول الجمهور: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة - في المذهب - وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي والنخعي والزهري وغيرهم، وحجة هذا القول: 1 - أن الخلع طلاق (!!) فتدخل المختلعة في عموم قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (¬1). وقد أُجيب عنه (¬2): بأنه لا يجوز الاحتجاج بالآية حتى يبين أن المختلعة مطلقة، وهذا محل النزاع، وقد تقدم تحريره، ولو قُدِّر شمول نص الآية لها، فالخاص يقضي على العام، والآية قد استُثنى منها غير واحدة من المطلقات: كغير المدخول بها، والحامل، والأمة التي لم تحض، وإنما تشمل المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة. 2 - أنها فرقة بعد الدخول، فكانت ثلاثة قروء كغير الخلع!! وأُجيب (¬3): لا يُسلَّم أن العلة في الأصل مجرد الوصف المذكور، ولا يسلَّم الحكم في جميع صور القياس، ثم هو منقوض بالمفارقة لزوجها وقد دلت السنة على أن الواجب منهما الاستبراء. 3 - عن نافع عن ابن عمر قال: «عدَّتها - أي: المختلعة - عدَّة المطلَّقة» (¬4). وأجيب: بأنه قد ثبت عن ابن عمر أيضًا خلافه، فعن نافع عن ابن عمر قال: «عدَّةُ المختلعة حيضة» (¬5). ويؤيد هذه الرواية أن نافعًا - أيضًا - سمع الرُّبيع بنت مُعوِّذ وهي تخبر عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان، فجاء عمُّها إلى عثمان بن عفان، فقال له: إن ابنة معوِّذ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل؟ فقال عثمان: «لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حبل» فقال ابن عمر: «فعثمان خيرنا وأعلمنا» (¬6) فلعل ابن عمر رجع عن قوله الأول. ¬

(¬1) سورة البقرة: 228. (¬2)، (3) «مجموع الفتاوى» (32/ 328). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ». (¬4) (¬5) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (2230). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حزم في «المحلي» (10/ 237)، والبيهقي (7/ 450).

القول الثاني: عدة المختلعة حيضة واحدة: وهو قول عثمان بن عفان وابن عمر وابن عباس وهو رواية عن أحمد، وإسحاق وابن المنذر، واختيار شيخ الإسلام، وحجتهم: 1 - حديث الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألته: ماذا عليَّ من العدة؟ فقال: «لا عدة عليك إلا أن تكوني حديثة عهد به فتمكثي حتى تحيضي حيضة، قال: «وأنا مُتَّبع في ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مريم المغالية، كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فاختلعت منه» (¬1). 2 - وهو يقوِّي حديث ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعلت النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّتها حيضة» (¬2). 3 - وعن الربيع بنت معوذ أن: ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي، فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثابت فقال له: «خذ الذي لها عليك وخلِّ سبيلها» قال: نعم، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتربَّص حيضة واحدة فتلحق بأهلها» (¬3). وقد اعتُرض على حديث امرأة ثابت بن قيس بأن الروايات اختلفت في تسمية زوجة ثابت، ففي بعضها: جميلة بنت عبد الله بن أبي، وفي بعضها: حبيبة بنت سهل (¬4)؟! وأجاب شيخ الإسلام: بأن هذا مما اختلفت فيه الرواية، فإما أن يكونا قصتين أو ثلاثًا، وإما أن أحد الروايتين غلط في اسمها، وهذا لا يضر مع ثبوت القصة، فإن الحكم لا يتعلق باسم امرأته، وقصة خلعه لامرأته مما تواترت به النقول، واتفق عليه أهل العلم. اهـ (¬5). 4 - ما تقدم في قصة الربيِّع بنت معوذ وعمَّها مع عثمان وفُتياه بأن تعتدَّ بحيضة، وإقرار ابن عمر له. ¬

(¬1) صحيح بطرقه: تقدم قريبًا. (¬2) حسن بما قبله: أخرجه أبو داود (2229) وغيره بسند ضعيف يتقوَّى بما قبله. (¬3) أخرجه النسائي (6/ 186). (¬4) أخرجه مالك (2/ 564)، وأبو داود (2227)، والنسائي (6/ 169) بسند صحيح عن حبيبة بنت سهل أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت قصة مخالعتها لثابت بن قيس. (¬5) «مجموع الفتاوى» (32/ 329).

الإيلاء

قال ابن القيم (¬1): «فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والربيِّع بنت معوِّذ، وعمِّها وهو من كبار الصحابة، لا يعرف لهم مخالف منهم» اهـ. 5 - أن القول بأن عدَّة المختلعة حيضة «هو مقتضى قواعد الشريعة: فإن العدة إنما جُعلتْ ثلاث حيض ليطول زمن الرَّجعة، فيتروَّى الزوج، ويتمكن من الرجعة في مدة العدة، فإذا لم تكن عليها رجعة، فالمقصود مجرَّد براءة رحمها من الحمل، وذلك يكفي فيه حيضة، كالاستبراء، قالوا: ولا ينتقض هذا علينا بالمطلقة ثلاثًا، فإن باب الطلاق جُعل حُكم العدَّة فيه واحدًا بائنة ورجعيه» (¬2). الراجح: الذي يبدو أن القائلين بأن عدة المختلعة حيضة أسعد بالدليل، من الأحاديث المرفوعة وأقوال الصحابة، فبقولهم نقول، والله أعلم. الإيلاء تعريف الإيلاء: الإيلاء لغةً: الحلف واليمين، من: آلي، يؤلي إيلاءً، والاسم منه الأليّة. والإيلاء اصطلاحًا: حلف الزوج على ترك وطء زوجته مدة معينة. مشروعيته وحُكمه: 1 - والأصل في مشروعة الإيلاء: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3). 2 - والأصل في الإيلاء الحَظر لما فيه من الضرر والإيذاء للزوجة، ولأنه قد يأول إلى الطلاق - كما سيأتي - ويتأكد هذا الحَظر إذا كان إيلاء الزوج بقصد الإضرار بالزوجة، فقوله تعالى: {فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬4). «يقتضي أنه قد تقدم ذنب وهو الإضرار بالمرأة في المنع من الوطء» (¬5). 3 - لكن إذا كان الإيلاء بقصد تأديب الزوجة وتربيتها على ما ينبغي أن تكون ¬

(¬1) «زاد المعاد» (5/ 197). (¬2) «زاد المعاد» (5/ 197). (¬3) سورة البقرة: 226، 227. (¬4) سورة البقرة: 226. (¬5) «أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 183).

عليه نحو زوجها فإنه يباح حينئذٍ بشرط ألا تتجاوز مدة الإيلاء أربعة أشهر، فعن أنس قال: «آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، وكانت انفكت رجله فأقام في مشربُة له تسعًا وعشرين، ثم نزل، فقالوا: يا رسول الله، آليت شهرًا (!!) فقال: «الشهر تسع وعشرين» (¬1) وليس إيلاؤه - صلى الله عليه وسلم - من الإيلا المحظور قطعًا (¬2). ومما يؤيد جواز الإيلاء لأجل التأديب - على الشرط المذكور - قوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} (¬3). وقد تقدم في «الشقاق بين الزوجين». أركان الإيلاء: من تعريف الإيلاء يتبيَّن أنه يستلزم وجود ستة عناصر، هي عند الشافعية (¬4) أركانه: حالف - محلوف عليها - محلوف به - محلوف عليه - مدة - صيغة. [1] الركن الأول: الحالف (الزوج): ويشترط فيه أن يكون بالغًا عاقلًا باتفاق الفقهاء (¬5)، واختلف فيما عدا ذلك، وذهب الجمهور، خلافًا للمالكية إلى أنه يصح الإيلاء من غير المسلم لدخوله في عموم الآية وإن لم يدخل في أهل المغفرة والرحمة (¬6). وإذا كان الزوج عاجزًا عن الوطء تمامًا (كالمجبوب والخصي ونحوهما) فقال الجمهور - خلافًا للحنفية -: لا يصح إيلاؤه، لأنه يكون على ترك مستحيل فلم تنعقد، ولأنه لم يتحقق منه قصد الإيذاء والضرر بالزوجة لامتناع الأمر في نفسه (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5289)، والنسائي (6/ 166)، والترمذي (685). (¬2) على أن رأي معظم الفقهاء - كما نقله في الفتح (9/ 427) - أن إيلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى الحلف وليس من الإيلاء المعروف في كتب الفقه!! (¬3) سورة النساء: 34. (¬4) «مغني المحتاج» (3/ 343). (¬5) «البدائع» (3/ 171)، و «الشرح الصغير» (1/ 478)، و «مغني المحتاج» (3/ 343)، و «المغني» (7/ 298). (¬6) «حاشية الصاوي على الشرح الصغير» (1/ 478)، و «المغني» (7/ 314). (¬7) «فتح القدير» (3/ 195)، و «الشرح الصغير» (1/ 478)، و «مغني المحتاج» (3/ 344)، و «المغني» (7/ 314).

[2] الركن الثاني: المحلوف عليها (الزوجة): 1 - ويشترط أن تكون زوجة بنكاح صحيح، حتى يصدق عليها قوله تعالى {من نسائهم} في آية الإيلاء. وإذا كانت معتدَّة من طلاق رجعي صحَّ إيلاؤه منها في عدتها، لأنها زوجة له كما تقدم، أما إذا كانت معتدة من طلاق بائن، فلا يصح إيلاؤه منها لزوال رابطة الزوجية بينهما. وهل يصح إيلاؤه من زوجته قبل الدخول بها؟ فالجواب: يصح إيلاؤه كذلك عند الجمهور لعموم قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم} (¬1). ولأن الزوج المولى ممتنع من الوطء بيمينه فأشبه ما بعد الدخول (¬2). 2 - ويشترط في الزوجة - عند الحنابلة والشافعية - أن تكون صالحة للوطء، فلا يصح الإيلاء من الرتقاء والقرناء (¬3) لأن الوطء متعذر دائمًا فلم تنعقد اليمين على تركه، ولم يتحقق قصد الإيذاء أو الإضرار. وقال الحنفية لا يشترط كونها صالحة للوطء لعموم الآية (¬4). [3] الركن الثالث: المحلوف به: وهو على نوعين: يمين بالله تعالى، ويمين بالشرط والجزاء. (أ) الحلف بالله تعالى (¬5): إذا حلف باسم من أسماء الله تعالى [أو صفة من صفاته] أن لا يقرب زوجته، فهذا إيلاء بلا خلاف بين أهل العلم. ولو حلف بغير الله كالنبي أو الملائكة أو الكعبة ونحو ذلك أن لا يطأ زوجته، فهذا لا ينعقد إيلاءً لأنه لا ينعقد حلفًا، في أصحِّ قولي العلماء وبه قال مالك وابن حزم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (¬6). ¬

(¬1) سورة البقرة: 226. (¬2) «المغني» (7/ 313). (¬3) (الرتق): لحم ينبت في الفرج يمنع الوطء، و (القرن): عظم في الفرج يمنع الوطء. (¬4) «فتح القدير» (3/ 195). (¬5) «فتح القدير» (3/ 183)، و «المجموع» (16/ 290)، و «المغني» (7/ 298)، و «المحلي» (10/ 42 - 43). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (6646)، ومسلم (1646).

قال الحافظ في الفتح (11/ 533): فيه من الفوائد: أن من حلف بغير الله مطلقًا لم تنعقد يمينه ... ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله ولا بما يقوم مقام ذلك. اهـ. (ب) الحلف بالشرط والجزاء: ومثاله أن يقول لزوجته: (إن جامعتُكِ فعليَّ الحجُّ، أو فزوجتي الأخرى طالق) ونحو ذلك فهو يصح الإيلاء بالحلف بمثل هذا؟ فيه قولان (¬1): الأول: يُعتبر إيلاءً: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - ورواية عن أحمد وبه قال الثوري وأبو ثور وأبو عبيد وهو مروي عن ابن عباس، وحجتهم ما يلي: 1 - أن اليمين - في اللغة عبارة عن القوة، والحالف يتقوَّى بهذه الأشياء على الامتناع من قربان زوجته في مدة الإيلاء، فكان في معنى اليمين بالله!! 2 - ولأن تعليق الطلاق والعتق ونحوهما على وطئها حلف. الثاني: لا يُعتبر إيلاءً: وهو مشهور مذهب أحمد والشافعي في القديم وبه قال ابن حزم، وحجتهم: 1 - أن الإيلاء المطلق - في الآية - هو القسم، والتعليق بشرط ليس بقسم ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم ولا يجاب بجوابه، ولا يذكره أهل اللغة العربية في باب القسم، فلا يكون إيلاءً، قالوا: ويدل على ذلك قوله تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} (¬2). وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله. 2 - أن الشرع قد نهى عن الحلف بغير الله تعالى كما في الحديث المتقدم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (¬3) فصحَّ أن من حلف بغير الله فلم يحلف بما أمره الله تعالى، فليس حالفًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (¬4). الراجح: قد صحَّ اعتبار اليمين التي يقصد بها الشرط والجزاء حلفًا كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «من ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 166)، و «الدسوقي» (2/ 426)، و «مغني المحتاج» (3/ 344)، و «المغني» (7/ 298)، و «كشاف القناع» (3/ 216)، و «المحلي» (10/ 42 - 43). (¬2) سورة البقرة: 226. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: تقدم كثيرًا.

حلف فقال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا» (¬1) فالذي يترجح لدى قول الجمهور (القول الأول) والله أعلم. [4] الركن الرابع: المحلوف عليه (الوطء) (¬2): إذا حلف الزوج على ترك وطء زوجته، فهذا إيلاء، والمقصود بالوطء: الوطء في الفرج، أي في قُبُل الزوجة لا دبرها. فإذا حلف أن لا يطأها فيما دون الفرج، فلا يكون موليًا في قول أكثر أهل العلم. [5] الركن الخامس: مدة الإيلاء: اختلف أهل العلم في المدة التي لو حلف الزوج على ترك جماع زوجته فيها يكون موليًا على ثلاثة أقوال: الأول: إذا حلف على أربعة أشهر أو أكثر: وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وهو قول عطاء والثوري، وحجتهم: أنه ممتنع من الوطء باليمين أربعة أشهر، فكان موليًا كما لو حلف على ما زاد، ولا فرق. الثاني: إذا حلف على أكثر من أربعة أشهر: هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور، وبه قال طاووس وسعيد بن جبير والأوزاعي وأبو ثور وأبو عبيد، وهو مروي عن ابن عباس، وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} (¬3). فقد جعل الله تعالى للمولى أربعة أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها. 2 - أن الآية جعلت للمولى تربُّص أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها فلا معنى للتربُّص، لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائها، لأن المطالبة بالفيء إنما تكون بعد أربعة أشهر، فإذا انقضت المدة بأربعة أشهر فما دون، لم تصح المطالبة من غير إيلاء. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3258)، والنسائي (3772)، وابن ماجة (2100)، وأحمد (5/ 356). (¬2) «البدائع» (3/ 171)، و «فتح القدير» (3/ 182)، و «الدسوقي» (2/ 428)، و «المجموع» (16/ 300)، و «المغني» (7/ 300)، و «كشاف القناع» (3/ 216)، و «المحلي» (10/ 42). (¬3) سورة البقرة: 226.

3 - أن القول الأول مبناه على أن الفيئة في مدة الأربعة أشهر - وهو مذهب أبي حنيفة خلافًا للجمهور - وظاهر الآية خلافه، فإن الله تعالى قال: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا} (¬1). فعقَّب الفيء عقيب التربص بفاء التعقيب، وهذا يدل على تأخرها عنها. 4 - ولأن الضرر لا يتحقق بترك الوطء فيما دون أربعة أشهر، ويدلُّ عليه: أن عمر سأل النساء «كم تصبر المرأة عن زوجها؟» فقلن: لا يزيد عن أربعة أشهر، فكتب عمر إلى أمراء الأجناد «أن لا تحبسوا الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر» (¬2). الثالث: إذا حلف على أيَّة مدة قلَّت أو كثرت يكون إيلاءً: وهو قول النخعي وقتادة وحماد وابن أبي ليلة وإسحاق، وابن حزم، وحجتهم: 1 - أن المدة المذكورة في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} (¬3). هي المحدَّدة للموُلى، فإن فاء بعدها وإلا طلق حتمًا، وليست بيانًا للمدة التي لا يصح الإيلاء بدونها. 2 - وأما المدة التي يحلف عليها فهذه مطلقة في الآية. 3 - القياس على من حلف على أكثر من أربعة أشهر أن لا يقرب زوجته، فإنه يكون موليًا، لأنه قصد الإضرار باليمين أي بإيلائه من زوجته، وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة. قلت: وهذا الأخير أقرب، وقد يتأيَّد بحديث أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهرًا» (¬4)، وعليه فإن من حلف أن لا يطأ زوجته مدة لا يخلو من أحد حالين (¬5): 1 - أن تكون هذه المدة أقل من أربعة أشهر: فالأفضل له أن يرجع عن يمينه ويجامعها ويكفِّر عن يمينه (¬6)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه» (¬7). ¬

(¬1) سورة البقرة: 226. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور (2/ 174)، والبيهقي (9/ 29). (¬3) سورة البقرة: 226. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا. (¬5) من كتابي «فقه السنة للنساء» (ص: 470، 471). (¬6) وعلى القول بالكفارة أكثر أهل العلم، انظر «ابن عابدين» (3/ 427)، و «الأم» (5/ 248)، و «جواهر الإكليل» (1/ 368). (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1650) وغيره وقد تقدم.

فإذا لم يكفِّر عن يمينه ومضى في إيلائه، فيجب على الزوجة أن تصبر حتى تنقضي مدة إيلائه التي سمَّاها، وليس لها أن تطالبه بالطلاق. 2 - أن تكون هذه المدة أكثر من أربعة أشهر: فالأفضل له - كذلك - أن يطأها ويكفِّر عن يمينه، فإذا لم يفعل، فيجب على الزوجة أن تصبر حتى تمضي أربعة أشهر ثم يكون لها الحق في مطالبته بالجماع أو بالطلاق كما سيأتي: إذا انقضت الأربعة أشهر ولم يرجع، فماذا يجب؟ قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1). وقد اختلف أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم في مسألة الباب نظرًا لاختلافهم في فهم الآية الكريمة حتى قال ابن العربي - رحمه الله -: «اختلف الصحابة والتابعون في وقوع الطلاق بمضي المدة، هذا وهم القدوة الفصحاء اللُّسن البلغاء من العرب العُرْب، فإذا أشكلت عليهم، فمن ذا الذي يتضح له منا بالأفهام المختلة واللغة المعتلَّة؟ ...» اهـ (¬2). وبناء على هذا، كان لأهل العلم قولان (¬3): الأول: أنه بمجرد مُضِيِّ المدة وعدم فيئته - تقع طلقة واحدة: والقائلون بهذا منهم من قال تقع طلقة بائنة، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء والحسن والنخعي والأوزاعي، وهو مذهب الحنفية. ومنهم من قال: تقعُ واحدة رجعية، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري واحتجوا جميعًا على وقوع الطلاق بمضي المدة، بما يلي: 1 - ابن مسعود قرأ: {فإن فاءوا - فيهن - فإن الله غفور رحيم}. 2 - أن الله تعالى جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئة بعدها، لزادت على مدة النص، وذلك غير جائز. 3 - أنه لو وطئها في مدة الإيلاء، لوقعت الفيئة، فدلَّ على استحقاق الفيئة فيها. ¬

(¬1) سورة البقرة: 226، 227. (¬2) «أحكام القرآن» لأبي بكر بن العربي (1/ 180). (¬3) «البدائع» (3/ 176)، و «فتح القدير» (3/ 184)، و «جواهر الإكليل» (1/ 369)، و «الأم» (5/ 256)، و «المغني» (7/ 318)، و «زاد المعاد» (5/ 345 - 350) وفيه بحث مستفيض.

الثاني: إذا مضت المدة فإن القاضي يوقفه ويأمره بالفيئة أو الطلاق: فإن أبي أن يفيء ويجامعها، وأبي تطليقها، طلَّقها عليه القاضي، وهذا مذهب الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وبه قال ابن المسيب ومجاهد وطاووس وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر، وهو المروي عن كثير من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة وأبو الدرداء - رضي الله عنهم -، ومن أدلتهم: 1 - أن ظاهر الآية الكريمة أن الفيئة تكون بعد أربعة أشهر لذكر الفيئة بعد المدة (بالفاء) المقتضية للتعقيب، ثم قال تعالى: {وإن عزموا الطلاق ...} (¬1). ولو وقع الطلاق بمضي المدة، لم يحتج إلى عزم عليه، فعلى هذا فإن الآية تدل على تخيير المولى بين الفيئة والطلاق بعد مضي المدة. 2 - قوله تعالى: {فإن الله سميع عليم} (¬2). يقتضي أن الطلاق مسموع ولا يكون المسموع إلا كلامًا. 3 - أن الإيلاء يمين يمنع من الجماع أربعة أشهر، لأن اللفظ يدل عليه فقط، ولا يدل على الطلاق، فالقول بوقوع الطلاق بمضي المدة قول بالوقوع من غير إيقاع، وهذا لا يجوز. 4 - قوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} (¬3). والعزم هو ما عزم العازم على فعله، ولا يكون ترك الفيئة عزمًا على الطلاق. 5 - أنه قول أكثر الصحابة: فعن سليمان بن يسار قال: «أدركتُ بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يُوقِفُ الموُلى» (¬4). وعن أبي صالح قال: سألت اثنى عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يولى، فقالوا: «ليس عليه شيء حتى يمضي أربعة أشهر، فإن فاء وإلا طلَّق» (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة: 227. (¬2) سورة البقرة: 227. (¬3) سورة البقرة: 227. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه الشافعي - كما في مسنده - (2/ 82) شفاء العي، والدارقطني (4/ 61). (¬5) أخرجه الدارقطني (4/ 61) وانظر الآثار عن عليٍّ وابن عمر وعائشة في «شفاء العي بتخريج مسند الشافعي» (2/ 82 - 84)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 197 - 198).

الظهار

الراجح: أنه إذا مضت المدة ورفعت المرأة أمرها للقضاء، فإن القاضي يوقفه ويخيِّره بين الفيئة وبين تطليق امرأته، فإن أبى طلَّقها عليه، ويكون هذا الطلاق - سواء طلَّق الزوج أو طلق عليه القاضي - طلاقًا بائنًا على الأرجح وهو مذهب أبي حنيفة لأنها فرقة لرفع الضرر، فيجب أن تكون بائنًا، ولأنها لو كانت رجعية لم يندفع الضرر، لأنه يستطيع أن يرتجعها فيبقى الضرر. والله تعالى أعلم. [6] الركن السادس: لفظ الإيلاء وصيغته (¬1): التحقيق أن يقال: كل لفظ دلَّ بنفسه على الامتناع عن وطء الزوج زوجته في فرجها وكانت هذه الدلالة هي المتبادرة إلى الذهن لجريان العرف بأن هذا هو المراد، فإن هذا اللفظ يعتبر صريحًا في دلالته على الإيلاء. وكل لفظ لا يصل في دلالته على الإيلاء إلى هذا الحد، فلا يكون صريحًا في الإيلاء، وإنما هو كناية يفتقر إلى النية لوقوع الإيلاء به، ويصدَّق الزوج فيما أراده منه - في أحكام الدنيا - ولا يصدَّق في اللفظ الصريح أنه لم يرد به الإيلاء في أحكام الدنيا. الظِّهَار تعريف الظِّهار: الظهر من كلِّ شيء خلاف البطن، والظِّهار من النساء، وظاهر الرجل امرأته مظاهرة وظِهارًا إذا قال: (هي عليَّ كظهر أمي) (¬2). والظهار اصطلاحًا: «أن يشبِّه امرأته أو عضوًا منها بمن تحرم عليه - ولو إلى أمد - أو بعضو منها» (¬3) قال ابن قدامة: «وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء، لأن كل مركوب يسمى ظهرًا لحصول الركوب على ظهره في الأغلب فشبهوا الزوجة بذلك» (¬4). تكييفه الشرعي: الظهار ليس من فرق النكاح، ولكنه يفوِّت ما يفوت بالفرقة البائنة بين الزوجين ¬

(¬1) «المفصَّل» (8/ 258) بتصرف يسير. (¬2) «لسان العرب» لابن منظور، بتصرف. (¬3) «غاية المنتهى» (3/ 190). (¬4) «المغني» لابن قدامة (7/ 337).

(حلَّ الوطء) ما دام حكم الظهار قائمًا، فيحرم على المُظاهر وطء زوجته ما دام الظهار قائمًا، فناسب أن يُبحث مع مسائل فرق النكاح، وإلا فلَيس هو بفرقة. وقد كانوا في الجاهلية يعتبرون الظهار طلاقًا، تحرم زوجة الرجل به كتحريم الأم، فأبطل الله تعالى ذلك، وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقًا. حكم الظهار: الظهار من جهة حكم فعله: حرام، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬1). قال ابن القيم «إن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه، لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور، فكلاهما حرام، والفرق بين جهة كونه منكرًا وجهة كونه زورًا، أن قوله: (أنت عليَّ كظهر أمي) يتضمن إخبارًا عنها بذلك، وإنشاء تحريمها، فهو يتضمن إخبارًا وإنشاءً، فهو خبر زور، وإنشاء منكر» (¬2) اهـ. أركان الظهار وما يتعلق بها: يتبيَّن من تعريف الظهار أنه يستلزم وجود: مُظاهر (الزوج) ومظاهر منها (الزوجة) ومظاهر به أي مشبه به (الأم) وصيغة الظهار. [1] الركن الأول: المُظاهِر (الزوج): الظهار لا يملك إيقاعه إلا الزوج - لا الزوجة - قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} (¬3). ولم يقل: واللائي يظاهرون منكن من أزواجهن، فدلَّ على أنه لا يظاهر إلا الزوج، ولأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الزوج لا بيد زوجته، وقد نقل ابن العربي - رحمه الله - على هذا إجماع أهل العلم (¬4). والقاعدة فيما يشترط في الزوج الذي يصح ظهاره أن: «كل زوج صحَّ ظهاره، ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهارُه» (¬5). ¬

(¬1) سورة المجادلة: 2. (¬2) «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 326). (¬3) سورة المجادلة: 2. (¬4) «أحكام القرآن» لابن العربي (4/ 1739). (¬5) «المغني» (7/ 388 - 399).

إذا ظاهرت الزوجة من زوجها (!!) فما الحكم؟ (¬1) تقدم أنه لا يقع الظهار إلا إذا صدر عن الزوج، لكن لو قالت المرأة لزوجها مثلًا: (أنا عليك كظهر أمك- أو - أنت عليَّ كظهر أبي): فذهب الحنابلة - وهو اختيار شيخ الإسلام- إلى أن عليها - إذا وطئها زوجها - كفارة ظهار، وإن كان قولها لم يقع به الظهار، لما صحَّ: «أن عائشة بنت طلحة ظاهرة من المصعب بن الزبير إن تزوجته، فاستُفتى لها فقهاء كثيرة بالمدينة، فأمروها أن تكفِّر، فأعتقت غلامًا لها ثمنه ألفين» (¬2). قالوا: فأفتاها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -بالكفارة، ولأنها زوج أتى بالمنكر من القول والزور كالآخر، ولأن الظهار يمين مُكفَّرة فاستوي فيها المرأة والرجل. وذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم إلى أن ظهارها لغو، لأن التحريم ليس إليها وهي لا تملك الظهار بالقول - كما تقدم - فلا حرمة عليها إذا مكَّنته من نفسها، ولا كفارة عليها، لا كفارة ظهار ولا كفارة يمين. قلت: ومذهب الجمهور أرجح، لأنهم جميعًا متفقون على أنه لا يقع بقولها ظهار فكيف رُتِّب عليه ظهار الرجل؟! ثم كيف يكون عليها كفارة ظهار والظهار لم يقع، والله أعلم. [2] الركن الثاني: المُظاهَر منها (الزوجة) (¬3): ويشترط في المظاهر منها أن تكون زوجة شرعًا للمظاهر، أي تكون مرتبطة به بعقد نكاح صحيح، وأن تكون الزوجية بينهما قائمة، فيصحُّ الظهار من المطلَّقة الرجعية في عدَّتها لأنها زوجته حكمًا حتى تنتهي عدتها. وهل يظاهر من الأَمَة؟ ذهب الجمهور إلى أنه لا يصحُّ ظهار الأمة لعدم دخولها في قوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِن نِّسَائِهِمْ} (¬4). قالوا: وليست الأمة من النساء، أي الأزواج. وقال مالك - رحمه الله - يصح الظهار من الأمة لعموم لفظ النساء. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 467)، و «الدسوقي» (3/ 439)، و «كشاف القناع» (3/ 229). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرازق (6/ 433)، وسعيد بن منصور (1848). (¬3) «البدائع» (3/ 233)، و «مغنى المحتاج» (3/ 353)، و «فتح الباري» (9/ 434 - المعرفة). (¬4) سورة المجادلة: 2.

[3] الركن الثالث: المظاهَر به (المشبَّه به): تشبيه الزوج امرأته بمن تحرم عليه يُتصوَّر أن يكون على ثلاثة أَضْرُب: (أ) أن يشبهها بأمِّه فيقول: (أنت عليَّ كظهر أمي) فهذا ظهار بإجماع أهل العلم، ومستنده الأحاديث الواردة في الظهار، ومنها: حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أن سلمان بن صخر الأنصاري - أحد بني بياضة- جعل امرأته عليه كظهر أُمِّه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلًا، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فذكر ذلك له، فقال له: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اعتق رقبة» قال: لا أجدها، قال: «فصُمْ شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، قال: «أطعم ستين مسكينًا» قال: لا أجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لعروة بن عمرو: «أعطه ذلك الفرق» وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعًا أو ستة عشر صاعًا، فقال: «أطعم ستين مسكينًا» (¬1). (ب) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا: كأخته وخالته وعمته وجدته فهذا الضرب اختلف أهل العلم في وقوع الظهار به، على قولين (¬2): الأول: لا يكون الظهار إلا بالأم والجدة: وهو قول الشافعي - القديم - ومذهب الظاهرية واختاره الصنعاني - رحمهم الله - قالوا: لأن النص لم يرد إلا في الأم والجدَّة أم يشملها النص كذلك، قالوا: وما ذكر من إلحاق غيرها فبالقياس وملاحظة المعنى، ولا ينتهض دليلًا على الحكم. الثاني: أن يكون ظهارًا: وهو قول أكثر أهل العلم وجمهورهم، منهم: الحسن وعطاء والشعبي والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي - في الجديد - وأحمد، وحجتهم ما يلي: 1 - أنهن محرمات بالقرابة، فأشبهن الأم. 2 - وردُّا على القول الأول: بأنه قد جاء في الآية الكريمة {وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا} (¬3). وهذا موجود في مسألتنا، فجرى مجراه. ¬

(¬1) حسن لغيره: أخرجه الترمذي (1200)، وأبو داود (2217)، وابن ماجه (2062)، والبيهقي (7/ 390). (¬2) «البدائع» (3/ 234)، و «الدسوقي» (2/ 439)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354). و «المغنى» (7/ 340)، «المحلى» (10/ 50). (¬3) سورة المجادلة: 2.

3 - وبأن تعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها، إذا كانت مثلها. قلت: وهذا القول قوي ومتجه، لاسيما وأن النص ليس فيه أن الظهار لا يكون إلا بالأم، وغاية ما فيه إثباته إذا ظاهر بأمِّه، والله أعلم. فائدة: يستوي في هذه المسألة الأم، والأخت والخالة والعمة من النسب ومن الرضاع. (جـ) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريمًا مؤقتًا: كأخت زوجته وخالتها وعمتها، وهذا الضرب اختُلف في اعتباره ظهارًا على قولين (¬1): الأول: لا يكون ظهارًا: وهو مذهب الحنفية والشافعي ورواية عن أحمد، وهو مذهب الظاهرية بالطبع، لأنها غير محرَّمة على التأبيد، فلا يكون التشبيه بها ظهارًا كالحائض. الثاني: يكون ظهارًا: وهو مذهب المالكية ورواية عن أحمد، وهو المذهب عند متأخري الحنابلة، وردُّوا قياس الأولين على الحائض: بأنه يباح الاستمتاع بها في غير الفرج، وليس في وطئها حدٌّ فهي بخلاف مسألتنا. فائدة: لو شبَّه امرأته بظهر رجل (¬2): فقال: (أنت عليَّ كظهر أبي أو ابني) لم يصحَّ الظهار ويكون لغوًا عند أكثر أهل العلم، وعند الحنابلة رواية: أنه ظهار!! إذا شبَّه بعضو غير الظَّهْر (¬3): لو قال لزوجته: أنت عليَّ كبطن أمي أو كبد أمي أو كرأس أمي ونحو ذلك، فأكثر أهل العلم على وقوع الظهار بذلك في الجملة، واختلفوا في بعض الجزئيات: 1 - فاشترط الحنفية أن يكون عضوًا لا يحل للمظاهر النظر إليه!!. 2 - وصحح المالكية الظهار بأي جزء ممن تحرم عليه ولو كان شعرًا أو ريقًا. 3 - واشترط الشافعية أن يكون العضو لا يُذكر للكرامة عادة ويحرم التلذذ به، فيصح نحو التشبيه باليد، وأما (عين الأم) فذكره يحتمل الكرامة، فيكون المعوَّل على نية المظاهر: فإن أراد به الظهار فهو ظهار، وإن أراد به الكرامة، فلا ظهار. ¬

(¬1) «المراجع السابقة» مع «جواهر الإكليل» (1/ 372). (¬2) «البدائع» (3/ 231)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354)، و «المغنى» (7/ 341). (¬3) «البدائع» (3/ 233)، و «الدسوقي» (2/ 439)، و «نهاية المحتاج» (7/ 77)، و «كشاف القناع» (3/ 227)، و «المحلى» (10/ 50).

4 - وعند الحنابلة يقع الظهار بالتشبيه بأي عضو ممن تحرم عليه، إلا إذا كان العضو لا ثبات له كالظفر والشعر، فلا يصح به الظهار عندهم (!!). 5 - وأما الظاهرية فلا يقع عندهم الظهار إلا بظهر الأم لا بغير ذلك. قلت: الذي يظهر لي أن الظهار مشتق من الظهر، فلا يكون الظهار إلا بذكر الظهر أو الظهار، وهل يقع الظهار بذكر ما لا يحل له الاستمتاع به من أمِّه - مثلًا- إذا نوى به الظهار، هذا موضع نظر واجتهاد، والله أعلم بالصواب. [4] الركن الرابع: صيغة الظهار: (أ) من جهة لفظها: قد تكون ألفاظ الظهار صريحة، وقد تكون كناية. فالصريح فيه اللفظ الذي يدلُّ على إرادة إيقاع الظهار بحيث لا يتبادر إلى الفهم لدى السامع غير الظهار، كأن يقول: (أنت عليَّ كظهر أمي) وهو لا يفتقر إلى النية لإيقاع الظهار به. وقد ألحق الحنفية والشافعية والحنابلة (¬1) باللفظ الصريح أن يقول: (أنا منك مُظاهر- أو ظاهرتُكِ) وكذا قوله: (أنت عليَّ كبطن أمي - أو: كفخذ أمي، أو كفرج أمي) (¬2). وأما الكناية فهي الألفاظ التي تحتمل إرادة الظهار وغيره فتفتقر إلى النية لإيقاع الطلاق بها، كقوله (أنت عليَّ كأمِّي) عند عامة الفقهاء، قالوا: فلو نوى به الظهار وقع، وإن نوى به الكرامة والتوقير، فليس بظهار. وقد اعتبر بعض العلماء القرينة التي تدل على الظهار باللفظ الكنائي، وأقامها مقام النية، كأن يقول في حال الغضب والخصومة، وكأن يخرجه مخرج الحلف كقوله: (إن فعلت كذا فأنت عليَّ مثل أمي) (¬3). (ب) من جهة التنجيز وعدمه (¬4): الأصل أن يكون الظهار بصيغة التنجيز، بمعنى أنه غير معلَّق على شرط، ولا مضاف إلى زمن مستقبل، وهذا لا خلاف في وقوعه، كقوله: (أنت عليَّ كظهر أميِّ). ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 231)، و «المغنى» (7/ 346)، و «مغنى المحتاج» (3/ 354). (¬2) الذي يبدو لي أنها كنائية تفتقر إلى النية لإيقاع الظهار بها والعلم؛ عند الله. (¬3) «البدائع» (3/ 231)، و «المغنى» (7/ 342). (¬4) «المغنى» (7/ 350)، «مغنى المحتاج» (3/ 354).

وقد يكون الظهار معلَّقًا على شرط كما لو قال لزوجته: (إن دخلت الدار فأنت عليَّ كظهر أمي) فإذا وجد الشرط وقع الظهار، ولكنه قبل وجود الشرط لا يعتبر مُظاهرًا وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد، ومثل إضافة الظهار إلى زمن مستقبل. وإذا علَّق الظهار على مشيئة الله تعالى كما لو قال: (أنت عليَّ كظهر أمي إن شاء الله) لم يقع الظهار. (جـ) من جهة التأقيت والتأبيد (¬1): يصحُّ أن يكون الظهار مؤبَّدًا أي غير محددة بمدة معينة، ويصح أن يكون مؤقتًا بمدة معينة - عند الجمهور خلافًا للمالكية- كأن يقول لزوجته: (أنت عليَّ كظهر أمي شهرًا- أو: حتى ينقضي رمضان، ونحو ذلك). قلت: ويدل عليه ما تقدم في حديث سلمان بن صخر الأنصاري أنه: «جعل امرأته عليه كظهر أمِّه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف رمضان وقع عليها ليلًا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ....» الحديث (¬2). وفيه أنه أوقعه ظاهرًا وأمره بالكفارة. آثار الظهَّار: إذا تحقق الظهار وتوافرت شروطه، ترتبَّ عليه الآثار الآتية: [1] حُرمة الجماع قبل الكفارة: فيحرُم على المُظاهر أن يطأ زوجته قبل أن يكفِّر كفارة الظهار، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم إذا كانت الكفارة الواجبة عتقًا أو صومًا، لقوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (¬3) وأما إذا كانت الكفارة بالإطعام (¬4): فذهب أحمد - في رواية- وأبو ثور وابن ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 235)، و «مغنى المحتاج» (3/ 357). و «الخرشى» (3/ 23)، و «المغني» (7/ 349). (¬2) حسن بطرقه: تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) سورة المجادلة: 3، 4. (¬4) «البدائع» (3/ 234)، و «جواهر الإكليل» (1/ 373)، و «الأم» (5/ 265)، و «المغنى» (7/ 347)، و «المحلى» (10/ 50).

حزم أنه لا حرج في وطئها قبل إخراج الكفارة بالإطعام، قالوا: لأن الله تعالى اشترط في الآية تقديم الكفارة على المماسَّة في العتق والصيام، ولم يشترطه في الكفارة بالإطعام. وذهب أكثر أهل العلم منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المشهور من المذهب إلى أنه يحرم عليه الوطء قبل التكفير حتى ولو بالإطعام، وحجتهم: 1 - ما جاء عن ابن عباس: «أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفِّر؟ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به» (¬1). قالوا: وما أمره الله به هو أداء الكفارة سواء كانت بالعتق أو بالصوم أو بالإطعام، فلم يخُصَّ نوعًا معينًا من أنواع الكفارات، فعُلم أنه لا يجوز الوطء قبل أي نوع منها. 2 - وردوا على دليل الأولين: بأن ترك النصِّ على الكفارة بالإطعام قبل المسيس، لا يمنع قياسها على المنصوص الذي في معناها. قلت: الحديث الذي استدل به الجمهور لا يثبت، ودلالة الآية على القول الأول قوية، إذ أن النص على الكفارة قبل المسيس في موضعين دون الثالث يمنع تقبُّل قياسه عليهما، والله أعلم. [2] هل يحرمُ الاستمتاع دون الوطء قبل الكفارة؟ فيه قولان (¬2): 1 - فذهب أبو حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي ورواية في مذهب أحمد: إلى أنه لا يجوز، لقوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (¬3). فإنه أمر المظاهر بالكفارة قبل التماس، والتماس يصدق على المس باليد وغيرها كما يصدق على الوطء، والوطء قبل التكفير حرام بالاتفاق، فكان ما دونه من دواعيه مثله، ومتى كان الوطء حرامًا كانت الدواعي إليه مثله لأن «ما أدى إلى الحرام حرام». ¬

(¬1) أُعل بالإرسال: أخرجه أبو داود (2223)، والترمذي (1199)، والنسائي (6/ 167) وأعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال. (¬2) «البدائع» (3/ 234)، و «الدسوقي» (2/ 445)، و «مغنى المحتاج» (3/ 357)، و «المغنى» (7/ 348). (¬3) سورة المجادلة: 3.

2 - وذهب الشافعي- في القول الثاني وهو الأظهر عند الشافعية- وبعض المالكية والرواية الأخرى عن أحمد: إلى أنه يجوز الاستمتاع بما دون الوطء قبل التفكير، ووجهه أن المراد بالتماس في الآية: الجماع، فلا يحرم ما عداه من التقبيل والمس بشهوة والمباشرة دون الفرج، ولا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه كما في الحائض والصائم. قلت: لعل الأوَّل أقرب لاسيما عند من يحمل المشترك اللفظي على جميع معانيه، إذ التماس حقيقة الملامسة والجماع، ثم إن الحرمة قد حصلت بتشبيهه زوجه بأمه فحرمت عليه حتى يكفِّر، وحرمة أمِّه تمنع الاستمتاع مطلقًا، فكذا حرمة الزوجة المظاهرة، والله أعلم. إذا وطئها قبل الكفارة: فعليه أن يستغفر الله من ذلك، وأن لا يقربها حتى يكفّر، وتلزمه كفارة واحدة، لما تقدم في حديث سليمان بن صخر، فإنه وطئ قبل أن يكفِّر فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -بكفارة واحدة، وعلى هذا أكثر أهل العلم. فائدة: للمرأة - بعد أن يظاهر منها - الحقُّ في مطالبة الزوج بالوطء، وعليها أن تمنع الزوج من الوطء حتى يُكفِّر، فإن امتنع عن التكفير، فلها أن ترفع الأمر إلى القاضي، وعلى القاضي أن يأمر بالتكفير (¬1). [3] وجوب الكفارة على المُظاهر قبل الوطء: أمر الله تعالى المظاهرين بالكفارة إذا عزموا على معاشرة أزواجهم اللاتي ظاهروا منهن في قوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ...} (¬2). والأمر يدلُّ على وجوب المأمور به، ولأن الظهار معصية لما فيه من المنكر والزور، فأوجب الله الكفارة على المظاهر حتى يغطي ثوابها وزر هذه المعصية. مُوجِبُ الكفارة: قال الله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (¬3). وقد اختلف أهل العلم: هل تجب الكفارة بمجرد الظهار؟ أم لا تجب إلا به وبالعود؟ ¬

(¬1) «الموسوعة الفقهية» (29/ 205) (¬2) سورة المجادلة: 3. (¬3) سورة المجادلة: 3.

والصحيح: الذي عليه جمهور العلماء أن الكفارة لا تجب إلا بمجموع شيئين: قول الظهار، والعود، للآية الكريمة (¬1)، وإن كان كذلك: فما المراد بالعود في الآية؟ للعلماء فيه أقوال ستة، أصحُّها: أن المراد بالعود (إرادة الوطء) ويكون توجيه الآية أن معنى (العود) فيها عود المظاهر لما منعه منه ظهاره، والذي منعه منه ظهاره هو الوطء، فكان معنى عود المظاهر: إرادته ما منعه من الظهار وهو الوطء، وسياق الآية يدل على هذا فإنها أوجبت على المظاهر العائد - الكفارة- قبل أن يمسَّ، فيكون العود فيها إرادة الوطء وليس الوطء فعلًا، ولاتكرار قول الظهار (¬2). خصال كفارة الظهار: خصال كفارة الظهار ثلاثة، ويجب التكفير بأحدها باتفاق الفقهاء، على الترتيب الآتي، لا ينتقل إلى كفارة إلا إذا عجز عن التكفير بالتي قبلها: 1 - إعتاق عبد أو أَمَة (تحرير رقبة) فإذا لم يجد: 2 - يصوم شهرين متتابعين دون أن يمسَّ امرأته، فإن لم يستطع: 3 - يطعم ستين مسكينًا. والأصل في هذا قول الله سبحانه: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ..... ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -لسلمان بن صخر - لما ظاهر من امرأته-: «أعتق رقبة» قال: لا أجدها، قال: «فصم شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، قال: «أطعم ستين مسكينًا» قال: لا أجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لعروة بن عمرو: «أعطه ذلك العَرَق» فقال: «أطعم ستين مسكينًا» (¬4). وفي معناه حديث خويلة بنت ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أشكو إليه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -يجادلني فيه ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك»، فما برحت حتى نزل ¬

(¬1) «المغنى» (7/ 353). (¬2) انظر «زاد المعاد» (5/ 331 - 332)، و «المغنى» (7/ 352 - 354)، و «البدائع» (3/ 236)، و «المحلي» (10/ 50). (¬3) سورة المجادلة: 3، 4. (¬4) حسن بطرقه: تقدم قريبًا.

القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬1). إلى الفرض، فقال: «يعتق رقبة» قالت: لا يجد؟ قال: «فيصوم شهرين متتابعين» قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين مسكينًا»، قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قال: فأتي ساعتئذ بَعَرق من تمر. قلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق أخر، قال: «قد أحسنت اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا، وارجعي إلى ابن عمك» قال: والعرق ستون صاعًا (¬2). انتهاء الظِّهار وانحلاله: ينتهي الظهار وينحل بعد أن ينعقد ويستوجب حكمه، بواحد مما يأتي: [1] تأدية الكفارة الواجبة: لدلالة الآية الكريمة، ولما وقع في حديث ابن عباس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -للمظاهر: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل» (¬3) فقد نهاه عن العود إلى وطئها، وجعل لهذا النهي غاية هي التكفير، فدلَّ على أن الظهار ينتهي حكمه بفعل الكفارة. [2] مضى المدة - إذا كان الظهار مؤقتًا-: فإذا ظاهرها على مدة معينة، فبرَّ بيمينه حتى انقضت المدة دون أن يمسَّها، فلا شيء عليه، وتعود حلالًا له. [3] موت الزوجين أو أحدهما: فلو ظاهر من زوجته ثم مات أو ماتت زوجته قبل العود انتهى الظهار، وانتهى حكمه باتفاق الفقهاء، لأن موجب الظهار الحرمة، وهي متعلقة بالزوجين، فيحرم على الرجل الاستمتاع ويحرم على المرأة تمكينه من نفسها حتى يكفِّر، ولا يُتصور بقاء الحكم بدون من تعلَّق به. فائدة: أما إذا ظاهر منها ثم عاد (أراد الوطء) أو وطئها قبل أن يكفِّر ومات: فعند الحنفية والمالكية تسقط الكفارة عنه إلا إذا أوصى بها فتخرج من ثلث التركة. وقال الشافعية والحنابلة: لا تسقط كفارة الظهار - التي لزمته - بالموت، بل يؤديها الوارث عن الميت من التركة (¬4). ¬

(¬1) سورة المجادلة: 1. (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (2214)، وأحمد (6/ 410) بسند ضعيف، ولبعض أجزائه شواهد لاسيما ذكر الكفارة، وانظر (الإرواء) (7/ 174). (¬3) أعلَّ بالإرسال: وقد تقدم قريبًا. (¬4) «ابن عابدين» (5/ 594)، و «الدسوقي» (4/ 458)، و «مغنى المحتاج» (3/ 174)، و «المغنى» (7/ 383).

اللعان

قلت: وهذا هو الأرجح، لأن الكفارة لزمته قبل الموت، فاستقر في ذمته، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «فدين الله أحق أن يُقضى» (¬1) والله أعلم. اللِّعان تعريف اللِّعان: اللعان: من اللِّعن، وهو الإبعاد والطرد من الخير، واللِّعان والملاعنة: اللعن بين اثنين فصاعدًا، وتلاعن القوم: لعن بعضهم بعضًا. واللعان في اصطلاح الشرع: «حلف الزوج - بألفاظ مخصوصة - على زنى زوجته، أو نفي ولدها منه، وحلف الزوجة على تكذيبه فيما قذفها به» (¬2). مشروعية اللعان: ثبتت مشروعية اللعان بالكتاب والسنة والإجماع: 1 - فأما الكتاب، فقال الله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) والْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إن كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ (7) ويَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ (8) والْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬3). 2 - وأما السنة فمنها: (أ) حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه-: أن عويمر أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فأتى عاصم النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال يا رسول الله - فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -المسائل - فسأله عويمر فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كره المسائل وعابها قال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فجاء عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «قد أنزل الله قرآن فيك وفي صاحبتك» فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إن حبستها فقد ظلمتها فطلقها فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين ثم قال ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6699)، والنسائي (5/ 116). (¬2) «المفصل» (8/ 321) بمعناه. (¬3) سورة النور: 6 - 9.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها» فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من تصديق عويمر فكان ينسب إلى أمه (¬1). (ب) حديث ابن عباس: أن هذال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -بشريك ابن سحماء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «البينة أو حدٌّ في ظهرك» فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة؟! فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم -يقول: «البينة وإلا حدٌّ في ظهرك» فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ {إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي - صلى الله عليه وسلم -يقول: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء» فجاءت به كذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» (¬2). 3 - وأما الإجماع: فقد نقل الحافظ في «الفتح» (9/ 440 - المعرفة) الإجماع على مشروعيته. هل يجب على الزوج اللِّعان؟ إذا تيقَّن الزوج أن زوجته زنت - بأن رآها تزني - أو أن حملها أو ولدها الذي جاءت به على فراشه ليس منه - فيجب عليه أن يقذفها بنفي نسب الولد أو ذلك الحمل منه، لأن ترك النفي يستلزم استلحاقه، واستلحاق من ليس منه حرام. وإنما يُعلم أن الولد ليس منه إذا لم يطأ زوجته أصلًا، أو وطئها ولكن ولدته لأقل من ستة أشهر من الوطء (¬3). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (4747)، وأبو داود (2237)، والترمذي (3229)، وابن ماجه (2067). (¬3) «الدسوقي» (2/ 457)، و «مغنى المحتاج» (3/ 373)، و «المغنى» (7/ 420).

وأما إذا لاعن الزوج بقذف زوجته بناء على شكوك وظنون فاسدة لا تصلح دليلًا شرعيًا ولا قرينة معتبرة على ما يقذفها به من الزنى، فإن اللعان حينئذ يكون محرَّمًا، لأن القذف من الكبائر، فينبغي على الزوج أن يتريَّث ولا يستعجل إذا رأى بعض ما يثير الشكوك والظنون حول سلوك زوجته، وأن يفحص ما يسمعه ويراه فحصًا موضوعيًّا بدون انفعال ولا غضب، حتى يتثبت من الأمر، مستحضرًا أن الأصل في الزوجة المسلمة العفة والنزاهة والبراءة مما يشاع عنها (¬1). وإذا كان نفى الولد - بناء على الشكوك والظنون الفاسدة - محرَّمًا، فلا ريب أن جحده لولده مع علمه أنه ولد محرَّم من باب أولى. شروط صحة اللِّعان (¬2): أولًا: شرط يرجع إلى القاذف (الزوج): عدم إقامة البيِّنة: يشترط في القاذف أن لا يقيم البيِّنة على ما رمى به زوجته من الزنى حتى يجوز اللعان، لأن الله تعالى شرط ذلك في آية اللعان، بقوله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬3). ولذا فلو أقام أربعة من الشهود على المرأة بالزنى لما جاز اللعان، ولوجب إقامة حد الزنى عليها (¬4). وإن قدر على إقامة البينة، فإن له أن لا يقدِّم البينة (الشهود) ويطلب اللعان، وإنما كان له ذلك، لأن البيِّنة واللعان، بيّنتان في إثبات حق الزوج، فجاز إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى (¬5). متى يجوز اللعان مع إقامة البيِّنة؟ ما تقدم من اشتراط عدم إقامة البينة لصحة اللعان مختص بما إذا كان اللعان بسبب قذفه لها بالزنى، وأما إذا كان لنفي نسب ولدها منه، فيجوز له - مع إقامة ¬

(¬1) «المفصَّل» (8/ 325 - 326) بتصرف، وانظر «المجموع» (16/ 385)، و «المغنى» (7/ 420). (¬2) انظر «المفصَّل» (8/ 330 - 363) ففيه بحث مستفيض. (¬3) سورة النور: 6. (¬4) «بديع الصنائع» (3/ 240). (¬5) «المجموع» (16/ 388).

البينة - اللِّعان، لأن النسب لا ينتفي بالبيِّنة، وإنما ينتفي باللعان، إذ الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بأن هذا الولد ليس منه، وإن أراد أن يثبت الزنى بالبينة، ثم يلاعن لنفي الولد جاز له ذلك (¬1). ثانيًا: شروط ترجع إلى المقذوف (الزوجة): [1] إنكارها للزنى: فلو أقرَّت بالزنى، فيلزمها الحد -حدُّ الزنى- لظهور زناها بإقرارها، ولا تلاعن حينئذ، لأن اللعان كالبينة إنما يقام مع الإنكار. لكن لا يثبت إقرارها إلا إذا أقرت بالزنى أربع مرات (¬2). [2] عفَّتها عن الزنى: فإن لم تكن الزوجة المقذوفة عفيفة لم يجب اللعان بقذفها، لأنها إذا لم تكن عفيفة فقد صدَّقته بفعلها، فصار كما لو صدَّقته بقولها (¬3). ثالثًا: شروط ترجع إلى القاذف والمقذوف جميعًا: [1] قيام الزوجية: فإن الله تعالى خصَّ الأزواج بهذا الحكم، وجعل لعانهم قائمًا مقام البينة على ما قذف به زوجته، قال تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...} (¬4). فلذا فإنه يصح اللعان بين الزوجين بنكاح صحيح، سواء كانت الزوجة مدخولًا بها أو غير مدخول بها، وعلى هذا إجماع أهل العلم (¬5). فإن كانت زوجته في نكاح فاسد فله أن يلاعن لنفي نسب ولدها منه، على الأرجح، وإن لم يكن ولد يريد نفيه فلا حدَّ في قذفه ولا لعان بينهما، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة (¬6). ووجه جواز اللعان في هذه الحالة، أن الغرض منه نفي الولد، والنسب يثبت في النكاح الفاسد، فكان - من هذه الجهة - كالنكاح الصحيح، فيجري فيه اللعان من هذه الجهة. فائدة: المطلَّقة الرجعية، يصح لعانها ما دامت في العدة، لأنها في حكم الزوجة - كما تقدم - وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، والحنفية (¬7). ¬

(¬1) «المجموع» (16/ 389). (¬2) «البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 446). (¬3) «البدائع» (3/ 241). (¬4) سورة النور: 6. (¬5) «المغنى» (7/ 393)، و «تفسير القرطبي». (¬6) «البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 400). (¬7) «البدائع» (3/ 241)، و «المغنى» (7/ 401).

[2] شروط أخرى في الزوجين اختلف فيها العلماء، بسبب اختلافهم في حقيقة اللعان: هل هو يمين أو شهادة؟ فقال الجمهور: اللعان يمين بلفظ الشهادة ومن ثم قالوا: يصح اللعان من كل الزوجين مكلَّفين سواءً كانا مسلمين أو كافرين، أو عدلين أو فاسقين، أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك. وقال الحنفية - ومعه: الثوري والزهري والأوزاعي-: اللعان شهادة، فلا يصح عندهم إلا من زوجين مسلمين عدلين حرَّين غير محدودين في قذف (¬1). قلت: لكل من القولين مأخذه (¬2)، لكن الذي يبدو أن اللعان يمين مؤكدة بشهادة، لما يأتي: 1 - أنه يفتقر إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه، كما قال تعالى: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬3). 2 - أنه يستوي فيه الذكر والأنثى بخلاف الشهادة. 3 - أنه لو كان شهادة لما تكرر لفظه بخلاف اليمين. 4 - أن حاجة الزوج التي لا تصحُّ منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد، كحاجة من تصح منه الشهادة سواء، والأمر الذي ينزل به مما يدعو إلى اللعان كالذي ينزل بالعدل الحر، والشريعة لا ترفع ضرر أحد النوعين، وتجعل له فرجًا ومخرجًا مما نزل به، وتدع الآخر في الآصار والأغلال، ولا فرج له مما نزل به، ولا مخرج، إن تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرحمة التي وسعت من تصح شهادته، وهذا تأباه الشريعة الحنيفية السمحة. قلت: ويدل على هذا عموم قوله: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬4). وأما تسمية اللعان شهادة، فلقول الملاعن في يمينه: «أشهد بالله» فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينًا، كما قال تعالى: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (¬5). ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 242)، و «المبسوط» (7/ 40)، و «نهاية المحتاج» (7/ 97). و «المغنى» (7/ 392)، «المحلى» (10). (¬2) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 359) وما بعدها ففيه بحث نفيس. (¬3) سورة النور: 6. (¬4) سورة النور: 6. (¬5) سورة المنافقون: 1

يصح لعان الأخرس والخرساء: إذا كانت إشارتهما مفهومة ويحسنان التعبير بها قذفًا ولعانًا، وكذا بكتابتهما إن كانا يحسنان الكتابة؛ لأن الحاجة تدعو الزوج إلى اللعان، ولا سبيل إليه إلا بإشارته أو كتابته، فينبغي قبول ذلك منه كما في طلاقه، وبهذا قال الجمهور خلافًا للحنفية (¬1). رابعًا: شروط ترجع إلى المقذوف به: يجري اللعان بسبب قذف الرجل لزوجته بأحد شيئين: [1] بالزنى فقط (بغير نفي الولد): فيشترط أن يقذفها بلفظ صريح في دلالة على الزنا كقوله (يا زانية- أو: أنت زنيت- أو: رأيتك تزنين) ونحو ذلك، فإن قذفها بلفظ كنائي كقوله: يا فاسقة أو يا خبيثة مما يحتمل الزنى وغيره، لم يعتبر قذفًا ولم يستوجب حدًّا ولا لعانًا. ويشترط في الفعل الذي قذفها من أجله أن يكون زنى شرعًا، بمعنى أنه فعل يجب به الحد أو القذف. [2] بنفي الولد أو الحمل: ويشترط في القذف بنفي النسب أن يكون بصيغة صريحة الدلالة عليه، كأن يقول: (هذا الولد من الزنى- أو: هذا الولد ليس منِّي). فإن عرَّض بذلك ولم يصرِّح فلا يعتبر قذفًا لزوجته بنفي ولدها، لحديث أبي هريرة قال: «جاء رجل من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «ما ألوانها؟» قال: حُمر، قال: «هل فيها من أورق؟» (¬2) قال: إن فيها لورقًا، قال: «فأني آتاها ذلك؟» قال: «عسى أن يكون نزعه عِرْق» (¬3)، قال: «وهذا عسى أن يكون قد نزعه عِرق» (¬4). قال النووي: فيه أن التعريض بنفي الولد ليس نفيًا وأن التعريض بالقذف ليس قذفًا، وهو مذهب الشافعي وموافقيه. اهـ. ونسب ابن حجر في «الفتح» (9/ 443) هذا القول إلى الجمهور. ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 241)، و «مغنى المحتاج» (3/ 376)، و «كشاف القناع» (3/ 242)، و «المحلي» (10/ 143). (¬2) أي: الذي فيه سواد ليس بصاف. (¬3) يعني: هذا اللون موجود في أصوله البعيدة، فأشبهه. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

ويصحُّ قذف الزوج زوجته بنفي حملها حال الحمل، كما يصحُّ ملاعنتها أثناء الحمل - في أصح قولي العلماء- لما تقدم في حديث سهل بن سعد في قصة لعان عويمر-: «قال سهل: وكانت - أي زوجة عويمر - حاملًا، وكان ابنها يدعي إلى أمه ...» الحديث (¬1) وكذلك في حديث لعان هلال ابن أمية (¬2). وبهذا قال الشافعية والمالكية واختاره ابن قدامة من الحنابلة (¬3)، لكن لو أخرَّ قذفه ولعانة إلى أن تضع حملها، حتى يتيقَّن من حملها فقد يكون انتفاخ بطنها لعلة غير الحمل، لكان أولى، إلا أنه لو تيقَّن من حملها عن طريق الكشف بالوسائل الحديثة، فالحكم كما تقدم. خامسًا: شروط ترجع إلى وصف القذف: فيشترط أن يكون القذف منجزًا: لا معلقًا على شرط ولا مضافًا إلى وقت مستقبل، لأن ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفًا في الحال، وعند وجود الشرط أو الوقت يجعل كأنه نجَّز القذف، كما في سائر التعليقات، والإضافات، فكان قاذفًا تقديرًا مع انعدام القذاف حقيقة، فلا يجب الحد - أي حد القذف - وبالتالي لا يجب اللعان (¬4). فلو قال لزوجته (إن دخلت الدار فأنت زانية، أو: أنت زانية من الغد) لم يعتبر قذفًا يستوجب اللعان، لأنه غير مُنجَّز. سادسًا: أن يُجرَى اللعان بحضرة القاضي وأمره: فلا يصحُّ اللعان إلا بحضرة القاضي وأمره أو من يقوم مقامه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -أمر هلال أبن أمية أن يأتي بزوجته، فتلاعنا بحضرته - صلى الله عليه وسلم -، ولأن اللعان إما يمين وإما شهادة - وقد تقدم تحريره- فأيهما كان فمن شروطه أن يكون أمام القاضي، لأن اليمين والشهادة لا تؤديَّان إلا بحضرته، وبهذا قال الشافعية والحنابلة (¬5). وإن تراضيا بغير القاضي ليلاعن بينهما صح عند الشافعية -إذا لم يكن ينفي الولد - ولم يصحَّ عند الحنابلة بحال، وهو الأقرب، والله أعلم. ¬

(¬1)، (5) تقدم الحديثان في أول الباب. (¬2) «البدائع» (3/ 240)، و «الصاوي» (1/ 492)، و «المغني» (7/ 423)، و «المجموع» (16/ 415) .. (¬3) «بدائع الصنائع» (3/ 243)، و «المبسوط» (7/ 46). (¬4) (¬5) «مغنى المحتاج» (3/ 376)، و «المغنى» (7/ 434).

كيفية إجراء اللِّعان (¬1): المتحصَّل من النصِّ القرآني، والأحاديث الثابتة في الباب، أن صفة اللعان كالآتي: 1 - يُسنُّ التلاعن بمحضر جماعة من الناس يشهدونه: فإن ابن عباس وسهل ابن سعد وابن عمر، حضروه مع حداثة أسنانهم، فدلَّ على أنه حضره جمع كثير، فإن الصبيان إنما يحضرون مثل هذا تبعًا للرجال، وقد قال سهل: «... فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ...» (¬2). وحكمة هذا - والله أعلم - أن اللعان بُني على التغليظ مبالغة في الردع والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك. 2 - ويكون الزوجان قائمين عند التلاعن، ليشاهدهما الحاضرون فيكون أبلغ في شهرته وأوقع في النفوس، وفي حديث المرأة الملاعنة: «... ثم قامت فشهدت ...» (¬3). 3 - يبدأ القاضي بتذكيرهما بالتوبة قبل الشروع في التلاعن، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -للمتلاعنين - كما في حديث ابن عباس -: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» فإن امتنع الزوج عن اللعان: حُدَّ حَدَّ القذف عند الجمهور خلافًا للحنفية، فقالوا: يُحبس حتى يُلاعن أو يكذِّب نفسه (¬4) وقول الجمهور أصحُّ، لأن الحدَّ عام في كل قاذف أجنبيًّا كان أو زوجًا إذا لم يكن له شهود، لكن الله تعالى أقام اللعان للزوج مقام الشهود - كما في الآية الكريمة - فوجب إذا نكل الزوج أن يكون بمنزلة من قذف ولم يكن له شهود، أي أنه يُحدُّ، وإن كذَّب نفسه ورجع عما رماها به حُدَّ بلا خلاف، فإذا أصر على اللعان: 4 - يبدأ القاضي بالزوج فيقيمه، ويقول له: قل أربع مرات: (أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا)، ولو كان اللعان بنفي الولد، أمره أن يقول أربع مرات: (أشهد بالله لقد زنت، وما هذا الولد بولدي) ويعيِّن الولد. ¬

(¬1) «المحلى» (10/ 143)، و «المغنى» (7/ 436)، و «الزاد» (5/ 376 - وما بعدها). (¬2) صحيح: تقدم تخريجه. (¬3) صحيح: وهذا في حديث ابن عباس المتقدم في قصة لعان هلال ابن أمية. (¬4) «فتح القدير» (3/ 251)، و «الأم» (5/ 292)، و «بداية المجتهد» (2)، و «المغنى» (7/ 444)، و «المحلى» (10/ 143).

والبداءة بالزوج قبل الزوجة شرط عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة، فلو بدأ القاضي بالزوجة ثم الزوج، فعليه أن يعيد لعان المرأة - عندهم- لأن المرأة بشهادتها تقدح في شهادة الرجل فلا تصح قبل وجود شهادته (¬1). 5 - يقول الزوج - أربع مرات -: (أشهد بالله إني لمن الصادقين ...). 6 - يأمر القاضي من يضع يده على فمه، ثم يقول له: اتق الله فإنها موجبة، حتى لا يبادر بالخامسة قبل أن يعظه، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. وهذا في حديث ابن عباس: 7 - فإن رجع عما رماها به حُدَّ حَدَّ القذف. 8 - فإن أصرَّ الزوج، فإنه يقول في الخامسة: (وعليَّ لعنة الله إن كنتَ من الكاذبين). ويسقط به حدُّ القذف. 9 - يقول القاضي للزوجة: إن التعنت وإلا حُدِدْتِ حدَّ الزنى، فإن امتنعت من اللعان حُدَّت حدَّ الزنا عند الجمهور، خلافًا للحنفية والحنابلة فقالوا: تُحبس حتى تُلاعن أو تصدق زوجها فيما قذفها به، والأول أصحُّ، لأن الواجب على المرأة إذا لاعنها هو حد الزنى، لكن لها أن تخلص نفسها منه باللعان كما قال تعالى: {ويَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَن تَشْهَدَ ...} (¬2). فإذا امتنعت من اللعان لم يوجد الدافع لما وجب عليها بلعان الزوج، وهو الحد فيجب عليها (¬3). 10 - وإن أصرت على اللعان قالت: (أشهد بالله إنه لمن الكاذبين) أربع مرات. 11 - ثم يأمر القاضي من يوقفها ليعظها ويخبرها بأنها موجبة لغضب الله، قبل أن تشهد الخامسة. 12 - فإن رجعت واعترفت بالزنى: حُدَّت حدَّ الزنى. 13 - وإن مضت في إنكارها: أُمرت أن تقول: (غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين) فإذا قالت ذلك سقط عنها حدُّ الزنا، وتم اللعان، وترتَّبت عليه آثاره. ¬

(¬1) «مغنى المحتاج» (3/ 374)، و «المغنى» (7/ 436)، و «الزاد» (5/ 377). (¬2) سورة النور: 8. (¬3) «فتح القدير» (3/ 251)، و «الأم» (5/ 292)، و «المغنى» (7/ 444) وما بعدها.

آثار اللِّعان (ما يترتَّب عليه): إذا تم التلاعن بين الزوجين على الصفة السابق ذكرها، فإنه يترتَّب عليه أمور، وهي: [1] إسقاط الحَدِّ عنهما (¬1): قال الله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ ..... والْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬2). وفي الآيات الكريمة دلالة على سقوط حد القذف عن الزوج، إذا قام باللعان، وسقوط حد الزنى عن الزوجة إذا لاعنت زوجها، وبهذا قال أهل التفسير. ويدل على هذا كذلك ما جاء في حديث ابن عباس - في ملاعنة امرأة هلال بن أمية-: فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابع الأليتين خَدَلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء» فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» (¬3). [2] أن الملاعنة لا تُرمي بالزنا، ومن رماها حُدَّ (¬4): وهذا لأن لعانها نفى عنها تحقيق ما رُميت به، فيُحدُّ قاذفها وقاذف ولدها، وهذا دلَّت عليه رواية أبي داود (2256) لحديث ابن عباس: «..... فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها، ومن رماها أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضى ألا بيت لها عليه ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها». قلت: وسندها ليِّن وقد ذكر الحافظ في التلخيص (3/ 227) لها شاهدًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذا مذهب الجمهور. ¬

(¬1) «مغنى المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 444). (¬2) سورة النور: 6 - 9. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (4747) وغيره وقد تقدم. (¬4) «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 402) ط. الرسالة.

[3] التفريق بين المتلاعنَيْن: لحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: «لاعن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأة من الأنصار، وفرَّق بينهما» (¬1). وهنا مسألتان: الأولى: متى تقع الفرقة بينهما؟ (¬2) هل تقع بمجرد القذف؟ أم بلعان الزوج وحده؟ أم تقع بلعنهما جميعًا؟ أم بلعانهما وتفريق القاضي؟ والجواب: أما وقوع الفرقة بمجرد القذف فهو قول شاذ لأبي عبيد خالفه معه الجماهير من أهل العلم، وأما وقوعها بلعن الزوج وحده: فمما تفردَّ به الشافعي - رحمه الله - واحتج له بأنها فرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحده كالطلاق!! وهو ضعيف: «لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما فقط، وإنما فرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما بعد تمام اللعان منهما، فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكُّم يخالف مدلول السنة النبوية، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه: إما إيمان على زناها أو شهادة على ذلك، ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل التفريق، وإنما ورد الشرع به بعد لعانها فلا يجوز تعليقه على بعضه» (¬3). فعُلم أن الفرقة لا تقع إلا بلعان الزوجين، لكن يبقى الخلاف: هل تحصل الفرقة بمجرد لعانهما أو لابد أن يفرِّق القاضي؟ (أ) فذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين والظاهرية - ونسبه النووي للجمهور - إلى أنه إذا تمَّ لعان الزوجين وقعت الفرقة، ولا يُعتبر تفريق الحاكم واستدلوا بما يلي: 1 - حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال للمتلاعنين: «حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» قال: مالي، قال: «لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك» (¬4) قالوا: فقوله (لا سبيل لك عليها) يدل على حصول الفرقة بمجرد اللعان، لأنها نكرة في سياق النفي فأفادت العموم، والعبرة بعموم اللفظ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5314)، ومسلم (1494). (¬2) «البدائع» (3/ 244)، و «الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغنى المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 411)، «المحلى» (10/ 144)، و «زاد المعاد» (5/ 388 - وما بعدها). (¬3) «المغنى» (7/ 411). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1/ 5311)، ومسلم (1493).

2 - ما تقدم في حديث سهل: «.... فلما فرغا، قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ذاك تفريق بين كل متلاعنين» (¬1). وأجيب بان الجملة الأخيرة مدرجة من كلام الزهري. 3 - أن اللعان يقتضي التحريم المؤبَّد - كما سيأتي بعده - فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع. 4 - ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهه الزوجان، كالتفريق بالعيب والإعسار، ولبقي الزواج مستمرًّا، وهذا لا يجوز. (ب) بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو الرواية الأخرى عن أحمد إلى أن الفُرقة لا تحصل - بعد التلاعن- إلا بتفريق الحاكم، واحتجوا بما يلي: 1 - ما في رواية أبي داود لحديث سهل بن سعد قال: «شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة ففرَّق بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تلاعنا» (¬2). 2 - وحديث ابن عمر المتقدم: «لاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأة من الأنصار ففرَّق بينهما» (¬3). وأجيب عنهما: بأن تفريق النبي بينهما، يحتمل ثلاثة أمور، أحدها: إنشاء التفريق، والثاني: الإعلام به، والثالث: إلزامه بموجبه من الفرقة الحسية، وليس هذا بقاطع في المسألة. 3 - ما جاء في حديث سهل بن سعد من قول الملاعن: «كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قيل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬4) قالوا: فهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع طلاق ولما أمكنه إمساكها. وأجيب: بأن قوله (كذبت عليها إن أمسكتها) لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعًا، بل هو بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائرًا إلى ما بادر إليه، وأما طلاقها ثلاثًا فما زاد الفرقة إلا تأكيدًا، فإنها حرمت عليه تحريمًا مؤبدًا. ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) أخرجه أبو داود (2251) وأصله في الصحيحين كما تقدم. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

4 - برواية أبي داود لحديث سهل بن سعد قال: «فطلَّقها ثلاث تطليقات عند رسول الله، فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...» (¬1) وأجيب: بأن إنفاد الطلاق عليه تقرير لموجبه من التحريم، فإذا لم تحل له باللعان أبدًا كان الطلاق الثلاث تأكيدًا للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى إنفاذه، فلما لم ينكره عليه، وأقَرَّه على التكلم به على موجبه، جعل سهلٌ هذا إنفاذًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسهلٌ لم يحك لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -وإنما شاهد القصة وعدم إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم -فظنَّ ذلك تنفيذًا. قلت: القول بوقوع الفرقة بمجرد تلاعنهما من غير احتياج إلى تفريق القاضي هو الأقوى، على أنني أتصورَّ أن المشترطين لتفريق القاضي يُلزمونه بإيقاع الفرقة بعد اللعان اتباعًا للسنة فيكون الخلاف صوريًّا، والله أعلم. المسألة الثانية: التفريق باللعان، هل هو طلاق أو فسخ؟ (¬2) فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاق، في أصحِّ قولي العلماء، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد وابن حزم ويدل على ذلك: 1 - أنها فرقة تُوجب تحريمًا مؤبدًا - كما سيأتي - فكانت فسخًا. 2 - أن اللعان ليس صريحًا في الطلاق، ولا نوى الزوج به طلاقًا، فلا يقع به الطلاق. 3 - أنه لو كان اللعان صريحًا في الطلاق أو كفاية فيه لوقع بمجرد لعان الزوج ولم يتوقف على لعان المرأة. 4 - أنه لو كان طلاقًا، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فيكون رجعيًا!! 5 - أن الطلاق بيد الزوج إن شاء أمسك وإن شاء طلَّق، وهذا الفسخ حاصل بالشرع وبغير اختياره. 6 - ولأنه قد ترجَّح بالسنة وأقوال الصحابة - كما تقدم - أن الخلعَ ليس بطلاق، بل هو فسخ مع كونه بتراضيهما، فكيف تكون فرقة اللعان طلاقًا؟. ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (2250) وفيه عياض بن عبد الله الفهري: ضعيف. (¬2) «الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغني المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 411)، و «المحلى» (10/ 144)، و «الزاد» (5/ 390).

[4] أن تحرَّم عليه زوجته المُلاعنة أبدًا: لا خلاف بين أهل العلم في حصول الحرمة المؤبَّدة بين الزوجين المتلاعنين بسبب اللعان إذا لم يكذب أحدهما نفسه ويصدق الآخر: 1 - ففي حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين: «فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ذاك تفريق بين كل متلاعنين» قال ابن جريج: قال ابن شهاب: فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين .. الحديث (¬1). 2 - ورُوي عن ابن عمر مرفوعًا: «المتلاعنان إذا تفرَّقا لا يجتمعان أبدًا» (¬2). 3 - ما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - قال: «لا يجتمعان المتلاعنان أبدًا» (¬3). 4 - ما رُوي عن عليًّ وابن مسعود أنهما قالا: «مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدًا» (¬4). قلت: قوله: (فكانت سنة المتلاعنين) الراجح أنها مدرجة من قول الزهري كما صرَّح بذلك غير واحد من أهل العلم، وباقي هذه الآثار في كلٍّ منها مقال إلا أنها بمجموعها تثبت أن المتلاعنين تحصل بينهما حرمة أبدية وعلى هذا اتفاق أهل العلم. إلا أن أبا حنيفة - رحمه الله - ومحمد ذهبا إلى أن الحرمة المؤبَّدة تسقط إن أكذب أحد الزوجين نفسه، وقد صحَّ هذا عن ابن المسيب، وخالفهم الجمهور (¬5) فقالوا: لا تأثير لإكذاب أحدهما نفسه في إسقاط الحرمة المؤبدة، وهذا هو الذي تقتضيه حكمة اللعان، ولا تقتضي سواه: 1 - فإن لعنة الله تعالى وغضبه قد حلَّ بأحدهما لا محالة، ونحن لا نعلم عين من حلَّت به يقينًا، ففرَّق بينهما خشية أن يكون هو الملعون فيعلو على امرأة غير ملعونة وحكمة الشرع تأبى ذلك. 2 - وإن باءت هي بالغضب بتصديق زوجها، لم يجز له نكاح زانية، وإلا كان ديُّوثًا. ¬

(¬1) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬2) ضعيف الإسناد: أخرجه الدارقطني (3/ 276). (¬3) إسناده منقطع ورجاله ثقات: أخرجه عبد الرازق (12433)، والبيهقي (7/ 410). (¬4) إسناده ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 276)، والبيهقي (7/ 410). (¬5) «البدائع» (3/ 355)، و «الشرح الصغير» (1/ 496)، و «مغني المحتاج» (3/ 380)، و «المغنى» (7/ 414)، و «المحلى» (10/ 414)، و «المحلى» (10/ 144)، و «الزاد» (5/ 391).

3 - أن النفرة الحاصلة من إساءة كل منهما إلى صاحبه لا تزول أبدًا، فإن الرجل إن كان صادقًا عليها فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد وأقامها مقام الخزي وحقق عليها الخزي والغضب وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذبًا، فقد أضاف إلى ذلك بَهتها بهذه الفرية العظيمة، وإحراق قلبها بها. والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة. فحصل لكلٍّ منهما من صاحبه من النفرة، والوحشة وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملها أبدًا، فاقتضت حكمة من شَرْعُه كلُّه حكمةٌ ومصلحة وعدل ورحمة تحتُّم الفرقة بينهما، وقطع الصحبة المتمحِّضة مفسدة (¬1) قلت: ولا تأثير لرجوع أحدهما وتكذيبه نفسه في إصلاح شيء من هذه المفاسد، لاسيما ولا دليل مع القائلين بذلك، بل الدليل على خلافه، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -للمُلاعن: «لا سبيل لك عليها» (¬2) وهذا عموم يشمل جميع أفراده وجميع حالاته حتى يدلَّ الدليل على تخصيصه، ولا دليل، والله أعلم. [5] استحقاق المرأة صداقها وليس للرجل أن يأخذ منه شيئًا: إذا وقع اللعان بعد الدخول فإن المرأة لا يسقط صداقها به، لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال للمتلاعنين: «حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» قال: مالي، قال: «لا مال لك، إن كنت صدقتَ عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبتَ عليها فذاك أبعد لك» (¬3). أما إذا وقع اللعان قبل الدخول، فقيل: لها نصف المهر، وقيل: يسقط مهرها جملة. ومأخذ القولين: أن الفُرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما، فهل يسقط الصداق تغليبًا لجانبه كما لو استقل بسبب فرقتها؟ (¬4). ¬

(¬1) مستفاد من «زاد المعاد» (5/ 392 - 394) مع شيء من التصرف والزيادة. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: وهو السابق. (¬4) «زاد المعاد» (5/ 394) بتصرف يسير.

[6] عدم استحقاق المرأة نفقة ولا سكنى عليه: هكذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عباس: «.... وقضى ألا بيتَ لها عليه، ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها» (¬1). وهو وإن كان في سنده لين إلا أنه «موافق لحكمه - صلى الله عليه وسلم - في المبتوتة التي لا رجعة عليها، بل سقوط النفقة والسكنى للملاعنة أولى من سقوطها للمبتوتة، لأن المبتوتة له سبيل إلى نكاحها في عدَّتها، وهذه لا سبيل له إلى نكاحها لا في العدة ولا بعدها، فلا وجه أصلًا لوجوب نفقتها وسُكناها، وقد انقطعت العصمةُ انقطاعًا كليًّا» (¬2). [7] انقطاع نسب الولد من جهة أبيه، وإلحاقه بأمِّه: ففي حديث ابن عباس المشار إليه آنفًا: «وقضى أن لا يُدعى ولدها الأب ...»، وبهذا قال الجمهور: وفي حديث ابن عمر: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم -لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرَّق بينهما، وألحق الولد بالمرأة» (¬3). وفي حديث سهل بن سعد - في آخره -: «فكان بعدُ يُنسب لأمه» (¬4). [8] ثبوت التوارث بين الملاعنة وولدها: ففي حديث سهل - بعد ذكر قصة عويمر -: «... فكانت السنة بعدهما أن يفرَّق بين المتلاعنين، وكانت حاملًا، وكان ابنها يُدعى لأمِّه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه، ويرث منها ما فرض الله له» (¬5) وهذا يحتمل أنه من قول الزهري أو سهل بن سعد - رضي الله عنه-، وقد قال بعض أهل العلم بأن تحويل النسب الذي كان لأبيه إلى أمه، جعل الأم قائمة مقام الأب في ذلك، فهي عصبته وعصابتها أيضًا عصبته، فإذا مات حازت ميراثه، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس ويُروى عن عليٍّ، وهو مذهب أحمد وإسحاق، ويشهد له حديث واثلة بن الأسقع عن ¬

(¬1) إسناده لين: أخرجه أبو داود (2256)، وأحمد (2131) وذكر له الحافظ في التلخيص (3/ 227) شاهدًا. (¬2) «زاد المعاد» (5/ 396). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5315)، ومسلم (1494). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1492).

التفريق القضائي

النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لا عنتْ عليه» (¬1). وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه جعل ميراث ابن الملاَعَنَة لأُمِّه ولورثتها من بعدها» (¬2). قالوا: ولا يعارض هذا ما جاء في حديث سهل المتقدم: «ثم جرت السنة أن يرث منها وترث منه ما فرض الله لها» حتى على فرض أنه من قول سهل بن سعد، لا الزهري، فإن تعصيب الأم لا يُسقط ما فرض الله لها من ولدها في كتابه، وغايتها أن تكون كالأب حيث يجتمع له الفرض والتعصيب، فهي تأخذ فرضها ولابُدَّ، فإن فَضلَ شيء أخذته بالتعصيب، وإلا فازت بفرضها» (¬3). التفريق القضائي الأصل أن الفُرقة بين الزوجين تقع باختيار الزوج وإرادته عن طريق الطلاق، لكن ثَمَّ حالات تُرفع إلى القاضي، ويكون له إيقاع التفريق بين الزوجين فيها، ومن هذه الحالات: [1] التفريق بسبب الإيلاء. [2] التفريق بسبب الظهار. [3] التفريق بسبب اللعان. وقد تقدمت هذه الحالات وأحكامها قريبًا في هذا الكتاب. [4] التفريق للشقاق بين الزوجين: وقد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب «الزواج» في «النشوز وعلاجه، فليراجعه من شاء. [5] التفريق بسبب العيوب المانعة من الاستمتاع: تنقسم العيوب المانعة من الاستمتاع إلى قسمين: (أ) عيوب جنسية تمنع الوطء. (ب) عيوب لا تمنع الوطء، لكنها أمراض مُنفِّرة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر. ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (2906)، والترمذي (21116)، وابن ماجه (2742)، وأحمد (3/ 490). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (2908). (¬3) «زاد المعاد» (5/ 401).

وهذه العيوب منها ما يختص بالرجل، ومنها ما يختص بالمرأة، ومنها ما يشترك فيه الرجال والنساء. وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة -خلافًا للظاهرية (¬1) - على الجواز التفريق بين الزوجين للعيوب، لكنهم اختلفوا في موضعين: هل يثبت حق التفريق بالعيب لكلا الزوجين؟ أم للزوجة فقط؟ فقال الجمهور الأول، وذهب الحنفية إلى الثاني، قالوا: لأن الزوج يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق بخلاف الزوجة، والأظهر قول الجمهور: «لأن كلا الزوجين يتضرر بهذه العيوب، وأما اللجوء إلى الطلاق فيؤدي إلى الإلزام بكل المهر بعد الدخول وبنصفه قبل الدخول، وفي التفريق بسبب العيب يُعفى الرجل من النصف قبل الدخول، وبعد الدخول لها المسمَّى بالاتفاق، لكن يرجع الزوج - عند المالكية والحنابلة والشافعية - بالمهر بعد الدخول على ولي الزوجة كالأب والأخ لتدليسه بكتمان العيب، ولا سكنى لها ولا نفقة» (¬2). شروط التفريق بالعيوب (عند من يقول بها): اشترط الفقهاء شرطين لثبوت الحق في طلب التفريق بالعيب، وهما (¬3): 1 - ألا يكون طالب التفريق عالمًا بالعيب وقت العقد: فإن علم به قبل العقد، وعُقد الزواج لم يحقَّ له طلق التفريق، لأن قبوله التعاقد مع علمه بالعيب رضا منه بالعيب. 2 - ألا يرضى بالعيب بعد العقد: فإن كان طالب التفريق جاهلًا بالعيب، ثم علم به بعد إبرام العقد ورضي به، سقط حقُّه في طلب التفريق. فائدتان (¬4): 1 - اشترط الحنفية - كذلك - أن يكون طالب التفريق سالمًا من العيوب حتى يحق له طلبه، وخالفهم الجمهور فلم يشترطوا ذلك إلا في بعض الصور. 2 - اتفق الجمهور على أن العيب القديم السابق على العقد، والمرافق له، والحادث بعده، سواء في إثبات الخيار، لأنه عقد على منفعة، وحدوث العيب بها يثبت الخيار كما في الإجارة. ¬

(¬1) حجة الظاهرية: أنه لم يصحَّ في الفسخ للعيب دليل في القرآن أو السنة أو الأثر عن الصحابة أو القياس أو المعقول (!!). (¬2) «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 516). (¬3) «السابق» (7/ 521). (¬4) «الموسوعة الفقهية» (29/ 70 - 71) باختصار.

العيوب التي تجيز التفريق (¬1): [1] العيوب الخاصة بالرجل، وهي: (أ) الجَبُّ: وهو قطع ذَكَر الرجل وأنثييه، ومثله في الحكم عند الجمهور قطع الذكر وحده، ومثله - عند المالكية -: قطع الأنثيين دون الذكر. والمرأة تُحرَم الاستمتاع إذا كان الرجل قد جُب ذكره بلا خلاف، ولذا أثبتوا لها حق الفسخ إذا لم تكن تعلم بعيبه قبل العقد. (ب) العنَّة: وهي العجز عن الوطء مع سلامة العضو، وسمي بذلك - عند الجمهور - لأن الذكر يعن يمنة ويسرة ولا يطأ في الفرج، والعنة عند المالكية: هي صغر الذكر بحيث لا يتأتى به الجماع. والعنة تمنع من حق المرأة في الاستمتاع، ولذا ثبت لها حق طلب التفريق بالقيد المذكور قبله. وقد قال الفقهاء: يؤجل العنين للعلاج سنة، فإن استطاع الوطء خلال السنة لم يحق للمرأة طلب التفريق. (جـ) الخصاء: وهو -عند الجمهور- قطع الأنثيين أو رضُّها أو سلُّهما دون الذكر، وعند المالكية: هو قطع الذكر دون الأنثيين. وقد ذهب الحنفية والمالكية، وجمهور الحنابلة وبعض الشافعية إلى أن الخصاء يمنع المرأة من الاستمتاع، فأثبتوا لها حق طلب التفريق، واحتجوا لما جاء عن سليمان بن يسار: أن ابن سند تزوَّج امرأة وهو خصي، فقال له عمر: «أأعلمتها؟» قال: لا، قال: «أعلمها ثم خيِّر» (¬2). [2] العيوب الخاصة بالمرأة، وهي: (أ) الرَّتق: هو انسداد محل النكاح، بحيث لا يمكن معه الوطء، وربما كان ذلك لضيق في عظم الحوض، أو لكثرة اللحم فيه. (ب) القَرَن: هو شيء ناتئ في الفرج يسدُّه ويمنع الوطء، وربما كان ذلك من لحم أو عظم. ¬

(¬1) «البدائع» (3/ 327)، و «الدسوقي» (2/ 278)، ومغنى المحتاج» (3/ 202)، و «المغنى» (7/ 125)، و «كشاف القناع» (5/ 115). (¬2) صححه الألباني: انظر «إرواء الغليل» (6/ 322).

(جـ) العَفَل: رغوة في الفرج تحدث عند الجماع، أو هو ورم في اللحمة التي بين مسلكي المرأة فيضيق به فرجها فلا ينفذ به الذكر، وقيل: هو القرن. (ر) الإفضاء: هو اختلاط مسلك النكاح مع مسلك البول، أو اختلاط مسلك النكاح مع مسلك الغائط. وهذه العيوب: ذهب الجمهور إلى أنها تمنح الرجل حق طلب التفريق بسببها على خلاف عند بعضهم في اعتبار بعضها - قالوا: لأن هذه العيوب في المرأة تضيع حق الرجل في الاستمتاع، وهذا منقول عن عمر وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - ولا يعلم لهم منهم مخالف. هل يثبت حق التفريق بالاستحاضة؟ لم يذكر الفقهاء الاستحاضة في العيوب التي تجيز التفريق، إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) - رحمه الله - اعتبره عيبًا يجيز التفريق به، لأنه لا يمكن الوطء معه إلا بضرر يخافه أو أذى يحصل له والقاعدة عنده أن ما يمنع كمال الوطء، يجوز التفريق لأجله. [3] العيوب التي يشترك فيها الرجال والنساء: (أ) الجُنون. (ب) الجُذام: علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها، وربما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها مع التقرُّح. (جـ) البَرَص: بياض يظهر في ظاهر البدن فيفسد مزاج الأعضاء، وتزداد اتساعًا مع الأيام، وربما نبت عليها شعر أبيض أيضًا، وربما كانت بقعًا سوداء. وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار هذه الأمور من العيوب التي تجيز للزوجين طلب الفرقة، وقد نقل بعض أهل العلم إجماع الصحابة على إثبات خيار الفسخ بها (¬2). قلت: ويتأيد هذا المذهب بقول عمر - رضي الله عنه-: «أيُّما امرأة غُرَّ بها رجل، به جنون أو جُذام أو برص، فلها المهر بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غرَّه» (¬3). ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (32/ 172). (¬2) «المجموع» (16/ 167) ط. الفكر، و «المغني» (6/ 651) ط. الرياضي الحديثة. (¬3) رجاله ثقات: أخرجه مالك (2/ 526)، وعبد الرازق (10679)، والبيهقي (7/ 214) وهو صحيح إن صحَّ سماع ابن المسيب من عمر.

وبنحو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فرَّ من المجذوف فرارك من الأسد» (¬1). ففيه إثبات الضرر بالجذام ونحوه، وهذا مما يمنع حصول حق الاستمتاع والله أعلم. فائدة: هذه العيوب ليست للحصر، وإنما هي للتمثيل، فيلحق بها كل ما كان في معناها أو زاد عليها، ويدخل في هذا ما يسمى بمرض «الإيدز» ونحوه، نسأل الله العافية من البلاء. وقد اختار شيخ الإسلام أن تُرَّد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع، وقال ابن القيم: «والقياس: أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة، يوجب الخيار، وهو أولى من البيع كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورًا قطُّ، ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغُبن به، ومن تدبَّر مقاصد الشرع ومصادره وموارده وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح- لم يخفَ عليه رجحان هذا القول، وقربه من قواعد الشريعة» (¬2) اهـ. نوع الفرقة الحاصلة بالعيوب: ذهب الحنفية والمالكية أن الفرقة للعيب طلاقٌ بائن، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها فسخ وليست طلاقًا (¬3)، وهو الأقرب. [6] التفريق لعدم الإنفاق: اتفق أهل العلم على وجوب النفقة للزوجة على زوجها بالعقد الصحيح ما لم تمتنع من التمكين، فإذا لم يقم الزوج بها - لغير مانع من الزوجة - فهل لها أن تطلب الفُرقة لذلك؟ الجواب: أن هذا الزوج لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون له مال ظاهر يمكن للزوجة أخذ نفقتها منه، بعلم الزوج أو الوصول بغير علمه (¬4)، بنفسها أو أمر القاضي، فحينئذٍ ليس لها طلب التفريق، لوصولها إلى حقها بغير الفرقة فلا تمكَّن منها. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري. (¬2) «زاد المعاد» (5/ 183). (¬3) «الموسوعة الفقهية» (29/ 76). (¬4) تقدم في «حقوق الزوجين» (أن للمرأة أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف ولو بدون علم زوجها، والحديث فيه.

الثانية: أن لا يكون للزوج الممتنع عن النفقة مال ظاهر، سواء أكان ذلك لإعساره، أم للجهل بحاله، أم لأنه غيَّب ماله، ففي جواز رفع الزوجة إلى القاضي وطلبها التفريق لذلك خلاف بين أهل العلم، يمكن تلخيصه في ثلاثة مذاهب (¬1): الأول: يجوز التفريق لعدم الإنفاق: وهو مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة وهو مروي عن عمر وعليٍّ وأبي هريرة، وبه قال ابن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، ومن أدلتهم: 1 - قوله تعالى: {ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} (¬2).وإمساك المرأة بدون النفقة عليها إضرار بها. 2 - قوله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} (¬3). وإمساك الزوجة مع ترك الإنفاق عليها ليس إمساكًا بمعروف، فيتعين التسريح. 3 - حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصدقة ما ترك غنيَّ، واليد العليا خير من اليد السفلى، وأبدأ بمن تعول» تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تُطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ قالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة (¬4). وأجاب المخالفون: بأن قوله: (تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تُطلقني) ليس مرفوعًا بل هو قول أبي هريرة كما هو مصرَّح به هنا، وهو الراجح من طرق الحديث. 4 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار». 5 - عن أبي الزناد قال: سألتُ سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال: «نعم» قلتُ: سُنة؟ قال: «سُنة» (¬5). ¬

(¬1) «الدسوقي» (2/ 518)، و «مغنى المحتاج» (3/ 442)، و «المغنى» (7/ 573)، و «الزاد» (5/ 511)، و «سبل السلام» (ص1170). (¬2) سورة البقرة: 231. (¬3) سورة البقرة: 229. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (5356)، وانظر: أحمد (2/ 524)، والدارقطني (3/ 296)، والبيهقي (7/ 470)، وابن حبان (5/ 150). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2022)، وعبد الرزاق (7/ 96).

قال الشافعي: «ويُشبه أن يكون المقصود بقوله: سنة، أي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» اهـ (!!). 6 - عن ابن عمر قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن: «ادعُ فلانًا وفلانًا - ناسًا قد انقطعوا من المدينة وخلوا منها - فإما أن يرجعوا إلى نسائهم، وإما أن يبعثوا إليهن بالنفقة، وإما أن يطلقوا، ويبعثوا بنفقة ما مضى» (¬1). 7 - أن الفسخ ثبت بالعجز عن الوطء، والضرر فيه أقل من الضرر من عدم الإنفاق، لأن العجز عن الوطء إنما هو فقد لذة وشهوة يبقى البدن بدونها، فلأن يثبت الفسخ بالعجز عن النفقة- التي لا يقوم البدن إلا بها - أولى. 8 - أن النفقة في مقابل الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها - عند الجمهور - فإذا لم تجب النفقة سقط الاستمتاع، فوجب الخيار للزوجة. 9 - القياس على الرقيق والحيوان، فإن من أعسر بالإنفاق عليه أُجبر على بيعه اتفاقًا، ففي الزوجة أولى. الثاني: لا يجوز التفريق لعدم الإنفاق: وهو مذهب الحنفية، وقول للشافعي (¬2)، وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا} (¬3). قالوا: وإذا لم يكلفه الله النفقة في هذه الحال، فقد ترك ما لا يجب عليه، ولا يأثم بتركه، فلا يكون سببًا للتفريق بينه وبين سكنه، وأجيب عن الآية بأنها دلت على سقوط الوجوب عن الزوج المعسر، وهذا يقول به الأولون. 2 - قوله تعالى: {وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} (¬4). قالوا: وغاية ما يقال في نفقة الزوجة أنها تكون دينًا في الذمة، وقد أعسر بها الزوج، فتكون الزوجة مأمورة بالانتظار بموجب نص هذه الآية. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه الرزاق (7/ 93)، والبيهقي (7/ 469). (¬2) «فتح القدير» (3/ 320)، و «المبسوط» (5/ 191)، و «سبل السلام» (1170)، وإلى هذا جنح ابن القيم في «الزاد» (5/ 521) إلا أنه أجاز التفريق في حالة: إذا غرَّ الرجل والمرأة بأنه ذو مال، فتزوجته على ذلك، ثم ظهر معدومًا لا شيء له، أو كان ذا مال وترك الإنفاق عليها ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم. (¬3) سورة الطلاق: 7 (¬4) سورة البقرة: 280.

3 - حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد الناس جلوسًا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم -جالسًا حوله نساؤه واجمًا ساكتًا، قال: فقال: لأقولن شيئًا أُضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، لو رأيتَ بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «هنَّ حولي كما ترى يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا أبدًا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا ...» (¬1). قالوا: فهذا أبو بكر وعمر يضربان بنتيهما بحضرته - صلى الله عليه وسلم -لما سألتاه النفقة التي لا يجدها، فلو كان الفسخ لهما وهما طالبتان للحق لم يُقر النبي - صلى الله عليه وسلم -الشيخين على ما فعلا، ولبيَّن أن لهما أن تطالبان مع الإعسار حتى تثبت على تقدير ذلك المطالبة بالفسخ. وأجيب: بأن ضرب أبي بكر وعمر كالآية دلت على عدم وجوب عليه - صلى الله عليه وسلم -وليس فيه أنهن سألن الطلاق أو الفسخ، ومعلوم أنهن لا يسمحن بفراقه، فإن الله تعالى قد خيرهن فاخترن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -والدار الآخرة، فلا دليل في القصة، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم -لا يفرط فيما يجب عليه من الإنفاق فلعلهم طلبن زيادة على ذلك، فتخرج القصة عن محل النزاع بالكلية. 4 - أنه كان في الصحابة المعسر بلا ريب، ولم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -أحدًا منهم بأن للزوجة الفسخ، ولا فسخ أحد. وأجيب: بأنه لم يُعلم أن امرأة طلبت الفسخ أو الطلاق لإعسار الزوج بالنفقة ومنعها عن ذلك حتى تكون حجة، بل كان نساء الصحابة كرجالهن يصبرن عل ضنك العيش وتعسُّره، كما قال مالك: إن نساء الصحابة كنَّ يردن الآخرة فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن. 5 - ولأنها لو مرضت الزوجة، وطال مرضها حتى تعذر على الزوج جماعها لوجبت نفقتها ولم يكن من الفسخ، وكذلك الزوج، فدل على أن الإنفاق ليس في مقابلة الاستمتاع كما قال الأولون. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1478).

الثالث: لا يجوز التفريق بعدم الإنفاق، بل يجب على الزوجة الموسرة أن تنفق على زوجها المعسر: فإذا أيسر الزوج لا ترجع عليه بشيء، وهذا هو مذهب أبي محمد بن حزم (¬1) مستدلًا بقوله تعالى: {وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نُفْسٌ إلاَّ وسْعَهَا لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا ولا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (¬2). قال: فالزوجة وارثة، فعليها النفقة بنص القرآن (!!) وتُّعقب بأن الله تعالى قد جعل على وارث المولود له، أو وارث من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على الموروث، فأين في الآية نفقة غير الزوجات حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه؟! (¬3). الراجح: الأظهر مما تقدم: القول بجواز التفريق بعدم الإنفاق للأدلة التي ذكرها الجمهور، لا سيما وقد قال به الصحابة وعملوا به، ولما فيه من رفع الضرر عن الزوجة لا سيما إذا رفض الزوج تطليقها اختيارًا أو بالاتفاق معها، على أن الأولى والأحسن أن تصبر الزوجة في إعسار زوجها وتقف بجانبه وتواسيه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا. وأما أدلة المانعين فلا تنهض لمكافأة أدلة الجمهور، والله أعلم. نوع هذه الفرقة؟ ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الفرقة لعدم الإنفاق فسخ ما دامت بحكم القاضي، فإن طلب القاضي من الزوج طلاقها فطلقها كانت رجعية ما يبلغ الثلاث أو يكن قبل الدخول، وإلا فبائن. وذهب المالكية إلى أنها طلاق رجعي وللزوج مراجعتها في العدة إلا أنهم اشترطوا لصحة الرجعة - هنا- أن يجد الزوج يسارًا لنفقتها الواجبة عليه (¬4). ¬

(¬1) «المحلي» (10/ 92). (¬2) سورة البقرة: 232. (¬3) «زاد المعاد» (5/ 518) طـ. الرسالة. (¬4) «الدسوقي» (2/ 419)، و «مغنى المحتاج» (3/ 442)، و «المغنى» (3/ 442).

[7] التفريق بسبب الضرر (¬1): يرى المالكية أن للزوجة طلب التفريق بسبب الضرر الواقع عليها من قبل الزوج، وحدُّ هذا الضرر: «كل ما يلحق الأذى أو الألم ببدن الزوجة أو نفسها أو يعرضها للهلاك، ويصدر من الزوج بقصد وتعمد، وبدون وجه حق، أو موجب شرعي لهذا الإضرار». وهذا الضرر قد يكون ماديًّا أو معنويًّا نفسيًّا، فالمادي: كل ما يلحق الأذى ببدنها كضربها وإحداث جرح في بدنها، وكإلقاء الماء الحار عليها ونحو ذلك مما لا يجوز فعله شرعًا. والمعنوي أو النفسي: ما يلحق الألم في نفس الزوجة، كإسماعها القبيح من سب وشتم لها ولوالديها، وكترك الكلام معها وإهانتها وهجر فراشها وعدم وطئها دون مبرر شرعي. لكن لا ينبغي أن تبادر المرأة - مع أهون ضرر - برفع طلب التفريق إلى القاضي، وإنما يكون هذا بعد استنفاد كل وسائل الإصلاح وحصول ما لا يطاق معه دوام العشرة بين أمثالها. وقد أُخذ بمذهب المالكية في هذه المسألة في المحاكم المصرية. ترك الوطء من الضرر المبيح لطلب التفريق: تقدم في «حقوق الزوجين» أن وطء الرجل زوجته بالمعروف واجب في أصح قولي العلماء، ولذا قال شيخ الإسلام: «وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضٍ للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، ولو مع قدرته وعجزه كالنفقة وأولى» اهـ (¬2). نوع الفرقة في هذه الحالة: قال المالكية - وهم أكثر الفقهاء أخذًا بالتفريق بالضرر -: الواقع بالتفريق للضرر: طلقة بائنة وذلك بأن يأمر القاضي زوجها بطلاقها، فإن امتنع طلَّق عليه القاضي (¬3). ¬

(¬1) «الدسوقي» (2/ 345)، و «مواهب الجليل» (4/ 17)، و «المفصَّل» لعبد الكريم زيدان (8/ 437). (¬2) «الاختيارات الفقهية لابن تيمية» (ص: 247). (¬3) «حاشية الدسوقي» (2/ 345).

[8] التفريق لفقد الزوج أو غيبته: أولًا: التفريق لغيبة الزوج: إذا غاب الزوج عن زوجته - مع علمها بمكانه وإمكان الاتصال به - فقد اختلف الفقهاء في جواز التفريق للغيبة على أقوال، مبناها اختلافهم في حكم استدامة الوطء، أو حق للزوجة مثل ما هو حق للزوج أم لا؟ فذهب الحنفية والشافعية - وهو قول للحنابلة - إلى أن دوام الوطء قضاء حق للرجل فقط، وليس للزوجة حق فيه (!!) فإذا ترك وطأها مدة لم يكن ظالمًا لها سواء كان حاضرًا أو غائبًا، وعليه: فليس لها طلب التفريق لذلك عندهم، وهذا مذهب ابن حزم (¬1). بينما ذهب المالكية على أاستدامة الوطء حق للزوجة مطلقًا، وهو الأظهر عند الحنابلة إلا أنهم قيدوه بما لم يكن بالزوج عذر مانع منه كمرض أو غيره، ولذا أجازوا طلب التفريق للغيبة (¬2)، واشترطوا في الغيبة ليثبت التفريق بها للزوجة شروطًا، وهي: 1 - أن تكون غيبة طويلة: واختلفوا في مدَّتها: فقال الحنابلة أكثر من ستة أشهر، واستندوا إلى ما يروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه «وقَّت للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهرًا، ويقيمون أربعة أشهر ويسيرون شهرًا راجعين» (¬3) وهذا لما سمع شكاة امرأة بالمدينة كان زوجها غائبًا عنها في سبيل الله. وحدَّها المالكية- في المعتمد عندهم- بسنة فأكثر. 2 - أن تكون الغيبة لغير عذر، فإن كانت لعذر كالحج والتجارة وطلب العلم لم يكن لها طلب التفريق، هذا عند الحنابلة، وأما المالكية فلم يشترطوا عدم العذر، وإنما لها الحق بالغيبة مطلقًا. ¬

(¬1) «الأم» (5/ 239)، و «ابن عابدين» (3/ 202)، و «المحلى» (10/ 133 - 134)، و «المغني» (7/ 488). (¬2) «الدسوقي» (2/ 339)، و «المغنى» (7/ 31، 488)، و «كشاف القناع» (3/ 144). (¬3) أخرجه سعيد بن منصور (2463) بسند حسن وأخرجه عبد الرازق (12594) عن معمر بلاغًا، وله شواهد ذكرها ابن كثير في «تفسيره» إلا أن في بعض طرقه (أربعة أشهر) وفي بعضها ستة أشهر.

3 - أن تخشى على نفسها الضرر، والمراد به: الوقوع في الزنى. 4 - أن يكتب القاضي إليه بالرجوع إليه أو نقلها أو تطليقها ويمهله مدة مناسبة. قلت: القول بجواز التفريق للغيبة أوجه بلا شك، لأن الصحيح الوطء بالمعروف حق للمرأة كما تقدم تحريره، ولقوله تعالى {ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). واعتبار عذر الرجل في تركه من المعروف فيُعتبر قول الحنابلة، لكن ينبغي أن يتقيد بألا تزيد غيبة المعْذور عن المدة التي تنتظرها زوجة المفقود والتي يأتي تحريرها قريبًا. وأما تحديد مدة الستة أشهر فإن ثبت النقل به عن عمر - رضي الله عنه - فالقول قوله، وإلا فالتحديد بمدة الإيلاء (أربعة أشهر) أولى لاسيما وفي بعض الطرق أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد: «أن لا تحبسوا الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر» وقد تقدم في «مدة الإيلاء» والله أعلم. نوع الفرقة بغيبة الزوج (¬2): اتفق القائلون بجواز التفريق للغيبة على أنه لا بد فيه من قضاء القاضي، لأنه فصلٌ مجتهد فيه، فلا ينفذ بغير قضاء. وهذه الفرقة فسخ عند الحنابلة، وعند المالكية: طلاق، ولم يصرحوا بكونه بائنًا أو رجعيًا. هل يفرَّق على الزوج المحبوس: المحبوس غائب معلوم المكان، وعليه فإن الجمهور خلافًا للمالكية قالوا: لا يجوز التفريق عليه مطلقًا، فأما الحنفية والشافعية فلأنه غائب معلوم الحياة وهم لا يقولون بالتفريق عليه كما تقدم وأما الحنابلة فلأن غيابه لعذر. ثانيًا: التفريق لفقدان الزوج: إذا غاب الزوج عن زوجته غيبة منقطعة خفيت فيها أخباره، وجهلت فيها حياته، فهذا يسمى (المفقود) ومذاهب العلماء في تجويز طلب زوجة المفقود التفريق كمذاهبهم في زوجة الغائب - من حيث الجملة - لأن المفقود غائب وزيادة. ¬

(¬1) سورة البقرة: 228. (¬2) «المراجع السابقة».

فإذا فُقد الزوج فللعلماء في شأن زوجته أقوال (¬1): الأول: لا تتزوج وليس لها طلب التفريق مهما طالت المدة حتى يتبيَّن وفاته أو تطليقه: وهذا مذهب الحنفية والشافعي في الجديد، وبه قال ابن حزم، وحجتهم: 1 - ما يروي عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان» (¬2) وهو ضعيف ولا يثبت. 2 - ما يُروى عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا فقدت زوجها فلا تتزوَّج حتى يستبين أمره» (¬3) وعنه أنه قال في امرأة المفقود: «وهي امرأته ابتليت، فتصبر حتى يستبين موت أو طلاق» (¬4) وفي أسانيدها نظر. 3 - لأنها زوجة كباقي الزوجات، فلا تقع الفرقة بينها وبين زوجها إلا بما يوجب الفرقة من موت أو طلاق وليس فقدان الزوج موجبًا للفرقة. 4 - أنه لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله، فلم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته. الثاني: تتربَّص الزوجة أربع سنين من غيبته ثم يُحكم بوفاته فتعتد بأربعة أشهر وعشر وتحلُّ بعدها للأزواج: وهو ظاهر مذهب أحمد فيمن كان ظاهر غيبته الهلاك والقول القديم للشافعي، وبه قال المالكية [إذا فقد في حالة السلم في دار الإسلام] وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة: 1 - عن ابن المسيب أن عمر - رضي الله عنه - قال: «أيُّما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو، فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا ثم تحلُّ» (¬5). ¬

(¬1) «البدائع» (6/ 196)، و «الدسوقي» (2/ 479)، و «مغنى المحتاج» (3/ 26، 379)، و «الأم» (5/ 239)، و «المغنى» (7/ 489)، و «كشاف القناع» (3/ 267)، و «المحلي» (10/ 133). (¬2) ضعيف: أخرجه البيهقي (7/ 445). (¬3) ذكره البيهقي (7/ 446) وقال شيخنا في «جامع أحكام النساء» (4/ 201) في أسانيدها نظر. (¬4) عزاه في لحافظ في «الفتح» (9/ 340 - سلفية) إلى أبي عبيد في «النكاح» وذكر في «المغنى» (7/ 491) أنه مرسل. (¬5) صحيح لطرقه: أخرجه مالك (1219)، وعبد الرازق (7/ 88)، وسعيد بن منصور (1752)، والبيهقي (7/ 445).

2 - وعنه أن عمر وعثمان قضيا في المفقود أن امرأته تتربَّص أربع سنين وأربعة أشهر وعشرًا بعد ذلك، ثم تزوج، فإن جاء زوجها الأول خيرِّ بين الصداق وبين امرأته» (¬1). 3 - عن جابر بن زيد «عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين، قال ابن عمر: ينفق عليها في الأربع سنين من مال زوجها، لأنها حبست نفسها عليه ...» الأثر (¬2). 4 - أنه لا يصح خلاف هذا عن أحد من الصحابة. وعند الحنابلة - وهو اختيار شيخ الإسلام - لا يشترط لتربُّص الزوجة المدة المقررة لها، ووقوع الفرقة بعدها حكم حاكم (¬3). الثالث: لا وجه لتربُّصها ولها أن تطالب الحاكم بالفسخ: وهذا القول نقله الصنعاني عن الإمام يحيى، واستحسنه، واختاره شيخنا - رفع الله قدره - وقيَّد طلبها للتفريق بخشية الوقوع في الفتنة (¬4). ومأخذ هذا القول عموم الأدلة الرافعة للضرر، كقوله تعالى {ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} (¬5). وقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا ضرر ولا ضرار» (¬6). وأنه قد شُرع التفريق لرفع المضارة في الإيلاء والظهار وللعيوب ونحو ذلك، وهو هنا أبلغ، وأما المدة التي تتربَّصها فليس فيها شيء مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم تكن لازمة. قلت: أما جواز طلب المرأة المفقودة زوجها التفريق لفقده فلا شك أن قواعد الشريعة وأصولها يؤيده، وكذلك قال به الصحابة - رضي الله عنهم-، لأن تضرُّر المرأة حاصل بفقد زوجها إلا فيما ندر، لكن الذي ينبغي تحريره: ما الأجل الذي يُضرب لها لانتظاره ثم يجوز لها طلب الفسخ بعده؟ وهل حكم عمر ومن معه من الصحابة بانتظار الأربع سنوات مُلزم؟ ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 85). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1/ 402). (¬3) «كشاف القناع» (3/ 267)، و «الاختيارات الفقهية» (ص 281). (¬4) «سبل السلام» (ص1143)، و «جامع أحكام النساء» (4/ 202) لشيخنا مصطفى العدوي حفظه الله. (¬5) سورة البقرة: 231. (¬6) حسن: تقدم قريبًا.

فلقائل أن يأخذ بقول عمر ومن معه من الصحابة لأنه لا يصح خلافه عن أحد منهم، ويكون لهذا القول وجهه، ولآخر أن يقول: «آراء الصحابة إن هي إلا اجتهاد منهم، والذي نعتقده حقًّا هو أن مرجع الأمر للحاكم فله أن يقدر الوقت لها، وذلك يختلف باختلاف الأزمان، فإذا كان في عصر الصحابة مقدرًا بأربع سنين كما ذهب إليه أو حكم به عمر بن الخطاب، وهو إنما قاله بما كان له من سلطة الحكم، وعصرهم لم تكن فيه الأخبار سريعة التدوال بين البلدان، ومن الصعب وصول خبر من قُطر إلى آخر إلا بعد مدة طويلة، فقد يجوز في زماننا هذا أن يقدر الأجل بسنة واحدة ...» (¬1) وهذا اختيار العلامة أحمد شاكر، رحمه الله. قلت: ولهذا القول وجاهته لاسيما وقد تيسرت وسائل الاتصالات الحديثة، ولما فيه من رفع الضرر عن المرأة لاسيما في زمان الفتنة، فالذي يظهر أن المرأة إذا خشيت الفتنة ترفع أمرها إلى القاضي لينظر فيه فإن رأى المصلحة في فسخ النكاح فعل والله أعلم. نوع الفرقة للفقد (¬2): إذا لم ترفع المرأة المفقود زوجها أو أحدٌ من ورثته أمره للقاضي، فهو حي في حق زوجته العمر كله بالاتفاق. فإذا رفع إلى القاضي وقضى بموته انقضت الزوجية حكمًا من تاريخ حكم الوفاة، وبانت زوجته واعتدَّت للوفاة، وهي ببينونة وفاة لا بينونة طلاق أو فسخ. إذا عاد المفقود بعد الحكم بالتفريق: فهذا له حالات ثلاث: الأولى: أن يعود المفقود، وزوجته لم تتزوج: فهي امرأته بنكاحها الأول معه، ولا تحتاج إلى تجديد النكاح معه، لأننا إنما أبحنا لها الزواج، لأن الظاهر موت زوجها، فإذا بان حيًّا انخرم ذلك الظاهر، وكان النكاح بحاله، كما لو شهدت البيِّنة بموته ثم بان حيًّا (¬3). الثانية: أن يعود بعد أن تزوجت زوجته، وقبل دخول الثاني بها: فهي زوجة ¬

(¬1) حاشية «الروضة الندية» (2/ 56). (¬2) «ابن عابدين» (2/ 656)، و «الدسوقي» (2/ 479)، و «مغنى المحتاج» (3/ 397)، و «المغنى» (7/ 489). (¬3) «الفتاوى الهندية» (2/ 300)، و «الدسوقي» (2/ 480)، و «المجموع» (16/ 616)، و «المغنى» (7/ 492).

الأول كذلك عند الجمهور (مالك والشافعي واحمد) لأن نكاحها إنما صحَّ في الظاهر دون الباطن فإذا قدم المفقود تبيَّنا أن نكاح امرأته كان باطلًا، لأنه صادف امرأة ذات زوج، وليس على الثاني حينئذٍ مهر، لأنه فاسد لم يتصل به دخول (¬1). الثالثة: أن يعود بعدما تزوجت زوجته ودخل الثاني بها: فقد ثبت عن عمر وعثمان أنهما قضيا في المفقود «أن امرأته تتزوَّج، فإن جاء زوجها الأول خيِّر بين الصداق وبين امرأته» (¬2). وبه قال الحنابلة: فإن اختار المفقود زوجته فهي زوجته بالعقد الأول، لأن نكاحها من الثاني كان باطلًا، وإن اختار تركها فإنه يرجع على الثاني (أي: يأخذ منه) بصداقها، قيل: الذي كان دفعة لها أولًا - وهو قضاء الصحابة- وقيل يأخذ المهر الذي دفعه الثاني (!!) (¬3). واختار شيخ الإسلام أنها تكون زوجة الثاني ظاهرًا وباطنًا. [9] التفريق بإسلام أحد الزوجين أو وردَّته: (أ) إذا أسلمت المرأة وزوجها كافر: فإنه يفرَّق بينهما لعدم جواز بقاء المسلمة تحت الكافر، قال الله تعالى: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬4). واختلف أهل العلم في نوع هذه الفرقة وفي أثرها إذا أسلم زوجها بعد ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: تبيُن منه بمجرد إسلامها، فإن أسلم بعدها - ولو بلحظة - لزمه إن رضيت عقدَ جديد: وهو مذهب ابن عباس وعطاء وطاووس وفقهاء الكوفة (¬5) وأبي ثور واختاره ابن المنذر وابن حزم وهو رواية عن أحمد وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬6). فالإسلام سبب الفرقة، وما كان سببًا للفرقة تعقبه فرقة كالرضاع والخلع والطلاق. ¬

(¬1) المراجع السابقة. (¬2) إسناده صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «المغني» (7/ 492 - 493). (¬4) سورة الممتحنة: 10. (¬5) وشرط أهل الكوفة أن يُعرض على زوجها الإسلام في تلك المدة فيمتنع، إن كانا معًا في دار الإسلام. (¬6) سورة الممتحنة: 10.

2 - عن ابن عباس قال: «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه» (¬1). وفي رواية: «يفرِّق بينهما الإسلام، لأنه يعلو ولا يعلى عليه» (¬2). 3 - وسئل عطاء عن امرأة من أهل العهد أسلمت، ثم أسلم زوجها في العدة، أهي امرأته؟ قال: «لا، إلا أن تشاء هي بنكاح جديد وصداق» (¬3). الثاني: تعتدُّ منه، فإن أسلم في عدتها فهي امرأته، وإلا لزمه إن رضيت عقد جديد: وهذا مذهب الجمهور، منهم: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وحجتهم: 1 - ما رُوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد» (¬4) وهو حديث ضعيف. 2 - وقال مجاهد: «إذا أسلم في العدة يتزوَّجها» (¬5). 3 - وقد ادَّعى ابن عبد البر الإجماع على عدم جواز تقرير بقاء المسلمة تحت الكافر إذا تأخَّر إسلامه عن إسلامها حتى انقضت عدتها، وهو منقوض بالمنقول عن على والنخعي. الثالث: النكاح موقوف: فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، وإن انقضت عدتها، فلها أن تنكح من شاءت، وإن أحبت انتظرته، فإن أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد نكاح: وهو مذهب عمر وعليّ رضي الله عنهما واختاره ابن القيم والصنعاني والشوكاني، وحجتهم: 1 - حديث ابن عباس قال: «وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حلَّ لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدَّت إليه ...» الحديث (¬6). ¬

(¬1) علَّقه البخاري (9/ 330) بصيغة الجزم ووصله ابن أبي شيبة. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه الطحاوي. (¬3) علَّقه البخاري بصيغة الجزم (9/ 330) ووصله ابن أبي شيبة. (¬4) ضعيف: أخرجه الترمذي (1142)، وابن ماجه (2010)، وأحمد (6938) وضعَّفه وكذلك الترمذي. (¬5) علَّقه البخاري (9/ 330) ووصله الطبري. (¬6) أخرجه البخاري (5286) وهو مما انتُقد عليه، انظر «مقدمة الفتح» (ص 375).

2 - حديث ابن عباس قال: «ردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحًا» (¬1). وفيه ضعف، وله شواهد مرسلة. قال ابن القيم: «وهو [أي: أبو العاص] إنما أسلم زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة فبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة، وأما قوله في الحديث: «كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين» فوهم، إنما أراد: بين هجرتها وإسلامه» اهـ. 3 - عن عبد الله بن يزيد الخطمي: «أن نصرانيًّا أسلمت امرأته، فخَّيرها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه» (¬2). ومعلوم بالضرورة أنه إنما خيَّرها بين انتظاره إلى أن يُسلم فتكون زوجته كما هي، أو تفارقه. 4 - قال ابن القيم: «ولم يزل الصحابة يُسلم الرجل قبل امرأته، وامرأته قبله ... ولا نعلم أحدًا جدد للإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد أمرين: إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإما بقاؤها عليه وإن تأخرَّ إسلامها أو إسلامه، وأما تنجيز الفُرقة أو مراعاة العدة، فلا نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم في عهده من الرجال وأزواجهم، وقرب إسلام أحد الزوجين وبُعده منه، ولولا إقراره - صلى الله عليه وسلم -الزوجين على نكاحهما، وإن تأخرَّ إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح، لقلنا بتعجيل الفُرقة بالإسلام من غير اعتبار العدة، لقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬3). وقوله: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (¬4). قال الشوكاني: «وهذا كلام في غاية الحسن والمتانة» اهـ. قلت: نعم، وهذا ما تقضيه الأدلة، وإن خالف الأكثرين، لكن هنا تنبيه ينبغي الإشارة إليه: ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (2240)، والترمذي (1143)، وابن ماجه (2009) وغيرهم، وله شواهد مرسلة صحيحة عند ابن سعد في «الطبقات»، وعبد الرازق (12647)، والطحاوي (2/ 149)، فربما يتقوَّى بها. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن حزم في «المحلي» (7/ 313). (¬3) سورة الممتحنة: 10. (¬4) سورة الممتحنة: 10.

الحضانة

تنبيه: قولنا: تبقى عليه على العقد الأول وإن تأخر إسلامه ما لم تتزوَّج غيره، لا يعني أنها زوجته ما لم تتزوَّج (!!) لأنها محرَّمة عليه بنص القرآن، فلا يجوز لها أن تمكث في بيته إذا هي أجنبية عنه، خلافًا لما يفتى به - في هذه الأيام - بعض (الدكاترة المتفتحين!!) سبحان الله، نحلُّ لها الحرام حتى نرغِّبها في الإسلام؟!! نعوذ بالله من الخذلان. أقول: غاية ما في الأمر أن زوجها إذا أسلم بعدها فوجدها خليَّة لم تتزوَّج فهو أحق بها ولا يحتاج إلى تجديد عقد، والله أعلم. (ب) وإذا أسلم الرجل وزوجته كافرة: 1 - فإن كانت كتابية، فهما على نكاحهما، لأنه يصح الزواج بينهما ابتداءً من الأصل، فيكون بقاء الزواج بينهما أولى. 2 - وإن كانت كافرة - غير كتابية- فُرِّق بينهما لقوله تعالى: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (¬1). فإن أسلمت بعده فهي امرأته على نكاحها الأول، كما تقدم. (جـ) إذا ارتدَّ أحد الزوجين المسلمين: فإن الفُرقة تقع بينهما، على تفصيل الخلاف المتقدم في إسلام أحدهما، فإن عاد المرتد إلى الإسلام كان حكمه حكم إسلام من كان باقيًا على الكفر، وقد تقدم. الحضانة تعريف الحضانة (¬2): الحضانة: مصدر من: حضن الصبي حضنًا وحضانة، أي: جعله في حضنه أو ربَّاه فاحتضنه، والحضن هو ما دون الإبط إلى الكشح والصدر أو العضدان وما بينهما وجانب الشيء أو ناحيته. والحضانة اصطلاحًا: حفظ من لا يستقلُّ بأمره وتربيته ورقابته عما يهلكه أو يضرُّه ولا يرد تطبيق أحكام الحضانة - غالبًا - إلا في حال الفرقة بين الزوجين ¬

(¬1) سورة الممتحنة: 10. (¬2) «أحكام الطفل» (ص: 212) لشيخنا أحمد العيسوي - نضَّر الله وجهه - وانظر «القاموس المحيط»، و «البدائع» (4/ 40)، و «مغنى المحتاج» (3/ 452)، و «كشاف القناع» (5/ 576).

ووجود أولاد دون السن التي يستغنى فيها الصغير عن النساء، وذلك أن الولد يحتاج إلى نوع من الرعاية والحماية والتربية والقيام بما يصلحه، وهذا ما يعرف بالولاية. حُكمها (¬1): الحضانة واجبة، لأن المحضون يهلك بتركها، فوجب حفظه من الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك. والحضانة - عند المحققين - تتعلق بها ثلاث حقوق معًا: حق الحاضنة، وحق المحضون، وحق الأب أو من يقوم مقامه، فإن أمكن التوفيق بين هذه الحقوق وجب المصير إليه، وإن تعارضت قُدِّم حق المحضون على غيره، ويتفرَّع على هذا الأحكام التالية: 1 - تجبر الحاضنة على الحضانة إذا تعيَّنت عليها، بأن لم يوجد غيرها. 2 - لا تجبر الحاضنة على الحضانة إذا لم تتعيَّن عليها، لأن الحضانة حقها، ولا ضرر على الصغير لوجود غيرها من المحارم. 3 - لا يصح للأب أن يأخذ الطفل من صاحبة الحق في الحضانة، ويعطيه لغيرها إلا لمسوِّغ شرعي. 4 - إذا كانت المرضعة غير الحاضنة للولد، فعليها إرضاعه عندها حتى لا يفوت حقها في الحضانة. ترتيب المستحقين للحضانة (¬2): لما كان نساء أعرف بالتربية وأقدر عليها وأصبر وأرأف وأفرغ لها وأشد ملازمة للطفل قُدِّمن على الرجال في حضانة الطفل، وهذا في سنٍّ معينة، وبعدها يكون الرجال أقدر على التربية من النساء. الأم أحقٌ الحاضنات: وإذا كان النساء مقدمات على الرجال في الحضانة، فإن أم الطفل أحقُّ ¬

(¬1) «المراجع السابقة» مع «المغنى» (7/ 612)، و «الفقه الإسلامي وأدلته» (7/ 718). (¬2) «البدائع» (4/ 41 - 44)، و «فتح القدير» (10/ 313)، و «القوانين الفقهية» (224)، و «المراجع السابقة»، و «زاد المعاد» (5/ 437 - وما بعدها)، و «مجموع الفتاوى» (34/ 123).

بحضانته- بعد الفرقة بطلاق أو وفاة أو زواج من غيرها - بالإجماع لوفور شفقتها، إلا إذا وُجد مانع يمنع استحقاقها للحضانة كما سيأتي قريبًا، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي» (¬1). ترتيب الحضانات بعد الأم: تقدم أن أم الطفل هي الأحق بحضانته من غيرها بالاتفاق، لكن إذا وُجد مانع - مما سيأتي- من تقديمها، فقد تضاربت أقوال الفقهاء واختلفت في ترتيب المستحقات لحضانة الطفل: 1 - فعند الحنفية: تقدَّم الأم، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم الأخوات، ثم الخالات، ثم بنات الأخت، ثم بنات الأخ، ثم العمات، ثم العصبات بترتيب الإرث. 2 - وعند المالكية: الأم، ثم الجدة لأم، ثم الخالة، ثم الجدة لأب، وإن علت، ثم الأخت، ثم العمة، ثم ابنة الأخ، ثم للوصي، ثم للأفضل من العصبة. 3 - وعند الشافعية: الأم، ثم أمُّ الأم، ثم أمُّ الأب، ثم الأخوات، ثم الخالات، ثم بنات الأخ وبنات الأخت، ثم العمَّات، ثم لكل ذي محرم وارث من العصبات على ترتيب الإرث، فهم قد وافقوا الحنفية. 4 - وعند الحنابلة: الأم، ثم أمُّ الأم، ثم أمُّ الأب، ثم الجد ثم أمهاته، ثم الأخت لأبوين، ثم الأخت لأم، ثم لأب، ثم خالة لأبوين، ثم لأمِّ ثم لأبٍ، ثم عمه، ثم خالة أم، ثم خالة أب، ثم عمته، ثم بنت أخ، ثم بنت عم أب، ثم باقي العصبة الأقرب فالأقرب. قلت: سبب وجود هذا الاختلاف، عدم وجود النص القاطع في المسألة، لكننا نلحظ تقديم أكثرهم أقارب الأم على أقارب الأب عند التساوي في القرب، ولعلهم استندوا في هذا إلى تقديم الأم على الأب فأخذوا منه تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب، وربَّما ساعدهم على وضع هذا الضابط ما يلي: ¬

(¬1) حسن: أحرجه أبو داود (2276)، وأحمد (2/ 182)، والبيهقي (8/ 4).

1 - حديث البراء في اختصام على بن أبي طالب وزيد وجعفر في حضانة ابنة حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: «قال عليٌّ: أنا أخذتُها وهي بنت عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» (¬1). 2 - حديث القاسم بن محمد قال: كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار، فولدت له عاصم بن عمر، ففارقها، فجاء عمر قباء فوجد ابنه يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه، حتى أتيا أبا بكر الصديق، فقال عمر: ابني، وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكر: «خلِّ بينها وبينه». قال: فما راجعه عمر الكلام (¬2). وخالف في هذا شيخ الإسلام - وهو رواية أحمد (¬3) - فقال: «يقدَّم من النساء من كُنَّ من جهة الأب على اللائي من جهة الأم، وما سوى ذلك من تقديم نساء الأم على نساء الأب فهو مخالف للمنصوص والمعقول» قلت: يعني إذا تساووا في درجة القرابة، وإلا فيقدم الأقرب، ومأخذ هذا الضابط «أن مجمع أصول الشرع إنما يقدم أقارب الأب في الميراث والعقد والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، ولم يقدم الشرع قرابة الأم في حكم من الأحكام، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة». وأجاب أصحاب هذه الاتجاه عن حديث ابنة حمزة بجوابين (¬4): الأول: أن الشرع قدم خالة ابنة حمزة لأنها تحت ابن عمها جعفر ممل جعل عليًّا دونه وإن كان ابن عمِّها أيضًا، فكان وجه التقدم: وجود الخالة تحت من له حق الحضانة (!!). الثاني: أن عمة ابنة حمزة (صفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنها -) لم تطلب حضانتها، وقد طلبها جعفر نائبًا عن خالتها فقضى الشارع بها لها في غيبتها، ولو كانت طلبتها عمتها لكانت الأحق. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4251)، والترمذي (1905 - مختصرًا)، وأبو داود (2278). (¬2) إسناده منقطع: أخرجه مالك، والبغوي (9/ 323). (¬3) «مجموع الفتاوى» (34/ 123)، و «الإنصاف» (9/ 419). (¬4) «الإنصاف» للمرداوي (9/ 419).

وأجابوا عن أثر عمر مع جدة ابنه، بأنه ليس فيه تقديم لجنس نساء الأم على جنس نساء الأب في الحضانة، فعمر لم تكن له أمٌّ حتى يقال: إن أم مطلَّقته قدِّمت عليها في الحضانة. قلت: الذي يظهر لي أن الخالة تُقدَّم على غيرها، لأنها بمنزلة الأم بالنصِّ، ثم يكون الترتيب بعد ذلك باعتبار الأرفق بالصغير والأخبر بتغذيته وحمله والأصبر على ذلك، لأن هذا هو المناط في تقديم النساء على الرجال في الحضانة، بصرف النظر عن كون الحاضنة من أقارب الرجل أو المرأة، والله أعلم بالصواب. فائدة: إذا لم يكن للمحضونة من أحد من النساء المذكورات انتقلت الحضانة إلى الرجال على ترتيب العصبات الوارثين المحارم. شروط استحقاق الحضانة (¬1): اشترط الفقهاء في الحضانة شروطًا لا بد من توفرها، وإلا سقط حقها في الحضانة، فإليك هذه الشروط مع التعليق عليها: 1، 2 - العقل والبلوغ: فلا حضانة لمعتوه أو مجنون أو صغير ولو كان مميزًا لأنهم في حاجة إلى من يتولى أمرهم ويحضنهم، فلا يتولوا أمر غيرهم. 3 - اتفاق الحاضنة والمحضون في الدين: فلا حضانة لكافر على مسلم، لوجهين: الأول: أن الحاضن حريص على تربية الطفل على دينه فيصعب على الطفل بعد ذلك أن يتحول عنه، وهذا أعظم ضرر يلحق بالطفل، وهو ما صرَّح به النبي - صلى الله عليه وسلم -حيث قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» (¬2) فلا يؤمَن على دين الطفل مع كون الحاضن كافرًا. الثاني: أن الحضانة ولاية وقد قال تعالى: {ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬3).ولذا جرى العمل على أنه إذا أسلم أحد الأبوين فالولد مع المسلم منهما، يشير إلى هذا حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كُنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الوالدان وأمي من النساء» (¬4) يعني: في الهجرة، قال ¬

(¬1) «البدائع» (4/ 41)، و «الشرح الصغير» (2/ 758)، و «مغني المحتاج» (3/ 454)، و «كشاف القناع» (5/ 579)، و «المعاد» (5/ 549)، وما بعدها و «أحكام الطفل» (ص 213). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6599)، ومسلم (2688). (¬3) سورة النساء: 141. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1357).

البخاري: «ولم يكن أبيه على دين قومه» وهذا من فقهه - رحمه الله - ومبناه على أن إسلام العباس كان بعد وقعة بدر كما رجحه الحافظ في الفتح (3/ 261). وعن رافع بن سنان: أن أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -فقالت: ابنتي وهي فطيم - أو شبهه - وقال رافعُ: ابنتي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقعد ناحية» وقال لها «اقعدي ناحية» قال: وأقعد الصبيَّة بينهما، ثم قال: «ادعواها» فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اهدها» فمالت الصبية إلى أبيها فأخذها» (¬1). قال ابن القيم (¬2): وهذا يدل على أن كونها مع الكافر خلاف هُدى الله الذي أراده من عباده» اهـ. 4 - القدرة على التربية: فلا حضانة لكفيفة أو مريضة أو مقعدة أو نحو ذلك مما يلحق الضرر بالطفل ويؤدي إلى إهماله وضياعه. 5 - أن لا تكون الأم متزوجة: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -في الحديث المتقدم: «أنت أحق به ما لم تنكحي» (¬3) ونقل ابن المنذر الإجماع على أن الأم إذا نكحت سقط حقها في الحضانة، لكن خالف في هذا الحسن البصري (!!) وابن حزم، فهو قول الجماهير على كلِّ حال ويؤيده نص الحديث. وهل يشترط في الحاضنة - غير الأم - أن لا تكون متزوجة بأجنبي؟ اشترط ذلك أكثر أهل العلم للحديث السابق، ولأنه يعامل الطفل بقسوة وكراهية، ولأنها مشغولة عنه بحق الزوج. بخلاف ما إذا كانت متزوجة بقريب محرم للمحضون. قلت: يرد على هذا حديث ابنة حمزة، فقد قضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -لخالتها وهي زوجة جعفر ابن عمها وليس من محارمها، والظاهر أن اشتراط عدم الزواج بأجنبي مختص بالأم، لما عُرف من المرأة المطلقة يشتد بغضبها لمطلِّقها ومن يتعلق به، فقد يبلغ بها الشأن إلى إهمال ولدها منه قصدًا لإغاظته، وتبالغ في التحبب عند الزوج الثاني بتوفير حقِّه، وبهذا يجتمع شمل الأحاديث كما أفاده الصنعاني - رحمه الله - (¬4). ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (2244)، والنسائي (3495). (¬2) «زاد المعاد» (5/ 460). (¬3) حسن: تقدم قريبًا. (¬4) «سبل السلام» (ص: 1180).

6 - العدالة (عدم الفسق): ولا وجه لاعتبار العدالة وعدم الفسق شرطًا في الحاضنة، ولو كان شرطًا لكان بيان هذا للأمة من أهم الأمور ولنقل العمل به، فإنه لم يزل منذ بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم بربُّونهم لا يتعرض لهم أحد مع كثرتهم ولم يُعلم أنه انتزع طفل من أبويه أو أحدهما لفسقه، ثم إن العادة شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق يحتاط لابنته ولا يضيِّعُها ويحرص على الخير لها بجهده (¬1). فهذا الشرط باطل. 7 - الحريَّة: وقد اشترطها الجمهور في الحاضن، قالوا: لأن المملوك لا ولاية له على نفسه فلا يتولى غيره، والحضانة ولاية. وقال مالك في حر له ولد من أمته: (إن الأم أحق ما لم تُبع فتنتقل فيكون الأب أحق به) واستدل بعموم حديث: «لا تُولَّهُ والدة عن ولدها» (¬2) وحديث: «من فرّق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (¬3). قلت: وهو الصحيح لأنها أمُّه وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأم: «أنت أحق به ما لم تنكحي». ولذا قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما اشتراط الحرية فلا ينتهض عليه دليل يركن القلب إليه. اهـ. هل تجب للحاضن أجرة على الحضانة؟ لا تستحق الحاضنة أجرة على الحضانة إذا كانت زوجة أو معتدة لأبي المحضون في أثناء العدة، كما لا تستحق أجرًا على الإرضاع، لو جوبهما عليها ديانة، ولأنها تستحق النفقة أثناء الزوجية والعدة، وهذه النفقة كافية للحضانة، قال تعالى {والْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4). أما بعد انقضاء العدة فإنها تستحق أجرة الحضانة لأنها أجرة على عمل كالرضاعة، قال تعالى: {فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ¬

(¬1) «زاد المعاد» (5/ 461)، «سبل السلام10» (ص: 1178). (¬2) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 5). (¬3) حسن: أخرجه الترمذي (1283)، وأحمد (5/ 412)، والدرامي (2/ 227)، والحاكم (2/ 55) وصححه. (¬4) سورة البقرة: 233.

وأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (¬1). وكذلك تستحق الحاضنة غير الزوجة أجرة الحضانة مقابل قيامها بعمل من الأعمال، هذا بخلاف أجرة الرضاع، ونفقة الطفل (¬2). انتهاء مدة الحضانة وما يترتَّب عليه: إذا استغنى الطفل عن الخدمة وبلغ سن التمييز، وقدر على القيام وحده بحاجاته الأولية كالأكل والشرب واللبس ونحو ذلك - فإنه تنتهي مدة حضانته، وليس لهذا الاستغناء سنُّ معينة، فلذا فانه يترك للقاضي تحديد هذا السنِّ بحسب تقديره لحال الطفل ومصلحته (¬3). فإذا حُكم بانتهاء مدة الحضانة، فماذا يُفعل بالطفل؟ إذا اتفق الأبوان إقامته عند أحدهما أمضى هذا الاتفاق، أما لو تنازعا (¬4): [1] بالنسبة للغلام: للعلماء في الغلام بعد انتهاء الحضانة ثلاثة مذاهب: الأول: الأب أحق به: وهو مذهب أبي حنيفة، لأن الغلام إذا استغنى يحتاج إلى التأديب والتخلُّق بأخلاق الرجال واكتساب العلوم، والأب على ذلك أقدر وأقوم، قال: ولا يخيَّر، ولا يعرف حظه، وربما اختار من يلهو عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته فيؤدي إلى فساده. الثاني: الأم أحق به حتى يبلغ: وهو مذهب مالك. الثالث: أنه يُخيَّر بينهما: وهو مذهب الشافعي وأحمد، لحديث أبي هريرة: أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استهما عليه» فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت» فاخذ بيد أمه فانطلقت به (¬5). ¬

(¬1) سورة الطلاق: 6 (¬2) «حاشية ابن عابدين» (2/ 876). (¬3) نص القانون المصري على أن حق الحضانة ينتهي عند بلوغ الصغير سبع سنين، وبلوغ الصغيرة تسع سنين. (¬4) «البدائع» (2/ 42)، و «القوانين» (ص 224)، و «مغنى المحتاج» (3/ 456)، و «المغنى» (7/ 614). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2277)، والنسائي (3496)، والترمذي (1357)، وابن ماجه (2351).

وظاهرة تقديم القرعة على التخيير، لكن قدِّم التخيير عليها لعمل الخلفاء الراشدين به، فقد صحَّ عن عمر - رضي الله عنه - أنه: «اختُصم إليه في صبي، فقال: هو مع أمه حتى يُعرب عنه لسانه فيختار» (¬1). ورُوي عن عمارة بن رؤيبة: «أن عليِّا - رضي الله عنه - خيَّره بين أُمِّه وعمِّه فاختار أمِّهُ، فقال له: أنت مع أمك، وأخوك هذا إذا بلغ ما بلغت خُيِّر كما خيِّرت، قال: وأنا غلام» (¬2) وفي سنده ضعف. وهذا هو الراجح للحديث وأثر عمر، على أنه قد ذكر ابن القيم - رحمه الله- أن التخيير والقرعة لا يكونان إلا إذا حصلت به مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدِّمت عليه ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له، ولا تحتمل الشريعة غير هذا، ومتى أخلَّ أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطّله والآخر مُراعٍ له فهو حق وأولى به (¬3). [2] بالنسبة للصغيرة: فللعلماء فيها أقوال: فقال المالكية: تبقى عند أمِّها حتى تتزَّوج ويدخل بها زوجها، وقال الحنفية وهو قول لأحمد: أنها إذا بلغت المحيض تضم إلى أبيها، وقال الحنابلة - في المذهب -: إذا بلغت سبعًا ضُمَّت إلى أبيها. فاتفق الأئمة الثلاثة على أنها لا تخيَّر، وقال الشافعي: تخيَّر كالغلام، وتكون عند من تختار منهما. واختار شيخ الإسلام أنها لا تخيَّر، بل تجعل عند أحد الأبوين إذا كان يلتزم طاعة الله تعالى في تربيتها، فإن لم تحصل طاعة الله ورسوله بمقامها عند أحدهما، مع حصول ذلك عند الآخر، قدم الآخر قطعًا (¬4). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرازق (126.6)، وسعيد بن منصور (2263). (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرازق (126.9)، وسعيد بن منصور (2265)، والبيهقي (8/ 4). (¬3) «زاد المعاد» (5/ 474)، و «سبل السلام» (ص 1177). (¬4) «مجموع الفتاوى» (34/ 130 - 132).

12 - كتاب المواريث

12 - كتاب المواريث

علم المواريث (الفرائض)

عِلْم المواريث (الفرائض) تعريفه: هو علم بأصول - من فقه وحساب - تتعلق بالمواريث ومستحقيها، لإيصال كل ذي حق إلى حقِّه من التركة (¬1). وقد سمَّي النبي - صلى الله عليه وسلم -المواريث: الفرائض، فقال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر» (¬2). والفرائض: جمع فريضة، من الفرض بمعنى التقدير، كما قال تعالى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬3) أي: قدَّرتم، فالفرائض: الأنصبة المقدَّرة للورثة. ويطلق على المال الموروث: «الإرث» و «الميراث» و «التركة». شرفه وأهميته: وعلم المواريث من أرفع العلوم قدرًا، وأجلِّها أثرًا، ويكفي في شرفه أن الله تبارك وتعالى قد فصَّلها وأوضح معالمها في كتابه، فحدَّد أنصبتها، ووزَّع فرائضها بنفسه سبحانه، تأكيدًا على ضرورة أن ينال كل وارث نصيبه المقدَّر على وفق حكمته سبحانه، فهو - وحده - العالم بما يصلح العبد وبما يفسده، وهو الخبير بالمستحق للمال من غيره {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (¬4) وفي هذا منع للتنازع والخصومة، لأن الذي فصَّل هذه الأنصبة وبيَّنها هو من لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه وأمره. ومن هنا جاءت أهمية دراسة هذا العلم الشريف، وقد رُوي من فضل هذا العلم وأهميته جملة أحاديث، لكنها لا تثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيما تقدم غُنية عنها، ولا بأس أن أذكر بعضها تنبيهًا على ضعفها، فمن ذلك: 1 - ما رُوى عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة» (¬5). ¬

(¬1) هذا التعريف صغته من مجموع تعاريف أهل العلم، وانظر: «ابن عابدين» (5/ 499)، و «الدسوقي» (4/ 456)، و «نهاية المحتاج» (6/ 2)، و «العذب الفائض» (1/ 62). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6735)، ومسلم (1615) عن ابن عباس. (¬3) سورة البقرة: 237. (¬4) سورة الملك: 14. (¬5) ضعيف: أخرجه أبو داود (2885)، وابن ماجة (54) وغيرهما بسند ضعيف.

2 - ما رُوي مرفوعًا: «يا أبا هريرة، تعلموا الفرائض، وعلِّموه، فإنه نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول شيء يُنتزع من أمتي» (¬1). 3 - ما رُوي عن ابن مسعود مرفوعًا: «تعلموا القرآن وعلموه الناس، وتعلَّموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وسيقبض هذا العلم من بعدي حتى يتنازع الرجلان في فريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما» (¬2). وهذه الأحاديث وغيرها على ضعفها- مع تعدد مخارجها - تُشعر بأن لها أصلًا. الحقوق المتعلقة بالتركة: إذا مات الإنسان وترك مالًا، فإن هذا المال (التركة) يتعلق به خمسة حقوق يقدَّم بعضها على بعض، مرتبة - عند ضيق التركة - على هذا الترتيب: 1 - تكاليف تجهيز الميت (¬3): من تغسيل وتكفين ودفن، ونحو ذلك، من غير إسراف ولا تقتير، وإنما قدمت على الدَّيْن وغيره، لأنها بمثابة الكسوة الشخصية للحي، فلا تنزع عنه لوفاء الدَّيْن. 2 - الديون المتعلقة بعين من أعيان التركة: كدَيْن برَهْنٍ - من التركة - ونحو ذلك. 3 - الديون المرسلة في الذمة: أي التي لا تتعلق برهَن عين من أعيان التركة، سواء كانت حقًّا لله تعالى كزكاة أو كفارة أو صيام، أو حقًّا لآدمي كالقرض والأجرة ونحو ذلك. 4 - تنفيذ الوصية- في حدود الثلث- من الباقي: لأن ما تقدم من تكاليف التجهيز والديون قد صار مصروفًا في ضروراته التي لا بد منها، فالباقي هو ماله الذي كان له أن يتصرف في ثلثه. وقد اتفق الفقهاء على أن الدين مُقدَّم على الوصية، لحديث عليٍّ - رضي الله عنه - قال: «قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدين قبل الوصية» (¬4). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (2719)، والدارقطني (4/ 67)، والحاكم (4/ 332)، والبيهقي (6/ 209)، وانظر «الإرواء» (6/ 104). (¬2) ضعيف: أخرجه الترمذي (2091)، والحاكم (4/ 333)، والبيهقي (6/ 208)، وانظر «الإرواء» (1664). (¬3) هذا هو ترتيب الحنابلة وقول عند الحفية، وأما الجمهور فيرون البدء بقضاء الديون. (¬4) حسنه الألباني: أخرجه الترمذي (2094)، وابن ماجه (2715)، وأحمد (1/ 79)، وانظر «الإرواء» (1667).

ولأن الوصية - وهي تبرُّع - فعند ضيق التركة فلا شك أن أداء الدين مقدَّم عليها، لأنه فرض وهو أولى من التبرع. وإنما قدِّمت الوصية في الذكر على الدين في قوله تعالى {مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬1) لأنها تشبهُ الميراث لكونها مأخوذة بلا عوض، فيشق إخراجها على الورثة، فكانت لذلك مظنة في التفريط فيها بخلاف الدين، فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فقدم ذكرها حثًّا على أدائها، وتنبيهًا على أنها مثله في وجوب الأداء أو المسارعة إليه (¬2). 5 - تقسم باقي التركة على الورثة المستحقين: حسب الأنصبة المقدَّرة في كتاب الله، وهذا هو موضوع بحثنا. ولما كان في مسائل المواريث من التشعُّب والتداخل وصعوبة الاستنباط - على غير الراسخين - واحتياجها إلى قد من المعرفة بعلوم الحساب، رأيت أن أسلك في بحثه مسلك الاختصار والتبسيط، دون التوسُّع والاستطراد في ذكر تفريعاته، مكتفيًا من القلادة بما أحاط بالعنق، محاولًا تركيز المعلومة في صورة جدول لبيان أنصبة المستحقين في الحالات المختلفة، مع إيراد القواعد الهامة التي ينبنى عليها توزيع التركة على الورثة، والتمثيل ببعض المسائل - أحيانًا - إعانة على فهمها. أركان الإرث: تقدم أن «الإرث» يطلق على المال الموروث، ويطلق كذلك على استحقاق الميراث وانتقاله إلى صاحبه، وعلى هذا فأركان الإرث ثلاثة، إن وجدت كلها تحققت الوراثة، وإن فقد ركن منها فلا إرث: 1 - المورِّث: وهو الميت أو الملحق به كالمفقود. 2 - الوارث: وهو الحي بعد المورِّث، أو الملحق بالأحياء كالجنين. 3 - الموروث (التركة): وهو ما تركه الميت من مال وغيره. شروط الإرث (¬3): يُشترط لحصول التوريث ثلاثة شروط تتعلق بالمورِّث والوارث وهذه الشروط هي: ¬

(¬1) سورة النساء: 11. (¬2) «شرح السراجية» (ص 4، 5). (¬3) «حاشية ابن عابدين» (5/ 483)، و «العذب الفائض» (1/ 17 - 18) ط. الحلبي.

1 - تحقق موت المورِّث: أو إلحاقه بالموتى حكمًا، كما في المفقود إذا حكم القاضي بموته، أو تقديرًا كما في الجنين الذي انفصل بجناية على أمه توجب غُرَّة (¬1). 2 - تحقق حياة الوارث بعد موت المورِّث: أو إلحاقه بالأحياء تقديرًا، كحمل انفصل حيًّا حياة مستقرة لوقت يظهر منه وجوده عند الموت. 3 - العلم بالجهة المقتضية للإرث: من زوجية أو قرابة وولاء، وتعين جهة القرابة من بنوة أو أبوَّة أو أمومة أو أخوة أو عمومة، والعلم بالدرجة التي اجتمع الميت والوارث فيها. أسباب الإرث (¬2): السبب لغةً: ما يتوصلَّ به إلى غيره، واصطلاحًا: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدم العدم لذاته. وأسباب الإرث أربعة: ثلاثة متفق عليها وواحد مختلف فيه، فإذا وجب أحد هذه الأسباب، فإنه يفيد الإرث على انفراده، وأسباب الإرث المتفق عليها هي: 1 - النكاح: فإن أحد الزوجين يستحق الإرث من الآخر بمجرد عقد الزواج الصحيح ولو من غير دخول أو خلوة، وقد تقدم في «كتاب الفرق بين الزوجين» قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنه واثق - لما توفي عنها زوجها ولم يدخل بها - أن لها الميراث (¬3). وأما النكاح الفاسد فلا توارث فيه، والطلاق الرجعي لا يمنع التوارث ما دامت في العدة. 2 - النسب (القرابة): وهو الاتصال بين إنسانين بالاشتراك في ولادة قريبة أو بعيدة، وينقسم النسب إلى ثلاثة أقسام: (أ) الأصول: وهم الآباء وآباؤهم وإن علوا. (ب) الفروع: وهم الأبناء وأبناؤهم وإن نزلوا. ¬

(¬1) الغُرَّة: عبد أو أمة تقدَّر بخمس من الإبل، يأخذها ورثة الجنين. (¬2) «ابن عابدين» (5/ 486)، و «شرح الرحبية» للمارديني (ص18)، و «العذب الفائض» (1/ 18). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (2114)، والترمذي (1145)، والنسائي (6/ 121)، وابن ماجه (1891).

(جـ) الحواشي: هم الإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم. قال تعالى {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1). 3 - الولاء: وهم عُصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق، فمن أعتق عبدًا فمات العبد كان ماله لسيده الذي أعتقه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الولاء لمن أعتق» (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الولاء لُحمة كلحمة النسب» (¬3). وهو إرث من جهة واحدة، فيرث الولي عبده الذي أعتقه، لكن العبد المعتَق لا يرث من سيِّده ولو لم يكن له ورثة. وهناك سبب رابع مختلف فيه وهو: 4 - جهة الإسلام: والذي يرث بهذا السبب عند من يقول به - وهم المالكية والشافعية - هو بيت المال على تفصيل فيه. موانع الإرث (¬4). المانع: ما يلزم من وجوده العدم، فلو وجد أحد موانع الإرث لزم منه عدم الإرث، وإن وجدت الأركان والشروط المتقدمة، وقد اتفق الأئمة الأربعة على ثلاثة موانع وهي: 1 - الرِّق (العبودية): فالعبد لا يورَّث، لأن جميع ما في يده من المال فهو لمولاه، فلو ورَّثناه من أقربائه لوقع الملك لسيده، فيكون توريثًا للأجنبي بلا سبب، وذلك باطل إجماعًا، وكما لا يرث العبد، فإنه لا يرثه أقرباؤه لأنه لا ملك له. فعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: «من باع عبدًا له مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع» (¬5) فالبائع هو سيده، وهو يملك العبد وماله. 2 - القتل: فإن القاتل لا يرث مَن قتله إذا قتله على وجه يتعلق به القصاص بالاتفاق، ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 6. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504). (¬3) صححه الألباني: أخرجه الحاكم (4/ 341)، والبيهقي (10/ 292)، وانظر «الإرواء» (1668). (¬4) «شرح الرجبية» (ص 23)، و «الدسوقي» (4/ 485)، و «العذب الفائض» (1/ 23). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2204)، ومسلم (1543).

المستحقون للميراث

لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس للقاتل من الميراث شيء» (¬1) والعلة خوف استعجال الوارث للإرث بقتل مورثه فاقتضت الحكمة حرمانه من الإرث، معاملة له بنقيض قصده، ثم اختلفوا فيما إذا تسبب في قتله خطأ، فالجمهور - خلافًا للحنفية - أنه لا يرثه كذلك بناء على أن المتسبب في القتل يطلق عليه قاتل، ولئلا يدعي القاتل المتعمد أنه قتل مورثه خطأ. وأما إذا قتل مورِّثه قصاصًا أو حدًّا أو دفاعً عن نفسه فلا يحرم من الميراث عند الجمهور، خلافًا للشافعية. 3 - اختلاف الدين: فلا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (¬2). هل يرث المرتدُّ؟ (¬3) المرتد - وهو من ترك الإسلام بإرادته واختياره - لا يرث أحدًا ممن يجمعه وإياهم سبب من أسباب الميراث بلا خلاف بين الفقهاء. وذهب المالكية والشافعية والحنابلة - في مشهور المذهب - إلى أنه لا يرثه - كذلك - أحد من المسلمين ولا غيرهم ممن انتقل إلى دينهم، بل ماله كلُّه يكون فيئًا وحقًا لبيت مال المسلمين. المُستحقُّون للميراث (أ) الوارثون من الرجال تفصيلًا (خمسة عشر): 1، 2 - الأب، والجد من جهة الأب، وإن علا. 3 - الزوج. 4 - الأخ لأم. وهؤلاء الأربعة هم أصحاب الفروض المقدَّرة من الرجال. ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه الدارقطني (4/ 96 - 237)، والبيهقي (6/ 220)، وأبو داود (6/ 220) مطولًا، وانظر «الإرواء» (1671). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6764)، ومسلم (1614). (¬3) «المبسوط» (10/ 102)، و «الدسوقي» (4/ 486)، و «المغني» (6/ 300 - 8/ 128)، و «العذب الفائض» (1/ 34).

5، 6 - الابن، وابن الابن وإن نزلت درجته. 7 - الأخ الشقيق. 8 - الأخ لأب. 9 - ابن الأخ الشقيق. 10 - أبن الأخ لأب. 11 - العم الشقيق. 12 - العم لأب. 13 - ابن العم الشقيق. 14 - ابن العم لأب. 15 - المعتِق. وهؤلاء هم الوارثون بالتعصيب - وسيأتي معناه - من الرجال. (ب) الوارثات من النساء تفصيلًا (عشرة): 1 - البنت. 2 - بنت الابن وإن نزلت. 3 - الأم. 4 - الجدَّة من جهة الأم، وإن علت. 5 - الجدَّة من جهة الأب، وإن علت. 6 - الأخت الشقيقة. 7 - الأخت لأب. 8 - الأخت لأم. 9 - الزوجة. 10 - المعتِقة. الإرث على نوعين: المستحقون للميراث - الذين تقدم ذكرهم - يرثون أنصبتهم على وجهين: إرث بالفرض، وإرث بالتعصب. 1 - الإرث بالفرض: أي بالنصيب المقدَّر شرعًا في كتاب الله، والفروض المقدرة في كتاب الله ستة، وهي: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.

وأصحاب الفروض المقدَّرة من الرجال أربعة: الأب، والجد لأب وإن علا، والزوج، والأخ لأم، ومن النساء ثمانية: هي العشر المذكورات ما عدا الجدة من جهة الأم (تسمى: الجدة الفاسدة، وهي التي يدخل نسبتها إلى الميت أنثى) والمعتقة. ويسمى الزوج والزوجة: أصحاب الفروض السببية، إذ إن ميراثهما بسبب الزواج لا بسبب القرابة، ويسمى الباقون: أصحاب الفروض النَّسَبية. وأصحاب الفروض يرثون إذا لم يوجد من يحجبهم من الميراث حجب حرمان كما سيأتي. وقد يجتمع الإرث بالفرض مع الإرث بالتعصيب، وسيأتي قريبًا أنصبة الورثة في الحالات المختلفة. 2 - الإرث بالتعصيب: العصبة لغة: قوم الرجل، وهم بنوه وأبوه وقرابته الذكور من جهتهم. واصطلاحًا: من يرث بغير تقدير (ليس له نصيب مقدَّر). العصبة قسمان: نسبية وسببيَّة: (أ) العصبة النسَبَّية: وهي على ثلاثة أقسام: [1] العصبة بنفسه: وهو كل ذكر لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى، فإن دخلت الأنثى في نسبته للميت لم يكن عصبة، كأولاد الأم (الأخ لأم). وبهذا الضابط يتضح أن جميع الذكور الوارثين الذين تقدم ذكرهم يكونون عصبة بأنفسهم ما عدا: الزوج والأخ لأم. جهات العصبة بالنفس: ويظهر من هذا الضابط أن العصبة بالنفس لهم أربع جهات: 1 - جهة البنوَّة: أي أبناء الميت ثم أبناؤهم وإن نزلوا. 2 - جهة الأبوَّة: أبو الميت وآباؤه وإن علوا. 3 - جهة الأخوة: إخوة الميت الأشقاء، ثم إخوته لأبيه، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم أبناء الإخوة لأب مهما نزلوا. 4 - جهة العمومة: وهم أعمام الميت الأشقاء، ثم أعمامه لأبيه، ثم أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب.

وإذا تزاحم العصبات فيقدَّمون حسب الترتيب المذكور: البنوة ثم الأبوة ثم الأخوة ثم العمومة (¬1). وعلى هذا يتنزل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر» (¬2). أحكام العصبة بنفسه (¬3): 1 - إذا انفرد واحد من العصبة بنفسه من أي جهة، فإنه يستحق جميع التركة، إذا لم يكن معه أحد من أصحاب الفروض. 2 - إذا وجد معه أصحاب الفروض، فإنه يأخذ الباقي من التركة بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم. 3 - إذا استغرقت الفروض جميع التركة، سقط العصبة بالنفس إلا الأب والجد والابن. 4 - إذا تزاحم العصبات فيراعى الآتي: (أ) إذا تعددت جهاتهم، يقدَّم حسب ترتيب الجهات المذكورة: البنوة ثم الأبوة ثم الأخوة ثم العمومة، فمثلًا: لو وجد ابن وأخ: يقدَّم الأخ، ولو وُجد أخ وعم: يقدم الأخ فيأخذ المال، وهكذا. (ب) إذا اتحدت الجهة: فيقدم الأقرب درجة إلى الميت، فيقدم الابن على ابن الابن، ويقدم الأب على الجد، ويقدم فروع الجد الأول (الأقرب) مهما نزلوا على فروع الجد الثاني مهما علوا، لأنهم أقرب درجة، ويقدم العم على ابن العم، وهكذا. (جـ) إذا اتحدت الجهة وتساووا في القرب من الميت قدِّم الأقوى قرابة، وهو من تكون قرابته إليه من جهة الأبوين، فيقدم على من قرابته لأب فقط، فيقدَّم الأخ الشقيق على الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق على ابن الأخ لأب. ¬

(¬1) ويستثنى من ذلك الجد (من جهة الأبوة) فإنه لا يقدم على الأخ الشقيق والأخ لأب - في بعض المذاهب - بل يشاركهم، ولعله يأتي تفصيله. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2523)، ومسلم (1615). (¬3) «السراجية» (ص146) وما بعدها، و «العذب الفائض» (1/ 75) وما بعدها، و «الموسوعة الفقهية» (3/ 43).

أما إذا كانوا من جهة واحدة وفي درجة واحدة وفي قوة واحدة، كأن يكونوا إخوة أشقاء، أو أعمام أشقاء، أو أبناء للميت، فإنهم يقتسمون الميراث بينهم بالسوية. [2] العصبة بالغير: وهن أربع نسوة يصرن عصبة بغيرهن، وهن: 1 - بنت الميت: واحدة أو أكثر تكون عصبة بابن الميت أو أكثر (بأخيها). 2 - بنت الابن: واحدة أو أكثر، تكون عصبة بابن الابن (سواء كان أخاها أو ابن عمها المساوي لها في الدرجة) وتكون عصبة بابن الابن الأنزل منها درجة إن احتاجت إليه. 3 - الأخت الشقيقة: واحدة فأكثر تكون عصبة بالأخ الشقيق واحدًا فأكثر. 4 - الأخت لأب: واحدة فأكثر تكون عصبة بالأخ لأب واحدًا فأكثر (¬1). فوائد: 1 - العصبة بالغير: تأخذ فيها الأنثى نصف نصيب مُعصبها، لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (¬2). وقوله سبحانه: {وإن كَانُوا إخْوَةً رِّجَالًا ونِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (¬3). 2 - الأخ لأب لا يعصِّب الأخت الشقيقة، وابن الأخ لا يعصِّب أخته، ولا يُعصِّب أخت الميت (عمته). [3] العصبة مع الغير: وهي كل أنثى تصير عصبة مع أنثى غيرها، وهي الأخت الشقيقة أو لأب مع البنت سواء كانت صلبية أو بنت ابن، وسواء كانت واحدة أم أكثر. فائدة: الفرق بين العصبة بالغير، والعصبة مع الغير: أن المعصِّب لغيره، يكون عصبة بنفسه، فتتعدَّى بسببه العصوبة إلى الأنثى. وأما في العصبة مع الغير، فلا يكون ثمة عاصب بنفسه أصلًا، لكن اجتماعهن مع بعضهن جعلهن عصبة. ¬

(¬1) وعند المالكية: تعصَّب الأخت الشقيقة والأخت لأب، بالجد، وتكون عصبة بالغير، وكذلك عند الحنابلة إذا لم يوجد أخ يعصبها، وانظر: «الدسوقي» (4/ 459)، و «العذب الفائض» (1/ 90). (¬2) سورة النساء: 11. (¬3) سورة النساء: 176.

(ب) العصبة السببية: وهي منحصرة في المعتق والمعتقة، فإذا مات العبد ولم يكن له عصبة من النسب ورثه المعتق سواء كان ذكرًا أو أنثى (¬1). ويمكن تلخيص ما تقدم في الإرث بالتعصيب في الرسم التوضيحي الآتي: العصبة ¬

(¬1) وهذه هي الحالة الوحيدة التي تكون فيها الأنثى عصبة بنفسها (عندما تكون معتِقة).

الحجب

الحَجْبُ تعريفه (¬1): الحجب لغة: المنع والحرمان. واصطلاحًا: منع شخص معيَّن عن ميراثه، إما كلِّه أو بعضه، بسبب وجود شخص آخر. أقسام الحجب (¬2):ينقسم الحجب إلى قسمين: 1 - حَجْب حرْمان: وهو منع شخص وارث من ميراثه بالكلية لوجود غيره، وهذا النوع من الحجب قائم على أساسين: (أ) أن كل من ينتمي إلى الميت بشخص، فإنه لا يرث مع وجود ذلك الشخص. فمثلًا: ابن الابن لا يرث مع وجود الابن، ما عدا أولاد الأم، فإنهم يرثون معها مع أنهم ينتمون إلى الميت بها. (ب) أنه يُقدَّم الأقرب على الأبعد، فمثلًا: الابن يحجب ابن أخيه، فإن تساويا في الدرجة يرجَّح بقوة القرابة، كما تقدم، كالأخ الشقيق يحجب الأخ لأب. من لا يدخل عليهم حجب الحرمان: هناك ستة أشخاص لا يدخل عليهم حجب الحرمان، فهم يرثون في كل حال: إما جميع نصيبهم أو بعضه، وهم (بالنسبة للميت): 1، 2 - البنت والابن الصُّلبيَّان. 3، 4 - الأب والأم. 5، 6 - الزوج والزوجة. ¬

(¬1) «المصباح المنير»، و «السراجية» (ص171). (¬2) المراد بالحجب هنا ما يسمى بحجب الشخص، وهناك نوع من الحجب يسمى: «حجب الصفة» وهو حجب الشخص عن الميراث كليًا لوصف قائم به منعه من الميراث، كما تقدم في قاتل المورِّث فإنه يمنع من ميراثه.

من يدخل عليهم حجب الحرمان: يدخل حجب الحرمان على تسعة عشر نفرًا: اثنا عشر من الرجال، وسبع من النساء، وإليك بيانهم ومن يُحجبون به: أما الذكور فهم: م ... المحجوب ... الحاجب 1 ... ابن الابن ... الابن وكل ابن ابن أقرب 2 ... الجدّ ... الأب وكل جدّ أقرب 3 ... الأخ الشقيق ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ في بعض المذاهب. 4 ... الأخ لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ في بعض المذاهب، الأخ الشقيق، الأخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع الغير. 5 ... الأخ لأم ... الابن، ابن الابن، البنت، بنت الابن، الأب، الجدّ. 6 ... ابن الأخ الشقيق ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير. 7 ... ابن الأخ لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق. 8 ... العم الشقيق ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب. 9 ... العم لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، والعمّ الشقيق. 10 ... ابن العمّ الشقيق ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، والعمّ الشقيق، والعمّ لأب.

11 ... ابن العمّ لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ، الأخ الشقيق، الأخ لأب، الأخت الشقيقة والأُخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، والعمّ الشقيق، العمّ لأب، ابن العم الشقيق. 12 ... المعتق ... ويحجبه كل عصبة نَسَبية. وأما النساء فهنّ: م ... المحجوبة ... الحاجب 1 ... بنت الابن ... الابن، البنتان. 2 ... الجدّة (أُم الأب) ... الأم، كل جدّة قريبة. 3 ... الجدّة (أم الأم) ... الأُم، كل جدّة قريبة. 4 ... الأخت الشقيقة ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ في بعض المذاهب. 5 ... الأخت لأب ... الابن، ابن الابن، الأب، الجدّ في بعض المذاهب، والأخ الشقيق، والأخت الشقيقة إذا كانت عصبة مع الغير، والأختان الشقيقتان إن لم يكن معهما أخ مبارك. 6 ... الأخت لأم ... الابن، ابن الابن، البنت، بنت الابن، الأب، الجدّ. 7 ... المعتِقة ... كل عصبة نَسَبية. 2 - حَجْبُ النقصان: وهو أن ينقص ميراث أحد الورثة بسبب وجود غيره، وهذا النوع يتأتى دخوله على جميع الورثة. ويُحجب خمسة من أصحاب الفروض - حجب نقصان- فينتقلون إلى فرض أقل منه، في حالات معينة كما يبينه الجدول التالي:

صاحب الفرض ... أصل فرضه ... تم حجبه إلى ... في حالة الزوج ... عند وجود الولد أو ولد الولد الزوجة ... عند وجود الولد أو ولد الولد الأم ... عند وجود الولد أو ولد الابن أو الاثنين من الإخوة والأخوات. بنت الابن ... (تكملة للثلثين) ... عند وجود البنت من الصُّلب الأخت الشقيقة ... عند وجود الأخت لأب أنصبة الورثة وحالاتهم ويمكن الاستفادة من كل ما تقدم وجمعه وتلخيصه في الجداول الآتية التي تحتوى على نصيب كل وارث في الحالات المختلفة. أولًا: الوارثون من الرجال وأحوالهم: 1 - أحوال الأب في الميراث: قال الله تعالى: {ولأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إن كَانَ لَهُ ولَدٌ فَإن لَّمْ يَكُن لَّهُ ولَدٌ ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬1). النصيب من التركة ... الحالة إذا كان للميت فرع وارث ذكر (ابن أو ابن الابن مهما نزل) التركة كلها أو الباقي بعد أصحاب الفروض (تعصيب) ... إذا لم يكن للميت فرع وارث مطلقًا + الباقي بعد أصحاب الفروض ... إذا كان للميت فرع وارث أنثى (بنت وبنت الابن مهما نزل أبوها) ¬

(¬1) سورة النساء: 11.

2 - أحوال الجد: والمراد بالجد الذي يرث (الجد الصحيح) وهو الذي لا تدخل في نسبته إلى الميت أمُّ، مثل أبي الأب، وأبي أبي الأب مهما علا. والجد في حكم الأب في الميراث، فينطبق عليه الجدول السابق، إلا في مسألتين هما «العمريتان» وسيأتي ذكرهما قريبًا، إن شاء الله. تنبيه: إذا وُجد أبو الميت فإنه يحجب الجد، وكذلك كل جدٍّ أقرب يحجب الجد الأبعد. فائدة: ميراث الجد مع الإخوة: (أ) إذا كان مع الجد إخوة لأم، فإنهم لا يرثون مع الجد، اتفاقًا. (ب) إذا كان مع الجد إخوة أشقاء، فهذه المسألة ليس فيها نص من كتاب أو سنة، ولذلك اختلفت فيها اجتهادات العلماء- من الصحابة ومن بعدهم - وتشعَّبت، والمختار من هذه الاجتهادات: أن الجد مثل الأب فلا يرث الإخوة والأخوات معه مطلقًا، وبهذا قال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير وأبو الدرداء وابن عمر وعائشة وطائفة من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم، وبعض الشافعية، وحجتهم أن الجد قد سُمِّي في الكتاب والسنة أبًا وهو يأخذ حكمه في كثير من الأحكام، فيكون بمنزلته في حجب الإخوة، ولأن الجدَّ المباشر في أعلى عمود النسب بالنسبة للميت، وابن الابن المباشر في أسفل العمود، وكل منهما يدلي إلى الميت بدرجة واحدة، والفقهاء متفقون على أن ابن الابن يحجب الأخوة، فيجب أن يكون الجد كذلك. ولأن الجد أقرب للميت من الأخ، ولا يحجبه عن الإرث سوى الأب، بخلاف الإخوة والأخوات فإنهم يحجبون بثلاثة: الأب والابن وابن الابن، والجد يرث بالفرض والتعصيب كالأب، والإخوة منفردون بواحد منهما، والله أعلم. 3 - أحوال الزوج: قال الله تعالى: {ولَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ ولَدٌ فَإن كَانَ لَهُنَّ ولَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النساء: 12.

النصيب من التركة ... الحالة إذا لم يكن للزوجة فرع وارث (ابن أو ابن الابن مهما نزل، أو بنت) (¬1). إذا كان للزوجة فرع وارث 4 - أحوال الأخ لأم: قال الله تعالى: {وإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ولَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬2) وقد انعقد الإجماع على أن المراد بالأخ والأخت هنا: الإخوة من جهة الأم. النصيب من التركة ... الحالة إذا كان واحدًا، وليس للميت فرع وارث- ذكر أو أنثى- وليس للميت أصل وارث ذكر كالأب (والجد على الراجح). للاثنين أو أكثر يقسم بينهم بالسوية (¬3) ... إذا كانوا أكثر من واحد ذكورًا أو إناثًا (إخوة وأخوات لأم) مع عدم وجود فرع ولا أصل وارثين. لا يرث (يُحجب) ... إذا كان للميت فرع وارث أو أصل وارث. 5 - أحوال الابن: قال تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (¬4). ¬

(¬1) فإن كان للزوجة بنت بنت، فلا تأثير على الزوج ويستحق النصف، لأن بنت البنت من ذوي الأرحام وليست وارثة. (¬2) سورة النساء: 12. (¬3) وهذه هي الحالة التي يكون فيها نصيب الذكر والأنثى متساويًا تمامًا، وإنما سُويِّ بين الذكور والإناث في هذه الحالة لأن تفضيل الذكور على الإناث إنما هو باعتبار العضوية وهي منتفية في قرابة الأم. (¬4) سورة النساء: 11.

وهو يرث تعصيبًا، فلو انفرد ولم يكن معه أحد من أصحاب الفروض، استحق التركة كلها، وإن كان معه أحد من أصحاب الفروض فيأخذ الباقي من التركة هو باقي الأبناء- إن وجدوا - للذكر مثل حظ الأنثيين. 6 - أحوال ابن الابن: وهو يرث تعصيبًا كالابن بشرط ألا يكون للميت ابن، فإن ابن الميت يحجب ابن ابنه كما تقدم. 7 - أحوال الأخ الشقيق: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت فرع ذكر، ولم يكن له أصل ذكر (ليس له ابن أو ابن ابن أو أب أو جد على الراجح). لا يرث ... إذا كان للميت فرع ذكر أو أصل ذكر. 8 - أحوال الأخ لأب: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت فرع ذكر، ولا أصل ذكر، ولا أشقاء. لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم 9 - أحوال ابن الأخ الشقيق: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت ولا أصل ذكر، ولا أخ شقيق ولا أخ لأب ولا أخت شقيقة وأخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير. لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم.

10 - أحوال ابن الأخ لأب: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت فرع ذكر، ولا أصل ذكر، ولا أشقاء، ولا أخ لأب، ولا ابن أخ شقيق، ولا أخت شقيقة وأخت لأب إذا صارتا مع الغير عصبة. لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم. 11 - أحوال العم الشقيق: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت أصل ذكر، ولا فرع ذكر، ولا أشقاء، ولا أخ لأب، ولا ابن أخ شقيق، ولا ابن أخ لأب ولا أخت شقيقة وأخت لأب إذا صارتا عصبة. لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم. 12 - أحوال العم لأب: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... أن لا يكون للميت أحد ممن يحجب العم الشقيق كما تقدم، وكذلك لا يكون له عم شقيق. لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم.

13 - أحوال ابن العم الشقيق: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت أصل ذكر، لا فرع ذكر ولا أشقاء ولا أخ لأب، ولا ابن أخ شقيق، ولا ابن أخ لأب، ولا عم شقيق ولا عم لأب، ولا أخت شقيقة وأخت لأب إذا صارتا عصبة مع الغير. لا يرث ... إذا وجد أحد ممن تقدَّم. 14 - أحوال ابن العم لأب: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... إذا لم يكن للميت أحد من العصبات المتقدمة. لا يرث ... إذا وجد أحد من العصبات. 15 - أحوال المعتق: النصيب من التركة ... الحالة بالتعصيب ... عند عدم وجود العصبة النسبية لا يرث ... إذا وجدت العصبة النسبية ثانيًا: الوارثات من النساء وأحوالهن: 1 - أحوال البنت من الصُّلب: قال تعالى: {اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وإن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النساء: 11.

النصيب من التركة ... الحالة .. إذا كانت واحدة وليس معها ابن للميت وليس معها أخت أو أكثر. تعصيب بالغير ... إذا كان معها ابن للميت أو أكثر، فترث بالتعصيب (للذكر مثل حظ الأنثيين). للبنتين أو أكثر ... إذا كانت معها أخت أو أكثر، وليس للميت ابن، فلهن الثلثان فرضًا (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك). 2 - أحوال بنات الابن: وهن كل من تنسب إلى الميت بواسطة الابن مهما نزلت درجة هذا الابن. النصيب من التركة ... الحالة إن كانت واحدة ولم يكن للميت ولد من صلبه. للاثنين فأكثر ... إن كانتا اثنين فأكثر عند عدم الولد من الصلب. للواحدة أو أكثر ... إذا كانت واحدة أو أكثر مع وجود ابنة واحدة صلبية إلا إذا كان معهن ابن في درجتهن فيعصبهن ويكون الباقي بعد نصيب البنت يقسم للذكر مثل حظ الأنثيين. لا يرثن ... إذا وجد ابن للميت لأنه يحجبهن لا يرثن ... إذا وجد للميت ابنتان فأكثر من صلبه إلا إذا وجد معهن ابن ابن في درجتهن أو أسفل منهن فيرثن بالتعصيب.

3 - أحوال الأم: النصيب من التركة ... الحالة إذا كان للميت ولد (ذكر أو أنثى) أو اثنان من الإخوة أو الأخوات مطلقًا. التركة ... إذا لم يوجد احد ممن تقدم ذكرهم، ولم تكن إحدى العمريتين. الباقي ... إذا عدم من تقدم ذكرهم، بعد فرض أحد الزوجين في مسألتين (¬1): الأولى: إذا تركت امرأة زوجًا وأبوين. الثانية: إذا ترك رجل زوجة وأبوين. 4 - أحوال الزوجة: النصيب من التركة ... الحالة للزوجة أو يقسم على الزوجات ... إذا لم يكن لزوجها المتوفى ولد (ذكر أو أنثى) أو ابن ابن أو بنت ابن مهما نزلت. للزوجة الواحدة أو يقسم بالتساوي على الزوجات ... إذا وجد ولد للمتوفى سواء كان منها أو من غيرها. ¬

(¬1) (*) العمريتان.

5 - أحوال الأخت الشقيقة: وهي كل أخت شاركت المتوفى في الأب والأم. النصيب من التركة ... الحالة إذا كانت واحدة منفردة ولم يكن معها ولد للميت ولا ولد ابن ولا أب ولا جد ولا أخ شقيق. للاثنتين فأكثر ... عند عدم وجود من تقدم ذكرهم. تعصيب بالغير ... إذا وجد معهن أخ شقيق ولم يوجد غيره ممن تقدم فيعصبهن ويكون للذكر مثل حظ الأنثيين. تعصيب مع الغير ... ترث مع بنت الميت أو بنت ابنه عند عدم وجود من يعصبهما وكذلك مع أكثر من واحدة من بنات الميت أو بنات ابنه. تعصيب ... تدخل مع الأخ لأم أو الأخت لأم أو الإخوة لأم في حالة استغراق الفروض جميع التركة بحيث لم يتبق للإخوة الأشقاء شيء، فيدخلون مع الإخوة لأم باعتبارهم أولاد أم واحدة. لا ترث ... إذا كان للميت ابن أو ابن ابن، أو أب أو جد. 6 - أحوال الأخت لأم: النصيب من التركة ... الحالة إذا كانت واحدة، ولا يوجد للميت ابن أو بنت، أو ابن ابن أو ابن بنت. إذا كانتا اثنين فأكثر (ذكورًا أو إناثًا) فإنهم يشتركون في الثلث بالسوية لا يفضل أخ على أخت (¬1). للاثنتين فأكثر لا ترث ... إذا كان للميت ابن أو بنت، أو ابن ابن، أو بنت ابن، أو أب أو جد صحيح. ¬

(¬1) وهذه هي الحالة التي يكون نصيب الأنثى فيها مساويًا للذكر تمامًا، لا نصفه.

7 - أحوال الأخوات لأب: النصيب من التركة ... الحالة إذا كانت منفردة عن مثلها وعن الأخ لأب وعن الأخت الشقيقة. للاثنتين فأكثر ... إذا كانت معها أخرى أو أكثر ولم يكن معها من سبق ذكرهم. إذا كان معها أخت شقيقة منفردة. تعصيب بالغير ... إذا كان مع الواحدة أو الأكثر أخ لأب فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين. تعصب مع الغير ... إذا كانت مع الواحدة أو الأكثر بنت أو بنت أبن ويكون الباقي للأخوات لأب بعد فرض البنت وبنت الابن. لا ترث ... إذا كان معها واحد ممن يأتي: 1 - الابن أو ابن الابن وإن نزل 2 - الأب 3 - الأخ الشقيق 4 - الأخت الشقيقة التي صارت عصبة بأخيها 5 - الاثنتان فأكثر من الأخوات الشقيقات (إلا إذا وجد معها أخ لأب عصبها فيكون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين). 8، 9 أحوال الجدَّة لأم أو أب: والمراد بالجدة هنا: الجدة الصحيحة وهي التي لا يتخلل في نسبتها إلى الميت جد فاسد، والجد الفاسد هو من يتخلل في نسبته إلى الشخص أنثى كأب الأم. وللجدات الصحيحات ثلاث حالات:

النصيب من التركة ... الحالة سواء كانت واحدة أو أكثر، وسواء كانت جدة لأب أو لأم فيقسم بينهن السدس. لا ترث ... مع وجود الأم، فالأم تحجب جميع الجدات سواء كن من جهتها أو من جهة الأب. لا ترث ... مع وجود الجدة الأقرب منها، فمثلًا أم أم تحجب أم أم الأم وتحجب أيضًا أم أبي الأب. وفرض الجدة ليس في كتاب الله، لكن أعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السدس فثبت ميراثها (¬1) وقد أجمع العلماء على أن الجدة ترث إذا لم يكن للميت أم كما تقدم. 10 - المرأة المُعتِقة للميت: وهي ترث بالتعصيب (¬2)، لكن بشرط أن تنعدم العصبات من النسب. أمثلة بسيطة في تقسيم الميراث: مثال 1: توفي رجل عن: زوجة، وابن، وبنت ابن. الحل: 1 - نبحث أولًا عن أصحاب الفروض، فنجد: الزوجة وبنت الابن. 2 - ننظر هل يُحجَب أحدهما، فنرى أن بنت الابن تحجب بوجود الابن، فبقى من أصحاب الفروض: الزوجة، وبما أن للميت ابنًا، فيكون نصيب الزوجة (ثمن) كما هو موضح في جدول رقم (4) من الوارثات من النساء. 3 - يبقى الابن، وهو يرث تعصيبًا كما تقدم فيكون له الباقي. ويمكن تمثيل المسألة بالصورة المقابلة ونعني بأصل المسألة: المضاعف المشترك ¬

(¬1) وقد صح هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عند مالك (1098)، والترمذي (2101)، وابن ماجه (2724)، وأحمد (4/ 225) وغيرهم. (¬2) وتسمى عصبة سببية؛ لأنها بسبب العتق.

الأدنى لمقامات الفروض، والأصول المتفق عليها (2، 3، 4، 6، 8، 12، 24). وهنا لا يوجد إلا فرض الثمن فنجعل أصل المسألة = 8. مثال 2: توفي رجل عن: بنت، وأب. الحل: نلحظ أن كلًّا من البنت والأب من أصحاب الفروض فتأخذ البنت النصف (جدول - 1 - وارثات). ويأخذ الأب السدس (جدول - 1 - وارثون). ونلحظ أن الأب عصبة بنفسه، فيأخذ الباقي بالإضافة إلى السدس، تعصيبًا. وتكون صورة المسألة كالآتي: لاحظ أن المضاعف المشترك الأدنى لـ (2، 6) هو (6) فهو أصل المسألة، ويكون سهم البنت نصفه (3)، وسهم الأب (بالفرض) = 1، وسهم بالتعصيب هو الباقي (6 - 3 - 1) = 2فيكون مجموع سهم الأب = 3 (ثلاثة أجزاء من ستة). مثال 3: توفي رجل عن: زوج، وبنت، وبنت ابن، وابن ابن ابن. للزوج: لوجود فرع وارث. للبنت: لانفرادها وعدم معصِّب. لبنت الابن: (جدول - 2 - وارثات). لابن ابن الابن: الباقي، لأنه أولى رجل ذكر. مثال 4: توفي رجل عن: أم، وأخت شقيقة، وعمٍّ. للأم:، لعدم الفرع والجمع بين الأخوة (جدول - 3 - وارثات).

للشقيقة: (جدول - 5 - وارثات). للعم: الباقي، تعصيبًا. (جدول - 11 - وارثون). مثال 5: توفي رجل عن: أم، وأب، وابن، وأخ شقيق. للأم: (جدول - 3 - وارثات). للأب: (جدول - 1 - وارثون). للابن: الباقي تعصيبًا لأنه أولى رجل ذكر (5 - وارثون). الأخ الشقيق: لا يرث، لأنه يُحجب بوجود ابن الميت (جدول - 7 - وارثون). مثال 6: توفي رجل عن: ابنين، وابن ابن، وأب، وجدّ، وجدة. لاحظ أن ابن الابن يحجب بابني الميت، فلا يرث وكذلك الجدُّ يحجب بالأب، ويكون أصحاب الفروض: الأب له: لأن للميت أبناء ذكورًا (جدول - 1 - وارثون). الجدة لها: لعدم وجود الأم (جدول - 8 - وارثات). والابنان لهما: الباقي بالتساوي بينهما تعصيبًا. مثال 7: توفي رجل عن: أب، وبنت، وابن، وعم، وجد، وبنت ابن. نلاحظ أن كلًّا من العم والجد وبنت الابن محجوبون بوجود الأب والابن، فلا يرثون. ويكون للأب: فرضًا.

ويكون الباقي للابن والبنت للذكر مثل حظ الاثنين. ويلاحظ أن البنت كانت سترث (نصف) إذا لم يكن للميت ابن، فلما وجد الابن حجبها - حجب نقصان - ونقلها من الإرث بالفرض إلى الإرث بالتعصيب، فصار سهمها (1) من (6) أسهم لولا الابن لكان سهمها (3) من ستة، وانظر (جدول - 1 - وارثات). مثال 8: توفي رجل عن: بنت، وأخت لأب، وابن أخ لأب، وأخ لأم. نلاحظ أن ابن الأخ محجوب بالأخت لأب التي صارت عصبة مع الغير، فلا يرث، انظر (جدول - 10 - وارثون). وكذلك يُحجب الأخ لأم، لوجود الفرع الوارث (جدول - 4 - وارثون). ويكون للبنت: فرضًا. وتأخذ الأخت لأب الباقي تعصيبًا مع الغير (جدول - 7 - وارثات). مثال: 9: (الأخ المبارك): توفي عن: بنتين، وبنت ابن، وابن ابن. للبنتين: فرضًا (جدول - 1 - وارثات). ولبنت الابن وابن الابن: الباقي تعصيبًا. يلاحظ: أنه لولا وجود ابن الابن لسقط ميراث أخته (بنت الابن) لاستكمال الصُّلبيتين الثلين (جدول - 2 - وارثات)، ولذلك يسمى هذا الأخ بالأخ المبارك، لأنه لولاه لسقطت أخته. فائدة: «الأخ المبارك يُعصِّب بنات الابن حتى وإن كان أنزل منهن، بشرط استغراق من فوقهن الثلثين».

مثال: 10: (الأخ المشئوم): توفيت امرأة عن: زوج، وأخت شقيقة، وأخ لأب، وأخت لأب. للزوج: نصف لعدم الفرع (جدول - 3 - وارثون). الأخت الشقيقة: فرضًا أيضًا (جدول - 5 - وارثات). ولم يبق للعصبة شيء لاستغراق الفروض أصل المسألة. ويلاحظ: أنه لولا الأخ لأب لأخذت الأخت لأب السُّدس تكملة للثلثين وعالت المسألة (وسيأتي معنى العول قريبًا)، أما وجوده معها فقد أضرَّ بها، ولذا يسمى (الأخ المشئوم) لأنه لولاه لورثت أخته. مثال 11، 12: «المسألتان العمريَّتان»: وهما الحالتان اللتان يختلف فيهما الجد عن الأب لو كان مكانه. الأولى: توفيت امرأة عن زوج، وأب، وأم. للزوج: نصف لعدم وجود الفرع (جدول - 3 - وارثون). للأم: ثلث الباقي (جدول - 3 - وارثات) لأنها عمريَّة. للأب: الباقي بعد ما تقدم، لأنه ليس للميت فرع مطلقًا (جدول - 1 - وارثون). ويلاحظ: أنه لو كان الجد في هذه المسألة مكان الأب، كان للزوج (نصف)، وللأم (ثلث) وللجد الباقي. الثاني: توفي رجل عن: زوجة، وأم، وأب للزوجة: نصف لعدم الفرع (جدول - 4 - وارثات). وللأم: ثلث الباقي (جدول - 3 - وارثات) وللأب: الباقي بعد ما تقدم.

ولو كان الجد مكان الأب هنا، لأخذت الزوجة (ثلث). والأم (ثلث)، والجد (الباقي) فافترق عن الأب في هذه الحالة والتي قبلها. العَوْل: وهو زيادة في السهام، ونقص في الأنصباء. في بعض المسائل يكون مجموع سهام الورثة زائدًا على أصل المسألة، ولا يحصل هذا في جميع الأصول، وإنما يكون العول في أصول ثلاثة: 6، 12، 24. (أ) الأصل (6): وقد يعول إلى (7، 8، 9، 10) فمثلًا: لو توفيت امرأة عن: زوج، وأم، وأخت شقيقة. فللزوج (نصف)، وللشقيقة (نصف)، والأم (ثلث) فأصل المسألة من 6 أسهم ونلاحظ أن عدد السهام للورثة ثمانية فتعول إلى ثمانية، بمعنى: أن نصيب الزوج سيكون = بدلا من ونصيب الأم = =، بدلًا من ونصيب الشقيقة = بدلًا من. وهذا شيء منطقي وكلُّ ما حصل أننا وزَّعنا النقص في التركة على الورثة كلٌّ بحسب نسبة ميراثه. فائدة: أول من قضي في العَوْل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم كان الإجماع على ذلك. (ب) الأصل (12): وقد يعول إلى (13، 15، 17) فمثلًا: لو توفي رجل عن: زوجة وشقيقتين، وأختين لأم، وجدة. فللزوجة: (ربع)، وللشقيقتين (ثلثان)، وللأختين لأم (ثلث) وللجدة (سدس)، وأصل المسألة من (12) وتعول إلى (17) وعلى هذا يكون نصيب الأم = من التركة والشقيقتين =، والأختين لأم =، وللجدة =.

(جـ) الأصل (24): وقد يعول إلى (27)، فمثلًا: لو توفي عن: زوجة، وبنت، وبنت ابن، وأم، وأب. للزوجة (ثمن)، وللبنت (نصف)، ولبنت الابن (سدس) تكملة للثلثين، وللأم (سدس)، وللأب (سدس+الباقي تعصيبًا) فأصل المسألة من (24) لأنه المضاعف المشترك الأدنى لـ (8، 2، 6) ثم تعول المسألة إلى (27). لاحظ أن الأب لا يبقى له شيء من طريق التعصيب، لأن مسائل العول تأول إلى استغراق الفروض للسهام فلا يبقى للتعصيب شيء من التركة، وهذا واضح. فائدة: إذا ساوت سهام أصحاب الفروض - في المسألة - أصل المسألة سميت المسألة: «عادلة». وإذا نقصت سهام أصحاب الفروض عن أصل المسألة سميت المسألة: «ناقصة». وإذا زادت سهام أصحاب الفروض عن أصل المسألة سميت المسألة: «عائلة» أو «زائدة». الرَّدُّ (¬1): تقدَّم أن العول هو زيادة في السهام ونقص في الأنصباء، وفي بعض الحالات يحصل عكس هذا، أي: زيادة في الأنصباء ونقص في السهام، فهذا يسمَّى: «الرَّد» وهو يحصل إذا لم يوجد عصبة، ولم تستغرق الفروض المسألة، فيردُّ الزائد على أصحاب الفروض بنسبة فرض كلٍّ منهم ما عدا الزوجين، فإنه لا يُردَّ عليهما. مسائل الرَّد على حالتين: إما أن يكون مع الورثة أحد الزوجين، أو لا يكون معهم أحدهما. ¬

(¬1) «مباحث في علم المواريث» د. مصطفى مسلم (ص: 129) بتصرف واختصار.

1 - إذا لم يكن مع الورثة أحد الزوجين: فلا يخلو من ثلاث صور: (أ) أن يكون صاحب الفرض شخصًا بمفرده فيأخذ المال جميعًا فرضًا وردًّا. (ب) أن يكونوا أكثر من واحد لكنهم صنف واحد، فالمال بينهم بالسوية. (جـ) أن يكون الورثة - أصحاب الفرض - من صنفين أو أكثر فنحل المسألة كالعادة ثم نردُّ أصل المسألة إلى مجموع سهام الورثة. مثال: توفي رجل عن: جدة، وأخت لأم، وأخ لأم. نلاحظ أن أصل المسألة من (6)، ومجموع السهام (3) فقط فنردُّ أصل المسألة إلى (3). فيزيد نصيب كل واحد، فمثلًا تأخذ الجدة (ثلث) بدلًا من (سدس) وهكذا. 2 - إذا كان مع الورثة أحد الزوجين: ولها ثلاث صور كالأولى: (أ) أن يكون مع أحد الزوجين صاحب فرض واحد. (ب) أن يكون مع أحد الزوجين أكثر من واحد من صنف واحد. ففي هاتين الصورتين نجعل أصل المسألة من فرض صاحب الزوجية ونعطيه سهمه، ثم نجعل الباقي لمن يُردُّ عليه، وكأنهم عصبة. فمثلًا: لو ماتت امرأة عن زوج، وبنت. (جـ) أن يكون مع أحد الزوجين أصناف مختلفة ممن يُردُّ عليهم، فهنا نتبه المراحل التالية: 1 - نجعل المسألة من مقام فرض صاحب الزوجية، ونعطيه فرضه، ونجعل الباقي مشتركًا بين جميع الورثة الذين يردُّ عليهم. 2 - نجعل مسألة صغيرة خاصة لمن يُردُّ عليهم، ونجعلها تمامًا كما لو لم يكن معهم أحد الزوجين ونردُّ أصل المسألة إلى مجموع سهامهم.

3 - ننظر بين مرد مسألة أهل الرد والسهم المشترك بينهم في المسألة الأولى، فنخرج القاسم المشترك الأعظم، فنقسم مردَّ المسألة الصغيرة عليه، ونضع الناتج فوق أصل المسألة الأولى (كجزء السهم) ثم نقسم السهم المشترك بين من يرد عليهم على القاسم أيضًا، ونضع الناتج فوق مردّ المسألة الصغيرة كجزء السهم. 4 - نضرب وفق مرد المسألة في أصل المسألة الأولى ونضعه في شباك على يسار المسألة الأولى، ويسمى الناتج: جامعة الرَّد، ونضرب سهم صاحب الزوجية في وفق المسألة أيضًا ونضعه مقابله تحت الجامعة، ثم نأتي إلى المسألة الصغيرة فنضرب سهم كل وارث في جزء السهم، ونضعه مقابل الوارث في المسألة الأولى الكبيرة، وبذلك نكون قد رددنا على الورثة ما عدا صاحب الزوجية، ويمكن تنفيذ هذه الخطوات في المسألة التالية: ماتت امرأة عن: زوج، وبنت، وبنت ابن. قلت: إذا استصعبتَ هذه الطريقة فيمكن حل المسألة بطريقة «جبرية» بحتة، فنقول: للزوج1/ 4 = 6/ 24، وللبنت (1/ 2) =12/ 24، ولبنت الابن (1/ 6) = 4/ 24 فيبقى من التركة - فنزيد تقسيمه على كل من البنت وبنت الابن بحسب سهم كل منهما ويبقى نصيب الزوج كما هو (6/ 24 = 1/ 4). فنرى أن نسبة نصيب البنت إلى نصيب بنت الابن هو 12: 4 أي 3: 1. ومعنى هذا أننا نريد تقسيم الزائد (2/ 24) إلى أربعة أجزاء، تأخذ البنت (3) أجزاء وبنت الابن (1) جزء، فيكون كل جزء مساويًا (0.5/ 24) فيتحصل أن نصيب البنت يساوي (13.5/ 24) ونصيب بنت الابن (4.5/ 24)، ونصيب الزوج كما هو (6/ 24) ومجموع هذه الأنصبة =24/ 24 = 1 = التركة بتمامها، فإذا ضُرب كل كسر منها في القيمة الكلية للمال الموروث، كان الناتج نصيب كل وارث، والله أعلم.

ملاحظة: لاحظ أنك لو جعلت المقام في الكسور السابقة (16) لحصلت على نفس الأسهم الناتجة من الحل السابق: 4/ 16، 9/ 16، 3/ 16، فتأمل!! ميراث الحمل (الجنين): الحمل (الجنين) من جملة الورثة إذا تحقق شرطان: 1 - أن يعلم أنه كان موجودًا في البطن عند موت المورِّث، ويُعرف هذا بأن تلده لأقل من ستة أشهر منذ موت الموروث، إذا كان النكاح قائمًا بين الزوجين. 2 - أن ينفصل كله حيًّا حياة مستقرة: ويُعرف ذلك باستهلاله صارخًا أو عطسه أو بكائه ونحو ذلك. فعن جابر والمسور بن مخرمة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث الصبي حتى يستهلَّ صارخًا» (¬1). ما يُفعل بالميراث إذا تحقق وجود الحمل في بطن أمه (¬2): 1 - إذا كان الحمل غير وارث أو كان محجوبًا بغيره - على جميع الاعتبارات - فإنه لا يوقف له شيء من التركة، وتوزَّع على الورثة من غير انتظار. 2 - إذا كان الحمل وارثًا، ولم يكن معه وارث أصلًا، أو كان معه وارث محجوب به، ومات من يرثه، فقد اتفق الفقهاء على أن توقف التركة كلها لأجله إلى ولادته، ليتبين أمره. 3 - إذا كان الحمل وارثًا، ومعهُ ورثة غير محجوبين به، ورضوا جميعًا صراحة أو ضمنًا بعدم قسمة التركة حتى يولد، ولم يطالبوا بالقسمة، فإن التركة توقف - كذلك - حتى يولد. 4 - إذا طالب الورثة بحقوقهم، فذهب الجمهور إلى التفصيل التالي: (أ) من لا يرث مع الحمل ولو على بعض التقادير، لا يُعطى شيئًا، كأخي الميت، فإنه على تقدير أن الحمل ذكر لا يرث. (ب) من لا يختلف نصيبه - على أي تقدير - يُعطى له نصيبه، ويوقف الباقي، كالأم والزوجة، مع ابن وحمل من الميت، فإن الأم لا تنقص عن السدس، والزوجة لا تنقص عن الثمن سواء ولد الحمل حيًّا أو ميتًا. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجة (2751)، والحاكم (4/ 348)، وانظر «الإرواء» (1707). (¬2) مستفاد من «أحكام الطفل» لشيخي أحمد العيسوي - رفع الله قدره - (ص: 82) ط. الهجرة.

(جـ) من يختلف نصيبه - وهو من أصحاب الفروض - يُعطى له أقل النصيبين كالزوجة مع الحمل دون ولده سواه، فإن نصيبها على تقدير وجود الحمل الثُّمن، وعلى تقدير عدمه الربع، فإن ولد حيًّا وكان يستحق النصيب الأوفر أخذه وإن لم يكن يستحق إلا النصيب الأقل، أخذه ورد الباقي إلى الورثة، وإن نزل ميتًا لم يستحق شيئًا ووزعت التركة كلها على الورثة دون اعتبار للحمل. اهـ. قلت: ينبغي - في الحالة الأخيرة - أن نقدِّر تقديرات الحمل - وهي في الغالب لا تخرج عن ست حالات: 1 - أن ينزل الحمل ميتًا. 2 - أن ينزل حيًّا ذكرًا. 3 - أن ينزل حيًّا أنثى. 4 - أن ينزل حيًّا ذكرًا وأنثى. 5 - أن ينزل حيًّا ذكرين. 6 - أن ينزل حيًّا أنثتين. فنحل المسألة على كل تقدير من هذه التقديرات، فنوقف النصيب الأكبر للحمل، ونعطي بقية الورثة الأنصباء المقابلة له، فإن ظهر الحمل كما قدَّرنا أعطيناه الموقوف، وإلا أعدناه إلى بقية الورثة حسب استحقاقهم. ميراث الغرقى والحرقى والهدمى: إذا مات متاورثان أو أكثر في أحد حوادث الموت المفاجئ الجماعي، كغرق سفينة بهم، أو انهدام بيت أو حريق ونحو ذلك، فلهم خمس حالات: 1 - أن يُعلم تقدم موت بعضهم على بعض، فيرث المتأخر - ولو لوقت يسير - من المقدَّم إجماعًا. 2 - أن يتحقق من موتهما معًا في آن واحد، فلا توارث بينهما إجماعًا. 3 - أن يُجهل الحال، فلا يُعلم، أماتوا معًا أم سبق أحدهم الآخر. 4 - أن يُعرف سبق أحدهم من غير يقين. 5 - أن يُعلم السابق على التعيين، ثم يُنسى لطول مدة أو غير ذلك.

ففي الحالات الثلاث الأخيرة، للعلماء قولان (¬1): الأول: لا توارث بينهم: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك والشافعي، واتفق عليه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، ووجه هذا القول: أن سبب استحقاق كل منهما ميراث صاحبه غير معلوم يقينًا، والاستحقاق ينبني على السبب، فما لم يتيقن السبب لا يثبت الاستحقاق. الثاني: أن يرث كل واحد منهم الآخر إلا فيما ورثه من صاحبه: بمعنى أنه يرثه في ماله القديم وأما المال الذي ورثه من صاحبه - الذي مات معه - فلا يقسم إلا على الورثة الأحياء لكل واحد. وهو مذهب أحمد - عند تنازع الورثة واختلافهم - وهو مروي عن عليٍّ وابن مسعود. ووجه هذا القول: أن سبب استحقاق كل واحد منهم ميراث صاحبه معلوم، وهو حياته، وسبب الحرمان مشكوك فيه، فيجب التمسك بحياته حتى يأتي بيقين آخر، وسبب الحرمات موته قبل موت صاحبه مشكوك فيه، فلا يثبت الحرمان بالشك إلا فيما ورث كل واحد منهما من صاحبه لأجل الضرورة، والله أعلم بالصواب. ميراث ولد الزنى (¬2): يثبت نسب ولد الزنى من أمه، ويرث من جهتها، لأن صلته بها حقيقة مادية لا شك فيها، أما نسبه إلى الزاني، فقال الجمهور: لا يثبت - ولا يتوارثان - ولو أقرَّ ببنوَّته له من الزنى، لأن النسب نعمة، فلا يترتب على الزنى - الذي هو جريمة - فإذا لم يُصرِّح بأنه ابنه من الزنى، وكانت أم الولد غير متزوِّجة، وتحققت شروط الإقرار ثبت نسبه منه، حملًا على الصلاح وعملًا بالظاهر، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر. وذهب إسحاق وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما إلى ثبوت نسب ولد الزنى من الزاني بغير صاحبة فراش الزوجية، لأن زناه حقيقة ثابتة، فكما ثبت نسبه من الأم يثبت نسبه من الزاني، كي لا يضيع نسب الولد، ويصيبه الضرر والعار بسبب جريمة لم يرتكبها والله تعالى يقول: {ولا تزر وازرة ورز أخرى} (¬3). ومقتضى هذا القول أن يثبت التوارث بينهما، لأن التوارث فرع ثبوت النسب. ¬

(¬1) «المبسوط» (30/ 27 - 28) ط. المعرفة. (¬2) «تبيين الحقائق» (6/ 241)، و «الموسوعة الفقهية» (3/ 70). (¬3) سورة فاطر: 18.

ميراث ولد اللعان والمتلاعنين: تقدم في «اللعان» أنه لا توارث بين ولد اللعان وبين المُلاعِن لأنه قد انقطع نسب الولد من جهة أبيه وأُلحق بأمِّه، كما في حديث سهل بن سعد - في قصة المتلاعنين - وفي آخره: «... فكان بعدُ يُنسب لأمه» (¬1). وأما الملاعنة فيثبت التوارث بينها وبين ولدها الذي لا عنت عليه، لما في حديث سهل: «... وكان ابنها يُدعى لأمِّه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه، ويرث منها ما فرض الله له» (¬2) وهذا يحتمل أنه من قول سهل أو من قول الزهري. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الملاعنة تقوم مقام الأب في ميراثها ابنها فهي عصبته وعصباتها أيضًا عصبته فإذا مات حازت ميراثه، وهو قول ابن عباس وابن مسعود، ورُوي عن عليٍّ، ويشهد له حديث واثلة بن الأسقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لا عنت عليه» (¬3) وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأُمِّه ولورثتها من بعدها» (¬4). وانظر ما تقدم في «آثار اللعان». ميراث ذوي الأرحام: المراد بذوي الأرحام - عند الفرضيين -: «كل قريب ليس بذي فرض مقدَّر في كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو إجماع الأمة، ولا عصبة تحرز المال عند الانفراد» (¬5) فإذا لم يوجد أحد من أصحاب الفروض ولم يكن هناك عصبة، فاختلف العلماء: هل يورث ذوو الأرحام أم لا، على قولين (¬6): الأول: لا يرثون مطلقًا: ويُردُّ الإرث إلى بيت المال، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد وأهل الظاهر، وهو قول زيد بن ثابت، وابن عباس في رواية عنه - رضي الله عنهم -، وحجتهم: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (5309)، ومسلم (1492). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (2906)، والترمذي (2116)، وابن ماجة (2742)، وأحمد (3/ 490). (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (2908). (¬5) «السراجية» (ص 265)، و «العذب الفائض» (2/ 15). (¬6) «المبسوط» (30/ 2)، و «جواهر الإكليل» (2/ 328)، و «الأم» (4/ 10)، و «الإنصاف» (7/ 323)، و «المحلي» (9/ 312).

1 - أن الله تعالى نص في آيات المواريث على بيان أصحاب الفروض والعصبات، ولم يذكر لذوي الأرحام شيئًا {وما كان ربك نسيا} (¬1). 2 - ما رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ميراث العمة والخالة، فقال: «نزل جبريل - عليه السلام - وأخبرني ألا ميراث للعمة والخالة» (¬2) وهو ضعيف. الثاني: يورثون، وينزلون منزلة من أدلوا به: فينزل الخال والخالة منزلة الأم، والعمة منزلة الأب، وهكذا. وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد ومتأخري المالكية والشافعية، وهو مروي عن عمر وعلي وابن عمر وأبي عبيدة ومعاذ وأبي الدرداء - رضي الله عنهم -، وحجتهم: 1 - عموم قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} (¬3). فإذا انعدم الوصف الخاص، وهو كونهم أصحاب فروض أو عصبات، استحقوا بالوصف العام وهو كونهم ذوي رحم، ولا منافاة بين الاستحقاق بالوصف العام والاستحقاق بالوصف الخاص، فلا يكون ذلك زيادة على كتاب الله. 2 - ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له» (¬4). 3 - وما يُروى عن المقداد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه» (¬5). قلت: الذي يظهر أن القول بتوريثهم أولى لا سيما عند عدم عدل السلطان أو عدم بيت المال أصلًا!! والله أعلم. تنبيه: إذا وجد أصحاب فروض - وإن لم يستغرقوا التركة - فإنه يُقدَّم الردّ كما تقدم، وإذا وجد عصبة للميت جازوا التركة كذلك، فلا يُورَّث ذوو الأرحام على كلا القولين. ¬

(¬1) سورة مريم: 64. (¬2) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (2103)، وابن ماجة (2737)، وله شواهد عن عائشة عند الترمذي (2104) وغيره وآخر عن المقداد وهو الذي بعده، وانظر «الإرواء» (1700). (¬3) سورة الأنفال: 75. (¬4) حسن بطرقه: أخرجه أبو داود (2899)، وابن ماجه (2634، 2738) وانظر السابق. (¬5) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 249)، والدارقطني (4/ 99)، والحاكم (4/ 381)، والبيهقي (6/ 212) وضعَّفه الحافظ في «التلخيص» (3/ 81).

صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة أعده أبو مالك كمال بن السيد سالم مع تعليقات فقهية معاصرة فضيلة الشيخ / ناصر الدين الألباني فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن باز فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين الجزء الرابع

13 - كتاب الحدود

13 - كتاب الحدود

الحدود

الحدود تعريف الحدود (¬1): الحدود لغةً: جمع حدٍّ، وهو المنع، ويُطلق على الحاجز بين الشيئين، أو ما يميِّز الشيء عن غيره. والحدُّ شرعًا: «عقوبة مقدَّرة في الشرع، وحبستًا لأجل حق الله على ذنب - كما في الزنا - أو اجتمع فيها حق الله وحق العبد كالقذف». فخرج بقولنا (مقدَّرة) التعزير، لعدم تقديره شرعًا، وخرج كذلك القصاص لأنه حق خالص للآدمي. هذا هو الحد في اصطلاح الفقهاء، وهو موضوع هذا الكتاب، وإن كان الحد في لسان الشارع أعم من ذلك، فإنه يُراد به هذه العقوبة تارة، ويُراد به نفس الجنابة تارة كقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} (¬2)، ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدَّرة، فقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (¬3) فالمراد بالحد فيه: ما حَرُم لحق الله. سبب تسمية العقوبات المقدَّرة حدودًا (¬4): لا خلاف في أن العقوبات المقدرة إنما سميت حدودًا لعلَّة المنع، وإنما حصل الخلاف في تعليل مورد المنع في ذلك على أقوال ثلاثة هي: 1 - لأن هذه العقوبات تمنعه المعاودة في مثل ذلك الذنب وتمنع غيره أن يسلك مسلكه. 2 - لأنها عقوبات مقدرة من الشارع، تمتنع الزيادة فيها أو النقصان. 3 - لأنها زواجر عن محارم الله. وليس هناك ما يمنع التعليل بها مجتمعة لاشتمالها على هذه المعاني الثلاثة. ¬

(¬1) «مختار الصحاح»، و «ابن عابدين» (3/ 140)، و «كشاف القناع» (6/ 77)، و «المجموع» (22/ 3)، و «نيل الأوطار» (7/ 105)، و «إعلام الموقعين» (3/ 29)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 347)، و «الحدود والتعزيزات» (ص: 24). (¬2) سورة البقرة: 187. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6850)، ومسلم (1708). (¬4) «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - أمتع الله بحياته - (ص: 22، 23).

حكم إقامة الحدود: إقامة الحدود فرض على وليِّ الأمر أو نائبه، دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. (أ) فأما الكتاب: فمنه: 1 - قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} (¬1). 2 - قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (¬2). 3 - وقال سبحانه في حد القاذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (¬3). (ب) وأما السنة فمنها: 1 - حديث عائشة: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عله إلا أسامة حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟» ثم قام فاختطب فقال: «يا أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (¬4). 2 - حديث النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا» (¬5). 3 - وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم» (¬6). ¬

(¬1) سورة المائدة: 38. (¬2) سورة النور: 2. (¬3) سورة النور: 4. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2493)، والترمذي (2173). (¬6) حسن: أخرجه ابن ماجو (2540).

(جـ) وقد أجمع علماء الأمة على وجوب إقامة الحدود على من ارتكب مسبباتها، ولم يخالف أحد في ذلك. (ر) وأما المعقول: فلما كانت طبيعة البشر مائلة إلى اقتناص الملاذِّ، وتحصيل مقصودها، من شرب وزنا وقذف وسفك للدماء، اقتضت حكمة الله تعالى شرع هذه الحدود حسمًا للفساد، وزجرًا عن ارتكابه، لأن إخلاء المجتمع عن إقامة الرادع يؤدي إلى انحرافه، فالمقصد الأصلي من شرع الحدود الانزجار عما يتضرر به العباد (¬1). فضل إقامة الحدود: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إقامةُ حدٍّ بأرض، خير لأهلها من مطر أربعين صباحًا» (¬2) وهو مختلف فيه. لا تجوز الشفاعة في الحدود: لا تجوز الشفاعة في الحدود بعد وصولها للحاكم، والثبوت عنده؛ لأنه طلب ترك الواجب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة بن زيد - كما تقدم - حين شفع في المخزومية التي سرقت، وقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟!» (¬3). وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: «من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله تعالى، فقد ضادَّ الله في خلقه» (¬4). وأما قبل الوصول إليه، فتجوز - عند الجمهور - الشفاعة عند الرافع له إلى الحاكم ليطلقه؛ لأن وجوب الحدِّ قبل ذلك لم يثبت، فالوجوب لا يثبت بمجرد الفعل (¬5). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 140)، و «فتح القدير» (5/ 3). (¬2) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2538)، والنسائي (8/ 75)، وأحمد (2/ 362 - 402)، وابن حبان (4997 - 4398) وفي سنده اختلاف، لكن حسنه الألباني في «الصحيحة» (231) وفيه نظر. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3597)، وأحمد (2/ 70)، وانظر «الإرواء» (2318). (¬5) «ابن عابدين» (3/ 140)، و «المواهب» (6/ 320)، و «روضة الطالبين» (10/ 95)، و «المغني» (8/ 281).

قلت: ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» (¬1). وعن صفوان بن أمية قال: «كنتُ نائمًا في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل، فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه، وأنسئه ثمنها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به»؟ (¬2). من يقيم الحدود (¬3): إن أمر الحدود موكول إلى الحاكم المسلم أو من ينوب عنه، وليس لأفراد الناس إقامة الحدود على من ارتكبوا أسبابها، وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بإقامة الحدود خطابًا مطلقًا، لكن قد عُلم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، والقدرة هي السلطان، فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونُوَّابه، ولأنه لم يُقم حدٌّ على حُرٍّ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأنه حق الله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فلم يجز بغير إذن الإمام. وقد أناب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الحدود، فقال لأنيس: «واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (¬4). فائدة: الحدود لا تسلم إلى السلطان إذا كان مُضيِّعًا لها أو عاجزًا عنها (¬5). وهل يقيم الرجل الحدَّ على أَمَته أو عبده؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة، وأكثر أهل العلم - خلافًا لأبي حنيفة!! - على أنه يجوز للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان، لحديث أبي هريرة قال: ¬

(¬1) حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (4376)، والنسائي (8/ 70)، والبيهقي (8/ 331)، والحاكم (4/ 424) وإسناده حسن لولا خشية تدليس ابن جريج، وله شواهد يحسن بها. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 69)، والحاكم (4/ 380)، والبيهقي (8/ 265)، وانظر «الإرواء» (2317). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2315)، ومسلم (1698). (¬4) «فتح القدير» (5/ 2359، و «الدسوقي» (4/ 322)، و «روضة الطالبين» (10/ 102)، و «كشاف القناع» (6/ 78). (¬5) انظر «مجموع الفتاوى» (34/ 176).

سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا زَنَتْ أمةُ أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحدَّ، ولا يثرِّب عليها، ثم إن زنتْ فليجلدها الحدَّ ولا يُثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبيَّن له زناها فليبعها، ولو بحبل من شعر» (¬1). وعن عليٍّ قال: ولدت أمة بعض نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أقم عليها الحد». قال: فوجدتها لم تجف من دمها، فذكرت له ذلك، فقال: «إذا جفَّت من دمها، فأقم عليها الحد» ثم قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» (¬2). وعن نافع: «أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق، وجلد عبدًا له زنا، من غير أن يرفعهما إلى الوالي» (¬3). ما تسقط به الحدود: 1 - الرجوع عن الإقرار (في حق المقرِّ بها على نفسه) (¬4): ذهب الجمهور (أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وهو قول لمالك) إلى أنه يُقبل من المُقِرِّ الرجوع عن الإقرار، ويسقط عنه الحد، وأنه يُترك إذا هرب لعلَّه يرجع. لحديث أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردَّد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبك جنون؟!» (¬5) ... الحديث، فلقَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجوع، فلو لم يكن محتملًا للسقوط بالرجوع ما كان للتلقين فائدة، ولأنه يورث الشبهة. وفي رواية: «فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحَرُّة فرجم بالحجارة، فلما رأى مسَّ الحجارة فرَّ يشتد حتى مرَّ برجل معه لَحْيُ جمل فضربه به، وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هلا تركتموه» (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (2152)، ومسلم (1703). (¬2) ضعف: أخرجه أبو داود (4473)، وأحمد (1/ 135 - 145) وغيرهما، وانظر «الإرواء» (2325)، وقد صح من قول عليٍّ عند مسلم (1705). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 239) رقم (18979). (¬4) «نيل الأوطار» (7/ 123)، و «البدائع» (7/ 61)، و «المواهب» (6/ 294)، و «الروضة» (10/ 97)، و «المغني» (8/ 197). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (6814)، ومسلم (1318). (¬6) إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1428)، وأبو داود (4419)، وابن ماجة (2554).

وذهب أبو ثور - وهو الرواية الأخرى عن مالك والشافعي - إلى أنه لا يُقبل منه الرجوع عن الإقرار بعد كماله كغيره من الإقرارات، واستدلوا بما ورد في حديث جابر في قصة ماعز بنحو حديث أبي هريرة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا تركتموه وجئتموني». قال جابر: «ليستثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، فأما ترك حدٍّ فلا» (¬1). قلت: والأوَّل أرجح. 2 - الشبهة، فلا يجب الحد بالتُّهم ولا بالظن (¬2): اتفق الفقهاء - خلافًا لابن حزم وأصحابه - على أنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات، والشبهة: ما يشبه الثابت وليس بثابت، سواء كانت في الفاعل: كمن وطىء امرأة ظنَّها خليلته، أو في المحل: بأن يكون للواطىء فيها ملك أو شبهة ملك كالأمة المشتركة، أو في الطريق: بأن يكون حرامًا عند قوم، حلالًا عند غيرهم، والأصل في هذا: 1 - حديث ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته» فقال شداد بن الهاد: هي المرأة التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها» قال: لا، تلك امرأة أعلنت (¬3). 2 - ما يُروى مرفوعًا: «ادرءوا الحدود بالشبهات» (¬4). 3 - وما يُروى عن عائشة مرفوعًا: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (¬5) وهما ضعيفان، وفي الباب عن أبي هريرة وغيره وفيه ضعف، لكن الأمة تلَّقت معنى هذه الأحاديث بالقبول. 4 - وعن ابن مسعود قال: «ادرءوا الجلد عن المسلمين ما استطعتم» (¬6). ¬

(¬1) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (4420). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 149)، و «القوانين» (347)، و «الروضة» (10/ 92)، و «كشاف القناع» (6/ 96)، و «المحلى» (11/ 153)، و «الأشباه والنظائر» للسيوطي (122). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1497)، وابن ماجة (2559، 2560). (¬4) ضعيف: وانظر «إرواء الغليل» (2316). (¬5) ضعيف: أخرجه الترمذي (1424)، والدارقطني (3/ 84)، والبيهقي (8/ 238)، وانظر «الإرواء» (2355). (¬6) إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 511)، والبيهقي (8/ 238).

5 - وعن عمر بن الخطاب أنه قال: «لأن أعطِّل الحدود بالشبهات أحب إليَّ من أن أقيمها في الشبهات» (¬1). وأما أبو محمد بن حزم فضعَّف حديثي أبي هريرة وعائشة -؟؟ كذلك - وقال: «إن لم يثبت الحد لم يحلَّ أن يُقام بشبهة، وإذا ثبت الحدُّ لم يحلَّ أن يُدرأ بشبهة» (!!)» اهـ. قلت: نعم، الحديثان ضعيفان من جهة السند، إلا أن معناهما يتفق مع قواعد الشرع التي تقضي بأن لا يقام حدٌّ إلا بعد اليقين، رحمة بالإنسان ودفعًا لإلحاق الضرر به بظنٍّ مجرَّد، ولذا تلقت الأمة هذا الحكم بالقبول، وعمل له أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن في حديث ابن عباس المتقدم أن الحدَّ لا يقام إلا ببينة، والله أعلم. أثر التوبة في الحدود (¬2): أثر التوبة في الحدود درءًا وإيجابًا يكون على حالتين: الأولى: أن تكون توبته بعد القدرة عليه: فهذه التوبة لا تُسقط الحدَّ بالاتفاق. الثانية: أن تكون توبته قبل القدرة عليه: فأثر التوبة في سقوط الجريمة الحدِّية في هذه الحالة ينقسم إلى قسمين: محلُّ اتفاق، ومحل اختلاف. (أ) محلُّ الاتفاق: لا خلاف بين الفقهاء في أن حدَّ قطاع الطريق (حدّ الحرابة) والرِّدَّة يسقطان بالتوبة إذا تحققت توبة القاطع قبل القدرة عليه، وكذلك حدُّ ترك الصلاة - عند من اعتبره حدًا، لقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} (¬3). ¬

(¬1) رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 511)، ورجاله ثقات لكنه منقطع، لكن قال السخاوي: «وكذا أخرجه ابن حزم في «الإيصال» له بسند صحيح» اهـ، وانظر «الإرواء» (7/ 345). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 140)، و «الشرح الصغير» (4/ 489)، و «روضة الطالبين» (10/ 97)، و «المغني» (8/ 296)، و «الحدود والتعزيرات» (71 - وما بعدها). (¬3) سورة المائدة: 33، 34.

(ب) محل الاختلاف: واختلفوا في بقية الحدود إذا تاب مرتكب الجريمة الحدِّية قبل المقدرة عليه على قولين: الأول: تسقط هذه الحدود بالتوبة قبل المقدرة عليه كذلك: وهو قول في مذهب الحنفية وقول للشافعية، وهو إحدى الروايتين عند الحنابلة، واختارها ابن القيم، واستدل لها بما يلي: 1 - قوله تعالى - في سياق الكلام عن فاحشة الزنى - {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} (¬1). 2 - وقوله سبحانه بعد ذكر حد السرقة: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} (¬2). 3 - حديث أنس قال: «كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ حدًّا فأقمه عليَّ، ولم يسأله، قال: وحضرت الصلاة فصلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إليه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، قال: ولم يسأل عنه، قال: «أليس قد صليت معنا؟» قال: نعم، قال: «فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك» (¬3) وفي بعض الروايات أنه قال: «إني زنيت». قال الحافظ في «الفتح» (12/ 134): «قد يتمسك به من قال: إنه إذا جاء تائبًا سقط عنه الحد» اهـ. 4 - حديث وائل بن حُجْر - رضي الله عنه -: (أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وه تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه إليها: فقال: أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته أنه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذبت هو الذي وقع علي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انطلقوا به ¬

(¬1) سورة النساء: 16. (¬2) سورة المائدة: 39. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6823)، ومسلم (2764).

فارجموه». فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة فقال: أما أنت فقد غفر لك. وقال للذي أغاثها: قولًا حسنًا فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لأنه قد تاب إلى الله) (¬1). قال ابن القيم: «ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعًا واختيارًا خشية من الله وحده، وإنقاذًا لرجل مسلم من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها، فقاوم هذا الدوا ذاك الداء، وكانت القوة الصالحة، فزال المرض، وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدك، وإنما جعلناه طهرة ودواء، فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك، فأيُّ حكم أحسن من هذا الحكم؟ وأشد مطابقة للمرحلة والحكمة والمصلحة؟ وبالله التوفيق» اهـ (¬2). 5 - حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (¬3). فدلَّ على أنه لا عقاب على التائب مما يوجب حدًّا إذا تاب قبل القدرة عليه لتمحُّض صدقه في توبته. 6 - أن الشارع اعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره قبل القدرة عليه بطريق الأولى، فإنه إذا دفعت عنه توبته حدَّ حرابة مع شدَّة ضررها وتعدِّيه، فلأن تدفع التوبة عنه ما دون حدِّ الحرابة بطريق الأولى والأحرى، وقد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (¬4). القول الثاني: أن التوبة في هذه الحدود - قبل القدرة عليه - لا تُسقط الحدَّ: وهو مذهب المالكية والأظهر عند الحنفية والشافعية، والرواية الأخرى عند الحنابلة واستدلوا بما يلي: 1 - عموم آيات إقامة الحدود في القرآن، قالوا: وهي عامة في التائبين وغيرهم (!!). ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي (1454)، وأبو داود (4379)، وابن ماجة، وأحمد (26698). (¬2) «إعلام الموقعين» (3/ 21). (¬3) حسن: أخرجه ابن ماجة (4250)، والبيهقي (10/ 154)، والطبراني (10/ 150). (¬4) سورة الأنفال: 38.

وأجيب: بأن هذا من العموم المخصَّص بالسنة كما تقدم في أدلة الفريق الأول. 2 - الأحاديث التي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام الحدَّ على من جاء تائبًا يطلب التطهير بإقامة الحد عليه كماعز والغامدية - رضي الله عنهما. قالوا: فلو كانت التوبة قبل القدرة مسقطة للحدِّ لم يحدَّهم - صلى الله عليه وسلم. وأجيب: بأن الحدَّ مطهَّر والتوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحدِّ على التطهير بالتوبة، وأبيا إلا أن يُطهَّرا بالحدِّ، فأجابهما النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعز: «هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه» (¬1) ولو تعيَّن الحد بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مُخيَّر بين أن يتركه - كما قال لصاحب الحد الذي اعترف: «اذهب فقد غفر الله لك» (¬2) - وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختار إقامته، وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردَّهما النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، وهما يأبيان إلا إقامته عليهما. وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول: لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم (¬3). قلت: وهو الأرجح، والأقرب إلى روح الشريعة، وهو مقتضى رحمة رب العالمين واتساعها للعفو عن المذنبين، ورفع العقاب عن التائبين، فليس للإمام أن يقيم الحدَّ على من تاب توبة صادقة وجاء بنفسه فاعترف قبل أن تقوم البينة عليه ويؤتى به إلى الإمام، لكن إذا طلب هو إقامة الحد عليه أُقيم وإلا فلا، على أنه ينبغي أن ينتبه إلى أنَّ من قامت عليه البينة وأتى به إلى الإمام ليقيم عليه الحد، ثم أظهر التوبة لم يُقبل منه ذلك، فإن كان تائبًا في الباطن كان الحد مكفِّرًا، وكان مأجورًا على صبره (¬4) والله أعلم. شروط وجوب الحدِّ: يشترط فيمن يرتكب جريمة حدِّية ليجب عليه الحد - عمومًا - ما يلي: ¬

(¬1) إسناده حسن: تقدم قريبًا. (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) «إعلام الموقعين» (2/ 79). (¬4) انظر «مجموع الفتاوى» (16/ 31).

1 - التكليف (البلوغ، والعقل): فلا خلاف بين الفقهاء في أن الحد لا يجب إلا على مكلَّف، وهو البالغ العاقل، فلا يُحدُّ الصغير ولا المجنون، ويؤيد هذا: (أ) حديث ابن عباس قال: أُتي عمر بمجنونة قد زَنتْ فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر أن تُرجم، فمر بها على عليِّ بن أبي طالب فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: راجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن القلم قد رُفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى، قال: فما بال هذه تُرجم؟ قال: لا شيء، قال: فأرْسِلْها، قال: فأَرْسَلَها، فجعل يكبِّر (¬1). (ب) وفي حديث أبي هريرة - في قصة اعتراف ماعز بالزنا -: ... فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبك جنون»؟ ... الحديث (¬2). فدلَّ على أنه لو كان به جنون ما أقام عليه الحدَّ. 2 - الاختيار وعدم الإكراه: فلا حدَّ على من أُكره على أمر من الأمور، قال الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله} (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬4). 3 - العلم بالتحريم: فلا يجب إلا على من عُلِم التحريم، وبهذا قال عامة أهل العلم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - راجع ماعزًا فقال له: «هل تدري ما الزنا؟» (¬5). وقد رُوي عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - أنهما قالا: «لا حدَّ إلى على من علمه» (¬6) وأسانيده ضعيفة. ¬

(¬1) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (4399)، وأحمد (1/ 116) ومواضع، وله شاهد عن عائشة، وفي لفظ لأبي داود (4401) أنه قال: أوما تذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رفع القلم عن ثلاثة ...». (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) سورة النحل: 106. (¬4) صحيح: تقدم مرارًا. (¬5) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (7/ 322)، وعنه أبو داود (4428)، والنسائي في الكبرى (7165)، وابن حبان (4399)، وفيه عنعنة أبي الزبير وهو مدلس. (¬6) انظر: «إرواء الغليل» للعلامة الألباني - رحمه الله - (2314 - 2315).

فإن ادعى الزاني - مثلًا - الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهلهُ كحديث العهد بالإسلام، قُبل منه؛ لأنه يجوز أن يكون صادقًا، وإن كان ممن لا يخفى عليه كالمسلم الناشئ بين المسلمين لم يُقبلْ منه؛ لأن تحريم الزنا لا يخفى على من هو كذلك. هذا، وهناك شروط أخرى لوجوب كل حدٍّ، يأتي الكلام عليها في موضعها - إن شاء الله. تنبيه: يشترط لإقامة الحد العلم بالتحريم وليس العلم بالعقوبة، فإن علم أن الزنا مثلًا محرَّم، لكن لم يَدْرِ أنه يُرجم، أقيم عليه الحد، بلا خلاف. هل يقام الحد على المريض ونحوه؟ (¬1) مرتكب الجريمة الحدِّية إذا كان مريضًا عند القدرة، فله حالتان: (أ) أن يكون مرضه مما يُرجى بُرْؤه: ففيه قولان للعلماء: الأول: يقام عليه الحدُّ ولا يؤخر، وبه قال إسحاق وأبو ثور وهو رواية عن أحمد، وحجة هذا القول: 1 - أن عمر - رضي الله عنه - أقام الحد على قدامة بن مظعون في مرضه ولم يُؤَخِّرهُ (¬2)، وانتشر ذلك في الصحابة، فلم ينكروه، قالوا: فصار إجماعًا (!!). 2 - أن الحد واجب على الإمام إقامته، فلا يؤخَّر بغير حجة. الثاني: يؤخر الحد حتى يبرأ من عليه الحدُّ من مرضه، وهو مذهب الجماهير من الأئمة الأربعة وغيرهم، وحجتهم: 1 - عن أبي عبد الرحمن - رضي الله عنه - قال: خطب عليٌّ - رضي الله عنه - فقال: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحدَّ، من أحصن منهم، ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيتُ إن أنا جلدتُها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أحسنتَ» وزاد في رواية: «اتركها حتى تماثل» (¬3). ¬

(¬1) «فتح القدير» (5/ 29)، و «جواهر الإكليل» (2/ 286)، و «نهاية المحتاج»، و «المغني» (8/ 171) وللقصة شاهد من حديث ابن عباس عند النسائي في «الكبرى» (5289). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9/ 240) ومن طريقه البيهقي (8/ 315). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1705)، وأبو داود (4473)، والترمذي (1441).

قلت: وقد يستدل لهم كذلك: 2 - بحديث الغامدية لما جاءت فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردَّها، فلما كان من الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردُّني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فوالله إني لحُبلى، قال: «أما الآن، فاذهبي حتى تلدي» فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدتُ، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ...» الحديث (¬1). وهو أصل تأخير الحد لعارض يترتب عليه مصلحة للمحدود، والله أعلم. ولا شك أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقراره يقدَّم على فعل عمر وغيره، والله أعلم. (ب) أن يكون مرضه مما لا يُرجى بُرؤه (¬2): فيقام عليه الحدُّ في الحال، ولا يؤخَّر، فإن كان حدُّ مائة جلدة مثلاً، فإنه يقام عليه بسوط يؤمن معه التلف، فإن خيف عليه جُمع عُثكول فيه مائة شمراخ فيضرب به ضربة واحدة، وبه قال الشافعي. وأنكره مالك؛ لأن هذه ضربة واحدة والله تعالى يقول: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (¬3). وقول الشافعي أظهر، لحديث سعيد بن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: كان في أبياتنا رُويجل ضعيف، فخبث بأمة من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اضربوه حدَّهُ» فقالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، فقال: «خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ، ثم أضربوه به ضربة واحدة»، ففعلوا (¬4). فهذا في حال العذر أولى من ترك حدِّه بالكلية، وأولى من قتله بما لا يوجب القتل. قلت: وقد قال الله تعالى - في شأن أيوب عليه السلام لما أقسم أن يضرب امرأته مائة ضربة -: {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1695). (¬2) انظر: «سبل السلام» (4/ 1283). (¬3) سورة النور: 2. (¬4) فيه ضعف: أخرجه ابن ماجة (2574)، وأحمد (5/ 222)، وابن أبي عاصم في «الآحاد» (2024)، والطبراني في «الكبير» (6/ 63) وفيه عنعنه ابن إسحاق. (¬5) سورة ص: 44.

هل تُقام الحدود على المسلم في دار الحرب؟ (¬1) إذا أصاب المسلم - في أرض العدو - حدًّا من سرقة أو شرب خمر أو نحوهما من موجبات الحدود فقد اختلف أهل العلم في إقامة الحدِّ عليه على ثلاثة أقوال: الأول: يقام عليه الحد سواء كان في دار الإسلام أو دار الحرب، وهو مذهب المالكية، وحكاه البيهقي وغيره عن الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، وحجتهم: 1 - أن الأدلة الآمرة بإقامة الحدود مطلقة، في كل مكان وزمان، كقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (¬2). 2 - حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر». الثاني: لا حدَّ عليه في دار الحرب، لا إذا رجع، وهو مذهب أبي حنيفة على ما نقله ابن قدامة وابن القيم عنه - وقيَّده الحنفية بعدم وجود خليفة المسلمين ف دار الحرب، فإن كان معهم وجبت إقامة الحدود على من تلبَّس بها ولا تؤخَّر، فإن لم يكن معهم سقط الحد، واحتجوا بحديث: «لا تقام الحدود في دار الحرب» (¬3) ولا أصل له. ويستدل لهم بان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أسقط الحد - حدَّ الخمر - عن أبي محجن، فخلَّى سبيله، وقال: «والله لا أضرب اليوم رجلًا أبلى للمسلمين ما أبلاهم» (¬4). الثالث: لا يقام عليه الحد في أرض الحرب، ولا يسقط عنه بالكلية، بل يؤخَّر حتى يرجع إلى أرض الإسلام: وهو مذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي، واستدلوا بما يلي: ¬

(¬1) «شرح فتح القدير» (5/ 46)، و «جواهر الإكليل» (2/ 286)، و «المغني» (10/ 537 - مع الشرح الكبير)، و «سنن البيهقي» (9/ 103)، و «نيل الأوطار» (7/ 163)، و «الحدود والتعزيزات» (ص: 39 - وما بعدها). (¬2) سورة النور: 2. (¬3) لا أصل له: قال ابن الهمام الحنفي في «فتح القدير» (5/ 46): «لا يُعلم له وجود» اهـ. (¬4) صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2502)، وابن أبي شيبة (6/ 550)، وعبد الرزاق (9/ 243).

1 - حديث بسر بن أبي أرطأة: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تقطع الأيدي في الغزو» (¬1) وفي لفظ «في السفر». قال ابن القيم: «فهذا حدٌّ من حدود الله وقد نهى عن إقامته في الغزو، خشية أن يترتب عله ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق لصاحبه بالمشركين حمية وغضبًا كما قال عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم ...» اهـ (¬2). فإن قيل: ظاهر الحديث سقوط الحد لا تأخيره، والحال يقتضي البيان؟! قيل: الحديث نهى عن إقامة حد القطع في (غير واضح ص 18) وهو الغزو وليس إسقاطًا له، ويوضحه فعل الصحابة - رضي الله عنهم. 2 - فرُوي عن عمر أنه «كتب إلى الناس: أن لا يجلدون أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غازٍ حتى يقطع الدرب قافلًا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار» (¬3). 3 - ورُوى عن أبي الدرداء: «أنه كان ينهي أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله حتى يقفل مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا فإن عقوبة الله من ورائهم» (¬4). 4 - وعن علقمة بن قيس قال: «كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحدَّه، فقال حذيفة: أتحدُّون أميركم؟! وقد دَنَوْتُم من عدوكم فيطمعون فيكم» (¬5). وفيه أن حذيفة لم يسقط الحد عنه وإنما استنكر عليهم تعجيله وهم عند أرض العدو مخافة أن يطمع فيهم الأعداء. ¬

(¬1) صحيح إلى بسر: أخرجه أبو داود (4408)، والترمذي (1450)، وأحمد (17174)، والدارمي (2492) وغيرهم وهو صحيح إلى بسر، وهو مختلف في صحبته وفي سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه كلام يغمز في عدالته - لا في صدقه -. (¬2) «إعلام الموقعين» (3/ 17). (¬3) حسن بطرقه: سعيد بن منصور (2500)، وابن أبي شيبة (5/ 549)، والبيهقي (9/ 105). (¬4) إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2499). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2501)، وعبد الرزاق (5/ 198)، وابن أبي شيبة (5/ 549).

5 - قال ابن قدامة: وهو إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - (!!) والظاهر أن مراده الإجماع السكوتي. 6 - انه قد ثبت تأخير الحدِّ لمصلحة المحدود (كالحامل والمرضع) فتأخيره لما فيه مصلحة المسلمين وحاجتهم إليه أولى. قلت: وهذا الأخير أظهر والله أعلم. لا تُقام الحدود في المساجد (¬1): اتفق الفقهاء على أنه تحرم إقامة الحدود في المساجد، لحديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقامة الحد في المساجد» (¬2) وعن طارق بن شهاب قال: أُتي عمر برجل في شيء فقال: «أخرجاه من المسجد واضرباه» (¬3). ولأن تعظيم المسجد واجب، وفي إقامة الحدود فيه ترك تعظيمه. ولا خلاف في إقامتها في الحرم على من ارتكب موجب الحد فيه، أما من ارتكبه خارج الحرم ولجأ إليه، فقد اختلف الفقهاء: فذهب الجمهور إلى أنه لا يُستوفى فيه حدٌّ لقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} (¬4). ولحديث أبي شريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا» (¬5) يريد: مكة. قالوا: يُقاطع ويضيَّق عليه حتى يخرج فيستوفى منه الحد. وذهب المالكية والشافعية إلى أنه تستوفى الحدود في الحرم، لحديث أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعلى رأسه مغفر، فلما نزع المغفر، جاءه رجل فقال: ابن خطيل متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» (¬6). ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 60)، و «جواهر الإكليل» (2/ 223)، و «روضة الطالبين» (10/ 173)، و «كشاف القناع» (6/ 80). (¬2) حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (4490)، وأحمد (3/ 434)، والحاكم (4/ 378)، والبيهقي (8/ 328)، وانظر «الإرواء» (2327). (¬3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 23). (¬4) سورة آل عمران: 97. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (104)، ومسلم (1354). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1357).

التلف بسبب الحدود (¬1): لا خلاف بين الفقهاء في أن الحدود إذا أُتي بها على الوجه المشروع من غير زيادة، أنه لا يضمن من تلف بها، وذلك لأنه فعلها بأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يؤاخذ به، ولأنه نائب عن الله تعالى، ومأمور بإقامة الحد، وفعل المأمور لا يتقيَّد بشرط السلامة، وإن زاد على الحد فتلف وجب الضمان بغير خلاف. الحدود كفارات للذنوب: ذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - إلى أن الحدَّ المقدَّر في ذنب كفارة لذلك الذنب، ويدلُّ على هذا حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس، فقال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها -، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عاقبه» (¬2). وقال الحنفية: الحد غير مُطهِّر، بل المطهر التوبة، فإذا حُدَّ ولم يتب يبقى عليه إثم المعصية - عندهم - كما قال تعالى في حدِّ قطاع الطريق: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (¬3). استحباب الستر على المسلم: من عايَنَ ارتكاب مسلم لجريمة حدِّية، فهو مخيِّر بين أداء الشهادة حسبةً لله تعالى القائل {وأقيموا الشهادة لله} (¬4). وبين الستر على أخيه المسلم، وهو الأولى، لاسيما على من كان ظاهره الستر ولم يكن مجاهرًا بمعصيته، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» (¬5). ويستحب كذلك أن يستر العبد على نفسه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 189)، و «مواهب الجليل» (6/ 321)، و «روضة الطالبين» (10/ 101)، و «كشاف القناع» (6/ 83). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (18)، ومسلم (1709). (¬3) سورة المائدة: 33. (¬4) سورة الطلاق: 4. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2699)، والترمذي (1449)، وأبو داود (4925)، وابن ماجة (225).

الجرائم الحدية

عليه، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عليه» (¬1). الجرائم الحَدِّيَّة: وقد ثبت بالكتاب والسنة أن الجرائم التي يجب الحد (العقوبة المقدَّرة) على مرتكبها هي: الزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسَّرقة، والمحاربة، والرِّدة. وإليك هذه الحدود وأهم ما يتعلق بها من أحكام: (1) حَدُّ الزِّنا تعريف الزنا (¬2): الزنا لغةً: يطلق على عدة معان منها: الفجور، ومنها: الضيق، يقولون زنى زناء، أي: دخل وضاق، ويطلق كذلك على ما دون مباشرة الأجنبية، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» (¬3). ويطلق الزنا ويراد به: وطء المرأة من غير عقد شرعي، وهذا هو المراد في عامة النصوص المتعلقة بالزنا مما سيأتي بعضه. فالزنا اصطلاحًا، قد تعددت تعريفات العلماء له، وكلها متقاربة، ولعل أمثلها أن يقال: «الزنا: هو الوطء في قُبُل خالٍ عن ملك أو شبهة». ذم الزنا والترهيب منه: الزنا من أكبر الكبائر، وقد ثبتت حُرمته بالكتاب والسنة والإجماع. (أ) فمن الكتاب: 1 - قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990). (¬2) «لسان العرب»، و «معجم مقاييس اللغة»، و «فتح القدير» (4/ 139)، و «جواهر الإكليل» (2/ 283)، و «نهاية المحتاج» (7/ 402)، و «المحرر» (2/ 53)، و «الحدود التعزيزات» (ص: 89 - 93)، و «التشريع الجنائي» (2/ 349). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657). (¬4) سورة الإسراء: 32.

2 - قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق إثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا} (¬1). 3 - وقوله سبحانه: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} (¬2). 4 - وقوله سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (¬3). 5 - قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (¬4). (ب) ومن السنة: 1 - حديث ابن مسعود قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» قلت: إن ذلك لعظيم، قال: ثم قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» (¬5). 2 - وفي حديث سمرة بن جندب - الطويل في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «... فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، قال: أحسب أنه يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضووا، قال: قلت لهما - أي الملكين - ما هؤلاء؟ ... قالا: وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فهم الزناة والزواني ...» الحديث (¬6). ¬

(¬1) سورة الفرقان: 68 - 70. (¬2) سورة الأنعام: 151. (¬3) سورة النور: 2، 3. (¬4) سورة المؤمنون: 5 - 7. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (6811)، ومسلم (86). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (7047).

وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن» (¬1). ومعناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان. 4 - وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظُّلَّة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان» (¬2). 5 - وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم [ولا ينظر إليهم] ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذَّاب، وعائل مستكبر» (¬3). (جـ) وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين في أن الزنا محرم قطعًا، وتحريمه مما علم من الدين بالضرورة. سدُّ الذرائع الموصَّلة إلى الزنا (¬4): قاعدة التشريع التي لا تنخرم أن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئًا حرم الأسباب والدوافع الموصلة إليه سدًّا للذريعة وكفًّا عن الوقوع في حمى الله ومحارمه، ليعيش في مجتمع مملوء بالإباء والشمم عن كافة الرذائل والطرائق الموصلة إليها حتى يلقى الله تعالى وهو على هدى من الله وصراط مستقيم. ولهذا فإن علماء الشريعة استنبطوا بطريق التتبع والاستقراء لمواطن التنزيل قاعدة شريفة هامة تعتبر من الكليات التشريعية التي تعايش المسلم في كلّ لحظة وآن، تلك هي: قاعدة (سد الذرائع الموصلة إلى المحرمات). وابن القيم - رحمه الله تعالى - قرر هذه القاعدة، واستدل لها من وجوه الأدلة بما يقارب مائة وجه من الكتاب والسنة، وبيّن أن قاعدة سد الذرائع، أحد أرباع التكليف، فإنه وجه ذلك فقال: (وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه والثاني: وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان: أحدهما: ما ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6772)، ومسلم (57). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (4690). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (107)، والنسائي (5/ 86)، وأحمد (2/ 433). (¬4) من «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره - (ص: 106 - 114).

يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني: ما يكون وسيلة إلى مفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين). وفي خضم هذا المبحث ذكر ضروبًا ووجهًا مما ورد في الكتاب والسنة من سد الذرائع الموصلة إلى فاحشة الزنا، وعرضها بأسلوبه العلمي الأخاذ الخالي من التعقيد والجفاف وبيانها على ما يلي: 1 - نهي النساء عن الضرب بالأرجل: قال - رحمه الله تعالى -: قال الله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}. فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن). وهذا المنهي عنه - من وسائل الإغراء والإشارة - هو نهي تحريم كما فهمه ابن القيم وهو محال اتفاق عن علماء التفسير. وابن القيم في مقام دلالة النص على قاعدة سد الذرائع، وإلا فإن الآية تفيد أيضًا النهي عن كلّ حركة من شأنها أن تثير الغريزة وتلهب داعي الشهوة، وفي ذلك المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن} (¬1) إلى آخره). 2 - وهذا الأمر بغض البصر: وهذا أمر مطلوب من الجنسين الرجال والنساء لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} (¬2) الآية. وابن القيم - رحمه الله تعالى - قد أبدى في هذه الذريعة عجبًا فأبدى كلامًا يزغ الأبصار الخائنة، والأعين الفاجرة عن غوايتها إن كان لديها بقية من إيمان ¬

(¬1) سورة النور: 31. (¬2) سورة النور: 32.

واستجابة لداعي الرحمن. وقد أكثر اللهج برعاية حرمات الله، وأنا في هذا المقام أسوق للقارئ شذرة من كلامه المنثور والمنظوم إذ يقول: (أما اللحظات: فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتبع النظرة النظرة، إنما لك الأولى وليست لك الأخرى». وفي المسند عنه - صلى الله عليه وسلم -: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه» هذا معنى الحديث. وقال: «غضّوا أبصاركم واحفظوا فروجكم» وقال: «وإياكم والجلوس على الطرقات» قالوا يا رسول الله مجالسنا، ما لنا بدّ منها، قال: «غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام». والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابد، ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل «الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده». قال الشاعر: كلّ الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة بلغت من قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين العين موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة على بعضه. قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا، أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر وهذا البيت يحتاج إلى شرح. ومراده: أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه، فإن قوله: «لا كله أنت قادر عليه» نفي لقدرته على الكلّ الذي لا ينفى إلا بنفي القدرة عن كل واحد واحد.

وكم من أرسل لحظاته فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلًا كما قيل: يا ناظرًا، ما أقلعت لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلًا ولي من أبيات: ملّ السلامة فاغتدت لحظاته وقفًا على طلل يظن جميلًا ما زال يتبع أثره لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلًا ومن العجب: أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه، حتى يتبوأ مكانًا من قلب الناظر، ولي من قصيدة: يا راميًا بسهام اللحظ مجتهدًا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له أحبس رسولك، لا يأتيك بالعطب وأعجب من ذلك: أن النظرة تجرح القلب جرحًا، فيتبعها جرحًا على جرح، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها. ولي أيضًا في هذا المعنى: ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كلّ مليحة ومليح وتظن ذاك دواء جرحك وهو في الـ تحقيق تجريح على تجريح فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح وقد قيل: أن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات. 3 - النهي عن الخلوة بالأجنبية: وفي ذلك يقول - رحمه الله تعالى -: (أنه - صلى الله عليه وسلم - حرّم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن). وقال أيضًا: (نهى - صلى الله عليه وسلم - الرجال عن الدخول على النساء لأنه ذريعة ظاهرة). وهذا محل إجماع ولو في باب من أبواب الخير والرشاد كإقراء القرآن وتعليم العلم، وقد حكى الإجماع على ذلك الحافظان ابن حجر والشوكاني. 4 - النهي عن سفر المرأة بلا محرم: قال - رحمه الله تعالى -: (ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن السفر بلا محرم وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها).

5 - النهي عن خروج المرأة متطيبة: وفي ذلك يقول: (ونهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورًا وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تفلة ولا تتطيب ... كلّ ذلك سدًّا للذريعة وحماية عن المفسدة). 6 - النهي عن أن تصف المرأة المرأة لزوجها: وفي هذا يقول: (نهى - صلى الله عليه وسلم - أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، ولا يخفى أن ذلك سدًّا للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية). 7 - الأمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع: وفي هذا يقول - رحمه الله تعالى -: (أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يفرق بين الأولاد في المضاجع، وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد، لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما: المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولاسيما مع الطول. والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر، وهذا أيضًا من ألطف سد الذرائع). 8 - النهي عن الشياع: قال - رحمه الله تعالى - في ذلك: (إنه - صلى الله عليه وسلم - حرّم الشياع: وهو المفاخرة بالجماع؛ لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشهي، وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه عن الحلال فيتخطى إلى الحرام. ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي، فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله). 9 - إبطال أنواع من الأنكحة التي يتراضاها الزوجان: وفي بيانها وبيان وجه الإبطال يقول: (إنه - صلى الله عليه وسلم - أبطل أنواعًا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدًّا للذريعة الزنا: فمنها: النكاح بلا ولي، فإنه أبطله سدًّا لذريعة الزنا، فإن الزاني لا يعجز أن يقول

للمرأة: انكحيني نفسك بعشرة دراهم) ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعها من ذلك سدًّا لذريعة الزنا. ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة بل وطر فيما يفضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة. ومن ذلك تحريم نكاح المتعة، الذي يعقد فيه الممتع على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها. فحرّم هذه الأنواع كلها سدًّا لذريعة السفاح، ولم يبح إلا عقدًا مؤيدًا يقصد فيه كلّ من الزوجين المقام مع صاحبه، ويكون بأذن الولي وحضور الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما من الإعلان. فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها. 10 - النهي عن اختلاط الجنسين: وقد ورد بذلك جملة الأحاديث الصحيحة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء». وفي بيان الذريعة يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال: أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة .. فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية - قبل الدين - فكانوا أشد شيء منعًا لذلك ..). هذه جملة من المناهي التي وردت في الشريعة الإسلامية سدًّا لإثارة الغرائز وتهييج الشهوات حماية للمجتمع وصيانة له من الوقوع في جريمة الزنا وهذا باب في الشريعة مطرد: إذا حرّم الله شيئًا سد الأبواب الموصلة إليه والله أعلم. الزنا المعتبر في وجوب الحدِّ: تقدم أن حقيقة الزنا: «الوطء في قُبُل (فرج) خال عن ملك أو شبهة» ويتحقق

هذا بتغييب حشفة الذكر (رأس الذكر) في فرج محرَّم (أي بغير عقد شرعي) من غير شبهة نكاح، سواء أنزل أو لم ينزل. فإذا باشر الرجل امرأة أجنبية فيما دون الفرج، فإن هذا محرَّم بلا شك، لكنه لا يعتبر «زنا» ولا يوجب حدَّ الزنا، وإن استحق فاعله التعزيز. بم يثبت حد الزنا؟ يثبت حدُّ الزنا على الزاني بواحد من ثلاثة أشياء: (1) الإقرار (اعتراف الزاني): إذا اعترف الزاني على نفسه أنه زنى بامرأة، ثبت الحد في حقِّه - إن اختاره وأبى إلا أن يقام عليه كما تقدم تحريره -: ففي حديث أبي هريرة - في قصة ماعز -: «فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردَّد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبك جنون؟». قال: لا، قال: «فهل أُحصنت؟» قال: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اذهبوا به فارجموه» (¬1). وفي حديث بريدة - رضي الله عنه - في قصة ماعز والغامدية ... ثم جاءت امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله، طهِّرني، فقال: «ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه». فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، قال: «وما ذاك؟» قالت: إنها حُبلى من الزنا، فقال: «أنت؟» قالت: نعم، ... ، فرجمها» (¬2). وعن عمران بن حصين: أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليَّها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها» ففعل، فأمر بها فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت» (¬3). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6814)، ومسلم (1318). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1695). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1695).

وقد اتفق أهل العلم على أن الحد يثبت بإقرار الزاني على نفسه، لكنهم اختلفوا في عدد مرات الإقرار الذي يلزم به الحد على قولين (¬1): الأول: لا يُحدُّ حتى يُقرَّ أربع مرات، وهو مذهب أحمد وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه اشترط أن تكون الإقرارات في مجلس واحد (!!). واستدلوا بحديث ماعز - رضي الله عنه - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم عليه الحد إلا بعد أن شهد على نفسه أربعًا ولو كان الإقرار مرة موجبًا للحد لما أخَّره إلا الأربع، قالوا: فإذا أقرَّ دون الأربع، لم يلزم تكميل نصاب الإقرار، بل للإمام أن يُعْرِضَ عنه، ويُعرِّض له بعدم تكميل الإقرار. الثاني: يُكتفى بإقراره مرة واحدة، وتكراره ليس بشرط، وهو مذهب مالك والشافعي، وبه قال الحسن وحماد وأبو ثور والطبري وابن المنذر وجماعة. قالوا: لأن الإقرار إنما صار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب، وهذا المعنى عند التكرار والتوحيد سواء، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (¬2) فعلَّق الرجم على مجرد الاعتراف. فائدة: يسقط الحد بالرجوع عن الإقرار، وقد مرَّ تحريره قريبًا. من أقرَّ بأنه زنى بامرأة معينة: فلا يخلو من حالتين: 1 - فإن اعترفت المرأة، أقيم الحدُّ عليهما، لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر - وهو أفقههما -: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي أن أتكلم، قال: «تكلم» قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا [والعسيف الأجير] فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فأفتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلدُ مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردٌّ عليك» وجَلَد ابنه مائة وغرَّبه عامًا، وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت، فرجمها» (¬3). ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 49)، و «مواهب الجليل» (6/ 294)، و «روضة الطالبين» (10/ 95، 143)، و «المغني» (8/ 191)، و «زاد المعاد» (5/ 32). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6828)، ومسلم (1698). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6828)، ومسلم (1698).

2 - فإن جحدت المرأة وأنكرت: سقط الحدُّ عنها، واختلف العلماء فيما على الزاني المقرِّ على ثلاثة أقوال (¬1): الأول: يُحدُّ حدَّ الزنا: وهو مذهب مالك والشافعي، لحديث سهل بن سعد: أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه قد زنى بامرأة سمَّاها، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فدعاها، فسألها فأنكرت، فحدَّه وتركها» (¬2) يعني: حدَّه حدَّ الزنا الذي أقرَّ به على نفسه. الثاني: يُحدُّ حدّ القذف - لا الزنا -: وهو مذهب الأوزاعي وأبي حنيفة، لأن إنكارها شبهة (!!)، واعتُرض بأن إنكارها لا يُبطل إقراره. الثالث: يُحدُّ للزنا وللقذف، وهو مذهب محمد بن الحسن، ويُروى عن الشافعي، وحجتهم حديث ابن عباس: «أن رجلًا من بكر بن ليث أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّ أنه زنى بامرأة، أربع مرات، فجلده مائة - وكان بكرًا - ثم سأله البينة على المرأة، فقالت: كذب يا رسول الله، فجلده حدَّ الفرية ثمانين» (¬3) وهو حديث منكر. قلت: أما القول الثاني فضعيف، والأظهر أنه يُحدُّ حدَّ الزنا فقط لصحة دليله، ولأنه ليس فيه أنه أقام عليه حدين، فإن قيل: الأصل أن يُحدَّ عن كلٍّ من المُوجبين وإن لم يصحَّ الحديث، قلت: نعم، لكنَّ إنكار المرأة شبهة تسقط حدَّ القذف، وأما حدُّ الزنا فهو ثابت بإقراره، والله أعلم. (2) ثبوت الحمل لمن لا زوج لها: المرأة إذا كانت لا زوج لها ولا سيد، ثم وُجدت حاملًا، فاختلف أهل العلم في اعتبار الحمل قرينة تُحدُّ بها المرأة، على قولين (¬4): الأول: تُحدُّ الحبلى التي لا زوج لها ولا سيد، ولم تَدَّعِ شبهة في الحمل: وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واحتجوا بما يلي: 1 - حديث بصرة بن أكثم الأنصاري، قال: «تزوجتُ امرأة بكرًا في سترها، ¬

(¬1) «زاد المعاد» (5/ 42)، و «نيل الأوطار». (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (4466، 4437)، وأحمد (22368). (¬3) منكر: أخرجه أبو داود (4467). (¬4) «ابن عابدين» (4/ 7)، و «أسهل المدارك» (3/ 170)، و «الروضة» (10/ 95).

فدخلتُ عليها فإذا هي حُبلى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبدٌ لك، فإذا ولدت فأجلدها، أو قال: فحدوها» (¬1) وهو ضعيف. قالوا: فأمر - صلى الله عليه وسلم - بجلدها بمجرد الحمل من غير اعتبار بينة ولا إقرار. 2 - قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «الرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف» (¬2) وهذا قاله عمر في خطبته فلم يُنكر عليه. 3 - ولأن دلالة الحمل أمارة ظاهرة على الزنا، أظهر من دلالة البينة، وما يتطرق إلى دلالة الحمل يتطرق مثله إلى دلالة البينة وأكثر. الثاني: لا يثبت الزنا بالحمل، بل بالإقرار أو البيِّنة فقط: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والمعتمد عند الحنابلة، وحجتهم: 1 - أن الحدَّ يُدرأ بالشبهة إجماعًا، والشبهة هنا متحققة من وجوه متعددة، فيحتمل أن الحمل من وطء إكراه، ويحتمل أنه من وطء رجل واقعها في نومها وهي ثقيلة النوم، ويحتمل أنه من وطء شبهة، ويحتمل حصول الحمل بإدخال ماء الرجل في فرجها دون جماع. 3 - أثر علي بن أبي طالب أنه أُتي بامرأة من همدان وهي حُبلى يُقال لها شراحة قد زنت، فقال لها عليٌّ: «لعل الرجل استكرهك؟» قالت: لا، قال: «فلعلَّ الرجل قد وقع عليك وأنت راقدة؟» قالت: لا، قال: «فلعل لك زوجًا من عدونا هؤلاء وأنت تكتمينه؟» قالت: لا، فحبسها حتى إذا وضعت، جلدها يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة (!!) فأمر فحفر لها حفرة بالسوق ...» (¬3). 3 - أثر أبي موسى أنه: «كتب إلى عمر - رضي الله عنه - في امرأة أتاها رجل وهي نائمة، فقالت: إن رجلًا أتاني وأنا نائمة، فوالله ما علمت حتى قذف فيَّ مثل ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2131) وله علتان ذكرهما ابن القيم في «تهذيب السنن» (3/ 61) طـ. أنصار السنة. (¬2) صحيح عنه: أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691). (¬3) صحيح عنه: أخرجه عبد الرزاق (7/ 326)، وأحمد (1214 - 1189)، والنسائي، وأصله في البخاري مختصرًا.

شهاب النار، فكتب عمر: «تهامية تنومت، قد يكون مثل هذا» وأمر أن يُدرأ عنها الحدُّ» (¬1). بلغ عمر أن امرأة متعبِّدة حملتْ، فقال عمر: «أراها قامت من الليل تصلي فخشعت فسجدت، فأتاها غاوٍ من الغواة فتجشمها» فأتته فحدَّثْتهُ بذلك، فخلَّى سبيلها (¬2). قلت: الذي تجتمع عليه أدلة الفريقين أن الزنا يثبت بحمل من لا زوج لها، إلا إن ادَّعتْ هي شبهة في هذا الحمل ولم تقرَّ بالزنا فحينئذ يدرأ عنها الحدُّ، والله أعلم. (3) إقامة البينة (الشهُّود) (¬3): لا خلاف بين الفقهاء في أن الحدود تثبت بالبيِّنة عن استجماع شرائطها، ونظرًا لخطورة الاتهام بالزنا وعظم أثره، فقد اشتُرط في الشهادة على الزنا ما يلي: (أ) أن يكون الشهود أربعة فأكثر: ولا خلاف في هذا الشرط. قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلًا} (¬4). وقال سبحانه: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (¬5). وقال سبحانه: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (¬6). وقال سعد بن عبادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إن وجدتُ مع امرأتي رجلًا، أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال: «نعم» (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 410)، ونحوه البيهقي (8/ 235)، وانظر «الإرواء» (2362). (¬2) صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 409). (¬3) «ابن عابدين» (3/ 142)، و «الشرح الصغير» (4/ 265)، و «روضة الطالبين» (10/ 97)، و «نيل المآرب» (2/ 358). (¬4) سورة النساء: 15. (¬5) سورة النور: 4. (¬6) سورة النور: 13. (¬7) صحيح: أخرجه مسلم (1498)، وأبو داود (4533)، ومالك (1557)، وأحمد (27251).

إذا شهد أقلُّ من أربعة: إذا شهد أقل من أربعة لم تثبت البيِّنة، وهل يُحدُّون حدَّ القذف؟ قولان للعلماء: الأول: أنهم يُحدُّون حدَّ القذف: وهو قول الجمهور، لحديث أبي عثمان قال: «لما شهد أبو بكرة وصاحباه على المغيرة جاء زياد، فقال له عمر: رجل لن يشهد إن شاء الله إلا بحق، قال: رأيت انبهارًا، ومجلسًا سيئًا، فقال عمر: «هل رأيت المرود دخل المكحلة؟» قال: لا، قال: فأمر بهم فجلدوا» (¬1). الثاني: لا حدَّ عليهم، وهو قول الظاهرية، وقول مرجوح عند الحنفية والشافعية؛ لأنهم إنما قصدوا أداء الشهادة، ولم يقصدوا قذف المشهود عليه. (ب) أن يكونوا رجالًا: فلا تقبل شهادة النساء في هذا الباب عند جماهير العلماء (¬2)، قال الله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (¬3) ولفظ: «أربعة» عدد مؤنث فلابد أن يكون المعدود مذكرًا، ثم إن الحدود تُدرأ بالشبهات، وقد قال الله تعالى في شأن النساء: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (¬4). وذهب أبو محمد بن حزم إلى أنه يقبل في الشهادة على الزنا - كغيرها من الشهادات - شهادة امرأتين مسلمتين مكان رجل، فيجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجل وست نسوة، أو ثمان نسوة لا رجل معهن. (جـ) أن يكونوا عقلاء، فلا تقبل شهادة المجنون ونحوه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعز لما شهد على نفسه: «أبك جنون؟» (¬5) وفي لفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقال لقومه: «أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟» (¬6). (د) أن يكونوا أحرارًا، فلا تقبل شهادة العبيد (!!). (هـ) أن يكونوا عدولًا، فلا تقبل شهادة الفاسق، قال الله تعالى: {وأشهدوا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 544)، والطحاوي (2/ 286)، والبيهقي (8/ 334)، وانظر «الإرواء» (2361). (¬2) صحيح: تقدم مرارًا. (¬3) سورة النساء: 15. (¬4) سورة البقرة: 282. (¬5) «فتح الباري» (12/ 181) طـ. المعرفة. (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1695).

ذوي عدل منكم} (¬1). وقال سبحانه: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (¬2). (و) أن يكونوا مسلمين: فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم بالزنا اتفاقًا، وكذلك لا تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض بالزنا عند الجمهور، وذهب جماعة من السلف إلى قبول شهادة الكفارة بعضهم على بعض، واستدلوا بما رُوي عن جابر: «أن اليهود جاءوا برجل وامرأة زنيا، ... ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهود، فجاءوا بأربعة، فشهدوا بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمهما» (¬3) وهو ضعيف، ثم قد أجاب الحافظ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رجم اليهوديين بوحي، وألزمهم الحجة بينهم، كما قال تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} (¬4). وقيل: رجمهما باعترافهما. (ز) أن يعاينوا الزنا ويصرّحوا بحصوله: فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها، كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر، وقد تقدم أن عمر قال لزياد: «هل رأيت المرود في المكحلة؟» قال: لا، فأمر بجلد الثلاثة الذين شهدوا بالزنا (¬5). وفي حديث ماعز، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعلك قبَّلت أو غمزت أو نظرت؟!» قال: لا يا رسول الله، قال: لا يا رسول الله، قال: «أنكتها» - لا يكنى - قال: نعم، فأمر برجمه (¬6). وفي لفظ لأبي داود - بسند ضعيف - قال - صلى الله عليه وسلم - «أنكتها؟» قال: نعم، قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟» قال: نعم، قال: «كما يغيب الميل في المكحلة والرِّشاء في البئر؟» قال: نعم ... الحديث (¬7). (ح) وهل يشترط اتحاد المجلس؟ (¬8) ذهب الجمهور - خلافًا للشافعية - إلى أنه لابد أن يكون الشهود مجتمعين في ¬

(¬1) سورة الطلاق: 2. (¬2) سورة الحجرات: 6. (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود (4452)، والحميدي (1294)، والبيهقي (8/ 231). (¬4) سورة يوسف: 26. (¬5) صحيح: تقدم قريبًا. (¬6) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ البخاري (6824)، وأحمد (2429). (¬7) ضعيف: أخرجه أبو داود (4428)، وعبد الرزاق (13340)، وابن حبان (1513)، والبيهقي (8/ 227). (¬8) «البدائع» (7/ 48)، و «الشرح الصغير» (4/ 265)، و «روضة الطالبين» (10/ 98)، و «المغني» (8/ 200)، و «المحلي».

مجلس واحد عند أداء الشهادة، فإن جاءوا متفرقين يشهدون واحدًا بعد الآخر، لم تقبل شهادتهم، ويُحدُّون حدَّ القذف، وإن كثروا (!!). وذهب الشافعية والظاهرية وابن المنذر إلى أنه لا يشترط، وتقبل شهادتهم مجتمعين ومتفرقين، لقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} (¬1). ولم يذكر المجالس. قلت: وهو الأظهر، فإن إبطال شهادة أربعة بدعوى عدم اتحاد المجلس، ففيه إبطال لشهادة - نصَّ الله على قبولها - بغير دليل. (ط) وهل يشترط عدم التقادم؟ (¬2): ذهب الحنفية إلى اشتراط عدم التقادم في البيِّنة، وهو رواية عن أحمد، فإذا شهدوا على زنى قديم لم يجب الحدُّ، قالوا: لأنهم لما لم يشهدوا فور المعاينة دلَّ ذلك على اختيارهم جهة الستر على المسلمين، فإذا شهدوا بعد ذلك دلَّ على أن الضغينة حملتهم على ذلك، فلا تُقبل شهادتهم، لما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته، فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم» ولم ينقل أن أحدًا أنكر عليه، قالوا: فكان إجماعًا (!!)، ولأن التأخير - والحالة هذه - يورث تهمة، ولا شهادة للمتهم. وذهب الجمهور إلى أن الشهود لو شهدوا بزنا قديم، وجب الحدُّ، لعموم الآية، ولأن التأخير يجوز أن يكون لعذر أو غَيْبة، والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال، ولو سقط بكل احتمال لم يجب حدٌّ أصلًا. عُقوبة الزاني: الزاني على قسمين: إما أن يكون مُحصنًا، أو غير محصن (بِكْرًا)، ولكل منهما عقوبة خاصة به. تعريف المُحْصِن: المحصن هو: الثِّيب الذي تتوفر فيه الشروط الآتية (¬3): ¬

(¬1) سورة النور: 13. (¬2) «البدائع» (7/ 46)، و «الشرح الصغير» (4/ 249)، و «الروضة (1/ 98)، و «المغني» (8/ 207). (¬3) «التشريع الجنائي» (2/ 390) وغيره.

1 - التكليف: وهو البلوغ والعقل. 2 - الحُرَّية: فلو زنى العبد أو الأمة، لم يكونا محصنين، لقوله تعالى - في الإماء -: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (¬1). والرجم الذي هو حدُّ المحصنة لا ينتصف. ولذا صح عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه خطب فقال: «يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحدّ، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديث عهد بنفاس ... الحديث» (¬2) وقد تقدم، وهو مشعر بأنها كانت محصنة فأمر بجلدها. 3 - أن يكون وجد الوطء (الجماع) في نكاح صحيح ولو مرة واحدة: وهل يشترط في المحصن الإسلام؟ بمعنى إذا تزوَّج المسلم ذمية فوطئها، هل يصيران محصنين؟ وهل يحصن الذميُّ الذمية؟ للعلماء في هذا قولان: أصحهما ما ذهب إليه الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (¬3) أنهما يكونان محصنين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل وامرأة من اليهود زنيا، فرجمهما (¬4). تنبيه: المرأة الحرَّة (الزوجة) هي التي تحصن الرجل، ولا تحصنه الأمَةُ المملوكة (¬5). (ا) عقوبة الزاني غير المحصن (البكر): اتفق أهل العلم على أن البكر إذا زنى وجب عليه الحد، وهو: أن يُجلد مائة جلدة، لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (¬6). ثم اختلفوا هل يُزاد على هذه العقوبة غير الجلد؟ على ثلاثة أقوال (¬7): ¬

(¬1) سورة النساء: 25. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1705). (¬3) «المغني» (10/ 129 - مع الشرح)، و «فتح الباري» (12/ 170)، و «زاد المعاد» (5/ 35). (¬4) صحيح: يأتي قريبًا بتمامه. (¬5) للإمام ابن القيم - رحمه الله - كلام نفيس في حكمة تحصين الرجل بالحرة - وإن كانت قبيحة - دون الأمة - وإن كانت بارعة الجمال - فانظره غير مأمور في «إعلام الموقعين» (2/ 53 - 82). (¬6) سورة النور: 2. (¬7) «المحلي» (11/ 232)، و «المغني» (9/ 45 - الفكر)، و «نيل الأوطار» (7/ 104).

الأول: أنه يجب مع الجلد تغريب (نفي عن البلد) لمدة سنة: وهو مأثور عن الخلفاء الراشدين الأربعة، وبه قال عطاء وطاوس والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب الشافعي وأحمد وابن حزم، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث عادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عنِّي، خذوا عنِّي، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة، ونفيُ سنة ...» (¬1). 2 - وفي حديث أبي هريرة وزيد بن خالد - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي زنى ولدُه: «أما والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله ...» وجَلَد ابنه وغرَّبه عامًا (¬2). قالوا: وهذا عام في كل بكرٍ سواء كان رجلًا أو امرأة. الثاني: يُغرَّب الرجل دون المرأة، وهو مذهب مالك والأوزاعي، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرةً يوم وليلة إلا مع ذي محرم» (¬3) قالوا: وتغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور وتضييع لها، وإن غُرِّبت بِمَحْرمَ أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي لمن لا ذنب له. الثالث: لا يجب التغريب مع الجلد أصلًا إلا تعزيرًا إذا رأى الحاكم، وهو قول الحسن وغيره، ورأوا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ...» (¬4) ناسخًا للتغريب!! وردَّ ابن حزم هذا الاستدلال فقال - رحمه الله -: «هذا الخبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر مجمل أحال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غيره من الأخبار، فلم يذكر نفيًا ولا عددًا لجلد، فإن كان دليلًا على إسقاط التغريب، فهو دليل أيضًا على إسقاط عدد الجلدات، وإن لم يكن دليلًا على إسقاط عدد الجلدات لأنه لم يذكر فيه، فليس أيضًا دليلًا على نسخ النفي، وإن لم يذكر فيه، والواجب ضمُّ الأخبار بعضها إلى بعض، واستعمالها جميعًا» اهـ. قلت: الراجح أن حدَّ الزاني البكر (غير المحصن): جلد مائة جلدة ونفي سنة، سواء في ذلك الرجل والمرأة ويؤيده ما ثبت في بعض روايات حديث عبادة: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1690)، والترمذي (1434)، وأبو داود (4415). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6827 - 6828)، ومسلم (1697 - 1698). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1339) واللفظ له. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

«... والبكر بالبكر جلد مائة، وينفيان عامًا» فقوله (ينفيان) صريح في نفي المرأة كالرجل فإن قيل: في نفي المرأة تضييع لها، قلنا: إن إمام المسلمين يوفِّر لها مكانًا آمنًا تنفى إليه، ولا تحتاج إلى أن ينفي محرمها معها!! والله أعلم. فائدة: صفة الجلد: قال القرطبي - رحمه الله -: «أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب، والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطًا بين سوطين، لا شديدًا ولا لينًا» ونقل عن الجمهور قولهم: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلمًا لا يجرح ولا يَبْضَع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه. (2) عقوبة الزاني المحصن (الثيِّب): لا خلاف بين أهل العلم من الصحابة والسلف والأئمة المشهورين - إلا شرذمة من الخوارج وبعض المعتزلة - أن المحصن إذا زنى، فإنه يُرجم بالحجارة حتى الموت: 1 - فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرجم» (¬1). 2 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد بعث محمدًا بالحق وأنزل الكتاب، فكان مما أُنزل عليه آية الرجم قرآنًا ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما تجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف» (¬2). وهو يدل على أن آية الرجم كانت في القرآن ثم نسخت قراءتها وبقي حكمها، ويؤيده. 3 - حديث أُبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: «كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنا فارجموهما البتة» (¬3). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1690). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1691) واللفظ له. (¬3) حسن: أخرجه ابن حبان (4428)، والحاكم (2/ 415)، وعبد الرزاق (13363)، والبيهقي (8/ 211).

4 - ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي زنى ابنه بزوجة الآخر: «والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم ردٌّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغُدُ يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها (¬1). 5 - وقد رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامدية والجهنية واليهوديين: (أ) فعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: «رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل قصير أعضل ليس عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلعلَّك»؟ قال: لا، والله إنه قد زنى الآخر (¬2)، قال: فرجمه ... الحديث» (¬3). وقد ثبت رجم ماعز كذلك من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وبريدة وغيرهم. (ب) وعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن امرأة من جهينة أتت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حُبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبتُ حدًّا عليَّ، فدعا نبي الله وليها، فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها» ففعل، فأمر بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فشكت عليها ثيابها (¬4)، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلَّى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!» (¬5). (ر) وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء يهود، فقال: «ما تجدون في التوراة على من زنى؟» قالوا: نُسوِّد ونحملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: «فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين» فجاءوا بها فقرءوها، حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6827 - 6828)، ومسلم (1697، 1698). (¬2) يعني بالآخر نفسه، يريد تحقيرها لارتكابه هذا الفعل. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1692). (¬4) أي شدَّت - كما في الروايات الأخرى - فيستحب جمع أثوابها عليها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلبها ونحوه. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1696).

عبد الله بن سلام، وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مُرْهُ فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه (¬1). هل يُجلدُ قبل الرَّجمُ؟ بعد الاتفاق على وجوب الرجم للزاني المحصن، اختلف العلماء في حكم الجمع بين الجلد والرجم على ثلاثة أقوال (¬2): الأول: يُجلد قبل الرجم، وهو رواية عن أحمد وبه قال الظاهرية لما يأتي: 1 - حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «... والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» (¬3). 2 - قضاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في شراحة الهمدانية فإنه: «جلدها يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة ...» وقال: «جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». قالوا: فتوارد على الجمع بين الجلد والرجم قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقضاءُ عليٍّ فوجب العمل بذلك. الثاني: يُرجم فقط، ولا جلد عليه: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، واستدلوا بما يلي: 1 - أن الذين رجمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كماعز والغامدية واليهوديين، لم يأت في رواية أنه جلد واحدًا منهم، وإقامة الحد أمر يشتهر بين الناس، فلو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل الرجم ولو في رواية واحد منهم، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم يكن شيء من ذلك علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع لأحد بين الجلد والرجم، فلا يجمع بينهما إذًا. واعتبروا حديث عبادة منسوخًا، قال الشافعي - رحمه الله -: «فدلَّت السنة على أن الجلد ثابت على البكر، وساقط على الثيب، والدليل على أن قصة ماعز ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6841)، ومسلم (1699). (¬2) «فتح القدير» (5/ 25)، و «بداية المجتهد» (2/ 426)، و «المغني» (10/ 124 - الشرح)، و «فتح الباري» (12/ 119 - 157)، و «الحدود والتعزيزات» (ص129 وما بعدها). (¬3) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 326) وغيره وقد تقدم في «اعتبار قرينة الحمل في البينة».

متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة ناسخ لما شرع أولًا من حبس الزاني في البيوت، فنسخ الحبس بالجلد، وزيد الثيب الرجم، وذلك صريح في حديث عبادة، ثم نسخ الجلد في حق الثيب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز على الرجم، وذلك في قصة الغامدية والجهنية واليهوديين، لم يذكر الجلد مع الرجم ...» اهـ. 2 - حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «... واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها، وقد قال قبل ذلك: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله» (¬1). فدلَّ الربط بين الشرط وجزائه على أن الجزاء اعترافها هو الرجم وحده، وأن ذلك قضاء بكتاب الله، وهو متأخر عن حديث عبادة بلا شك، فكان ناسخًا له. 3 - أن هذا مؤيَّد بقضاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقد: «رجم رجلًا في الزنى ولم يجلده» (¬2). وهو - رضي الله عنه - قد شهد التنزيل وأدرك قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذين رُجموا. 4 - أن الحدَّ الأصغر ينطوي في الحدِّ الأكبر، وذلك إنما وضع للزجر، فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. الثالث: يُجمع بين الجلد والرَّجم في رجم الشيخ والشيخة دون الشباب: وبه قال أُبيُّ بن كعب ومسروق، واستدلاَّ بالآية المنسوخ تلاوتها «والشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة» فقد ورد بلفظ الشيخ، ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة. قلت: الأظهر قول الجمهور بأن الزاني المحصن يُرجم حتى الموت، ولا يُجلد، لما تقدم من أدلة هذا المذهب، ويتأيد هذا - كذلك - بأمرين (¬3). 1 - أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرَّجم، على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة، والحدود تُدرأ بالشبهات، فيُدرأ حدُّ الجلد هنا لذلك. ¬

(¬1) صحيح: تقدم مرارًا. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة ونحوه في البيهقي (8/ 215) مطولًا وفيه أنه رجم امرأة. (¬3) «أفادهما مع غيرهما العلامة الشنقيطي - رحمه الله - في أضواء البيان» (6/ 47 - 48).

2 - أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة، أهون من الخطأ في إيقاع عقوبة غير لازمة، وقد تقدم نحو هذا عن عمر وعائشة - رضي الله عنها - عند الكلام على إسقاط الحد بالشبهة، والله تعالى أعلم. فائدة: يقام حدُّ الزنى على الكافر كالمسلم سواء، لحديث ابن عمر المتقدم في رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهوديين، وهذا أصح قولي العلماء، وفي المسألة خلاف راجع إلى الخلاف في: «هل من شرط الإحصان الإسلام؟» وقد تقدم الإشارة إليه. عقوبة من زنى بإحدى محارمه: اتفق المسلمون على أن من زنى بذات محرمه فعليه الحد، وإنما اختلفوا صفة الحدِّ على قولين (¬1): الأول: حدُّه حدُّ الزنى بغير محرمه ولا فرق: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. الثاني: حدُّه القتل بكل حال: وهو مذهب أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث، واستدلوا: بحديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وقع على ذات محرمه فاقتلوه» (¬2). قالوا: وهو أخصُّ مما ورد في الزنى، وهو حكم عام من غير استفصال - والمقام يقتضي التفصيل - فدلَّ على عدم التفريق بين المحصن وغيره، وأنه يقتل على كل حال. قلت: الحديث ضعيف، لكن ربما يتأيَّد القول الثاني، بحديث البراء - رضي الله عنه - قال «مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو، ومعه لواء عقده له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: أي عم، أين بعثك النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بعثني إلى رجل تزوَّج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه» (¬3). زاد في بعض الروايات: «... وآخذ ماله». ¬

(¬1) «فتح القدير» (5/ 40)، و «الداء والدواء» (ص: 206)، و «المغني» (10/ 154)، و «نيل الأوطار» (7)، و «المحلي» (11/ 252). (¬2) ضعيف: أخرجه الترمذي (1462)، وابن ماجة (2564)، وانظر «الإرواء» (2352). (¬3) صحيح لطرقه: أخرجه النسائي (2/ 85)، والترمذي (1362)، وأبو داود (4456)، وابن ماجة (2607)، وأحمد (4/ 292) وغيرهم، وانظر «الإرواء» (2351).

قال ابن القيم - رحمه الله (¬1) -: «وكذلك اتفقوا كلهم على أنه لو أصابها [يعني: محرمه] باسم النكاح عالمًا بالتحريم أنه يُحدُّ، إلا أبا حنيفة وحده، فإنه رأى في ذلك شبهة مسقطة للحدِّ» اهـ. اعتراضُ على عقوبة الزنا، وردُّه (¬2): تختلف عقوبة الزنا باختلاف حال الزاني، فالجلد والتغريب عقوبة الزاني البكر، والرجم عقوبة الزاني المحصن. وعلى أي من الحالين فقد أورده نفاة المعاني والقياس اعتراضًا على عقوبة الزنا، فقالوا: هذا تفريق في الشرع بين المتماثلات، فكيف يعاقب الشارع السارق بقطع يده، ويترك معاقبة الزاني بقطع فرجه والفرج هو العضو الذي باشر فيه معصية الزنا كما أن اليد هي الآلة التي باشر فيها معصية السرقة. وقد ناقش ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذا الاعتراض، وأتى عليه بالنقض والرد له من وجوه متعددة مبينًا أن هذا من أفسد القياس وأبطله، وأن عين الحكمة والكمال: هي فيما رتبه الشارع على كلّ جريمة بما يناسبها من عقاب. ونستطيع أن نستخلص وجوه الرد والتعقب لهذا الاعتراض فيما يلي: 1 - أن الفرج عضو خفي مستور لا تراه العيون فلا يحصل بقطعه مقصود الشارع بالحد من الزجر والردع للغير، وهذا بخلاف السارق بقطع يده. 2 - أن في قطع العضو التناسلي قطع النسل وتعريض للهلاك وقضاء على النوع الإنساني وهذا بخلاف قطع يد السارق. 3 - أن لذة الزنا سرت في جميع البدن كلذة العضو المخصوص فكان الأحسن أن تعم العقوبة جميع البدن الذي نالته اللذة المحرمة. 4 - أن السارق إذا قطعت يده بقيت له يد أخرى تعوض عنها بخلاف الفرج فإنه إذا قطع لم يبق له ما يقوم مقامه لتتميم مصالحه بتنمية النوع الإنساني. 5 - أن قطع العضو التناسلي مفض إلى الهلاك، وغير المحصن لا تستوجب جريمة الهلاك، والمحصن يناسب جريمته أشنع القتلات، ولا يناسبها قطع بعض أعضائه. فافترقا. ¬

(¬1) «الداء والدواء» (ص: 207) ط. التوفيقية بتحقيق أخي الحبيب هاني الحاج - نفع الله به -. (¬2) من «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره - (ص: 97 - 98)، وانظر: «إعلام الموقعين» (1/ 126 - 2/ 52، 106، 108).

لهذه الوجوه ولغيرها من أسرار التشريع - التي أبدى ابن القيم - رحمه الله تعالى الكثير منها - يتبين للمنصف أن عقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأقومها بالمصالح وأوفقها للعقل كما في عقوبة الزنا، وأن الشارع لم يفرق بين متماثلين قط، كما أنه لم يجمع بين ضدين أبدًا، بل وضع كلّ حكم موضعه المناسب له ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا. وهذه الوجوه قد أبداها ابن القيم - رحمه الله تعالى - مختصرة ومبسوطة، فيحسن بنا بعد هذا السياق ذكر كلامه الشامل في ذلك إذ يقول: (وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كلّ عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى محرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدوانًا، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها. وأسماء الرّب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحًا، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة. إلى غير ذلك من الحكم والمصالح. خصائص حَدِّ الزنا (¬1): خصَّ الله سبحانه حدَّ الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص، وهي: الأولى: تغليظ العقوبة: فالقتل عقاب مشترك بين عدد من الجرائم، لكن كونه رجمًا بالحجارة حتى تزهق النفس فليس هذا إلا في عقوبة الزنا للمحصنين، وهذا أشنع القتلات. والجلد عقوبة مشتركة بين جملة من الحدود، لكن عقوبة الزاني البكر - وإن كانت بالجلد - إلا أنها تخالف غيرها من ناحيتين: أولاهما: أن الجلد مائة جلدة، وليس في الحدود ما يبلغ هذا حدًّا، والثانية: أن من تمام الحد التغريب، ولا يكون التغريب عقوبة حدية في غير حد الزاني البكر، والله أعلم. ¬

(¬1) «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» (ص: 114 - 117) بتصرف واختصار.

اللواط

الثانية: التنصيص على نهي العباد عن أن تأخذهم رأفة بالزناة: قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (¬1). فنهى الله تعالى عباده أن تأخذهم رأفة في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحدِّ عليهم، فإنه سبحانه من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة، فهو أرحكم بكم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره. الثالثة: أمره سبحانه يكون حدهما بمشهد من المؤمنين: فلا يكون في خلو بحيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر، قال تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (¬2). اللِّواط تعريفه: اللواط لغةً: مصدر لاط، يقال: لاط الرجل ولاط، أي عمل عملَ قوم لوط، إذ يعمل هذه الجريمة أحد من العالمين قبل قوم لوط، كما قال تعالى: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (¬3). واللواط اصطلاحًا: إيلاج ذكر في دُبر ذكر [أو أنثى]. حُكم اللواط (¬4): أجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وأنه من أغلظ الفواحش، وقد ذكر الله سبحانه عقوبة اللوطية وما حلَّ بهم من البلاء في عشر سور من القرآن الكريم، وجمع على القوم بين عمى الأبصار، وخسف الديار، والقذف بالأحجار، ودخول النار، فمن ذلك: ¬

(¬1) سورة النور: 2. (¬2) سورة النور: 2. (¬3) سورة الأعراف: 80. (¬4) «زاد المعاد» (5/ 40)، و «روضة المحبين» (ص 371)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 161 - 162).

1 - قوله تعالى: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} (¬1). 2 - قوله سبحانه: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} (¬2). 3 - وقوله عز وجل: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} (¬3). 4 - وقال محذِّرًا لمن عمل عملهم ما حلَّ بهم من العذاب الشديد: {وما قوم لوط منكم ببعيد} (¬4). وأما السنة، فقد ورد اللواط فيها من وجهين: 1 - وعيد فاعله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط». 2 - بيان عقوبته، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬5). وأما قضاءً، فلم يقضِ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء؛ لأن العرب لم تكن تعرفه، ولم يرفع إليه - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء. عقوبة اللِّواط (¬6): للفقهاء - رحمهم الله - في عقوبة اللواط اتجاهان: الاتجاه الأول: لا حدَّ فيه، وإنما يعزَّز فاعله بضرب أو سجن (!!). وهو مذهب أبي حنيفة وابن حزم، وحجتهم في هذا ما يلي: ¬

(¬1) سورة الشعراء: 165، 166. (¬2) سورة الحجر: 72 - 74. (¬3) سورة هود: 82، 83. (¬4) سورة هود: 89. (¬5) حسن: أخرجه الترمذي (1456)، وأبو داود (4462)، وابن ماجة (1561)، وأحمد (1/ 300) وغيرهم، وصححه في «الإرواء» (2350). (¬6) «المحلي» (11/ 387)، و «فتح القدير» (5/ 43)، و «المبسوط» (9/ 77)، و «أسهل المدارك» (3/ 165)، و «روضة الطالبين» (10/ 90)، و «الإنصاف» (10/ 176)، و «المغني» (10/ 160 - مع الشرح)، و «سبل السلام» (4/ 1285)، و «نيل الأوطار» (7/ 139)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 334)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 173 وما بعدها).

1 - أنه لم يرد في الشرع للواط عقوبة مقدَّرة (!!) فصار فيه التعزيز، ليكف ضرره عن الناس فقط بما لا يستباح به دمه. وتُعقِّب: بأنه قد ثبت في السنة حدٌّ معين للِواط وهو القتل - كما سيأتي - وقد ذكر شيخ الإسلام وغيره إجماع الصحابة على قتل فاعله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله على ما يأتي، ولذا قال ابن قدامة - رحمه الله -: «وقول من أسقط الحد عنه (أي: عن اللوطي) يخالف النصَّ والإجماع» اهـ. 2 - أن التلوُّط: وطء محل لا تشتهيه الطباع، والمعصية إذا كان الوازع عنها طبيعيًّا اكتفى بالوازع عن الحد، كما في وطء الأتان والميتة والبهيمة (!!) ونحو ذلك. وتعقب: بأن هذا قياس في مقابلة النصّ وإجماع الصحابة فهو فاسد الاعتبار، ثم هو منقوص بوطء الأم والأخت والبنت، فإن النفرة الطبيعية حاصلة مع أن الحد فيه أغلظ الحدود كما تقدم، ثم كيف يقاس وطء الأمرد الجميل - الذي فتنته تربوا على كل فتنة - على وطء أتان أو امرأة ميتة، فهذا عن أفسد القياس. فائدة: هذا، على أن أصحاب أبي حنيفة صرحوا أنه إذا أكثر منه اللوطي فللإمام أن يقتله تعزيرًا (!!). الاتجاه الثاني: أن عليه الحدَّ: وعليه جمهور العلماء، ولكنهم اختلفوا في نوعية الحد، وصفة تطبيقه على قولين: القول الأول: يُحدُّ حدَّ الزنا فيفرق بين المحصن وغيره: وهو مذهب الشافعي، وأحمد في رواية، وصاحبا أبي حنيفة والثوري والأوزاعي، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وقتادة والنخعي واحتجوا بما يلي: 1 - ما يُروى عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان» (¬1) لكنه ضعيف لا يُحتج به. 2 - قياس اللواط على الزنا بجامع أن كلًّا منهما إيلاج فرج محرَّم في فرج محرم شرعًا، مشتهى طبعًا، فيكون حكمه حكم حد الزنا. وتعقِّب: بأن القياس لا يكون في الحدود - على الأصحِّ - لأن الحدود تدرأ بالشبهة، وعلى فرض جواز القياس فيها - كما يقول الأكثرون!! - فيُجاب (¬2) بأن ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 232)، وانظر «الإرواء» (2349). (¬2) «نيل الأوطار» للشوكاني (7).

الأدلة الواردة بقتل الفاعل والمفعول به مطلقًا مُخصِّصة لعموم أدلة الزنا الفارقة بين البكر والثيب على فرض شمولها للوطي ومبطلة للقياس المذكور على فرض عدم الشمول؛ لأنه يصير فاسد الاعتبار كما تقرر في الأصول. القول الثاني: يُقتل حدًّا على كل حال محصنًا كان أو غير محصن: وهو مذهب مالك وإسحاق وأحمد - في أصحِّ الروايتين - والشافعي - في أحد قوليه - وصاحبا أبي حنيفة، وبه قال أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير وابن عباس وطائفة من السلف، وحجتهم: 1 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وجدتموه يعمل عمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬1) وليس فيه تفصيل لمن أحصن أو لم يحصن فدلَّ بعمومه على قتله مطلقًا. 2 - أنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته. 3 - مطابقة هذا القول لقاعدة الشريعة المُطَّردة من تغليظ العقوبات كلما تغلظت المحرمات، ووطء من لا يباح بحال أعظم حُرمًا من وطء من يباح في بعض الأحوال، فيكون حدُّه أغلظ. كيفية قتل اللوطي: والذي يترجح أن اللوطى يُقتل على كل حال سواء كان محصنًا أو غير محصن، والمُختار أن يُقتل بالرجم كما رآه الجمهور، وذلك لما يأتي: 1 - أن الله تعالى سمَّى اللواط فاحشة فقال تعالى: {ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (¬2). وسمَّى سبحانه الزنا فاحشة فقال عز وجل: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (¬3). فيكون الحدُّ في اللواط كالزنا بجامع ما بينهما من الوصف المشترك، غير أنه في اللواط: القتل رجمًا في جميع الأحوال بالنص. ¬

(¬1) حسن: أخرجه الترمذي (1456)، وأبو داود (4462)، وابن ماجة (1561)، وأحمد (1/ 300) وغيرهم، وصححه الألباني في «الإرواء» (2350). (¬2) سورة العنكبوت: 28. (¬3) سورة الإسراء: 32.

2 - أن الله تعالى عاقب قوم لوط بالرجم قال سبحانه {وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود} (¬1). وهذا قول عمر وعلي وابن عباس وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهناك ثلاثة آراء أخرى للصحابة - رضي الله عنهم - في كيفية قتل اللوطي، وهي: (أ) الرمي من أعلى بناء في البلد ثم إتباعه بالحجارة: وهو مروي عن ابن عباس وأبي بكر - رضي الله عنهما -، والظاهر لي أن مستنده التشبيه بما فُعل بقوم لوط، قال تعالى: {جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود} (¬2). (ب) أن يُلقى عليه حائط: وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم. (جـ) إحراق اللوطى بالنار: وهو قول أبي بكر وعليٍّ وابن الزبير - رضي الله عنهم. قلت: والمُختار أن يُقتل رجمًا كما تقدم، على أن هذه الكيفيات جميعًا يشملها عموم الأمر بالقتل، وقد فعلها الصحابة - رضي الله عنهم، «وما أحق مرتكب هذه الجريمة ومقارب هذه الرذيلة الذميمة بأن يُعاقب عقوبة بصير بها عبرة للمعتبرين، ويُعذَّب تعذيبًا يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى فاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يصلي من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابهًا لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيِّبهم» اهـ (¬3). والله أعلم. فائدة: إنما يُقتل الفاعل والمفعول به إذا كانا بالغين، فإن أحدهما غير بالغ عُوقب بما دون القتل (¬4). عقوبة من وطئ البهيمة (¬5): اختلف أهل العلم في عقوبة من وطئ بهيمة، على ثلاثة أقوال: الأول: يُقتل كما يُقتل اللُّوطي (يُقتل بكل حال): وقول للشافعي - وعلَّق القول على صحة الحديث فيه - ورواية عن أحمد، وإليه جنح ابن القيم، لحديث ¬

(¬1) سورة هود: 82. (¬2) سورة هود: 82. (¬3) «نيل الأوطار» (7). (¬4) «مجموع الفتاوى» (28/ 334). (¬5) «المحلى» (11/ 386)، و «المغني» (9/ 59 - الفكر)، و «سبل السلام» (4/ 1285)، و «نيل الأوطار» (7/ 141)، و «الداء والدواء» (209)، و «الحدود والتعزيرات» (190).

ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه، واقتلوها معه» (¬1) قالوا: ولأنه وطء لا يُباح بحال، فكان فيه القتل كحد اللوطى. الثاني: حدُّه حدُّ الزنا، فيفرق بين المحصن وغيره، وهو قول الحسن البصري، ودليله القياس على الزنا بجامع أن كلًا منهما وطء في فرج محرم ليس له فيه شبهة، وقد تقدم ما فيه من نظر، في حد اللواط. الثالث: يُعزَّر فقط، ولا حدَّ عليه، وهو مذهب الجمهور منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد أقواله - وأحمد في إحدى الروايتين، وإسحاق والشعبي والنخعي، ودليلهم أن الحديث في قتله ضعيف - عندهم - والعقوبات المقدرة لابد فيها من دليل مثبت ولا دليل هنا ثابت، فلا حدَّ إذًا. قلت: مدار الحكم هنا على ثبوت حديث ابن عباس المتقدم كما قال الشافعي - رحمه الله - فمن صححه لزمه القول الأول، وإلا فالثالث، وقد صحَّح الحديث: الذهبي، والشوكاني، والألباني، ومال إلى صحته البيهقي، وسكت عنه الحافظ في «التلخيص» فهو حسن عنده. وضعَّفه أحمد وأبو داود والطحاوي، وغيرهم (¬2). تساحُق النساء (¬3): السحاق: مساحقة المرأتين، أي تدالكهما، واستمتاع كل واحدة منهما بالأخرى، وهو حرام بالاتفاق، لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفضى الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» (¬4). وقد اختُلف في عقوبته، فذهب مالك - رحمه الله - إلى أنه يجب الحدُّ - مائة جلدة - على كل من المرأتين، واحتج بما يُروى مرفوعًا: «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» (¬5) لكنه حديث ضعيف، ولذا ذهب الجمهور إلى أن السحاق لا حدَّ فيه، وإنما تعزَّر المرأة بفعله، لأنه مباشرة بلا إيلاج فلا حد فيه، كما لو باشر الرجل المرأة دون إيلاج في الفرج، وهو الصحيح والله أعلم. ¬

(¬1) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4464)، والترمذي (1455)، وابن ماجة (2564)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (5938). (¬2) «سنن البيهقي» (8/ 233)، و «التلخيص» للذهبي (4/ 355 - مع المستدرك) و «التلخيص الحبير» (4/ 55)، و «نيل الأوطار» (7)، و «صحيح الجامع» (5938)، و «الداء والدواء» (ص: 208 - ط. التوفيقية). (¬3) «المغني» (9/ 58 - الفكر)، و «المحلي» (11/ 392). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (338)، والترمذي (2793)، وأبو داود (4018). (¬5) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 233).

(2) حد القذف

(2) حَدُّ القَذْفِ تعريف القذف (¬1): القذف لغةً: الرميُ مطلقًا، ومنه قوله تعالى: {أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم} (¬2). وقد اختلفت كلمة الفقهاء في تعريف «القذف» الموجب للحد، على وجوه متقاربة، والتعريف الشامل أن يقال: «القذف: هو الرمي بوطءٍ، أو نفي نسب، موجب للحدِّ فيهما». حُكْمُه الشرعي: لا خلاف بين علماء الأمة في أن القذف مُحرَّم قطعًا، بل هو من الكبائر الموبقات. 1 - قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبل لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون} (¬3). 2 - وقال سبحانه: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} (¬4). 3 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: وما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (¬5). القذف باعتبار المقذوف نوعان: 1 - قذف الزوج لزوجته: فهذا نوع خاص من القذف ومحل بحثه في باب «اللعان» وقد تقدم مفصَّلًا في كتاب: «الفرق بين الزوجين». 2 - قذف غير الزوجين: وهو موضوع بحثنا في هذا الباب. ¬

(¬1) «الحدود والتعزيرات» (ص 199)، وانظر: «فتح القدير» (5/ 89)، و «جواهر الإكليل» (ص / 286)، و «نهاية المحتاج» (7/ 415)، و «كشاف القناع» (6/ 104). (¬2) سورة طه: 39. (¬3) سورة النور: 4. (¬4) سورة النور: 23. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (89)، والنسائي (3671)، وأبو داود (2874).

شروط حد القذف

شروط حدِّ القذف: يتَّضح من التعريف السابق للقذف أن أركانه ثلاثة: قاذف، ومقذوف، ومقذوف به، وحتى يجب حدُّ القذف على القاذف لابد من توفر شروط متعلقة بكلٍّ من هذه الأركان: أولًا: شروط القاذف (¬1): يشترط في القاذف ليجب عليه الحد: 1 - أن يكون مكلَّفًا: أي بالغًا عاقلًا، فلا حدَّ على صبي ولا مجنون، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» (¬2). لكن الصبي والمجنون قد يُعزَّران بحسب حالتهما. 2 - أن يكون مختارًا: فلا حدَّ على مُكْرَهٍ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬3). وهذان الشرطان اتفق على اعتبارهما الفقهاء، سواء في ذلك الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمسلم وغير المسلم. وهناك شروط أخرى اختلف الفقهاء في اعتبارها لإيجاب الحد على القاذف، ومن ذلك: 3 - العلم بالتحريم: وهو شرط عند الشافعية، واحتمال عند الحنفية، فلا حدَّ على جاهل التحريم، لقرب عهده بالإسلام، أو بعده من العلماء. قلت: وأصول الشريعة تقضي باعتبار هذا الشرط، وقد تقدم نحوه في «حد الزنا». 4 - عدم إذن المقذوف: وهو شرط عند الشافعية، فلا حدَّ على من قذف غيره بإذنه، كما نقله الرافعي عن الأكثرين!! ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 167)، و «فتح القدير» (4/ 196)، و «مغني المحتاج» (4/ 155)، و «الدسوقي» (4/ 325 - 331)، و «نيل المآرب» (2/ 360)، و «المغني» (8/ 219)، و «المحلي» (11/ 295). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) حسن: تقدم مرارًا.

5 - أن يكون القاذف غير أصل للمقذوف: فلو قذف الأبُ ابْنَه فلا حدَّ عليه عند الجمهور: أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم، وإسحاق، وهو المذهب عند المالكية، واستدلوا بما يلي: (أ) قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا} (¬1). (ب) قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} (¬2) قالوا: فليس من البر ولا من الإحسان ولا من خفض الجناح ضرب الولد لأبيه في القذف (!!). وأجاب المخالفون: بأن هذا كلام خاطئ؛ لأن من الإحسان والبر لهما إقامة الحدِّ عليهما؛ لأن الحدَّ حكمُ الله تعالى الذي لولاه لم يجب برُّهما فسقط تعلُّقهم بالآية. (جـ) قياس إسقاط حد القذف عن الولد، على إسقاط القصاص عنه في القتل إذ لا يقاد والدٌ بولده، وإهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق أولى، وكذلك إسقاط حد السرقة عنه إن سرق ولَدَه. وأجاب المخالفون: بأن هذا قياس باطل على باطل (!!) حيث إن القول بإسقاط القصاص عن الوالد إذا قتل ابنه أو عدم القطع إذا سرقه ليس له حجة ولا أوجبه نصٌ (!!) ولا إجماع، بل الحدود والقود واجبان على الأب للولد. قلت: في هذا الكلام نظر، والنصوص فيه ثابتةً كما سيأتي تحريره في موضعه - إن شاء الله. وذهب عمر بن عبد العزيز ومالك - وهو قول عند المالكية - والأوزاعي وداود وابن حزم وسائر أهل الظاهر إلى أن الأب يُحدُّ بقذف ابنه، واحتجوا بما يلي (¬3): (أ) عموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} (¬4). قالوا: فلفظ المحصنات في الآية عام ولم يخصص أحدًا دون أحد، ولم يقل: (إلا الوالد لولده) ولو أن الله أراد تخصيص الأب بإسقاط الحد عنه لولده لبيَّن ¬

(¬1) سورة الإسراء: 23. (¬2) سورة الإسراء: 23. (¬3) «المحلي» لابن حزم (11/ 295). (¬4) سورة النور: 4.

ذلك، ولما أهمله حتى يتفطَّن له من لا حجة في قوله، وقد قال تعالى: {وما كان ربك نسيا} (¬1). فصح بذلك أن الله تعالى لما عمم ولم يخصِّص أراد أن يحدَّ الوالد لولده، والولد لوالده وأجيب: بأن هذا العموم يخرج منه الولد على سبيل المعارضة بقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (¬2) والمانع مقدم. (ب) قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} (¬3). فأوجب الله تعالى القيام بالقسط والشهادة على الوالدين والأقربين كالأجنبيين فدخل في ذلك الحدود وغيرها. (جـ) ما رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: «لا عفو عن الحدود ولا عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام، فإن إقامتها من السنة» (¬4). قال ابن حزم: فهذا قول صاحب لا يعرف له مخالف، وهو حجة عندهم، وقد خالفوه هنا لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عمَّ جميع الحدود ولم يخصِّص. (ر) ولأنه حدٌّ هو حق لله فلا يمنع من إقامته قرابة الولادة كالزنا، وأجيب بأن الفرق بين القذف والزنا: أن حد الزنا خالص لحق الله تعالى لا حق للآدمي فيه، وحد القذف حق لآدمي، فلا يثبت للابن على أبيه، كالقصاص. 6 - النطق: وهو شرط عند الحنفية، فلا حدَّ على الأخرس. 7 - الإقامة في دار العدل: وهو شرط عند الحنفية، احترازًا عن المقيم في دار الحرب، وقد تقدم تحرير هذه المسألة في أول «كتاب الحدود» وترجيح أن الحدَّ لا يقام عليه في أرض الحرب، ولا يسقط عنه بالكلية، بل يؤخَّر حتى يرجع إلى أرض الإسلام. 8 - التزام أحكام الإسلام: وهو شرط عند الشافعية، فلا حدَّ على حربي لعدم التزامه أحكام الإسلام (!!). ¬

(¬1) سورة مريم: 64. (¬2) سورة الإسراء: 23. (¬3) سورة النساء: 135. (¬4) له شواهد مرفوعة تقدمت.

ثانيًا: شروط المقذوف: (كون المقذوف محصنًا): يشترط في المقذوف - الذي يجب الحدُّ بقذفه من الرجال (¬1) والنساء - أن يكون محصنًا. وقد اختلف أهل العلم في شروط المقذوف بناء على اختلافهم في معنى «الإحصان» في قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} (¬2). فمنهم من رأى أن «الإحصان» في القذف معناه: (البلوغ والعقل والحرية والإسلام والعفة عن الزنا) وهو قول جمهور الفقهاء، فجعلوا هذه الخمسة شروطًا للمقذوف. ومنهم من جعل «الإحصان» بمعنى «المنع» كما ورد في لغة العرب، فلم يجعل البلوغ ولا العقل ولا الحرية من شروط الإحصان، وهو قول ابن حزم، قال: «لأن الصغار والمجانين والعبيد محصونون بمنع الله تعالى لهم من الزنا، وبمنع أهليهم، وكذلك بعفَّتهم عن الزنا» (¬3). قلت: ومن هنا يتبيَّن أن شروط المقذوف (شروط الإحصان) منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه. (أ) شرط متفق عليه: 1 - العفة عن الزنا: فيشترط أن يكون المقذوف عفيفًا عن الفاحشة التي رمى بها، سواء كان عفيفًا عن غيرها أم لا. (ب) شروط مختلف فيها: 2 - الإسلام: فذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه يشترط في المقذوف أن ¬

(¬1) قال الحافظ في «الفتح» (12/ 181): «وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصن من النساء» اهـ. قلت: وإنما خصت الآية النساء بالذكر لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ومن العلماء من قال: إن الآية تعم الرجال والنساء والتقدير فيها (والذين يرمون الأنفس المحصنات) وقيل: أراد بالمحصنات: الفروج، والله أعلم. (¬2) سورة النور: 23. (¬3) «المحلي» لابن حزم (11/ 273).

يكون مسلمًا، وقالوا: لا حدَّ على من قذف كافرًا، واستدلوا بقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ...} (¬1). وبما يُروى عن ابن عمر مرفوعًا «من أشرك بالله فليس بمحصن» (¬2). بينما ذهب ابن حزم - رحمه الله - إلى وجول الحد على من قذف محصنة من أهل الكتاب إذا كانت عفيفة. 3، 4 - العقل والبلوغ: اختلف العلماء فيمن قذف صغيرًا أو مجنونًا (¬3)، فقال الجمهور: لا يجب عليه الحد، لأن ما رمى به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد، فلم يجب الحدُّ على القاذف، كما لو قذف عاقلًا بما دون الوطء. وقال مالك بجلد من قذف المجنون دون الصغير، لكنه قال في الصبيَّة التي يجامع مثلها: يحدُّ قاذفها، خصوصًا إذا كانت مراهقة، فإن الحدَّ بعلة إلحاق العار، ومثلها يلحقه. وأما ابن حزم فأوجب الحد على قاذف المجنون والصغير مطلقًا، وناقش الجمهور بما ملخصه: أن القاذف لا يخلو من ثلاثة: إما أن يكون صادقًا صحَّ صدقه فلا خلاف أنه لا حدَّ عليه، وإما أن يكون ممكنًا صدقه وممكنًا كذبه فيحدُّ بلا خلاف لإمكان كذبه فقط، ولو صح صدقه فلا حدَّ عليه، وإما أن يكون كاذبًا صحَّ كذبه [وأنتم تقولون أن من قذف المجنون أو الصغير قد تيقن كذبه] فالآن حقًّا طابت النفس بوجوب الحد عليه بيقين. 5 - الحرية: اختلف العلماء فيمن قذف عبدًا أو أمة، هل يحدُّ أو لا؟ على قولين: فقال جماهير أهل العلم (منهم: النخعي والشعبي وعطاء والحسن والزهري والأوزاعي والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد)، لا حدَّ عليه، واحتجوا بما يلي: ¬

(¬1) سورة النور: 23. (¬2) أخرجه الدارقطني (3/ 147) وصوَّب وقفه. (¬3) «ابن عابدين» (3/ 156)، و «الدسوقي» (4/ 326)، و «المغني» (8/ 221)، و «المحلي» (11/ 273).

1 - حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قذف مملوكه بالزنا يُقام عليه الحدُّ يوم القيامة إلا أن يكون كما قال» (¬1). قالوا: «لو وجب على السيد أن يُجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره في الآخرة، وإنما خصَّ ذلك بالآخرة تمييزًا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذٍ إلا بالتقوى» اهـ (¬2). 2 - ادِّعاء الإجماع على أن الحرَّ إذا قذف عبدًا لم يجب عليه الحد (!!) وفيه نظر فإنه منقوض بما صح عن نافع قال: «سئل ابن عمر عمن قذف أم ولد لآخر، فقال: يُضرب الحدُّ صاغرًا» (¬3) وبه قال الحسن البصري وأهل الظاهر (¬4). 3 - أن العبد - وكذا الأمة - لا حرمة له (!!) قال ابن حزم: قولهم لا حرمة للعبد ولا للأمة فكلام سخيف، والمؤمن له حرمة عظيمة، ورب عبد جلف خير من خليفة قريش عند الله تعالى، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم} (¬5). والناس كلهم أولاد آدم لا تفاضل بينهم إلا بأخلاقهم وأديانهم، لا بأعراقهم ولا بأبدانهم. الحاصل: يتحصَّل مما تقدم أنه يشترط في المقذوف الذي يجب الحدُّ على قاذفه .. ثالثًا: شروط المقذوف به (صيغة القذف): القذف على ثلاثة أضربُ: صريح، وكناية، وتعريض. فاللفظ الذي يقصد به القذف إن لم يحتمل غيره فصريح، كأن يقول: «يا زاني» أو «يا زانية»، أو يقول عبارة تجري مجرى التصريح كنفي نسبه عنه. وإلا فإن فُهم منه القذف بوضعه فكناية، كقوله لامرأة: «لا تردِّين يد ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6858)، ومسلم (1660). (¬2) نقله في «فتح الباري» (12/ 192 - سلفية) عن المهلب وكذا القرطبي في «التفسير» (12/ 174)، والنووي في «شرح مسلم» (11/ 131)، وابن قدامة في «المغني» (10/ 202). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق. (¬4) «فتح الباري» (12/ 192)، و «المحلي» (11/ 272). (¬5) سورة الحجرات: 13.

لامس»، وإلا فتعريض وهو الكلام الذي له وجهان ظاهر وباطن، فيقصد قائلُه الباطن ويُظهر إرادة الظاهر. 1 - القذف الصريح: من قذف غيره بصريح الزنا وجب عليه الحدُّ بشروطه باتفاق الفقهاء. 2 - القذف الكنائي: وأما الكناية - كمن قال لامرأة: «لا تردِّين يد لامس» أو قال لها: «يا قحبة» ونحو ذلك مما يحتمل القذف وغيره - فللعلماء فيه قولان (¬1): الأول: يُحدُّ قائله إلا أنه إذا أنكر القذف صُدِّق بيمينه: وهو قول المالكية والشافعية، ويُعزَّرُ للإيذاء عند جمهور الشافعية، وقيَّده الماوردي بما إذا خرج اللفظ مخرج السبِّ والذم، فإن أبى أن يحلف حُبس عند المالكية، فإن طال حبسه ولم يحلف عُزِّر. وهؤلاء اختلفوا في بعض الألفاظ كم قال لامرأته: «يا فاجرة أو يا فاسقة أو يا خبيثة» ونحو ذلك وهل يقبل يمينه بأنه لم يرد بها القذف أو لا، على أوجه تراجع في كتب الفروع. الثاني: لا حدَّ عليه، وإنما الحدُّ على من صرَّح بالقذف فقط: وهو قول الحنفية والحنابلة، فلو قال: «يا قحبة أو يا فاجر» فلا حدَّ عليه عندهم لأنه لم ينسبه - أو ينسبها - إلى صريح الزنا، قالوا: والفجور قد يكون بالزنا وغير الزنا، فلا يكون قذفًا بصريح الزنا، فلو أوجبنا الحدَّ، أوجبناه بالقياس، ولا مدخل للقياس في الحد، لكن عليه التعزير لارتكابه حرامًا، وليس فيه حدٌّ مقدَّر، ولأنه ألحق به نوع شَيْن بما نسبه إليه، فيجب التعزير لدفع ذلك الشين عنه. 3 - التعريض بالقذف: وأما التعريض بالقذف - كأن يقول لصاحبه في مقام الخصام والتنازع: «ما أنا بزانٍ، وأمي ليست بزانية!!» - فقد اختلف الفقهاء في وجوب الحدِّ به على قولين (¬2): ¬

(¬1) «الدسوقي» (4/ 328)، و «مغنى المحتاج» (3/ 368)، و «المبسوط» (9/ 119)، و «كشاف القناع» (6/ 110). (¬2) «ابن عابدين» (3/ 191)، و «فتح القدير» (5/ 100)، و «شرح الزرقاني» (8/ 87)، و «تفسير القرطبي» (12/ 173)، و «روضة الطالبين» (8/ 312)، و «فتح الباري» (9/ 443)، و «المغني» (8/ 222)، و «إعلام الموقعين» (3/ 141)، و «الحدود والتعزيرات» (ص 216).

الأول: لا حدَّ في التعريض بالقذف: وهو قول الجمهور منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وابن حزم واحتجوا بما يلي: 1 - حديث أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال: «هل لك من إبل؟»، قال: نعم، قال: «ما لونها؟» قال: حُمْر، قال: «فيها من أوراق؟» قال: نعم، قال: «فأنَّى كان ذلك»؟ قال: أراه عرق نزعه، قال: «فلعلَّ ابنك هذا نزعه عرق» (¬1). قالوا: لما كان قول الأعرابي محتملًا لغير القذف لم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بحكم القذف، فدلَّ على أنه لا حدَّ في التعريض بالقذف. واعترض ابن القيم على هذا الاستدلال بأن قول الأعرابي (إن امرأتي ولدت غلامًا أسود) (¬2) ليس فيه ما يدل على القذف ولا صريحًا ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتيًا عن كم هذا الولد، أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرَّب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح صدره له، فأين في هذا ما يبطل حدَّ القذف؟!!. 2 - أن أحكام الشرع مضت في الحدود وغيرها على ما يظهره العباد، والله تعالى يُدين بالسرائر، بل قال الشافعية - في الأصحِّ عندهم -: إن هذا ليس بقذف وإن نواه (!!)؛ لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنوي، ولا دلالة هنا في اللفظ ولا احتمال، وما يفهم منه مستنده قرائن الأحوال. 3 - أن التعريض يتضمن الاحتمال، والاحتمال شبهة تسقط الحدَّ. 4 - أن الله تعالى فرَّق بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فكذلك في القذف. القول الثاني: يجب الحدُّ في التعريض بالقذف إن فُهم القذف بتعريضه بالقرائن: وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو مذهب مالك - إلا أنه استثنى أن يكون المُعَرّض الأَبَ فإنه لا يحدُّ عنده لبعده عن التهمة - وهو مقابل الأصح عند الشافعية - فقالوا: هو كناية عن القذف لحصول الفهم والإيذاء، فإن أراد النسبة إلى الزنا فقذف عندهم فإلا ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6847)، ومسلم (1500). (¬2) وجه التعريض هنا: أنه قال: (غلامًا أسود) أي: وأنا أبيض فكيف يكون منِّي؟!

فلا (¬1) - وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وانتصر له العلامة ابن القيم، واحتج هؤلاء في الجملة بما يلي. 1 - حدُّ عمر لمن عرَّض بالقذف وموافقة الصحابة عليه: فقد ثبت أن رجلًا - في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ما أمي بزانية، ولا أبي بزان، قال عمر: «ماذا ترون؟» قالوا: رجل مدح نَفْسَهُ، قال: «بل انظروا، فإن كان بالآخر بأس فقد مدح نفسه، وإن لم يكن به بأس فلم قالها؟ فوالله لأحدَّنَهَ» فحدَّه (¬2). وفي رواية: فاستشار عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه أمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمِّه مدح غير هذا، نرى أن تجلده الحدَّ، فجلده عمر الحدَّ ثمانين» (¬3). وردَّ الشافعي - رحمه الله - دعوى الاتفاق بأن عمر استشار الصحابة فخالفه بعضهم، ومع من خالفه احتمال القذف وعدمه وهي شبهة تدرأ الحدَّ. وأجاب ابن القيم بأن القائل الأول لم يكن يخالف عمر، فإنه لما قيل له: إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، فهم أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة، على أنه قد صحَّ عن عمر هذا الحكم من أوجه أخر مما يدل على تقوية الاتفاق على استمرار عمر - رضي الله عنه - على الحكم بذلك واشتهاره، فعن ابن عمر: «أن عمر كان يحدُّ في التعريض بالفاحشة» (¬4). 2 - ما رُوي «أن رجلًا قال لرجل: يا ابن شامة الوذر، فاستعدي عليه عثمان بن عفان، فقال: إنما عنيتُ به كذا وكذا، فأمر عثمان بن عفان فجُلد الحدَّ» (¬5) ولا يصحُّ. 3 - أن من التعريض بالقذف ما هو أوجع وأنكى من التصريح وأبلغ في ¬

(¬1) ولا يكون للقرائن تأثير - عندهم - فيستوي في ذلك حال الغضب وغيره كما نص عليه في «روضة الطالبين» (8/ 312). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 425). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1569)، والدارقطني، وانظر «الإرواء» (2371). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 421)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 334)، والبيهقي (8/ 252). (¬5) إسناده تألف: أخرجه الدارقطني، وانظر «الإرواء» (2372).

الأذى، وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، والعبرة في الشريعة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني. 4 - أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى، كما حكى الله تعالى عن مريم {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} (¬1). فعرضوا لمريم بالزنا ولذا قال تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما} (¬2). قال القرطبي - رحمه الله -: «وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي: ما كان أبوك امرأ سوء وكانت أمك بغيًّا، أي: أنت بخلافهما وقد أثبت بهذا الولد» اهـ. 5 - أن هذا الحكم مؤيد بالقياس على وقوع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالتصريح والكناية، والعلة كون الكل ألفاظًا يمكن أن يفيد غير الصريح منها ما يفيده الصريح. الراجح (¬3): الذي يبدو أن الحدَّ يجب بالتعريض في القذف بشرط قيام القرائن على تحديد القصد في ذلك، بحيث يُفهم من التعريض القذفُ فهمًا واضحًا لا لبس فيه، إذ لا يكون للمعرِّض تأويل مقبول يصحُّ حمل الكلام عليه، وفي هذا إعمال لقاعدتي الشريعة: (العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات) وقاعدة (درء الحد بالشبهات). فإذا احتفت القرائن مع أن المراد بالتعريض ذات القذف، انتفت الشبهة وتحقق الحدُّ، وإذا ضعفت القرائن، قويت الشبهة وانتفى الحد (¬4). ولئلا يتذرَّع الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يُفهم منها القذف بالزنا، والله أعلم. تنبيه: القائلون بانتفاء الحد عن المعرِّض بالقذف - أو أكثرهم - يرون أنه لابد أن يعاقب بالتعزير للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض. ¬

(¬1) سورة مريم: 28. (¬2) سورة النساء: 156. (¬3) مستفاد من «الحدود والتعزيرات» (ص 223 - 224)، و «أضواء البيان» (6/ 99)، و «الروضة الندية» (ص: 282). (¬4) وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة المتقدم، فإن قول الرجل «ولدت غلامًا أسود» تعريض محتمل لم يقم بجانبه من القرائن ما يجعله يفهم منه بوضوح أنه قذف، ولذا لم يحدَّ، والله أعلم.

ثبوت حدِّ القذف: يثبت القذف بأحد بأمرين (¬1): (1) إقرار القاذف: فإن أقرَّ على نفسه مرةً وجب عليه الحد، لكون إقرار المرء لازمًا له. فإن أقرَّ بالقذف ثم رجع لم يُقبل رجوعه؛ لأن للمقذوف فيه حقًّا، فيكذبه في الرجوع، بخلاف ما هو خالص حق الله تعالى، لأنه لا مكذب له فه فيقبل رجوعه. (2) شهادة عدلين: ولا تقبل - في القذف - شهادة النساء مع الرجال في قول عامة الفقهاء، فعن الزهري قال: جرت السنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود». ومما يؤيد ذلك أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد قال الله في شأن النساء: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (¬2). ولا تقبل فيه الشهادة على الشهادة، ولا كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن موجبه حدٌّ يندرئ بالشبهات، وهو قول النخعي والشعبي وأبي حنيفة وأحمد. وقال مالك وأبو ثور والشافعي - في المذهب -: تقبل الشهادة على الشهادة، وفي كل حق؛ لأن ذلك يثبت بشهادة الأصل، فيثبت بالشهادة على الشهادة، كما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي. فائدة: لو ادَّعى على رجل أنه قذفه فأنكر المدعي عليه: ففي هذه المسألة مذهبان (¬3): الأول: يستحلف، وبه قال الزهري وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، واختاره ابن المنذر، قالوا: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اليمين على المدعى عليه» (¬4) ولأنه حق آدمي فيستحلف فيه كالدين. ¬

(¬1) «المبسوط» (9/ 111)، و «فتح القدير» (4/ 199)، و «جواهر الإكليل» (2/ 132)، و «مغني المحتاج» (4/ 157، 442)، و «المغني» (9/ 206). (¬2) سورة البقرة: 282. (¬3) انظر: «المغني» (9/ 90 - الفكر). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2514)، ومسلم (1711).

الثاني: أنه لا يستحلف: وبه قال حماد والثوري وأصحاب الرأي، قالوا: لأنه حد، فلا يستحلف فيه كالزنا والسرقة، فإن امتنع عن اليمين لم يقم عليه الحد، لأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يُقضى فيه بالنكول كسائر الحدود. عقوبات القاذف: من قذف مسلمًا بفاحشة الزنا، أو ما يستلزم الزنا كنفي ولد المحصنة عن أبيه، وعجز عن إثبات دعواه هذه، فإن الله تعالى أوجب عليه ثلاث عقوبات في نصٍّ قرآني صريح مُحكم، قال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يألوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} (¬1). وقد تضمنت الآية الكريمة العقوبات الآتية: الأولى: جلد القاذف ثمانين جلدة: وهذا من قواطع الأحكام في الإسلام، للآية الكريمة، ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن قذف عائشة - رضي الله عنها - في - حادثة الإفك - إذ جلد كل واحد ثمانين جلدة. إذا قذف العبد حُرًّا: العبد إذا قذف حرًّا محصنًا، فإنه يجب عليه الحد بشروطه المتقدمة، لكن اختلف أهل العلم: هل يُحدُّ كحدِّ الحرِّ (ثمانين جلدة) أم على النصف منه؟ على قولين (¬2): الأول: حدُّ أربعون جلدة: وهو قول جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، قالوا: لأنه حدٌّ ينتصَّف بالرقِّ كالزنا، وقد قال الله تعالى: {فإن أتن بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (¬3). وقال مالك: قال أبو الزناد: سألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك فقال: «أدركت عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء وهلم جرا، فما رأيت أحدًا جلد عبدًا في فرية أكثر من أربعين» (¬4). ¬

(¬1) سورة النور: 5. (¬2) «فتح القدير» (4/ 192)، و «تفسير القرطبي» (النور: 4)، و «فتح الباري»، و «المحلي» (11/ 272). (¬3) سورة النساء: 25. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1567).

الثاني: حدُّ العبد كحد الحر ثمانون جلدة: وهو مروي عن ابن مسعود والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو مذهب ابن حزم، واحتجوا: بعموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (¬1). قال صديق حسن خان - رحمه الله -: «الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحرُّ والعبد، والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد، لا من الكتاب ولا من السنة، ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (¬2). ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف، فإلحاق أحد الحدين بالآخر فيه إشكال، لاسيما مع اختلاف العلة، وكون أحدهما حقًّا لله محضًا، والآخر مشوبًا بحق آدمي» اهـ (¬3). قلت: ويقول الجمهور أقول، لفعل الخلفاء الراشدين، والله أعلم. العقوبة الثانية: رَدُّ شهادة القاذف: وقد اتفقت الأمة على أن القاذف إذا حُدَّ للقذف، لم تُقبلْ شهادته بعد ذلك ما لم يَتُبْ، وقد نصَّ القرآن على ذلك، قال سبحانه: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ...} (¬4). حكم قبول شهادته بعد توبته: ثم اختلف أهل العلم في القاذف إذا تاب - وقد حُدَّ بقذفه - هل تقبل شهادته بعد ذلك؟ على قولين مشهورين (¬5): الأول: لا تقبل شهادة المحدود في قذف ولو تاب: وهو مذهب أبي حنيفة، وطائفة من السلف منهم: القاضي شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد، وحجة هذا القول ما يلي: ¬

(¬1) سورة النساء: 25. (¬2) سورة النساء: 25. (¬3) «الروضة الندية شرح الدرر البهية» (ص: 281 - 282). (¬4) سورة النور: 4، 5. (¬5) «البدائع» (6/ 271)، و «فتح القدير» (6/ 475)، و «نهاية المحتاج» (8/ 291)، و «جواهر الإكليل» (2/ 235)، و «المجموع» (22/ 101)، و «المغني» (12/ 76)، و «تفسير ابن كثير (3/ 257)، و «التشريع الجنائي» (2/ 491)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 225 - 244).

1 - أن الله سبحانه قد أبَّد المنع من قبول شهادتهم بقوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأييده. وهذا الاستدلال راجع إلى مسألة أصولية مشهورة عند الحنفية، وهي: (أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات رجع الاستثناء للأخير فقط). وعليه، فاستثناء الذين تابوا في هذه الآية إنما يرجع على وصفهم بالفسق فقط، فيرفع عنهم الفسق، ويبقون مردودي الشهادة أبدًا. 2 - أن المنع من قبول شهادته جعل من تمام عقوبته، ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد، فلا يسقط هذا العقاب بالتوبة، كما أن الحد لا يسقط عنه بالتوبة. وتُعقِّب هذا الاستدلال بأن ردَّ الشهادة ليس من تمام الحد، فإن الحد تمَّ باستيفاء عدده، وسببه نفس القذف، وأما ردُّ الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف لا الحد. ثم إن قياسهم هذه العقوبة - وهي رد الشهادة - على عقوبة الحد، وأنه كما لا تسقط عقوبة الجلد بالتوبة فكذلك عقوبته برد الشهادة، فهذا القياس يرد عليه القادح بافتراق العلة، فإن العلة في الحد بالجلد هي القذف، وأما في إيجاب ردِّ الشهادة فالعلة مترددة بين القذف وبين الفسق بالقذف، فلا يتم الاستدلال بالقياس. 3 - واستدلوا بما يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام، ولا ذي غمر على أخيه» (¬1). وتعقب الجمهور هذا الاستدلال من جهتين: من جهة السند فهو ضعيف لاسيما ذكر المجلود في حد، ثم على فرض صحته فهو محمول على غير التائب، فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (¬2). «وهذا نقد مُسلَّم فإن قوله «ولا محدود» يشمل أي حد كالخمر والزنا والقذف ونحوها، والاتفاق جارٍ على أن المحدود في خمرٍ - مثلًا - تقبل شهادته إذا تاب، ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2366)، وأحمد (2/ 208)، والدارقطني (4/ 244)، والبيهقي (10/ 155) بسند ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وله شاهد من حديث عائشة عند الترمذي (2298) وغيره ولا يصح. (¬2) حسن: أخرجه ابن ماجه (4250) بسند منقطع وله شواهد يحسن بها.

فكذا يقال في القاذف، لاحتمال أن يكون الاستثناء في الآية مخصصًا لعموم الحديث بالنسبة له» (¬1). 4 - قالوا: القذف متضمن للجناية على حق الله وحق الآدمي، وهو من أوفى الجرائم، فناسب تغليظ الزجر، وردُّ الشهادة من أقوى أسباب الزجر. وتُعقِّب بأن مصلحة الزجر متحصلة بالحد، وتغليظ الزجر وصف لا ينضبط فلا يعلق له حكم، ثم إن زجر القاذف بردِّ شهادته لا يتحقق في كل أحد لتفاوت الناس، والقذف عادة إنما يحصل من الرعاع لا من أعيان الناس، وهم لا ينزجرون غالبًا بردِّ شهاداتهم، وأيضًا فإن ما يترتب على ردِّ شهادته أبدًا من المفاسد - كفوات الحق على الغير، وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها - تغمر المصلحة في ذلك، والقاعدة أن (رد المفاسد مقدم على جلب المصالح). القول الثاني: تقبل شهادة القاذف إذا تاب: وهو مذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد وجماعة من السلف منهم سعيد بن المسيب، وعليه عمل الصحابة - رضي الله عنهم -، ومما استدلوا به: 1 - أن الاستثناء في الآية الكريمة عائد إلى الجملتين المتعاطفتين قبله في قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون} (¬2). وهذا بناء على أصل الجمهور - خلافًا للحنفية - في أن (الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات فإنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها). قال أبو عبيد: «وهذا عندي هو القول المعمول به؛ لأن من قال به أكثر، وهو أصح في النظر، ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب» اهـ. 2 - واستدلوا بعمل الصحابة - رضي الله عنهم -، كما في قصة قذف المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، فإن عمر - رضي الله عنه - قبل شهادة نافع وشبل لما تابا، وردُّ شهادة أبي بكرة إذا أبى أن يتوب (¬3). ¬

(¬1) «الحدود والتعزيرات» (ص: 234) بتصرف يسير. (¬2) سورة النور: 4. (¬3) إسنادها صحيح: أخرجها عبد الرزاق (7/ 384) بسند صحيح عن ابن المسيب. قال: «شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا، ونكل زياد، فحدَّ عمر الثلاثة، وقال لهم: «توبوا تقبل شهادتكم» فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة، فكان لا يقبل شهادته ..» وله طرق أخرى.

وقد حكى ابن قدامة في «المغني» أن هذا محل إجماع من الصحابة - رضي الله عنهم. 3 - القياس على قاعدة الشريعة المطردة من قبول شهادة كل تائب، قالوا: وأعظم موانع الشهادة: الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قُبلت اتفاقًا، فالتائب من القذف أولى بالقبول، قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد يتاب منه ويبقى أثره المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (¬1)؟! قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو لعلة الفسق، وقد ارتفع بالتوبة، وهو سبب الرد، فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع. وتعقبه الأولون: بأن العلة إنما هي تتمة الحد بسبب القذف لا الفسق به - كما تقدم - فهذا قياس مع الفارق!! 4 - قالوا: الحدُّ يدرأ عنه عقوبة الآخرة، وهو طهرة له، فكيف تقبل شهادته إذ لم يتطهر بالحد، وترد أطهر ما يكون، فإنه بالحد والتوبة قد يطهر طهرًا كاملًا. الترجيح: الذي يظهر مما تقدم أن الحاسم في المسألة، معرفةُ ما يعود إليه الاستثناء في الآية الكريمة، ففي الآية تقدم الاستثناء ثلاثُ جمل متعاطفات وهي: (أ) {فاجلدوهم ثمانين جلدة} (¬2). (ب) {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} (¬3). (جـ) {وأولئك هم الفاسقون} ثم قال {إلا الذين تابوا} (¬4). وقد أجمعوا على أن الاستثناء غير عامل في جلده - في الجملة الأولى - فالتوبة لا تسقط عن القاذف حدَّ الجلد إجماعًا (¬5) أي: إذا رفعت إلى الحاكم. وكذلك أجمعوا على أن الاستثناء عامل في فسقه - في الجملة الثالثة - فالتوبة تزيل عن القاذف وصف الفسق. ¬

(¬1) حسن: تقدم قريبًا. (¬2) سورة النساء: 25. (¬3) سورة النساء: 25. (¬4) سورة النور: 4، 5. (¬5) نقل الإجماع غير واحد، انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 257)، و «المجموع» (22/ 101).

فيبقى الخلاف في عمل الاستثناء في ردِّ الشهادة؟! وقد علمت خلاف الجمهور والحنفية في عود الاستثناء على الجمل المتعاطفات. والذي يظهر لي هو ما استظهره جماعة من الأصوليين (¬1) من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع، ولا إلى الأخيرة، إلا بدليل يدل عليه، ويبدو لي أن فعل الصحابة وعمومات الشريعة بكون التائب كمن لا ذنب له يصلح دليلًا على جعل الاستثناء راجعًا إلى الجملتين - كما قال الجمهور - فيرتفع بالتوبة ردُّ الشهادة والحكم بالفسق، والله تعالى أعلم. صِفَةُ توبةِ القَاذِفِ: وأما صفة التوبة التي بها يرفع الحكم بالفسق عن القاذف وتقبل شهادته، فللعلماء فيها قولان (¬2): الأول: لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حُدَّ فيه، وبه قال عمر - رضي الله عنه - وجماعة من السلف، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وحجتهم: 1 - قصة عمر المتقدمة في حدِّ أبي بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا، وفيها أن عمر قال لهم: «توبوا تُقبل شهادتكم» فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة، فكان لا يقبل شهادته (¬3). وفي رواية: «فلما فرغ من جلد أبي بكرة، قام أبو بكرة فقال: أشهد أنه زان ...» (¬4). قلت: وهذا يدلُّ على أن المراد بطلب توبتهم إكذاب أنفسهم. 2 - أن إكذابه نفسه هو ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عرض المسلم المحصن، فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي الحق به القذف، وهو مقصود التوبة. القول الثاني: يكفي في توبته أن يصلح ويحسن حاله، ويندم على ما كان منه ويستغفر، وإن لم يكذِّب نفسه: وهو قول جماعة من التابعين واختيار ابن جرير الطبري، وهو مذهب مالك - رحمه الله -. ¬

(¬1) منهم القرطبي وابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة، واستظهره العلامة الشنقيطي في «الأضواء» (6/ 90) والعلامة بكر أبو زيد - حفظه الله -. (¬2) «تفسير القرطبي» (12/ 179)، و «نهاية المحتاج» (8/ 291)، و «المغني» (12/ 77). (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (8873).

والأوَّل أرجح للأثر، ولأن مجرد الاستغفار لا مصلحة فيه للمقذوف، ولا يحصل له براءة عرضه مما قذف به، فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب، فإن فيه حقين: حق لله وحق للعبد، وحق العبد لا يؤدي إلا بتكذيب القاذف نفسه. وهنا إِشْكال (¬1): ولعله لأجله قال من قال: يكفي الاعتراف بالذنب والاستغفار، وهو: إذا كان صادقًا قد عاين الزنا فأخبر به فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب، ويكون ذلك من تمام توبته؟ والجواب: أن الكذب يراد به أمران: أحدهما: الخبر غير المطابق لمخبره، والآخر: الخبر الذي لا يجوز الإخبار به، وإن كان مطابقًا لمخبره. ومن الثاني خبر القاذف المنفرد برؤية الزنا، والإخبار به، فإنه كاذب في حكم الله وإن كان خبره مطابقًا لمخبره، ولذا قال الله تعالى: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (¬2). وعلى هذا فحكم الله في مثل هذا أن يعاقب عقوبة المفتري الكاذب وإن كان خبره مطابقًا، فيلزمه أن يعترف بأنه كاذب عند الله كما أخبر الله تعالى عنه، فإذا لم يعترف بأنه كاذب وجعله الله كاذبًا، فأي توبة له، وهل هذا إلا محض الإصرار والمجاهرة بمخالفة حكم الله الذي حكم به عليه؟! العقوبة الثالثة: الحكم بفسق القاذف: ولا خلاف في ذلك لنصِّ الآية الكريمة {وأولئك هم الفاسقون} (¬3). وقد علمت أن الحكم بفسقه يرتفع بتوبته إجماعًا لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} (¬4). وتكون التوبة على النحو الذي تقدم وصفه والله أعلم. إذا قذف إنسانًا باللواط أو بإتيان البهائم (¬5): من قذف رجلًا بفعل قوم لوط - إما فاعلًا أو مفعولًا به - فقد اختلف أهل ¬

(¬1) للعلامة بكر أبو زيد - أمتع الله بحياته - (ص: 246 - 248). (¬2) سورة النور: 13. (¬3) سورة النور: 4. (¬4) سورة النور: 5. (¬5) «المغني» (9/ 79)، و «المجموع» (22/ 114)، و «المحلي» (11/ 283 - 285).

العلماء في إيجاب الحد عليه تبعًا لاختلافهم في إيجابهم الحد على اللوطي أصلًا، فقال الحسن والنخعي والزهري ومالك والشافعي وأحمد - وهو الخارج على قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن -: يجب عليه حدُّ القذف. وقال عطاء وقتادة وأبو حنيفة وابن حزم: لا حدَّ عليه!! وقد تقدم أن اللوطي يجب عليه الحدُّ كما قال الجمهور، فنقول: وكذلك يجب الحدُّ بقذفه باللواط. وكذلك الشأن فيمن قذف إنسانًا بإتيان بهيمة، فمن رأي الحدَّ في إتيان البهيمة، قال: يحدُّ بقذفه، ومن قال: لا حد عليه - وهم الجمهور -، قالوا: كذلك لا حدَّ على قاذفه، وإنما يعزَّر لقوله بما يراه الإمام صالحًا له، لما في قوله من أذى ومعرَّة تلحق بالمقذوف. إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات: من رمى جماعة بالزنا، فللعلماء فيه ثلاثة مذاهب (¬1): الأول: يحدُّ حدًّا واحدًا: وبه قال طاوس والشعبي والزهري والنخعي وقتادة والثوري، وهو مذهب أبى حنيفة وصاحبيه ومالك والشافعي - في أحد قوليه - وإسحاق، واستدلوا بما يلي: 1 - أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلاعن بينهما ولم يحدَّ شريكًا (¬2). 2 - أن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة، فلم يحدهم عمر إلا حدًّا واحدًّا. 3 - أنه قذف الجماعة قذف واحد، فلم يجب إلا حدٌّ واحد، كما لو قذف واحدًا. 4 - أن الحدَّ وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه، ويحد واحد يظهر كذب القاذف وتزول المعرة عن المقذوف، فوجب أن يكتفى به. 5 - أن قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} (¬3) لم يفرق بين قذف واحد أو جماعة. الثاني: يحدُّ لكل واحد حدًّا: وهو قول الحسن وأبي ثور وابن المنذر وأحمد ¬

(¬1) «المغني» (9/ 88). (¬2) تقدم حديثه في «اللعان». (¬3) سورة النور: 4.

والشافعي في قوله الآخر، وحجتهم أن الحدَّ حق للآدميين، ولو عفا بعضهم ولم يعفُ الكل لم يسقط الحد. الثالث: التفريق بين رميهم بكلمة واحدة فيحدُّ مرة، أو بكلمات فيحدُّ لكل كلمة بحدٍّ: لأنه إذا تعدد القذف فيجب تعدُّد القذف. مسقطات حدُّ القذف: يسقط حد القذف عن القاذف، فلا يعاقب به، بواحد مما يأتي: 1 - عفو المقذوف عن القاذف (¬1): فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن للمقذوف أن يعفو عن القاذف، سواء قبل الرفع إلى الإمام أو بعد الرفع إليه، لأنه حق لا يستوفى إلا بعد مطالبة المقذوف باستيفائه، فيسقط بعفوه، كالقصاص، وفارق سائر الحدود، فإنه لا يعتبر في إقامتها طلب استيفائها. وذهب المالكية إلى أنه لا يجوز العفو بعد أن يرفع إلى الإمام، إلا الابن في أبيه، أو الذي يريد سترًا. وأما الحنفية فذهبوا إلى أنه لا يجوز العفو عن الحدِّ في القذف، سواء رفع إلى الإمام أو لم يرفع. وسبب اختلافهم - كما قال ابن رشد -: هل هو حق لله أو حق للآدميين أو حق لكليهما؟ فمن قال: حق الله، لم يجز العفو كالزنا، ومن قال حق للآدميين، أجاز العفو، وعمدتهم أن المقذوف إذا صدَّقه فيما قذفه به سقط عنه الحد. ومن قال: هو حق لكليهما وغلَّب حق الإمام إذا وصل إليه، قال بالفرق بين أن يصل إلى الإمام أو لا يصل. قلت: ولعلَّ هذا الأخير يتأيَّد بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» (¬2). وبالقياس على الأثر الوارد في السرعة في حديث صفوان بن أمية في قصة ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 182)، و «المدونة» (4/ 387)، و «بداية المجتهد» (2/ 331)، و «روضة الطالبين» (10/ 106)، و «المغني» (8/ 217). (¬2) حسن بشواهده: وتقدم في أول «الحدود».

(3) حد شرب الخمر

الذي سُرق رداؤه ثم أراد ألا يقطع، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟» (¬1). والله تعالى أعلم. 2 - اللعان: وذلك إذا رمى الرجل زوجته بالزنا، أو نفى حملها أو ولدها منه، ولم يُقم بيِّنة على ما رماها به، فإن الحدَّ يسقط عنه إذا لاعنها كما تقدم في «اللعان». 3 - البيِّنة: فإذا ثبت زنا المقذوف بشهادة، أو إقرار، فإنه يُحَدُّ المقذوف، ويسقط الحد عن القاذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ...} (¬2). 4 - زوال الإحصان عن المقذوف (¬3): فذهب الجمهور إلى أنه لو قذف محصنًا ثم زال أحد أوصاف الإحصان عنه، كأن زنى المقذوف، أو ارتد (¬4) أو جُنَّ، سقط الحدُّ عن القاذف، لأن الإحصان يشترط في ثبوت الحد، وكذلك استمراره. وأما الحنابلة فقالوا: إذا ثبت القذف فإنه لا يسقط بزوال شرط من شروط الإحصان بعد ذلك، ولا يسقط الحدُّ عن القاذف بذلك. 5 - رجوع الشهود على القذف عن الشهادة (¬5): إذا ثبت حدُّ القذف بشهادة الشهود، ثم رجعوا عن شهادتهم قبل إقامة الحد، سقط الحدُّ باتفاق الفقهاء، وكذلك إذا رجع بعضهم ولم يبق منهم ما يثبت الحدُّ بشهادته منهم؛ لأن رجوعهم شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. (3) حَدُّ شُربِ الخَمر تعريف الخمر (¬6): الخمر: تجمع على خُمور، وهى مؤنثة، ويجوز تذكيرها، والتأنيث أكثر وأشهر، وتؤنث بالهاء، فيقال: هذه أو هذا خمر، وهذه خمرة. ¬

(¬1)، (2) «ابن عابدين» (3/ 168)، و «الدسوقي» (4/ 326)، و «روضة الطالبين» (8/ 327)، و «كشاف القناع» (6/ 105). (¬2) سورة النور: 4. (¬3) لكن قال الشافعية: لا يسقط الحدُّ بالردَّة بخلاف الزنا ونحوه. (¬4) انظر «الموسوعة الفقهية» (33/ 16)، (22/ 149). (¬5) «مختار الصحاح» (189)، و «القاموس» (2/ 32)، و «تهذيب الأسماء واللغات»، و «القرطبي» (3/ 51)، و «فتح الباري» (10/ 32)، و «نيل الأوطار» (7/ 166)، و «الحدود والتعزيرات» (251). (¬6)

وسميت بذلك لأنها تغطي حتى تدرك أي تغلي، وقيل: لأنها تستر العقل وتغطيه، وقيل: لأنها تخامر العقل أي تخالطه. والتحقيق: أن هذه الأوجه كلها موجودة في الخمر، فالخمر تركت حتى أدركت وسكنت، فإذا شُربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه، فلا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان. حقيقتها في اللغة: قال الفيروزآبادي: الخمر ما أسكر من عصير العنب، أو هو عام، والعموم أصحُّ، لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البسر والتمر (¬1). حقيقتها الشرعية: اختلف العلماء في حقيقة الخمر الشرعية بناء على اختلافهم في حقيقتها في اللغة وإطلاق الشرع، على قولين (¬2): الأول: أن الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد بطبعه دون عمل النار، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض الشافعية. الثاني: أن الخمر كل ما أسكر سواء كان عصيرًا أو نقيعًا من العنب أو غيره مطبوخًا أو غير مطبوخ، وهو مذهب جمهور العلماء. والحق أن هذه المسألة مما طال فيه النزاع مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جعل لها حدًّا أغنانا به عن هذا التعب والتطويل، فعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ...» (¬3). وعن أبي موسى قال: قلت: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن، البتع: وهو من العسل حين يشتد، والمزر: وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يَشتد، قال: - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه - «كل مسكر حرام» (¬4). ¬

(¬1) «القاموس المحيط» مادة: (خمر). (¬2) «ابن عابدين» (5/ 288)، و «الدسوقي» (4/ 353)، و «مغني المحتاج» (4/ 186)، و «الروضة» (10/ 168)، و «المغني» (9/ 159)، و «كشاف القناع» (6/ 116). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (2003)، والترمذي (1861)، والنسائي (5582)، وأبو داود (3679)، وابن ماجة (3390). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4343)، ومسلم (1733).

فهذا الحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر، وقد سماه (خمرًا) أفصح الأمة لسانًا - صلى الله عليه وسلم -، فمن خصَّ بنوع خاص من المسكرات فقد قصر فهمه، وهضم المعنى العام في الخمر الشامل معناه لكل مسكر. ثم إن الأحاديث الواردة في هذا الباب تبطل المذهب الأول القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، ومن ذلك: 1 - حديث أنس قال: «إن الخمر قد حُرمت، والخمر يومئذ: البُسر والتمر» (¬1). 2 - وعنه قال: «لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب يُشرب إلا من التمر» (¬2). وفي لفظ: «... وما نجد خمر الأعناب، وعامة خمرنا البسر والتمر» (¬3). 3 - وعن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذٍ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب» (¬4). 4 - وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا» (¬5). 5 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قام عمر على المنبر فقال: «أما بعد، نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل» (¬6). فهذه النصوص وغيرها كثير صريحة في دخول هذه الأشربة المتخذة من غير العنب في اسم الخمر في اللغة التي نزل بها القرآن، وخوطب بها الصحابة، وهي تغني عن التكلف في إثبات تسميتها خمرًا بالقياس مع كثرة النزاع فيه، على أن محض القياس الجلي - على فرض عدم وجود هذه النصوص - يقتضي التسوية بينها، بل هي أرفع أنواع القياس؛ لأن الفرع فيه مساوٍ للأصل في جميع أوصافه، والعجب من أبي حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد (!!) ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة (¬7). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5584)، ومسلم (1980). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1982). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (5580). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4616)، ومسلم (3032). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3659)، والترمذي (1934)، وابن ماجة (3379). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5581)، ومسلم (3032). (¬7) انظر: «تهذيب السنن» (5/ 262) لابن القيم، و «تفسير القرطبي» (6/ 295).

لا فرق بين قليل الخمر وكثيرها: حرَّم الشارع القطرة من الخمر، وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكونها ذريعة إلى شرب كثيرها (¬1). فعن ابن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام» (¬2). وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» (¬3). والفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلًا. الحشيشة والمخدرات حرام، وفيها الحدُّ: عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ...» (¬4). وهذا يتناول كل ما يُسكر، ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولًا أو مشروبًا، أو جامدًا أو مائعًا، فلو اصطبغ كالخمر كان حرامًا، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حرامًا، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بُعث بجوامع الكلم، فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن (¬5). وقد صحَّ عن أصحابه - رضي الله عنهم - الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده بأن «الخمر ما خامر العقل» (¬6). على أنه لو لم يتناول لفظه - صلى الله عليه وسلم - كلَّ مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل جهة حاكمًا بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع، تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه (¬7). ولذا فإن المخدرات بجميع أنواعها (الحشيشة والأفيون والهيروين وغيرها) ¬

(¬1) «إغاثة اللهفان» (1/ 361). (¬2) صحيح: أخرجه ابن ماجة (3392) والنسائي مفرقًا (8/ 297، 300). (¬3) صحيح: أخرجه الترمذي (1928)، وأبو داود (3670). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2003)، وغيره وقد تقدم. (¬5) «مجموع الفتاوى» (34/ 204). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (5581)، ومسلم (3032) من قول عمر - رضي الله عنه. (¬7) «زاد المعاد».

محرَّمة وهي خمر لأنها مسكرة تغيب العقل، وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك. وقد نصَّ على تحريمها فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم ولا خلاف في ذلك (¬1)، لكنهم لا يرون فيها الحدَّ (!!) بل يقولون بالتعزير، ويرى بعضهم أن الحرمة إنما هي في تعاطي القدر المسكر!! والتحقيق: أن هذه المخدرات - بعد الاتفاق على تحريمها - لها حكم الخمر بالنصِّ فلا وجه للتفريق بينهما وبين الخمر، فهي وإن كانت تجامع الشراب المسكر في تغييب العقل والنشوة والطرب، فإنها تشتمل على ضرر ف دين المرء وعقله وخلقه وطبعه، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى، وقد صحَّ تسميتها خمرًا، فيكون القليل منها حرامًا كالكثير، ويُحدَّ متعاطيها، كما حقَّقه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، قال: «وقاعدة الشريعة: أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات، كالخمر والزنا ففيه الحدُّ، لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير، والحشيشة مما يشتهيها آكلوها ويمتنعون عن تركها، فيجب فيها الحد، بخلاف البنج ونحوه مما يُغطى العقل من غير سُكر، ولا يشتهيه الناس، ففيه التعزير ...» اهـ (¬2). عقوبة شارب الخمر: ذهب عامة أهل العلم - بل حكي غير واحد منهم الإجماع (¬3) على أن الشرع قد رتَّب على شرب الخمر عقوبة حدِّية مقدَّرة، فقد وردت أحاديث كثيرة في حد ¬

(¬1) «ابن عابدين» (4/ 42)، و «الدسوقي» (4/ 352)، و «مغني المحتاج» (4/ 187)، و «الإنصاف» (10/ 228). (¬2) «مجموع الفتاوى» (34/ 214). (¬3) حكي الإجماع ابن حزم والقاضي عياض وابن هبيرة وابن قدامة وابن حجر وغيرهم، لكن حكي الطبري وابن المنذر وغيرهما عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حدَّ فيها وإنما فيها التعزير، وانتصر لذلك الشوكاني - رحمهم الله -، وقدح في صحة الإجماع باختلاف الصحابة قبل إمارة عمر وبعدها، وهذا الاعتراض على التحقيق غير وارد لأن اختلافهم إنما هو فيما زاد على الأربعين، وأما الأربعين فلا خلاف فيها بدلالة مثل أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر في صدر خلافته.

شارب الخمر - يأتي بعضها - وأجمع الصحابة ومن بعدهم على جلد شارب الخمر، ثم اختلفوا في مقداره على قولين (¬1): الأول: مقداره أربعون جلدة: وهو مذهب الشافعي - ورواية عن أحمد - وداود وابن حزم وبه قال جمع من الصحابة - رضي الله عنهم -، وحجة هذا المذهب: 1 - حديث أنس قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين» (¬2). 2 - أن عثمان - رضي الله عنه - أمر عليًّا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: «اجلده، فجلده، فما بلغ الأربعين قال: أمسك، جَلَدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكُلٌّ سُنَّة، وهذا أحب إليَّ» (¬3). 3 - وعن السائب بن يزيد قال: «كنا نُؤتي بالشارب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإمرة أبي بكر، فصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين» (¬4). قالوا: ففيهما الجزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، واعتمده أبو بكر في خلافته، وعمر - رضي الله عنه - صدرًا من خلافته حتى تتابع الناس فيها فزادها أربعين «تعزيرًا». ولذا قال عليٌّ - رضي الله عنه -: «ما كنت لأقيم الحدَّ على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنَّه» (¬5). أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقدر فيه بقول تقديرًا لا يزاد عليه، ولذا زاد عمر أربعين أخرى بعدما استشار الصحابة تعزيرًا، لكن جلد عليٌّ أربعين فقط في خلافته وقال: «هذا أحب إليَّ». الثاني: مقدار الحدِّ ثمانون جلدة: وهو مذهب جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد، وهو القول الآخر عند الشافعية، واستدلوا بما يلي: ¬

(¬1) «ابن عابدين» (5/ 289)، و «الفواكه الدواني» (2/ 290)، و «مغني المحتاج» (4/ 187)، و «المغني» (9/ 137)، و «المحلي» (11/ 365)، و «نيل الأوطار» (7/ 146). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1706). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1707)، وأبو داود (4480)، وابن ماجة (2571). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6779)، وأحمد (15292). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (6778)، ومسلم (1707).

1 - ما يُروى «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر ثمانين» (¬1) وهو ضعيف لا تقوم به حجة. 2 - حديث أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، - قال: - وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر» (¬2). قالوا: فاتفق رأيهم على الثمانين فكان إجماعًا (!!). 3 - ما يُروى عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا سكر أهذى، وإذا أهذى افترى، وحدَّ المفتري ثمانون» (¬3) ولا يصحُّ عنه، بل ثبت عنه أنه جلد أربعين. قلت: الذي يترجَّح لديَّ هو القول الأول: أن الحدَّ أربعون، لأنه الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر صدرًا من خلافته، وأما ما زاده عمر - رضي الله عنه - واستشار فيه الصحابة، فإنه قد زاده على الحدِّ من باب التعزير لما رأى من اجتراء الناس وتتابعهم على شربها، ويؤيد هذا أمران: (أ) أن عمر تدرَّج بالجلد من أربعين إلى ستين ثم إلى ثمانين، فعنه «أن عمر - رضي الله عنه - جلد أربعين سوطًا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين، ثم قال: هذا أدنى الحدود» (¬4). (ب) أنه كان يضرب في وقت واحد أربعين وثمانين تبعًا للمصلحة، فقد «أُتي عمر بشارب، فقال لمطيع بن الأسود: إذا أصبحت غدًا فاضربه، فجاء عمر فوجده يضربه ضربًا شديدًا، فقال: كم ضربته؟ قال: ستين، قال: اقتصَّ منه بعشرين» (¬5). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 379) مرسلًا، وانظر «التلخيص» (4/ 72). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1706)، وأبو داود (4479)، والترمذي (1443)، وأحمد (11729). (¬3) ضعيف: أخرجه مالك (2/ 842)، والدارقطني (354)، والطحاوي (2/ 88)، والحاكم (4/ 375)، والبيهقي (8/ 320)، وانظر «الإرواء» (2378). (¬4) مرسل: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 377). (¬5) صححه الحافظ: عزاه الحافظ في «الفتح» (12/ 75) إلى أبي عبيد في «الغريب» وقال: إسناده صحيح.

قال أبو عبيد: «يعني: اجعل شدة ضربك له قصاصًا بالعشرين التي بقيت من الثمانين» اهـ وقال البيهقي: «ويؤخذ من هذا أن الزيادة على الأربعين ليست بحد إذ لو كانت حدًّا لما جاز النقص منه بشدة الضرب إذ لا قائل به» اهـ (¬1). وأما ادعاؤهم اتفاق الصحابة - بعد استشارة عمر لهم - على الثمانين وأنه إجماع، فهو متعقَّب بجلد عليٍّ للشارب أربعن، وكذلك عثمان - رضي الله عنهما. والذي يتحصَّل أن الحدَّ إنما هو أربعون، وللإمام أن يزيد عليها بحسب الحال تبعًا للمصلحة من باب التعزير، والله تعالى أعلم. فائدتان: صفة حد الشرب: 1 - صفة حد الشرب: يجوز ضرب الشارب بالجريد أو الأيدي أو النعال أو الثياب أو السوط بحسب الحال، وما تقتضيه المصلحة، ففي حديث السائب بن يزيد المتقدم: «... فتقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ...» الحديث (¬2). وعن أنس قال: «جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمر بالجريد والنعال ...» (¬3). هذا مذهب الشافعي واختيار شيخ الإسلام، وأما الجمهور (¬4) فقالوا: يقام الحد بالسوط كسائر الحدود، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا شرب الخمر فاجلدوه» (¬5). فأمر بجلده كما أمر الله بجلد الزاني فكان بالسوط مثله؛ ولأن الخلفاء الراشدين ضربوا بالسياط وكذلك غيرهم، وأما الأحاديث المتقدمة فكانت في بدء الأمر ثم استقر الأمر على الجلد بالسوط. قلت: وهذا له وجهه كذلك، والله أعلم بالصواب. 2 - لا يجوز لعنُ شارب الخمر تعيينًا، ولا سبُّهُ إذا أقيم عليه الحد: فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رجلًا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه ¬

(¬1) انظر «سنن البيهقي»، و «فتح الباري» (12/ 75 - سلفية). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «الهداية» (2/ 111)، و «القوانين» (310)، و «مغني المحتاج» (4/ 179)، و «المغني» (4/ 354)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 483). (¬5) صحيح: يأتي قريبًا.

عبد الله وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنْهُ، ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ أنه يحب الله ورسوله» (¬1). وعن أبي هريرة قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ماله أخزاه الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» (¬2). إذا تكرر منه الشرب وحُدَّ أكثر من ثلاث مرات: من شرب الخمر فَحُدَّ فيها ثلاث مرات ثم شربها الرابعة، فقد ورد في قتله جملة أحاديث عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها: حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه» (¬3). ونحوه من حديث ابن عمر ونفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن حديث معاوية ابن أبي سفيان وغيرهم. وقد كان لأهل العلم في هذه الأحاديث وما في معناها اتجاهان، خرج عليها ثلاثة أقوال (¬4): الاتجاه الأول: أن هذه الأحاديث منسوخة أو انعقد الإجماع على خلافها: وبهذا قال الأئمة الأربعة وغيرهم وعليه تتابعت كلمتهم، حتى قال الترمذي في «كتاب العلل» من «سننه» (5/ 736): «قال أبو عيسى: جمع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معلول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين ...» وذكر منهما حديث القتل. وقد استدلوا على النسخ بأمور: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6780). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6781). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (4484)، وأحمد (7704). (¬4) «المحلي» (11/ 365)، و «نيل الأوطار» (7/ 176)، و «الحدود والتعزيرات» (ص306 - 320).

1 - حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه» قال: فثبت الجلد ودرئ القتل. وفي لفظ: «فرأى المسلمون أن الحدَّ قد وقع، وأن القتل قد رُفع» (¬1). 2 - حديث قبيصة بن ذويب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قال - ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه» قال: فأتى برجل قد شرب فجلده ثم أتى قد شرب فجلده ثم أتى به وقد شرب فجلده، ثم أتى به في الرابعة قد شرب فجلده، فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة» (¬2). 3 - حديث عمر بن الخطاب في قصة جلد الرجل الذي كان يلقب حمارًا في الخمر، وفيه: فقال رجل عن القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله» (¬3). قال الحافظ (12/ 80): وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أُتي به أكثر من خمسين مرة. اهـ. 4 - حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬4). قالوا: فهذا تناول بعمومه شارب الخمر، لأنه ليس ممن استثنى في الحديث، فيفيد عدم حلِّ دمه (!!). وتُعقِّبت دعوى النسخ بهذا الحديث بأنها لا تصح، لأنه عام وحديث القتل خاص. 5 - واحتجوا على النسخ بدعوى الإجماع على خلاف حكمه، قال الشافعي - عقب حديث جابر في ترك القتل -: هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمتُه، وقال الترمذي: لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافًا في القديم والحديث. ¬

(¬1) أخرجه النسائي في «الكبرى»، والبيهقي (8/ 314)، والطحاوي (2/ 92). (¬2) إسناده مرسل: أخرجه أبو داود (4485)، والشافعي (291)، والبيهقي (8/ 314)، وعلَّقه الترمذي في الحدود. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6780). (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

الاتجاه الثاني: أن هذه الأحاديث محكمة ليست منسوخة: وهو قول أبي محمد بن حزم - رحمه الله -، وابن القيم، فاتفقا في المأخذ، لكنهما اختلفا في النتيجة، فقال ابن حزم: يُقتل في الرابعة حدًّا، وقال ابن القيم: يُقتل تعزيرًا حسب المصلحة، فإذا أكثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيرًا لا حدًّا. وقد ناقش كلاهما دعوى نسخ الأمر بقتل الشارب في الرابعة، ودعوى الإجماع على ذلك بما يلي: 1 - تضعيف ابن حزم للأحاديث التي فها التصريح برفع القتل. 2 - أن ادعاء النسخ بالحديث الخاص - كحديث عبد الله الملقب حمارًا - إنما يتم بثبوت تأخره والإتيان به بعد الرابعة، ومنافاته للأمر بقتله. 3 - أن ادعاء النسخ بحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ...» لا يصح لأنه عام وحديث القتل خاص. 4 - أن دعوى الإجماع يقدح فيها أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «ائتوني به في الرابعة فعليَّ أن أقتله» (¬1). قالوا: وهذا كافٍ في نقص الإجماع أو نفي ادعائه. الترجيح: الذي يظهر لي أن قول الجماهير من العلماء من أن قتل الشارب في الرابعة منسوخ أقوى لثبوت النص بذلك، وكذلك للإجماع عليه، وأما أثر عبد الله بن عمرو فهو ضعيف منقطع، فلا تقوم به حجة، ولا تتم دعوى نقص الإجماع به، وحتى لو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعَدَّ ذلك من نزره المخالف (¬2). لكن .. إذا أدمن الناس شربها وانهمكوا فيها وتهالكوا في شربها، ولم يكن الحد بالجلد زاجرًا لهم، فهل للإمام أن يُعزِّر الشارب المتهالك بالقتل صيانة للعباد وردعًا للفساد من باب السياسة الشرعية للمصلحة كما اختاره ابن تيمية وابن القيم؟! هذا موضع نظر واجتهاد، والله أعلم. ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (6752)، والطحاوي (2/ 91)، وابن حزم (11/ 366) وهو منقطع بين الحسن وعبد الله بن عمرو. (¬2) انظر «فتح الباري» (12/ 82 - سلفية).

ما يثبت به حَدُّ الخمر (¬1): 1 - الإقرار: أي اعتراف الشارب بشربه للخمر، ويكفي فيه مرة واحدة في قول عامة أهل العلم، ولا يشترط مع إقرار وجود رائحة الفم - خلافًا لأبى حنيفة - لأنه ربما يُقرُّ بعد زوال الرائحة عنه. 2 - البيِّنة: وهي أن يشهد رجلان عدلان مسلمان أنه شرب مسكرًا، ولا يحتاجان إلى تفصيل في نوع المشروب، ولا إلى ذكر الإكرام أو عدمه، ولا ذكر علمه أنه مسكر؛ لان الظاهر الاختيار والعلم. فعن حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان وأُتى بالوليد بن عقبة قد صلَّى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد الآخر أنه رآه يتقيَّأ، فقال عثمان: «إنه لم يتقيأ حتى شربها» فقال: «يا عليُّ، قم فاجلده» فقال عليٌّ: «قم يا حسن فاجلده» فقال الحسن: وَلِّ حارَّها من تولى قارَّها، فقال: «يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده» فجلده وعليٌّ يعدُّ حتى بلغ أربعين فقال: «أمسك» ... الأثر (¬2). فاعتبر عثمان وعليٌّ شهادة الرجلين ولم يستفصلا عن شيء مما ذكرنا. هل تعتبر رائحة الخمر في الفم أو تقيُّؤ الخمر بمثابة البينة؟ اختلف العلماء في وجوب الحد بوجود الرائحة في الفم أو القيء على ثلاثة أقوال (¬3): الأول: لا يجب الحدُّ بوجود الرائحة من الفم أو القيء: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، قالوا: لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها، أو حسبها ماءً فلما صارت في فيه مجَّها، أو ظنَّها لا تُسكر أو كان مكرهًا، أو أكل نبقًا بالغًا، أو شرب شراب تفاح، فإنه يكون منه رائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يُدرأ بالشبهة (¬4). ¬

(¬1) «المغني» (9/ 138 - الفكر)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 239)، و «التشريع الجنائي» (2/ 509). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1707) وقد تقدم. (¬3) «المبسوط» (24/ 31) و «القوانين الفقهية» (310)، و «المتقى» (3/ 142)، و «مغني المحتاج» (4/ 190)، و «المغني» (10/ 332 - مع الشرح الكبير)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 339)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 325 - 342). (¬4) انظر: «المغني» لابن قدامة (س10/ 332 - مع الشرح الكبير).

الثاني: يجب إقامة الحد بالرائحة أو القيء: وهو مذهب مالك، وأحمد في الرواية الأخرى عنه، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وحجتهم أن هذا القول هو مقتضى ما حكم به الصحابة - رضي الله عنهم - كعمر وعثمان وابن مسعود: 1 - فعن السائب ين يزيد «أنه حضر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يجلد رجلًا وجد منه ريح شراب، فجلده الحدَّ تمامًا» (¬1). وأجيب: بأن هذا السياق فيه اختصار مخل، وإلا ففي رواية معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد - نفسه - قال: شهدت عمر بن الخطاب صلَّى على جنازة ثم أقبل علينا، فقال: «إني وجدت من عبيد الله ريح الشراب، وإني سألته عنها، فزعم أنها الطلاء، وإني سائل عن الشراب الذي شرب، فإن كان مسكرًا جلدته» قال: فشهدته بعد ذلك يجلده (¬2). ومدار الأثر على السائب بن يزيد عن عمر فدلَّ على أن القصة واحدة، وعليه فإن جلد عمر لابنه عبيد الله كان لإقراره بأنه شرب الطلاء وقد علم أنه مسكر، ولم يجلده بمجرد وجود الرائحة، فلا يبقى فيه متعلق لمن أوجب الحدَّ بالرائحة، وهو واضح. 2 - وعن حصين بن المنذر قال: «شهدا عثمان - رضي الله عنه - وأتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها ...» الأثر وقد تقدم وفيه أنه جلده (¬3). وأجيب بأنه ظاهر في أن عثمان - رضي الله عنه - لم يحدَّ الوليد بمجرد القيء للخمر، وإنما بانضمام ذلك إلى شهادة حمران بأنه شربها، ولذا لم يترجمه الأئمة الذين أخرجوه بما يفيد الحدُّ بالقيء!! 3 - وعن علقمة قال: «كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود - رضي الله عنه - سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أُنزلت، فقال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أحسنت» ¬

(¬1) أخرجه بهذا السياق عبد الرزاق (10/ 228). (¬2) إسناده صحيح: علَّقه البخاري في «الصحيح» (10/ 62)، ووصله الشافعي (296)، ومالك (2/ 178)، وعبد الرزاق (10/ 228) واللفظ له. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا.

ووجد منه ريح الخمر، فقال: أتجمع أن تكذب بكتاب الله، وتشرب الخمر، فضربه الحدَّ» (¬1). وأجيب: بأن دلالته غير مسلَّم بها، لاحتمال أن يكون الرجل اعترف بشرب الخمر بلا عذر، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. ولذا فإن البخاري - رحمه الله - ذكر هذا الأثر في (كتاب فضائل القرآن) ولم يترجم واقعة الخمر منه في كتاب الحدود، مع دقة فهمه وقوة استنباطه - رحمه الله - (!!) وكذلك فعل الإمام مسلم حين ذكره في زمرة أحاديث فضائل القرآن، وترجم له النووي (باب: فضل استماع القرآن) (¬2). 4 - أن الحكم بحد الشارب بالقرينة الظاهرة عليه اتفاق الصحابة، إذ لا يُعرف لعمر وابن مسعود في حكميهما السابقين مخالف من الصحابة!! وأجيب بأنه قد وقع عند الإسماعيلي النقل عن عليٍّ أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يشهد عليه، ذكره الحافظ في الفتح (¬3). الثالث: أن الحد بالرائحة لا يجب إلا بضميمة قرنية إليه تنفي الشبهة فيحذر حينئذ: وبه قال جماعة من السلف منهم عمر - رضي الله عنه - وابن الزبير - رضي الله عنه -، وعطاء، وإليه مال ابن قدامة - رحمهم الله تعالى - وهو اختيار العلامة بكر أبو زيد أمتع الله بحياته ونفع بعلمه. قلت: ولعلَّ هذا الأخير هو الأقرب، الذي تلتئم به الأدلة ويجتمع شملها، وعليه فإن الحدَّ بالرائحة والقيء يكون في الصور الآتية (¬4): (أ) أن يكون من وجدت منه الرائحة مشهورًا بإدمان شرب الخمر، وبها قال عمر - رضي الله عنه - (¬5). (ب) أن يوجد جماعة الفساق على شراب فيكون في بعضهم سُكر، والبعض تنبعث الرائحة من فمه، فيحدُّ الجميع، وبها قال عمر بن عبد العزيز وعطاء (¬6). (جـ) أن يوجد مع الرائحة عوارض السُّكر والتقيؤ، كما ذكر ابن قدامة. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5001)، ومسلم (3580) واللفظ للبخاري. (¬2) أفاده العلامة بكر أبو زيد - حفظه الله - في «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» (ص 336). (¬3) «فتح الباري» لابن حجر (9/ 50). (¬4) «الحدود والتعزيرات» (ص: 340 - 341). (¬5) انظر «مصنف عبد الرزاق» (10/ 228). (¬6) انظر «مسند الشافعي» (298)، و «مصنف عبد الرزاق» (17037).

(ر) أن يشهد على شخص شاهدان أحدهما بالشرب والثاني بالرائحة أو القيء كما في قصة عثمان. وأما الحدُّ بمجرد الرائحة ونحوها، فقد وقع ما يدل على أن ذلك غير موجب للحد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «شرب رجل فسكر، فلقي يميل في الفج، فانطلق به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك، فقال: أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء» (¬1). قال الخطابي - رحمه الله -: يحتمل أن يكون إنما لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس - رضي الله عنه - من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه أو شهادة عدول، وإنما لقي في الفج يميل، فظن به السُّكر، فلم يكشف عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وتركه على ذلك، والله أعلم. اهـ. هل يُحدُّ السكران حال سكره؟ أو بعد صحوه؟ (¬2) ذهب عمر بن عبد العزيز والشعبي والثوري وأبو حنيفة والشافعي إلى أن السكران لا يحدُّ حتى يصحو، وحجتهم أن المقصود بالحد الزجر والتنكيل، وحصولهما بإقامة الحد عليه في صحوه أتمُّ، فينبغي أن يؤخر إليه، لأن السكران لا يعقل ذلك. وقالت طائفة: يُجلد حين يؤخذ، وبه قال ابن حزم، قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بالشارب فأقر فضربه ولم ينتظر أن يصحو، والنظر لا يدخل على الخبر الثابت، فالواجب أن يحد حين يؤتى به إلا أن يكون لا يحسُّ أصلًا، ولا يفهم شيئًا فيؤخر حتى يحسَّ، وبالله تعالى التوفيق. اهـ. مجالسة شاربي الخمر، وهل يُحدُّ غير شاربها؟ (¬3) يحرم مجالسة شاربي الخمر وهم يشربونها، أو الأكل على مائدة يُشرب عليها شيء من المسكرات خمرًا كان أو غيره، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر» (¬4). ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (4476). (¬2) «المحلي» (11/ 371)، و «المغني» (9/ 140). (¬3) «المحلي» (11/ 371)، و «كشاف القناع» (6/ 118). (¬4) حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (2801)، وأبو داود (3774)، وأحمد (126 - 14241)، والدرامي (2092) وله طرق يحسن بمجموعها، وانظر «الإرواء» (1949).

(4) حد السرقة

ويحرم على المسلم المكلف أن يسقي غيره الخمر ولو كان صبيًّا أو مجنونًا أو كافرًا، لقوله- صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» (¬1). وقد اختلفوا في غير شاربها - من هؤلاء - هل يحدُّ كذلك؟ فروي عن ابن عامر ومروان بن الحكم أنه يُجلد كذلك. والصحيح أنه ليس عليه الحدُّ؛ لأن الحدَّ إنما ثبت في أصناف معينة منهم شارب الخمر، وأما غيره فلم يأت في إيجاب الحدِّ عليه قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب، قلت: لكن للإمام أن يؤدِّبه ويعزّره بما فيه المصلحة والله أعلم. (4) حَدُّ السَّرِقَة تعريف السرقة: السرقة لغة: أخذ ما ليس له أخْذُه خفية. واصطلاحًا: أخذ مالٍ محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله بلا شبهة له فيه، على وجه الاختفاء (¬2). حكم السرقة، وحدُّها: السرقة من الكبائر، وقد اتفقت كلمة العلماء على تحريمها، وحدُّها ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة. 1 - قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالًا من الله والله عزيز حكيم} (¬3). 2 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» (¬4). 3 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقًا في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم» (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3657)، وابن ماجة (3380). (¬2) «كشاف القناع» للبيهقي (6/ 129). (¬3) سورة المائدة: 38. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (6795)، ومسلم (1686).

4 - وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها» (¬1). 5 - وقد أجمعوا على أن قطع يد السارق يجب، إذا شهد عليه بالسرقة شاهدان عدلان مسلمان حُرَّان (¬2). حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده (¬3): من ضروريات التعايش الآمن وبناء العمران المطمئن صيانة الأموال والمحافظة عليها فكان من حكمة الله ورحمته بعباده أن فرض العقوبة الرادعة لكل سارق يفسد على الناس معاشهم ويخل بأمنهم على أموالهم. ففرض عقوبة قطع اليد من السارق. وجاء في نص صريح محكم وتنزيل يتلى فقال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (¬4). وفي هذه الآية، جماع القول بالحكمة (جزاءًا بما كسبا نكالًا من الله). فبيّن سبحانه أن (القطع) هو الحكم المطابق لمجازاة (السارق) لا نقص ولا شطط فلم يجعل عقوبته الجلد، فيكون جزاءً ناقصًا عن مقابلة الجرم. ولم يجعله إعدامًا للنفس فيكون فيه مجاوزة لما يستحقه الجرم. وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (إن عقوبة القطع للسارق أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد. ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل، فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم). وقال أيضًا: (ولم يشرع في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدالته لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان. ويقنع كلّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقَّه). وقال أيضًا: ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688). (¬2) «الإجماع» لابن المنذر (621). (¬3) نقلًا من «الحدود والتعزيرات» لبكر أبو زيد - حفظه الله - ص (351 - 352). (¬4) سورة المائدة: 38.

(إن المقصود هو الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كفّ عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحًا وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح. ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرًّا كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون (فلان ينظر إلى فلان مسارقة) إذا كان ينظر إليه نظرًا خفيًّا لا يريد أن يفطن له. والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء. واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران. ولهذا يقال: (وصلت جناح فلان) إذا رأيته يسير منفردًا، فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق يقطع اليد قصًّا لجناحه، وتسهيلًا لأخذه أن عاود السرقة. فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفًا في العدو. ثم تقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفًا في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب. ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة. ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحمًا على وضم فيستريح ويريح). شبهات حول قطع يد السارق، وردُّها: قال العلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره -في كتابه القيم «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» ما نصُّه: أورد ابن القيم - رحمه الله تعالى - التساؤل المشهور من نفاة القياس والحكم والتعليل من وجود التفريق بين المتماثلين. والجمع بين المختلفين. وفي هذا ذكر إيرادهم في السرقة وكشف عنها بما لا يدع لقائل مقالًا. ونفاة القياس إنما أوردوا هذا وأمثاله لفك شرعية القياس لا للقدح في حكم السرقة فحاشاهم بل هم مؤمنون بحكم الله ودينه وشرعه ولا يعتريهم في ذلك شك ولا يساورهم فيه وهم. أما في عصرنا فهذه الإيرادات ونحوها هي النافذة الموهومة التي نفث منها - المستشرقون وأذنابهم - بإلقاء الشبه وتكوين الشكوك لا في هذا الحد (قطع السارق) فحسب بل ليتدرجوا بالرعاع من أولاد المسلمين، الغرباء عن إسلامهم - إلى ترك الإسلام جملة وتفصيلًا؟

ولكن نقول بكل ثبات: وأنى لهم أن يتم ذلك؟؟؟. {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (¬1). وابن القيم - رحمه الله تعالى - في مباحثه هذه كأنما أعطى - رحمه الله تعالى - نسخة من شبه المستشرقين فكر عليها بالنقض والرفض حتى أصبحت أثرًا بعد عين بل ولا أثر. لهذا فإنني أورد هذه الإيرادات على لسان مورد الشبه والاعتراض {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (¬2). الاعتراض الأول: أن العقوبة بالقطع محض ضرر السارق. نعى ابن القيم على المتباكين على هؤلاء اللصوص، الذين يقولون أن القطع شر محض على المقطوع فقال: (السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه. وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم. وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرًا وحكمًا. لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه يذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة ... أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة وأما ما نسب إلى الربّ منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة؟ فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم. فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته. ولا تلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلًا وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة؟. وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلًا بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد ¬

(¬1) سورة الحجر: 9. (¬2) سورة الأنفال: 42.

الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} (¬1). وقوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (¬2). وقوله: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} (¬3). فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزّه سبحانه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزّته وإلهيته لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوًا كبيرًا. وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان. وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام موضع العقوبة والانتقام كما إذا جاء من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة، وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر: نعمة الله لا تعاب ولكن ربما استقبحت على أقوام هذا ما قرره ابن القيم بحماس متدفق ضد هذا الاعتراض المريض المتلخص: أن في هذه العقوبة حماية للمجتمع من ضرر هذه الجريمة، واهتمامًا بتهذيب المجرم وتطهيره مع إبداء كمال المناسبة بين الجريمة والعقاب. ويطيب لي في هذا المقام أن أذكر ما أوضحه الأستاذ عبد الكريم زيدان، في تفنيد هذا الاعتراض ونقضه فقال: (أما صيرورة المقطوع عالة على المجتمع فهذا إذا كان صحيحًا فمن الصحيح أيضًا أن يقال: أن صيرورة المقطوع عالة على المجتمع، وقد انكف إجرامه، خير له وللمجتمع من أن يبقى مجرمًا سليم اليدين ينال كسبه من السحت الحرام أما الاستعاضة عن القطع بالحبس مع التربية والتوجيه، فالرد على هذا أن الطواف على ¬

(¬1) سورة القلم: 36. (¬2) سورة الجاثية: 21. (¬3) سورة ص: 28.

السجون وعد نزلائها يرينا أنهم بازدياد دائم. فما ردعت السجون عن جريمة السرقة إلا قليلًا. بل أن السجن أصبح مكانًا أمينًا للسراق يتواجدون فيه ويلتقون ويتبادلون خبراتهم في عالم السرقة والإجرام. أما قطع اليد فإنها كفيلة بقطع دابر السرقة أو تقليلها إلى حد كبير جدًّا، والتاريخ خير شاهد على ما نقول فإن هذه العقوبة آتت أكلها وثمرتها للناس فعاشوا بأمان من السرقة والسراق). الاعتراض الثاني: كيف يكون القطع لمن سرق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاضبها. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الجواب عن ذلك: (هذا من تمام حكمة الشارع: فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه. فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضًا. وعظم الضرر. واشتدت المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس. فيمكنهم أن يأخذوا على يديه. ويخلصوا حق المظلوم. أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه. وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس. فليس كالسارق. بل هو بالخائن أشبه. وأيضًا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبًا، فإنه الذي يقاتلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه. وهذا يمكن الاحتراز منه غالبًا فهو كالمنتهب. وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر وهو أولى بعدم القطع من المنتهب. ولكن يسوغ كفْ عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال). ومدار الدفع من ابن القيم لهذا الاعتراض: هو توفر الحرز في السرقة وهو غاية ما يملكه الناس من الاحتراز. مع اختفاء السارق. وهذا المعنى لا يوجد في كل من المنتهب والمختلس. والغاصب على ما أوضحه - رحمه الله تعالى -.

الاعتراض الثالث: التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها فإن ديّتها خمسمائة دينار وبين عقوبتها بالقطع إذا سرق فإن نصاب السرقة الموجب للقطع ثلاثة دراهم؟. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الجواب عن ذلك: (وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار: فمن أعظم المصالح والحكمة. فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف: فقطعها في ربع دينار حفظًا للأموال. وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظًا لها وصيانة. وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال وضمنه بيتين فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من العار فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت. وضمنه الناظم قوله: يد بخمس مئين عسجد وديت لكنها قطعت في ربع دينار حماية الدمّ أغلاها، وأرخصها خيانة المال، فانظر حكمة الباري وروى أن الشافعي - رحمه الله تعالى - أجاب بقوله: هناك مظلومة غالت بقيمتها وههنا ظلمت هانت على الباري وأجاب شمس الدّين الكردي بقوله: قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار لا تقدحن زناد الشعر عن حكم شعائر الشرع لم تقدح بأشعار فقيمة اليد نصف الألف من ذهب فإن تعدت فلا تسوى بدينار ومنه يتضح للمنصف أن هذا التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها وبين نصاب القطع إذا جنت هو عين الحكمة والعدل والصيانة لأبدان الناس وأموالهم. وهذا الاعتراض الآثم أورده جماعة من العلماء ولكن لا يخرجون في جوابهم عما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى -. وهو نقض جلي مبناه على التفاوت العظيم بين الجنايتين.

وممن أورده الحافظ بن حجر في (فتح الباري). وفي (لسان الميزان) وقال: (قال السلفي: إن كان المعرى قال هذا الشعر معتقدًا معناه فالنار مأواه وليس له في الإسلام نصيب). حكمة التشريع في جعل نصاب السرقة ربع دينار: وابن القيم - رحمه الله تعالى - بعد نقض هذا الاعتراض يتحفنا بحكمة الشرع في تخصيص القطع بهذا القدر (ربع دينار) زيادة منه في نقضن مقالة العرى وأضرابه فيقول: (وأما تخصيص القطع بهذا القدر: فلأنه لابد من مقدار يجعل ضابطًا لوجوب القطع، إذ لا يمكن أن يقال: يقطع بسرقة فلس أو حبة حنطة أو تمرة، ولا تأتي الشريعة بهذا وتنزه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك. فلابد من ضابط: وكانت الثلاثة دراهم أول مراتب الجمع، وهي مقدار ربع دينار. وقال إبراهيم النخعي وغيره من التابعين: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه. فإن عادة الناس التسامح في الشيء الحقير عن أموالهم، إذ لا يلحقهم ضرر بفقده. وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة: فإنها كفاية المقتصد في يومه له. بم يثبت حدُّ السرقة؟ يثبت حدُّ السرقة، ويجب الحدُّ بأحد أمرين: 1 - البيِّنة: وهي أن يشهد رجلان عدلان مسلمان حرَّان أمام القاضي بأن فلانًا سرق كذا، وعلى هذا إجماع الأمة (¬1). 2 - الإقرار: بأن يعترف السارق على نفسه أنه سرق، وقد اختلف أهل العلم في عدد الإقرار على قولين (¬2): الأول: لابُدَّ من إقراره مرتين: وهو مذهب الحنابلة، وحجتهم: 1 - حديث أبي أمية المخزومي - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بلصٍّ قد اعترف ¬

(¬1) المراجع التالية. (¬2) «فتح القدير» (5/ 126)، و «بداية المجتهد» (2/ 454)، و «نهاية المحتاج» (7/ 140)، و «المغني» (10/ 292).

اعترافًا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما إخالك (¬1) سرقت» قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر به فقطع ...» (¬2). قالوا: فلم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين. 2 - أن هذا قضاء عليٍّ - رضي الله عنه -، فعن القاسم بن عبد الرحمن بن مسعود عن أبيه قال: جاء رجل إلى عليٍّ بن أبي طالب فقال: إني سرقت، فردَّه، فقال: إني سرقتُ، فقال: «شهدت على نفسك مرتين» فقطعه، قال عبد الرحمن: فرأيت يده في عنقه معلّقة (¬3). 3 - ولأنه يتضمن إتلافًا في حد، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا؛ ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة!! الثاني: يكفي إقرار مرة واحدة: وبه قال عطاء والثوري وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وحجتهم: 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد سارق المجن، وسارق رداء صفوان، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بتكرار الإقرار، وما وقع من التكرار في بعض الحالات فهو من باب التثبت. 2 - ولأنه حق يثبت بالإقرار، فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي. 3 - ولأن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة، فيكتفى به كما في القصاص وحدِّ القذف. قلت: أما حديث أبي أمية المخزومي فهو ضعيف، والذي يترجَّح لي أنه يكفي مرة لكن يستحب للقاضي أن لا يتسرع في إقامة الحد، وأن يراجعه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقضاء عليٍّ - رضي الله عنه -، ولما فيه من الاحتياط والتثبت في إقامة الحد، والله أعلم. 3 - هل يثبت الحد باليمين المردودة؟ (¬4). إذا ادعى شخص على آخر سرقة نصاب، فأنكر المدعى عليه السرقة، فطلب ¬

(¬1) أي: ما أظنك. (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4380)، والنسائي (8/ 67)، وابن ماجة (2597)، وانظر «الإرواء» (2426). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 191)، وابن أبي شيبة، والطحاوي (2/ 97)، والبيهقي (8/ 275). (¬4) «البحر الرائق» (7/ 240)، و «روضة الطالبين» (10/ 143)، و «مغني المحتاج» (4/ 175)، و «حاشية البجيرمي على المنهج» (4/ 235)، و «المغني» (12/ 124 - مع الشرح الكبير).

المدعى منه أن يحلف لإثبات براءته، فنكل (أي: امتنع) عن اليمين، رُدَّت اليمين على المدعى، فإن حلف أن المدعى عليه سرق ما ادعاه، فهل يثبت الحد بهذه اليمين؟ قولان: فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة - وهو مقابل الأصح عند الشافعية - إلى أن المال المسروق يثبت بهذه اليمين المردودة، لكن لا يقام الحد إلا بالإقرار أو البيِّنة، لأن القطع في السرقة حق الله تعالى وهو لا يثبت إلا بهما. وقال الشافعية: في الأصح عندهم - تثبت السرقة بيمين المدعى المردودة ويقام الحدُّ، ومقابل الأصح عند الشافعية هو المعتمد في المذهب؛ لأنه نصُّ الشافعي في الأم. 4 - هل يثبت الحد بالقرائن؟ جمهور الفقهاء على أن حدَّ السرقة لا يثبت إلا بالإقرار أو البيِّنة؟. ويرى بعضهم جواز ثبوت السرقة - ومن ثم إقامة الحد وضمان المال - بالقرائن والأمارات إذا كانت ظاهرة الدلالة باعتبارها من السياسة الشرعية التي تخرج الحق من الظالم الفاجر. قال ابن القيم - رحمه الله -: «لم يزل الأئمة يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرَّق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نصٌّ صريح لا تتطرَّق إليه شبهة» اهـ (¬1). واستدل - رحمه الله - بقصة يوسف - عليه السلام - وإخوته إذ قالوا: {تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين - إلى قوله - فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه} (¬2) الآيات. قال: «فيها دليل على أن وجود المسروق بيد السارق كاف في إقامة الحد عليه، بل هو بمنزلة إقراره، وهو أقوى من البينة، وغاية البيِّنة أن يستفاد منها الظن، وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين» (¬3) اهـ. شروط وجوب قطع السارق: للسرقة أركان أربعة: السارق، والمسروق منه، والمال المسروق، وطريقة ¬

(¬1) «الطرق الحكيمة» (ص: 8). (¬2) سورة يوسف: 73 - 76. (¬3) «إعلام الموقعين» (3/ 232).

الأخذ، ولا يجب حد السرقة إلا يتوفر شروط تتعلق بكل ركن من هذه الأركان، وإليك أهم هذه الشروط وما يتعلق بها من مناقشات: أولًا: شروط تعتبر في السارق: يشترط في السارق حتى يستوجب حدَّ السرقة ما يلي: 1، 2 - التكليف والاختيار: فلا يُحدُّ غير المكلف، كالمجنون والصغير، فإذا سرق الصغير أُدِّب. وكذلك لا يحدُّ المكره الذي لا اختيار له، وقد تقدمت أدلة هذين الشرطين مرارًا. 3 - القصد: بمعنى أن يكون عالمًا بتحريم السرقة، وأنه يأخذ مالًا مملوكًا لغيره دون علم مالكه وإرادته، وأن تنصرف نيته إلى تملكه. 4 - انتفاء الشبهة: بمعنى أن لا يكون للسارق شبهة في المال المسروق، فإن الحدَّ يُدرأ بالشبهة. ومن الشبهات التي يذكرها العلماء في هذا الباب ما يلي: (أ) أن يسرق من شيء له فيه حق (¬1): وهذا له صور، منها: 1 - سرقة الوالد من مال ولده: فهذه شبهة دارئة للحدِّ في قول عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، فلا يُقطع عندهم الوالد فيما أخذ من مال ولده، لأنه أخذ ما يحق له أخذه، فعن جابر - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنت ومالك لأبيك» (¬2). واللام في قوله (لأبيك) للتمليك، ففي هذا شبهة الانبساط بين الأب وابنه، فلا يجوز قطع من أخذ ما جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مالًا له مضافًا إليه. قال الشافعي: وكذلك الأجداد والجدات، كيف كانوا، لا قطع عليهم فيما سرقوه من مال من تليه ولادتهم. وخالف ابن حزم فقال: يُقطع الوالد - كغيره - إذا سرق من مال ابنه لعموم آية ¬

(¬1) «فتح القدير» (5/ 144)، و «جواهر الإكليل» (2/ 293)، و «نهاية المحتاج» (7/ 435)، و «المغني» (10/ 284)، و «كشاف القناع» (6/ 141)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 378). (¬2) صحيح بمجموع الطرق: وانظر «الإرواء» (838).

القطع، وأجاب عن الحديث بأنه منسوخ بآيات المواريث وغيرها، قال: ولا يخالف أحد في أن الوالدين إذا احتاجا فأخذا من مال ولدهما حاجتهما باختفاء أو بقهر أو كيف أخذاه فلا شيء عليهما، فإنما أخذا حقهما، وإنما الكلام فيهما إذا أخذا ما لا حاجة بهما إليه إما سرًّا وإما جهرًا. اهـ. مختصرًا (¬1). قلت: الحق أن الحديث مقصور على سببه وليس له عموم - لا أنه منسوخ - لإجماع العلماء على أن الولد يرث مع أبيه بل ويكون نصيه - أحيانًا - أكبر من أبيه، فصح أن للولد مالًا ولأبيه مالًا، ومع هذا فقول الجمهور بدرء الحدِّ عن الوالد إذا سرق من مال ولده أقوى؛ لأنه لا يقاد به، فلم يقطع به من باب الأولي، وإنما أتى ابن حزم من جهة أنه لا يقول بقياس الأولى (!!)، والله أعلم. 2 - سرقة الولد من والده: ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه لا قطع على الولد ولا على البنت فيما سرقاه من مال الوالدين أو الأجداد أو الجدات، لأن الابن يتبسَّط في مال والديه عادةً. وذهب مالك وأبو ثور وابن حزم إلى أنه يقطع عملًا بظاهر الآية، وهو عام لا مخصَّص له. قلت: لا ينبغي أن يُطلق الحكم هنا، فمتى كان الانبساط للابن في مال الأب لم يقطع بأخذه، ومتى كان محجوبًا عنه قطع والله أعلم. 3 - سرقة الأقارب بعضهم من بعض (¬2): ذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابهُ: لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم، كالأخ والأخت والعم والعمة، والخال والخالة؛ لأن دخول بعضهم على بعض دون إذن عادة يعتبر شبهة تسقط الحدُّ، ولأن قطع أحدهم بسبب سرقته من الآخر يفضي إلى قطع الرحم، وهو حرام. أما من سرق من ذي رحم غير محرم كابن العم أو بنت العم، وابن العمة أو بنت العمة، وابن الخال أو بنت الخال، وابن الخالة أو بنت الخالة، فيقام عليه حد السرقة - عندهم - لأنهم لا يدخل بعضهم على بعض عادة!! وأما الجمهور - ومعهم ابن حزم - فذهبوا إلى أن سرقة الأقارب بعضهم من ¬

(¬1) «المحلي» (11/ 345). (¬2) «البدائع» (7/ 75) والمراجع السابقة.

بعض ليست شبهة تدرأ الحد عن السارق، ولهذا أوجبوا القطع على من سرق من مال ذي رحم، محرمًا أو غير محرم. قلت: وهو الصواب لعموم آية القطع، ولا دليل على تخصيصها بغير الأقارب. 4 - سرقة أحد الزوجين من الآخر (¬1): ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم إقامة الحد إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر، وكانت السرقة من حرز قد اشتركا في سكناه، لاختلال شرط الحرز، وللانبساط بينهما في الأموال عادة، ولأن بينهما سببًا يوجب التوارث بغير حجب (!!). أما إذا كانت السرقة من حرز لم يشتركا في سكناه، أو اشتركا في سكناه ولكن أحدهما منع من الآخر مالًا أو حجبه عنه، فاختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: لا قطع على واحد منهما: وهو قول أبي حنيفة وقول عند الشافعية والرواية الراجحة عند الحنابلة، قالوا: وذلك لما بين الزوجين من الانبساط في الأموال عادة ودلالة، وقياسًا على الأصول والفروع، ولأن بينهما سببًا يوجب التوارث من غير حجب. واستدل بعضهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ...» (¬2). قالوا: فكلاهما كالمودَّع والمأذون له في الدخول، فلا يقطع بسرقته منه. الثاني: يُقطع الزوج دون زوجته: وهو قول للشافعية فيقطع الزوج إذا سرق من مال زوجته ما هو محرز عنه، ولا تقطع الزوجة إذا سرقت من مال زوجها ولو كان محرزًا عنها، قالوا: لأن الزوجة تستحق النفقة على زوجها، فصار لها شبهة تدرأ عنها الحد (!!) وربما استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة إذ أخبرته أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها وولدها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «خذي ما يكفيك وولدك ¬

(¬1) «البدائع» (5/ 75)، و «مغني المحتاج» (4/ 162)، و «المدونة» (16/ 76)، و «المغني» (10/ 287)، و «كشاف القناع» (6/ 141)، و «المحلي» (11/ 347). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1839).

بالمعروف» (¬1) قالوا: فأطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدها على مال زوجها تأخذ ما يكفيها وولدها فهي مؤتمنة عليه كالمستودع، بخلاف الزوج فقد قال تعالى: {وأتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} (¬2). الثالث: يجب الحدُّ على السارق منهما لمال الآخر: وهو مذهب المالكية والراجح عند الشافعية والرواية الأخرى عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم، لعموم آية السرقة، ولأن الحرز هنا تام، وربما لا يبسط أحدهما للآخر في ماله، فأشبه سرقة الأجنبي، وأما استدلال الأولين بحديث «كلكم راع ...» فقد أجاب عنه ابن حزم - رحمه الله - فقال: وهو أعظم حجة عليهم لأنه - عليه السلام - أخبر أن كل من ذكرنا راع فيما ذكر وأنهم مسئولون عما استُرعوا من ذلك، فإذ هم مسئولون عن ذلك، فبيقين يدري كل مسلم أنه لم تبح لهم السرقة والخيانة فيما استودعوه، وأسلم إليهم، وأنهم في ذلك إن لم يكونوا كالأجنبيين والأباعد، ومن لم يسترع، فهم بلا شك أشد إثمًا وأعظم جرمًا وأسوأ حالة من الأجنبيين ... فأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين ولابد ... وأما قولهم: إن كليهما كالمودع وكالمأذون له في الدخول، فأعظم حجة عليهم؛ لأنهم لا يختلفون أن المودع إذا سرق مما لم يودع عنده - لكن من مال لمودع آخر في حرزه - وأن المأذون له في الدخول لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول لوجب القطع عليهما عندهم بلا خلاف، فيلزمهم بهذا التشبيه البديع بالضد أن لا يسقطوا القطع عن الزوجين فيما سرق أحدهما من الآخر إلا فيما أؤتمن عليه ولم يحرر منه ... اهـ (¬3). وأما استدلال من فرق بين سرقة الزوج وسرقة الزوجة بحديث هند بنت عتبة، فالجواب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها ولا على أكثر من حقها، فلها ما أخذت بالحق، وعليها ما افترض الله تعالى من القطع فيما أخذت بوجه السرقة (¬4). قلت: والذي يظهر أن لا يُطرد حكم واحد، بل في كل قضية بما يناسبها على نحو ما ذكرته في سرقة الابن من مال والده، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714). (¬2) سورة النساء: 20. (¬3) «المحلي» (11/ 348). (¬4) «المحلي» (11/ 349) باختصار.

5 - سرقة الشريك من مال الشركة (¬1): فذهب الحنفية والشافعية - في الأصح عندهم - والحنابلة إلى عدم إقامة الحد على الشريك إذا سرق من مالك الشركة؛ لأن للسارق حقًّا في هذا المال، فكان هذا الحق شبهة تدرأ عنه الحد. واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «درأ القطع عن عبد من رقيق الخمس سرق الخمس» (¬2). وهو حديث ضعيف لا يحتج به. وقال المالكية: يقطع إن تحقق شرطان، أحدهما: أن يكون المال في غير الحرز المشترك، والآخر: أن يكون فيما سرق من حصة صاحبه فضل عن جميع حصته ربع دينار فصاعدًا. وعند الشافعية قول آخر: أنه يقطع؛ لأنه لا حق للشريك في نصيب شريكه، فإن أخدًا زائدًا على حقه (نصيبه) بمقدار النصاب قطع، وهو مذهب ابن حزم، وهو الأقرب. 6 - السرقة من بيت المال أو الغنيمة (¬3): ذهب الحنفية والحنابلة إلى عدم إقامة الحد على من سرق من بيت المال، إذا كان السارق مسلمًا، غنيًّا كان أو فقيرًا، لأن لكل مسلم حقًّا في بيت المال، فيكون هذا الحق شبهة تدرأ الحد عنه كما لو سرق من مال له فيه شركة!!. وقد استُدل لهم بما جاء عن القاسم بن عبد الرحمن قال: إن رجلًا سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر إليه: «أن لا قطع عليه لأن له فيه نصيبًا» (¬4). وعن عبيد بن الأبرص أن عليَّ بن أبي طالب أُتي برجل قد سرق من الخمس مغفرًا، فلم يقطعه عليٌّ، وقال: «إن له فيه نصيبًا» (¬5). ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 76)، و «المدونة» (4/ 418)، و «قليوبي» (4/ 188)، و «كشاف القناع» (6/ 142). (¬2) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2590)، والبيهقي (8/ 282) من حديث ابن عباس، والمراد بالخمس: خمس الغنيمة. (¬3) «ابن عابدين» (3/ 208)، و «الدسوقي» (4/ 337)، و «مغني المحتاج» (4/ 163)، و «كشاف القناع» (6/ 142)، و «المحلي» (11/ 327). (¬4) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حزم (11/ 327)، وانظر «الإرواء» (2422). (¬5) ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حزم (11/ 327)، والبيهقي (8/ 282)، وانظر «الإرواء» (2423).

وذهب المالكية - وهو المرجوح عند الشافعية - إلى أنه يقطع، لعموم نص الآية، وضعف الشبهة؛ لأنه سرق مالًا من حرز لا شبهة له فيه بعينه ولا حق له فيه قبل حاجته، ووافقهم ابن حزم على قاعدته في أن من أخذ فوق نصيبه يقطع إذا كان نصابًا. وأما الشافعية ففرَّقوا بين كون المال محرزًا لطائفة هو أو أحد أصوله أو فروعه منها، فلا قطع لوجود الشبهة، وبين أن يكون المال محرزًا لطائفة ليس منها فيقطع. 7 - سرقة العبد من مال سيِّده: ذهب عامة أهل العلم إلى أن العبد لا يقطع فيما سرق من مال سيده، لقضاء جماعة من السلف بذلك، فعن السائب بن يزيد: أن عبد الله بن عمرو الحضرمي جاء بغلام له إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال له: اقطع يد هذا، فإنه سرق، فقال له عمر: «ما سرق؟» فقال: سرق مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهمًا، فقال عمر: «أرسله، فإنه ليس عليه قطع، خادمكم سرق متاعكم» (¬1). وعن عمر بن شرحبيل قال: «جاء معقل المزني إلى عبد الله [بن مسعود] فقال: غلامي سرق قبائي، فأقطعه؟ قال عبد الله: لا، مالك بعضه في بعض» (¬2). وقد ذكر ابن قدامة طرفًا من القضايا بنحو هذا عن السلف ثم قال: «وهذه قضايا تشتهر، ولم يخالفها أحد فتكون إجماعًا، وهذا يخص عموم الآية، ولأن هذا إجماع من أهل العلم؛ لأنه قول من سمينا من الأئمة ولم يخالفهم في عصرهم أحد فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم، كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة بقول أحد من التابعين» اهـ (¬3). 8 - السرقة من مال المدين (¬4): اختلف الفقهاء في وجوب الحدِّ على الدائن إذا سرق من مال مدينه، على النحو الآتي: ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1584)، وعنه الشافعي (267)، وعبد الرزاق (10/ 210)، والبيهقي (8/ 281)، والدارقطني (3/ 188). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، والبيهقي (8/ 281). (¬3) «المغني» لابن قدامة (10/ 285). (¬4) «البدائع» (7/ 72)، و «ابن عابدين» (4/ 94)، و «الدسوقي» (4/ 337)، و «منح الجليل» (4/ 526)، و «مغني المحتاج» (4/ 162)، و «المغني» (10/ 288)، و «كشاف القناع» (6/ 143)، و «المحلي» (11/ 328).

(أ) إن كان المدين غنيًّا غير جاحد للدَّيْن، أو كان الدين مؤجلًا لم يحل أجله، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقام عليه الحد - إذا كان المسروق نصابًا - إذ لا شبهة له في الأخذ ما دام الوصول إليه ميسورًا. وأما الحنفية فلا يقام عليه الحد عندهم على كل حال ما دام المسروق من جنس الدين!! (ب) إذا كان المدين جاحدًا للدين أو مماطلًا فسرق مقدار حقه، فقالوا جميعًا: لا يقام عليه الحد. (جـ) فإن أخذ أكثر من حقه (دينه) بما يبلغ نصابًا، فقال المالكية: يُقطع لتعدِّيه بأخذ ما ليس من حقه، وكذا قال ابن حزم إلا أنه استثنى ما إذا لم يصل إلى حقه إلا بما فعل ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا يقطع وعليه أن يردَّ الزائد. وقال الشافعية والحنابلة: لا يقطع، لأن المال لم يبق محرزًا عنه ما دام قد أبيح له الدخول لاستيفاء حقِّه، لكن قيَّده ألحنابلة بأن يكون أخذ الزائد من نفس المكان الذي فيه المال، فإن أخذ الزائد من غير الحرز الذي فيه ماله وجب القطع لعدم الشبهة. (ب) شبهة: اضطرار السارق أو حاجته (¬1): فالاضطرار شبهة تدرأ الحدَّ، والضرورة تبيح للآدمي أن يتناول من مال الغير بقدر الحاجة ليدفع الهلاك عن نفسه، فمن سرق ليردَّ جوعًا أو عطشًا مهلكًا فلا عقاب عليه، لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (¬2). ولعموم قول سبحانه: {ولا تقتلوا أنفسكم} (¬3). والحاجة أقل من الضرورة، فهي كل حالة يترتب عليها حرج شديد وضيق بيِّن، ولذا فإنها تصلح شبهة لدرء الحد، ولكنها لا تمنع الضمان والتعزير. من أجل ذلك أجمع الفقهاء على أنه لا قطع بالسرقة عام المجاعة، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «لا تقطع في عذق، ولا في عام السنة» (¬4). ¬

(¬1) «المبسوط» (9/ 140)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 162)، و «المغني» (10/ 288)، و «المحلي» (11/ 343)، و «الفتاوى الهندية» (2/ 176). (¬2) سورة البقرة: 173. (¬3) سورة النساء: 29. (¬4) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (10/ 242)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 343)، وانظر «الإرواء» (2428).

وفي قصة غلمة حاطب بن أبي بلتعة حين سرقوا ناقة رجل من مزينة وأتى بهم إلى عمر معترفين: «ثم قال عمر: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونها وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حلَّ له لقطعت أيديهم، وأيم الله إذ لم أفعل لأغرمنَّك غرامة توجعك (يعني: عبد الرحمن بن حاطب) ثم قال: يا مزني، بكم أريد منك ناقتك؟ قال: بأربع مائة، قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمائة» (¬1). وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله - (¬2): «وإسقاط القطع عن السارق في عام المجاعة هو محض القياس، ومقتضى قواعد الشريعة، فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعو إلى ما يسدُّ به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانًا، على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجانًا، لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج. وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، وهي أقوى من كثير من الشُّبَه التي يذكرها كثير من الفقهاء ... لاسيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميَّز المستغنى منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فَدُرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغنٍ عن السرقة قطع» اهـ. (جـ) شبهة: قول السارق: هذا ملكي (¬3): هذه من الشبهة التي يقررها جماعة من العلماء منهم الشافعية والحنابلة، ويسميه الشافعي: السارق الظريف. وابن القيم - رحمه الله تعالى - يندد بذلك ويبطل هذه الشبهة ويرى أنها من الحيل المحرمة لإبطال حد السرقة فيقول: ¬

(¬1) إسناده منقطع: أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 123)، وعنه الشافعي (267). (¬2) «إعلام الموقعين» (3/ 23). (¬3) «نهاية المحتاج» (7/ 422)، و «كشاف القناع» (6/ 143)، و «إعلام الموقعين» (3/ 257)، و «الحدود والتعزيرات» (ص 376 - 377).

(الحيلة على إسقاط حد السرقة بقول السارق: هذا ملكي وهذه داري وصاحبها عبدي - من الحيل التي هي إلى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها إلى الشرع. ونحن نقول: معاذ الله أن يجعل في فِطَر الناس وعقولهم قبول مثل هذا الهذيان البارد المناقض للعقول والمصالح، فضلًا عن أن يشرع لهم قبوله. وكيف يظن بالله وشرعه ظن السوء: أنه شرع رد الحق بالباطل الذي يقطع كل أحد ببطلانه. وبالبهتان الذي يجزم كل حاضر ببهتانه. ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولًا في دين من الأديان أو شريعة من الشرائع أو سياسة أحد من الناس؟. ومن له مسكة من عقل وإن بلى بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور. وبالله وياللعقول! أيعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلص من قطع اليد. فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان). وقال أيضًا في معرض بيانه لبطلان الحيل: (ويالله العجب كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس، وكلما أمسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي. والدار التي دخلتها داري. والرجل الذي دخلت داره عبدي؟ قال أرباب الحيل: فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك. فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة أو عادلة. فضلًا عن شريعة نبي من الأنبياء؟ فضلًا عن الشريعة التي هي أكمل شريعة طرقت العالم). ثانيًا: شروط تعتبر في المسروق منه: 1 - أن يكون المسروق منه معلومًا ويطالب بماله (¬1): فيُدرأ الحدُّ عن السارق عند الجمهور - خلافًا للمالكية - إذا كان المسروق منه مجهولًا، بأن ثبتت السرقة ولم يُعرف مَن هو صاحب المال المسروق، لأن إقامة الحد تتوقف على دعوى المالك أو من في حكمه، ولا تتحقق الدعوى مع الجهالة، غير أن هذا لا يمنع من حبس السارق حتى يحضر من له حق الخصومة ويدعى ملكية المال. فائدة: ذهب الجمهور (أبو حنيفة والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين وهي المذهب) إلى أنه يشترط لإقامة الحد: مطالبة المسروق منه بماله، لحديث صفوان بن أمية أنه: قدم المدينة فنام في المسجد متوسِّدًا رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه من ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 81)، و «المدونة» (16/ 68)، و «الأم» (6/ 141)، و «كشاف القناع» (6/ 118).

تحت رأسه، فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقطع يده، فقال صفوان: إني لم أُرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فهلَّا قبل أن تأتيني به؟» (¬1). بينما ذهب مالك - وهو الرواية الأخرى عن أحمد - إلى أنه لا تشترط المطالبة لعموم الآية إذ ليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله، وهو متعقب بحديث صفوان، وهو مخصص لعموم الآية. 2 - أن يكون له يد صحيحة على المسروق (¬2): أي يكون المسروق منه مالكًا للمسروق أو وكيلًا لمالكه أو مودعًا أو مستعيرًا أو دائنًا مرتهنًا أو مستأجرًا ونحو ذلك؛ لأن هؤلاء ينوبون عن المالك في حفظ المال وإحرازه. فإذا لم يكن للمسروق منه يد صحيحة على المال كأن يكون غاصبًا له أو سارقًا، فذهب الحنابلة والشافعية - في الراجح عندهم - إلى أنه لا يقام عليه الحدُّ، لأن من يأخذ من يد أخرى فكأنه وجد مالًا ضائعًا فأخذه. وقال المالكية: يقام عليه الحد، لأنه سرق مالًا محرزًا لا شبهة له فيه، لأن يد المالك لهذا المال لا تزال باقية عليه رغم سرقته أو غصبه، وهو قول مرجوح للشافعية. وفرَّق الحنفية بين السارق من الغاصب - فيقطع لأن يده يد ضمان فهي يدٌ صحيحة - وبين السارق من السارق فلا يقطع لأن يده ليست يد مالك ولا يد أمانة ولا يد ضمان، فلا تكون صحيحة. قلت: والأظهر أنه يقام عليه الحد ما دام في حرز غيره، ولا دليل على اعتبار صحة يده عليه من عدمها، والله أعلم. 3 - أن يكون المسروق منه معصوم الدم (¬3): بأن يكون مسلمًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ...» الحديث (¬4). أو ذميًّا، فيحد السارق المسلم أو الذمي إذا سرق الذمي عند جمهور الفقهاء. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 68، 69، 70)، وابن ماجة (2595)، وأحمد (6/ 465)، والبيهقي (8/ 265)، والحاكم (4/ 380)، وابن الجارود (828). (¬2) «البدائع» (7/ 71)، و «المدونة» (6/ 19)، و «المهذب» (2/ 299)، و «كشاف القناع» (6/ 1401). (¬3) «البدائع» (7/ 69)، و «المدونة» (6/ 270)، و «المهذب» (2/ 256)، و «المغني» (10/ 76). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (1218).

وأما إذا كان المسروق منه حربيًّا فلا يقام الحد على السارق المسلم أو الذمي باتفاق الفقهاء لأن مال الحربي هدر بالنسبة لهما. وأما مال المستأمن، فقال الحنفية - عدا زفر - والشافعية: لا يقام الحد على المسلم إذا سرق من ماله، لأن في ماله شبهة الإباحة باعتبار أنه من دار الحرب. وقال المالكية والحنابلة - وزفر من الحنفية -: مال المستأمن معصوم، فإذا سرق منه مسلم أو ذمي أقيم عليه الحد. ثالثًا: شروط تعتبر في المال المسروق: 1 - أن يكون مالًا متقوَّمًا (محترمًا شرعًا) (¬1): فلو سرق ما لا قيمة له في نظر الشرع، كالخنزير والخمر والميتة وآلات اللهو، والكتب المحرَّمة، والصليب والصنم - فلا قطع عليه عند عامة الفقهاء، ويحسن ههنا التنبيه على الفوائد التالية: (أ) يرى المالكية وأبو يوسف من الحنفية أن من سرق آنية فيها خمر، وكانت قمة الآنية بدون الخمر تبلغ النصاب، أقيم عليه الحد، وكذلك لو سرق صليبًا يبلغ النصاب عند أبي يوسف وابن حزم. (ب) يرى الشافعية أن من سرق آلات اللهو أو آنية الذهب والفضة أو الصنم أو الصليب أو الكتب غير المحترمة شرعًا، يقام عليه الحد إذا بلغت قيمة ما سرق نصابًا بعد كسره أو إفساده. وكذلك قال المالكية وقيدوه بأن يكسره داخل الحرز. وأما الحنابلة فلا يقطع وإن بلغت بعد إتلافها نصابًا؛ لأنها تعين على المعصية فكان له الحق في أخذها وكسرها، وفي ذلك شبهة تدرأ الحد، لكن لو كان على هذه الآلات حلية تبلغ نصابًا ففي إقامة الحد بسرقتها عندهم روايتان: (أ) إذا سرق خمرًا من ذمي، فقال أبو حنيفة ومالك والثوري: لا قطع ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 67 - 69)، و «ابن عابدين» (3/ 273 - 275)، و «فتح القدير» (4/ 227 - 232)، و «المدونة» (16/ 77)، و «الدسوقي» (4/ 336)، و «الخرشي» (8/ 96)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «نهاية المحتاج» (7/ 421)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 1095)، و «المغني» (10/ 24 - 284)، و «كشاف القناع» (6/ 78، 130)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 364)، و «المحلي» (11/ 334 - 338).

عليه، ولكن يغرم لها مثلها (!!) وقال الشافعي وأحمد وأصحابهما: لا قطع عليه في ذلك ولا ضمان، وانتصر له ابن حزم، وهو الأقوى. (ر) يرى ابن حزم أن من سرق ميتة فإنه يقطع، قال: لأن جلدها باق على ملك صاحبها يدبغه فينتفع به ويبيعه. (هـ) هل يقطع من سرق إنسانًا حُرًّا؟ (¬1) ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أن من سرق إنسانًا حرًّا فلا يقام عليه الحدُّ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، لأنه سرق ما ليس بمال، حتى لو كان يرتدي ثيابًا غالية الثمن أو يحمل حلية تساوي نصابًا، لأن ذلك تابع للصبي. وعند الحنابلة رواية: أنه إن قصد بسرقته المال قطع. وذهب الحسن البصري والشعبي ومالك وإسحاق وابن حزم إلى أن من سرق الحر يقطع، لما يُروى عن عائشة «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل يسرق الصبيان، ثم يخرج فيبيعهم في أرض أخرى، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقطعت يده» (¬2). وأما العبد الصغير الذي لا يفهم فإن سارقه سارق مال فعليه القطع بلا خلاف بين أهل العلم، فإذا كان مميزًا فإن بعضهم قد أسقط القطع عن سارقه، لأنه لولا أنه أطاعه ما أمكنه سرقته!! قال ابن حزم: وهذا لا ينبغي أن يُطلق إطلاقًا لأنه من الممكن أن يسرقه وهو نائم أو سكران أو مغمى عليه أو متغلبًا عليه متهددًا بالقتل. قلا يقدر على الامتناع، فإذا كان كذلك فهي سرقة صحيحة قد تمت منه فيقطع بنص القرآن (¬3). (و) هل يشترط في المال المسروق ألا يتسارع إليه الفساد؟ (¬4) أسقط الحنفية - خلافًا للجمهور - القطع في سرقة ما يتسارع إليه الفساد: كاللبن واللحم أو الثمار والفواكه الرطبة، وأما إذا كانت الثمار يابسة وآواها الجرين ففيها القطع. ¬

(¬1) المراجع السابقة، و «المحلي» (11/ 236 - 237). (¬2) باطل: أخرجه الدارقطني (2/ 202)، وضعَّفه، والبيهقي (8/ 268)، وقال الألباني في «الإرواء» (2407): موضوع. (¬3) «المحلي» لابن حزم (11/ 236). (¬4) «فتح القدير» (5/ 130)، و «المغني» (10/ 247)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 367) وما تقدم من المراجع.

ومدار هذا الخلاف هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلَّق، فقال: «ما أصاب من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجَنِّ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة» (¬1). فرأى الحنفية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة لأنه يسرع إليه الفساد لرطوبته، وأوجبه على سارقه من الجرين ليبسه بحيث لا يتسارع إليه الفساد، فجعلوه أصلًا في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه. وأما الجمهور فمدار التعليل عندهم على الحرز المكاني لا على اليبس والرطوبة، وهو الصحيح ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرزها، ففي رواية النسائي لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في كم تقطع اليد؟ قال: «لا تقطع اليد في ثمر معلق، فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريسة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن» (¬2). (ز) هل يقطع سارق المصحف؟ (¬3) ذهب أبو حنيفة وأصحابه - وهو المذهب عند الحنابلة - إلى أن سارق المصحف لا يقطع، لأن له فيه حق التعليم؛ لأنه ليس له منعه عمن احتاج إليه. وذهب مالك والشافعي وبعض الحنابلة وأبو يوسف من الحنفية، والظاهرية إلى أنه يقطع إذا بلغت قيمته نصابًا؛ لأن الناس يعدونه من نفائس الأموال، وردَّ ابن حزم على شبهة الحنفية بأن حق التعليم في التلقين فقط لا في المصحف إذ لم يوجبه قرآن ولا سنة ولا إجماع وإنما فرض على الناس تعليم بعضهم بعضًا القرآن تدريسًا وتحفيظًا وهكذا كان جميع الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف من أحد أنه لم يكن هناك مصحف ... ، فبطل قولهم: إن للسارق حقًّا في المصحف، وصحَّ أن لصاحب المصحف منعه من كل أحد إذ لا ضرورة بأحد ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (4390)، والترمذي (1289)، والنسائي (8/ 85). (¬2) حسن: أخرجه النسائي (8/ 78). (¬3) «البدائع» (7/ 68)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «المغني» (10/ 249)، و «المحلي» (11/ 337).

إليه، فصح أن القطع واجب في سرقة المصحف، كانت عليه حلية أو لم تكن لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬1). وكذلك القول في كتب العلم النافعة، والله أعلم. 2 - أن يبلغ المسروق نصابًا: المراد بالنصاب هنا: الحد الأدنى الذي لو سرق أقل منه لم يقطع، وإذا سرقه قطع. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم إقامة الحد إلا إذا بلغ المال المسروق نصابًا، لكنهم اختلفوا في تحديد مقدار هذا النصاب اختلافًا كبيرًا على ما يقرب من عشرين مذهبًا (!!)، وأشهر هذه المذاهب أربعة: الأول: لا يقطع إلا في دينار أو عشرة دراهم (¬2): وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول عطاء، واحتجوا بما يلي (¬3): 1 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» (¬4). وفي لفظ: «لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المِجَنِّ». وقد اختلفوا في تحديد ثمن المجن، فمنهم من قَدَّره بثلاثة دراهم، ومنهم من قدَّره بأربعة، ومنهم من قدرة بخمسة، ومنهم من قدَّره بعشرة، فرأى الحنفية أن الأخذ بالأكثر أولى، لأن في الأقل احتمالًا يورث شبهة تدرأ الحد. 2 - حديث ابن عباس قال: «قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم» (¬5) وأجيب: بأنه لا دلالة فيه على أنه لا يقطع بما دونه. الثاني: النصاب الذي يجب القطع بسرقته، ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما: بمعنى أن كل واحد من الذهب والفضة معتبر بنفسه، فإذا كان المسروق من غير الذهب أو الفضة قُوِّم ¬

(¬1) سورة المائدة: 38. (¬2) الدينار: نقد من الذهب، كان وزنه في الدولة الإسلامية يعادل (4. 25) جرامًا، والدرهم: نقد من الفضة، كان وزنه في الدولة الإسلامية يعادل (2. 975) جرامًا. (¬3) «البدائع» (7/ 77)، و «فتح القدير» (4/ 220)، و «المبسوط» (9/ 137). (¬4) ضعيف: أخرجه بهذا اللفظ الدارقطني (4/ 193) بسند ضعيف وله ألفاظ، انظر: «فتح الباري» (12/ 105). (¬5) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (4387)، وله عند النسائي (4947) شاهد مرسل.

بالدراهم (أي الفضة)، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم ولم تبلغ ربع دينار أقيم الحد، وإن بلغت قيمته ربع دينار ولم تبلغ ثلاثة دراهم فلا حدَّ، أي أن الأصل - على هذا القول - الفضة. وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، وبه قال إسحاق، ويحكى عن الليث وأبي ثور (¬1). واحتجوا بما يلي: 1 - حديث ابن عمر: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجّنٍّ قيمته ثلاثة دراهم» (¬2). 2 - حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، فصاعدًا» (¬3). فأخذوا بحديث عائشة فيما إذا كان المسروق من الذهب، وبحديث ابن عمر فيما إذا كان المسروق فضة أو شيئًا غير الذهب والفضة، وأيَّدوا هذا بما روي عن بعض الصحابة: 3 - فعن أنس: «أن سارقًا سرق مجنًّا - ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم، أو: ما يساوي ثلاثة دراهم - فقطعه أبو بكر» (¬4). 4 - وعن عمرة قالت: «أُتي عثمان برجل قد سرق أُترجَّة، فأمر بها عثمان فقُوِّمت بثلاثة دراهم من صرف: اثنى عشر درهمًا بدينار، فقطع يده» (¬5). الثالث: النصاب ربع دينار من الذهب أو ما قيمته ذلك: بمعنى أن الأصل في التقويم الذهب، فلا يقام الحد على من يسرق ثلاثة دراهم أو ما قيمته ثلاثة دراهم، إذا قلَّت قيمتها عن ربع دينار. ¬

(¬1) «الدسوقي» (3/ 333)، و «جواهر الإكليل» (2/ 290)، و «المغني» (10/ 242)، و «كشاف القناع» (4/ 78)، و «الإنصاف» (10/ 262). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6796)، ومسلم (1686). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6790)، ومسلم (1684) واللفظ له. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 236)، والشافعي (274 - شفاء العي)، والبيهقي (8/ 259). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 237)، ومالك (1574)، وعنه الشافعي (273).

وهذا مذهب الشافعي، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وعائشة - رضي الله عنهم - وبه قال الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وابن المنذر (¬1)، وحجتهم: 1 - حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا» (¬2). قالوا: وهو قولٌ أقوى في الاستدلال من الفعل المجرَّد، وهو صريح في الحصر، وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم لها. 2 - أن حديث عائشة قد رُوي بلفظ: «اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» قالت: وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنى عشر درهمًا (¬3). قلت: وهو ضعيف بهذا اللفظ. 3 - أن المعوَّل عليه في القيمة الذهب، لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نقل الخطابي استدلالًا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير، بأن الصكاك القديمة كان يُكتب فيها: (عشرة دراهم: وزن سبعة مثاقيل) فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها. الرابع: يقطع في القليل والكثير، إلا الذهب فلا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا: وهو مذهب أبي محمد بن حزم، ووافقه على القطع في القليل والكثير: الحسن وبعض أصحاب الشافعي (¬4)، واحتجوا لهذا بما يلي: 1 - عموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬5). قالوا: وهو يشمل القليل والكثير. 2 - حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» (¬6). ¬

(¬1) «مغني المحتاج» (4/ 158)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 186)، و «المغني» (10/ 242)، و «فتح الباري» (12/ 109). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا. (¬3) ضعيف بهذا اللفظ: أخرجه أحمد (6/ 80)، والبيهقي (8/ 255)، وانظر: «الإرواء» (2409). (¬4) «المحلي» (11/ 351)، و «مغني المحتاج» (4/ 158)، و «المغني» (10/ 242). (¬5) سورة المائدة: 38. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (6799)، ومسلم (1687).

قالوا: وهو نصٌ جليٌّ على أنه لا حدَّ فيما يجب القطع فيه في السرقة فتقطع كل ما له قيمة قلَّت أو كثرت، وأما الشيء التافه الذي لا قيمة له أصلًا فلا قطع فيه، لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لم تقطع يد سارق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المجن: ترس أو حجفة، وكان كلُّ واحدٍ منهما ذا ثمن» (¬1). ثم استثنى ابن حزم من هذا العموم: الذهب، فإذا كان المسروق ذهبًا -فقط- فإنه يقطع إذا كان ربع دينار فصاعدًا، لحديث عائشة في ذلك. ويبقى ما دون الذهب من المسروقات - عنده - يُقطع في كثيرها وقليلها. الراجح مما تقدم: والذي يترجَّح لي أن أقرب هذه الأقوال: الثاني والثالث، لكن جعل النصاب مقدرًا بالذهب (ربع دينار = 1. 0625 جرام) أقوى؛ لما تقدم من أدلة الشافعية، ولأن الأشياء والعملات الورقية المتداولة في هذه الأزمان قيمتها مقدرة بالذهب، والله أعلم. ويبقى الجواب عن حديث: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ...». فقيل: المراد بالبيضة ما يبلغ قيمتها ربع دينار فصاعدًا وكذا الحبل (¬2)، وقيل: المعتبر قيمة النصاب وقت السرقة (¬3): اتفقت المذاهب الأربعة على أن المعتبر قيمة النصاب وقت إخراجه من الحرز، فإن كانت قيمة المسروق تقل عن النصاب حين السرقة، ثم زادت حتى بلغته بعد إخراجه من الحرز، فلا يقام الحدُّ. أما إن كانت قيمة المسروق - وقت إخراجه من الحرز - نصابًا، ثم نقصت بعد ذلك، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقام الحدُّ سواء أكان النقص في عين المسروق بأن هلك بعضه في يد السارق بعد إخراجه، أم كان بسبب تغيُّر الأسعار. وقال الحنفية: فيه تفصيل، فإن كان النقص في عين المسروق فإن هلك في يد ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6794). (¬2) انظر: «فتح الباري» (12/ 110). (¬3) «البدائع» (7/ 79)، و «المدونة» (16/ 90)، و «نهاية المحتاج» (7/ 420)، و «المغني» (10/ 278).

السارق، فلا عبرة بهذا النقص فيُحدُّ، أما إن كان بسبب تغيُّر الأسعار ففي المذهب روايتان، الأولى: العبرة بالقيمة حين السرقة فيحدُّ كما قال الجمهور، والأخرى: إذا نقصت قيمة المسروق عن النصاب قبل الحكم فلا يقام الحدُّ، لأنه لا دخل للسارق في ذلك، ولأن النقص عند الحكم يورث شبهة تدرأ الحدَّ. 3 - أن يكون المسروق محرزًا: الْحرِزُ - عند الفقهاء -: الموضع الحصين الذي يحتفظ فيه المال عادة، بحيث لا يعدُّ صاحبه مضيِّعًا له بوضعه فيه. وقد ذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) إلى أن حدَّ السرقة لا يقام إلا إذا أخذ السارق النصاب من حرزه، لأن المال غير المحرز ضائع بتقصير من صاحبه (¬1). واحتج الجمهور بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رجلًا من مزينة يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحريسة (¬2) التي توجد في مراتعها؟ فقال: «فيها ثمنها مرتين، وضرب نكال، وما أخذ من عطنه (¬3) ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن» قال: يا رسول الله، فالثمار وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: «من أخذ بفمه ولم يتخذ خُبْنة (¬4) فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين، وضرب نكال، وما أخذ من أجرائه ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن» (¬5). وفيه اعتبار الحرز، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين، وكذلك في الشاة، وهذا الحديث مخصص لعموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما} (¬6). ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 66)، و «الدسوقي» (4/ 338)، و «مغني المحتاج» (4/ 164)، و «كشاف القناع» (6/ 110). (¬2) يريد: الشاة يدركها الليل قبل رجوعها إلى مأواها فتسرق من الجبل. (¬3) العطن: الموضع الذي يترك فيه الإبل على الماء. (¬4) ما يحمله الإنسان في حضنه أو ثوبه. (¬5) حسن: تقدم تخريجه. (¬6) سورة المائدة: 38.

والحِرْزُ نوعان (¬1): 1 - حرز بنفسه (حرز المكان): وهو كل مكان مُعدٍّ للإحراز، يُمنع الدخول فيه إلا بإذن، كالدار والبيت. 2 - حرز بغيره (حرز الحافظ): وهو كل مكان غير مُعدٍّ للإحراز، لا يُمنع أحدٌ من دخوله، كالمسجد والسوق، ولا يكون حرزًا إلا إذا كان عليه حافظ، أي: شخص يحرسه. وضابط الحرز وتحديد مفهومه يرجع إلى العرف، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان، ونوع المال المراد حفظه، وباختلاف حال السلطان من العدل والجور، ومن القوة والضعف. ولذا اختلف الفقهاء في الشروط الواجب توافرها ليكون الحرز تامًّا، وبالتالي يقام الحد على من يسرق عنه، وهذا مبسوط في كتب الفروع. وإليك بعضًا من الأحراز مما دلت عليه الوقائع في عهد النبوة: (أ) حرز الثمار: دلَّ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - المتقدم - فيمن سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثمار المعلقة، أن الجرين (وهو موضع تخرين الثمار) هو حرز الثمار، فلو سرقت من الجرين ففيها القطع، أما سرقة الثمار المعلقة في أشجارها فلا قطع فيها، وإنما يعزَّر السارق بأن يدفع ثمنها مضاعفًا، مع ضربه أو حبسه ويشهد لذلك حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر» (¬2). وبهذا قال جماهير أهل العلم منهم الأئمة الأربعة (¬3) إلا أن الحنفية يشترطون ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 73)، و «الخرشي» (8/ 117)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 190)، و «المغني» (10/ 251). (¬2) صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4388 - 4389)، والنسائي (8/ 87)، وابن ماجة (2593)، وأحمد (3/ 63 - ومواضع)، وابن الجارود (826)، والبيهقي (8/ 263)، وابن حبان (4466) وغيرهم، وقد ورد على أوجه مختلفة، والظاهر أن أرجحها الطريق المنقطعة، لكن صححه الألباني في «الإرواء» (8/ 73) وهو محتاج إلى مزيد بحث، وانظر: «شفاء العي» لشيخنا أبي عمير الأثري - حفظه الله - (2/ 166 - 168). (¬3) «البدائع» (7/ 69)، و «الدسوقي» (4/ 144)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «المغني» (10/ 262).

أن تكون الثمار جافة غير رطبة ليقطع، وقد تقدمت الإشارة إلى مأخذهم في هذا ونقده. (ب) الإنسان حرز نفسه وفراشه: عن صفوان بن أمية - رضي الله عنه - قال: كنت نائمًا في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثين درهمًا فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذت الرجل فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر به ليقطع، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، فقال: «هلا كان قبل أن تأتيني به» (¬1). وفيه أن الإنسان حرر لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه أين كان، سواء كان في المسجد أو غيره (¬2). وهذا متفق عليه - في الجملة - في المذاهب الأربعة، والحرز عندهم - هنا - بالحافظ لا بالمكان (¬3). هل يُقطع الطرَّار (النشال)؟ (¬4) ولهذا ذهب جمهور العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، إلى أن الطرَّار (وهو البطَّاط: الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام، وهو ما يسمى في بلادنا: النشال) يُقطع، سواء شقَّ الجيب وأخذ منه المال، أو أدخل يده في الكم أو الجيب فأخذه من غير شقٍّ، لأن المال محرز بصاحبه، والكم تبع له. وذهب أبو حنيفة إلى أن الطرَّار لا قطع عليه إلا إذا شق الجيب أو الكم، لأن الحرز لا يتحقق - عنده - بغير الشق إذا كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم أو الجيب، وعليه فلا قطع عندهم فيما إذا حلَّ الرباط ولم يشقَّه!! قلت: وقول الجمهور أقوى ويتأيد بحديث صفوان المتقدم، وهو قول أبي يوسف من الحنفية. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 69)، وابن ماجة (2/ 865)، وأحمد (6/ 466)، والبيهقي (8/ 265). (¬2) «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 54) ط. الرسالة. (¬3) «فتح القدير» (1495)، و «نهاية المحتاج» (7/ 428)، و «جوهر الإكليل» (2/ 292)، و «المغني» (10/ 251). (¬4) «المبسوط» (9/ 160)، و «روضة الطالبين» (10/ 123)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 333)، و «القرطبي» (6/ 70) والمراجع المتقدمة.

(جـ) هل يعتبر المسجد حرزًا لما فيه؟ لا يخلو ما يمكن سرقته من المسجد من أن يكون أحد ثلاثة أنواع: 1 - ما يعتاد وضعه في المسجد من أدواته المعدة للاستعمال فيه: كالحصر والبُسُط والقناديل ونحوها، فهذه اختلف أهل العلم في قطع سارقها (¬1): فذهب الحنفية والشافعية وهو المعتمد عند الحنابلة إلى أنه لا يقطع، لأن له فيها حقًّا وهو الجلوس على الفراش والشرب عن السِّقاء ونحو ذلك من آلات المسجد وهي شبهة تدرأ الحدَّ، فإن لم يكن له فيها حق - كأن كان ذميًّا غير مسلم - قطع. وعدم القطع عند الحنفية مقيَّد بما إذا لم يكن به حارس، لأن السجد يعتبر - عندهم- حرزًا بالحافظ، أما إذا كان للمسجد حارس فإنه يكون محرزًا به فيقطع. وذهب المالكية - وهو وجه عند الحنابلة والشافعية - إلى أن سارق الحصر والقناديل يُقطع. 2 - ما جعل لعمارة المسجد كالبناء والسقف أو لتحصينه كالأبواب والشبابيك أو لزينته كالستائر والقناديل المعلقة (¬2): فنصَّ المالكية والشافعية والحنابلة - في رأيٍ - على أن المسجد يعتبر حرزًا بنفسه في هذه الأشياء، فيقام الحد على سارقها، وعند الحنابلة رأى آخر: أنه لا يقام الحد على من يسرق من المسجد سواء كان المسروق لعمارته وزينته أو كان معدًّا للانتفاع به، لأن المسجد لا مالك له من المخلوقين ولأنه معدٌّ لانتفاع المسلمين به، فكان ذلك شبهة تدرأ الحد سوا اعتبرت السرقة من حرز بنفسه أو من حرز بالحافظ. 3 - ما يضعه صاحبه في المسجد مما هو ملك له لا للمسجد (¬3): فلا يقام الحدُّ على من سرق متاعًا تركه صاحبه في المسجد، لأن المسجد لا يعتبر من الأماكن المعدة لحفظ الأموال، ويُدخل إليه بلا إذن، فأما إذا سرق المتاع حالة وجود الحافظ (الحارس) فإنه يقام الحد على السارق، وعلى هذا يحمل حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع يد رجل سرق ترسًا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم» (¬4). ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 74)، و «مواهب الجليل» (6/ 309، 313)، و «نهاية المحتاج» (7/ 425)، و «القليوبي» (4/ 192)، و «المغني» (10/ 254)، و «كشاف القناع» (4/ 83)، و «الإنصاف» (10/ 275). (¬2)، (2) المراجع الفقهية السابقة. (¬3) (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (4386)، والنسائي (8/ 77)، وأحمد (2/ 145).

فائدة: مذهب الظاهرية وجوب قطع السارق من المسجد مطلقًا بناءً على أصلهم في عدم اعتبار الحرز شرطًا (¬1). مسائل متعلقة باعتبار الحرز: الأول: هل يقطع جاحد العاريَّة أو خائن الأمانة؟ (¬2) من استعار من غيره شيئًا - مما يبلغ النصاب - ثم جحده وأنكره حينما طولب به، فقد اختلف أهل العلم في قطعه بذلك على قولين: الأول: يقطع جاحد العارية، وهو قول الإمام أحمد في أشهر الروايتين - وهو المعتمد في مذهبه - وهو مذهب الظاهرية، وانتصر له ابن حزم وابن القيم. وعمدة هذا القول: 1 - حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - فكلَّموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أسامة، لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل» ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (¬3). 2 - حديث ابن عمر: أن امرأة كانت تستعير الحلي من الناس ثم تمسكه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله، وترد ما تأخذ من القوم» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قم يا بلال، فخذ بيدها فاقطعها» (¬4). الثاني: لا قطع على جاحد العارية: وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وقد أجابوا عن حديث المخزومية بما يلي: ¬

(¬1) انظر: «المحلي» لابن حزم (11/ 329). (¬2) «فتح القدير» (5/ 136)، و «بداية المجتهد» (2/ 436)، و «نهاية المحتاج» (7/ 436)، و «المغني» (10/ 240)، و «الإنصاف» (10/ 253)، و «كشاف القناع» (6/ 104)، و «فتح الباري» (12/ 91)، و «المحلي» (11/ 358)، و «تفسير القرطبي»، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 404)، و «إعلام الموقعين» (2/ 62)، و «تهذيب السنن» (6/ 209). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1688)، وأبو داود (4373)، والنسائي (8/ 63 - 68). (¬4) صحيح: أخرجه النسائي (8/ 63 - 64) بسند صحيح، وأخرجه أبو داود (4395)، والنسائي (8/ 70)، وأحمد (2/ 151) وغيرهم عن ابن عمر مختصرًا بلفظ: «أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها» وسنده صحيح على شرط الشيخين.

1 - أنه قد ثبت من وجه آخر عن عائشة - نفسها - بلفظ (سرقت) بدلًا من (تستعير المتاع وتجحده)، فعنها: أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أتشفع في حد من حدود الله ...» الحديث بنحوه (¬1). (أ) قالوا: ورواية (سرقت) أرجح، لأن الأخرى تفرَّد بها معمر عن الزهري، وخالفه الليث ويونس وأيوب بن موسى عن الزهري فقالوا (سرقت) ومعمر لا يقاومهم فروايته شاذة!! وأجيب: بأن معمرًا لم يتفرد بهذا اللفظ، بل تابعه شعيب ويونس وابن أخي الزهري وأيوب بن موسى - أيضًا - عن الزهري به، ثم قد صح من حديث ابن عمر بنحوه كما تقدم فصحَّ الحديث، ولذا قال الحافظ: وعلى هذا فيتعادل الطريقان، ويتعيَّن الجمع فهو أولى من اطّراح أحد الطريقين. اهـ. (ب) قالوا: لا شك أن القصة - في الحديثين - لامرأة واحدة استعارت وجحدت، أو سرقت فقطعت للسرقة لا للعارية، وإنما ذكر العارية والجحد في هذه القصة تعريفًا لها بخاص صفتها، قالوا: ويترجَّح أنها قُطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه: أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية: «لو أن فاطمة سرقت» وفيه دلالة قاطعة (!!) على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغيًّا، ولقال: (لو أن فاطمة جحدت العارية)، ثانيهما: أنها لو كانت قطعت في جحد العارية، لوجب قطع كل من جحد شيئًا، إذا ثبت عليه ولو لم يكن بطريق العارية. ثالثها: أن ذلك يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس على خائن، ولا مختلس، ولا منتهب قطع» (¬2) والمستعير الجاحد خائن، فلا يقطع. قال الحافظ: وقد أجمعوا على العمل به إلا من شذ ... وأجمعوا على أن لا قطع على الخائن في غير ذلك ولا على المنتهب، إلا إن كان قاطع طريق. اهـ. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688)، وأبو داود (4373)، والترمذي (1430)، والنسائي (8/ 65). (¬2) صححه الألباني: وسيأتي تخريجه قريبًا.

وناقش أصحاب هذا القول هذه الأوجه: (أ) فقال ابن القيم: «وأما قولهم: إن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه المؤثر، فكلام في غاية الفساد لو صح مثله - وحاشا وكلا - لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف، وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يردون بمثلها السنن، وإنما يسلكها بعض المقلدين من الاتباع» ثم بيَّن أن لفظ ابن عمر يبطل هذا القول، فقال: ويقويه أن لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الروايتين القطع على السرقة، وفي الأخرى على الجحد - على حد سواء، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعَلَمية، فكل من الروايتين دلَّ على أن علة القطع كل من السرقة وجحد العارية على انفراده، ويؤيد ذلك أن سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكر للسرقة ولا للشفاعة من أسامة، وفيه التصريح بأنها قطعت في ذلك. اهـ (¬1). ثم أجاب هو وغيره (¬2) عن استدلال الجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - في آخره «لو أن فاطمة سرقت» بأنه لا ينافي ذم جحد العارية، بل هو دليل على إدخال النبي - صلى الله عليه وسلم - جاحد العارية في اسم السارق - كإدخال سائر المسكرات في اسم الخمر - وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه، فيكون جاحد العارية - إن لم يسمَّ سارقًا لغةً - فهو سارق شرعًا، والشرع مقدَّم على اللغة. (ب) وأما قياسهم جاحد العارية على جاحد الوديعة بجامع الخيانة في كل منهما، فينتج أنه لا قطع عليه، فاعترض ابن القيم بأنه قياس مع الفارق، إذ إن جاحد العارية لا يمكن الاحتراز منه، بخلاق جاحد الوديعة، فإن صاحب المتاع فرَّط حيث ائتمنه، فهو إنما يفعل ذلك عند عدم احتراز المال، وتعقَّبه الحافظ بقوله: وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة إذا ثبت حديث جابر - رضي الله عنه - «ليس على خائن ... قطع» اهـ. (جـ) وناقش ابن حزم كلام الجمهور من وجه آخر فقال: «هَبْكَ أنها امرأة واحدة وقصة واحدة، فلا حجة فيها لأن ذكر السرقة إنما هو من لفظ بعض الرواة لا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك ذكر الاستعارة. إنما لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتها» فهذا يخرج على وجهين - يعني ذكر السرقة (¬3) -: ¬

(¬1) «تهذيب السنن» (6/ 211)، و «فتح الباري» (12/ 94). (¬2) انظر ما سبق، مع «زاد المعاد» (5/ 50)، و «الروضة الندية» (2/ 281). (¬3) يعني في قول الراوي: «في المخزومية التي سرقت».

أحدهما: أن يكون الراوي يرى أن الاستعارة سرقة فيخبر عنها بلفظ السرقة. والوجه الآخر: هو أن الاستعارة ثم الجحد سرقة صحيحة لا مجازًا؛ لأن المستعير إذا أتي على لسان غيره، فإنه مستخف بأخذ ما أخذ من مال غيره، يورِّى بالاستعارة لنفسه أو لغيره ثم يملكه مستترًا مختفيًا، فهذه هي السرقة نفسها دون تكلُّف فكان هذا اللفظ خارجًا عما ذكرنا أحسن خروج، وكان لفظ العارية لا يحتمل وجهًا آخر أصلًا». اهـ. 2 - ومما استدل به الجمهور على عدم القطع لجاحد العارية: أن الحرز غير متوفِّر في العارية، إذ المعير قد سلَّط المستعير على ماله وجعله تحت يده، وهذا بخلاف السرقة من حرز فافترقا. قلت: نعم، لولا أن النص ثابت في قطع المخزومية بجحد العارية على ما بيَّنه مناقشو الجمهور. وعليه فالذي يظهر لي أن جاحد العاريَّة يقطع، وأما حديث «ليس على خائن قطع» (¬1) فلو ثبت - وفيه كلام - فيخرج من عمومه جاحد العارية إما بالنصِّ، وإما باعتبار الفارق الذي ذكره ابن القيم، والله أعلم. وأما خائن الأمانة: فالذي يظهر أنه قد أطبق الفقهاء - ومعهم ابن القيم - خلافًا لابن حزم على أنه لا يُقطع؛ لحديث جابر «ليس على خائن قطع» (¬2) ولعدم توفر الحرز. وأما ابن حزم فإنه يضعِّف حديث جابر، ولا يعتبر الحرز شرطًا لإقامة الحدِّ أصلًا، والله تعالى أعلم بالصواب. المسألة الثانية: هل يُقطع النبَّاش؟ (¬3) النبَّاش: هو الذي يسرق أكفان الموتى بعد دفنهم في قبورهم. وقد اختلف أهل العلم في حكمه وفي اعتباره سارقًا، فذهب الجمهور منهم المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف - من الحنفية - وابن حزم إلى أن النباش سارق، لانطباق حدِّ السرقة عليه، فيقطع. وذهب أبو حنيفة ومحمد والأوزاعي والثوري، إلى أنه لا يعتبر سارقًا؛ لأنه يأخذ ما لا مالك له، وليس مرغوبًا فيه، وأخذه من غير حرز، فيعزَّر ولا يقطع. ¬

(¬1)، (2) صححه الألباني: وسيأتي تخريجه قريبًا. (¬2) «المبسوط» (9/ 156)، و «فتح القدير» (5/ 374)، و «الدسوقي» (4/ 340)، و «تكملة المجموع» (18/ 321)، و «كشاف القناع» (6/ 138)، و «المحلي» (11/ 329). (¬3)

قلت: والصواب قول الجمهور من اعتبار النباش سارقًا؛ لأنه يأخذ ما لا حق له في أخذه خفية من حرزه - وهو القبر - لكن يلزم الجمهور - إلا ابن حزم (¬1) - أن لا يقطعوه إلا إذا كانت قيمة الكفن نصابًا، ولا أظنه يبلغه، والله أعلم. رابعًا: شروط تعتبر في طريقة أخذ المسروق: 1 - أن يأخذ السارق المال بعد هتك الحرز (¬2): لا يعتبر مجرد الأخذ سرقة عند جمهور الفقهاء، إلا إذا نتج عن هتك الحرز، كأن يفتح السارق أغلاله ويدخل، أو يكسر بابه أو شباكه، أو ينقب في سطحه أو جداره، أو يدخل يده في الجيب لأخذ ما به، أو يأخذ ثوبًا توسَّده شخص نائم، أو نحو ذلك؛ ولا يشترط عند الجمهور - خلافًا للحنفية - دخول السارق الحرز لتحقيق الأخذ وهتك الحرز، فدخول الحرز ليس مقصودًا لذاته، بل لأخذ المال، فإذا تحقق المقصود بمد اليد داخل الحرز وإخراج المال، كان ذلك كافيًا في هتك الحرز وأخذ المال. ويؤيده ما في حديث جابر مرفوعًا: «... حتى رأيت فيها صاحب المحجن يجرُّ قصبه في النار، وكان يسرق الحاج بمحجنه، فإذا فُطن له قال: إنما تعلَّق بمحجني؛ وإن غفل عنه ذهب به» (¬3). 2 - أن يأخذ المال خُفية: يشترط الفقهاء لإقامة حد السرقة أن يؤخذ الشيء خفية واستتارًا، بأن يكون ذلك دون علم المأخوذ منه ودون رضاه، وقد نقل ابن حزم إجماع الأمة على أن السرقة هي الاختفاء بأخذ الشيء ليس له، وأن السارق هو المختفي. اهـ. فإن أخذه على سبيل المجاهرة سُمِّي: مغالبة أو نهبًا أو خلسة أو اغتصابًا أو انتهابًا، لا سرقة. وإن حدث الأخذ دون علم المالك أو من يقوم مقامه ثم رضي فلا سرقة (¬4). ¬

(¬1) لأن ابن حزم لا يشترط للحد - في المسروق من غير الذهب - أن يبلغ نصابًا، كما تقدم. (¬2) «البدائع» (7/ 66)، و «فتح القدير» (4/ 245)، و «مواهب الجليل» (6/ 310)، و «المهذب» (2/ 297)، و «المغني» (10/ 259). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (904)، وأحمد (6447). (¬4) «البدائع» (7/ 64)، و «بداية المجتهد» (2/ 436)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 186)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 362)، و «المحلي» (11/ 327).

ولهذا لا يعتبر الفقهاء الخائن (¬1) ولا المختلس (¬2) ولا المنتهب (¬3) سارقًا، فلا يوجبون عليه القطع، وإن وجب التعزير، ويحتجون بحديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع» (¬4). وقد تقدم - في الشبهات حول قطع السارق - وجه الحكمة في قطع السارق دون الغاصب والمنتهب والمختلس. 3 - إخراج المسروق من الحرز (¬5): اتفق جمهور الفقهاء على وجوب إخراج المسروق من الحرز لكي يقام حدُّ السرقة، فإن كانت السرقة من حرز بالحافظ، فيكفي مجرد الأخذ، حيث لا اعتبار للمكان في الحرز بالحافظ. وإن كانت السرقة من حرز بنفسه فلابد من إخراج المسروق من المكان المعد لحفظه، فإذا ضبط السارق داخل الحرز قبل أن يخرج بما سرقه، فلا يقطع، بل يعزَّر، وفي هذا آثار عن عمر بن الخطاب وعثمان وعليٌّ وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز، ذكرها ابن حزم في «المحلي» (11/ 320) وفي أسانيدها مقال، وذكر خلافه عن عائشة وابن الزبير وغيرهما. ويشترط الحنفية لإقامة الحد أن يخرج السارق بالمال من الحرز، فلو رمي بالمال ¬

(¬1) الخائن: هو الذي يؤتمن على المال بطريق العارية أو الوديعة فيأخذه ويدعى ضياعه أو ينكر أنه كان عنده وديعة أو عارية، والفرق بينه وبين السارق يرجع إلى قصور في الحرز. (¬2) المختلس: هو الذي يأخذ المال جهرة معتمدًا على السرعة في الهرب، فالفرق بين السرقة والاختلاس أن السرقة تعتمد على الخفية، والاختلاس على المجاهرة. (¬3) المنتهب: هو الذي يأخذ المال قهرًا، ولا يكون نهبًا حتى تنتهبه جماعة، فيأخذ كل واحد شيئًا وهي النهبة، فيظهر أن الفرق بين النهب والسرقة يعود إلى شبه الخفية، وهو لا يتوافر في النهب. (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (1448)، وأبو داود (4393)، والنسائي (8/ 88)، وابن ماجة (2591)، وأحمد (3/ 380)، وعبد الرزاق (18845، 18859)، والطحاوي (3/ 171)، والبيهقي (3/ 279) من طريق عن أبي الزبير عن جابر، وأبو الزبير مدلس لكنه صرَّح بسماعه من جابر في رواية عبد الرزاق، فزالت الشبهة، ثم له شواهد. انظر «الإرواء» (2403). (¬5) «البدائع» (7/ 65)، و «الخرشي» (8/ 97)، و «القليوبي» (4/ 190)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 367)، و «مواهب الجليل» (6/ 308)، و «نهاية المحتاج» (7/ 437)، و «المغني» (10/ 259).

خارج الحرز، ثم لم يتمكن هو من الحرز، أو خرج فلم يجد المال الذي رماه، فلا يقام عليه الحد عندهم، بل يعزَّر. وأما الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، فقد اتفقوا على أن إخراج المسروق من حرزه ومن حيازة المسروق منه يستتبع حتمًا إدخاله في حيازة السارق إدخالًا فعليًّا أو حكميَّا - كما في المثال السابق - وبالتالي يجب عليه القطع. قلت: وهو الأرجح والله أعلم. فائدة: إذا لم تتم السرقة، فلا يقام الحد عند جمهور الفقهاء، لكنهم يوجبون التعزير على من يبدأ في الأفعال التي تكوِّن بمجموعها جريمة السرقة، ليس باعتباره شارعًا في السرقة، ولكن باعتباره مرتكبًا لمعصية تستوجب التعزير (¬1). الاشتراك في السرقة: إذا اشترك جماعة في سرقة مال من حرز (¬2): 1 - فإن كانت قيمة المسروق لو قسمت عليهم بلغ نصيب كلٍّ منهم النصاب: فإنه يقام الحدُّ علميهم جميعًا بلا خلاف بين الفقهاء، واشترط الشافعية أن يشتركوا جميعًا في إخراجه من الحرز، وإلا فإنه لا يُحدُّ عندهم إلا من اشترك في إخراج المسروق. 2 - وإذا بلغت قيمة المسروق نصابًا لكن لا تكفي ليصيب كل واحد نصابًا فاختلف العلماء في قطعهم: فقال الحنفية والشافعية: لا قطع على أحد منهم، وإنما يعزَّرون. وقال المالكية والحنابلة: يُقطع الجميع، سواء كان الاشتراك في الإخراج أو كان بإخراج البعض وإعانة البعض الآخر، وسواء حدثت الإعانة بفعل مادي (كالإعانة على حمل المسروق) أو بفعل معنوي (كالإرشاد إلى مكان المسروق) أو لم يأت بعمل ما (كمن دخل الحرز مع السارق لتنبيهه إذا انكشف أمره) لأن فعل السرقة يضاف إلى كل واحد منهم. ¬

(¬1) «المبسوط» (9/ 147)، و «الدسوقي» (4/ 306)، و «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 237). (¬2) «البدائع» (7/ 65 - 66)، و «فتح القدير» (4/ 225)، و «مواهب الجليل» (6/ 310)، و «المدونة» (16/ 68)، و «مغني المحتاج» (4/ 160)، و «نهاية المحتاج» (7/ 421)، و «كشاف القناع» (4/ 79)، و «المغني» (3/ 295)، و «روضة الطالبين» (5/ 134)، و «مجموع الفتاوى» (14/ 84).

عقوبات السارق

أما إذا لم يحصل تعاون بأن استقل كل واحد بإخراج بعض المسروق، فلا يقام الحد إلا على من أخرج نصابًا كاملًا. قلت: الأظهر أنهم إن اشتركوا في سرقة نصاب واحد قُطعوا سواء أخرجوه جملة، أو أخرج كل واحد جزءًا، وهو اختيار شيخ الإسلام، فالحاجة إلى الزجر عن سرقة المال موجودة فوجب القطع، والله أعلم. عقوبات السارق (أ) العقوبة الحدِّيَّة: اتفق أهل العلم على أن حدَّ السارق قطع يده، لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (¬1). وهو الحدُّ الذي أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - على من سرق في عهده كما تواترت الأخبار بذلك، وجرى عليه عمل الخلفاء الراشدين دون اعتراض عليهم، وأجمعت عليه الأمة (¬2). لكنهم اختلفوا في أمور تتعلق بمحل القطع ومقداره، وكيفيته، وتكرره مع تكرار السرقة، ونحو ذلك، وإليك بيان أهم هذه الأمور: 1 - محل القطع (¬3): إذا ثبتت السرقة الأولى، فقد اتفق الفقهاء - إلا ابن حزم - على وجوب قطع اليد اليمنى، قالوا: لما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قطع اليد اليمنى (¬4) وكذلك فعل الأئمة من بعده، ولقراءة عبد الله بن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما» وهي قراءة مشهورة عنه، ولم يجمع على أنها قرآن لمخالفتها للمصحف الإمام، فكانت خبرًا مشهورًا، فيقيد إطلاق النص .. ولو كان الإطلاق مرادًا والامتثال للأمر في الآية ¬

(¬1) سورة المائدة: 38. (¬2) «مراتب الإجماع» (135)، و «المغني» (10/ 239)، و «فتح الباري» (12/ 97)، و «فتح القدير» (5/ 153)، و «الإفصاح» (2/ 414)، و «طرح التثريب» (8/ 23). (¬3) «البدائع» (7/ 86) و «الدسوقي» (4/ 332)، و «مغني المحتاج» (4/ 177)، و «كشاف القناع» (6/ 118)، و «المغني» (10/ 264)، و «تفسير القرطبي» (6/ 160)، و «الطبري» (6/ 228)، و «المحلي» (11/ 358). (¬4) إسناده ضعيف: أخرجه البغوي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» وسنده ضعيف كما في «التلخيص» (4/ 67)، وانظر «الإرواء» (8/ 81).

يحصل بقطع اليمين أو الشمال، لمَا قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اليسار على عادته من طلب الأيسر لهم ما أمكن، جريًا على عادته - صلى الله عليه وسلم - في أنه: «ما خُيِّر بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا» (¬1). وذهب ابن حزم إلى أن قطع اليمين مستحب وليس بواجب، وردَّ دعوى الإجماع بفعل عليٍّ - رضي الله عنه -، فعن ابن عمر قال: «سرق سارق بالعراق في زمان علي بن أبي طالب، فقدم ليقطع يده، فقدَّم السارق يده اليسرى ولم يشعروا فقطعت فأخبر علي بن أبي طالب خبره، فتركه ولم يقطع يده الأخرى» (¬2). فإذا كانت اليمنى غير صحيحة: بأن كانت شلَّاء أو ذهب أكثر أصابعها، فاختلفوا في محل القطع: 1 - فقال الحنفية: تقطع لأن القطع متعلق بها؛ ولأنه إذا تعلق الحكم بالسليمة فإنها تقطع، فلأن تقطع المعيبة من باب أولى. 2 - وقال المالكية: لا يجزئ قطع المعيبة؛ لأن مقصود الحد إزالة المنفعة التي يستعان بها على السرقة، والشلاء وما في حكمها لا نفع فيها فلا يتحقق مقصود الشرع بقطعها، لأن منفعتها التي يراد إبطالها باطلة من غير قطع، ولذا ينتقل القطع إلى الرجل اليسرى، وهذا قول للشافعية - في مقطوعة الأصابع كلها - ورواية عن الحنابلة. 3 - وقال الشافعية والحنابلة: يجزئ قطع اليمين إذا كانت شلاَّء إلا إذا خيف من قطعها ألا يكف الدم ولا يرقأ، فحينئذٍ ينتقل القطع إلى الرجل اليسرى. وإذا كانتا اليمين مقطوعة: سواء بآفة أو جناية أو قصاص، فذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - إلى انتقال القطع إلى الرجل اليسرى، إذا ذهبت اليد اليمنى قبل السرقة، وإلى سقوط الحد إذا ذهبت بعد السرقة سواء كان ذهابها قبل الخصومة أو بعدها، وقبل القضاء أو بعده، لأنه بمجرد السرقة تعلق القطع باليد اليمنى، فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط. وكذلك قال الحنفية إذا كان زوال اليمنى ولو بعد السرقة قبل المخاصمة، أما ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327) من حديث عائشة. (¬2) أخرجه أبو حزم في «المحلي» (11/ 358 - هامش).

لو ذهبت اليد اليمنى بعد المخاصمة وقبل القضاء أو بعد المخاصمة والقضاء فيسقط الحد عندهم (¬1). 2 - موضع القطع ومقداره (¬2): ذهب جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن قطع اليد يكون من الكوع، وهو مفصل الكف، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع السارق من الكوع (¬3)، ولقول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -: «إذا سرق السارق، فاقطعوا يمينه من الكوع» (¬4). وذهب بعض الفقهاء إلى أن موضع القطع من اليد: المنكب، لأن اليد اسم للعضو من أطراف الأصابع إلى المنكب، وذهب بعضهم إلى أن موضع القطع: مفاصل الأصابع التي تلي الكف (!!). قال ابن حزم - مؤيدًا ما ذهب إليه الجمهور بعد تصحيح إيقاع اسم اليد على كل ما تقدم -: «فإذا كان ذلك كذلك، فإنما يلزمنا أقل ما يقع عليه اسم يد، لأن اليد محرمة قطعها قبل السرقة ثم جاء النص بقطع اليد، فوجب أن لا يخرج من التحريم المتيقن المتقدم شيء إلا ما تيقن خروجه، ولا يقين إلا في الكف فلا يجوز قطع أكثر منها، وهكذا وجدنا الله تعالى إذ أمرنا في التيمم بما أمر إذ يقول تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (¬5). ففسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراد الله تعالى بذكر الأيدي ههنا وأنه الكفان فقد كان على ما قد أوردناه ...» اهـ. وموضع قطع الرِّجل هو: مفصل الكعب من الساق، فعل ذلك عمر - رضي الله عنه -، وذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عن أحمد. ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 88)، و «الدسوقي» (4/ 374)، و «مغني المحتاج» (4/ 148)، و «المغني» (10/ 269). (¬2) «المبسوط» (9/ 133)، و «الدسوقي» (4/ 332)، و «بداية المجتهد» (2/ 443)، و «المهذب» (2/ 301)، و «كشاف القناع» (6/ 118)، و «المغني» (10/ 266)، و «المحلي» (11/ 357). (¬3) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 271)، وابن عدي في «الكامل»، وله شواهد انظرها في «الإرواء» (؟؟ - 82). (¬4)؟؟ في «التلخيص» (4/ 71): «ولم أجده عنهما، وفي كتاب الحدود لأبي الشيخ من طريق نافع عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون من المفصل» اهـ. وذكر له الألباني في «الإرواء» (8/ 81 - 82) شواهد. (¬5) سورة المائدة: 6.

والرواية الأخرى عنه - وبها قال بعض الفقهاء - أن موضع القطع: أصول أصابع الرِّجل، لما روي عن عليِّ أنه: «كان يقطع من شطر القدم، ويترك للسارق عقبه يمشي عليها» (¬1). 3 - كيفية القطع: لا خلاف بين الفقهاء في أنه ينبغي مراعاة الإحسان في إقامة الحد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم». وقد ذكر الفقهاء أنه ينبغي على الحاكم أن يتخيَّر الوقت الملائم للقطع بحيث يجتنب الحر والبرد الشديدين، إن كان ذلك يؤدي إلى الإضرار بالسارق، ولا يقيم الحدَّ أثناء مرض يرجى زواله، ولا يقيم الحد على الحامل والنفساء. كما ينبغي أن يساق السارق إلى مكان القطع سوقًا رفيقًا، فلا يعنف به، ولا يعيَّر، ولا يُسب، فإذا وصل إلى مكان القطع: (يجلس، ويضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه، وتُشد يده بحبل، ويُجرُّ حتى يبين مفصل الذراع، ثم توضع بينهما سكين حادة، ويدق فوقها بقوة ليقطع في مرة واحدة، أو توضع على المفصل وتمد مدة واحدة، وإن عُلم قطع أوحى من ذلك - أي أسرع - قطع به) اهـ (¬2). حَسْمُ موضع القطع (¬3): رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بسارق سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله إن هذا قد سرق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به ...» الحديث (¬4). وهو حديث ضعيف، ومع هذا فقد اتفق الفقهاء على حسم موضع القطع، وذلك باستعمال ما يسدُّ العروق، ويوقف الدم، لما فيه من مصلحة السارق وحفظه من الهلاك. ¬

(¬1) حسنه الألباني: وانظر «الإرواء» (2435). (¬2) «المغني» (10/ 266) مع الشرح الكبير. (¬3) «ابن عابدين» (3/ 285)، و «الخرشي» (8/ 92)، و «مغني المحتاج» (4/ 178)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 266 - مع الشرح الكبير). (¬4) ضعيف: أخرجه الطحاوي (2/ 96)، والدارقطني، والحاكم (4/ 381)، والبيهقي (8/ 275)، وانظر «الإرواء» (2431).

لكنهم اختلفوا في حكم الحسم: فذهب الحنفية والحنابلة وهو القول مقابل الأصح عند الشافعية إلى أنه واجب عيني على من قام بالقطع للأمر بذلك في الحديث (!!) وذهب المالكية إلى أنه فرض على الكفاية، فلا يلزم واحدًا بعينه، فإذا قام به القاطع أو المقطوع أو غيرهما فقد حصل المقصود. وقال الشافعية - في الأصح عندهم -: الأمر بالحسم يحمل على الندب؛ لأنه حق للمقطوع لإتمام الحد، فيجور للإمام تركه، وحينئذٍ يندب للإمام ولغيره أن يفعله، ولا يمنع ذلك من وجوبه على السارق إذا لم يقم به أحد، فإن تعذَّر عليه فعل الحسم وترتب على تركه تلف محقق فلا يجوز للإمام إهماله، بل يجب عليه فعله. هل تعلَّق اليد المقطوعة في عنق السارق؟ (¬1) يُسَنُّ - عند الشافعية والحنابلة - تعليق اليد المقطوعة في عنق السارق، ردعًا للناس، واستدلوا بما رُوي عن فضالة بن عبيد: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» (¬2) وهو حديث ضعيف. وذهب الحنفية إلى أن تعليق اليد لا يُسنُّ، بل يترك الأمر للإمام، إن رأى فيه مصلحة فعله، وإلا فلا. قلت: وهذا أقرب، لضعف الحديث المرفوع وإن كان مأثورًا عن السلف. 4 - تكرُّر السرقة بعد القطع (¬3): (أ) إذا قطعت يمين السارق، قم عاد للسرقة مرة ثانية فكيف تكون عقوبته؟ اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال: ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 285)، و «أسنى الطالب» (4/ 153)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 267). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4411)، والنسائي (2/ 263)، والترمذي (1447)، وابن ماجة (2587)، وأحمد (6/ 19)، وانظر «الإرواء» (2432). (¬3) «ابن عابدين» (3/ 285)، و «البدائع» (7/ 186)، و «المبسوط» (9/ 16)، و «القوانين الفقهية» (ص 362)، و «الخشري» (8/ 93)، و «جواهر الإكليل» (2/ 289)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 198)، و «نهاية المحتاج» (7/ 444)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 271)، و «المحلي» (11/ 354)، و «فتح الباري» (12/ 102)، و «زاد المعاد» (5/ 56)، و «تهذيب السنن» (6/ 236)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 387) وما بعدها.

الأول: لا قطع عليه، وإنما يضرب ويُحبس، وهو مذهب عطاء بن أبي رباح - رحمه الله - فعن ابن جريج أنه قال لعطاء: إن سرق ثانية؟ قال: ما أرى أن تقطع إلا في السرقة الأولى اليد فقط، قال الله تعالى: {فاقطعوا أيديهما} (¬1). ولو شاء أمر بالرِّجْل، ولم يكن الله تعالى نسيًّا (¬2). الثاني: تُقطع يده اليسرى فإن عاد فلا قطع عليه وإنما يعزَّر بالضرب والحبس وهو مذهب ربيعة وداود وابن حزم الظاهريين؛ لأن الله تعالى أمر بقطع الأيدي وهي تشمل اليمنى واليسرى، وإدخال الأرجل في القطع زيادة على النص، ولأنها آلة السرقة والبطش، فكانت العقوبة بقطعها أولى. الثالث: تُقطع رجلُه اليُسرى، وهو مذهب عامة الفقهاء وجماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو مروي عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. واستدلوا بجملة أحاديث مرفوعة تشتمل على هذا الحكم، إلا أنها جميعًا ضعيفة لا تقوم يها الحجة، وكذلك استندوا إلى آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وسيأتي ذكر طرف من هذه الأحاديث والآثار عما قريب، إن شاء الله. قال ابن عبد البر: «ثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬3). قلت: وثبت عن عمرو بن دينار أن نجدة بن عامر كتب إلى ابن عباس: السارق يسرق فتُقطع يده، ثم يعود فتقطع يده الأخرى؟ قال الله تعالى: {فاقطعوا أيديهما}. قال: قال: «بلى، ولكن ورجله من خلاف» (¬4). وثبت عن عائشة - في قصة الرجل الأسود الذي كان أبو بكر يُدنيه يقرئه القرآن ثم قطعت يده في سرقة - قالت: «... ثم أدناه [أي: أبو بكر] ولم يحول منزلته التي كانت له منه، فلم يغب إلا قليلًا حتى فقد آلُ أبي بكر حليًّا لهم ومتاعًا، فقال أبو بكر: طرق الحي الليلة، فقام الأقطع فاستقبل القبلة، ورفع يده الصحيحة والأخرى التي قطعت، فقال: اللهم أظهره على من سرقهم - أو نحو ¬

(¬1) سورة المائدة: 38. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق، ومن طريقه ابن حزم في «المحلي» (11/ 354). (¬3) سورة المائدة: 38. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 185)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 355).

هذا - فما انصرف النهار حتى ظهر المتاع عنده، فقال له أبو بكر: ويلك، إنك لقليل العلم بالله، فأمر به فقطعت رجله» (¬1). وعن ابن عباس قال: «رأيت عمر بن الخطاب قطع يد رجلٍ، بعد يده ورجله» (¬2). (ب) إذا عاد للسرقة ثالثة ورابعة وخامسة: ثم اختلف هؤلاء - أعني الجمهور - فيما إذا عاد السارق للسرقة - بعد قطع رجله اليسرى - ثالثة ورابعة وخامسة، على ثلاثة أقوال كذلك: الأول: لا قطع عليه في المرة الثالثة، وإنما يضرب ويحبس: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأحمد في المشهور عنه - وهو المذهب - وبه قال الحسن والشعبي والثوري والزهري والنخعي والأوزاعي وحماد، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - وحجة هذا القول ما يلي: 1 - عن عمر - رضي الله عنه - أنه «أُتي برجل قد سرق يقال له سدوم، فقطعه ثم أتى به الثانية فقطعه، ثم أتى به الثالثة فأراد أن يقطعه، فقال له عليٌّ: «لا تفعل، إنما عليه يد ورجل، ولكن أحبسه» وفي لفظ: «فحبسه عمر» (¬3). 2 - وعن أبي الضحى قال: «كان عليُّ بن أبي طالب لا يزيد في السرقة على قطع اليد والرجل». 3 - وعن عبد ألله بن مسلمة: أن علي بن أبي طالب أتى بسارق فقطع يده، ثم أتى به فقطع رجله، ثم أُتي به الثالثة، فقال: «إني استحيي أن أقطع يده، فبأي شيء يأكل؟! أو أقطع رجله، فعلى أي شيء يعتمد؟!» فضربه وحبسه (¬4). 4 - ولأن في قطع اليدين تفويت منفعة الجنس، فلم يُشرع في حدٍّ، كالقتل. 5 - ولأنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى في المرة الثانية؛ لأنها آلة البطش كاليمنى، وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 188). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، والدارقطني، والبيهقي (8/ 273)، لكن وجدته عند عبد الرزاق (10/ 187) بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ «... قطع رِجْل رجل ...»؟! (¬3) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (10/ 186)، والبيهقي (8/ 274). (¬4) إسناده لين: أخرجه عبد الرزاق (10/ 186)، والبيهقي (8/ 275)، وابن حزم (11/ 355)، وعبد الله بن مسلمة تغير حفظه لكنه توبع، وانظر: «الإرواء» (8/ 90).

الثاني: تقطع يده اليسرى في الثالثة، ثم رجله اليمنى في الرابعة، ثم إن عاد في الخامسة يعزر ويحبس: وهذا مذهب الجمهور (المالكية والشافعية والرواية الأخرى في مذهب أحمد) وهو مروي عن أبي بكر وعمر (!!) - رضي الله عنهما - وبه قال إسحاق وقتادة وأبو ثور، واحتج هؤلاء بما يلي: 1 - آية المحاربة (!!) قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} (¬1). 2 - حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله» (¬2) وسنده تألف (!!). 3 - حديث عصمة بن مالك - رضي الله عنه - قال: سرق مملوك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعفى عنه .. (أربع مرات) ... ثم رفع إليه الخامسة وقد سرق، فقطع يده، ثم رفع إليه السادسة فقطع رجله، ثم رفع إليه السابعة فقطع يده، ثم رفع إليه الثامنة فقطع رجله، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربع بأربع» (¬3) وسنده ساقط (!!). 4 - أنه فعل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - (!!) فعن القاسم بن محمد «أن أبا بكر قطع يد سارق في الثالثة» (¬4) وهو منقطع. الثالث: كالقول السابق، إلا أنه إن عاد في الخامسة يُقتل، وهو مروي عن عثمان بن عفان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز، وأبي مصعب المالكي وذكره الحافظ قولًا عن مالك أولًا ثم إنه رجع عنه واستقر رأيه على تعزيره دون قتله - وهو ما ذهب إليه الشافعي في القديم، واستدلوا بما يلي: 1 - حديث جابر قال: جيء بسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا ¬

(¬1) سورة المائدة: 33. (¬2) سنده تالف: أخر الدارقطني، وفيه الواقدي: متروك وقد صححه الألباني في «الإرواء» (2434) بما بعده وبغيره، وكلها شديدة الضعف وبينها اختلاف في المتن، فلا يسلَّم له، رحمة الله. (¬3) سنده تالف: أخرجه الدارقطني (3/ 173) والطبراني وفيه من يشبه أن يكون وضاعًا، وضعفه ابن حجر والزيلعي والهيثمي. (¬4) سنده منقطع: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (281).

رسول الله إنما سرق، فقال: «اقطعوه» قال: فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قال: «اقطعوه» .. فأتي به الخامسة فقال: «اقتلوه» قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة (¬1) وهو ضعيف. 2 - حديث الحارث بن حاطب بنحو حديث جابر مع شيء من المغايرة في لفظه، وهو منكر كما قال النسائي والذهبي (¬2). 3 - حديث عبد الله بن زيد الجهني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سرق متاعًا فاقطعوا يده، فإن سرق فاقطعوا رجله، فإن سرق فاقطعوا يده، فإن سرق فاقطعوا رجله، فإن سرق فاضربوا عنقه» (¬3) وسنده تالف. وقد أجاب العلماء عن حديث جابر بأنه ضعيف، وعلى فرض صحته، فقيل: منسوخ، وهو محكي عن الشافعي، وناسخه هو عين الناسخ لقتل شارب الخمر في الرابعة - على ما تقدم - وقيل: هذه حكومة مختصة بهذا الرجل وقد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المصلحة في قتله، ولذلك أمر بقتله من أول مرة، وقيل: يخرج على أن هذا الرجل كان من المفسدين في الأرض، وهذا يعزي للإمام مالك، رحمه الله. الترجيح: الذي يظهر لي بعد هذا العرض لمذاهب العلماء ودراسة أدلتهم أن أقوى هذه الأقوال الأول، القائل، بأن السارق إذا كرَّر السرقة ثانية - بعد قطع يده اليمنى - فإنه تقطع رجله اليسرى، ثم لا قطع عليه إن عاد، وإنما يضرب ويحبس - ولو مدى الحياة - حتى يظهر الصلاح، لقضاء الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك. ولو ذهب ذاهب إلى قول ربيعة وابن حزم من أنه تقطع يده اليسرى في الثانية - بعد اليمنى - ثم لا قطع عليه وإنما يُعزَّر، فلا يكون بعيدًا ولا شاذًّا كما قيل، والله أعلم. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4410)، والنسائي (8/ 83)، والبيهقي (8/ 272) وقال النسائي: حديث منكر، وقال ابن عبد البر: منكر لا أصل له، وقد قوَّاه الألباني في «الإرواء» (8/ 86 - 88) بطريق أخرى، وبشواهد أرى أنها تعلُّه بالاضطراب. (¬2) منكر: أخرجه النسائي (8/ 83)، والحاكم (4/ 382)، (8/ 272) وحكم بنكارته النسائي والذهبي. (¬3) منكر: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 6) ثم قال: تفرَّد حزام (صوابه: حزم) بن عثمان وهو من الضعف بالمحل العظيم. اهـ. وقال الذهبي: متروك مبتدع. اهـ.

ما يسقط به الحدُّ: 1، 2 - الشفاعة، وعفو المسروق منه (¬1): أجمع الفقهاء على جواز الشفاعة بعد السرقة وقبل أن يصل الأمر إلى الحاكم، إذا كان السارق لا يُعرف بشرٍّ، سترًا له وإعانة على التوبة. وأما إذا وصل الأمر إلى الحاكم فالشفاعة فيه حرام، كما تقدم بيانه في بداية «كتاب الحدود». وكذلك الشأن في العفو، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد وجب» (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لصفوان لما تصدق بردائه على سارقه بعد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا قبل أن تأتيني به؟!» (¬3). فإذا عفا المسروق منه عن السارق - قبل رفعه - سقط عنه الحد. 3 - الرجوع عن الإقرار (¬4): اتفق جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة على أن السارق إذا رجع عن إقراره (اعترافه) قبل القطع، سقط عنه الحد، لأن الرجوع عن الإقرار يورث شبهة. وذهب بعض الفقهاء إلى أن رجوع السارق في إقراره لا يقبل منه، ولا يسقط عنه الحد، لأنه لو أقر لآدمي بقصاص أو بحق لم يُقبل رجوعه عنه، فكذلك الحكم إذا أقر بالسرقة. 4 - هل يسقط الحدُّ بتوبة السارق؟ اتفق الفقهاء على أن التوبة النصوح، أي: الندم الذي يورث عزمًا على إرادة الترك تسقط عذاب الآخرة عن السارق، واتفقوا على أنه إذا تاب بعد القدرة عليه وقيام البينة عليه ورفعه للحاكم، لم يسقط عنه الحد. ¬

(¬1) «المبسوط» (7/ 111)، و «تفسير القرطبي» (5/ 295)، و «تكملة المجموع» (18/ 333)، و «المغني» (10/ 294 - مع الشرح الكبير)، و «نيل الأوطار» (7). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (4376)، والنسائي (8/ 70) وغيرهما وله شواهد. (¬3) صحيح: تقدم قريبًا. (¬4) «ابن عابدين» (3/ 290)، و «الدسوقي» (4/ 345)، و «نهاية المحتاج» (7/ 441)، و «كشاف القناع» (6/ 117)، و «المغني» (10/ 293).

ثم اختلفوا فيما إذا تاب قبل القدرة عليه ورفعه إلى الحاكم على قولين، تقدم بسطهما في مقدمة «كتاب الحدود» ورجحنا هناك أن التوبة تسقط الحدَّ عمومًا، ومما يدل على ذلك في حدِّ السرقة قوله تعالى - عقب ذكر عقوبة السارق: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} (¬1). وهو يدل على أن التائب لا يقام عليه الحد، إذ لو أقيم عليه الحد بعد التوبة لما كان لذكرها فائدة. وهذا مهب الشافعية - في أصح القولين - والحنابلة في رواية (¬2). لكن تبقى مسألة وهي: هل من شرط التوبة ضمان المسروق وردُّه لصاحبه؟ (¬3) 1 - إن كانت العين المسروقة موجودة: فأجمعوا على أن من شرط صحة توبته: أداؤها إلى صاحبها، سواء كان السارق موسرًا أو معسرًا، وسواء أقيم عليه الحد أو لم يقم، وسواء وُجد المسروق عنده أو عند غيره. 2 - إن كانت العين المسروقة قد تلفت: فإن لم يُقم الحد على السارق لسبب يمنع القطع فيجب عليه رد قيمة المسروق بلا خلاف. وإن كان أقيم عليه الحدُّ، اختلف العلماء في وجوب ضمان المسروق على ثلاثة أقوال: الأول: يلزمه الضمان لتمام توبته سواء كان موسرًا أو معسرًا: وهو مذهب الجمهور، منهم: الشافعي وأحمد وإسحاق والليث والنخعي والحسن والزهري وغيرهم، قالوا: لأن هذه العين تعلَّق بها حقان: حق لله، وحق لمالكها، وهما حقان لمستحقين متباينين فلا يبطل أحدهما الآخر، بل يستوفيان معًا، أن القطع حق لله، والضمان حق لمالكها. وقد رُوي من طريق الحسن عن سمرة مرفوعًا: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» (¬4). ¬

(¬1) سورة المائدة: 39. (¬2) «فتح القدير» (5/ 429)، و «الخرشي» (8/ 103)، و «قليوبي» (4/ 201)، و «المحلي» (11/ 129)، و «المغني» (8/ 281 - مكتبة القاهرة)، وانظر مبحث «أثر التوبة في الحدود». (¬3) «المبسوط» (9/ 156)، «والبدائع» (7/ 84)، و «فتح القدير» (5/ 413)، و «بداية المجتهد» (2/ 442)، و «القوانين» (ص 361)، و «أسنى المطالب» (4/ 152)، و «قليوبي» (4/ 198)، و «المغني» (10/ 279)، و «كشاف القناع» (6/ 149). (¬4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3561)، والترمذي (1266)، وابن ماجة (2400).

الثاني: لا يجب الضمان مطلقًا، ولا تتوقف صحة توبته عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول وغيرهم، وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} (¬1). قالوا: فسمى القطع جزاء، والجزاء يبنى على الكفاية، فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع كافيًا فلم يكن جزاءً، فعلم أن التضمين عقوبة زائدة على الجزاء فلا تُشرع. وأجاب الجمهور بأن مجموع الجزاء - إن أريد به: مجموع العقوبة - فصحيح هو القطع، والقول بالتضمين لا دخل له في العقوبة، ولهذا يجب الضمان في حق غير الجاني: كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكراهًا، ولهذا فإن سقوط الحد لا يسقط الضمان لتفاوت الحقين - حق الله وحق العبد - بتفاوت جهتهما. 2 - حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه قضي في السارق إذا أقيم عليه الحد أنه لا غرم غليه» (¬2) ولذا قالوا: لا يجتمع حد وضمان، لأن الحكم بالضمان يجعل المسروق مملوكًا للسارق، مستندًا إلى وقت الأخذ فلا يجوز إقامة الحد عليه، لأنه لا يقطع أحد في ملك نفسه. وأجاب الجمهور بأنه حديث ضعيف لا يحتج به. الثالث: يلزمه الضمان إن كان موسرًا، وإلا لم يلزمه، وهو مذهب مالك وغيره من فقها المدينة واستحسنه ابن القيم. قالوا: لئلا تجتمع على السارق - المعسر - عقوبتان: قطع يده، واتباع ذمته. قال ابن القيم: وهذا استحسان حسن جدًّا، وما أقربه من محاسن الشرع، وأولاه بالقبول، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ. الراجح (¬3): والذي يترجح لي هو ما ذهب إليه الجمهور من إيجاب الضمان على السارق مطلقًا وأنه من تمام توبته من غير فرق بين الموسر والمعسر، فإن كان موسرًا تعيَّن ¬

(¬1) سورة المائدة: 38. (¬2) ضعيف: أخرجه النسائي (8/ 58)، والدارقطني، وقال النسائي عقبه: هذا مرسل، وليس بثابت. اهـ. وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي. اهـ. قلت: وعلته الانقطاع. (¬3) مستفاد من ترجيح العلامة بكر أبي زيد، حفظه الله. انظر: «الحدود والتعزيرات» (ص: 427 - 428).

دفعه، وإن كان غير قادر فقد قال الله تعالى في حق غير القادرين: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (¬1). وأما رأي المالكية - الذي استحسنه ابن القيم - فهو مجرد استحسان. والاستحسان هو «الحكم على مسألة بحكم يخالف نظائرها لدليل شرعي» ولم يذكروا دليلًا شرعيًّا يقضي بهذا الاستحسان، والله أعلم. 5 - هل يسقط الحدُّ بتملُّك السارق المسروق قبل الحكم؟ (¬2) إذا تملَّك السارق المسروق قبل القضاء، بأن اشتراه أو وُهب له أو نحو ذلك، فإن القطع يسقط عنه عند الجمهور، لأن المطالبة شرط للحكم بالقطع، فإذا تملكه السارق قبل القضاء امتنعت المطالبة، وخالف المالكية - لعدم اشتراطهم المطالبة - فقالوا: لا يسقط الحد. أما إذا حدث الملك بعد القضاء - وقبل القطع - فلا يسقط الحدُّ عند الجمهور - خلاف للحنفية - لأن ما حديث بعد وجوب الحدِّ لم يوجد شبهة في الوجوب، فلم يؤثر في الحد، ولو كان حدوث الملك - بعد القضاء - يسقط الحد، لما قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - سارق رداء صفوان بعدما تصدق به عليه، بل قال له - صلى الله عليه وسلم -: «فلا قبل أن تأتيني به» (¬3). لا يسقط الحدُّ بالتقادُم (¬4): ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وزفر - من الحنفية - إلى أن الحد لا يسقط بالتقادم، لأن الحكم لم يصدر إلا بعد أن ثبتت السرقة، فوجب تنفيذه مهما طال الزمن، ولا ينبغي أن يكون هروب الجاني أو تراخي التنفيذ من أسباب سقوط الحد، وإلا كان ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود الله. بينما ذهب الحنفية - عدا زفر - إلى أن تقادم التنفيذ بعد القضاء يسقط القطع؛ لأن القضاء في باب الحدود - عندهم - إمضاؤها، فما لم تمض فكأنه لم يقض، ولأن التقادم في التنفيذ كالتقادم في الإثبات بالبينة (!!). ¬

(¬1) سورة البقرة: 280. (¬2) «المبسوط» (9/ 187)، و «البدائع» (7/ 88)، و «شرح الزرقاني» (8/ 89)، و «المهذب» (2/ 264)، و «المغني» (10/ 277)، و «معالم السنن» (3/ 300). (¬3) صحيح: تقدم مرارًا. (¬4) «المبسوط» (9/ 176)، و «مغني المحتاج» (4/ 151)، و «المغني» (10/ 205).

(5) حد الحرابة

قلت: وقول الجمهور هو الصواب، لأن الحدَّ إذا ثبت بيقين، فلا يسقط إلا بدليل. (ب) العقوبات التعزيرية للسارق (¬1): تجوز العقوبة بالتعزير على كل سرقة لم تكتمل أركانها، أو لم تستوف شروطها، لعدم وجوب الحد فيها، وعلى سرقة دُرئ الحدُّ فيها لوجود شبهة، فيترتب على السارق - بالتعزير- عقوبتان: عقوبة بدنية، بالضرب ونحوه نكالًا له، وعقوبة مالية: بتضعيف الغُرم للمسروق، وبهذا قضي النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسقط القطع عمن أخذ بفمه من الثمر المعلق وهو محتاج، وحكم على من خرم بشيء منه غرامة مثليه والعقوبة (أي: الضرب) وكذلك على من سرق من الثمر بعد أن يوضع في مخزنه - ولم يبلغ نصاب القطع - كما تقدم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (¬2). وكذلك تجوز العقوبة بالتعزير على السرقة التي سقط فيها القطع. وتقدَّم ذِكر تعزير السارق في الثالثة أو الخامسة - على خلاف - ويكون بالحبس أو الضرب ونحوه، وهذه العقوبات يرجع في تقديرها إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان حسب المصلحة. (5) حَدُّ الحِرَابَةِ تعريف الحرابة (¬3): الحرابة لغة: من الحرب التي هي نقيض السلم، يقال: حاربه محاربة، وحرابًا. أو من الحَرَب - بفتح الراء -: وهو السلب، يقال: حرب فلانًا ماله، أي: سلبه، فهو محروب وحريب. وفي الاصطلاح: تسمى «قطع الطريق» وهي: البروز لأخذ مال، أو لقتل، أو لإرعاب على سبيل المجاهرة مكابرة، اعتمادًا على القوة مع البعد عن المغوث. ¬

(¬1) «المغني» (10/ 271)، و «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 236)، و «معالم السنن» (3/ 313)، و «الحدود والتعزيرات (ص: 403). (¬2) حديث حسن: تقدم تخريجه مرارًا. (¬3) «تاج العروس»، و «لسان العرب»، و «بدائع الصنائع» (7/ 90)، و «المغني» (8/ 287).

حُكْمُها: الحرابة من الكبائر، وهي من الحدود باتفاق الفقهاء، وسمي القرآن مرتكبيها محاربين لله ورسوله، وساعين في الأرض بالفساد، وغلظ عقوبتها أشد التغليظ، فقال سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (¬1). شروط تعتبر في المحارب: اشترط الفقهاء في المحاربين - حتى يُحدُّوا حدَّ الحرابة - شروطًا لابد من توافرها، ولم يتفقوا عليها جميعًا، وإنما وقع في بعضها خلاف، فإليك هذه الشروط وطرفًا من المناقشات حولها: 1 - التكليف (¬2): ولا خلاف بين أهل العلم في اشتراط البلوغ والعقل في عقوبة الحرابة؛ لأنها شرط التكليف الذي هو شرط إقامة الحدود. لكنهم اختلفوا في حدِّ من اشترك مع الصبي والمجنون في قطع طريق، فذهب الجمهور إلى أن الحد لا يسقط عنهم وعليه الحدُّ، وإنما الشبهة مختصة بواحد - الصبي أو المجنون - فلم يسقط عن الباقين. وذهب الحنفية - إلا أبا يوسف - إلى أنه لو اشترك في قطع الطريق صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من أحد المارَّة سقط الحدُّ عن الجميع (!!) قالوا: لأنها جناية واحدة قامت بالكل، فإن لم يقع فعل بعضهم موجبًا الحد، كان فعل الباقين بعض العلة فلم يثبت به الحكم (!!). قلت: وقول الجمهور أقوى، والله أعلم. (2) الالتزام (¬3): اشترط الجمهور في المحارب أن يكون ملتزمًا بأحكام الشريعة، بأن يكون مسلمًا، أو ذميًّا، أو مرتدًّا، فلا يُحدُّ عندهم الحربي، ولا المعاهد، ولا المستأمن. ¬

(¬1) سورة المائدة: 33. (¬2) «البدائع» (7/ 91)، و «شرح الزرقاني» (8/ 109)، و «مغني المحتاج» (4/ 8، 21)، و «المغني» (8/ 268)، ط. الرياض. (¬3) «ابن عابدين» (3/ 112)، و «المدونة» (6/ 268)، و «روضة الطالبين» (10/ 154)، و «كشاف القناع» (6/ 146)، و «المحلي» (11/ 305، 315)، و «فتح الباري» (12/ 112).

واستدلوا بقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (¬1). وهؤلاء تقبل توبتهم قبل القدرة وبعدها، ولقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (¬2)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام يجب ما كان قبله» (¬3). وأما الذمي فقد التزم أحكام الشريعة فله ما لنا وعليه ما علينا. وذهب ابن حزم إلى أن المحارب إنما هو المسلم العاصي أو المسلم يرتد فيحارب فعليه أحكام المحارب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين، فليس للذمي - الذي نقض عهده - لأن له عقوبة في الشرع تختلف عن عقوبة المحارب. وذهب طائفة من العلماء - منهم البخاري والحسن وعطاء والضحاك والزهري - إلى أن آية الحرابة نزلت في أهل الكفر والردَّة، وساق البخاري عقبها حديث أنس في قصة العرنيين، وفيه «... فارتدوا، فقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل، فبعث - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا (¬4). 3 - الذكورة (¬5): اشترط الحنفية في المحارب الذكورة، فلا تحدُّ - عندهم - المرأة وإن وليت القتال وأخذ المال، لأن ركن المحاربة - وهو الخروج والمغالبة - لا يتحقق من المرأة عادة فلا تكون من أهل الحرابة (!!). وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يشترط في المحارب الذكورة، فلو اجتمع نسوة لهن قوة ومنعة فهن قاطعات طريق، ولا تأثير للأنوثة على الحرابة، ولأنها تحدُّ في السرقة ويلزمها القصاص كالرجل، فكذلك في قطع الطريق، ولا فرق. قلت: وهذا هو الصحيح لعدم الدليل على اعتبار الذكورة والأصل أن «النساء شقائق الرجال» (¬6). ¬

(¬1) سورة المائدة: 34. (¬2) سورة الأنفال: 38. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (121)، وأحمد (4/ 199). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (6802)، ومسلم (1671). (¬5) «البدائع» (7/ 91)، و «شرح الزرقاني» (8/ 109)، و «روضة الطالبين» (10/ 155)، و «المغني» (9/ 298). (¬6) حسن: أخرجه أبو داود (236)، والترمذي (113)، وأحمد (6/ 256 - 377) وسنده حسن لغيره.

4 - السلاح (¬1): اشترط الحنفية والحنابلة - في المحارب- أن يكون معه سلاح، ولو الحجارة والعصى؛ لأنه أداة الإخافة، فإن تعرضوا للناس بشيء من ذلك فهم محاربون وإلا فلا. وأما المالكية والشافعية وابن حزم فلم يشترطوا في المحارب حمل السلاح، بل يكفي عندهم القهر والغلبة وأخذ المال، ولو باللكز والضرب بجمع الكف. قلت: ولعلَّ الأخير أظهر، وكأنه اختيار شيخ الإسلام إذ قال: «والصواب: أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع» اهـ. 5 - البعد عن العمران (¬2): اشترط أبو حنيفة - وهو المذهب عند الحنابلة - في الحرابة: البعد عن العمران (في الصحراء مثلًا) فإن حصل منهم الإرعاب وأخذ المال في القرى والأمصار فليسوا محاربين، قالوا: لأن قطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولأن من في القرى والأمصار يلحقه الغوث غالبًا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، وهو ليس يقاطع، ولا حدَّ عليه. بينما ذهب الجمهور: منهم مالك والشافعي وأبو يوسف من الحنفية وكثير من أصحاب أحمد، وابن حزم - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - إلى أنه لا يشترط البعد عن العمران، بل يشترط فقد الغوث، ولفقد الغوث أسباب كثيرة لا تنحصر في البعد عن العمران. فلو دخل قوم بيتًا وشهروا السلاح ومنعوا أهل البيت من الاستغاثة فهم قطاع طرق في حقهم. واستدل الجمهور بعموم آية المحاربة، وبأن ذلك إذا وجد في العمران كان أعظم خوفًا وأكثر ضررًا، فكان أولى بحد الحرابة. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 213) و «المدونة» (6/ 303)، و «روضة الطالبين» (10/ 156)، و «المغني» (8/ 288)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 196)، و «المحلي» (11/ 307). (¬2) «ابن عابدين» (4/ 113)، و «القوانين» (311)، و «الدسوقي» (4/ 328 - مع الشرح الكبير)، و «نهاية المحتاج» (8/ 4)، و «روضة الطالبين» (10/ 155)، و «المغني» (8/ 287 - الرياض)، و «المحلي» (11/ 307)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 315، 316).

قال شيخ الإسلام: «وهذا هو الصواب، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه - غالبًا - إلا بعض ماله ...» اهـ. قلت: وهذا القول مع موافقة عموم الآية الكريمة، ومقتضى معنى الحرابة المطلق، فإنه الأردع للمجترئين على ترويع الآمنين وسلبهم أموالهم في الميادين العامة على مرأى ومسمع من الناس والسلطان، ولا مغيث!! والله أعلم. 6 - المجاهرة (¬1): اشتر ط جمهور الفقهاء في الحرابة أن يأخذ قطاع الطريق المال جهرًا، فإن أخذوه مختفين فهم سُرَّاق، وإن اختطفوا وهربوا، فهم منتهبون، ولا قطع عليهم. وذهب مالك - وهو اختيار شيخ الإسلام - إلى أن قتل الغيلة، إذا كان على وجه التحيُّل والخديعة فهو من المحاربة، ومثاله: أن يدعو القاتل إلى منزله - مثلًا - من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك ثم يقتله ويأخذ ماله. قال شيخ الإسلام: «وهذا أشبه بأصول الشريعة، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد، لأنه لا يدرى به» اهـ. حكم الردء للقُطَّاع (¬2): الردء هو: المعين لقاطع الطريق بجاهه أو بتكثير السواد أو بتقديم أي عون لهم، ولم يباشر القطع بنفسه. وقد اختلف أهل العلم في حكمه: فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة - وهو اختيار شيخ الإسلام - إلى أن الردء المباشر في الحرابة سواء، لأنهم متمالئون، وقطع الطريق يحصل بالكل، ولأن من عادة القطاع أن يباشر البعض، ويدفع عنهم البعض الآخر، فلو لم يلحق الردء بالمباشر في سبب وجوب الحد لأدى ذلك إلى انفتاح باب قطع الطريق. ¬

(¬1) المراجع السابقة، و «المنتقي» للباجي (7/ 115 - 116). (¬2) «البدائع» (7/ 91)، و «المبسوط» (9/ 198)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «المهذب» (2/ 365)، و «المغني» (10/ 318 - مع الشرح)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 311).

قال ابن تيمية: وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، «فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل ربيئة المحاربين» والربيئة: هو الناظر، الذي يجلس في مكان عالٍ ينظر منه لهم من يجيء ... اهـ. بينما ذهب الشافعي - رحمه الله - إلى أنه ليس على الردء إلا التعزير، لأن الحد يجب بارتكاب المعصية؛ فلا يتعلق بالمُعين، كسائر الحدود!! قلت: والأوَّل أرجح والله أعلم. عقوبة المحاربين: قال الله سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} (¬1). هذه العقوبات على التخيير أم على التنويع؟ (¬2) ثم اختلف أهل العلم في هذه العقوبات المذكورة في الآية الكريمة؛ أهي على التخيير أم على التنويع، على قولين: القول الأول: أنها على التنويع، فتوزع العقوبات على حسب الجنايات، وهذا مذهب الجمهور، واستدل أصحاب هذا القول بما يلي: 1 - أن تفسير ابن عباس لهذه الآية يفيد أن المراد بـ «أو»: التنويع، فقال: «المعنى: أن يُقتلوا إن قتَلوا، أو يُصلَّبوا مع القتل إن قَتَلوا وأخذوا المال، أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال، أو يُنفَوا من الأرض إن أرعبوا ولم يأخذوا شيئًا ولم يًقتُلوا». 2 - قالوا: وتفسيره - رضي الله عنه - إما توقيفًا وإما لغةً، وأيهما كان فهو حجة، يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ. وعُرْف القرآن: أن ما فيه التخيير يُبدأ فيه بالأخف، ككفارة اليمين، وما يراد به الترتيب يُبدأ فيه بالأغلظ ككفارة الظهار والقتل. ¬

(¬1) سورة المائدة: 33، 34. (¬2) «البدائع» (7/ 93)، و «ابن عابدين» (3/ 213)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «روضة الطالبين» (10/ 156)، و «نهاية المحتاج» (8/ 27)، و «المغني» (8/ 289)، و «الإنصاف» (10/ 292)، و «المحلي» (11/ 312).

3 - أن الجزاء على قدر الجناية، يزاد بزيادتها وينقص بنقصانها، بمقتضى العقل والشرع، قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} فالتخيير في جزاء الجنايات القاصرة بما يشمل جزاء الجناية الكاملة، وفي الجناية الكاملة بما يشمل جزاء الجناية القاصرة خلاف المعهود في الشرع. على أنه قد أجمعت الأمة على أن القُطاع إذا قَتلوا وأخذوا المال، لا يكون جزاؤهم المعقول: النفي وحده!! فعُلم أنه لا يمكن إجراء الآية على ظاهر التخيير. 4 - أن التخيير الوارد بحرف التخيير إنما يجري على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدًا، كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد، أما إذا كان السبب مختلفًا فإنه يخرج التخيير عن ظاهره ويكون الغرض: بيان الحكم لكل واحد في نفسه، وقطع الطريق متنوع وبين أنواعه تفاوت في الجريمة، فكان سبب العقاب مختلفًا، فتحمل الآية على بيان حكم كل نوع. 5 - أنه إذا لم يقتل، فلا يحلُّ قتله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيِّبُ الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬1). ثم اختلف هؤلاء في كيفية هذا التنويع على ثلاثة أقوال: 1 - فقال الشافعي وأحمد والصاحبان من الحنفية، وإسحاق: من قَتَلَ وأخذ المال؛ قُتِل وصُلِب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ مالًا؛ نفي من الأرض، والنفي في هذه الحالة - عند الشافعية - تعزير وليس حدًّا، فيجوز - عندهم - للإمام تركه، أو التعزير بغيره بحسب ما يراه من المصلحة. 2 - وقال أبو حنفية: إن أُخذ قبل قتل نفسٍ أو أخذ شيء؛ حُبس بعد التعزير حتى يتوب، وهو المراد بالنفي في الآية. وإن أخذ مالًا معصومًا بمقدار النصاب؛ قُطعت يده ورجله من خلاف، وإن قتل معصومًا ولم يأخذ مالًا قُتل. وأما إن قتل النفس وأخذ المال - وهو المحارب الخاص - فالإمام مُخيَّر في أمور ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود.

ثلاثة: إن شاء قطع يده ورجله من خلاف ثم قتله، وإن شاء قتله فقط، وإن شاء صلبه. والصلب - عنده -: طعنُه وتركه حتى يموت، ولا يترك أكثر من ثلاثة أيام. واعتُرض بأن الحدود إذا كان فيها قتل سقط ما دونه، كما لو سرق وزنى وهو محصن. 3 - وقال مالك: إن قتل فلابد أن يُقتل، إلا إن رأى الإمام أن في إبقائه مصلحة أعظم من قتله. وليس له تخيير في قطعه ولا نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه، وإن أخذ المال ولم يقتل لا تخيير في نفيه وإنما التخيير ف قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف، وإن أخاف السبيل فقط فالإمام مخيَّر بين قتله وصلبه، أو قطعه، باعتبار المصلحة. واعتُرض بأن مالكًا - رحمه الله - اعتبر جَلَد ورَايَ القاطع، ولم يعتبر الجناية، وهذا مخالف للأصول المعروفة من اختلاف العقوبات بحسب الجرائم. قلت: ويمكن اعتبار مالك - رحمه الله - من القائلين بالتخيير بين العقوبات - إلا في القاتل - كأصحاب القول الآتي. القول الثاني: أن هذه العقوبات على التخيير: فإذا خرجوا لقطع الطريق وقَدر عليهم الإمام، خُيِّر بين أن يجري عليهم أيًّا من الجزاءات الأربعة (القتل، والصلب، والقطع، والنفي) على ظاهر الآية. وبهذا قال جماعة من السلف منهم سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبو ثور وداود وابن حزم، ويمكن أن يُضم إليهم الإمام مالك. واحتج هؤلاء بما يلي: 1 - قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ما كان في القرآن «أو» فصاحبه بالخيار» (¬1). 2 - أن الأصل في «أو» أنها تقتضي التخيير كما في آية كفارة اليمين. وقد تقدم الردُّ على كلا الاستدلالين في ثنايا أدلة المذهب الأول. قلت: والأرجح ما ذهب إليه الجمهور من كون العقوبات للتنويع بحسب الجرائم على نحو ما ذهب إليه الشافعي وأحمد. ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (6/ 139).

فوائد: ويمكن أن نستخلص من أقوال العلماء الفوائد التالية: 1 - أن القاتل - في قطع الطريق - يُقتل بكل حال ولابُدَّ، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك. 2 - أنهم إذا قتلوا ولم يأخذوا المال، فإنهم يُقتلون من غير صلب. وهل يغلب - فيمن قتل فقط- جانبُ الحد أم جانب القصاص؟ (¬1) ذهب الحنفية والمالكية، وهو قول عند كل من الشافعية والحنابلة - وهو قول ابن حزم -: إلى أنه يغلب جانب الحد، فيقتل وإن قتل بمثقل، ولا يشترط التكافؤ بين القاتل والمقتول: فيقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، ولا عبرة بعفو مستحق القَوَد. وقال الشافعية - في الراجح عندهم - والحنابلة في إحدى الروايتين عن أحمد: يغلب جانب القصاص؛ لأنه حق آدمي، وهو مبني على المضايقة، فيقتل قصاصًا أولًا، فإذا عفا مستحق القصاص عنه: يُقتل حدًّا، ويشترط التكافؤ بين القاتل والمقتول، لحديث: «لا يُقتل مسلم بكافر» (¬2). 3 - إذا جمعوا إلى القتل أَخْذَ المال - وهذا غالب حال القُطَّاع - فيُجمع لهم الصلبُ مع القتل عند الجمهور: واختلفوا في وقت الصلب ومدَّته (¬3): (أ) فقال الحنفية والمالكية: يُصلب حيًّا، ويُقتل مصلوبًا؛ لأن الصلب عقوبة، وإنما يعاقب الحي لا الميت، ويترك مصلوبًا - عند الحنفية - ثلاثة أيام بعد موته (!!)، وعند المالكية تحدَّد مدة الصلب باجتهاد الإمام. (ب) وقال الشافعية - في المعتمد - والحنابلة: يصلب بعد القتل؛ لأن الله تعالى قدَّم القتل على الصلب لفظًا فيجب (!!) تقديم ما ذكر أولًا في الفعل، كقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (¬4). ¬

(¬1) «ابن عابدين» (3/ 213)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «روضة الطالبين» (10/ 160)، و «المغني» (8/ 290)، و «المحلي» (11/ 315). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (6915)، ومسلم. (¬3) المصادر السابقة، و «نهاية المحتاج» (8/ 5 - 6)، و «المحلي» (11/ 315 - 318). (¬4) سورة البقرة: 158.

قالوا: ولأن في صلبه حيًّا تعذيبًا له، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ...» (¬1). وعلى هذا الرأي: يُقتل ثم يُغسَّل، ويكفن، ويُصلى عليه، ثم يصلب، ويترك مصلوبًا ثلاثة أيام بلياليهن. وخالف ابن حزم فقال: لا يجمع عليه الصلبُ والقتل، إذ ليس فيما استدلَّ به المخالفون - من الفريقين - وجوبُ صلبه بعد القتل، ولا إباحة ذلك البتة. ولأن الله إنما أوجب عليه حكمًا واحدًا وخزيًا واحدًا لا حكمين. وكذلك لا يجوز قتله بعد الصلب لأمره - صلى الله عليه وسلم - بإحسان القتلة ولقوله: «لعن الله من اتخذ شيئًا فيه الروح عرضًا»، وغاية ما هنالك أن يخيَّر الإمام بين قتله، أو صلبه دون قتل. قال: فصحَّ يقينًا أن الواجب أن يخيَّر الإمام في صلبه - إن صلبه - حيًّا ثم يدعه حتى ييبس ويجف كله ... حتى إذا أنفذنا أمر الله تعالى فيه، وجب به ما افترضه الله تعالى للمسلم على المسلم من الغسل والتكفين والصلاة والدفن. اهـ. ثم ردَّ على من اعترض بمثل أحاديث الأمر بإحسان القتلة وقال: أنتم تقتلونه أوحش قتلة وأقبحها! فقال - رحمه الله -: «فنقول: وما قتلناه أصلًا، بل صلبناه كما أمر الله تعالى، وما مات إلا حتف أنفه، وما يسمى هذا في اللغة مقتولًا ...» اهـ. 4 - إذا أخذوا المال، ولم يقتلوا؛ قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف: فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى على ما تقدم في قطع السارق. وهل يشترط أن يبلغ المسروق نصابًا؟ فيه قولان (¬2): فاشترط الجمهور - خلافًا لمالك - أن يبلغ المأخوذ نصابًا، لعموم الأدلة التي تفيد أنه لا قطع فيما دون النصاب، وقد تقدمت في «حد السرقة». وذهب مالك إلى أنه لا يشترط؛ لأنه محارب لله ولرسوله، ساعٍ في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية، ولأنه لا يعتبر الحرز فكذلك النصاب. ¬

(¬1) صحيح. (¬2) «فتح القدير» (5/ 179)، و «المهذب» (2/ 284)، و «جوهر الإكليل» (2/ 294)، و «كشاف القناع» (6/ 152).

5 - إذا أخافوا السبيل فقط، فلم يقتلوا أو يأخذوا مالًا: فإنهم يُنفون من الأرض عند جمهور الفقهاء لقوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (¬1). واختلفوا في معنى النفي (¬2)، فقال أبو حنيفة: نفيه حبسُه حتى تظهر توبته أو يموت، وقال مالك: النفي إبعاده عن بلده إلى مسافة البعد (يعني: مسافة الصفر فما زاد) وحبسه فيه. وقال الشافعي: النفي: الحبس أو غيره، كالتغريب، كما في الزنا. ومذهب أحمد أن النفي: أن يُشرَّدوا، فلا يُتركوا يستقرون في بلد، وهو مروي عن ابن عباس وبه قال النخعي وقتادة وعطاء. قلت: الذي يتبادر من قوله (ينفوا) أن فيه طردًا وإبعادًا، وأما حبسه فإنما يكون حيث يرى الإمام أن في إطلاقه - في مكان نفيه - فسادًا أو شرًّا على الناس، واختار شيخ الإسلام أن النفي يكون بحسب ما يراه الإمام: إما بطرده بحيث لا يأوى في بلد، وإما بحبسه وقال: وهذا أعدل وأحسن. اهـ (¬3). هل يُقتصُّ من المحارب للجروح؟ (¬4) ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن المحارب إذا جَرَح جرحًا فيه قود فاندمل لم يتحتم به قصاص، بل يتخيَّر المجروح بين القود والعفو على مال أو غيره؛ لأن التحتم تغليظ لحق الله، فاختص بالنفس كالكفارة، ولأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حق المحارب بالجراح، فبقي على أصله في غير الحرابة. وفي قول عند الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد: يتحتم فيه القصاص كالنفس لأن الجراح تابعة للقتل، فيثبت فيها مثل حكمه. وعند الشافعية قول ثالث وهو: أنه يتحتم في اليدين والرجلين، لأنهما مما يستحقان في المحاربة دون غيرهما. قلت: والراجح أنه يتحتم القصاص لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «قدم رهط من عكَلٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في ¬

(¬1) سورة المائدة: 33. (¬2) «فتح القدير» (5/ 113)، و «ابن عابدين» (3/ 212)، و «الدسوقي» (4/ 349)، و «الجواهر» (2/ 294)، و «نهاية المحتاج» (8/ 5)، و «المغني» (8/ 294)، و «كشاف القناع» (6/ 153). (¬3) «مجموع الفتاوى» (15/ 310). (¬4) «البدائع» (7/ 95)، و «ابن عابدين» (3/ 213)، و «مغني المحتاج» (4/ 483)، و «المغني» (8/ 292).

الصفَّة، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أبغنا رسلًا، فقال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَتوا فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوُّا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الدَّود، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصَّريخُ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرَّة يستسقون، فما سُقُوا حتى ماتوا» (¬1). فقطعهم - صلى الله عليه وسلم - حدًّا للمحاربة، وسمل أعينهم قصاصًا وتركهم يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا لأنهم كذلك فعلوا بالرعاء: فعن أنس - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سمر أعينهم، لأنهم سمروا أعينُ الرِّعاء» (¬2). أما إذا سرى الجرح إلى النفس فمات المجروح: يتحتم القتل. وذهب الحنفية إلى أن المحارب- إذا أقيم عليه الحد، فلا يقتص منه للجراحات؛ لأن الجناية فيما دون النفس يسلك بها مسلك الأموال، والأصل عندهم ألا يجمع بين الحدِّ والضمان!! وهل يضمن المال المأخوذ؟ (¬3) ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المحاربين إذا أخذوا مالًا وأقيم عليهم الحدُّ؛ ضمنوا المال مطلقًا، وعند الحنفية يضمنون إن كان المال قائمًا، وإلا فلا. وعند الشافعية والحنابلة: يجب الضمان على الآخذ فقط، لا على من كان معه ولم يباشر الأخذ. وقال المالكية: يعتبر كل واحد منهم ضامنًا للمال المأخوذ بفعله أو بفعل صاحبه، فمن قُدر عليه منهم أُخذ بجميع ما أخذ هو وأصحابه، فإن دفع أكثر مما أخذ فإنه يرجع على أصحابه. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (6804)، ومسلم (1671). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1671)، والترمذي (73)، والنسائي (7/ 100). (¬3) المراجع السابقة، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «أسهل المدارك» (3/ 157)، و «نهاية المحتاج» (8/ 8).

6 - حد الردة

6 - حَدُّ الردَّة تعريف الردة (¬1): الردَّة لغة: الرجوع عن الشيء والتحول عنه. وفي الاصطلاح: إتيان المسلم بما يقتضي كفره من قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو شك، إذا توفرت شرائطه. قال الله تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (¬2). شروط المرتد: لا تقع الردَّةُ من المسلم - الذي أتى أحد أسباب الردَّة - إلا إذا توفر فيه خمسة شروط: شرطا التكليف، وشرط الاختيار، وإرادة الكفر، والعلم بالحال والحكم: 1 - البلوغ: فلا تعتبر ردَّة الصبي لأنه غير مكلف، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (¬3). وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة على مقتضى القياس، وقول لأحمد. وقال أبو حنيفة في الرواية الأخرى: يحكم بردَّة الصبي استحسانًا (!!) وهو مذهب المالكية والمشهور عن أحمد، وهؤلاء قالوا: لا يقتل قبل بلوغه. وقال الشافعي: لا يقتل حتى بعد بلوغه، قال: «لأن إيمانه لم يكن وهو بالغ، ويؤمر بالإيمان، ويجهد عليه بلا قتل» اهـ (¬4). 2 - العقل: فلا تقع الرِّدة من مجنون، للحديث المتقدم، ولذا اتفق الفقهاء على أنه لا صحة لإسلام المجنون ولا لردَّته، بل أحكام الإسلام تبقى سائرة عليه ¬

(¬1) «لسان العرب»، و «الخرشي» (8/ 62)، و «المغني» (8/ 540)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 434). (¬2) سورة البقرة: 217. (¬3) صحيح: تقدم تخريجه كثيرًا. (¬4) «المبسوط» (10/ 122)، و «ابن عابدين» (4/ 257)، و «جواهر الإكليل» (1/ 21، 116)، و «الأم» (6/ 149)، و «الإنصاف» (10/ 320)، و «المغني» (8/ 551).

لكن إذا كان يجن ساعة ويفيق أخرى، فإن كانت ردته في إفاقته وقعت، وأن كانت في جنونه لا تقع (¬1). ردَّة السكران (¬2): تقدم أنه يشترط لوقوع الرِّدة من المسلم أن يكون عاقلًا، فلو فقد عقله بشرب مسكر، فاختلف أهل العلم في وقوع ردَّته حال سكره على قولين: الأول: تقع ردته، وهو مذهب الشافعية وأظهر الروايتين عن أحمد، واحتجوا بأن الصحابة أقاموا حد القذف على السكران، وبأنه يقع طلاقه، قالوا: فتقع ردَّته، وبأنه مكلف وأن عقله لا يزول كليًّا، فهو أشبه بالناعس منه بالنائم أو المجنون. الثاني: لا تقع ردة السكران: وهو مذهب الحنفية وقول عند الشافعية ورواية عن أحمد وهو قياس اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وشيخنا ابن عثيمين - رحمهم الله -. وحجتهم أن الردَّة تبنى على الاعتقاد، والسكران غير معتقد لما يقول، ولأنه زائل العقل فلا تكليف عليه؛ لأن العقل شرط في التكليف وهو معدوم في حقه. قلت: وهذا هو الأظهر، والله أعلم. 3 - الاختيار (¬3): يشترط لوقوع الردَّة أن يكون المرتد مختارًا، وهو ضد الإكراه، وهو اسم لما يفعله المرء بغيره، فينتفي به رضاه، أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به أهليته أو يسقط عنه الخطاب. والإكراه نوعان: نوع يوجب الإلجاء والاضطرار طبعًا، كالإكراه بالقتل أو القطع أو الضرب الذي يخاف فيه تلف النفس أو العضو، قلَّ الضرب أو كثر، وهذا النوع يسمى إكراهًا تامًّا. ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 134)، و «الأم» (6/ 648)، و «الإقناع» (4/ 301). (¬2) «المبسوط» (10/ 123)، و «البدائع» (7/ 134)، و «الأم» (6/ 148)، و «الإنصاف» (10/ 331)، و «المغني» (8/ 563)، و «كشاف القناع» (6/ 177)، و «الشرح الممتع» (11/ 285). (¬3) «المبسوط» (24/ 38)، و «البدائع» (7/ 170 - 175)، و «الأم» (6/ 652)، و «فتح الجليل» (4/ 407).

ونوع لا يوجب الإلجاء والاضطرار، وهو الحبس أو القيد أو الضرب الذي لا يخاف منه التلف، وهذا النوع من الإكراه يسمى إكراهًا ناقصًا. وقد اتفق أهل العلم على أن من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر، لم يصر كافرًا، لقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله} (¬1). ولما نقل عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - من أنه حمله المشركون على ما يكره، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «إن عادوا فَعُدْ» (¬2) وهذا في الإكراه التام. وهل يشترط أن يفعله دفعًا للإكراه؟ قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: «الصحيح أنه لا يكفر ولو كان لم يطرأ على باله أنه يريد دفع الإكراه، لعموم قوله تعالى: {إلا من أكره} ولأن العامة خصوصًا لا يشعرون بهذا المعنى. اهـ. 4 - إرادة الكفر (¬3): ولابد لوقوع الرِّدة أن يكون المرتد مريدًا للكفر، فلو جرى على لسانه من غير قصد، فإنه لا يكفر لأنه لم يُرده، لقوله تعالى: {ولكن كم شرح بالكفر صدرًا} (¬4) فغير المريد لم يشرح بالكفر صدرًا، كمن ينطق بالكفر لشدة فرح أو هرم أو ما أشبه ذلك، وهو لا يكفر. ودليله ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الرجل الذي «انفلتت منه راحلته بأرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال - من شدة الفرح -: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» أخطأ من شدة الفرح» (¬5). 5 - العلم بالحال والحكم (¬6): لابد لوقوع الردة أن يعلم المرتد أن هذا القول أو الفعل مكفِّر، فلو تكلم ¬

(¬1) سورة النحل: 106. (¬2) مرسل: أخرجه الحاكم (2/ 389)، والبيهقي (8/ 208)، وأبو نعيم في «الحلية» طرق عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه مرسلًا، ولذا قال ابن حجر في «البداية» (2/ 197): إسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه. اهـ. (¬3)، (2) «الشرح الممتع» (11/ 286 - 289) بتصرف يسير. (¬4) سورة النحل: 106. (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (2747) وغيره. (¬6) سورة النساء: 115.

عربي بكلمة كفر أعجمية، لقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (¬1). فعلم أن من لم يتبين له الهدى شاق الرسول لا يستحق هذا الجزاء، فإذا ارتفع هذا الجزاء ارتفع سببه وهو الكفر. وقال سبحانه: {وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} (¬2) وقال عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (¬3) فالجهل مسقط للحكم، وموجب لانتفاء الردَّة، وهذا لا ينفي أن يكون القول أو الفعل كفرًا لكن القائل أو الفاعل لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة. ردَّة الهازل (¬4): الهازل: هو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته، بل على وجه اللعب. ومن أتى هازلًا بما يوجب ردَّته، فهو مرتد وعقوبته القتل كما قرره غير واحد من أهل العلم. 1 - والأصل في هذا قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (¬5). قال ابن العربي: «لا يخلو ما قالوه من ذلك جدَّا أو هزلًا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل» اهـ. 2 - ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (¬6). فالهازل بما يوجب ردَّته مبدل لدينه، والهازل في حقوق الله غير معذور، فيكون بهزله بذلك مبدلًا لدينه، فيكون مرتدًا يجب قتله، والحديث بعمومه يتناول المبدل جادًّا والمبدل هازلًا، والله أعلم. ¬

(¬1) سورة التوبة: 115. (¬2) سورة الإسراء: 15. (¬3) «تفسير القرطبي» (8/ 107)، و «نهاية المحتاج» (7/ 394)، و «كشاف القناع» (6/ 168)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 439 - 442). (¬4) (¬5) سورة التوبة: 65، 66. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة.

ما تقع به الرِّدة: تنقسم الأمور التي تحصل بها الردة إلى أربعة أقسام: ردة في الاعتقاد، ردة في الأقوال، ردة في الأفعال، ردة في الترك. إلا أن هذه الأقسام تتداخل، فمن اعتقد شيئًا عبَّر عنه بقول أو فعل أو ترك. (أ) مما يوجب الردة من الاعتقاد: 1 - اتفق العلماء على أن من أشرك بالله تعالى، أو جحده، أو نفى صفة ثابتة من صفاته، أو أثبت لله الولد فهو مرتد كافر (¬1). 2 - وكذلك من قال بقدم العالم أو بقائه، أو شك في ذلك، ودليلهم قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (¬2). قال ابن دقيق العيد: «... لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة، فيكفر بسبب مخالفته النقل المتواتر ...» اهـ (¬3). 3 - ويكفر من جحد القرآن كله أو بعضه ولو كلمة، وقال بعضهم: بل يحصل الكفر بجحد حرف واحد، كما يحصل الكفر باعتقاد تناقضه واختلافه، أو الشك بإعجازه، والقدرة على مثله، أو إسقاط حرمته أو الزيادة فيه (¬4). فائدة: أما تفسير القرآن وتأويله، فلا يكفر جاحده ولا رادُّه، لأنه أمر اجتهادي من فعل البشر (¬5): 4 - ويعتبر مرتدًّا كذلك من اعتقد كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض ما جاء به، ومن اعتقد حِلَّ شيء مجمع على تحريمه، كالزنا وشرب الخمر، أو أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة (¬6). ¬

(¬1) «الموسوعة الفقهية» (22/ 183) وما بعدها. (¬2) سورة القصص: 88. (¬3) «ابن عابدين» (4/ 223)، و «الدسوقي» (4/ 302)، و «الإنصاف» (10/ 326)، و «المغني» (8/ 565). (¬4) «العدة» (4/ 300). (¬5) «ابن عابدين» (4/ 222 - 230)، و «الإقناع» (4/ 297)، و «المغني» (8/ 548). (¬6) المراجع السابقة.

(ب) مما يوجب الردَّة من الأقوال: 1 - سبَّ الله تعالى: اتفق الفقهاء على أن من سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحًا أو جادًا، أو مستهزئًا (¬1). وقد قال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (¬2). 2 - سب الرسول - صلى الله عليه وسلم -: من سبَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مرتد بلا خلاف، ويعتبر سابًّا له - صلى الله عليه وسلم - كل من ألحق به عيبًا أو نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو ازدراه، أو عرَّض به، أو لعنه، أو شتمه، أو عابه، أو قذفه، أو استخف به، ونحو ذلك (¬3). فعن عليٍّ - رضي الله عنه -: «أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمها» (¬4). وعن علي بن المديني، قال: دخلت على أمير المؤمنين فقال: أتعرف حديثًا مسندًا فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقتل؟ قلت: نعم، فذكرت له حديث عبد الرزاق عن معمر بن سماك بن الفضل بن عروة بن محمد عن رجل من بلقين، قال: «كان رجل يشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يكفيني عدوًّا لي؟» فقال خالد بن الوليد: أنا، فبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فقتله». فقال له أمير المؤمنين: ليس هذا مسندًا، هو عن رجل (!!) فقلت يا أمير المؤمنين بهذا يعرف هذا الرجل وهو اسمه، وقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعه، وهو مشهور معروف، قال: فأمر لي بألف دينار (¬5). ¬

(¬1) «المغني» (8/ 565)، و «الخرشي» (8/ 74)، و «الصارم المسلول» (ص 550)، و «نيل الأوطار» (8/ 194). (¬2) سورة التوبة: 65، 66. (¬3) «ابن عابدين» (4/ 232 - 237)، و «الصارم المسلول» (ص 550)، و «زاد المعاد» (3/ 214). (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (4362) وغيره. (¬5) أخرجه عبد الرزاق (9705)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 413) من طريق علي بن المديني عن عبد الرزاق به، ثم قال: هذا حديث مسند صحيح وقد رواه علي بن المديني عن عبد الرزاق كما ذكره، وهذا رجل من الصحابة معروف اسمه الذي سماه به أهله: رجل من بلقين ... اهـ.

3 - سب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام: من سبَّ نبيًّا ممن اتفق على نبوتهم، فكأنما سبَّ نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وسابُّه كافر، فكذا كل نبي مقطوع بنبوته، وعلى هذا اتفق الفقهاء. وإن كان نبيَّا غير مقطوع بنبوته، فمن سبَّه زجر، وأُدِّب ونُكِّل به، لكن لا يقتل، وبهذا صرَّح الحنفية (¬1). 4 - قذف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: من قذف عائشة - رضي الله عنها - فهو كافر مرتدٌّ، حكي الإجماع على ذلك جماعة من أهل العلم، والحجة في هذا أن براءتها قد نزلت في كتاب الله تعالى، فيكون قاذفها مكذبًا لصريح القرآن الذي نزل بحقها في قصة الإفك إذ قال تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين} (¬2). فمن عاد لذلك فليس بمؤمن (¬3). وهل سائر الزوجات مثلها؟ (¬4) ذهب الحنفية والحنابلة - في الصحيح - واختاره شيخ الإسلام، إلى أنهن مثلها في ذلك لقوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} (¬5) ولأن الطعن بهن يلزم منه الطعن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والعار عليه، وذلك ممنوع. وذهب الشافعية - وهو الرواية الأخرى عند الحنابلة - إلى أنهن - سوى عائشة - كسائر الصحابة، وسابهن يجلد؛ لأنه قاذف. قلت: لعل هذا الأخير أظهر، والعلم عند الله. ¬

(¬1) المراجع السابقة، و «القليوبي» (4/ 175). (¬2) سورة النور: 17. (¬3) «المحلي» (11/ 506)، و «ابن عابدين» (4/ 237)، و «الإقناع» (4/ 299)، و «الخرشي» (8/ 74)، و «الصارم المسلول» (ص 571)، و «زاد المعاد» (1/ 26)، و «كشاف القناع» (6/ 172). (¬4) المراجع السابقة و «أسنى المطالب» (4/ 117). (¬5) سورة النور: 26.

حكم من قال لمسلم: «يا كافر»: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه» (¬1). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه» (¬2). قيل: معناه: فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير، لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا، فكأنه كفَّر نفسه، إما لأنه كفَّر من هو مثله، أو لأنه كفَّر من لا يكفِّره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام، قاله النووي. وقال المازري: قوله (وإلا رجعت عليه) يحتمل أن يكون إذا قالها مستحلًّا فيكفر باستحلاله. قال النووي: وقيل معناه أن ذلك يأول به إلى الكفر، يعنى أنه يُخاف على المكثر من ذلك أن يكون عاقبة شؤمها الكفر والمصير إليه. قال ابن عبد البر: والمعنى فيه عند أهل الفقه والأثر والجماعة: النهي عن تكفير المسلم. اهـ. (جـ) مما يوجب الردَّة من الأفعال: 1 - إلقاء المصحف في محل قذر (¬3): فهذا يوجب الرِّدة باتفاق الفقهاء؛ لأن فعل ذلك استخفاف بكلام الله تعالى، فهو أمارة عدم التصديق. وقال الشافعية والمالكية: وكذا إلقاء بعضه، وكذا كل فعل يدل على الاستخفاف بالقرآن الكريم. 2 - السجود لصنم ونحوه، أو السجود للشمس والقمر، فهو كفر بالاتفاق (¬4). 3 - السحر (¬5): قال الله تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم. (¬3) «ابن عابدين» (4/ 222)، و «الخرشي» (8/ 62)، و «كفاية الأخيار» (2/ 201)، و «منار السبيل» (2/ 404). (¬4) المراجع السابقة، و «القليوبي» (4/ 1674)، و «الإنصاف» (10/ 326). (¬5) «فتح الباري» (10/ 235)، و «تفسير القرطبي»، و «نيل الأوطار» (7/ 209)، وانظر «ابن عابدين» (3/ 295)، و «الدسوقي» (4/ 302)، و «روض المطالب» (4/ 117)، و «الإنصاف» (10/ 349).

على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} (¬1). وقد ثنَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسحر الشركَ في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (¬2). وقد استُدل بهذه الآية على أن السحر كفر مطلقًا، ومتعلمه كافر يُقتل ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق، وبهذا قال مالك وأحمد وجماعة من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبو موسى وقيس بن سعد. وقد روُي من حديث جندب مرفوعًا: «حدُّ الساحر ضربة بالسيف» (¬3) ولا يصح مرفوعًا. ومما ثبت في قتل الساحر: 1 - أثر عمرو بن دينار قال: سمعت بجالة يحدث أبا الشعثاء وعمرو بن أوس عند صفة زمزم في إمارة مصعب بن الزبير قال: كنت كاتبًا لجزء عم الأحنف بن قيس، فأتانا كتاب عمر قبل موته بسنة: «اقتلوا كل ساحر، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة» فقتلنا ثلاث سواحر (¬4). 2 - وعن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها، واعترفت بذلك، فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد فقتلها، فأنكر ذلك عليها عثمان، فقال ابن عمر: «وما تنكر على أم المؤمنين من امرأة سحرت واعترفت؟» فسكت عثمان (¬5). 3 - وعن أبي عثمان النهدي عن جندب أنه قتل ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة، ثم قال: «أتأتون السحر وأنتم تبصرون» (¬6). وأما جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية، والحنابلة فذهبوا إلى أن السحر ¬

(¬1) سورة البقرة: 102. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89). (¬3) ضعيف: أخرجه الترمذي (1460)، والدارقطني (3/ 114). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 180). (¬5) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 180)، والبيهقي (8/ 136). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (8/ 136) في «السنن الكبرى».

من كبائر الذنوب وهو من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرًا ومنه ما لا يكون كفرًا بل معصية كبيرة فإن كان فيه قول أو نص يقتضي الكفر فهر كفر وإلا فلا، وأما تعلمه أو تعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر. وقال القرطبي - رحمه الله -: وقال بعض العلماء: إن قال أهل الصناعة إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار أو تعظيم الشيطان، فالسحر إذًا دالٌّ على الكفر على هذا التقدير، والله أعلم. اهـ. 4 - كل فعل صريح في الاستهزاء بالإسلام، فهو كفر كذلك. بهذا قال الحنفية لقوله تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (¬1) (¬2). (د) مما يوجب الردة من الترك: 1 - ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج جحودًا لها: لأنها من المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة فمن ترك شيئًا من ذلك جاحدًا له فإنه يكون مرتدًّا بلا خلاف (¬3). 2 - ترك الصلاة ولو من غير جحود: ردَّة كذلك في أصح قولي العلماء، وقد تقدم تحرير هذا في أوائل «كتاب الصلاة» وهذا مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وأحد الوجهين من مذهب الشافعية، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وحكاه ابن حزم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة (¬4). ثبوت الرِّدة: تثبت الردة بأحد أمرين: 1 - الإقرار. 2 - الشهادة. ¬

(¬1) سورة التوبة: 65، 66. (¬2) «حاشية ابن عابدين» (4/ 222). (¬3) «ابن عابدين» (1/ 352)، و «المغني» (8/ 547)، و «الإنصاف» (1/ 401). (¬4) «كتاب الصلاة» لابن القيم (ص 42)، و «القليوبي» (1/ 319)، و «المغني» (8/ 444).

ويشترط في الشهادة على الردة أن تكون من شاهدين عدلين في قول أكثر أهل العلم، وخالف الحسن فاشترط شهادة أربعة، قال: لأنها شهادة بما يوجب القتل، فلم يُقبل فيها إلا أربعة قياسًا على الزنا (!!). وفيه نظر، لأنه قياس لا يصح، إذ ليست العلة في اشتراط الأربعة في الزنا هي القتل، بدليل أنه يعتبر في زنا البكر كذلك الأربعة في الشهادة، ولا قتل فيه. ويجب التفصيل في الشهادة على الردة بأن يبين الشهود وجه كفره، نظرًا للخلاف في موجباته، وحفاظًا على الأرواح (¬1). وإذا أنكر المرتد؟ إذا أنكر المرتد ما شهد به عليه اعتبر إنكاره توبة ورجوعًا عند الحنفية، فيمتنع القتل في حقه. وأما الجمهور فقالوا: يحكم عليه بالشهادة ولا ينفعه إنكاره، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلمًا (¬2). استتابة المرتد: اختلف أهل العلم في حكم استتابة المرتد بعد ثبوت الردة عليه، على خمسة أقوال: الأول: يجب استتابته مطلقًا، سواء كان مسلمًا أصليًّا ثم ارتد، أو كان كافرًا ثم أسلم ثم ارتد، وهذا مذهب مالك والرواية المشهورة في مذهب أحمد، وهو رواية عن أبي حنيفة وقول للشافعي، وبه قال عطاء والنخعي والثوري والأوزاعي وإسحاق (¬3) واحتجوا بما يلي: 1 - حديث جابر «أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت» (¬4) وهو حديث ضعيف. 2 - أثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه: قدم عليه رجل من قبل أبي موسى، فسأله ¬

(¬1) «المغني» (8/ 557)، و «الخرشي» (8/ 64). (¬2) «ابن عابدين» (4/ 216)، و «مغني المحتاج» (4/ 138)، و «المغني» (8/ 140). (¬3) «البدائع» (7/ 134)، و «جواهر الإكليل» (2/ 272)، و «الأم» (6/ 148)، و «المغني» (9/ 4). (¬4) ضعيف: أخرجه الدارقطني (238)، وعنه البيهقي (8/ 203)، وانظر «الإرواء» (2472).

عن الناس فأخبره، ثم قال: «هل من مُغربة خَبر؟» قال: نعم، كفر رجل بعد إسلامه، قال: «فما فعلتم به؟» قال: قرَّبناه فضربنا عنقه، فقال عمر: «هلا حبستموه ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه، لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني» (¬1). قالوا: فلو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم. 3 - واستدلوا بفعل بعض الصحابة في استتابتهم للمرتدين كما سيأتي في أدلة الأقوال الأخرى. 4 - وأولوا الأمر بقتل المرتد بأن المراد: بعد أن يستتاب. الثاني: لا تجب استتابة المرتد، وإنما تستحب (¬2)، وهو قول ثانٍ للشافعي ورواية عن أحمد وأبي حنيفة، وبه قال الحسن وطاووس، واحتجوا بما يلي: 1 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (¬3) ولم يذكر استتابة. 2 - قصة تولية أبي موسى الأشعري وفيها: «ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًّا فأسلم ثم تهوَّد، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله (ثلاث مرات) فأمر به فقُتل» (¬4). ولم يذكر استتابته. 3 - عمل الصحابة - رضي الله عنهم - على استتابة المرتد، ومما ثبت عنهم: (أ) أثر أنس قال: لما افتتحنا تستر، بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال: «ما فعل البكريون؟ جهيمة وأصحابه»، قلت: يا أمير المؤمنين ما فعلوا: أنهم فتلوا ولحقوا بالمشركين وارتدوا عن الإسلام، وقاتلوا مع المشركين حتى قتلوا. قال: فقال: «لأن أكون أخذتهم سلمًا كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من ¬

(¬1) إسناده لين: أخرجه مالك في الموطأ (1412 - رواية يحيى)، وعنه الشافعي كما في مسنده (286)، والطحاوي (2/ 120)، والبيهقي (8/ 206)، وفي سنده لين، وقد صح نحوه كما سيأتي لكن ليس فيه تبري عمر من فعلهم!! (¬2) انظر المراجع السابقة. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6922) وغيره، وقد تقدم. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (2230) وغيرهما.

صفراء أو بيضاء»، فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتهم؟ قال: «كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه، فإن أبوا استودعتهم السجن» (¬1). (ب) أثر ابن مسعود أنه: أخذ قومًا ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فكتب إليه أن: «اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوا فخلِّ عنهم، وإن لم يقبلوا فاقتلهم» فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله» (¬2). (جـ) وعن أبي بردة في قصة رجل ارتد عن الإسلام قال: «فأُتي أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام، فدعاه عشرين ليلة أو قريبًا منها، فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه» (¬3). (د) وعن قابوس بن مخارق أن محمد بن أبي بكر كتب إلى عليٍّ يسأله عن مسلمين تزندقا ... ؟ فكتب إليه عليٌّ: «أما الذين تزندقا، فإن تابا، وإلا فاضرب عنقهما ...» (¬4). 4 - قالوا: ولأنه يقتل لكفره، فلم تجب استتابته كالأصلي. 5 - قالوا: ولأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن، ولو حرم قتله قبلها لضمن. الثالث: لا تجب الاستتابة ولا تمنع، وهو مذهب أبي محمد بن حزم وأصحابه (¬5)، وحجتهم عدم الدليل على وجوب الاستتابة، مع كونها من فعل الخير والدعاء إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد قال سبحانه: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} (¬6)، وقال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (¬7). هذا مع فعل الصحابة الذي تقدم ذكره. ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (1212). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (1213). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه أبو داود، ومن طريقه البيهقي (8/ 206). (¬4) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (7/ 342). (¬5) «المحلي» لابن حزم (11/ 190 - 193). (¬6) سورة الحج: 77. (¬7) سورة النحل: 125.

الرابع: تجب الاستتابة لمن كان كافرًا فأسلم ثم ارتد، دون من كان مسلمًا أصليًّا، وهذا قول عطاء، وهو مروي عن ابن عباس، قالوا: وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، فأما من خرج عن بصيرة فلا. الخامس: لا يستتاب، بل يؤمر بالرجوع إلى الإسلام والسيف على عنقه، فإن أبى ضرب عنقه، وبه قال طائفة من العلماء منهم الإمام الشوكاني - رحمه الله - (¬1) وعزا الشوكاني القول بوجوب قتله في الحال إلى الحسن (!!) وطاووس وأهل الظاهر (!!!) ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير، وعليه يدل تصرف البخاري في «الصحيح» وذكر شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - أنه رواية عن أحمد. الراجح: الذي يظهر لي - والعلم عند الله - أن النص المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يدل على وجوب قتل المرتد، فهذا هو الأصل، لكن إن رأى الإمام في إمهاله واستتابته مصلحة فله ذلك، لفعل الصحابة الأخيار - رضي الله عنهم -، ولعموم قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (¬2). فائدة: اختلف القائلون بالاستتابة: هل يكتفي بالمرة أم لابد من ثلاث؟ وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟ ونقل عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه يستتاب شهرًا، واستتاب أبو موسى عشرين يومًا كما تقدم، وعن النخعي: يستتاب أبدًا (!!). قلت: المردُّ للمصلحة التي يراها الإمام، والله أعلم. كيفية توبة المرتد (¬3): إذا نطق المرتد الشهادتين صحت توبته عند الحنفية والشافعية والحنابلة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» (¬4). وحيث إن الشهادة يثبت بها إسلام الكافر الأصلي فكذا المرتد، فإذا ادعى المرتد الإسلام ورفض النطق بالشهادتين، لا تصح توبته. ¬

(¬1) «السيل الجرار» (4/ 352)، و «نيل الأوطار» (7/ 230) ط. دار الحديث. (¬2) سورة التوبة: 5. (¬3) «ابن عابدين» (4/ 246)، و «أسنى المطالب» (4/ 124)، و «الإنصاف» (10/ 335 - 336). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

قلت: وينبغي أن يتنبه إلى أن المرتد إن كان كفره لإنكار شيء آخر، كمن خصص رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالعرب، أو جحد فرضًا أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة ونحو ذلك من البدع المكفرة التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، فإنه لا يحكم بإسلامه بمجرد الشهادتين، بل يلزمه مع الشهادتين الإقرار بما أنكر ويتوب مما كان سببًا في الحكم عليه بالردة، وبهذا قال الشافعية والحنابلة. وأما قول الحنفية: إن توبة المرتد أن يتبرأ عن الأديان سوى الإسلام أو عما انتقل إليه بعد نطقه بالشهادتين (!!) فهذا كلام مجمل لا يكفي في حقيقة التوبة لأنه قد يعتقد أن ما هو عليه هو الإسلام، وما أكثر الذين يدَّعون أنهم مسلمون وهم متلبسون بالكفر، والله أعلم. توبة الزنديق ومن تكررت ردته: اختلف الفقهاء في قبول توبة المرتد وعدم قبولها (¬1) إذا كان زنديقًا، وهو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وتوبة من تكررت ردَّته، على قولين (¬2): الأول: تقبل توبته كأي مرتد، وهو مذهب الحنفية والشافعية وإحدى الروايتين في مذهب أحمد واختارها ابن قدامة، وهو مروي عن عليٍّ وابن مسعود - رضي الله عنهما -، واحتجوا بما يلي: 1 - قول الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (¬3). 2 - وقوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} (¬4). 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا لله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (¬5). ¬

(¬1) المراد بعدم قبول التوبة هنا: عدم قبولها في الظاهر بمعنى أنه لا يدرأ عنه القتل، وأما الباطن فباب التوبة مفتوح لكل من أراد كما تضافرت بذاك الأدلة. (¬2) «ابن عابدين» (4/ 225)، و «فتح القدير» (5/ 309)، و «جواهر الإكليل» (2/ 279)، و «المجموع» (19/ 232)، و «أسنى المطالب» (4/ 122)، و «الأم» (6/ 147)، و «المغني» (8/ 543)، و «الإنصاف» (10/ 332). (¬3) سورة الأنفال: 38. (¬4) سورة النساء: 145، 146. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري.

4 - ما رُوي أن رجلًا سارًّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل رجل من المسلمين - وفي رواية: من المنافقين - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: بلى، ولا شهادة له، قال: «أليس يصلي؟» قال: بلى ولا صلاة له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم». 5 - قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفَّ عن النافقين بما أظهروا من الشهادة مع إخبار الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بهم، وإخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بجماعة منهم، وكانت لهم بالمدينة قوة وشوكة. فائدة: صرَّح الحنفية بأن توبته تقبل، لكنه يُعذب في كل مرة ويحبس. القول الثاني: لا تقبل توبته، وهذا مذهب مالك والرواية الثانية عن أبي حنيفة وأحمد، وبه قال الليث وإسحاق، وحجتهم: 1 - قول الله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} (¬1). فانتفت عنهم المغفرة والهداية لانتفاء توبتهم، ولو قبل توبتهم لغفر لهم. وأجيب ... بأن الآية الكريمة ليس في آخرها أنهم تابوا، بل هم قد ازدادوا كفرًا فلم يوفقهم الله تعالى للتوبة، وليس المعنى: إذا تابوا لم يتب عليهم. 2 - ما روي عن ظبيان بن عمارة: أن رجلًا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن مسعود، فذكر ذلك له، فبعث إليهم؛ فأتى بهم، فاستتابهم، فتابوا، فخلَّى سبيلهم إلا رجلًا منهم يقال له «ابن النوَّاحة» قال: «قد أوتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت، وأراك عدت» فقتله (¬2). 3 - قالوا: ولأن تكرار الردَّة دليل على فساد العقيدة، وقلة المبالاة، والتلاعب بالدين (¬3). وأجاب ابن قدامة بأن الأثر حجة في قبول توبتهم مع استمرارهم بالكفر، وأما قتله لابن النواحة فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته، أو لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيها لما جاء رسولًا لمسيلمة: «لولا أنك رسول لضربت عنقك» (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء: 137. (¬2) أخرجه البيهقي (8/ 206). (¬3) «منار السبيل» (2/ 409). (¬4) أخرجه أبو داود (2762)، والبيهقي (8/ 26).

فقال ابن مسعود: «فأنت اليوم لست برسول» فأمر قرطة بن كعب فضرب عنقه في السوق. اهـ. الترجيح: أقول: هاهنا أمران أحب التنبيه عليهما: 1 - تكرار الذنب لا يستلزم عدم صدق التوبة، فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عبدًا أصاب ذنبًا فقال: رب أذنبت ذنبًا، فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبًا ... [الحديث وفي آخره:] فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي [ثلاثًا] فليعمل ما شاء» (¬1). 2 - والأمر الآخر أنه ينبغي، التنبُّه والتحرِّي قبل قبول توبة الزنديق ومن تكررت ردَّته، ولذلك فالذي يظهر لي أن أمر قبولها وعدمه راجع إلى الحاكم، وقد جعل الله تعالى للمؤمنين على المنافقين سبيلًا بمعرفتهم في لحن القول، كما قال سبحانه: {ولتعرفنهم في لحن القول} (¬2). وأما إطلاق القول بقبول توبتهما أو عدمه فلا أرى في أدلة الفريقين ما يقويه، إذ غالبها يتعلق بالتوبة في الباطن - فيما بينه وبين الله - وهذا ليس موضع النزاع كما رأيت. وأما أثر ابن مسعود فهو مع كونه محتملًا - كما رأيت - فهو موافق لما رجَّحته، والله المستعان. قتل المرتد: إذا ارتد المسلم، وكان مستوفيًا شرائط الردَّة، أهدر دمه، وقتله الإمام أو نائبه بعد الاستتابة. ودليل قتله كما تقدم حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (¬3). وحديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬4). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758). (¬2) سورة محمد: 30. (¬3) صحيح: تقدم كثيرًا. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري.

فإذا قتل المرتد على ردَّته، فلا يُغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفن مع المسلمين. وقتل المرتد إنما هو إلى الإمام حرًّا كان أو عبدًا، وعلى هذا عامة أهل العلم إلا الشافعي - رحمه الله - في أحد الوجهين في العبد، فإن لسيده قتله، وحجته حديث: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» (¬1). وقتل حفصة - رضي الله عنها - لجارية سحرتها، ولأنه حق الله تعالى، فملك سيده إقامته على عبده كجلد الزاني. وأجاب الجمهور بأن حديث: «أقيموا الحدود ...» لا يتناول القتل للردة، فإنه قتل لأجل الكفر وليس حدًّا. قالوا: وأما خبر حفصة فإن عثمان تغيَّظ عليها وشق ذلك عليه!! [قلت: لكن راجعه ابن عمر فسكت كما تقدم]. قالوا: والجلد للزاني تأديب، وللسيد تأديب عبده، بخلاف القتل فإن قتله غير الإمام أساء ولا ضمان عليه. قلت: قول الجمهور أحوط لما فيه من سدِّ ذريعة قتل السيد لعبده مع عدم استحقاقه، على أن المرتد لو قتله غير الإمام فهو مسيء يُعزَّر لإساءته وافتياته، لكن لا ضمان عليه، والله أعلم. وهل تُقْتَلُ المرتدة كالرجل؟ إذا ارتدت المرأة المسلمة وكانت مستوفية لشرائط الردّة، فقد تنازع أهل العلم في قتلها، على ثلاثة أقوال (¬2): الأول: تقتل، لا فرق بينها وبين المرتد: وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد، وهو مروي عن أبي بكر وعليٍّ - رضي الله عنهما -، وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد والليث والأوزاعي وإسحاق: 1 - لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه». ¬

(¬1) تقدم في أول «الحدود». (¬2) «البدائع» (7/ 135)، و «جواهر الإكليل» (2/ 278)، و «الأم» (6/ 148)، و «المجموع» (19/ 225)، و «مغني المحتاج» (4/ 139)، و «المغني» (8/ 123 - ط الرياض)، و «الإنصاف» (10/ 328).

2 - وعموم قوله فيمن يحل دمه: «... والتارك لدينه المفارق للجماعة». 3 - ولما روي أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت» (¬1). 4 - ولأنها شخص مكلف بدَّل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل. الثاني: لا تقتل، بل تحبس وتضرب حتى تتوب أو تموت: وهذا مذهب أبي حنيفة، واحتج له: 1 - يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقتلوا امرأة» (¬2). وأجيب: بأن هذا النهي إنما هو عن قتل المرأة الكافرة الأصلية التي لا تقاتل ولا تحرض على القتال، وقد نهى عنه عندما رأى امرأة مقتولة. ثم إن المرأة لو شاركت في القتال فإنها تقتل، فعن رباح بن ربيع قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء، فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلًا فقال: «قل لخالد: لا يقتلن امرأة ولا عسيفًا» (¬3). 2 - قالوا: ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي (!!). وأجيب ... بأن قياس المرأة على الصبي، قياس مع الفارق، فإن الصبي غير مكلف، وهي مكلفة. القول الثالث: لا تقتل، وإنما تُسترق، وهو منسوب لعليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - (!!) والحسن وقتادة، وحجتهم: «أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - استرق نساء بني حنيفة وذراريهم، وأعطى عليًّا منهم امرأة فولدت له محمد ابن الحنفية». قالوا: وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعًا (!!). وأجيب .. بأنه لم يثبت أن من استُرق من بني حنيفة تقدم له إسلام، ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم، وإنما أسلم بعضهم، وعلى كل حالٍ فقد اجتمعوا ¬

(¬1) ضعيف: تقدم قريبًا. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم. (¬3) أخرجه أبو داود، والحاكم (2/ 122).

على الردة وحرب المسلمين، ولهذا قوتلوا وعوملوا معاملة كفار محاربين، فمن وقع منهم في الأسر ورأى الإمام استرقاقه فله ذلك. الراجح: لا شك أن مذهب الجمهور هنا هو الصواب وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «النساء شقائق الرجال» (¬1) وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بنص، ولا نص هنا والله أعلم. جنايات المرتد: الردة لترك الصلاة: لا خلاف في أن من ترك الصلاة جاحدًا لها يكون مرتدًّا، وكذا الزكاة والصوم والحج، لأنها من المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة. وأما تارك الصلاة كسلًا ففي حكمه ثلاثة أقوال: أحدها: يقتل ردة، وهي رواية عن أحمد وقول سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبي عمرو، والأوزاعي، وأيوب السختياني، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وهو أحد الوجهين من مذهب الشافعي، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وحكاه أبو محمد بن حزم عن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة. والقول الثاني: يقتل حدًّا لا كفرًا، وهو قول مالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد. والقول الثالث: أن من ترك الصلاة كسلًا يكون فاسقًا ويحبس حتى يصلي، وهو المذهب عند الحنفية. جنايات المرتد والجناية عليه: جنايات المرتد على غيره لا تخلو: إما أن تكون عمدًا أو خطأ، وكل منها، إما أن تقع على مسلم، أو ذمي، أو مستأمن، أو مرتد مثله. وهذه الجنايات إما أن تكون على النفس بالقتل، أو على ما دونها، كالقطع والجرح، أو على العرض كالزنا والقذف، أو على المال كالسرقة وقطع الطريق، وهذه الجنايات قد تقع في بلاد الإسلام، ثم يهرب المرتد إلى بلاد الحرب، أو لا يهرب، أو تقع في بلاد الحرب، ثم يتنقل المرتد إلى بلاد الإسلام. ¬

(¬1) حسن.

وقد تقع منه هذه كلها في إسلامه، أو ردته، وقد يستمر على ردته أو يعود مسلمًا، وقد تقع منه منفردًا، أو في جماعة، أو أهل بلد. ومثل هذا يمكن أن يقال في الجناية على المرتد. جناية المرتد على النفس: إذا قتل مرتد مسلمًا عمدًا فعليه القصاص، اتفاقًا. أما إذا قتل المرتد ذميًّا أو مستأمنًا عمدًا فيقتل به عند الحنفية والحنابلة وهو أظهر قولي الشافعي، لأنه أسوأ حالًا من الذمي، إذ المرتد مهدر الدم ولا تحل ذبيحته، ولا مناكحته، ولا يقر بالجزية. ولا يقتل عند المالكية وهو القول الآخر للشافعي لبقاء علقة الإسلام، لأنه لا يقر على ردته. وإذا قتل المرتد حرًّا مسلمًا أو ذميًّا خطأ وجبت الدية في ماله، ولا تكون على عاقلته عند الحنفية ولشافعية والحنابلة. والدية يشترط لها عصمة الدم لا الإسلام عند الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأنه قد حل دمه وصار بمنزلة أهل الحرب. وقال المالكية بأن الضمان على بيت المال لأن بيت المال يأخذ أرش الجناية عليه ممن جني فكما يأخذ ماله يغرم عنه. وهذا إن لم يتب. فإن تاب فقيل: في ماله، وقيل: على عاقلته، وقيل: على المسلمين، وقيل: على من ارتد إليهم. جناية المرتد على ما دون النفس: قال المالكية: لا فرق في جناية المرتد بين ما إذا كانت على النفس أو على ما دونها، ولا يقتل المرتد بالذمي، وإنما عليه الدية في ماله لزيادته على الذمي بالإسلام الحكمي. وقال ابن قدامة: يقتل المرتد بالمسلم والذمي، وإن قطع طرفًا من أحدهما فعليه القصاص فيه أيضًا. وقال بعض أصحا ب الشافعي: لا يقتل المرتد بالذمي ولا يقطع طرفه بطرفه، لأن أحكام الإسلام في حقه باقية بدليل وجوب العبادات عليه ومطالبته بالإسلام. قال ابن قدامة: ولنا: أنه كافر فيقتل بالذمي كالأصلي.

وفي مغني المحتاج: الأظهر قتل المرتد بالذمي لاستوائهما في الكفر. بل المرتد أسوأ حالًا من الذمي لأنه مهدر الدم فأولى أن يقتل بالذمي. زنى المرتد: إذا زنى مرتد أو مرتدة وجب عليه الحد، فإن لم يكن محصنًا جلد. وإن كان محصنًا ففي زوال الإحصان بردته خلاف. أساسه الخلاف في شروط الإحصان، هل من بينها الإسلام أن لا؟ قال الحنفية والمالكية: من ارتد بطل إحصانه، إلا أن يتوب أو يتزوج ثانية. وقال الشافعة والحنابلة وأبو يوسف: إن الردة لا تؤثر في الإحصان، لأن الإسلام ليس من شروط الإحصان. قذف المرتد غيره: إذا قذف المرتد غيره، وجب عليه الحد بشروطه، إلا أن يحصل منه ذلك في دار الحرب، حيث لا سلطة للمسلمين، والقضية مبنية على شرائط القذف، وليس من بينها إسلام القاذف. إتلاف المرتد المال: إذا اعتدى مرتد على مال غيره - في بلاد الإسلام - فهو ضامن بلا خلاف. لأن الردة جناية، وهي لا تمنح صاحبها حق الاعتداء. السرقة وقطع الطريق: إذا سرق المرتد مالًا، أو قطع الطريق، فهو كغيره مؤاخذ بذلك، لأنه ليس من شرائط السرقة أو قطع الطريق الإسلام. لذا فالمسلم والمرتد في ذلك سواء. مسئولية المرتد عن جناياته قبل الردة: إذا جنى مسلم على غيره، ثم ارتد الجاني يكون مؤاخذًا بكل ما فعل سواء استمر على ردته أو تاب عنها. الارتداد الجماعي: المقصود بالارتداد الجماعي: هو أن تفارق الإسلام جماعة من أهله، أو أهل بلد. كما حدث على عهد الخليفة الراشد أبي بكر - رضي الله عنه -. فإن حصل ذلك، فقد اتفق الفقهاء على وجوب قتالهم مستدلين بما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - بأهل الردة.

ثم اختلفوا بمصير دارهم على قولين: الأول للجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد من الحنفية): إذا أظهروا أحكام الشرك فيها، فقد صارت دارهم دار حرب؛ لأن البقعة إنما تنسب إلينا، أو إليهم باعتبار القوة والغلبة. فكل موضع ظهر فيه أحكام الشرك فهو دار حرب، وكل موضع كان الظاهر فيه أحكام الإسلام، فهو دار إسلام. وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - إنما تصير دار المرتدين دار حرب بثلاث شرائط: أولًا: أن تكون متاخمة أرض الشرك، ليس بينها وبين أرض الحرب دار للمسلمين. ثانيًا: أن لا يبقى فيها مسلم آمن بإيمانه، ولا ذمي آمن بأمانه. ثالثًا: أن يظهروا أحكام الشرك فيها. فأبو حنيفة يعتبر تمام القهر والقوة، لأن هذه البلدة كانت من دار الإسلام، محرزة للمسلمين فلا يبطل ذلك الإحراز، إلا بتمام القهر من المشركين، وذلك باستجماع الشرائط الثلاث. الجناية على المرتد: اتفق الفقهاء على أنه إذا ارتد مسلم فقد أهدر دمه، لكن قتله للإمام أو نائبه، ومن قتله من المسلمين عزر فقط، لأنه افتات على حق الإمام؛ لأن إقامة الحد له. وأما إذا قتله ذمي؛ فذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية في الأظهر) إلى أنه لا يقتص من الذمي. وذهب الشافعية في القول الآخر إلى أنه يقتص من الذمي. الجناية على المرتد فيما دون النفس: اتفق الفقهاء على أن الجناية على المرتد هدر، لأنه لا عصمة له. أما إذا وقعت الجناية على مسلم ثم ارتد فَسَرَتْ ومات منها، أو وقعت على مرتد ثم أسلم فَسَرَتْ ومات منها ففيها أقوال تنظر في باب «القصاص» من كتب الفقه. قذف المرتد: اتفق الفقهاء على عدم وجوب الحد على قاذف المرتد، لأن من شروط وجوب حد القذف: أن يكون المقذوف مسلمًا.

ثبوت الردة: تثبت الردة بالإقرار أو بالشهادة. وتثبت الردة عن طريق الشهادة، بشرطين: (أ) شرط العدد: اتفق الفقهاء على الاكتفاء بشاهدين في ثبوت الردة، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن، فإنه اشترط شهادة أربعة. (ب) تفضيل الشهادة: يجب التفصيل في الشهادة على الردة بأن يبين الشهود وجه كفره، نظرًا للخلاف في موجباتها، وحفاظًا على الأرواح. وإذا ثبتت الردة بالإقرار وبالشهادة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وإن أنكر المرتد ما شهد به عليه اعتبر إنكاره توبة ورجوعًا عند الحنفية فيمتنع القتل في حقه، وعند الجمهور: يحكم عليه بالشهادة ولا ينفعه إنكاره، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلمًا. استتابة المرتد: حكمها: ذهب أبو حنيفة والشافعي - في قول - وأحمد في رواية والحسن البصري إلى أن استتابة المرتد غير واجبة. بل مستحبة كما يستحب الإمهال، إن طلب المرتد ذلك، فيمهل ثلاثة أيام. أموال المرتد وتصرفاته: ذهب المالكية والحنابلة - غير أبي بكر - والشافعية في الأظهر، وأبو حنيفة إلى أن ملك المرتد لا يزول عن ماله بمجرد ردته، وإنما هو موقوف على مآله فإن مات أو قتل على الردة زال ملكه وصار فيئًا، وإن عاد إلى الإسلام عاد إليه ماله، لأن زوال العصمة لا يلزم عنه زوال الملك، ولاحتمال العود إلى الإسلام. وبناء على ذلك يحجر عليه ويمنع من التصرف، ولو تصرف تكون تصرفاته موقوفة فإن أسلم جاز تصرفه، وإن قتل أو مات بطل تصرفه وهذا عند المالكية والحنابلة وأبي حنيفة.

وفصل الشافعية فقالوا: إن تصرف تصرفًا يقبل التعليق كالعتق والتدبير والوصية كان تصرفه موقوفًا إلى أن يتبين حاله، أما التصرفات التي تكون منجزة ولا تقبل التعليق كالبيع والهبة والرهن فهي باطلة بناء على بطلان وقف العقود، وهذا في الجديد، وفي القديم تكون موقوفة أيضًا كغيرها. وقال أبو يوسف ومحمد وهو قول عند الشافعية: لا يزول ملكه بردته، لأن الملك كان ثابتًا له حالة الإسلام لوجود سبب الملك وأهليته وهي الحرية، والكفر لا ينافي الملك كالكافر الأصلي، وبناء على هذا تكون تصرفاته جائزة كما تجوز من المسلم حتى لو أعتق، أو دبر، أو كاتب، أو باع، أو اشترى، أو وهب نفذ ذلك كله، إلا أن أبا يوسف قال: يجوز تصرفه تصرف الصحيح، أما محمد فقال: يجوز تصرفه تصرف المريض مرض الموت، لأن المرتد مشرف على التلف؛ لأنه يقتل فأشبه المريض مرض الموت. وقد أجمع فقهاء الحنفية على أن استيلاء المرتد وطلاقه وتسليمه الشفعة صحح ونافذ، لأن الردة لا تؤثر في ذلك. والقول الثالث: عند الشافعية - وصححه أبو إسحاق الشيرازي - وهو قول أبي يكر من الحنابلة أن ملكه يزول بردته لزوال العصمة بردته فماله أولى، ولما روي طارق بن شهاب أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال لوفد بزاخة وغطفان: نغنم ما أصبنا منكم وتردون إلينا ما أصبتم منا. ولأن المسلمين ملكوا دمه بالردة فوجب أن يملكوا ماله. وعلى هذا فلا تصرف له أصلًا لأنه لا ملك له. وما سبق إنما هو بالنسبة للمرتد الذكر باتفاق الفقهاء وهو كذلك بالنسبة للمرتدة الأنثى عند المالكية والشافعية والحنابلة. وعند الحنفية لا يزول ملك المرتدة الأنثى عن أموالها بلا خلاف عندهم فتجور تصرفاتها؛ لأنها لا تقتل فلم تكن ردتها سببًا لزوال ملكها عن أموالها. أثر الردة على الزواج: اتفق الفقهاء على أنه إذا ارتد أحد الزوجين حيل بينهما فلا يقربها بخلوة ولا جماع ولا نحوهما. ثم قال الحنفية: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين بانت منه امرأته مسلمة كانت أو كتابية، دخل بها أو لم يدخل، لأن الردة تنافي النكاح ويكون ذلك فسخًا عاجلًا لا طلاقًا ولا يتوقف على قضاء.

ثم إن كانت الردة قبل الدخول وكان المرتد هو الزوج فلها نصف المسمى أو المتعة، وإن كانت هي المرتدة فلا شيء لها. وإن كان بعد الدخول فلها المهر كله سواء كان المرتد الزوج أو الزوجة. وقال المالكية في المشهور: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين كان ذلك طلقة بائنة، فإن رجع إلى الإسلام لم ترجع له إلا بعقد جديد، ما لم تقصد المرأة بردتها فسخ النكاح، فلا يتفسخ، معاملة لها بنقيض قصدها. وقيل: إن الردة فسخ بغير طلاق. وقال الشافعية: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين فلا تقع الفرقة بينهما حتى تمضي عدة الزوجة قبل أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، فإذا انقضت بانت منه، وبينونتها منه فسخ لا طلاق، وإن عاد إلى الإسلام قبل انقضائها فهي امرأته. وقال الحنابلة: إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح فورًا وتنصّف مهرها إن كان الزوج هو المرتد، وسقط مهرها إن كانت هي المرتدة. ولو كانت الردة بعد الدخول ففي رواية تنجز الفرقة. وفي أخرى تتوقف الفرقة على انقضاء العدة. حكم زواج المرتد بعد الردة: اتفق الفقهاء على أن المسلم إذا ارتد ثم تزوج فلا يصح زواجه، لأنه لا ملة له، فليس له أن يتزوج مسلمة، ولا كافرة، ولا مرتدة. مصير أولاد المرتد: من حمل به في الإسلام فهو مسلم، وكذا من حمل به في حال ردة أحد أبويه والآخر مسلم، قال بذلك الحنفية والشافعية؛ لأن بداية الحمل كان لمسلمين في دار الإسلام، وإن ولد خلال الردة. لكن من كان حمله خلال ردة أبويه كليهما، ففيه خالف، فذهب الحنفية والمالكية، وهو المذهب عند الحنابلة والأظهر عند الشافعية، إلى أنه يكون مرتدًّا تبعًا لأبويه فيستتاب إذا بلغ. وفي رواية للحنابلة وقول للشافعية أنه يقر على دينه بالجزية كالكافر الأصلي، واستثنى الشافعية ما لو كان في أصول أبويه مسلم فإنه يكون مسلمًا تبعًا له، واستثنى المالكية أيضًا ما لو أدرك ولد المرتد قبل البلوغ فإنه يجبر على الإسلام.

إرث المرتد: اختلف الفقهاء في مال المرتد إذا قتل، أو مات على الردة على ثلاثة أقوال: (أ) أن جميع ماله يكون فيئًا لبيت المال، وهذا قول مالك، والشافعي وأحمد. (ب) أنه يكون ماله لوثته من المسلمين، سواء اكتسبه في إسلامه أو ردته، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. (جـ) أن ما اكتسبه في حال إسلامه لورثته من المسلمين، وما اكتسبه في حال ردته لبيت المال، وهذا قول أبي حنيفة. ولا خلاف بينهم في أن المرتد لا يرث أحدًا من أقاربه المسلمين لانقطاع الصلة بالردة. كما لا يرث كافرًا لأنه لا يقر على الدين الذي صار إليه. ولا يرث مرتدًا مثله. ووصية المرتد باطلة لأنها من القرب وهي تبطل بالردة. إرث المرتد، لمن يكون؟ اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرث أحدًا من أقاربه المسلمين لانقطاع الصلة بالردة. ثم اختلفوا في مال المرتد إذا قُتل، أو مات على الردَّة، على أربعة أقوال: القول الأول: ماله فيء لبيت مال المسلمين، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في الصحيح من مذهبه، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وبه قال ربيعة وأبو ثور وابن المنذر (¬1)، وحجتهم: 1 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ» (¬2). وهذا عموم منه - صلى الله عليه وسلم - لم يخص منه مرتدًّا من غيره، ولو أراد الله أن يخص المرتد من ذلك لما أغفله ولا أهمله {وما كان ربك نسيًّا} (¬3). 2 - ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتوارث أهل ملَّتين شتى» (¬4). ¬

(¬1) «جواهر الإكليل» (2/ 279)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1090)، و «الأم» (6/ 151)، و «المجموع» (19/ 234)، و «المغني» (6/ 346)، و «الإنصاف» (10/ 339). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم. (¬3) سورة مريم: 64. (¬4) أخرجه أبو داود (2911)، وابن ماجة (2731).

فإذا كان كذلك فيبقى هذا المال فيئًا لبيت مال المسلمين، كما يؤخذ مال الذمي إذا لم يخلف وارثًا، وكالعشور. القول الثاني: جميع ماله لورثته من المسلمين، سواء ما اكتسبه قبل الردة أو بعدها، وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وهو رواية ثانية في مذهب أحمد، وهو مروي عن أبي بكر وعليٍّ وابن مسعود - رضي الله عنهم -، وبه قال جماعة من السلف، منهم: الحسن وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري (¬1) وحجتهم: 1 - ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: «بعثني أبو بكر بعد رجوعه إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين» كذا ذكره ابن قدامة (!!) والذي عند البيهقي عن زيد بن ثابت «أن مال المرتد فيء يكون لبيت مال المسلمين» (!!) فليحرر. 2 - قالوا: ولأن ردته ينتقل بها ماله، فوجب أن ينتقل إلى ورثته المسلمين، كما لو انتقل بالموت. القول الثالث: ما اكتسبه قبل الردة لورثته المسلمين. وهذا مذهب أبي حنيفة وإسحاق (¬2)، قالوا: وما اكتسبه في ردته يكون فيئًا لبيت المال، وحجتهم كأصحاب القول الثاني. القول الرابع: ماله لورثته ممن على الدين الذي انتقل إليه، وإلا فهو فيء، وهذه رواة ثالثة في مذهب أحمد، وهو قول داود الظاهري، وهو مروي عن علقمة وسعيد بن أبي عروبة (¬3)، وحجتهم: 1 - أنه كافر فيرثه أهل دينه كالحربي، وسائر الكفار. 2 - ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (¬4) فلم يمنع أن يرث الكافر الكافر. الراجح: أقول: القولان الثاني والثالث خلاف النص الثابت، ولا دليل على أن مال ¬

(¬1) «المبسوط» (10/ 104)، و «البدائع» (7/ 138)، و «الإنصاف» (10/ 339). (¬2) «المبسوط» (10/ 101)، و «البدائع» (7/ 138)، و «المغني» (6/ 346). (¬3) «المحلي» (11/ 197)، ومراجع الحنابلة المتقدمة. (¬4) صحيح: تقدم قريبًا.

مرتد يكون فيئًا ابتداءً، فالذي يترجح لي القول الأخير، وعلى كلٍّ المسألة اجتهادية يحكم فيها الإمام بما يرى فيه المصلحة، والعلم عند الله. أثر الردة في إحباط العمل: قال تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (¬1) قال الألوسي تبعًا للرازي: إن معنى الحبوط هو الفساد. وقال النيسابوري: إنه أتى بعمل ليس فيه فائدة، بل فيه مضرة، أو أنه تبين أن أعماله السابقة لم يكن معتدًّا بها شرعًا. وقال الحنفية بأن الحبوط يكون بإبطال الثواب، دون الفعل. وقد ذهب الحنفية والمالكية إلى أن مجرد الردة يوجب الحبط، مستدلين بقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} (¬2). أما الشافعية فقالوا بأن الوفاة على الردة شرط في حبوط العمل، أخذًا من قوله تعالى: {فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (¬3). فإن عاد إلى الإسلام فقد صرح الشافعية بأنه يحبط ثواب العمل فقط، ولا يطالب بالإعادة إذا عاد إلى الإسلام ومات عليه. أثر الردة على العبادات: تأثير الردة على الحج: يجب على من ارتد وتاب أن يعيد حجه عند الحنفية، والمالكية، وذهب الشافعية إلى أنه ليس على من ارتد ثم تاب أن يعيد حجه. أما الحنابلة فالصحيح من المذهب عندهم: أنه لا يلزمه قضاؤه، بل يجزئه الحج الذي فعله قبل ردته. تأثير الردة على الصلاة والصوم والزكاة: ذهب الحنفية والمالكية إلى عدم وجوب قضاء الصلاة التي تركها أثناء ردته، لأنه كان كافرًا، وإيمانه يجبها. ¬

(¬1) سورة البقرة: 217. (¬2) سورة المائدة: 5. (¬3) سورة البقرة: 217.

التعزير

وذهب الشافعية إلى وجوب القضاء. ونقل عن الحنابلة القضاء وعدمه. والمذهب عندهم عدم وجوب القضاء. فإن كان على المرتد الذي تاب صلاة فائتة، قبل ردته أو صوم أو زكاة فهل يلزمه القضاء؟ ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى وجوب القضاء؛ لأن ترك العبادة معصية، والمعصية تبقى بعد الردة. وخالف المالكية في ذلك، وحجتهم أن الإسلام يجب ما قبله، وهو بتوبته أسقط ما قبل الردة. تأثير الردة على الوضوء: ذهب المالكية والحنابلة إلى أن الوضوء ينتقض بالردة، ولم يذكر الحنفية ولا الشافعية الردة من بين نواقض الوضوء. ذبائح المرتد: ذبيحة المرتد لا يجوز أكلها، لأنه لا ملة له، ولا يقر على دين انتقل إليه، حتى ولو كان دين أهل الكتاب. إلا ما نقل عن الأوزاعي، وإسحاق، من أن المرتد إن تَدَيَّنَ بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته. التَّعْزير تعريف التعزير (¬1): التعزير لغة: اللوم، ويطلق على الضرب دون الحد، وعلى أشد الضرب، ويراد به التضخيم والتعظيم والإعانة. والتعزير شرعًا: العقوبة المشروعة على جناية لا حدَّ فيها ولا قصاص، كمن سرق ما دون النصاب، أو وطئ أجنبية دون الفرج، أو أتى امرأته في دبرها، أو سبَّ دون القذف، أو أفطر في رمضان، وما أشبه ذلك مما ليس فيه عقوبة مقدَّرة شرعًا، فللإمام أن يؤدِّبه ويعاقبه على نحو ما سيأتي بيانه. أصل مشروعيته: لا شك أن الشريعة مبنية على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد، ولذا فقد شرع ¬

(¬1) «القاموس المحيط»، و «المغني» (9/ 176)، ط. مكتبة القاهرة.

التعزير فيما لا حدَّ فيه ولا قصاص لتحقيق هذه الغاية، وتحقيقًا لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المثال لا الحصر: 1 - أمره - صلى الله عليه وسلم - بضرب الأولاد على الصلاة لعشر سنين. 2 - همّه - صلى الله عليه وسلم - بتحريق بيوت من لا يشهد صلاة الجماعة. 3 - تحريقه رحل الغالِّ من الغنيمة. 4 - أمره بقطع رأس التمثال ليصير كالشجرة، وقطع الستر فيجعل منه وسادة. 5 - أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفها. 6 - أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين. 7 - تضعيفه الغرامة على من سرق بغير حرز، وسارق ما لا قطع فيه من الثمر وكاتم الضالة. 8 - أمره بأخذ شطر مال مانع الزكاة. 9 - حبسه ناسًا في تهمة. وكل هذه الأمثلة وغيرها ثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - بعضها يأتي ذكر الحديث فيه في هذا الفصل، وبعضها مبثوث في ثنايا الكتاب تقدم إيراده أو تأخر. والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد عزَّر المسيء، وشرع لأصحابه وخلفائه العمل به، فقال: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حدٍّ من حدود الله تعالى» (¬1). وعزَّر خلفاؤه - رضي الله عنهم - من بعده فيما لا حدَّ فيه ولا قصاص، والآثار عنهم كثيرة جدًّا يأتي بعضها في موضعه. ومن ذلك ما جاء عن عليٍّ - رضي الله عنه - في الرجل يقول للرجل: يا خبيث، يا فاسق، قال: «ليس عليه حد معلوم، يعزِّر الوالي بما رأى» (¬2). ليس لأقل التعزير حدٌّ بالاتفاق (¬3): بل هو بكل ما فيه إيلام للإنسان من قول، وفعل، وترك قول وفعل، فقد يعزَّر بوعظه، وتوبيخه، والإغلاظ عليه، أو بهجرة، وترك السلام عليه حتى يتوب، أو بعزله عن ولايته، أو بترك استخدامه ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم. (¬2) حسنه الألباني: أخرجه البيهقي (8/ 253)، وانظر «الإرواء» (2393). (¬3) «مراتب الإجماع» (ص 136)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 108، 344)، وانظر: «ابن عابدين» (4/ 60)، و «فتح القدير» (5/ 516)، و «المغني» (10/ 348 - مع الشرح).

في الجند، أو قطع أجره، أو بحبسه، أو تسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبة، وغير ذلك مما يرى الإمام أن فيه ردًّا للمسيء عن إساءته وحضَّه على المعروف. وهل الأكثر التعزير حدٌّ: اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يزاد على عشر جلدات، وهو منصوص أحمد وقول إسحاق والليث وابن حزم وأصحابه (¬1) وحجتهم حديث أبي بردة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (¬2). قال ابن حزم: ومن أتى منكرات جمة، فللحاكم أن يضربه لكل منكر منها عشر جلدات فأقل بالغًا ذلك ما بلغ. اهـ. القول الثاني: التعزير دون أقل حدٍّ، والقائلون بهذا مختلفون على أوجه، منها: (أ) أن لا يبلغ أدنى حدٍّ مشروع مطلقًا: وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في رواية (¬3). وعليه يكون أكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطًا (عند الشافعي؛ لأن حد الخمر عنده أربعون) وتسعة وسبعون (عند أبي حنيفة). (ب) أن لا يبلغ بكل جناية الحدَّ المشروع في جنسها: وهذه رواية ثالثة في مذهب أحمد، وقد وافقه ابن تيمية في هذه الجزئية كما سيأتي: وحجة هذا القول ما يلي: 1 - ما يروى مرفوعًا: «من بلغ حدًّا في غير حدٍّ، فهو من المعتدين» (¬4) وهو ضعيف لا يثبت!! 2 - وعن ابن المسيب في جارية كانت بين رجلين فوقع عليها أحدهما؟ قال: «يضرب تسعة وتسعين سوطًا» (¬5). ¬

(¬1) «الإنصاف» (10/ 244)، و «كشاف القناع» (6/ 123)، و «المحلي» (11/ 403). (¬2) صحيح: تقدم قريبًا، وهو متفق عليه. (¬3) «الهداية» (2/ 117)، و «البدائع» (7/ 64)، و «روضة الطالبين» (10/ 174)، و «نهاية المحتاج» (8/ 22)، و «المغني» (10/ 347 - مع الشرح الكبير). (¬4) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 327)، وقال: المحفوظ مرسل. اهـ. (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، وانظر «الإرواء» (2398).

وهو مروي عن عمر - رضي الله عنه -، رواه الأشرم واحتج به أحمد، قال الألباني: لم أقف على إسناده. اهـ. 3 - ولأن العقوبة على قدر الإجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها، لا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمهما، فلا يجوز أن يضرب من قبَّل امرأة حرامًا أكثر من حد الزنا؛ لأن الزنا مع عظمه وفحشه، لا يجوز أن يزاد على حده، فما دونه أولى. القول الثالث: يزاد على الحدِّ إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، وهذا قول مالك وأحمد أقوال أبي يوسف، وقول أبي ثور وطائفة من أصحاب الشافعي وهو أحد الوجوه عندهم والطحاوي من الحنفية ووافقهم شيخ الإسلام في الجرائم التي لا حد في جنسها (¬1). واحتج أصحاب هذا القول بما يلي: 1 - ما روي عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: أنه رُفع إليه رجل غشى جارية امرأته، فقال: «لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن كانت أحلَّتها لك جلدتُك مائة، وإن كانت لم تحلَّها لك رجمتك» (¬2) وهو حديث ضعيف!. 2 - ما رُوي: أن معن بن زائدة عمل خاتمًا على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالًا، فبلغ عمر - رضي الله عنه - ذلك فضربه مائة وحبسه، فكلم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه». 3 - ما روي «أن عليًّا - رضي الله عنه - أتى بالنجاشي، قد شرب خمرًا في رمضان، فجلده ثمانين ثم أمر به إلى السجن ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين ثم قال إنما جلدتك هذه العشرين لإفطارك في رمضان وجرأتك على الله» (¬3). 4 - ما روي: أن عمر ضرب صبيغًا - لما رأى بدعته - ضربًا كثيرًا لم يعدَّه. ¬

(¬1) «المحلي» (11/ 403)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1073)، و «الخرشي» (8/ 110)، و «روضة الطالبين» (10/ 174)، و «الإنصاف» (10/ 243)، و «المغني» (10/ 347 - مع الشرح). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4458)، والترمذي (1451)، والنسائي (6/ 123)، وابن ماجة (2551). (¬3) حسنه الألباني: أخرجه الطحاوي (2/ 88)، وانظر «الإرواء» (2399)، قلت: وبنحوه عند البيهقي (321)، والنجاشي هنا غير نجاشي الحبشة المشهور.

الترجيح: أقول: أما القول الأول فالقائلون به تعلقوا بحديث أبي بردة في منع الضرب فوق عشرة أسواط «إلا في حد من حدود الله» وحملوا «الحد» على العقوبة المقدرة في الجرائم الحدية، والآخرون حملوه على أنَّ المراد: حق من حقوق الله وإن لم يكن من المعاصي المقدر حدودها؛ لأن المعاصي كلها من حدود الله، قلت: وهو الأصوب؛ وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن المراد بحدود الله: ما حرم لحق الله، قال: فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل آخر الحلال وأول الحرام، فيقال في الأول: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} (¬1) ويقال في الثاني: {تلك حدود الله فلا تقربوها} (¬2). وتسمية العقوبة المقدرة حدًّا عرف حادث، فيكون مراد الحديث: أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات (¬3). قلت: ومما يدل على جواز الزيادة في التعزير على عشر جلدات ما سيأتي قريبًا من تعدد صور التعزير التي لا تقتصر على الجلد والضرب، وهذا واضح ولله الحمد. وأما من قال لا يبلغ التعزير أقل الحدود، فلا أرى له حجة يدان بمثلها، فالذي يبدو لي أنه أعدل الأقوال أن يقال: يجوز الزيادة على الحد في التعزير في الجرم الذي ليس في جنسه حدٌّ، وأما ما في جنسه حدٌّ فلا يزاد فيه على الحد وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. هل يجوز التعزير بالقتل؟ (¬4) وقع في كلام الحنفية والمالكية والحنابلة في بعض الجزئيات جواز التعزير بالقتل، وهو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - قال: ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قُتِل، مثل الفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في ¬

(¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) سورة البقرة: 187. (¬3) انظر: «السياسة الشرعية» (ص 55، 56). (¬4) «ابن عابدين» (4/ 62)، و «تبصرة الحكام» لابن فرحون (2/ 206)، و «الإنصاف» (10/ 249)، و «روضة الطالبين» (10/ 174)، و «الأحكام السلطانية» (ص 236)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 108، 109).

من صور التعزير

الدين، قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا} (¬1). وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (¬2). وقال: «من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان» (¬3). وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل رجل تعمد عليه الكذب (¬4) وسأله الديلمي عمن لم ينته عن شرب الخمر؟ فقال: «من لم ينته عنها فاقتلوه» ... اهـ. قلت: وأما مذهب الشافعي فليس فيه إشارة إلى التعزير بالقتل، ومقتضى مذهب ابن حزم المنع من القتل تعزيرًا بلا شك، فالأصل عنده قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام ...» (¬5). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬6). من صور التعزير العقوبة المالية: يشرع التعزير بالعقوبات المالية، ويكون ذلك على ثلاثة أقسام (¬7): 1 - الإتلاف: فيشرع إتلاف المنكرات من الأعيان، والصفات يجوز إتلاف محلها تبعًا لها، وهذا مذهب مالك وأحمد. كإتلاف الأصنام المعبودة من دون الله، وآلات الملاهي والمعازف، وأوعية ¬

(¬1) سورة المائدة: 32. (¬2) صحيح. (¬3) صحيح. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) صحيح. (¬6) صحيح: تقدم قريبًا في «الردة». (¬7) انظر «مجموع فتاوى ابن تيمية» (20/ 384)، (28/ 113 - 117).

الخمر، فإنه يجوز تكسيرها وتحريقها، ففي حديث أنس أن أبا طلحة قال: يا نبي الله، إني اشتريت خمرًا لأيتام في حجري، قال: «أهرق الخمر واكسر الدنان» (¬1). وعن عمر «أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي، وقال: إنما أنت فويسق، لا رويشد». «وأمر عليٌّ - رضي الله عنه - بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر». وإتلاف المنكرات من الأعيان إنما يكون إذا اقترنت بمحلها مفسدة، لا أنه يجب إتلافها على الإطلاق، كما أفاده شيخ الإسلام. 2 - التغيير: وهو إزالة كل ما كان من العين محرمًا، مثل تفكيك آلات الملاهي، وتغيير الصورة المصورة بقطع الرأس ونحو ذلك: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل فقال: إني أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت إلا أنه كان في البيت تمثال رجل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فَأمُر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كالشجرة، وَأمُرْ بالستر يقطع فيجعل في وسادتين منتبذتين يوطآن، ومر بالكلب فليخرج» ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا الكلب جرو للحسن والحسين تحت نضيد لهم (¬2). 3 - التغريم: التعزير بالتغريم المالي جائز في مذهب مالك والشافعي وأحمد - على اختلاف في تفاصيل - وهو اختيار شيخ الإسلام (¬3)، واحتجوا بأنه موافق لأقضيته - صلى الله عليه وسلم -، مثل: (أ) إباحته سلب من يصطاد في حرم المدينة للذي يجده. (ب) تضعيف الغرامة على من سرق من الثمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الجرين ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجنِّ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غُرامُة مثليه والعقوبة» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي. (¬2) أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي. (¬3) «ابن عابدين» (4/ 62)، و «تبصرة الحكام» (2/ 203)، و «الأحكام السلطانية» (ص 295)، و «كشاف القناع» (4/ 74)، و «الفتاوى» (28/ 118). (¬4) حسن: تقدم في «حد السرقة».

(جـ) تضعيف الغرامة على كاتم الضالة. (ر) أخذ شطر مال مانع الزكاة. قلت: وأما الحنفية والشافعة فمنعوا التعزير بأخذ المال، قالوا: لأن ذلك يُفضي إلى تسليط الظلمة من الحكام على أخذ مال الناس فيأكلونه. اهـ. وقد بالغوا في التحرز من ذلك فأغفلوا النصوص المتقدمة أو قالوا بنسخها (!!) على أن حصر التعزير بالمال في الأنواع الثلاثة المذكورة لا يجيز للحاكم أن يسلب الناس أموالهم عقوبة لهم، بما في يده من سلطة التعزير، والله أعلم. التعزير بالحبس والنفي: (أ) يُشرع التعزير بالحبس باتفاق العلماء (¬1)، والأصل فيه قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (¬2) قال العلماء: النفي: الحبس. وما جاء من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلًا في تهمة، ثم خلَّى عنه» (¬3). وعن الهرماس بن حبيب عن أبيه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بغريم لي فقال لي: «ألزمه» ثم قال: «يا أخا تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك» (¬4). وقد نقل الزيلعي الإجماع على مشروعيته. قال شيخ الإسلام: إن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت، أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم، أو وكيل الخصم عليه، ولهذا سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا ... ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر حبس معدٌّ لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارًا، وجعلها سجنًا، حبس فيها ... اهـ (¬5). (ب) وكذلك النفي فهو مشروع لظاهر قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (¬6). ¬

(¬1) «تبين الحقائق» (4/ 179). (¬2) سورة المائدة: 33. (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (3630)، والنسائي (2/ 255)، والترمذي، وأحمد (5/ 2). (¬4) أخرجه أبو داود، وابن ماجة. (¬5) «مجموع الفتاوى» (35/ 398). (¬6) سورة المائدة: 33.

وقد عزَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين بالنفي. ونفى عمر بن الخطاب نصر بن حجاج إلى البصرة لما افتتن به النساء. وقد ذهب الجمهور إلى جواز التعزير بالنفي، وقال الحنابلة: لا نفي إلا في الزنا والمخنث. هل يجب التعزير فيما يُشرع فيه؟ اختلف أهل العلم فيمن ارتكب ما يشرع فيه التعزير، هل يجب على الحاكم أن يغزِّره؟ على قولين (¬1): الأول: يجب، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد، ونصَّ الحنابلة على أن ما كان من التعزير منصوصًا عليه فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن منصوصًا عليه: إذا رأى الإمام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب، لأنه زجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد، وتركه تعطيل. الثاني: لا يجب، وهو مذهب الشافعي، واحتج بوقائع وقعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترك التعزير عليها، مثل: 1 - حديث أن رجلًا جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت امرأة، فأصبت منها ما دون أن اطأها، فقال: «أصليت معنا؟» قال: نعم، فتلا عليه قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (¬2) (¬3). 2 - وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأنصار كرشي وعيبتي (¬4)، وإن الناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئتهم» (¬5). 3 - وعن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في أشراج الحرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك» فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟! فتلوَّن وجهه ثم قال: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك» (¬6) وليس فيه أنه عزَّره. ¬

(¬1) «الهداية» (2/ 116)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1073)، و «المغني» (9/ 178)، و «الإنصاف» (10/ 242)، و «نهاية المحتاج» (8/ 19، 23). (¬2) سورة هود: 114. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (2763). (¬4) أي: موضع سرى وأمانتي. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (3799)، ومسلم (2510). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (2708)، ومسلم (2357).

4 - وعن ابن مسعود قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمًا فقال رجل: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فساررته، فغضب من ذلك غضبًا شديدًا، واحمرَّ وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له، قال: ثم قال: «قد أوذي موسى بأكثر من هذا، فصبر». ولم يذكر أنه عزَّره. الراجح: والذي يظهر لي أنه لا يجب التعزير وإنما يرجع ذلك إلى اجتهاد الحاكم بشرط أن يكون أمينًا، لحديث الرجل الذي أصاب من امرأة قبلة، فليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزَّره، وأما بقية الأدلة فقد يُعكِّر عليها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينتقم لنفسه، وكذلك الأمر بالتجاوز عن إساءة الأنصار إنما هو فيما لا تبلغ فيه منكرًا، ففي حديث عائشة - رضي الله عنها -: «ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى ينتهك من حرمات الله».

14 - كتاب الجنايات والديات

14 - كتاب الجنايات والديات

أولا: الجنايات

أولًا: الجنايات تعريفها (¬1): الجناية لغة: جمع جناية، وهي الذنب والجرم. وتعرف شرعًا بأنها: كل فعل عدوان على نفس أو مال، لكنها في عرف الفقهاء مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان، وأما الجنايات على الأموال فتسمى غصبًا ونهبً وسرقة وخيانة وإتلافًا. حكمها التكليفي: وكل عدوان على نفس أو بدن أو مال بغير حق: محرم شرعًا، وقد تضافرت نصوص الشريعة لبيان هذا المعنى، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» (¬2). وقال - عليه الصلاة والسلام -: «... إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ...» (¬3). حكمها الوضعي: ويختلف حكم الجناية بحسبها، فيكون قصاصًا، أو دية، أو أرشًا، أو حكومة عدل، أو ضمانًا، بحسب الأحوال، وقد يترتب على ارتكاب بعض أنواع الجناية: الكفارة أو الحرمان من الميراث، على ما سيأتي بيانه. أقسام الجناية: قسم الفقهاء الجناية إلى أقسام ثلاثة: (أ) الجناية على النفس (القتل). (ب) الجناية على ما دون النفس، وهي الإصابة التي تزهق الروح. (جـ) الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه، كالجناية على الجنين. وإليك بيان هذه الأقسام، وأهم ما يتعلق بها من مسائل: ¬

(¬1) «التعريفات» للجرجاني، مادة (جناية)، و «لسان العرب»، و «ابن عابدين» (5/ 339)، و «المغني» (11/ 443 - الفكر)، و «الموسوعة الفقهية» (16/ 59). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2564) وغيره. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1218) في جزء من حديث جابر الطويل في حجة الوداع.

أولا: الجناية على النفس (القتل)

أولًا: الجناية على النفس (القتل) تعريف القتل: القتل هو: فعل من العبد تزول به الحياة، أو: هو إزهاق روح آدمي بفعل آدمي آخر (¬1). أقسامه: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الجناية على النفس تنقسم بحسب القصد وعدمه إلى: عند، وشبه عمد (وهو مختلف فيه)، وخطأ. وقد زاد الحنفية قسمين: ما أُجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب، لكنهما داخلان في الأقسام الثلاثة كما سيظهر. وأما مالك - رحمه الله - فأنكر (شبه العمد) على ما سيأتي تحريره في موضعه. القسم الأول: القتل العمد: تعريفه (¬2): هو عند جمهور الفقهاء: الضرب بمحدد أو غير محدد، والمحدد: ما يقطع ويدخل في البدن كالسكين والسيف وأمثالهما. وغير المحدد هو: ما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله، كحجر كبير وخشبة كبيرة. وأما الحنفية فعرَّفوا القتل العمد بأنه: تعمُّد ضرب المقتول في أي موضع من جسده بآلة تفرق الأجزاء كالسيف والليطة (¬3) والنار، وليس القتل بالمثقل (الحجر) عمدًا عندهم. وقد عرَّفه الأستاذ عبد القادر عودة - رحمه الله - بأنه: (ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجني عليه). ¬

(¬1) «فتح القدير» (8/ 244). (¬2) «ابن عابدين» (5/ 339)، و «البدائع» (7/ 233)، و «القوانين الفقهية» (339)، و «روضة الطالبين» (9/ 123)، و «المغني» (7/ 639)، و «كشاف القناع» (5/ 504)، و «التشريع الجنائي» (2/ 10). (¬3) الليطة: قشرة القصب التي تقطع.

حكم تعمد القتل بغير حق: قتل النفس التي حرم الله بغير حق من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة والإجماع: (أ) فمن الكتاب: 1 - قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل} (¬1). 2 - وقوله سبحانه: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطئًا} (¬2). 3 - وقال عز وجل: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} (¬3). 4 - وقال سبحانه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا} (¬4). 5 - وقال عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا} (¬5). (ب) ومن السنة: 1 - حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬6). 2 - حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ...» الحديث (¬7). ¬

(¬1) سورة الإسراء: 33. (¬2) سورة النساء: 92. (¬3) سورة النساء: 93. (¬4) سورة المائدة: 32. (¬5) سورة النساء: 29، 30. (¬6) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).

3 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما يُقضى بين الناس في الدماء» (¬1). 4 - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» (¬2). 5 - وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «... إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ...» (¬3). (جـ) وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين في تحريم القتل العمد العدوان بغير حق، وأن صاحبه يستحق القتل في الدنيا حدًّا، ما لم يكن مستحلًّا لذلك فيكون كفرًا، ويستحق العقاب بالنار - والعياذ بالله - في الآخرة (¬4). توبة القاتل عمدًا (¬5): قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} (¬6). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركًا، أو مؤمن قتل مؤمنًا متعمدًا ...» (¬7). فذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن توبة القاتل لا تقبل، استدلالًا بهذه الآية الكريمة من وجهين: أحدهما: أنها من آخر ما نزل ولم ينسخها شيء، والآخر: أن لفظها لفظ الخبر، والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير، لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقًا. وأما أكثر أهل العلم فقالوا: تقبل توبته؛ لأن معتقد أهل السنة: أن مرتكب ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1678). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (1414)، والنسائي (7/ 82). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (1218) وغيره. (¬4) «مراتب الإجماع» (ص 137، 138). (¬5) «شرح الخطاب» (6/ 231)، و «حاشية الجمل» (5/ 2)، و «تكملة المجموع» (17/ 225)، و «المغني» (8/ 259 - القاهرة)، و «كشاف القناع» (5/ 504). (¬6) سورة النساء: 93. (¬7) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (4270)، والنسائي (7/ 81)، وأحمد (4/ 99).

الكبيرة - ما عدا الشرك - أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، مع اعتقادهم أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء، وقد تضافرت النصوص في هذا المعنى، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (¬1). وقال سبحانه: {إن الله يغفر الذنوب جميعًا} (¬2) وهي تشمل الشرك إذا تاب الإنسان منه فإن الله يقبل توبته منه، وهو أعظم من القتل. وكذلك فإن الأحاديث الواردة في أن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها أو حتى يغرغر، عامة تشمل القاتل وغيره. ويؤيد مذهب الجماهير كذلك: حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا وأتم المائة بالعابد الذي قال له: لا أجد لك توبة (!!) ثم دُلَّ على عالم فسأله فقال: من يحول بينك وبين التوبة، ولكن أخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها، ولما اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، بعث الله إليهم ملكًا، فقال: «قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها» فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر، فجعلوه من أهلها (¬3). وأما الآية الكريمة فمحمولة على من لم يتب، أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه، وله العفو إن شاء، وأما كون الخبر لا يدخله النسخ، فنقول: يمكن أن يدخله التخصيص والتأويل إعمالًا لجميع النصوص، وكذلك حديث أبي الدرداء فمحمول على المستحل، أو أنه وارد على سبيل الزجر والتغليظ، والله أعلم. القتل بالمثقل، هل يعتبر عمدًا يوجب القصاص؟ اتفق العلماء على أن القتل بمحدد وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما يعتبر عمدًا يوجب القصاص. وأما المثقل كالحجر والمطرقة ونحو ذلك، فاختلفوا فيه على قولين (¬4): الأول: كل مثقل يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهو ¬

(¬1) سورة النساء: 8. (¬2) سورة الزمر: 53. (¬3) صحيح: أخرجه بمعناه البخاري، ومسلم (2766). (¬4) «ابن عابدين» (6/ 528)، و «البدائع» (7/ 233)، و «الكافي» (2/ 1095)، و «الأم» (5/ 97)، و «نهاية المحتاج» (7/ 248)، و «المغني» (8/ 261)، و «الإنصاف» (9/ 436).

عمد، وبهذا قال الجمهور مالك والشافعي وأحمد وصاحبا أبي حنيفة، وبه قال النخعي والزهري وابن سيرين وإسحاق وغيرهم، واحتجوا بما يلي: 1 - عموم قوله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا} (¬1) قالوا: وهذا مقتول مظلومًا. 2 - عموم قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} (¬2). 3 - حديث أنس - رضي الله عنه -: «أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حجرين» (¬3). 4 - قالوا: ولأن المثقل يقتل غالبًا فأشبه المحدد. الثاني: لا يعتبر القتل بالمثقل عمدًا: وهو مذهب أبي حنيفة المشهور عنه (¬4)، وبه قال الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس وغيرهم، واحتجوا بما يلي: 1 - حديث: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ - قتيل السوط والعصا [والحجر] - مائة من الإبل ...» (¬5) قالوا: فسمي القتل بالحجر عمد الخطأ، وأوجب فيه الدية دون القصاص. 2 - قالوا: ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه، فيجب ضبطه بمظنته، ولا يمكن ضبطه بما قتل غالبًا لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير، فوجب ضبطه بالجرح!! الراجح: والذي يترجَّح لديَّ قول الجمهور لما استدلوا بما هو واضح الدلالة، وأما الحديث فلو ثبت فيه لفظ «والحجر» (¬6) فهو محمول على المثقل الصغير الذي لا يغلب على الظن حصول الزهوق به؛ لأنه اقترن بالعصا والسوط، وأما ضبط الضرب بالمثقل بالجرح ففيه نظر، بدليل ما لو قتله بالنار، والله أعلم. ¬

(¬1) سورة الإسراء: 33. (¬2) سورة البقرة: 178. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (6879)، ومسلم (1672). (¬4) وعنه رواية ثانية في مثقل الحديد أنه لا يعتبر عمدًا. (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (4547)، و «النسائي (8/ 40، 41)، وابن ماجة (2627)، وابن الجارود (773)، والبيهقي (8/ 68)، والطحاوي (3/ 185) وغيرهم ومداره على عقبة بن أوس، وهو شبه حسن. (¬6) صحَّ عن ابن مسعود: «أن شبه العمد: الحجر والعصا» أخرجه عبد الرزاق (9/ 277 - 278)، من طريقين يقوي أحدهما الآخر.

عقوبة القتل العمد: أجمع أهل العلم على أن عقوبة القتل العمد العدوان هي القود (القصاص). 1 - قال الله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} (¬1). 2 - وقال سبحانه {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} (¬2). 3 - وقال عز وجل: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (¬3). 4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودى، وإما أن يُقاد» (¬4). ولأولياء المقتول أن يعفو عن القصاص ويقبلوا الدية، ولهم أن يصالحوا على غير ذلك كما سيأتي بيانه في: «ما يسقط به القصاص». شروط وجوب القصاص: يشترط لوجوب القصاص شروط، وهي: 1 - وجود العمد، وهو القصد إلى المقتول بما يقتله من محدد أو ما يقتل به غالبًا. 2 - أن يكون القاتل مكلفًا: أي بالغًا عاقلًا، فلا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون، وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه، وقد تقدمت أدلة هذا مرارًا. 3 - وهل يشترط الاختيار وعدم الإكراه؟ (¬5) ذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد - وهو قول للشافعي - إلى أن المُكْرَه على القتل لا قصاص عليه، لحديث: «إن الله تجاوز عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬6). ¬

(¬1) سورة البقرة: 178. (¬2) سورة البقرة: 179. (¬3) سورة المائدة: 45. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1305). (¬5) «بداية المجتهد» (2/ 457 - الحلبي)، و «الكافي» (2/ 1098)، و «البدائع» (7/ 179)، و «ابن عابدين» (6/ 136)، و «تكملة المجموع» (17/ 269)، و «نهاية المحتاج» (7/ 358)، و «المغني» (8/ 266)، و «الإنصاف» (9/ 453). (¬6) حسن: أخرجه ابن ماجة (2043) وغيره وقد تقدم مرارًا.

قالوا: ولأن المكرَه آلة في يد المُكرِه، وهو إكراه ملجئ، فهو كما لو رمى به عليه فقتله. وذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وهو قول ثان للشافعي وزفر من أصحاب أبي حنيفة إلى أن المكره يجب عليه القصاص، وحجتهم: أن المكره قتله عمدًا ظلمًا لاستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله، أي كمن اختار قتله على قتل نفسه. أما قول الأولين: إنه إكراه ملجئ، فغير صحيح، فإنه متمكن من الامتناع، ولديه خيار بين قتل نفسه وقتل غيره، فلا يقال: لا اختيار لديه. قلت: وهذا الأخير أظهر، فإن محل الإكراه القول لا الفعل، ويؤيد هذا المذهب كذلك عندي حديث سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي» قال: أفرأيت إن دخل عليَّ بيتي وبسط يده إليَّ ليقتلني؟ قال: «كن كابن آدم» (¬1) فمنعه أن يبسط يده ليقتل من يريد قتله، فلأن يُمنع من قتل غيره - الذي لم يعتد عليه - إذا أكره عليه من باب أولى، ومثله وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر أن يعتزل الناس إذا قتل بعضهم بعضًا ولا يأخذ سلاحه حتى قال له: «... ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك» (¬2). 4 - أن يكون المقتول معصوم الدم: فلو كان حربيًّا، أو زانيًا محصنًا، أو مرتدًّا، فإنه لا ضمان على قاتله لا بقصاص ولا بدية، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬3). 5 - أن لا يكون القاتل أصلًا (أبًا أو جدًّا) للمقتول: فلو قتل رجل ابنه أو حفيده (من ولد البنين أو ولد البنات) فإنه لا يقتل به، وبهذا يقول أكثر أهل العلم ¬

(¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (2194)، وأبو داود (4257)، وأحمد (1/ 185)، والمراد ابن آدم الذي قال لأخيه: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين} [سورة المائدة: 28]. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (4261)، وابن ماجة (3958)، وأحمد (5/ 149)، وابن حبان (5960). (¬3) صحيح: تقدم مرارًا.

منهم: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو منقول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبه قال ربيعة والثوري والأوزاعي (¬1)، وحجتهم: 1 - حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقتل والد بولده» (¬2). 2 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: كانت لرجل من بني مُدلج جارية فأصاب منها ابنًا فكان يستخدمها، فلما شبَّ الغلام دعى بها يومًا، فقال: اصنعي كذا وكذا، فقال الغلام: لا تأتيك، حتى متى تستأمر أمي؟ قال: فغضب أبوه فحذفه بسيفه، فأصاب رجله أو غيرها فقطعها، فنزف الغلام فمات، فانطلق في رهط من قومه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -فقال: يا عدو نفسه أنت الذي قتلت ابنك؟ لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يقادُ الأب بابنه» لقتلتك، هلم ديته، قال: فأتاه بعشرين أو ثلاثين ومائة بعير، قال: فتخير منها مائة فدفعها إلى ورثته وترك أباه» (¬3). 3 - ولأن الأب كان سبب حياته، فلا يكون الولد سببًا في موته، وفي حُكم الوالد هنا كل الأصول من الذكور والإناث مهما بعدوا، فيدخل في ذلك الأم والجدات وإن علون من الأب كُنَّ أَمْ من الأُم، كما يدخل الأجداد وإن علوا من الأب كانوا أو من الأم لشمول لفظ الوالد لهم جميعًا. وهذا كله في الوالد النَّسبي، أما الوالد من الرضاع، فقال الحنابلة: يقتل بولده من الرضاع لعدم الجزئية الحقيقية. 6 - أن يكون بين القاتل والمقتول تكافؤ في الدين، والحرية والرق: وهذا يعني أمرين: (أ) لا يقتل المسلم بكافر (¬4): اتفق الفقهاء على أنه لا قصاص على المسلم إذا قتل الكافر الحربي ومن لا ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 235)، و «مغني المحتاج» (4/ 18)، و «المغني» (7/ 666)، و «كشاف القناع». (¬2) صحيح لغيره: أخرجه الترمذي، وابن ماجة (2661) وغيرهما وله شاهد (5/ 27)، قوى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وانظر «الإرواء» (2214). (¬3) صحيح: أخرجه ابن الجارود (788)، والدارقطني (3/ 140)، والبيهقي (8/ 38). (¬4) «ابن عابدين» (5/ 343)، و «الهداية» (4/ 360)، و «المنتقي» للباجي (7/ 174)، و «الدسوقي» (4/ 238)، و «روضة الطالبين» (9/ 150)، و «مغني المحتاج» (4/ 16 - 18)، و «المغني» (7/ 660)، و «الإنصاف» (20/ 294).

عهد له ولا ذمة، وأكثر أهل العلم على عدم قتله بأي كافر كان سواء كان حربيًّا أو ذميًّا، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية - رضي الله عنهم - وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وغيرهم من السلف. 1 - واحتجوا بحديث أبي جحيفة قال: قلت لعليٍّ: هل عندكم شيء من الوحي ليس في القرآن؟ وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر» (¬1). 2 - وبحديث عليٍّ مرفوعًا: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» (¬2). وخالف أبو حنيفة وأصحابه والشعبي والنخعي، فقالوا: يقتل المسلم بالذمي خاصة (!!) واحتجوا بما يلي: 1 - ما روي عن عبد الله بن عبد العزيز الحضرمي قال: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر مسلمًا بكافر قتلة غيلة، وقال: «أنا أولى وأحق من أوفى بذمته» (¬3). وأجيب: بأنه ضعيف لا يحتج به. 2 - أوَّلوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقتل مسلم بكافر» بأن المراد: الكافر الحربي دون من له عهد وذمة من الكفار جمعًا بين الخبرين (!!). 3 - حديث: «ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهد ...» (¬4) قالوا: فالكلام فيه تقدير، وهو: (لا يقتل مؤمن بكافر حربي، ولا ذو عهد في عهده بكافر حربي) قالوا: وهو يدل بمفهومه على أن المسلم يقتل بالكافر الذمي. وأجيب: بأن هذا مفهوم صفة، والخلاف في العمل به مشهور بين أئمة ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، والنسائي (8/ 23)، والترمذي (1412)، وأحمد (1/ 79). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (8/ 24)، وأحمد (1/ 122)، والبيهقي (8/ 29). (¬3) ضعيف: أخرجه أبو داود في «المراسيل» (251)، وعبد الرزاق، والشافعي، وفيه مع إرساله ابن البيلماني: مجمع على تركه. (¬4) حسن: وهو حديث عليٍّ المتقدم.

الأصول، والحنفية من جملة القائلين بعدم العمل به، فكيف يصح احتجاجهم به؟! كما أن الجملة المعطوفة «ولا ذو عهد في عهده» لمجرد النهي عن قتل المعاهد بعد كلام تام مستقل بنفسه وهو «لا يقتل مؤمن بكافر» فلا تقدير فيها أصلًا. 4 - واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (¬1). وأجيب: بأنه قد خصصه حديث عليٍّ المتقدم. فالحاصل: أنه لا يُسلَّم بما قاله الحنفية من صرف ظاهر الحديث، فعُلم أن الحق مذهب الجمهور من عدم قتل المسلم بكافر حربيًّا كان أو ذميًّا، ويؤيده قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (¬2) ولو كان للكافر أن يقتص من المسلم لكان في ذلك أعظم سبيل، وقد نفى الله تعالى أن يكون له عليه سبيل نفيًا مؤكدًا، وقد ثبت عن ابن عمر: أن رجلًا مسلمًا قتل رجلًا من أهل الذمة عمدًا، فرفع ذلك إلى عثمان، فلم يقتله وغلظ عليه الدية مثل دية المسلم: ألف دينار (¬3). فائدتان: 1 - ذهب مالك وأحمد في رواية إلى أن هذا التكافؤ لا يشترط في القتل بالحرابة، فيقتل فيها المسلم بالذمي، وهو اختيار شيخ الإسلام، قال: وهو أعدل الأقوال، وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب، فإن القتل فيها (أي: في المحاربة) حد لعموم المصلحة فلا تتعين فيه المكافأة. اهـ. ووجهه - كما يقول المالكية - أن هذا قتل يسقط بالعفو فلم يسقط بعدم التكافؤ، وأصل ذلك القتل بالردة، ولأنه ليس بقتل قصاص، وإنما هو حق لله تعالى أو أنه حق للآدميين تغلَّظ بحق الله تعالى (¬4). وأما مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين: فلا يقتل المسلم بالكافر بحال، وعند أبي حنيفة: يقتل به بكل حال على ما تقدم (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة: 45. (¬2) سورة النساء: 141. (¬3) إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (876). (¬4) «المنتقى شرح الموطأ» (7/ 174)، و «الإنصاف» (10/ 294)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 382). (¬5) تقدمت مراجع الشافعية والحنفية قريبًا.

2 - لا يعني عدم قتل المسلم بالذمي أنه يجوز له قتله، بل إن ذلك إثم عظيم: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلًا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا» (¬1). وعن أبي بكرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل معاهدًا في غير كنهِهِ حرَّم الله عليه الجنة أن يجد ريحها» (¬2). وما يوجد ببلاد المسلمين من اليهود والنصارى ليسوا أهل ذمة، وربما انطبق على بعضهم أنهم مستأمنون، وقد يؤدي قتلهم إلى مفاسد كثيرة (¬3). (ب) لا يُقتل حُرٌّ بعبد: وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على نحو اختلافهم في قتل المسلم بالكافر، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحر إذا قتل عبدًا فلا قصاص عليه، لأن الأعلى لا يُقتل بالأدنى، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رجلًا قتل عبده متعمدًا، فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفاه سنةَ، ومحا سهمه من المسلمين، [ولم يَقُدْهُ به، وأمره أن يعتق رقبة]» (¬4) وهو ضعيف. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد» (¬5) وفي الباب أحاديث أخرى ضعيفة. وخالف أبو حنيفة ومن معه، وداود، فقالوا: يقتل الحرًّ بالعبد، محتجِّين بعمومات الآيات والأخبار الواردة في القصاص: 1 - كقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (¬6). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (3166)، وابن ماجة (2686)، وابن الجارود (834)، وابن أبي عاصم في «الديات»، (ص 175)، والحاكم (2/ 126) وغيرهم. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (2760)، والنسائي (8/ 24)، وأحمد (5/ 38) وغيرهم. (¬3) «اختيارات ابن قدامة الفقهية» للغامدي (4/ 21). (¬4) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2664)، والدارقطني (3/ 143)، والبيهقي (8/ 36) وله شاهد ضعيف جدًّا من حديث علي. (¬5) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 413)، وعبد الرزاق (9/ 491)، والدارقطني (3/ 134)، وعنه البيهقي (8/ 34)، من طرق عن حجاج عن عمرو به، وحجاج هو ابن أرطأة مدلس وقد عنعنه. (¬6) سورة المائدة: 45.

2 - وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (¬1). وأجيب: بأن هذه العمومات مخصوصة بأدلة الأولين، والخاص مقدم على العام. 3 - واستدلوا كذلك بما رُوي من طريق الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه» (¬2). وأجيب: بأن الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته فيمكن أن يخرج مخرج التحذير، وقيل: هو منسوخ، لا سيما وأن الحسن كان يُفتى بخلافه (!!). والذي يترجح هنا: قول الجمهور، ويمكن أن يُستدل له كذلك بمفهوم خطاب قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد} (¬3) فإن قيل: فيلزم على مقتضى هذا أن لا يُقتل العبد بالحر؟! قلنا: قتل العبد بالحر مجمع عليه، فلا يلزم التساوي بينهما في ذلك، والله أعلم. هل يُقتل الجماعة بالواحد؟ إذا اشترك جماعة في قتل مسلم حر، ففعل كل منهم فعلًا لو انفرد به لكان كافيًا في قتله، فذهب الجماهير من أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، إلى أنهم يقتلون جميعًا به، وهو مروي عن عمر وعليٍّ وابن عباس والمغيرة بن شعبة، وبه قال ابن المسيب والحسن وعطاء وقتادة والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، وحجتهم: 1 - أن عمر بن الخطاب قال - في غلام قُتل غيلة -: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا» (¬4). 2 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه «قتل ثلاثة قتلوا رجلًا» (¬5). 3 - وعن ابن عباس أنه قال: «لو أن مائة قتلوا رجلًا، قُتلوا به» (¬6). قالوا: وهذا فعل من الصحابة لا يفعلونه إلا بتوقيف، كما أنه لم يظهر لهم مخالف فكان إجماعًا أو مثله. ¬

(¬1) حسن: تقدم قريبًا. (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي (4750)، وابن ماجة (2663). (¬3) سورة البقرة: 178. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري، والبيهقي (8/ 40)، واللفظ له. (¬5) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة بمعناه (5/ 429) ط. الرشد. (¬6) إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه عبد الرزاق (9/ 479).

4 - ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك، لأدَّى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر. ومنع بعض أهل العلم من قتل الجماعة بالواحد، فقال بعضهم: تجب عليهم الدية فقط وهو رواية ثانية في مذهب أحمد، وبه قال ربيعة وأبو داود وابن المنذر، وحُكي عن ابن عباس (!). وقال بعضهم: يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، وهذا مروي عن معاذ بن جبل وابن الزبير، وبه قال ابن سيرين والزهري. واحتجوا جميعًا: 1 - بقوله تعالى: {الحر بالحر} وبقوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (¬1) قالوا: ومقتضاهما أن لا يزاد على النفس الواحدة بنفس. 2 - ولأن كل واحد منهم مكافئ له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد. والراجح: القول الأول القائل بقتل الجماعة بالواحد لأن الآيتين إنما بيَّنتا القتل العمد في أقل صوره، ولم تتعرض لحكم اشتراك الجماعة فبيَّنه فعل الصحابة - رضي الله عنهم -، ولعله يتأيد هذا المذهب بما ثبت في قصة العرنيين إذ قتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اجتمعوا على قتل الرعاة (¬2). وإذا شارك في القتل من لا قصاص عليه: كأن يشترك والد المقتول مع أخيه في قتل ابنه، فللعلماء في هذه المسألة قولان (¬3): الأول: تجب الدية على عاقلة من لا قصاص عليه وفي ماله عتق رقبة، ويقتص من الآخرين: وهذا مذهب مالك، وقول للشافعي، ورواية في مذهب أحمد، وهو مروي عن قتادة والزهري وحماد، وحجتهم: أن القصاص عقوبة تجب عليهم جزاءً لفعلهم، فمتى كان فعلهم عمدًا عدوانًا ¬

(¬1) سورة المائدة: 45. (¬2) أفاده في «اختيارات ابن قدامة» (4/ 27)، والقصة عند البخاري، ومسلم. (¬3) «البدائع» (7/ 235)، و «ابن عابدين» (6/ 535)، و «الكافي» (2/ 1098)، و «الشرح الصغير» (4/ 346)، و «الأم» (6/ 20)، و «نهاية المحتاج» (7/ 275)، و «المغني» (8/ 295)، و «الإنصاف» (9/ 458).

وجب القصاص عليهم، دون النظر إلى فعل الشريك بحال، لكن يسقط القصاص عن هذا لمانع فيه هو، ككونه والدًا للمقتول، أو كونه غير مكلف. الثاني: لا قصاص على أحد منهم، وتجب الدية: وهو مذهب أبي حنيفة، وقول ثانٍ للشافعي، والمشهور من مذهب أحمد، وبه قال الحسن والأوزاعي وإسحاق، وحجتهم: 1 - أنه شارك من لا مأثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ. 2 - ولأن الصبي والمجنون - مثلًا - لا قصد لهما صحيح، ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ. قلت: والأول أظهر، والله أعلم. وإذا أمسك رجلًا وقتله الآخر (¬1): فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الممسك للمقتول حال قتل القاتل له لا يلزمه القود، ولا يعدُّ فعله مشاركة حتى يكون ذلك من باب قتل الجماعة بالواحد، بل الواجب حبسه فقط، واحتجوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (¬2). 2 - ما يُروي عن ابن عمر مرفوعًا: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ، وقتله الآخر يُقتل الذي قتل، ويُحبس الذي أمسك» (¬3) وهو ضعيف. 3 - ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قضى في رجل قتل رجلًا متعمدًا، وأمسكه آخر، قال: «يُقتل القاتل، ويُحبس الآخر في السجن حتى يموت» (¬4). وذهب مالك والليث إلى أن الممسك يُقتل كالمباشر للقتل لأنهما شريكان، إذ لولا الإمساك لما حصل القتل. قلت: والأول أرجح - رغم ضعف الأثرين - لأن الصحابة قدَّموا المباشرة على السبب، فقد قضي عمر - رضي الله عنه - في أعمى كان يقوده بصير، فوقعا في بئر، فوقع ¬

(¬1) «نيل الأوطار» (7/ 30)، و «كشاف القناع» (5/ 520)، و «المغني» (11/ 596 - الفكر). (¬2) سورة البقرة: 194. (¬3) ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 140)، والبيهقي (8/ 50) ورجَّحا إرساله. (¬4) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (9/ 480).

الأعمى على البصير فمات البصير، «قضي عمر - رضي الله عنه - بعقل البصير على الأعمى» (¬1). فعُلم أنه لا حكم للسبب مع المباشرة، ما لم يكن فعل المشارك - إذا انفرد - مؤديًا إلى القتل، وقيل: ما لم يكن المشارك (الممسك) متواطئًا على القتل، فإن كان مريدًا قتله قُتل هو الآخر وهو قول متجه قوي. 7 - اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص (¬2): إذا مات المجني عليه من غير عفو عن قاتله، صار القصاص والمطالبة بدمه حقًّا لجميع الورثة على سبيل الاشتراك بينهم، يستوي فيهم - عند الجمهور - العاصب وصاحب الفرض، والذكر والأنثى، والصغير والكبير (¬3)، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعقل المرأة عصبتُها من كانوا، ولا يرثوا منها شيئًا، إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، فهم يقتلون قاتلها» (¬4). والمراد بالعصبة هنا: الذين يرثون الميت عن كلالة من غير والد ولا ولد. وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا، الأول فالأول، وإن كان امرأة» (¬5). والمراد بالمقتتلين: أولياء المقتول الطالبين القود، وينحجزوا: أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كان امرأة، وقوله «الأول فالأول» أي: الأقرب فالأقرب. وذهب مالك إلى أن استيفاء القصاص لعصبة المجني عليه الذكور فقط (¬6)، سواء كانوا عصبة بالنسب كالابن، أو بالسبب كالولاء، فلا دخل فيه لزوج ولا أخ لأم أوجد لأم (!). ¬

(¬1) إسناده حسن: أخرجه الدارقطني (3/ 98). (¬2) هذا هو الشرط السابع من شروط وجوب القصاص. (¬3) «البدائع» (7/ 242، 248)، و «الدسوقي» (4/ 240)، و «مغني المحتاج» (4/ 39، 50)، و «كشاف القناع» (5/ 546). (¬4) حسن: أخرجه أبو داود (1564)، والنسائي (8/ 43)، وابن ماجة (2647). (¬5) ضعيف: أخرجه أبو داود (4538)، والنسائي (8/ 39). (¬6) ونصَّ المالكية على أن القصاص يكون للنساء بثلاثة شروط: أن يكنَّ من ورثة المجني عليه، وأن لا يساويهن عاصب، وأن تكون المرأة ممن لو ذُكِّرت عصبت. وإذا كان للمجني عليه وارث من النساء، وعصبته من الرجال أبعد منهن، كان الحق في استيفاء القصاص لهن وللعصبة الأبعد منهن. انظر «الدسوقي» (4/ 256 - 258).

فإذا طلب الورثة القصاص أجيبوا إليه إذا طلبوه جميعًا، فإذا أسقطه أحدهم سقط القصاص؛ لأنه لا يتبعَّض، ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية كلٌّ حسب حصته في التركة. فوائد: 1 - إذا كان أحد الأولياء غائبًا: فإنه تنتظر عودته باتفاق الفقهاء؛ لأن له العفو فيسقط به؛ ولأن القصاص للتشفي فحقه التفويض إلى خيرة المستحق فلا يحصل باستيفاء غيره من حاكم أو بقية الورثة. 2 - وإذا كان من بين الأولياء ناقص الأهلية (¬1): (أ) فينتظر الصغير حتى يكبر والمجنون حتى يفيق، عند الشافعية والحنابلة والصاحبين من الحنفية، قالوا: لأنه ربما يعفو فيسقط القصاص ولأن القصاص للتشفي كما تقدم، فيحبس القاتل حتى البلوغ والإفاقة. (ب) وعند أبي حنيفة - وهو الصحيح في المذهب - أن حق القصاص يكون لكاملي الأهلية فقط (¬2) فلا ينتظر. (جـ) وذهب المالكية إلى أنه لا ينتظر صغير لم يتوقف الثبوت عليه، ولا ينتظر مجنون مطبق لا تعلم إفاقته، بخلاف من يفيق أحيانًا فتنتظر إفاقته. 3 - إذا لم يكن للمقتول وارث ولا عصبة (¬3): فيكون حد استيفاء القصاص للسلطان عند الجمهور لولايته العامة. وقال المالكية: حق القصاص للسلطان، وليس له أن يعفو. وقال أبو يوسف: لا ولاية للسلطان في استيفاء القصاص إذا كان المقتول في دار الإسلام. ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 243)، و «الشرح الصغير» (4/ 359)، و «مغني المحتاج» (4/ 40)، و «المغني» (7/ 739). (¬2) لأن القصاص ثابت - عنده - لكل من كان كاملًا على سبيل الاستقلال لا على سبيل الاشتراك، فلا عبرة بناقصي الأهلية لأن عفوهم لا يصح. (¬3) «البدائع» (7/ 243)، و «الدسوقي» (4/ 256).

ما يسقط به القصاص: 1 - موت القاتل (¬1): إذا مات القاتل قبل أن يقتص منه سقط القصاص لفوات محله؛ لأنه القتل لا يرد على ميت، وسواء في ذلك أن يكون الموت قد حصل حتف أنفه أو بقتل له بحق كالحد، وتجب الدية في تركته عند الشافعية والحنابلة. أما إذا قُتل هذا القاتلُ عمدًا عدوانًا: فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة - في المذهب - إلى سقوط القصاص مع وجوب الدية في مال القاتل الأول. وذهب المالكية - وهو رواية عند الحنابلة - إلى أن الواجب القصاص على القاتل الثاني لأولياء المقتول الأول (!). 2 - عفو الأولياء عن القصاص: فإن القصاص حق لأولياء الدم - كما تقدم - ولهم الحق في العفو فإن عفوا سقط القصاص بالاتفاق لأنه عقد لهم فيسقط بعفوهم، ولهم الدية. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودى، وإما أن يقاد» (¬2). وقال ابن عباس: «كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو أن يقبل الدية في العمد {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} (¬3): قتل بعد قبول الدية» (¬4). وعن - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حُقَّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد العقل» (¬5) والعقل: الدية. ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 246)، و «الشرح الصغير» (4/ 337)، و «الأم» (6/ 10)، و «مغني المحتاج» (4/ 48)، و «الشرح الصغير - مع المغني» (9/ 417)، و «الإنصاف» (10/ 6). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1355). (¬3) سورة البقرة: 178. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (4498). (¬5) حسن: أخرجه الترمذي (1406)، وابن ماجة (2626).

وهذه الدية ليست هي الواجبة بالقتل، بل هي بدل عن القصاص ولو بغير رضا الجاني، ولذا فإن لهم أن يصالحوا على غيرها كما سيأتي في «الديات». والعفو عن القصاص مندوب إليه شرعًا، لقوله تعالى: {وأن تعفو أقرب للتقوى} (¬1) وقوله: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (¬2) وقوله سبحانه: {فمن تصدق به فهو كفارة له} (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا» (¬4). وقد رُوي عن أنس قال: «ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو» (¬5). فإن عفا بعض الأولياء دون بعض: سقط القصاص عن القاتل، لأنه سقط نصيب العافي بالعفو، فيسقط نصيب الآخر في القود ضرورة، لأنه لا يتجزأ، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض وفي هذه الحالة يبقى للآخرين نصيبهم من الدية فعن زيد بن وهب: أن رجلًا قتل امرأته، استعدى ثلاثة إخوة لها عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فعفا أحدهم، فقال عمر للباقين: «خُذا ثلثي الدية، فإنه لا سبيل إلى قتله» (¬6). 3 - الصلح على القصاص (¬7): اتفق الفقهاء على جواز الصلح بين القاتل وولي القصاص على إسقاط القصاص بمقابل بدل يدفعه القاتل للولي من ماله، ولا يجب على العاقلة؛ لأن العاقلة لا تعقل العمد، ويسمى هذا البدل: بدل الصلح عن دم العمد. ويجوز أن يكون بدل الصلح هو الدية أو أقل منها أو أكثر منها من جنسها أو غير جنسها، حالًا أو مؤجلًا؛ لأن الصلح معاوضة، فيكون على بدل يتفق عليه الطرفان بالغًا ما بلغ. ¬

(¬1) سورة البقرة: 237. (¬2) سورة البقرة: 178. (¬3) سورة المائدة: 45. (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (2588) وغيره. (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (4497)، والنسائي (4788)، وابن ماجة (2692)، والمقدسي في «المختارة» (2337)، والبيهقي (8/ 54). (¬6) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة البيهقي (8/ 59). (¬7) «الموسوعة الفقهية» (33/ 275 - 276) بتصرف واختصار.

استيفاء القصاص

وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حُقَّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم» وذلك لتشديد العقل (¬1). استيفاء القصاص 1 - زمان الاستيفاء (¬2)؟ إذا ثبت القصاص بشروطه، جاز للولي استيفاؤه فورًا من غير تأخير؛ لأنه حقُّه، لكنه لا يكون مستحقًّا له حتى يموت المجني عليه، فإذا جُرح جرحًا نافذًا لم يُقتص من الجاني حتى يموت المجني عليه؛ لأنه ربما شفي فلا يُقتل الجاني. وقد نصَّ الفقهاء على أن القاتل إذا كان امرأة حاملًا: يؤخر القصاص حتى تلد، حفاظًا على سلامة الجنين وحقه في الحياة، بل إنها تُنظر إلى الفطام أيضًا إذا لم يوجد غيرها لإرضاعه. 2 - مكان الاستيفاء (¬3): ليس للقصاص في القتل مكان معين، لكن إذا التجأ الجاني إلى الحرم فقد اختلف الفقهاء فيه: فذهب المالكية والشافعية - وأبو يوسف من الحنفية - إلى أنه يخرج منه ويُقتل خارجه. وذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه لا يخرج منه ولا يُقتل فيه، لكن يمنع عنه الطعام والشراب حتى يخرج من الحرم بنفسه ويقتص منه. هذا إذا كانت جنايته قد وقعت خارج الحرم أصلًا، وأما إذا وقعت جنايته - في الأصل - داخل الحرم، جاز الاقتصاص منه في الحرم وخارجه باتفاق الفقهاء. قلت: صحَّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «من قتل أو سرق في الحل، ثم دخل الحرم، فإنه لا يجالس، ولا يكلم، ولا يؤذي، ويناشد حتى يخرج، فيقام عليه، ¬

(¬1) حسن: تقدم قريبًا. (¬2) «ابن عابدين» (3/ 148)، و «الزرقاني» (8/ 24)، و «مغني المحتاج» (4/ 43)، و «المغني» (7/ 731). (¬3) «ابن عابدين» (5/ 352)، والمراجع السابقة.

ومن قتل أو سرق فأخذ في الحل فأدخل الحرم، فأرادوا أن يقيموا عليه ما أصاب، أُخرج من الحرم إلى الحل، وإن قتل في الحرم أو سرق أقيم عليه في الحرم» (¬1). 3 - إذن الإمام في القصاص (¬2): ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز استيفاء القصاص إلا بإذن الإمام فيه لخطره، ولأن وجوبه يفتقر إلى اجتهاد، لاختلاف الناس في شرائط الوجوب والاستيفاء، ويسن عند الشافعية حضور الإمام القصاص. وذهب الحنابلة إلى أنه لا يستوفى القصاص إلا بحضرة السلطان أو نائبه، فإذا استوفاه الولي بنفسه دون إذن السلطان جاز، ويُعزَّر لافتئاته على الإمام. 4 - كيفية القصاص (¬3): ذهب جمهور العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين واختارها شيخ الإسلام إلى أن القاتل يُقتص منه بمثل الطريقة والآلة التي قتل بها، فمن قتل بخنق أو إغراق أو بتجريع سمٍّ ونحو ذلك، يُفعل به كما فعل، ما لم يكن هذه الطريقة محرمة لذاتها كالقتل بتجريع خمر أو اللواط به أو إحراقه ونحو ذلك، واحتجوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} (¬4). 2 - وقوله سبحانه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (¬5). 3 - وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (¬6). ولا شك أن تمام المقاصة أن يُفعل به كما فعل. 4 - حديث أنس - رضي الله عنه - «أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان حتى سُمِّي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء به فاعترف فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فَرُضَّ رأسه بحجرين» (¬7). ¬

(¬1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9/ 304). (¬2) «ابن عابدين» (5/ 452)، و «منح الجليل» (4/ 345)، و «الدسوقي» (4/ 40)، و «الإنصاف» (9/ 487). (¬3) «البدائع» (7/ 245)، و «ابن عابدين» (5/ 346)، و «الدسوقي» (4/ 265)، و «روضة الطالبين» (9/ 229)، و «الإنصاف» (9/ 490)، و «المغني» (7/ 688)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 381). (¬4) سورة النحل: 126. (¬5) سورة البقرة: 194. (¬6) سورة البقرة: 178. (¬7) صحيح: أخرجه البخاري (6879)، ومسلم (1672).

القسم الثاني: القتل شبه العمد

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وهو الأشبه بالكتاب والسنة والعدل» اهـ. بينما ذهب أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - وهي المذاهب - والثوري وعطاء، إلى أن القصاص لا يكون إلا بالسيف، والمراد به - عند الحنابلة - أن يكون القصاص في العنق مهما كانت الآلة والطريقة التي قتل بها، فيجوز عندهم بالسكين والخنجر ونحوه، وحجة هذا المذهب: 1 - حديث: «لا قود إلا بالسيف» (¬1) وأجيب بأنه ضعيف لا ينتهض للاحتجاج به. 2 - حديث: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» (¬2). وأجيب بأن إحسان القتلة إنما يكون بموافقة الشرع، وقد جاءت نصوص الشرع بقتل الجاني بمثل ما قتل، كما تقدم. فالراجح: القول الأول، فيفعل بالجاني مثل ما فعل، بشرط أن لا تكون الطريقة محرمة لذاتها، فإن ثبت القتل بتجريع خمر مثلًا أو بلواط أو سحر فيقتص بالسيف عند الجمهور، وفي قول - هو مقابل الأصح عند الشافعي - في الخمر: يُجرع مائعًا كالخل أو الماء، وفي اللواط: يُدس بخشبة قريبة من آلته ويقتل بها (!!) والأول أوجه، والله أعلم. القسم الثاني: القتل شبه العمد تعريفه (¬3): (أ) ذهب الشافعية والحنابلة والصاحبان من الحنفية إلى أن قتل شبه العمد هو: أن يضرب الشخص عدوانًا بما لا يقتل غالبًا كالسوط والعصا الصغيرة، فيؤدي إلى موته؛ لأن هذا الفعل يقصد به غير القتل من التأديب ونحوه. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2667)، وله طرق كلها ضعيفة وانظر «نصب الراية» (4/ 341)، و «المجمع» (6/ 291). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1955)، وأبو داود (2815)، والنسائي (7/ 227)، والترمذي (1409)، وابن ماجة (3170). (¬3) «ابن عابدين» (5/ 341)، و «القوانين الفقهية» (339)، و «روضة الطالبين» (9/ 124)، و «مغني المحتاج» (4/ 403)، و «كشاف القناع» (5/ 512)، و «المغني» (7/ 650)، و «المحلي» (11).

(ب) وعرَّفه أبو حنيفة بأنه: أن يتعمد ضرب شخص بما لا يفرق الأجزاء كالعصا واليد والحجر، وما ليس بسلاح. والأصل في اعتبار هذا النوع من القتل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن قتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا [والحجر] مائة من الإبل» (¬1). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عقل شبه العمد مغلَّظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزغ الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح» (¬2). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - «أن شبه العمد: الحجرُ والعصا» (¬3). وعلى اعتبار هذا القسم الجماهير من الصحابة والتابعين منهم الأوزاعي والثوري وإسحاق وأبو ثور والأئمة الثلاثة. (جـ) وأما المالكية فلم يُعرِّفوه؛ لأنهم لم يثبتوا هذا القسم، إذ القتل عندهم عمد وخطأ (¬4)، ووافقهم الليث وأبو محمد بن حزم - رحمهم الله -، قالوا: إنما نصُّ القرآن على أن القتل إما عمد وهو المراد بقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا} (¬5)، وإما قتل خطأ كما في قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطئا ...} (¬6). قلت: وهم محجوبون بثبوت هذا النوع في السنة كما تقدم، والله أعلم. فائدة: هذا القسم يسمى كذلك: عمد الخطأ، وخطأ العمد. حكمه: القتل شبه العمد حرام إن كان نتيجة لضرب متعمد عدوانًا، والعدوان محرم، قال الله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (¬7). ¬

(¬1) حسن: تقدم، وسيأتي مرارًا. (¬2) حسن لشواهده: أخرجه أحمد (2/ 217) وله شواهد. (¬3) حسن بطرقه: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (9/ 277) من طريقين يقوي أحدهما الآخر. (¬4) هذا هو المشهور عند المالكية، وفي قول عندهم أن من ضرب بعصا ونحوها على وجه الغضب فهو شبه عمد. (¬5) سورة النساء: 93. (¬6) سورة النساء: 92. (¬7) سورة البقرة: 170.

وقد تضافرت نصوص الشريعة الغراء في سد الأبواب المؤدية إلى قتل المسلم، فنهت عن مجرد الإشارة بالسلاح إليه، فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يديه فيقع في حفرة من النار» (¬1). وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه» (¬2). بل ثبت عن جابر - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتعاطى السيف مسلولًا» (¬3). وعنه أن رجلًا مرَّ بسهام في المسجد فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمسك بنصالها» (¬4). هذا فيمن لا يقصد الإيذاء والتعدي، فكيف بالمعتدى؟!! من صور قتل شبه العمد (¬5): 1 - أن يقصد ضربه عدوانًا بما لا يقتل غالبًا كعصا أو سوط أو حجر صغير، فيموت. 2 - أن يقصد ضربه تأديبًا بسوط صغير ونحوه، ويسرف في الضرب، فيفضي إلى قتله. 3 - أن يحبسه في مكان ويمنع عنه الطعام والشراب مدةً لا يموت في مثلها غالبًا، فهذا من شبه العمد عن الشافعية، وهو عمد الخطأ عند الحنابلة. فإن كانت هذه المدة مما يموت مثله فيها غالبًا فهو قتل عمد عند الشافعية والحنابلة، وعند أبي حنيفة: هذا لا يعتبر قتلًا أصلًا (!!) لأن الهلاك حصل بالجوع والعطش، ولا صنع لأحد في ذلك (!!) وقد خالفه الصاحبان فقالوا: عليه الدية. 4 - أن يحفر بئرًا: أو ينصب حجرًا أو سكينًا تعديًا في ملك غيره بلا إذنه، ويقصد به الجناية، فهو قتل شبه عمد عند الحنابلة، وقد يقوى فيلحق بالعمد، ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري (7072)، ومسلم (2617). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (2616)، والترمذي (2162). (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (2588)، والترمذي (2163). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (7073)، ومسلم (2614). (¬5) «البدائع» (7/ 233)، و «روضة الطالبين» (9/ 124)، و «المغني» (7/ 650)، و «مغني المحتاج» (4/ 5)، و «حاشية الدسوقي» (4/ 243)، و «كشاف القناع» (5/ 513).

وعند المالكية: إن قصد هلاك شخص معين فهلك فعلًا، فهو عمد فيه القصاص وإن هلك غير المعين ففيه الدية (أي: خطأ). وأما الحنفية فهذا عندهم: (قتل بسبب) وموجبه عندهم الدية على العاقلة، وهو قسم مستقل من أقسام القتل الخمسة عندهم. عقوبة القتل شبه العمد (¬1): 1 - الدِّية: لا خلاف بين الفقهاء - القائلين باعتبار شبه العمد - أنه موجب للدية، وهي في شبه العمد مغلظة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن قتيل شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل، أرْبَعون في بطونها أولادها» (¬2). وتجب هذه الدية على عاقلة الجاني عند جمهور القائلين بشبه العمد، لحديث أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها» (¬3). وإنما وجبت الدية على العاقلة لشبهة عدم القصد، فأشبه قتل الخطأ. وهل يشترك الجاني في الدية؟ قال الشافعية والحنابلة: لا يشترك فيها، وقال الحنفية: يشترك فيها كما في القتل الخطأ، قلت: وعلى الأول يدلُّ حديث أبي هريرة، والله أعلم. وقال ابن سيرين والزهري وقتادة وأبو ثور: تجب الدية على القاتل في ماله، لأنها موجب فعلٍ قَصَدَهُ، فلم تحمله العاقلة، كالعمد المحض، لكن الحديث بحجة عليهم. 2 - الكفارة: وهي عتق رقبة مسلمة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، قال الله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليمًا حكيمًا} (¬4) وهي منصوصة في قتل الخطأ كما هو ظاهر الآية الكريمة، ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 251)، و «مغني المحتاج» (4/ 55)، و «المغني» (7/ 766). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (4547)، والنسائي (8/ 41)، وابن ماجة (2627) وغيرهم. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1681). (¬4) سورة النساء: 92.

القسم الثالث: القتل الخطأ

لكن ذهب الشافعية والحنابلة - والكرخى من الحنفية - إلى وجوب الكفارة في قتل شبه العمد؛ لأنه يشبه قتل الخطأ من جهة عدم قصد القتل. وذهب الحنفية إلى أنها لا تجب فيه؛ لأن هذه جناية مغلظة والمؤاخذة فيها ثابتة. القسم الثالث: القتل الخطأ تعريفه وصوره (¬1): القتل الخطأ هو ما وقع دون قصد الفعل والشخص، أو دون قصد أحدهما، ومن صوره: 1 - أن لا يقصد الضرب ولا القتل، مثل أن يرمي صيدًا أو هدفًا فيصيب إنسانًا. 2 - أن ينقلب وهو نائم على إنسان فيقتله. 3 - أن يقتل - في دار الحرب - من يظنه كافرًا، فيتبين مسلمًا. 4 - أن يضربه على سبيل اللعب، فيقتله. ما يترتب عليه: يترتب على القتل الخطأ ما يلي: (أ) وجوب الدية والكفارة (¬2): وهذا يجب على من قتل مؤمنًا خطأً أو كافرًا معاهدًا باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} (¬3) (¬4). وتكون الدية على العاقلة، والكفارة من ماله. (ب) وجوب الكفارة فقط (¬5): وتجب بالاتفاق، على من قتل مؤمنًا في بلاد الكفار أو حروبهم وهو يظنه كافرًا؛ لأنه رآه يعظم آلهتهم أو كان عليه زي الكفار ونحو ذلك، لقوله تعالى: {فإنه كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} (¬6). ¬

(¬1) «فتح القدير» (9/ 147)، و «الشرح الصغير» (2/ 383 - مع الصاوي)، و «مغني المحتاج» (4/ 4)، و «المغني» (7/ 650). (¬2) «فتح القدير» (9/ 147)، و «ابن عابدين» (5/ 341)، و «بداية المجتهد» (2/ 534)، و «حاشية الجمل» (5/ 102)، و «المغني» (7/ 651)، (¬3) سورة النساء: 92. (¬4) قال الماوردي: قدَّم في قتل المسلم الكفارة على الدية، وفي الكافر الدية، لأن المسلم يرى تقديم حق الله على نفسه، والكافر يرى تقديم حق نفسه على حق الله تعالى. اهـ. (¬5) «مراتب الإجماع» (ص 140)، و «فتح القدير» (4/ 355)، و «البدائع» (7/ 252)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1106)، و «بداية المجتهد» (2/ 472)، و «الأم» (6/ 35)، و «مغني المحتاج» (4/ 13)، و «المغني» (7/ 651)، و «الإنصاف» (9/ 447). (¬6) سورة النساء: 92.

ثانيا: الجناية على ما دون النفس

ولا قصاص عليه بالإجماع، وليس في الآية ذكر الدية في هذه الحالة فلا تجب؛ ولأنه أسقك حرمة نفسه بمقامه في دار الكفر التي هي دار الإباحة وهو قول جمهور الفقهاء منهم أبو حنيفة وهو الرواية المشهورة في مذهب أحمد، والأظهر عند الشافعية، وبه قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وقتادة، والأوزاعي، والثوري وأبو ثور. وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في قول - وهو مقابل الأظهر عند الشافعية - إلى أنه تجب الدية في هذه الحالة مع الكفارة؛ لأنه قتل مسلمًا خطأ فوجبت ديته، كما لو كان في دار الإسلام. قلت: والأول أرجح، والله أعلم. ثانيًا: الجناية على ما دون النفس تعريفها (¬1): الجناية على ما دون النفس: كل فعل محرم وقع على الأطراف أو الأعضاء سواء كان بالقطع أم بالجرح أم بإزالة المنافع. الجناية على ما دون النفس قسمان: جناية موجبة للقصاص، وجناية موجبة للدية وغيرها. أ - الجناية الموجبة للقصاص: يشرع القصاص في الجناية على ما دون النفس - إذا توفرت شروط معينة يأتي ذكرها - والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. (أ) فأما الكتاب: فقال الله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} (¬2). وقال سبحانه: {فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (¬3). (ب) وأما السنة: فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كسرت الرَّبيّع - وهي عمة أنس بن مالك - ثنية جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص، فقال أنس بن النضر - عم أنس بن مالك -: لا، والله لا تكسر ¬

(¬1) «الموسوعة الفقهية» (16/ 63). (¬2) سورة المائدة: 45. (¬3) سورة البقرة: 194.

سنها يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أنس، كتاب الله القصاص» فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره» (¬1). (جـ) وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن (¬2). (ر) وأما المعقول: فلأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه لأنه خُلق وقاية للنفس فشرع الجزاء صونًا له (¬3). شروط وجوب القصاص: 1 - أن يكون الفعل عمدًا: وهو شرط باتفاق الفقهاء: وأما شبه العمد - فيما دون النفس - وهو أن يقصد الضرب بما لا يفضي إلى الجرح غالبًا فيجرحه، فلا قصاص فيه عند الجمهور. وذهب الحنفية وبعض الحنابلة إلى أنه ليس فيما دون النفس شبه عمد أصلًا، فما كان شبه العمد في النفس، فهو عمد فيما دونها، لأن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون آلة عادة، فاستوت الآلات كلها في الدلالة على القصد، فكان الفعل عمدًا محضًا، ووجب القصاص (¬4). 2 - أن يكون الفعل عدوانًا: فإن لم يكن الجاني متعديًا في فعله، فلا يقتص منه، كأن لا يكون مكلفًا (ليس أهلًا للعقوبة) أو ارتكب هذا الفعل بحق، كمن يقيم حدًّا أو تعزيرًا أو كان طبيبًا ونحو ذلك. 3 - أن يكون الجاني مكافئًا للمجني عليه: وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله، كالحر المسلم مع الحر المسلم، فأما من لا يُقتل بقتله، فلا يقتص منه فيما دون النفس له، كالمسلم مع الكافر، والحر مع العبد، والأب مع ابنه؛ لأنه لا تؤخذ نفسه بنفسه، فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن (¬5). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1635) وغيرهما. (¬2) «المغني» لابن قدامة (7/ 702 - ط. الرياض)، وانظر: «مراتب الإجماع» (ص 138). (¬3) «المغني» (7/ 702). (¬4) «البدائع» (7/ 233)، و «الزرقاني» (8/ 14)، و «روضة الطالبين» (9/ 178)، و «كشاف القناع» (5/ 545)، و «المغني» (7/ 703). (¬5) «ابن عابدين» (5/ 356)، و «المراجع السابقة».

وبهذا يقول الجمهور خلافًا للحنفية، على نحو ما تقدم في القصاص في القتل. 4 - أن يتماثل محل الجناية ومحل القصاص: فلا يُؤخذ شيء من الأصل إلا بمثله، فلا تؤخذ اليد إلا باليد، ولا رجل إلا بالرجل، ولا إصبع ولا عين وأذن ولا غيرها إلا بمثلها من الجاني، فلا تقطع يد أو رجل صحيحة بشلاء، وعلى هذا اتفاق الفقهاء (¬1). واختلفوا في قطع الشلاء بالصحيحة، فأجاز الجمهور قطعها، ونص الحنابلة والشافعية - في الصحيح - على أنها تقطع إذا قال أهل الخبرة بأنه ينقطع الدم، وإلا لم تقطع وتجب الدية وقال المالكية وهو وجه عند الشافعية: لا تقطع الشلاء بالصحيحة، لأن الشرع لم يرد بالقصاص فيها وعليه الدية. واختلفوا في قطع الشلاء بالشلاء (¬2): فمنعه الحنفية والمالكية والشافعية في وجه، وأجازه الحنابلة والشافعية في الصحيح لديهم إن استويا في الشلل أو كان شلل يد الجاني أكثر من يد المجني عليه بشرط أن لا يخاف نزف الدم. وإذا قلع الأعور عين صحيح العينين (¬3): فقال أبو حنيفة والشافعي: يقتص منه، ويترك أعمى، وبه قال مسروق والشعبي وابن سيرين والثوري وابن المنذر، وحجتهم: عموم قوله تعالى: {والعين بالعين} (¬4). وقال مالك: يخيَّر بين القصاص وبين أخذ دية كاملة. ومذهب أحمد أنه لا قصاص عليه وعليه دية كاملة؛ لأنه روِّي ذلك عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فصار إجماعًا، ولأنه لم يذهب بجمع بصره فلم يجز له الاقتصاص منه بجميع بصره، كما لو كان ذا عينين. قلت: الظاهر أنه لا مانع من القصاص إذا أراد المجني عليه، والله أعلم. وإذا قلع صحيحٌ العين السالمة من الأعور (¬5): فاتفقوا على أن للمجني عليه القصاص، ثم اختلفوا هل يجب على الصحيح شيء زائد عن القصاص؟ فذهب ¬

(¬1) «البدائع» (7/ 297)، و «المغني» (7/ 723)، و «كشاف القناع» (5/ 557)، والمراجع السابقة. (¬2) «البدائع» (7/ 298)، و «الزرقاني» (8/ 16)، و «الروضة» (9/ 193)، و «المغني» (7/ 735). (¬3) «ابن عابدين» (5/ 354)، و «الزرقاني» (8/ 20)، و «نهاية المحتاج» (7/ 327)، و «المغني» (7/ 717). (¬4) سورة المائدة: 45. (¬5) «البدائع» (7/ 308)، و «الزرقاني» (8/ 41) والمراجع السابقة.

الحنابلة في المذهب إلى أن له القصاص بمثلها ويأخذ نصف الدية، لأنه ذهب جميع بصره، وأذهب الضوء الذي بدله دية كاملة، وقد تعذر استيفاء جميع الضوء، إذ لا يمكن أخذ عينين بعين واحدة، فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء. وذهب المالكية - وهو وجه لدى الحنابلة - إلى أنه ليس له زيادة على القصاص. قلت: وهذا الأخير أقرب إلى النصوص، والله أعلم. 5 - إمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة: وهو شرط لوجوب القصاص في الجراح والأطراف، وتحقق هذا بأن يكون القطع من مفصل، فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف (¬1). وقد رُوي عن نمر بن جابر عن أبيه: أن رجلًا ضرب على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل، فاستعدى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر له بالدية، قال: إني أريد القصاص، قال: «خذ الدية بارك الله لك فيها» (¬2) ولم يقض له بالقصاص. وهذا ما لم يرض المجني عليه بالقطع من مفصل أدنى من محل الجنابة. أنواع الجناية: الجناية على ما دون النفس إما أن تكون بالقطع والإبانة، أو بالجرح الذي يشق، أو بإزالة منفعة بلا شق ولا إبانة. (أ) الجناية بالقطع والإبانة: يجب القصاص بالجناية على الأعضاء والأطراف إذا أدت إلى قطع العضو أو الطرف بشروط معينة، وقدت قدمت. (ب) الجناية بالجرح: والجراح إما أن تقع على الرأس والوجه، وتسمى «الشجاج» وإما أن تقع على سائر البدن. أولًا: الشجاج: الشجاج أقسام، أشهرها عشرة: 1 - «الحارصة»: وهي التي تشق الجلد قليلًا، نحو الخدش، ولا يخرج الدم، وتسمى «الحرصة» كذلك. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (5/ 354)، و «الزرقاني» (8/ 18)، و «نهاية المحتاج» (7/ 284)، و «الروضة» (9/ 181)، و «المغني» (7/ 707). (¬2) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2636)، والبيهقي (8/ 65) وهو في «الإرواء» (2235).

2 - «الدامية»: وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، وتسمى عند بعض الفقهاء «البازلة» لأنها تبزل الجلد أي تشقه. 3 - «الباضعة»: وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي تقطعه، وقيل التي تقطع الجلد. 4 - «المتلاحمة»: وهي التي تغوص في اللحم، ولا تبلغ الجلدة بين اللحم والعظم، وتسمى أيضًا «اللاحمة». 5 - «السمحاق»: وهي التي تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم، وقد تسمى عند بعضهم «الملطاة أو اللاطئة». 6 - «الموضحة»: وهي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم. 7 - «الهاشمة»: وهي التي تهشم العظم (أي: تكسره) سواء أوضحته أم لا عند الشافعية. 8 - «المنقَّلة»: وهي التي تكسر العظم وتنقله من موضع إلى موضع سواء أوضحته وهشمته أم لا. 9 - «المأمومة»: وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي خريطة الدماغ المحيطة به ويقال لها: «الآمة». 10 - «الدامغة»: وهي التي تخرق الخريطة وتصل إلى الدماغ. والتسميات السابق ذكرها تكاد تكون محل اتفاق بين المذاهب، وإن كان هناك خلاف يسير في ترتيبها، فمردُّه الاختلاف في تحديد المعنى اللغوي (¬1). حكم هذه الشِّجَاج (¬2): الأصل وجوب القصاص في كل الجراح، لقوله تعالى: {والجروح قصاص} (¬3) لكن لما كان من هذه الأقسام ما لا يمكن اعتبار المساواة فيه، وضبط ذلك للاستيفاء بالمثل، فقد رأى بعض أهل العلم أنه لا قصاص فيه: 1 - فاتفقوا على أنه لا قصاص فيما فوق الموضحة (الهاشمة والمنقلة والأمة)، ¬

(¬1) «الموسوعة الفقهية» (16/ 79 - 80). (¬2) «ابن عابدين» (5/ 373)، و «الزرقاني» (8/ 34)، و «جواهر الإكليل» (2/ 259)، و «روضة الطالبين» (9/ 180)، و «كشاف القناع» (5/ 558)، و «المغني» (5/ 558). (¬3) سورة المائدة: 45.

لأنه لا يمكن المساواة في كسر العظم وتنقله، قلت: قد ورد عن العباس - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» (¬1) وهو حديث ضعيف لا يثبت. 2 - واتفقوا على وجوب القصاص في الموضحة؛ لأنه يتيسر ضبطها واستيفاء مثلها، إذ يمكن أن ينهي السكين إلى العظم فتتحقق المساواة. 3 - واختلفوا فيما دون الموضحة: فذهب الحنفية والمالكية - وهو رواية عند الشافعية - إلى أن فيها القصاص، وذهب الشافعية - في المذهب - والحنابلة إلى عدم القصاص فيما دون الموضحة. قلت: والذي فهمته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن القصاص يكون في كل شيء حتى في اللطمة والضربة والسُّبة، استدلالًا بعموم قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (¬2). وبعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقود في الطعنة والجبذة، وكذلك الصحابة. وردًّا على شبهة تعذُّر المماثلة في ذلك يقول: «... والعدل في القصاص بحسب الإمكان، ومن المعلوم أن الضارب إذا ضُرب مثل ضربته، أو قريبًا منها كان هذا أقرب إلى العدل من أن يُعزَّر بالضرب بالسوط، فالذي يمنع من القصاص خوفًا من الظلم يبيح ما هو أعظم ظلمًا مما فرَّ منه، فعلم أن ما جاءت به السنة أعدل وأمثل ...» اهـ. ثانيًا: الجراح الواقعة على سائر البدن (¬3) وهي نوعان: 1 - الجائفة: وهي التي تصل إلى الجوف، سواء نفذت إليه من الصدر أو الظهر أو البطن أو الجنبين أو الدبر. وقد ورد حديث العباس مرفوعًا: «لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة» (¬4) ولا يصح، لكن اتفق الفقهاء على أنه لا قصاص في الجائفة. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2637)، وأبو يعلى (6700) رضي الله عنه مرفوعًا: «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» وهو حديث ضعيف لا يثبت. (¬2) سورة البقرة: 194. (¬3) «ابن عابدين» (5/ 374)، و «جواهر الإكليل» (2/ 259)، و «روضة الطالبين» (9/ 181)، و «المغني» (7/ 709). (¬4) ضعيف: تقدَّم قريبًا.

2 - غير الجائفة: وهذه اختلف أهل العلم في القصاص فيها على ثلاثة أقوال: الأول: فيها القصاص، وهو مذهب المالكية. الثاني: ليس فيها قصاص، بل حكومة عدل إذا أوضحت العظم وكسرته، وإذا بقي أثر، وإلا فلا شيء فيها، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف. الثالث: أن ما لا قصاص فيه إذا كان على الرأس والوجه، فلا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. حكم القصاص قبل اندمال الجروح (¬1): اختلف أهل العلم في جواز القصاص في الجرح أو الطرف قبل برئه واندماله على قولين: الأول: لا يقتص حتى يبرأ المجني عليه: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك وأحمد في مشهور مذهبه، والنخعي والثوري وإسحاق، وأبو ثور وعطاء والحسن وابن المنذر، واحتجوا بما يلي: 1 - حديث جابر «أن رجلًا جُرح فأراد أن يستقيد، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح» (¬2). 2 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقدني، فقال: «حتى تبرأ» ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: أفدني، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله، عرجت، قال: «قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عَرَجُك» ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتص من جُرح حتى يبرأ صاحبه (¬3). قالوا: فقوله: «ثم نهى أن يقتص ...» يدل على تحريم الاقتصاص قبل الاندمال، لأن لفظ «ثم» يقتضي الترتيب، فيكون النهي الواقع بعدها ناسخًا للإذن الواقع عليها. ¬

(¬1) «الهداية» (4/ 188)، و «جواهر الإكليل» (2/ 263)، و «الأم» (9/ 47)، و «كشاف القناع» (5/ 561)، و «المغني» (8/ 340 - القاهرة)، و «نيل الأوطار» (7/ 36). (¬2) حسن ما بعده: أخرجه ابن أبي عاصم في «الديات» (31)، والدارقطني (326)، والبيهقي (8/ 66)، وانظر «الإرواء» (7/ 298). (¬3) حسن لطرقه: أخرجه أحمد (2/ 217)، والدارقطني (325)، وعنه البيهقي (8/ 67)، وأُعلَّ بالإرسال، وهو حسن بما قبله، وانظر «الإرواء» (2237).

3 - ولأن الجرح لا يدري أقتل هو أم ليس بقتل؟ فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه. القول الثاني: يجوز أن يقتص قبل البرء، وهذا مذهب الشافعي ورواية أخرى عن أحمد، وحجتهما: 1 - إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل بالقصاص قبل البرء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم، وأجيب بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: «نهيتك فعصيتني» يدل على أن القصاص قبل البرء معصية، ثم إن قوله في آخره «ثم نهى ...» يدل على نسخ الإذن كما تقدم. 2 - قالوا: ولأن القصاص لا يسقط بالسراية، فوجب أن يملكه في الحال كما برئ، وأجيب بأن هذا ممنوع وهو مبني على الخلاف في مسألة السراية (¬1). ثالثًا: إزالة المنفعة من غير شق ولا إبانة: إذا ترتَّب على الاعتداء بالضرب أو الجرح زوال منفعة العضو مع بقائه سليمًا، كمن يلطم شخصًا في وجهه أو يجرحه في رأسه، فيؤدي إلى ذهاب السمع أو البصر، فهل يجب فيه القصاص؟ ذهب الجمهور إلى وجوب القصاص في ذلك، لأن لهذه المنافع محال مضبوطة، ولأهل الخبرة طرق في إبطالها. وذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز القصاص إلا في زوال البصر دون سواه (¬2). إذا وقعت الجناية على المجني عليه بسبب مناد: كمن عضَّ يد رجل فانتزعها فسقطت ثنيته، فذهب الجمهور - خلافًا لمالك - إلى أنه لا قصاص فيه ولا دية بشرط أن لا يتمكن المعضوض من إطلاق يده بما هو أيسر من ذلك، وأن يكون ذلك العض بما يتألم به، واحتجوا: 1 - بحديث عمران بن حصين: أن رجلًا عضَّ يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل، لا دية لك» (¬3). 2 - حديث يعلى بن أمية قال: كان لي أجير فقاتل إنسانًا فعضَّ أحدهما ¬

(¬1) السراية: تعدَّى أثر الجرح من العضو المقطوع إلى غيره، وربما يموت منه. (¬2) «البدائع» (7/ 307)، و «الزرقاني» (8/ 17)، و «روضة الطالبين» (9/ 186)، و «كشاف القناع» (5/ 552). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1672).

صاحبه، فانتزع أصبعه فأندر ثنيته فسقطت، فانطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهدر ثنيته، وقال: «أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل» (¬1). 3 - وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن إنسانًا جاءه - وعضَّه إنسان فانتزع يده فذهبت ثنيته - فقال أبو بكر: «تَعَدَّت ثنيتُه» (¬2). 4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا اطلَّع عليك رجل في بيتك فرميته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح» (¬3). وفي رواية: «فلا دية ولا قصاص» (¬4). 2 - الجناية على ما دون النفس الموجبة للدية: إذا كانت الجنابة على ما دون النفس خطأ، أو لم يتوفر فيها شرط من شروط وجوب القصاص المتقدمة، أو تصالح الخصمان وعفا المجني عليه عن الجاني، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية أو حكومة عدل، على حسب الأحوال. وقد اتفق الفقهاء على أن كل عضو لم يخلق الله تعالى في بدن الإنسان منه إلا واحدًا كاللسان، والأنف، والصلب، والذكر، وغيرها، ففيه دية كاملة؛ لأن إتلاف كل عضو من هذه الأعضاء كإذهاب منفعة الجنس، وهو كإتلاف النفس. وما خُلق في الإنسان منه شيئان كاليدين والرجلين، والعينين والأذنين، والشفتين، والأنثيين، والثديين والأليتين، وغيرها، ففيهما الدية كاملة، وفي إحداهما نصف الدية، لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم في كتابه: «وفي العينين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية» (¬5). وسيأتي في «الديات» مقادير هذه الديات وما يتعلق بها من مسائل، إن شاء الله. 3 - الجناية على الجنين: وتكون بأن تُضرب حاملٌ فتلقي جنينًا ميتًا، فلا خلاف بين الفقهاء في أنه ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1674). (¬2) صحيح: أخرجه الشافعي (332)، وأبو داود (4584)، والبيهقي (8/ 336). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم. (¬4) إسناده صحيح: أخرجه النسائي (8/ 61)، وابن حبان (5972)، والدارقطني (3/ 99). (¬5) مرسل: سيأتي الكلام عليه.

تجب فيه الغُرَّة، وهي نصف عشر الدية، وسيأتي دليل ذلك وتفصيل المسألة في «الديات» إن شاء الله. ما تثبت به الجناية: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجنايات تثبت على مرتكبيها بطريق من الطرق الثلاثة الآتية: 1 - الإقرار: وهو في الاصطلاح: الإخبار عن حق، أو الاعتراف به. وقد دلَّ على ثبوت الجناية بالإقرار الكتاب والسنة والإجماع: (أ) قال الله تعالى: {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} (¬1). (ب) وقال سبحانه: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} (¬2). (جـ) وعن وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: إني لقاعد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل يقود آخر بِنِسْعَة فقال: يا رسول الله هذا قتل أخي، فقال رسول الله: «أقتلته؟» فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، قال: نعم، قتلتهُ، قال: «كيف قتلته؟» قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبَّني فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟» قال: ما لي مالٌ إلا كسائي وفأسي، قال: «فترى قومك يشترونك؟» قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فرمى إليه بنسعته وقال: «دونك صاحبك» ... الحديث (¬3). واستدل بالحديث على أنه يثبت القصاص على الجاني بإقراره، قال الشوكاني: «وهو مما لا أحفظ فيه خلافًا، إذا كان الإقرار صحيحًا متجردًا عن الموانع» اهـ (¬4). 2 - الشهادة: وهي الطريق المعتاد لإثبات الجرائم، وأغلب الجرائم تثبت عن طريقها، وقد دلَّ على ثبوت الجناية على الجاني بالشهادة ما يلي: ¬

(¬1) سورة آل عمران: 81. (¬2) سورة الأعراف: 172. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم، والنسائي (8/ 15). (¬4) «نيل الأوطار» (7/ 42) ط. دار الحديث.

1 - حديث رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولًا، فانطلق أولياؤه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له، فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟» فقالوا: يا رسول الله، لم يكن ثَمَّ أحد من المسلمين، وإنما هم يهود، قد يجترئون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم» فوداه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده (¬1). 2 - وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن مُحيِّصة الأصغر أصبح قتيلًا على أبواب خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» ... الحديث (¬2). واستدل بهما على أن القتل يثبت بشهادة شاهدين. وهل تقبل فيه شهادة المرأتين مع الرجل؟ الأكثرون على أنه لا يُقبل في القصاص شهادة النساء، لأنه إراقة دم عقوبة على جناية، فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود (¬3). 3 - القَسامة: وهي الطريقة الثالثة لإثبات الجناية (القتل خاصة) على الجاني. تعريفها (¬4)؟ والقسامة لغة: مصدر أقسم قسمًا وقسامة، ومعناه: حلف حلفًا. وفي اصطلاح الفقهاء: الأيمان المكررة في دعوى القتل، يقسم بها أولياء القتيل لإثبات القتل على المتهم، أو يقسم بها المتهم على نفي القتل عنه. مشروعيتها: وقد كانت القسامة من طريق الإثبات في الجاهلية، فأقرها الإسلام، فعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية» (¬5). وعن سهل بن أبي حثمة: أن عبد الله بن سهل ومُحيِّصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، ثم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4524). (¬2) حسن: أخرجه النسائي (8/ 12). (¬3) «المغني» (12/ 228 - الفكر). (¬4) «مختار الصحاح»، وانظر «المغني» (12/ 188 - الفكر)، و «التشريع الجنائي» (2/ 321). (¬5) صحيح: أخرجه مسلم (1670)، والنسائي (8/ 4)، وأحمد (4/ 62 - 5/ 375).

أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حُويِّصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيِّصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمحيِّصة: كبِّر كبِّر (يريد: السن) فتكلم حُويِّصة ثم تكلم محيِّصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب» فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» قالوا: لا، قال: «فتحلف لكم يهود؟» قالوا: ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء (¬1). وفي رواية: فقال: «تبرئكم يهود بخمسين، يحلفون أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتلًا؟» فقال: كيف نرضى بأيمان قوم مشركين؟ قال: «فقسم منكم خمسون أنهم قتلوه؟» قالوا: كيف نحلف ولم نر؟ فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده فركضتني بكرة منها (¬2). وقد ذهب جمهور الفقهاء - منهم الصحابة والتابعون وأهل المذاهب الأربعة والظاهرية - إلى مشروعية القسامة لهذه النصوص وغيرها، وأنه يثبت بها القصاص أو الدية إذا لم تقترن الدعوى ببينة، إذا توفرت شروطها. بينما ذهب جماعة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز - في رواية عنه - إلى عدم الأخذ بالقسامة وعدم العمل بها، لأنها - عندهم - مخالفة لأصول الشرع المجمع عليها، ومنها: أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعًا أو شاهد حسًّا، وهنا أولياء الدم يقسمون وهم لم يشاهدوا، واستدلوا بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يُعطى الناس بدعواهم، لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (¬3). قالوا: وليس في الأحاديث حكم بالقسامة، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية فتلطف بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليريهم كيف بطلانها (!!). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له. (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (3173)، ومسلم، والنسائي (8/ 11)، وأبو داود. (¬3) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم وغيره.

وأجاب الشوكاني: «بأن القسامة أصل من أصول الشريعة مستقل، لورود الدليل بها، فتخصص بها الأدلة العامة وفيها حفظ للدماء وزجر للمعتدين، ولا يحل طرح سنة خاصة لأجل سنة عامة، وعدم الحكم في حديث سهل بن أبي حثمة لا يستلزم عدم الحكم مطلقًا، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد عرض على المتخاصمين اليمين، وقال: «إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب» كما في رواية متفق عليها، وهو لا يعرض إلا ما كان شرعًا، وأما دعوى أنه قال ذلك للتلطف بهم وإنزالهم من حكم الجاهلية فباطلة، وكيف وفي حديث أبي سلمة المذكور في الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية؟!» اهـ (¬1). شروط القسامة: 1 - دعوى القتل، فلا قسامة في غير القتل اتفاقًا، وأن يوجد قتيل فعلًا بلا شك. 2 - أن يكون المدعي عليه معينًا: فلو كانت الدعوى على أهل بلد - مثلًا - أو على واحد غير معين لم تجب القسامة عند الجمهور (¬2). 3 - أن يكون هنا لوث: واللوث قرينة تثير الظن، وتوقع في القلب صدق المدعى، كعداوة ظاهرة بين القاتل ومن مات في أرضهم وكأن يجتمع جماعة في بيت ثم يتفرقوا عن قتيل، أو أن يشهد عدل واحد على أن فلانًا قتله، أو أن يشهد جماعة من العبيد والنساء - متفرقين بحيث يؤمَن تواطؤهم - أن فلانًا قتله، ونحو ذلك، وهو شرط للقسامة عند الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وبه قال ابن المنذر (¬3)، واحتج لهم بما يلي: (أ) في حديث سهل بن أبي حثمة ما يدل على وجود عداوة بين الأنصار ويهود خيبر فقد قالوا: «ما لنا عدو بخيبر إلا يهود» (¬4). ¬

(¬1) «نيل الأوطار» (7/ 46)، ط. دار الحديث، وانظر «المحلي» لابن حزم (11/ 76) وما بعدها ففيه بحث لا نظير له. (¬2) «ابن عابدين» (5/ 403)، و «نهاية المحتاج» (7/ 368)، و «الخرشي» (8/ 55)، و «المغني» (10/ 4 - مع الشرح الكبير). (¬3) «البدائع» (7/ 286)، و «روضة الطالبين» (10/ 10)، و «الخرشي» (8/ 51)، و «المغني» (10/ 7). (¬4) أخرج هذا اللفظ البيهقي (8/ 119).

(ب) حديث ابن عباس مرفوعًا: «لو أعطى الناس بدعاواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (¬1). (جـ) وبأن الأصل في المدعى عليه براءة ذمته، ولم يظهر كذبه، فكان القول قوله كسائر الدعاوى، ولا تكون قسامة. (ر) ولأنه مدعى عليه فلم تلزمهُ اليمين (أي: القسامة). وأما أبو حنيفة وأصحابه فلم يشترطوا اللوث في القسامة، وحجتهم أن رجلًا وجد قتيلًا بين حيين، فحلفهم عمر - رضي الله عنه - خمسين يمينًا، وقضى بالدية على أقربهما - يعني أقرب الحيين - فقالوا: والله ما وَفَتْ أيماننا أموالنا، ولا أموالنا أيماننا، فقال عمر: «حقنتم بأموالكم دماءكم» (¬2). وأجيب: بأن الأثر لا يثبت، ثم هو محتمل أن يكونوا اعترفوا بالقتل خطأ وأنكروا العمد مثلًا، أو أن عمر - رضي الله عنه - وجد من القرينة ما يقوى شبهة المدعي. 4 - اتفاق الأولياء في الدعوى: فإن ادعى بعضهم وأنكر بعضهم لم تثبت القسامة وهل للنساء أن يدخلن في القسامة إذا كن من أولياء المقتول؟ فيه ثلاثة أقوال (¬3): (أ) لا يستحلف النساء فإن كانوا أقل من خمسين كررت الأيمان حتى تبلغ خمسين يمينًا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وبه قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي، قالوا: لأنها حجة تثبت قتل العمد، فلا تسمع من النساء كالشهادة، ولأن الجناية المدعاة هي القتل ولا مدخل للنساء في إثباته. قلت: وقد يحتج لهم بظاهر ما صحَّ عن سعيد بن المسيب قال: «القسامة في الدم لم تنزل عن خمسين رجلًا، فإن نقصت قسامتهم أو نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم ...» (¬4). (ب) يحلف النساء في قسامة الخطأ دون العمد، وهو مذهب مالك. (جـ) تدخل النساء في القسامة إذا كن وارثات، وهو مذهب الشافعي، فلو كان للقتيل ورثة وزعت الأيمان بحسب الإرث وجبر المنكسر، ولا فرق في ذلك بين الذكور والإناث، ودليله القياس على سائر ما يستخلف فيه. ¬

(¬1) صحيح: تقدم قريبًا. (¬2) إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 123، 124). (¬3) «مختصر الطحاوي» (ص 248)، و «الدسوقي» (4/ 293)، و «مغني المحتاج» (4/ 115)، و «المغني» (10/ 24 - مع الشرح الكبير). (¬4) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 32)، والبيهقي (8/ 122).

5 - ألا تتناقض دعوى المدعين: فإن قال القتيل قبل موته: قتلني فلان عمدًا، وقالوا: بل قتله خطأ أو العكس، فإنه لا قسامة لهم وبطل حقهم، وليس لهم أن يرجعوا إلى قول الميت بعد ذلك، وكذلك لو ادعوا على شخص انفراده بالقتل، ثم ادعوا على آخر أنه شريك لم تسمع الدعوى الثانية لمناقضتها الأولى وتكذيبها. وتمت شروط أخرى اشترطها بعض أهل العلم وهي مختلف فيها، كأن تكون الدعوى مفصلة، وأن يكون بالقتيل أثر قتل، وأن يوجد القتيل في محل مملوك لأحد، وكإسلام المقتول وغير ذلك، وقد ذكرنا أهم ما اشتُرط. كيفية القسامة (¬1)؟ 1 - ذهب جمهور أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأحمد وربيعة والليث وغيرهم: إلى أن الأيمان في القسامة توجه إلى المُدَّعين، فيُكَلَّفون حلفها ليثبت مدعاهم ويحكم لهم به، فإن نكلوا عنها، وُجهت إلى المدعى عليهم، فيحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا، فإن حلفوا ثبت مدعاهم، وحكم لهم إما بالقصاص أو الدية - على الخلاف في موجب القسامة - فإذا لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ، فيقول: والله، ما قتلته ولا شاركت في قتله ولا تسببت في قتله. فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه برئ المتهمون، وكانت دية القتيل من بيت المال، عند الحنابلة خلافًا للمالكية والشافعية. قلت: وهذا موافق لحديث سهل. وإن نكل المدعى عليهم عن اليمين: فقال الشافعية: ترد الأيمان على المدعين، فإن حلفوا عوقب المدعى عليهم، وإن لم يحلفوا فلا شيء لهم. وقال المالكية: يحبسون حتى يحلفوا أو يموتوا، وقيل: يجلدون ويحبسون عامًا. وقد استدل للجمهور في البدء في القسامة بتحليف المدعين، بحديث سهل بن أبي حثمة المتقدم. 2 - بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشعبي والثوري والنخعي إلى أنه يُبدأ بتوجيه الأيمان إلى المدعى عليهم، فإن حلفوا لزم أهل المحلة الدية، وهذا مروي من قضاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. ¬

(¬1) «ابن عابدين» (5/ 403)، و «الدسوقي» (4/ 293)، و «مغني المحتاج» (4/ 116)، و «المغني» (10/ 30 - مع الشرح الكبير)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 388).

ثانيا: الديات

واستدلوا بحديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدهم قتيلًا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلناه ولا علمنا قائلًا، فانطلقوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، فقال «الكُبْرَ الكُبْرَ» فقال لهم: «تأتوني بالبينة على من قتله؟» قالوا: ما لنا بينة، قال: «فيحلفون» قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُطلَّ دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة. قالوا: فأول ما طلب في دعوى القسامة البينة من جهة المدعى كسائر الدعاوى، فإن لم يكن ثم بينة للمدعى، وجهت الأيمان الخمسون إلى المدعى عليهم، فإن حلفوا برئوا وانتهت الخصومة وغرموا الدية (!!). قلت: وقول الجمهور أرجح، إذ لا مانع أن يكون طلب من المدعين البينة قبل تحليفهم، جمعًا بين الروايات، على أن من أهل العلم من اعتبر ذكر البينة - دون التحليف - وهمًا، لا سيما إن سلم أنه لم يسكن مع اليهود أحد من المسلمين في خيبر، والله أعلم. وأما قول الحنفية: «أن المدعى عليهم يحلفون ويغرمون الدية»!! فقال العلماء (¬1): ليس في شيء من الأصول اليمين مع الغرامة، وإنما جاءت اليمين في البراءة، أو الاستحقاق على مذهب من قال باليمين مع الشاهد. ثانيًا: الديات التعريف (¬2): الديات: جمع دِيَة وهي لغةً: مصدر ودي القاتل القتيل، يَديِه دِيَةً: إذا أعطى وليه المال الذي هو بدَل عن النفس أو ما دونها. وفي الاصطلاح هي: المال الواجب أداؤه إلى المجني عليه أو وليه بسبب الجناية عليه في نفس أو فيما دونها. وتسمى كذلك «العَقْل» لوجهين: أحدهما: أنها تعقل الدماء أن تراق، والثاني: أن الدية كانت إذا وجبت وأخذت من الإبل تجمع فتعقل، ثم تساق إلى ولي الدم. ¬

(¬1) «معالم السنن» للخطابي (6/ 314)، و «شرح السنة» للبغوي (10/ 217). (¬2) «المصباح المنير» مادة «ودى»، و «فتح القدير» (9/ 204)، و «مغني المحتاج» (4/ 53)، و «كشاف القناع» (6/ 5).

ويطلق غالبًا على الدية في الجناية على ما دون النفس: «الأرش» فهو أخص من الدية بهذا المعنى، وربما يطلق «الأرش» على بدل النفس، فيكون بمعنى الدية. مشروعيتها: الأصل في مشروعية الدية الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} (¬1). وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها» (¬2) وثمت أحاديث أخرى في هذا الباب تأتي في موضعها. وقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة، والحكمة في وجوبها: هي صون بنيان الآدمي عن الهدم، ودمه عن الهدر (¬3). لا تجب الدية إلا لمعصوم الدم: وعلى هذا اتفاق الفقهاء، فإذا كان المجني عليه مهدر الدم، كأن كان حربيًّا أو مستحق القتل حدًّا أو قصاصًا فلا تجب الدية بقتله لفقد العصمة. وأما الإسلام فليس شرطًا لوجوب الدية لا في القاتل ولا المقتول، فتجب الدية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلمًا أو ذميًّا أو مستأمنًا. وكذلك لا يشترط العقل والبلوغ، فتجب الدية بقتل الصبي والمجنون اتفاقًا، كما تجب في مالهما. الأصل في تقدير الدية شرعًا: أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل بنفسها في الدية، فلو دُفعت الدية منها قبلت، ولم يكن للمجني عليه أو وليه المطالبة بغيرها. ثم اختلفوا في غير الإبل، هل يكون أصلًا في الدية بنفسه، أو مقوَّمًا بالإبل، على أقوال: الأول: الأصل في الدية: الإبل، لا غير. وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد - وظاهر كلام الخرقى من الحنابلة - وابن المنذر وابن حزم (¬4)، وحجتهم: ¬

(¬1) سورة النساء: 92. (¬2) حسن: تقدم في «القتل شبه العمد». (¬3) «البدائع» (7/ 253)، و «كشاف القناع» (6/ 5). (¬4) «مغني المحتاج» (4/ 55)، و «المغني» (7/ 759)، و «كشاف القناع» (6/ 18)، و «المحلي» (11).

1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن دية قتيل الخطأ ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» (¬1). 2 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور ...» (¬2) الحديث. 3 - كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن - وبعث به مع عمرو بن حزم - وفيه: «... وأن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعِب جدعه الدية ...» (¬3). 4 - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرَّق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها، ولا يتحقق هذا في غير الإبل. 5 - ولأنه بدل متلف وجب حقًّا لآدمي، فكان متعينًا كعوض الأموال. قلت: وعلى هذا المذهب: فمن وجبت عليه الدية - وله إبل - فليس له ولا للولي العدول عنها إلا بالتراضي، ولو عُدمت - حسًّا - فيعدل إلى الذهب أو الفضة إما مقدرًا (ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم) وهو قول الشافعي الجديد، وأما ما يعادل قيمة الإبل وقت وجوب تسليمها. وهو قول الشافعي القديم. القول الثاني: يعتبر الذهب والفضة أصلًا: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد (¬4)، قالوا: الدراهم والدنانير مقدرة في الديات (ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم - عند الجمهور - أو عشرة آلاف درهم عند الحنابلة) يجوز أخذها مع وجود الإبل، وحجتهم ما يلي: 1 - رواية لكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به عمرو بن حزم: إلى أهل اليمن، وفيه: «أن في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار» (¬5). ¬

(¬1) حسن: تقدم مرارًا. (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630). (¬3) ضعيف: أخرجه النسائي (2/ 252)، والدارمي (2/ 193)، والبيهقي (8/ 95) بسند ضعيف، إلا أن لقوله «في النفس مائة من الإبل» شواهد كما ترى، وانظر «الإرواء» (2212) على أنه قال ابن عبد البر: «هو كتاب مشهور عند أهل السير، ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه من أحاديث كثيرة تأتي ...» اهـ. (فتح البر - 11/ 521). (¬4) «البدائع» (7/ 253)، و «جواهر الإكليل» (2/ 265)، و «الإنصاف» (10/ 58)، و «تحفة الفقهاء» (3/ 155). (¬5) ضعيف: تقدم، وهذا لفظ النسائي (8/ 58).

2 - ما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: «أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديته: اثنى عشر ألفًا» (¬1). 3 - أن عمر قام خطيبًا فقال: «ألا أن الإبل قد غلت، فتقوَّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحُلل مائتي حُلَّة» (¬2). القول الثالث: أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم: وهو مذهب أحمد والصاحبين من الحنفية (وفي رواية عن أحمد - وهو قول الصاحبين -: والحُلل (الثياب) فتكون الأصول ستة) وهذا قول عمر وعطاء وطاووس وفقهاء المدينة السبعة وابن أبي ليلى (¬3)، وحجتهم أثر عمر المتقدم. وعلى قولهم، يجزئ في الدية مائة من الإبل، أو ألف دينار من الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم (وعند الحنفية: عشرة آلاف!! ولا أصل لقولهم هذا) أو مائتان من البقر، أو ألفا شاة، فأي شيء أحضره من عليه الدية من ذلك لزم المستحق أن يأخذه وليس له المطالبة بغيره. الترجيح: الذي يترجَّح لديَّ أن الأصل في تقدير الدية: الإبل، وما ورد في تقديرها بغير ذلك إنما هو على سبيل التقويم بالإبل، والخلاف إنما هو في كونها أصلًا أو لا، ويدلُّ على ذلك أثر عمر فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل، ولو كانت أصولًا بنفسها لم يكن إيجابها تقويمًا للإبل، ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك، ولا لذكره معنى، ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتِل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور» قال: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوِّمها على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق، ويقوِّمها على أهل الإبل: إذا غلت رفع قيمتها وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، أو عدلها من الورق، قال: وقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4546)، والنسائي (2)، والترمذي، وابن ماجة (2629). (¬2) حسن: أخرجه أبو داود (4512)، وعنه البيهقي (8/ 77)، وانظر «الإرواء» (2247). (¬3) «الإنصاف» (10/ 58)، و «كشاف القناع» (6/ 18)، و «المغني» (8/ 367 - القاهرة).

الشاة ألفي شاة، وقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم، فما فضل فاللعصبة، وقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثون منه شيئًا إلا ما فضل من ورثتها، وإن قُتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها» (¬1). فالحاصل: أن الأصل في تقدير الديات شرعًا الإبل، ولا يعني هذا أنها تتعين فلا تؤخذ قيمتها من غير الإبل، بل تؤخذ - في كل بلد - مما يناسبها مقدَّرة بقيمة الإبل، والله أعلم. أسباب وجوب الدية ومقاديرها: أولًا: القتل: وقد تقدم في «الجنايات» تعريفه، وأنه على ثلاثة أقسام: خطأ، وعمد، وشبه عمد. 1 - الدية في القتل الخطأ: تقدم في «الجنايات» أنه لا قصاص في القتل الخطأ - باتفاق الفقهاء - وإنما تجب الدية والكفارة، لقوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} (¬2) وقوله سبحانه: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} (¬3). مقدار دية المسلم: ولا خلاف بين أهل العلم أن دية المسلم الذكر الحر هي: مائة من الإبل أو ما يقوم مقامها على ما سبق بيانه، وقد تقدمت أدلة هذا في ثنايا الكلام على أصول الدية. وأما الأنثى: فديتها نصف دية الذكر الحر المسلم بإجماع أهل العلم، وقد ورد من حديث معاذ مرفوعًا: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» (¬4) وهو ضعيف، لكن صحَّ معناه عن جماعة من الصحابة، فعن شريح قال: أتاني عروة البارقي من عند عمر: «أن جراحات الرجال والنساء تستوي في السن والموضحة، وما فوق ذلك: فدية المرأة على النصف من دية الرجل» (¬5). وفي الباب عن عليٍّ وابن مسعود بإسناد صحيح (¬6). ¬

(¬1) حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630). (¬2) سورة النساء: 92. (¬3) سورة النساء: 92. (¬4) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 95) وانظر «الإرواء». (¬5) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة. (¬6) «مصنف ابن أبي شيبة» و «سنن البيهقي» (8/ 95 - 96).

وأما الخنثى: فإن كان المقتول خنثى مشكلًا، فقال المالكية والحنابلة: فيه نصف دية ذكر ونصف دية أنثى، وقال الحنفية: فيه دية أنثى ويوقف الباقي إلى التبيُّن). وقال الشافعية: فيه دية أنثى، لأن زيادته عليها مشكوك فيها (¬1). وأما الذمي والمستأمن: فاختلف العلماء في مقدارها على ثلاثة أقوال: الأول: دية الذمي على النصف من دية المسلم: وهو مذهب مالك وأحمد، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعروة وعمرو بن شعيب (¬2)، وحجتهم: 1 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضي بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين» (¬3). 2 - وعن ابن عمر مرفوعًا: «أن دية المعاهد نصف دية المسلم» (¬4). الثاني: دية الذمي ودية المسلم سواء: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال النخعي والشعبي، وهو مروي عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية - رضي الله عنهم - (¬5)، وحجتهم: 1 - قوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله} (¬6) قالوا: فأطلق سبحانه القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل، فدلَّ على أن الواجب في الكل واحد. 2 - ما رُوي من «أن عمرو بن أمية الضمري قتل مستأمنين، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية حُرين من المسلمين» (¬7). الثالث: دية الذمي على الثلث من دية المسلم: وهو مذهب الشافعي ورواية ¬

(¬1) «ابن عابدين» (5/ 368)، و «مواهب الجليل» (6/ 433)، و «مغني المحتاج» (4/ 56)، و «المغني» (7/ 797). (¬2) «جواهر الإكليل» (2/ 266)، و «المغني» (7/ 793)، و «الإنصاف» (3/ 64). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (4542)، والنسائي، والترمذي، وأحمد (2/ 180)، وانظر «الإرواء» (2251). (¬4) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7582) بسند ضعيف، ويشهد له ما قبله. (¬5) «البدائع» (7/ 254)، و «ابن عابدين» (5/ 369). (¬6) سورة النساء: 92. (¬7) ضعيف: أخرجه الترمذي، والبيهقي (8/ 120) وضعَّفه.

أخرى في مذهب أحمد، وهو مروي عن عمر وعثمان (!!) وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وإسحاق وأبو ثور (¬1)، وحجتهم: 1 - ما رُوي عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم» (¬2) وهو ضعيف. 2 - ما رُوي عن عمرو بن شعيب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مسلم قتل رجلًا من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم» (¬3) وهو منقطع (معلَّق). والراجح: الأول، دية الكتابي نصف دية المسلم، لصحة الحديث المرفوع فيه، والله أعلم. فائدة: دية نساء أهل الذمة على النصف من دياتهم، وهذا لا خلاف فيه. على من تكون الدية في قتل الخطأ؟ لا خلاف بين أهل العلم في أن الدية في قتل الخطأ تتحملها «عاقلة» الجاني، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقضي بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم» (¬4). المراد بالعاقلة: اختلف أهل العلم في تعيين العاقلة الذين تلزمهم في قتل الخطأ على قولين: الأول: هم عصبة الجاني، وهم أقرباؤه من جهة الأب وهم: الإخوة وبنوهم، ثم الأعمام وبنوهم، ثم أعمام الأب وبنوهم، ثم أعمام الجد وبنوهم، وهذا مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة، وابن حزم (¬5) وحجتهم: 1 - حديث المغيرة بن شعبة: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضي بالدية على العصبة» (¬6). ¬

(¬1) «مغني المحتاج» (4/ 57)، و «الأم» (6/ 96)، و «الإنصاف» (10/ 64). (¬2) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 100). (¬3) ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 145). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1681). (¬5) «الدسوقي» (4/ 282)، «القوانين الفقهية» (298)، و «روضة الطالبين» (9/ 349)، و «مغني المحتاج» (4/ 96)، و «المغني» (9/ 515)، و «المحرر» (2/ 148)، و «المحلي» (11/ 44 - 48). (¬6) صحيح: أخرجه مسلم (1682)، وأبو داود (4568)، والنسائي (8/ 50)، والترمذي (1411).

2 - حديث أبي هريرة - في قصة المرأتين المقتتلتين - وفيه: «... ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها» (¬1). 3 - حديث جابر قال: «كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل بطن عقوله، ثم كتب أنه لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه» (¬2). قال ابن حزم: فعُلم أنَّ أولياء الجاني الذين هم عصبته ومنتهاهم البطن الذي هو منهم. اهـ. 4 - ما يُروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «قضي على عليٍّ - رضي الله عنه - بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنها -» (¬3) لأنه ابن أخيها دون ابنها الزبير، قالوا: واشتهر ذلك بينهم. 5 - ولأن أقاربه أخص، إذ لهم غُنم الإرث فيلزمهم الغُرم. القول الثاني: العاقلة هم أهل الديون إن كان القاتل منهم: وإلا فعاقلته: قبيلته، وهو مذهب أبي حنيفة والليث والثوري، وقريب منه مذهب ابن تيمية - رحمه الله - إذ قرر أن العاقلة هم الذين ينصرون الرجل ويعينونه ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، وأنهم غير محددين بالشرع، فقد يكونون من الأقارب أو من غيرهم ممن تحصل بهم النصرة (¬4)، وحجتهم: 1 - حديث أبي هريرة: «فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها» (¬5) قال شيخ الإسلام: فالوارث غير العاقلة. 2 - «أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما دوَّن الدواوين جعل الدية على أهل الديوان» (¬6) قالوا: وقد قضي عمر بذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه منكِر فكان إجماعًا (!!). ¬

(¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1681). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1507)، وأبو عوانة (4810)، والبيهقي (3/ 299). (¬3) ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 107)، وفي سنده انقطاع، انظر «التلخيص» (4/ 37). (¬4) «المبسوط» (23/ 125، 126)، و «الهداية» (4/ 225)، و «مجموع الفتاوى» (19/ 256). (¬5) صحيح: مرَّ قريبًا. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 396) وبنحوه عبد الرزاق (9/ 420)، وأبو يوسف في كتاب «الآثار» (980) وفي أسانيدها انقطاع.

فإن قيل: كيف يُظن بهم الإجماع على خلاف ما قضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! أجيب: بأن هذا اجتماع على وفاق ما قضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قضي به على العشيرة باعتبار النصرة، وكان قوة المرء ونصرته يومئذٍ بعشيرته، ثم لما دوَّن عمر - رضي الله عنه - الدواوين، صارت القوة والنصرة بالديوان. اهـ. قال شيخ الإسلام: وهذا أصح القولين، وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل قد سكن بالمغرب، وهناك من ينصره ويعينه، كيف تكون عاقلته من بالمشرق في مملكة أخرى، ولعل أخباره قد انقطعت عنهم، والميراث يمكن حفظه للغائب ... فالوارث غير العاقلة. اهـ. قلت: لو ثبت فعل عمر - رضي الله عنه - لكان للقول الثاني وجاهته، لأنه قد يقال في أدلة الأولين أن جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدية على العصبة باعتبار النصرة لا النسب، لكن الظاهر عدم ثبوته، بل قد ورد عنه خلاف، فقد روُي أن عمر أمر عليًّا - في جناية جناها عمر - «أن يقسم عقله على قريش» يعني: يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ (¬1)، وسنده ضعيف كذلك، فيترجح قول الجمهور، والله أعلم. وهل يدخل الأب والابن مع العاقلة؟ ذهب المالكية والحنابلة في مشهور المذهب - وهو قول عند الحنفية - إلى أن الأب والابن يدخلان مع العاقلة؛ لأنهم من العصبة، ولأن العقل موضوع على التناصر وهم من أهله. وذهب الشافعية وهو الرواية الثانية عند الحنابلة وقول عند الحنفية إلى أنهما لا يدخلان مع العاقلة؛ لأنهما أصله وفرعه، فكما لا يتحمل الجاني لا يتحملان. قلت: لعل هذا الأخير يؤيده حديث جابر في قصة اقتتال المرأتين وفيه: «... فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عاقلتها، وبرَّأ زوجها وولدها، قال: فقالت عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ميراثها لزوجها وولدها» (¬2) ففيه التصريح بتبرئة الابن من الدية، ويقاس الأب عليه والله أعلم. والحكمة في وجوب دية الخطأ على العاقلة - مع أن الأصل أن يتحملها الجاني نفسه - أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كبيرة، فإيجابها في مال الجاني ¬

(¬1) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (9/ 459) ومن طريقه ابن حزم في «المحلي» (11/ 24). (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (4575).

يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفًا (¬1). وهل يدخل القاتل في تحمل الدية مع العاقلة؟ ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الجاني يتحمل الدية مع العاقلة فيكون كأحدهم لأن الوجوب عليهم باعتبار النصرة، ولا شك أنه ينصر نفسه كما ينصر غيره، ولأنهم تحملوا جنايته فكان هو أحق بالتحمل. وقال الشافعية والحنابلة: لا يتحمل الجاني مع العاقلة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضي بالدية على العاقلة ولم يكن الجاني من ضمنها. قلت: ولعل هذا أرجح لأن الأصل حرمة مال المسلم إلا بنص، وهذا مذهب ابن حزم. أداء الدِّية مؤجلة: قال الترمذي - رحمه الله -: وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين، في كل سنة ثلث الدية. اهـ. وقد قضي عمر وعليٌّ وابن عباس - رضي الله عنهما - بجعل دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، فاتبعهم على ذلك أهل العلم، إلا أن أصحاب المذاهب الفقهية فهموا من هذا وجوب هذا التأجيل (!!) (¬2) وكل ما يمكن فهمه من قضاء الصحابة ومن نقل الإجماع أنه يشرع للعاقلة تأدية الدية مؤجلة في ثلاث سنين تخفيفًا عليهم، وهذا حيث تكون المشقة، فإن كانوا مياسر ولا ضرر عليهم في التعجيل فإنها تؤخذ حالًا، فالتأجيل إذن ليس بواجب بل تعجل وتؤجل بحسب الحال والمصلحة كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله (¬3). صفة الدية إذا كانت من الإبل (¬4): «إذا كانت الدية من الإبل فإنها تؤدي في القتل الخطأ أخماسًا عند الأئمة ¬

(¬1) «كشاف القناع» للبيهقي (6/ 6). (¬2) «البدائع» (7/ 255)، و «المنتقي» للباجي (7/ 69)، و «روضة الطالبين» (9/ 359)، و «المغني» (7/ 769). (¬3) «مجموع الفتاوى» (19/ 256)، وهذا قول عند الحنابلة، وإن كان جماهيرهم على خلافه، انظر «الإنصاف» (10/ 129). (¬4) «البدائع» (7/ 254)، و «جواهر الإكليل» (2/ 265)، و «مغني المحتاج» (4/ 54)، و «المغني» (7/ 77)، و «الإنصاف» (10/ 61).

الأربعة وهي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة (اتفاقًا) واختلفوا في العشرين الباقية: فقال الحنفية والحنابلة: هي من بني المخاض لما ورد عن ابن مسعود مرفوعًا: «في دية الخطأ: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر» (¬1). وأما المالكية والشافعية فقالوا في العشرين الباقية، هي من بني اللبون، وهو قول عمر بن عبد العزيز والزهري والليث وربيعة، «لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودي الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة» (¬2) وليس فيها ابن مخاض. بينما ذهب طاوس إلى أن الدية تكون أرباعًا على نحو ما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قُتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور ...» (¬3). 2 - الدية في القتل شبه العمد: اتفق القائلون بالقتل شبه العمد على أنه موجب لدية مغلظة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها» (¬4). وتجب على العاقلة: عند جمهور القائلين بشبه العمد، لحديث أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها» (¬5). ولشبهة عدم القصد، لوقوع القتل بما لا يُقصد به القتل عادة، أو لا يقتل غالبًا، فكانت كالخطأ. ويشترك الجاني في تحملها عند الحنفية خلافًا للشافعية والحنابلة. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (5/ 45)، والترمذي (1386)، والنسائي (4806)، وابن ماجة (2631). (¬2) صحيح: ومرَّ الحديث بطوله في «القسامة». (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630). (¬4) حسن: نقدم مرارًا. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

وتؤدَّى مؤجلة في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثها، على نحو ما تقدم في قتل الخطأ. ولا تغلظ الدية في غير الإبل: عند الفقهاء؛ لأنها مقدرة، ولم يرد النص في غير الإبل، فيقتصر على التوقيف (¬1). 3 - الدية في القتل العمد (¬2): الأصل أن القتل العمد موجب للقصاص كما تقدم في «الجنايات» لكن إذا سقط القصاص عن الجاني، إما لعفو أولياء القتيل أو غير ذلك مما تقدم، فإنه تجب الدية إما بالصلح (برضا الجاني) كما يقول الحنفية والمالكية، وإما بدلًا عن القصاص (ولو بغير رضا الجاني) كما هو المعتمد عند الشافعية فليست الدية عقوبة أصلية للقتل العمد. وذهب الحنابلة - وهو قول عند الشافعي - إلى أن الدية عقوبة أصلية بجانب القصاص في القتل العمد، فالواجب عندهم أحد شيئين: القود أو الدية، ويخيَّر الولي بينهما، ولو لم يرض الجاني. والدية في قتل العمد مغلظة، سواء أوجب فيه القصاص وسقط بالعفو، أو لشبهة أو نحوهما، أم لم يجب أصلًا كقتل الوالد ولده، واختلفوا في كيفية تغليظها. قلت: وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفَة، وما صولحوا عليه فهو لهم» وذلك لتشديد العقل (¬3). فينبغي العمل به، لهم أن يصالحوا على أكثر من ذلك للحديث، والله أعلم. دية العمد تجب من مال القاتل: ولا خلاف في هذا بين أهل العلم فلا تحمله العاقلة، ويؤيد هذا: 1 - حديث أبي رمثة التيمي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ابن لي، فقال: ابنك؟ قلت: اشْهَد به، قال: «لا يجني عليك ولا تجني عليه» (¬4). 2 - ولأن العامد لا عذر له، فلم يخفف بحمل العاقلة. ¬

(¬1) «كشاف القناع» (6/ 19). (¬2) «البدائع» (7/ 241)، و «الدسوقي» (4/ 239)، و «مغني المحتاج» (4/ 55)، و «المغني» (7/ 765). (¬3) حسن: أخرجه الترمذي (1406)، وابن ماجة (2626). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (4207)، والنسائي (8/ 53)، وأحمد (2/ 226).

ولا تؤجل الدية في القتل العمد: وهذا مذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - لأن الأصل وجوب الدية حالًا، والتأجيل في الخطأ ثبت معدولًا به عن الأصل، لإجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، أو معلولًا بالتخفيف على القاتل حتى تحمل عنه العاقلة، وأما العامد فيستحق التغليظ، ولهذا وجب في ماله لا على العاقلة. ثانيًا: الجناية على ما دون النفس: وتجب الدية في الاعتداء على ما دون النفس إذا سقط القصاص أو لم يمكن استيفاؤه، وموجبات الدية ثلاثة أقسام: 1 - دية الأعضاء: اتفق الفقهاء - في الجملة على أن في قطع ما لا نظير له في بدن الإنسان كالأنف واللسان والذكر والحشفة والصلب إذا انقطع المني، ونحو ذلك، دية كاملة. ومن أتلف ما في البدن منه شيئان كالعينين والأذنين واليدين والرجلين والشفتين والثديين والخصيتين ونحو ذلك ففيهما معًا دية كاملة، وفي إحداهما نصف الدية. ومن أتلف ما في الإنسان منه أربعة أشياء كأشفار العينين والأجفان ففيهما الدية، وفي كل واحد منها ربع الدية. وما في الإنسان عشرة أشياء كأصابع اليدين والقدمين ففي جميعها الدية كاملة، وفي كل أصبع عُشر الدية، وما في الأصابع من المفاصل ففي أحدها ثلث دية الأصبع، ونصف دية الأصبع فيما فيها مفصلان (وهي الإبهام خاصة). وفي جميع الأسنان دية كاملة، وفي كل سن خَمْس من الإبل، وهذا في الجملة وهناك تفريعات مبثوثة في كتب الفروع (¬1). والأصل فيما تقدم، ومستند هذا الاتفاق ما ورد في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن الذي بعث به عمرو بن حزم، وفيه: «... وأن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، ¬

(¬1) انظر «الموسوعة الفقهية» (21/ 65 - 79).

وفي المنقلة خمس عشر من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وأن الرجل يُقتل بالمرأة ...» (¬1). قلت: وإسناده ضعيف إلا أن العمل عليه، وقد صحَّ في بعض ذلك أحاديث: - فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دية الأصابع اليدين والرجلين سواء، في كل أصبع عشر من الإبل» (¬2). - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في الأصابع عشرٌ، عشرٌ» (¬3). - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذه وهذه سواء، وهذه وهذه سواء، الخنصر والإبهام، [والضِّرس والثنية]» (¬4). 2 - دية الجروح: (أ) الشجاج (جراح الرأس والوجه): ذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو وجه عند الشافعية) إلى عدم وجوب دية (أرش) مقدرة فيما يكون أقل من الموضَّحة، وهي الحارصة والدامية والباضعة والمتلاحمة والسمحاق (¬5)، وإنما يجب في كل من هذه الشجاج حكومة عدل، لأنه ليس فيها أرش مقدر، ولا يمكن إهدارها فتجب الحكومة (¬6)، وهي: ما يدفع للمجني عليه من قبل الجاني باجتهاد القاضي أو بتقدير أهل الخبرة. قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ قوله أن معنى قولهم: «حكومة» أن يقال إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم: كم قيمة هذا لو كان عبدًا قبل أن يُجرح هذا الجرح؟ أو يضرب هذا الضرب؟ فإن قيل: مائة دينار، قيل: كم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه؟ فإن قيل: خمسة وتسعون دينارًا، فالذي ¬

(¬1) مرسل: أخرجه مالك، والنسائي (8/ 60) وغيرهما وقد تقدم. (¬2) صحيح: أخرجه أبو داود (4561)، والترمذي (1391)، وأحمد (1/ 289). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (4562)، والنسائي (8/ 57)، وأحمد (2/ 207). (¬4) صحيح: أخرجه البخاري، وأبو داود (4558)، والنسائي (8/ 56)، والترمذي (1392)، وابن ماجة (2650)، وابن الجارود (783). (¬5) سبق تعريف هذه الشجاج في باب الجنايات، فراجعها هناك إن شئت. (¬6) «روضة الطالبين» (9/ 265)، و «المغني» (8/ 42).

يجب للمجني عليه على الجاني نصف عُشر الدية، وإن قالوا: تسعون دينارًا، ففيه عُشر الدية، وما زاد ونقص ففي هذا المثال. اهـ (¬1). وأما الموضحة والهاشمة والمنقلة والآمة ففي كلٍّ منها أرش مقدر: الموضحة: اتفق الفقهاء على أن في الموضحة نصف عشر الدية (أي: خمس من الإبل) في الحر الذكر المسلم (¬2). فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «في الأصابع عشر، وفي المواضح خمسٌ خمسٌ» (¬3). وتقدم في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الموضحة خمس من الإبل». ويستوي الرجل والمرأة في موضحتهما، فعن ابن مسعود في جراحات المرأة والرجل قال: «يستويان في الموضحة، وفيما سوى ذلك على النصف» (¬4). وقد نصَّ على ذلك الحنابلة. الهاشمة (¬5): لم يرد في تحديد أرش الهاشمة سنة ولا إجماع، ولذا اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب جمهورهم إلى أن فيها عُشر الدية، وهو عشرة من الإبل، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وهو قول الشافعية (إذا كانت مع الإيضاح) وقول عند المالكية، وهو مروي عن زيد بن ثابت وقتادة والثوري. وأما الهاشمة دون الإيضاح ففيها عند الشافعية خمسة أبعرة، وقيل حكومة. وقال ابن المنذر: تجب في الهاشمة الحكومة إذ لا سنة فيها ولا إجماع، فتجب فيها الحكومة كما تجب فيما دون الموضحة، وهو قول آخر للمالكية، وعندهم قول ثالث أن فيها عُشر الدية ونصفه (خمسة عشر من الإبل)!! ¬

(¬1) «الإجماع» لابن المنذر (ص 151). (¬2) «ابن عابدين» (5/ 372)، و «جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «الروضة» (9/ 263)، و «المغني» (8/ 42). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (4566)، والنسائي (8/ 57)، والترمذي (1390)، وابن ماجة (2655). (¬4) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (9/ 398). (¬5) «جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «نهاية المحتاج» (7/ 305)، و «المغني» (8/ 45).

المنقلة (¬1): ولا خلاف في أنه يجب في المنقلة عُشر الدية ونصفه (خمسة عشر بعيرًا) وقد حكي ابن المنذر الإجماع على ذلك، ومستند الإجماع ما في حديث عمرو بن حزم: «.. وفي المنقلة: خمس عشرة من الإبل» (¬2). المأمومة (¬3): أو الآمة، ويجب فيها ثلث الدية عند الجمهور: (الحنفية والمالكية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية) لما في حديث عمرو بن حزم: «في المأمومة: ثلث الدية» (¬4). وفي قول عند الشافعية نقله النووي عن الماوردي: أن فيها ثلث الدية وحكومة (!!). الدامغة (¬5): وهي الشجة التي تتجاوز عن الآمة فتخرق الجلدة وتصل إلى الدماغ وتخسفه، وغالبًا ما يموت المجني عليه بها، ولذا لم يذكرها بعض الفقهاء في بحث الشجاج، وعلى كلٍّ فلو لم يمت المجني عليه بعد الدامغة فذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية - في المعتمد - والحنابلة - في المذهب - والشافعية في الأصح) إلى أن فيها ما في المأمومة (ثلث الدية). وفي قول عند الشافعية والحنابلة: تجب ثلث الدية وحكومة، وفي قول عند المالكية: تجب في الدامغة حكومة عدل. (ب) الجراح في غير الوجه والرأس (¬6): اتفق الفقهاء على أنه لا يجب أرش مقدَّر في سائر جراح البدن، باستثناء الجائفة، وإنما تجب فيها حكومة، وذلك أنه لم يرد فيها نص من الشرع، ويصعب ضبطها وتقديرها. وأما الجائفة: وهي ما وصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو غير ¬

(¬1) «ابن عابدين» (5/ 372)، و «روضة الطالبين» (9/ 264)، و «المغني» (8/ 46). (¬2) مرسل: تقدم الكلام عليه. (¬3) مرسل: تقدم الكلام عليه. (¬4) «جواهر الإكليل» (2/ 260)، و «الروضة» (9/ 262)، و «المغني» (8/ 47). (¬5) «الجواهر» (2/ 60)، و «مغني المحتاج» (4/ 58)، و «المغني» (8/ 47). (¬6) «جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «ابن عابدين» (5/ 356)، و «روضة الطالبين» (9/ 265)، و «المغني» (8/ 44، 49).

ذلك، فاتفقوا على أن فيها ثلث الدية، سواء أكانت عمدًا أم خطأ لما في حديث عمرو بن حزم: «... وفي الجائفة ثلث الدية» (¬1). كما اتفقوا على أن الجائفة إذا نفذت من جانب لآخر تعتبر جائفتين، فيهما ثلثا الدية. 3 - دية المنافع والمعاني (¬2): الأصل في دية المعاني - فضلًا عما ورد في بعضها من نصوص - أنه إذا فوَّت جنس منفعة على الكمال، أو أزال جمالًا مقصودًا في الآدمي على الكمال يجب كل الدية؛ لأنه فيه إتلاف النفس من وجه، إذ النفس لا تبقى منتفعًا بها من هذا الوجه، وإتلاف النفس من وجه ملحق بالإتلاف من كل وجه في الآدمي تعظيمًا له. وهذا الأصل كما هو معتبر في الأعضاء، مطبَّق كذلك في إذهاب المعاني والمنافع من الأعضاء، وإن كانت باقية في الظاهر، ومما تجب فيه الدية من المعاني: العقل والنطق، وقوة الجماع، والإمناء في الذكر، والحَبَل في المرأة، والسمع، والبصر، والشم والذوق واللمس. وهذا إذا أتلفت المعاني دون إتلاف الأعضاء المشتملة عليها، فإن تلف العضو والمنفعة معًا ففي ذلك دية واحدة، وإن أتلفهما بجنايتين منفردتين تخللهما البرء، فدية كل عضو أو منفعة بحسب الحالة. وتفريعات هذه المسألة وتفاصيلها مبثوثة في كتب الفروع (¬3). ثالثًا: دية الجنين: إذا مات الجنين بسبب الجناية على أمه المسلمة، فديته (غرة) سواء انفصل من أمه وخرج ميتًا، أم مات في بطنها، وسواء كانت الجناية عمدًا أم خطأ، ولو من الحامل نفسها أو من زوجها، وسواء كان ذكرًا أو أنثى (¬4). والغُرَّة: نصف عُشر الدية، وهي: خمس من الإبل، ولا تختلف بذكورة الجنين وأنوثته، فهي في كليهما سواء (¬5). ¬

(¬1) مرسل: تقدم الكلام عليه مرارًا. (¬2) «الموسوعة الفقهية» (21/ 79، 80). (¬3) وانظر «الموسوعة الفقهية» (21/ 80 - 82). (¬4) «ابن عابدين» (5/ 377)، و «الدسوقي» (4/ 269)، و «أسنى المطالب» (4/ 89)، و «المغني» (7/ 799). (¬5) الغرة في الحديث: عبد أو أمة، وقد قدَّرها الفقهاء بنصف عُشر الدية كما ورد في بعض الأحاديث.

- فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقضي أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضي بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه» (¬1). - وعن المغيرة بن شعبة أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها، وهي حُبلى فأتى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضي فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غُرَّة، فقال عصبتها: أنَدى ما لا طَعِم ولا شرب ولا صاح ولا استهل؟! مثل ذلك يُطَلُّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سجع مثل سجع الأعراب» (¬2). وإن كانت الحامل مُعَاهَدة: كتابية أو ذمية أو مجوسية ممن لهن أمان، ففي جنينها عُشر دية أمه؛ لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعُشر دية أمه، فكذلك جنين الكافرة بالنسبة لأمِّه (¬3). إذا ألقت جنينها حيًّا ثم مات: أما إذا ألقته في حياتها حيًّا حياة مستقرة ثم مات نتيجة للجناية، ففيه دية كاملة اتفاقًا، لأنه قتل إنسان حي (¬4). وإذا ألقته نتيجة للجناية عليها ميتًا بعد موتها: فاختلفوا فيه (¬5): (أ) فقال الحنفية والمالكية: في الأم الدية، ولا شيء في الجنين؛ لأن موتها سبب في موته لأنه يختنق بموتها، واحتمل موته بالضربة، فلا تجب الغرة بالشك!!. (ب) وقال الشافعية والحنابلة: في الأم الدية، وفي الجنين غُرَّة؛ لأنه جنين تلف بجناية وعلم بخروجه فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها، ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمه كما لو خرج حيًّا. قلت: وهذا أرجح لظاهر حديث أبي هريرة، والله أعلم. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1681). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم، وأحمد (4/ 246). (¬3) «المغني» (7/ 800). (¬4) «الدسوقي» (4/ 269)، و «مغني المحتاج» (4/ 102)، و «المغني» (7/ 899). (¬5) المراجع السابقة.

15 - كتاب البيوع

15 - كتاب البيوع

كتاب البيوع (*) البيوع: جمع للبيع، والبيع مصدر، والمصادر لا تُجْمع. لكن جُمع لملاحظة اختلاف أنواعه. تعريفه: لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، حيث قد أخذوه من الباع الذي تُمَدُّ [إذْ إنْ كل واحد من المتعاطيين يَمُدُّ باعه إلى الآخر] (¬1) إما لقصد الصفقة، أو للتقابض على المعقود عليها من الثمن والمثمن (¬2). واصطلاحًا (شرعًا): اختلف الفقهاء في تعريفه؛ لكنْ قل أن يسلم تعريف منها. ولعل أجمع تعريف هو: "مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة -كممر في دار بمثل أحدهما- على التأبيد غير ربا وقرض" (¬3). فقوله "مبادلة مال": المراد بالمال، كل عين مباحة النفع بلا حاجة (كالذهب والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، والسيارات، والأواني، والعقارات، وغيرها). -وقوله "ولو في الذمة": معناه أن العقد قد يقع على شيء معين، وقد يقع على شيء في الذمة، فإذا قلتُ: بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب فهذا بيع معين بمعين، وإذا قلتُ: بعتُك هذا الكتاب بعشرة ريالات فهذا بيع معين بما في الذمة. وهذا يشمل أيضًا: بيع ما في الذمة بما في الذمة. - وقوله "أو منفعة مباحة": معناه مبادلة مال بمنفعة مباحة -كبيع ممر في دار- خرج به محرمة النفع كآلات المعازف وغيرها. - وقوله "بلا حاجة": احترازًا مما يباح نفعه للحاجة أو للضرورة: كإباحة الميتة للمضطر، وكلب الصيد للحاجة. - قوله "بمثل أحدهما": معناه مبادلة المال ولو في الذمة أو المنفعة بمثل أحدهما. ¬

_ (*) قلت: كتاب البيوع في هذا الكتاب ملحق من إعداد الشيخ فؤاد سراج الدين حتى يكمل الكتاب إلى حين إعداده على نفس شرطي في الكتاب كله. (¬1) الشرح الممتع (8/ ص 107). (¬2) تيسير العلام (2/ ص 6). (¬3) الشرح الممتع (8/ ص 107).

- قوله "على التأبيد": معناه مع أن يكون هذا التبادل على التأبيد وذلك احترازًا من الإجارة. - قوله "غير ربا": الربا لا يسمى بيعًا وإن وجد فيه التبادل لأن الله جعله قسيمًا للبيع، وقسيم الشيء ليس هو الشيء قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. - قوله "وقرض": أى: وغير قرض، لأن القرض لا يسمى بيعًا وإن وجدتْ فيه المبادلة، وذلك أن المقرض والمستقرض لم ينو أحد منهما المفاوضة، إنما قصد المقرض الإرفاق وقصد المستقرض سد حاجته ولهذا صار القرض ليس بيعًا (¬1). • الحاكم التكليفى للبيع: "اتفق الفقهاء على أن البيع مشروع على سبيل الجواز. دل على جوازه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. • أما الكتاب: 1 - فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬2). 2 - وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3). 3 - وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬4). • وأما السنة: 1 - فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬5). 2 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" (¬6). 3 - وعنه - رضي الله عنهما - أن رجلًا ذكر للنبى - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال: "إذا بايعت فقل: لا خلابة"، أي: لا خديعة (¬7). ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (8/ ص 107: 113) بتصرف. (¬2) سورة البقرة: 282. (¬3) سورة البقرة: 275. (¬4) سورة النساء: 29. (¬5) صحيح: متفق عليه. وهو في البخاري برقم (4917) وفي مسلم برقم (1531). (¬6) صحيح: متفق عليه. أخرجه البخاري (1239) ومسلم (1412). (¬7) صحيح: متفق عليه. أخرجه البخاري (2117) ومسلم.

• وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة. • وأما المعقول: فلأن الحكمة تقتضيه، لتعلق حاجة الإنسان بما في يد صاحبه، ولا سبيل إلى المبادلة إلا بعوض غالبًا ففى تجويز البيع وصول إلى الغرض ودفع للحاجة" (¬1). الترغيب في كسب الحلال والأكل منه والترهيب من كسب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك: عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده" (¬2). وعن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يأخذ أحدكم أحبُلَهُ، فيأتى بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكفَّ بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" (¬3). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلاطيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك" (¬4). • الترغيب في البكور فى طلب الرزق: عن صخر بن وداعة الغامدى -الصحابي- رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم بارك لأمتى في بكورها" وكان إذا بعث سرية، أو جيشًا بعثهم في أول النهار وكان صخر تاجرًا فكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله (¬5). ¬

_ (¬1) راجع: الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ ص 827) واختيارات ابن قدامة الفقهية (جـ2/ ص 10، 11) والشرح الممتع (ص 8/ ص 104، 105). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2072). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (1471). (¬4) حسن: أخرجه مسلم والترمذي (2989). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (2606) والترمذي (1212) وابن ماجة (2236) وابن حبان (2735).

• الترغيب في الاقتصاد في طلب الرزق والمعيشة: عن عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "السمت الحسنُ والتؤَدَةُ والاقتصاد جزء من أربعة وأربعين جزءًا من النبوة" (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له فأجملوا في الطلب: أخْذِ الحلال، وترك الحرام" (¬2). • الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضى والقضاء: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى" (¬3). • ترغيب التجار في الصدق وترهيبهم من الكذب والحلف: عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدق البيعان وبيّنا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحا، يمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب" (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحلف منفقة للسلعة وممحقة للبركة" (¬5). وعن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رجلًا أقام سلعة وهو في السوق، فحلف بالله لقد أعْطى بها ما لم يُعْط ليُوقع فيها رجلًا من المسلمين. فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬6). • ترغيب التجار في الصدقات تكفيرًا لما قد يقع منهم -كغش أو كتمان عيب أو سوء خلق-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف، ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه الترمذي (2010) وأبو داود (4776). (¬2) صحيح: أخرجه ابن حبان (3227) والحاكم (2/ 4). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2076) وابن ماجة (2203) واللفظ له. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2079) ومسلم (1532) وغيرهما. (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2087) ومسلم (1606). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري (2088).

فشوبوه بالصدقة" (¬1) وفي لفظ: "يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة" (¬2). • الترغيب في كتابة الدين ومقدار الدين المؤجل والإشهاد على البيع نسيئة الأجل أو على كتابة الدين: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬3). وعن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العدَّاء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتابًا كتبه لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: بلى فأخرج لي كتابًا: "هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اشترى منه عبدًا أو أمة، لا داء ولا غائلة، ولا خبثة، بيع المسلم المسلم" (¬4). قال التهانوى: "وكتابة البيع مستحبة كالإشهاد عليه .. ويختص ذلك بما له خطر، فأما الأشياء القليلة الخطر كحوائج البقال والعطار وشبههما فلا يستحب ذلك فيها: لأن العقود فيها تكثر فيشق الإشهاد عليها .. " (¬5) اهـ. • الترغيب في الورع وترك الشبهات: عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلال بيِّن والحرام بين، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعى يرعى حول الحمى؛ يوشِك أن يرتع فيه، ألا وإنَّ لكل مَلك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" (¬6). • الترغيب في ذكر الله تعالى في الأسواق ومواطن الغفلة: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيى ويميت، وهو حى لا ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهما. (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي. (¬3) سورة البقرة: 282. (¬4) حسن: أخرجه الترمذى (1216) وابن ماجة (2251). (¬5) إعلاء السنن له (ج 14/ ص 7). (¬6) صحيح: أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف في درجة" (¬1). • الترهيب من بخس الكيل والوزن: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلًا فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك (¬2). • الترهيب من الغش والترغيب في النصيحة في البيع: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومن غشنا فليس منا" (¬3). وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ على صُبْرَة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا. فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام" قال: أصابته السماءُ يا رسول الله. قال: "أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا" (¬4). • الترغيب في إنظار المعسر: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه" (¬5). • التفقه في الدين قبل الدخول في التجارة: قال - صلى الله عليه وسلم -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬6). قال الشوكانى: "التفقه في الدين مأمور به في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي صحيح الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس ذلك بخاصٍّ بنوع من أنواع الدين، بل في كل أنواعه، فيندرج تفقه التاجر للتجارة تحت الأدلة العامة ولا شك أن أنواع الدين تختلف باختلاف الأشخاص دون بعض، فمثلًا التاجر المباشر للبيع والشراء، أحوج لمعرفة ما يرجع إلى ما يلابسه من غيره ممن لا يلابس البيع إلا نادرًا .. " اهـ (¬7). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة. (¬2) حسن: أخرجه ابن ماجة (2223) وابن حبان (4898). (¬3) صحيح: أخرجه مسلم (101). (¬4) صحيح: أخرجه مسلم (102) وأبو داود (3452) والترمذي (1315) وابن ماجة (2224). (¬5) صحيح: أخرجه البخاري (2078). (¬6) صحيح: أخرجه ابن عدى والبيهقي عن أنس كما في الصحيح الجامع (3913). (¬7) ويل الغمام على شفاء الأوام للشوكانى (جـ2/ ص 122).

أركان البيع أو كيفية انعقاده أو صفة العقود

وقال النووى: "يحرم الإقدام عليه (البيع) إلا بعد معرفة شرطه" (¬1). قلت: لأن إقدامه على البيع والخوض في مضماره دون معرفة ما يستطيع التمييز به بين المباح والحرام ذريعة إلى أكل الحرام، فعلى كل عاقل قبل أن يدخل في هذا المجال أن يتعلم أحكامه. والله أعلم. أركان البيع أو كيفية انعقاده أو صفة العقود • للفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تصح إلا بالصيغة (الإيجاب والقبول) وهو الأصل في العقود، سواء في ذلك البيع والإجارة والهبة والنكاح، والعتق، وغير ذلك. وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد وبه قطع الجمهور. والأصل في انعقاد البيع عند أصحاب هذا القول: هو اللفظ، لأن الأصل في العقود -هو التراضى المذكور في قوله: "إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" والمعانى التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي قد جعلت لإبانة ما في القلب. وعليه: لا تصح عندهم المعاطاة في قليل أو كثير لأنها تحتمل وجوهًا كثيرة. وهو مذهب أهل الظاهر أيضًا (¬2). القول الثاني: أن العقود تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات بالمعاطاة في المحقرات دون الأشياء النفيسة، وكالوقف في مثل من بني مسجدًا، وأَذِنَ للناس في الصلاة فيه، وكبعض أنواع الإجارة؛ كمن دفع ثوبه إلى غسال، أو خياط يعمل بالأجرة ونحو ذلك، وبه قال أبو حنيفة وابن سريج وهو قول في مذهب أحمد ووجه في مذهب الشافعي. وحجتهم: 1 - أن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس. 2 - أن الناس من لدن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى يومنا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود (¬3). القول الثالث: أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل. فكل ما عدَّه الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة؛ وإن اختلف اصطلاح الناس في ¬

_ (¬1) المجموع للنووى (جـ1/ ص 50). (¬2) مجموع الفتاوى (15/ ص7)، واختيارات ابن قدامة الفقهية (جـ2/ ص13). (¬3) مجموع الفتاوى (15/ ص7) والمجموع للنووى (جـ6/ ص 154).

الألفاظ والأفعال، انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس، كما تتنوع لغاتهم. وهذا هو الغالب على أصول مذهب مالك، وظاهر مذهب أحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وقال به صاحب الشامل والمتولى والبغوى والرويانى من الشافعية وهذا القول هو الراجح. واختاره ابن قدامة وشيخ الإِسلام ابن تيمية ورجحه ابن عثيمين رحم الله الجميع. • فائدة: قال شيخ الإِسلام: وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد - من أنه لا ينعقد (العقد) إلا بهذين اللفظين (الإيجاب والقبول) بعيد عن أصولهما (¬1). • واستدلوا بأدلة منها: 1 - أن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد من الشرع ما ينقل عن ذلك ولم يرد. 2 - أن الله تعالى أحل البيع ولم يبين كيفيته؛ فوجب الرجوع فيه إلى العرف: كالقبض المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" (¬2). 3 - أن الله تعالى اكتفى بالتراضى في البيع في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬3) وبطيب النفس في التبرع في قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬4) ولم يشترط لفظًا معينًا، ولا فعلًا معَينًا يدل على التراضي، وعلى طيب النفس، ومعلوم بالاضطرار من عادات الناس أنهم يعلمون التراضى وطيب النفس بطرق متعددة. 4 - عدم النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم تحديد صيغة معينة. 5 - أن البيع والشراء مما تعم به البلوى ويعظم خطره، فلو كان الإيجاب والقبول شرطًا لصحته لبينه - صلى الله عليه وسلم - بيانًا كافيًا لإفضاء إخفاء الحكم إلى أكل أموال الناس بالباطل (¬5). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (15/ ص 10). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2133) عن ابن عمر ومسلم (1525) وغيره عن ابن عباس. (¬3) سورة النساء: 29. (¬4) سورة النساء: 4. (¬5) ترجيحات ابن قدامة (جـ 2/ ص13، 14، 15)، فتاوى ابن تيمية (جـ15/ ص11، 12، 13) والمجموع (جـ9/ ص 154، 155) الشرح الممتع (جـ8/ ص114، 115).

انعقاد البيع بالمعاطاة

انعقاد البيع بالمعاطاة • صور بيع المعاطاة: له ثلاث صور: ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله-: الأولى: أن يصدر من البائع إيجاب لفظى فقط، ومن المشترى أخْذ، كقوله خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه، وكذلك لو كان الثمن معيّنا؛ مثل أن يقول: خذ هذا الثوب بثوبك فيأخذه. الثانية: أن يصدر من المشترى لفظ، ومن البائع إعطاء، سواء كان الثمن معينًا أو مضمونًا في الذمة أن لا يلفظ واحد منهما؛ بل هناك عُرْف بوضع الثمن وأخذ المثمن" اهـ (¬1). والمعاطاة: هى إعطاء كل من العاقدين لصاحبه ما يقع التبادل عليه دون إيجاب. ولا قبول: أو بإيجاب دون قبول، أو عكسه. - ويصح بها البيع في القليل والكثير: عند الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض الشافعية كما تقدم، خلافًا لغيرهم (¬2). • القول في شروط صيغة العقد: قلت: مما سبق تبين أن عقد البيع ليس له صيغة معينة وأنه ينعقد بكل ما دل على مقصوده من قول أو فعل، وعلى هذا فما اشترطوه من شروط لصيغة العقد نحو: "1 - اتصال كل منهما بالآخر في المجلس دون أن يحدث بينهما فاصل مضر. 2 - أن يتوافق الإيجاب والقبول فيما يجب التراضى عليه فلو اختلفا لم ينعقد العقد. 3 - أن يكون بلفظ الماضي، أو بلفظ المضارع إن أريد به الحال مثل: أبيع وأشترى" (¬3). غير مسلّم بها وذلك لوجوه: (أ) عدم قياس الدليل على اعتبارها. (ب) بطلان أصلها (الإيجاب والقبول) ومعلوم أن الأصل إذا بطل لحقه الفرع. والله أعلم. ¬

_ (¬1) راجع الموسوعة الكويتية (جـ9/ ص13). (¬2) راجع الملخص الفقهى للفوزان (جـ2/ ص 8). (¬3) راجع فقه السنة (جـ3/ ص 128) بتصرف.

انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة

انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة يصح التعاقد بالكتابة بين حاضرين أو باللفظ من حاضر والكتابة من الآخر، وكذلك ينعقد البيع إذا أوجب العاقد البيع بالكتابة إلى غائب بمثل عبارة: بعتُك دارى بكذا. أو أرسل بذلك رسولًا فقبل المشترى بعد اطلاعه على الإيجاب من الكتاب أو الرسول. وبه قال الشافعية لكنْ اشترطوا: أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب (الفور من القبول). وصرح الحنابلة: بأن التراضى لا يضر في الإيجاب والقبول. لأن التراخى مع غيبة المشترى لا يدل على إعراضه عن الإيجاب (¬1). وفي فتح القدير: " .. أنه إذا بلغه الكتاب أو الرسالة فقال قبلت أو اشتريت تم البيع بينهما، لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبلغ تارة بالكتاب وتارة بالخطاب وكان ذلك سواء في كونه مبلغا" (¬2). قال الشوكانى: "وأما .. صحة البيع بالكتابة فصحيح لأنها من جملة المشعرات بالرضا وطيبة النفس" (¬3). انعقاد البيع بالإشارة من الأخرس وغيره الإشارة من الأخرس على نوعين: • إشارة مفهومة وبها ينعقد ولو كان قادرًا على الكتابة وهذا هو المعتمد عند الحنفية لأن كلًا من الإشارة والكتابة حجة. • إشارة غير مفهومة، وهذه لا عبرة بها. وأما الإشارة من الناطق فغير مقبولة عند الجمهور خلافًا للمالكية. وأما منْ طرأ عليه الخرس ففيه خلاف (¬4). قلت: والظاهر قبول إشارته حال مرضه إذا كانت مفهومة والله أعلم. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية (جـ9/ ص13). (¬2) فتح القدير (ص 254، 255). (¬3) السيل الجرار (جـ3/ ص 13). (¬4) الموسوعة الفقهية (جـ9/ ص13، 14) بتصرف.

شروط البيع

شروط البيع * يجب أن يتوافر في عقد البيع أربعة أنواع من الشروط حتى يقع صحيحًا وهي: - شروط انعقاد. - شروط صحة. - شروط نفاذ. - شروط لزوم. والقصد من هذه الشروط في الجملة منع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية مصالح العاقدين، ونفى الغرر (الاحتمال) والبعد عن المخاطر بسبب الجهالة (¬1). أولًا: شروط الانعقاد وبتحقق شروط الانعقاد يصير العقد منعقدًا شرعًا وإلا كان باطلًا، وهذه الشروط أربعة: • شروط متعلقة بالعاقد. • وشروط تتعلق بالمعقود عليه. أولًا: الشروط المتعلقة بالعاقد: اثنان: 1 - أن يكون العاقد جائز التصرف، وهو من جمع صفات أربع (الحرية، والبلوغ، والعقل، والرشد). • أما الحرية: فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع عبدًا له مال فمالُه لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع" (¬2) وعليه فلا يصح بيع العبد إلا بإذن سيده، لأنه ملك لسيده وكذا ما في يده. • وأما البلوغ: فلقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬3) فاشترط الله لرفع أموالهم شرطين: بلوغ النكاح وذلك بالبلوغ، والرشد. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (¬4). وبهذا خرج الصبى. ¬

_ (¬1) الفقه الإِسلامى وأدلته (3317). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2204) ومسلم (1543). (¬3) سورة النساء: 6. (¬4) صحيح.

• هل ينعقد بيع الصبي؟ - أما الصبي غير المميز فبيعه غير منعقد إذا باع كما عند الشافعية (والحنفية) (¬1). - وأما الصبي المميز فبيعه فيه خلاف، حاصله: الأول: لا يصح بيعه سواء أذن له الولى أم لا؛ لأنه غير مكلف فأشبه غير المميز وهذا قول الشافعية وبه قال أبو ثور. الثاني: يصح بيعه وشراؤه بإذن وليه وبه قال: أحمد وإسحاق وأبو حنيفة والثورى وقيَّد ابن المنذر قول أحمد وإسحاق بالشىء اليسير فقط قال في الإنصاف: وهو الصحيح في الجملة (¬2). الثالث: يجوز بغير إذنه. ويقف على إجازة الولي. وهو رواية عن أبي حنيفة. • القول في تصرفات الصبي المميز: تصرفات الصبى المميز -الذي لم يبلغ- على ثلاثة أنواع: 1 - ما فيه منفعة خالصة له -كالهبة والصدقة والوصية والكفالة بالدين وغير ذلك- فهي صحيحة بناء على الأصل في مراعاة منفعته. 2 - ما فيه ضرر خالص -كأن يهب من ماله وغير ذلك فتصرفه غير صحيح. لأنه ليس أهلًا للتصرف في ماله لقصور عقله، وقد قال الله تعالى لولى مال اليتيم {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬3). 3 - ما تردد بين المنفعة والضرر -كمزاولة البيع والشراء والإيجار والاستئجار والزواج والمزارعة وغير ذلك. فهذا النوع من العقود صحيح منه إذا أذن الولي؛ بإذنه يجبرُ النقص في أهلية الأداء عند الصبي (¬4). القول الراجح: قلت الظاهر والله تعالى أعلم أن تصرفات الصبى المميز غير صحيحة. لأن الشارع علق صحة التكليف على البلوغ الدال على وجود العقل وكماله. ¬

_ (¬1) المجموع: (جـ9/ ص 148) رد المحتار (جـ7/ ص 11). (¬2) الإنصاف للمرادى (جـ4/ ص 256). (¬3) سورة النساء: 6. (¬4) الفقه الإِسلامي وأدلته (جـ5/ ص 3317، 3319) وتيسير أصول الفقه للجديع (ص 88) والواضح للأشقر (ص 62).

قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم" والله أعلم اهـ. لكن "إذا كان له ولي وأذن له بالتصرف فالمعتبر هنا هو الإذن الصادر عن الولى لا مجرد تصرف المكلف وقد أمر الله الولي بأن يُملَّ عنه وجعل تصرفاته إليه قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (¬1). • هل ينعقد بيع السفيه؟ تعريف السفه: هو اختلال في العقل يصير صاحبه مختلطًا، يُشبه حاله أحيانًا حال العُقلاء، وأحيانًا حال المجانين (¬2). انعقاد بيعه: اختلف العلماء في ذلك على قولين: (أ) أن بيعه غير صحيح وهو قول الشافعية (¬3). (ب) أنه يصح في الشيء اليسير وبغير إذن الولى وعليه أكثر الحنابلة (¬4). وأقول: السفيه له حالان: أن يلحق بالمجنون حين تغلب عليه أوصاف الجنون وفي هذه الحالة لا ينعقد بيعه. وأن يلحق بالعاقل حين تغلب عليه أوصاف العقلاء وعليه فبيعه صحيح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة. . . . وعن المعتوه حتى يعقل" (¬5) والله أعلم. • هل ينعقد بيع الأعمى؟ على قولين: الأول: لا يصح بيعه وشراؤه وإجارته ورهنه ومساقاته ونحوها من المعاملات على الصحيح من مذهب الشافعية وذلك لأنه لا طريق له إلى رؤيته فيكون كبيع الغائب وبه يقول ابن حزم (¬6). ¬

_ (¬1) السيل الجرار (جـ3/ ص 8). (¬2) تيسير أصول الفقه (ص 90). (¬3) المجموع (جـ9/ ص 147). (¬4) الإنصاف (جـ4/ ص 256). (¬5) صحيح: أخرجه الترمذى وابن ماجة وغيرهما. (¬6) المجموع (19/ ص287، 288) المحلى (8/ ص 342).

الثاني: يجوز إذا وصفه له غيره، فيقوم وصفه له مقام رؤيته وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد (¬1). واشترط ابن حزم رؤية السلعة أو وصفها (¬2) وقال الشوكانى بصحته لحصول التراضى وطيب النفس اللذان هما المناط لصحة البيع (¬3). قلت: والقول الثاني أوجه والله أعلم. • وأما العقل: فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: .. وعن المجنون حتى يعقل" (¬4)، وخرج به الجنون. • وأما الرشد: فلقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬5). والرشيد: هو الذي يحسن التصرف في ماله، بحيث لا يبذله في شيء محرم، ولا في شيء لا فائدة منه. وخرج به: السفه (¬6) وباشتراطه قالت المالكية والشافعية والحنابلة (¬7). وقد تقدم القول في انعقاد بيع السفيه هل ينعقد بيع السفيه؟ 2 - أن يكون كل من المتعاقدين ومالكًا للمعقود عليه أو قائمًا مقام مالكه (¬8): وهو قول المالكية والحنابلة. قال - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" (¬9). أى: لا تبع ما ليس في ملكك من الأعيان. قال الوزير: "اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما ليس عنده ولا في ملكه، ثم يمضي فيشتريه له، وأنه باطل" اهـ. • تنبيه: اشترطت الحنفية أن يكون العاقد متعددًا، فلا ينعقد البيع بشخص ¬

_ (¬1) المجموع (جـ9/ ص 287). (¬2) المحلى (جـ8/ ص 342). (¬3) السيل للشوكانى (2/ 11). (¬4) صحيح: تقدم. (¬5) سورة النساء: 6. (¬6) الشرح الممتع (8/ 125). (¬7) الفقه الإِسلامى وأدلته (5/ 3354، 3356، 3361). (¬8) الملخص الفقهى للفوزان (جـ9/ ص 8)، الموسوعة الكويتية (3355/ 3364). (¬9) صحيح: أخرجه الترمذي (1250) وأبو داود (3486) والنسائي (71289) وابن ماجة (2187).

بيع الفضولي

واحد، بل يلزم أن يكون الإيجاب من شخص، والقبول من شخص آخر، إلا الأب ووصيه والقاضى والرسول من الجانبين، يكون كل منهم بائعًا ومشتريًا بنفسه هذا شرط لا دليل عليه. قال الشوكاني: "وقد عرفناك أن المناط هو الرضا، فيصح أن يتولى ذلك واحد وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه تولى عقد النكاح للزوجين. [فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ " قال: نعم، وقال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانًا؟ " قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبهُ. . . . الحديث] (¬1) والحاصل أن الأصل عدم المانع، فمن ادعى وجوده فعليه البيان (¬2). قلت: ونحوه ما علقه البخاري بصيغة الجزم "أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف أنه خطبني غير واحد فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين أمرك إليَّ، قالت: نعم. قال: قد تزوجتك" قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه (¬3). بيع الفضولي (*) • تعريف الفضولي: لغة: من يشتغل بما لا يعنيه. اصطلاحًا: هو من لم يكن وليًا ولا أصيلًا ولا وكيلًا في العقد أو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعى خرج به: الوكيل والوصى ونحوهما. ولفظ الفضولى عند الفقهاء: يتناول كل من يتصرف بلا ملك ولا ولاية ولا وكالة، كالغاصب إذا تصرف في المغصوب بالبيع أو غيره ... وكالزوج يبيع ما تملكه زوجته دون إذنها. • حكمه التكليفى: - من قال ببطلانه ذهب إلى القول بحرمة الإقدام عليه. ¬

_ (¬1) المجموع (جـ9/ ص 287). (¬2) المحلى (جـ8/ ص 342). (¬3) السيل للشوكاني (2/ 11). (*) الموسوعة الفقهية (جـ 9/ 115: 123) بداية المجتهد (2/ ص270، 271) حاشية ابن عابدين (7/ 231) الإنصاف (4/ 271) المجموع (9/ 247: 251)، فتح البارى (6/ ص 697)، تفسير القرطبي (7/ ص 154)، إعلاء السنن (4/ ص 181، 454) نيل الأوطار (5/ 332، 333) الفقه الإِسلامى وأدلته (5/ 3339).

- ومن قال بصحته -وهم الحنفية والمالكية- فقد صرح المالكية بحرمته إذا لم يكن لمصلحة، وإن كان لمصلحة -كخوف تلف أو ضياع- فغيرُ حرام، بل ربما كان مندوبًا، وأما الحنفية فلم نجد لهم تصريحًا بحكمه. • ابتداءً اتفق الفقهاء على صحة بيع الفضولي، إذا كان المالك حاضرًا أو أجاز البيع، لأن الفضولي حينئذ يكون كالوكيل واتفقوا أيضًا على عدم صحة بيع الفضولي. إذا كان المالك غير أهل للإجازة كما إذا كان صبيًا وقت البيع. • محل الخلاف: هل يصح بيع الفضولي إذا كان المالك أهلًا للتصرف وبيع ماله وهو غائب، أو كان حاضرًا وبيع ماله وهو ساكت أو لا يصح؟ • هل السكوت يدل على الرضا؟ سيأتي في باب التراضي. • تنقيح أقوال الفقهاء في هذه المسألة: اختلف الفقهاء في بيع الفضولي على قولين من حيث الجملة: الأول: جواز بيعه مع وقوف نفاذه على إجازة المالك وهو مروى عن جماعة من السلف منهم علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وهو قول الحنفية والمالكية وبه قال القرطبي وابن عثيمين وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق والشافعي في القديم والجديد وقواه النووي في الروضة ومال إليه البخاري حيث بوب: باب: إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضى. واستدلوا: 1 - بعموم الأدلة القرآنية الدالة على مشروعية البيع. مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2). والفضولي كامل الأهلية، فإعمال العقد أولى من إهماله، وربما كان في العقد مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد. 2 - وبقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬3) وفي هذا إعانة لأخيه المسلم. 3 - وبحديث عروة بن أبي الجعد البارقى وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه دينارًا ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 275. (¬2) سورة النساء: 29. (¬3) سورة المائدة: 2.

ليشترى له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح (¬1) فيه"، وبدعائه له بالبركة وفيه: أن شراء الشاة الثانية وبيعها لم يكن بإذن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عمل فضولى جائز بدليل إقراره - صلى الله عليه وسلم -. 4 - وبحديث حكيم بن حزام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه ليشترى له أضحية بدينار، فاشترى أضحية، فأربح فيها دينارًا، فاشترى أخرى مكانها، فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ضحِّ بالشاة وتصدق بالدينار" (¬2) فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز هذا البيع ولو كان باطلًا لرده وأنكر على من صدر منه. 5 - وبحديث ابن عمر في قصة الثلاثة أصحاب الغار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الثالث: اللهم استأجرتُ أجراء فأعطيتهم" (¬3). الثاني: عدم جوازه، وإن أجازه صاحب الشأن بعد وقوع البيع: وهذا هو قول الشافعية والحنابلة والظاهرية وسعيد بن زيد أخو حماد بن زيد واستدلوا: 1 - بأن تصرف الفضولي تصرف فيما لا يملك، وتصرف الإنسان فيما لا يملكه منهى عنه شرعًا، والنهى يقتضى عدم المشروعية، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام "لا تبع ما ليس عندك" (¬4) أي ما ليس مملوكًا لك، وسبب النهى اشتمال العقد على الغرار الناشيء عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، وما يترتب عليه من النزاع. قلت: وحديث حكيم لا حجة فيه من وجوه: (أ) أن صفة بيع حكيم تختلف عن صفة بيع الفضولي فالأول: يأتيه المشترى ويطلب منه سلعة معينة ليست عنده فيقوم بكتابة العقد ثم يذهب يشترى له السلعة من السوق، وأما الثاني: فهو يشترى فقط من غير أن يطلب منه. (ب) أن حكيم يشترى بماله أو بمال صاحب السلعة إن كان أعطاه ثمنها، وأما الفضولي فهو يشترى بمال غيره أو يبيع. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه البخاري. (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3386) والترمذي (1257). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري. (¬4) صحيح: أخرجه النسائي (4632) أبو داود (3461) والترمذي (1231).

(جـ) أن حكيم له حالان في الصفقة الواحدة (بائع ومشترى) بخلاف الفضولي وعلى هذا فبيع الفضولي خلاف بيع حكيم تمامًا والله أعلم. 2 - وبحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك" (¬1). وبقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} (¬2). وأجابوا: عن حديث عروة البارقى أو حكيم بن حزام "إنه محمول على أنه كان وكيلًا مطلقًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدل عليه أنه باع الشاة وسلمها". 3 - وعن حديث ابن عمر -قصة أصحاب الغار- أن ذلك كان فيمن قبلنا ولا تلزمنا شرائعهم. قلت: وهذا ليس فيه مخالفة لشرعنا والقول الصواب في هذه المسألة -إن شاء الله- أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه. 4 - وعن احتجاجهم بالآية الكريمة {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ليس هذا من البر والتقوى، بل هو من الإثم والعدوان. 5 - وعن حديث حكيم بجوابين: الأول: أنه حديث ضعيف للجهالة في سند أبى داود وللانقطاع في سند الترمذي. والثاني: أنه محمول على أنه كان وكيلًا للنبى - صلى الله عليه وسلم - وكالة مطلقة. يدل على أنه باع الشاة وسلمها واشترى. وبمثله أجابوا عن حديث عروة. وأجاب من قال بالجواز: بأن النهى الوارد في حديث حكيم "لا تبيع ما ليس عندك" محمول على بيعه لنفسه لا لغيره. قالوا: والدليل على ذلك أن النهى إنما ورد في حكيم بن حزام وقضيته مشهورة، وذلك أنه كان يبيع لنفسه ما ليس عنده. قلت (أبو الحسن): سنسلم جدلًا أن هذا خاص بحكيم فهل ما ورد في حديث عمرو بن شعيب (ولا بيع إلا فيما تملك) خاص به أيضًا إن القول بالخصوصية -دون دليل- بعيد تمام البعد لأن الخصوصية لا تكون إلا بدليل وليس ثمَّ، وسيأتى أن الراجح -وهو قول الجمهور- أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من باع مثل بيع حكيم فهو داخل في حديثه والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (4611) والترمذي (1234) وأبو داود (3504). (¬2) سورة الأنعام: 164.

القول في شراء الفضولي

قلت: ويجاب عن استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} قال القرطبي: قال علماؤنا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا بدليل قوله في نفس الآية {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .. اهـ. • سببُ اختلافهم: قال ابن رشد: وسبب الخلاف المسألة المشهورة: هل إذا ورد النهىُ على سبب حمل على سببه، أو يعم؟ قلت: وذهب الجمهور: "أن اللفظ العام إذا ورد على سبب خاص فهو على عمومه حتى يدل الدليل على إرادة القصر على السبب. فكل آية نزلت جوابًا لسؤال أو فصلًا في واقعة وكذا كل حديث ورد على نحو ذلك فلا تأثير لذلك السبب في إجراء الحكم على كل ما أفاده لفظ العموم، وذلك كنزول آيات اللعان في قصة عويمر العجلانى وهلال بن أمية، فحكمها عام للأمة بناء على هذا الأصل" (¬1). وعلى هذا فحديث النهى عن بيع ما لا يملكه المرء عام فيشمل بيع الفضولي وغيره. • القول الراجح في بيع الفضولي: بعد العرض لأدلة الفريقين -القائلين بالجواز والقائلين بعدمه- يتبين لنا أن بيع الفضولي جائز مع وقوف نفاذه على إجازه المالك. والله أعلم. القول في شراء الفضولي (¬2) اختلف العلماء في شرائه على ثلاثة أقوال: الأول: شراؤه صحيح إن رضي المشترى له، وإلا لم يصح وبه قال مالك. الثانى: أنه غير صحيح وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. الثالث: أنه لا يصح إلا إن اشترى في ذمته ونوى الشراء لشخص لم يسمه فيصح، سواء نقد الثمن من مال الغير أم لا وهذا قول الحنابلة. قلت: وهذا خارج عن بيع الفضولي لأنه لا يدل على أنه تصرف في ملك غيره. اهـ. ¬

_ (¬1) تيسير علم أصول الفقه (ص 276). (¬2) الموسوعة الكويتية (جـ9)، وبداية المجتهد (2/ ص 270)، الشرح الممتع (8/ 147، 148) الإنصاف (4/ 272).

قلت: هذا حاصل أقوالهم في الجملة والذي يتبين لي أنه لا فرق بين البيع والشراء لأنه لا فرق بينهما لأن كلاهما يطلق ويراد به الآخر. 3 - التراضى منهما، فلا يصح بيع المكره بغير حق (¬1): وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة. قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض" (¬3). • بيع المكره: تعريف الإكراه (¬4): لغة: حمل الإنسان على شيء يكره. شرعًا: فعل يوجد من المكْرَه فيُحدث في المحل معنى يصير به مدفوعًا إلى الفعل الذي طلب منه. • حُكْمه (¬5): الإكراه نوعان: (أ) إكراه بحق: وهذا ينعقد، كما لو أكرهه الحاكم على بيع ما له لوفاء دينه، فإن هذا إكراه بحق. (ب) إكراه بغير حق: وبه لا ينعقد البيع سواء كان إكراهًا ملجئًا أو غير ملجىء. لأن الإكراه يزيل الرضا الذي هو شرط في صحة هذه العقود قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬6). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ما استكرهوا عليه" (¬7). وقال: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (¬8). والإغلاق: الإكراه. ¬

_ (¬1) الفقه الإِسلامى وأدلته (3355/ 3357/ 3362) والملخص الفقهى (2/ 8). (¬2) سورة النساء: 29. (¬3) صحيح: أخرجه ابن ماجة (2185) وابن حبان (4967). (¬4) الموسوعة الكويتية (9/ 62). (¬5) الفقه وأدلته (3323) وتيسير أصول الفقه (102). (¬6) سورة النساء: 29. (¬7) صحيح: أخرجه الطبراني كما في صحيح الجامع (5/ 35). (¬8) حسن: أخرجه أحمد (26238) وأبو داود (2193) وابن ماجة (2046).

وذهب إلى القول بعدم انعقاد بيع المكره وتصرفاته وبطلانها أئمة المذاهب الأربعة: • بيع المضطر (¬1): ومعناه: اضطرار شخص إلى بيع شيء من ماله، ولم يرض المشترى إلا بشرائه بدون ثمن المثل بغبن فاحش وكذلك في الشراء منه. • حكمه على ثلاثة أقوال: 1 - بيعه وشراؤه فاسد وبه قالت الحنفية واستدلوا: بحديث علي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع المضطر (¬2). 2 - أنه صحيح مع كراهية شرائه على الصحيح من مذهب الحنابلة. 3 - أجازه فقهاء آخرون للضرورة منهم الخطابى قال: "إن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جائز في الحكم، ولا يفسخ إلا أن سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يباع على هذا الوجه وأن لا يقتات عليه بماله، ولكن يعاون ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له ذلك بلاغ اهـ. بتغير يسير. • وممن قال بصحة بيع المضطر ابن حزم واستدل: 1 - وجدنا كل من يبتاع قوت نفسه وأهله للأكل واللباس، فإنه مضطر إلى ابتياعه بلا شك، فلو بطل ابتياع هذا المضطر لبطل بيع كل من لا يصيب القوت من ضيعته، وهذا باطل بلا خلاف، ... وقد ابتاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصواعًا من شعير لقوت أهله، ومات -عليه السلام-، ودرعه مرهونة في ثمنها (¬3)، فصح أن بيع المضطر إلى قوته وقوت أهله، وبيعه ما يبتاعه به القوت بيع صحيح لازم. 2 - أنه بيع عن تراض ولم يجبره أحد عليه فهو صحيح بنص القرآن. وغير ذلك. • القول الراجح: قلت: لما كان الدافع للمضطر هو الحاجة لا الإكراه دل ذلك على أن بيعه صحيح لحصول التراضي والله أعلم. ¬

_ (¬1) إعلاء السنن (14/ 241) الفقه وأدلته (5/ 3325) الإنصاف (4/ 253). (¬2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3380). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري.

• بيع التلجئة (¬1): وسماه الشافعية: (بيع الأمانة). وهو يشبه (بيع الهازل) كما في البدائع. • تعريفه لغة: تأتى بمعنى الإكراه والاضطرار. واصطلاحًا: يرجع معناها إلى معنى الإلجاء وهو الإكراه التام أو الملجئ. • وصورته: أن يظهرا بيعًا لم يرداه باطنًا بل خوفًا من ظالم (ونحوه) وفعاله. (كأن يخاف إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فرارًا منه، ويتم العقد مستوفيًا أركانه وشروطه). • حكمه: اختلف فيه على قولين: الأول: أنه عقد باطل غير صحيح. لأن العاقدين ما قصدا البيع فلم يصح منهما كالهازلين وبه قالت الحنابلة وأبو يوسف ومحمد. الثاني: أنه بيع صحيح، لأن البيع تم بأركانه وشروطه، وأتى باللفظ مع قصد واختيار خاليًا عن مقارنة مفسد، فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقد البيع بغير شرط، وأما عدم رضاه بوقوعه فهو كظنه أنه لا يقع، لا أثر له لخطأ ظنه. وبه قالت الحنفية والشافعية. • بيع الهازل (¬2): • تعريفه: هو الذي يتكلم بكلام البيع لا على إرادة حقيقته. • الفرق بينه وبين بيع التلجئة: أن بيع التلجئة الدافع فيه الإكراه. • وجه الاتفاق بينهما: أن كلاهما يتلفظ بصيغة البيع، وهو في الحقيقة لا يريد البيع. • حكمه: للعلماء فيه أقوال: • لا ينعقد بيعه لأنه لم يقصد بيعًا وهذا أحد قولى الشافعية والحنابلة وبه قالت الحنفية ¬

_ (¬1) الموسوعة الكويتية (19) الإنصاف للمروادى (4/ 254) رد المختار (7/ 421، 423) الفقه وأدلته (5/ 3325). (¬2) الإنصاف (4/ 254)، المجموع (9/ 164)، رد المختار (7/ 14).

• ينعقد عملًا باللفظ، ولا مبالاة بالقصد والله أعلم وهو القول الثاني للشافعية والحنابلة • يقبل بقرينة وهو قول في مذهب أحمد • القول الراجح: أقول: الظاهر انعقاده عملًا باللفظ، ولا مبالاة بالقصد، لأننا لا ندرى أهو صادق في قصده أم لا. والله أعلم. ثانيًا: الشروط المتعلقة بالمعقود عليه (¬1): 1 - أن يكون المبيع -المعقود عليه- موجودًا ليتمكن البائع والمشترى من معرفته: لأن بيع المعدوم لا ينعقد لما فيه من الجهالة، والجهالةُ غرر، والغرر منهى عنه وبه قالت الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية. ومن أمثلته: بيع الحمل، وبيع الثمر قبل انعقاد شيء منه على الشجرة، وبيع اللبن في الضرع. وغير ذلك من البيوع المنهي عنها كما سيأتى. 2 - أن يكون المعقود عليه في البيع من ثمن ومثمن مقدور التسليم عند العقد: لأن ما لا يقدر على تسليمه لا يصح بيعه لأنه معدوم. وبه قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية ومن أمثلته: بيع الحيوان الشارد، وبيع الطير في الهواء، والسمك في البحر. 3 - أن يكون مما يباح الانتفاع به لغير ضرورة: وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية: فلا يصح بيع ما يحرم الانتفاع به؛ كالخمر، والخنزير، وآلة اللهو، والميتة وغير ذلك مما سيأتى. وقلنا (لغير ضرورة): احترازًا من الميتة والمحرمات التي تباح في حال الضرورة. ¬

_ (¬1) رد المحتار (7/ 11)، الإنصاف (4/ 258)، العدة على إحكام الأحكام لابن دقيق - للصنعانى (3/ 486) الفقه الإِسلامى وأدلته (3350: 3366)، الملخص الفقهى للفوزان (2/ 9).

مسائل تتعلق بما سبق

4 - أن يكون البيع مقبوضًا إن كان قد استفاده بمعاوضة: عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه" (¬1). وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن يشتري الطعام ثم يباع حتى يستوفى" (¬2). وعن ابن عمر مرفوعًا: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" (¬3). وعن ابن عباس مرفوعًا "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه". قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله (¬4). وبه قالت: الحنفية. 5 - أن يكون المعقود عليه خاليًا من موانع الصحة: (سيأتى في شروط الصحة): كالبيوع الربوية والاشتراط في البيع والبيع بعد نداء الجمعة وغير ذلك وبه قالت الحنابلة. • تنبيهات: واشتراط طهارة المعقود عليه فلا حاجة لاشتراطه لدخوله في شرط الانتفاع. مسائل تتعلق بما سبق • كتابة عقد البيع (¬5): ابتداء لا يستحب كتابة الأشياء القليلة الخطر -كحوائج البقال والعطار- لأن العقود فيها تكثر، فيشق الإشهاد عليها، وتقبح إقامة البينة عليها، والترافع إلى الحاكم من أجلها. إلا أن يكون البيع إلى أجل: فيستحب كتابته مطلقًا لقوله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1529) وأحمد (14447). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1528) وأحمد (8347). (¬3) صحيح: أخرجه البخاري (2133) ومسلم (1526) وغيرهما. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (1235) ومسلم (1125) وغيرهما. (¬5) إعلاء السنن (14/ 7) فتح البارى (4/ 366). (¬6) سورة البقرة: 282.

وأما الأشياء العظيمة الخطر: فيستحب كتابة عقدها وذلك لما أخرجه أبو داود والترمذي. عن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتابًا كتبه لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: قلت: بلى فأخرج لي كتابًا: هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن هوذة من محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اشترى منه عبدًا أو أمة، لا داء ولا غائلة ولا خُبثه، بيعَ المُسلمُ المسلمَ" (¬1) وقال بهذا: أبو بكر بن العربى. • هل يجب الإشهاد على عقد البيع (¬2): اختلف الناس في الأمر الوارد في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬3) هل هو للوجوب أو للندب على قولين: • الأول: أنه للوجوب، وبه قال أبو موسى الأشعرى وابن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي وابنه أبو بكر، وعطاء وإبراهيم النخعى وجابر بن زيد ورجحه ابن جرير وانتصر له ابن حزم واستدلوا: بظاهر الأمر، ولأنه عقد معاوضة فوجب الإشهاد عليه كالنكاح. • الثاني: أن الأمر للندب: وبه قال أبو سعيد الخدرى وأبو أيوب والحسن والشعبي والشافعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي وزعم ابن العربى بأنه قول الكافة وصححه وكذا القرطبي. واستدلوا: 1 - بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- باع ولم يشهد كما في حديث العداء بن خالد المتقدم. 2 - وبأنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا ورهنه درعه (¬4) ولو كان الإشهاد واجبًا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة واشترى من أعرابي فرسًا فجحده الأعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت (¬5)، ولم ينقل أنه أشهد في شيء من ذلك. 3 - أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عروة بن الجعد أن يشترى له أضحية ولم يأمره بالإشهاد، وأخبره عروة أنه اشترى شاتين فباع إحداهما ولم ينكر عليه ترك الإشهاد (¬6). ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه الترمذي (1216) وابن ماجة (2251). (¬2) إعلاء السنن (14/ 7، 8) تفسير القرطبي (3/ 399، 400) نيل الأوطار (5/ 203). (¬3) سورة البقرة: 282. (¬4) صحيح: أخرجه البخاري (2513) ومسلم (1603). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3607) والنسائي (4661). (¬6) صحيح: تقدم.

4 - لأن الناس ما زالوا يتبايعون حضرًا وسفرًا وبرًا وبحرًا وسهلًا وجبلًا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو كان واجبًا ما تركوا النكير على تاركه. 5 - ولأن المبايعة تكثر بين الناس في أسواقهم وغيرها، فلو وجب الإشهاد في كل ذلك لأفضى إلى الحرج المحطوط عنهم بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1). 6 - أن الأمر في الآية (وأشهدوا) للإرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم، كما أمر بالرهن والكتابة وليس ذلك بواجب وهو الراجح إن شاء الله تعالى. • تنبيه: حديث "ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: .. ومنهم: رجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه" ضعيف. • أصل الأمر بالكتابة والشهود: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: يرحمك ربك يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملإ منهم جلوس، فسلم عليهم فقال: السلام عليكم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه فقال: هذه تحيتك وتحية بَنِيك بينهم، وقال الله -جل وعلا- ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، فقال: اخترتَ يمين ربى وكلتا يدي ربى يمين مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريتهُ فقال: أي رب ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عُمُره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم -أو من أضوئهم- لم يكتب له إلا أربعون سنة، قال: يا رب ما هذا؟ قال: هذا ابنك داود وقد كتبت له عمره أربعين سنة، قال: أي رب زده في عمره، قال: ذاك الذي كتبت له، قال: فإنى جعلتُ له من عمرى ستين سنة، قال: أنت وذاك اسكن الجنة، فسكن الجنة ما شاء الله، ثم أُهبط منها. وكان آدم يعُدُّ لنفسه، فأتاه ملكُ الموت، فقال له آدم: قد عجلتَ، قد كُتِبَ لي ألف سنة؟ قال: بلى، ولكنك قد جعلت لابنك داود منها ستين سنة فجحد فجحدت ذريته، ونسى فنسيت ذريته، فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود" (¬2) ابن حبان الموارد (2082). ¬

_ (¬1) سورة الحج: 78. (¬2) صحيح بمجموع طرقه أخرجه الترمذي (3368) وابن حبان (6167)، والبيهقي في الأسماء والصفات (708)، وابن خزيمة في التوحيد.

• هل يجب على الكاتب أن يكتب أم يستحب له ذلك (¬1): في المسألة أقوال ثلاثة: 1 - يجب على الكاتب إذا أُمِر أن يكتب وهو قول الطبري والربيع. 2 - يجب عليه أن يكتب إذا لم يوجد كاتب غيره، لأنه إن امتنع ألحق الضرر بصاحب الدين وهو قول الحسن. 3 - يجب عليه في حال فراغه وهو قول السدي وقال ابن العربي: والصحيح أنه أمر إرشاد وقال القرطبي بعدم الوجوب: ولعل القول الثاني هو المتعين لما فيه من دفع الضرر عن الغير والله أعلم. • هل يأخذ الكاتب أجرًا على كتابة العقد (¬2): قال القرطبي: ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كَتْب الوثيقة. وقال ابن العربى: .. لا يكتب حتى يأخذ حقه. • من يدفع أجرة الكاتب؟ البائع أم المشتري؟ (¬3) قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع، قال مالك: قالوا ليوسف (فأوف لنا الكيل) فكان يوسف هو الذي يكيل وكذلك الوزان والعداد وغيرهم اهـ. وكذلك مؤونة إحضاره إلى محل العقد إذا كان غائبًا العلماء متفقون على ذلك. • السمسرة (¬4): • تعريفها: الوساطة بين البائع والمشترى لإجراء البيع والسمسرة نوعان: (أ) سمسرة في بيع الحاضر: وهذه جائزة، وأجر صاحبها حلال وشرط فيها الجمهور: أن تكون أجرة السمسار معلومة. ولم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسًا (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (3/ 382). (¬2) تفسير القرطبي (3/ 382، 383). (¬3) تفسير القرطبي (9/ 260). (¬4) الفقه وأدلته (جـ 5/ 3326)، الموسوعة الكويتية (9/ 80 وما بعدها)، فتاوى اللجنة الدائمة (13/ 122) فتح البارى (4/ 531). (¬5) علقها البخاري في صحيحه باب: أجر السمسرة من كتاب الإجارة.

وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول بيع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك (¬1). وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا، فما كان من ربح فلك أو بيني وبينك، فلا بأس به (¬2). وقال بجوازها: البخاري، ونقل ابن المنذر القول بكراهتها عن الكوفيين. (ب) سمسرة الحاضر للبادي: صورتها: أن يتولى الحضري بيع سلعة البدوي، بأن يصير الحاضر سمسارًا للبادى البائع وبها قال الجمهور والحنفية. حكمها: جمهور الفقهاء على التحريم. وسيأتى تفصيل القول في هذه المسألة في البيوع المحرمة. • الاستثناء من المبيع (¬3): إذا كان الذي استثناه معلومًا ولا يفضى إلى جهالة المبيع -نحو أن يستثنى واحدة من الأشجار -أو منزلًا من المنازل- صح بالاتفاق، وبه قال شيخ الإِسلام. وإذا كان الذي استثناه مجهولًا نحو أن يستثنى شيئًا غير معلوم لم يصح البيع - لما يتضمنه من الغرر مع الجهالة. عن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الثُّنْيَا إلا أَنْ تُعْلَم (¬4). • ضابط التمييز بين ما يجوز استثناؤه وما لا يجوز: "أن كل ما يجوز بيعه منفردًا يجوز استثناؤه، وما لا يجوز إيقاع البيع عليه بانفراده لا يجوز استثناؤه. • فعلى الأولى: يجوز بيع الحائط واستثناء شجرة معينة منه. • وعلى الثاني: لا يجوز استثناء الحمل من بيع الدابة، لأنه لا يجوز إفراده بالبيع فكذا استثناؤه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) شرح الأبى على مسلم (5/ ص 384) المغنى (6/ 729، 730) إعلاء السنن (14/ 51) نيل الأوطار (5/ 180) الموسوعة الكويتية (9/ 19، 20). (¬4) صحيح: أخرجه بهذا اللفظ النسائي (3889) وأبو داود (3402) والترمذي (1290) ومسلم دون الشرط.

• بيع الأصول (¬1): المراد بالأصول: الأرض والدور والبساتين والحيوان، وما يتبع هذه الأصول في البيع وما لا يتبعها. • القواعد التي ينبنى عليها الأصول: 1 - أن كل ما هو متناول اسم المبيع عرفًا دخل في البيع وإن لم يذكر صريحًا. 2 - أن ما كان متصلًا بالمبيع اتصال قرارٍ كان تابعًا له في الدخول. • بيع الأرض: من باع أرضًا دخل فيها الغراس والبناء لاتصالها بها اتصال قرارٍ، وهي من حقوقها وهذا في جميع المذاهب وكذا الحجارة المخلوقة والمثبتة فيها. • بيع الدور: ومن باع دارًا دخل في البيع بناؤها وفناؤها وما فيها من شجر مغروس، وما كان متصلًا بها لمصلحتها كسلالم ورفوف مستمره وأبواب وغير ذلك، ولا يتناول ما فيها من كنز مدفون ولا ما هو منفصل عنها كحبل ودلو ولا ما ينقل كحجر وخشب. • بيع الشجر: ومن باع شجرًا أتبعه الأغصان والورق وسائر أجزاء الشجر. وإن كان في الشجر أو النخل ثمر فالمؤبر للبائع، إلا أن يشترط ذلك المشترى لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع نخلًا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع" (¬2). أما إذا لم تكن مؤبرة فهي للمشترى ... وهذا عند الجمهور (¬3) وخالف أبو حنيفة والأوزاعى فقالا: تكون للبائع قبل التأبير وقبله. وأجابوا عن حديث ابن عمر بأن المراد بالتأبير فيه ظهور الثمرة واستدلوا على ذلك بما رواه عكرمه عن ابن عمر مرفوعًا "أيّما رجل باع نخلًا قد أينعت فثمرتها لربها الأول إلا أن يشترط المبتاع" (¬4) والشاهد من الحديث أنه قيد النخل فيه بالإيناع وهو وقت استحقاق البائع للثمرة .. ¬

_ (¬1) الموسوعة الكويتية (9/ 20) إعلاء السنن (14/ 43) وفتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر (8/ 5: 10) فتح القدير (6/ 280). (¬2) صحيح: أخرجه البخاري (2204) ومسلم. (¬3) قال ابن عبد البر -رحمه الله- وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم ردوا ظاهر هذه السنة ودليلها بتأويلهم، وردها ابن أبي ليلى ردًا مجردًا جهلًا بها. والله أعلم اهـ. (¬4) أخرجه البيهقي وقال منقطع انظر الصحيحة.

ثانيا: شروط صحة البيع

ومعنى كلامهم: أنه إذا بيع النخل في وقت تؤبر هى فيه فسواء أبرت أو لم تؤبر فثمرته للبائع .. • قال ابن حجر: ولا يشترط في التأبير أن يؤبره أحد، بل لو تأبر بنفسه لم يختلف الحكم عند القائلين به. اهـ. • بيع الحيوان: ومن باع حيوانًا تبعه ما جرى العرف بتبعيته له كاللجام والمقود والسرج، وفرق الشافعية بين ما هو متصل بالحيوان (كالنعل المسمر) فهذا داخل في البيع وأما اللجام والسرج والمقود فلا يدخل في بيع الحيوان اقتصارًا على مقتضى اللفظ. وهو الظاهر لأن هذه الأشياء ليست جزءًا من حقيقة المبيع وإنما هى خارجة عنه. والله أعلم. يجوز باتفاق الفقهاء بيع الثمار وحدها منفردة عن الشجر بشرط بدو صلاحها. ثانيًا: شروط صحة البيع (¬1) وهي نوعان: عامة، وخاصة: • الشروط العامة: وهذه الشروط يجب توافرها في كل أنواع البيع لتعتبر صحيحة شرعًا، وتنحصر هذه الشروط في خلو البيع من عدة عيوب هى (الجهالة، الإكراه، التوقيت، الشرط). 1 - الغرر (الجهالة) وهو نوعان: - غرر الوصف: كجهالة وصف الثمن والمثمون -المبيع- أو قدره أو أجله إن كان هناك أجل. - غرر الوجود: (وهو ما كان المبيع فيه محتملًا للوجود والعدم) - كبيع نَتَاج النتاج، وبيع الحمل وغير ذلك. 2 - الإكراه: وهو يؤثر في البيع سواء كان ملجئ -تام- أو غير ملجئ -ناقص-. 3 - التوقيت: وهو أن يوقت البيع بمدة كما لو قال: بعتك هذا الثوب شهرًا أو سنة، فيكون البيع فاسدًا، لأن ملكية العين لا تقبل التأقيت، ولأن مقتضى البيع الملكية على الدوام. 4 - الشروط المفسدة: وهي كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين إذا لم يكن قد ¬

_ (¬1) الفقه الإِسلامي (5/ 3345) بداية المجتهد (2/ 235) رد المختار (7/ 11، 12).

ثالثا: شروط النفاذ

ورد به الشرع، أو جرى به العرف، أو يقتضيه العقد، أو يلائم مقتضاه. مثل أن يبيع سيارة على أن يستخدمها شهرًا بعد البيع. • الشروط الخاصة: وهي التي تختص ببعض أنواع البيع دون بعض. ثالثًا: شروط النفاذ 1 - الملك أو الولاية: • فالملك: هو حيازة الشيء متى كان الحائز له قادرًا وحده على التصرف فيه عند عدم المانع الشرعى. • والولاية: سلطة شرعية بها ينعقد العقد وينفذ وهي نوعان: (أ) ولاية أصلية: ومعناها: أن يتولى الإنسان أمور نفسه بنفسه. (ب) ولاية نيابية: ومعناها: أن يتولى الشخص أمور غيره من ناقصي الأهلية إما بإنابة المالك كالوكيل أو بإنابة الشارع كالأولياء. 2 - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع: فلا ينفذ بيع الراهن للمرهون، ولا بيع المؤجر للمأجور وإنما يكون البيع موقوفًا على إجازة المرتهن أو المستأجر. وليس فاسدًا وهو الصحيح عند الحنفية. • تقسيم البيع من حيث النفاذ والوقف: البيع قسمان: 1 - البيع النافذ: وهو ما توافر فيه ركن العقد وشروط الانعقاد والنفاذ. 2 - البيع الموقوف: وهو كالبيع النافذ إلا أنه فقد شرط النفاذ (الملك أو الولاية). • شرط النفاذ: - يكون إما في المبيع: كما في بيع الفضولي شيئًا لغيره. - وإما في التصرف: كما في بيع الصغير أو المعتوه أو شرائهما. رابعًا: شروط اللزوم (¬1) • يشترط للزوم البيع: - خلوه من أحد الخيارات التي لا تسوغ لأحد العاقدين فسخ العقد مثل خيار الشرط والوصف والنقد والتعيين، والرؤية وغير ذلك. ¬

_ (¬1) رد المختار (7/ 12، 77) الفقه الإِسلامى (5/ 3349).

الثمن وأحكامه

وعليه: فإذا وجد في البيع شيء من هذه الخيارات منع لزومه في حق من له الخيار. فكان له أن يفسخ البيع أو أن يقبله، إلا إذا حدث مانع من ذلك. الثمن وأحكامه • تعريف الثمن (¬1): هو ما يبذله المشترى من عوض للحصول على المبيع، وهو أحد جزئي العقود عليه -الثمن والمثمن- وهما من مقومات عقد البيع. • الفرق بين الثمن والقيمة (¬2): القيمة: هى ما يساويه الشيء في تقويم المقوِّمين -أهل الخبرة-. أما الثمن: فهو كل ما يتراضى عليه المتعاقدان، سواء كان أكثر من القيمة أم أقل منها أم مثلها. فالقيمة هى الثمن الحقيقي للشيء، أما الثمن المتراضى عليه فهو الثمن المسمى. • التسعير (¬3): • تعريفه: هو تحديد أسعار بيع السلع من قبل السلطان، مع منع الناس من البيع بزيادة عليها أو أقل منها. والسعر: الثمن المقدر للسلعة. • حكمه: ذهب الجمهور إلى أن الأصل عدم التسعير، لأنه مظلمة، والظلم حرام. واستدلوا: بحديث أنس بن مالك قال: غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، لو سعَّرت. فقال: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعِّرُ، وإنى لأرجو أن ألقى الله عَزَّ وَجَلَّ ولا يطلبنى أحد بمظلمة ظلمتَها إياه، في دَمٍ ولا مال" (¬4). وقالوا: ليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس ¬

_ (¬1) و (¬2) الموسوعة الكويتية (9/ 26). (¬3) المغنى (6/ 311)، تنقيح التحقيق للذهبي -حاشية (7/ 204) الموسوعة الكويتية (9/ 27)، نيل الأوطار (5/ 260) الفتاوى (14/ 323). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (4/ 3451) الترمذي (1314) وابن ماجة (3200) وغيرهم.

نظره في مصلحة المشترى برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين البائع والمشترى من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1). • وأجاز المالكية والحنفية للإمام التسعير دفعًا للضرر عن الناس إذا تعدى أصحاب السلعة عن القيمة المعتادة تعديًا فاحشًا. فلا بأس حينئذ بالتسعير بمشورة أهل الرأى والبصر رعاية لمصالح المسلمين. واستدلوا بفعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين مَرَّ بحاطب في السوق فقال له: "إما أن ترفع السعر وإما أن تدخل بيتك فتبيع كيف شئت" (¬2). 2 - وبالقاعدة الفقهية (الضرر يزال) وبالأخرى (يتحمل الضرر لمنع الضرر العام). وأجاب من قال بالمنع: 1 - بأن عمر - رضي الله عنه - رجع عن قوله لحاطب - كما في سنن سعيد بن منصور ومسند الشافعي وسنن البيهقي "أن عمر لما رجع حاسب نفسه، ثم أتى حاطبًا في داره، فقال: إن الذي قلتُ لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردتُ به الخير لأهل البلد" (¬3). قلت: ولكنَّ هذه الزيادة في أثر عمر ضعيفة لورودها من طريق القاسم بن محمَّد بن أبي بكر عن عمر وهو لم يسمع من عمر. ثم إن المتأمل فيما صحح من قول عمر لحاطب يجد أنه لم يسعر، وإنما أمر حاضبًا بأن يرفع سعره خشية أن يلحق الضرر بأهل السوق. والله أعلم. قلت: ويجاب عن الثاني: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أولى بإزالة الضرر حين شكى إليه المسلمون غلاء السعر فلما لم يفعل ذلك دل على عدم جواز التسعير مع تحقق الضرر والله أعلم. القول الراجح: عدم جواز التسعير مطلقًا لكن على السلطان أن يعزر من يتعمد زيادة السعر. ¬

_ (¬1) سورة: النساء: 29. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مالك في الموطأ. (¬3) إسناده ضعيف لانقطاعه: أخرجه البيهقي (2916) وفي معرفة السنن (11651).

أحكام الجوائح

• من أضرار التسعير: أنه يؤدى إلى اختفاء السلع وذلك يؤدى إلى ارتفاع الأسعار مما ينزل الضرر بالفقراء. • على السلطان أن يُجبر من يبيع السلعة بسعر دون سعر جمهور الباعة لما في ذلك من الإضرار بهم كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع حاطب -رضي الله عنه-. • أن التسعير لا يجوز مطلقًا دون تفريق بين سلعة وأخرى أو وقت وآخر. • أن مَنْ وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه، فهنا يؤمر بما وجب عليه، ويعاقب على تركه بلا ريب. • كل ما صلح أن يكون مبيعًا صلح أن يكون ثمنًا والعكس صحيح كما يفهم من كلام الجمهور. • كل من العوضين -الثمن والمثمن- ثمن للآخر، وقيل الثمن ما دخلت عليه -الباء-. • إذا تنازع المتعاقدان فيمن يسلم أولًا، فإنه يجب تسليم الثمن أولًا قبل تسليم المبيع. • إبهام الثمن في بلد فيه أنواع مختلفة من الدنانير ومتساوية في الرَّواج يفسد العقد -بجهالة مقدار الثمن- أما إذا كان بعضها أروج فالعقد صحيح، وينصرف إلى الأروج -الأشهر-. أحكام الجوائح (¬1) • هلاك المبيع وأحكامه: • تعريف الجائحة: هى كل آفة لا صنع للآدمي فيها -كالريح الشديدة، والبرد القارس، والجراد، ونحو ذلك من الآفات السماوية. • وأما ما كان من فعل الآدميين: فلا يُسمى جائحة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت إن منع الله الثمرة". ¬

_ (¬1) المغنى (6/ 177: 188) المحلى (7/ 384، 385) إعلاء السنن (14/ 49) بداية المجتهد (292/ 2) تفسير القرطبي (7/ 53) ترجيحات ابن قدامة (2/ 50/ 51/ 52) فتح المالك (8/ 36) نيل الأوطار (5/ 211) فتح البارى (4/ 403/ 453)، الشرح الممتع (8/ 371، 372)، الموسوعة الكويتية (9/ 34، 35) الفقه وأدلته (5/ 3376) الملخص الفقهى (2/ 41).

وفي هذه الحالة يكون المشتري بالخيار إن شاء فسخ العقد وطالب البائع بالثمن، وإن شاء أمسك وطالب الجانى. • وإذا كان التالف يسيرًا لا ينضبط: فإنه يفوت على المشترى، ولا يكون من مسؤولية البائع لأن هذا مما جرت به العادة ولا يسمى جائحة - كما لو أكل منه الطير أو تساقط في الأرض ونحو ذلك. • محل الجوائح من المبيعات: ومحل الجوائح هى: الثمار والبقول. • أما الثمار فلا خلاف فيها عند المالكية. • وأما البقول: ففيها خلاف والأشهر فيها الجائحة قال القرطبي: وهو الصحيح وما الفرق بين البقول والثمار أليس كلاهما يدخل في مسمى الثمرة: قال ابن حزم: وأما قول مالك في الجوائح فإنه لا يعرف عن أحد قبله مما ذكرنا عنه من التقسيم بين الثمار والقاثي وبين البقول والموز ولا يعضد قوله في ذلك قرآن ولا سنة ولا رواية سقيمة أصلا، ولا قول أحد من السلف ولا قياس (¬1). - أما في الثمار: فقيل: الثلث وبه قالت المالكية. - وأما في البقول: فقيل: لا فرق بين القليل والكثير، وقيل: في الثلث وبه قالت المالكية أيضًا. والظاهر: أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها وبه قال ابن عبد البر وابن قدامة وابن حزم ورجحه الشوكاني. وهو المعين إن شاء الله تعالى لأن الأحاديث الواردة عامة ولم تخصص بثلث ولا بغيره. • الجائحة وصلاح الثمرة: اختلف العلماء فيما توضع فيه الجوائح من الثمار على قولين: الأول: أنه لا فرق بين بدو صلاح الثمرة وعدمه فتسقط في كل منهما. لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بم تأخذ مال أخيك بغير حق" (¬2). وأمره - صلى الله عليه وسلم -: بوضع الجوائح (¬3). ¬

_ (¬1) المحلى (7/ 348). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم. (¬3) صحيح: أخرجه مسلم.

ثانيًا: التفريق بين بدو الصلاح وعدمه. فتوضح قبل بدو الصلاح ولا توضح بعد بدو الصلاح. وهو قول الجمهور لكن اشترطوا القطع، وقول أبى حنيفة وغيره من الكوفيين والليث. واختاره ابن حزم. أدلتهم: 1 - عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمر حتى يزهى قالوا: وما يزهى؟ قال: "تحمر أرأيت إذا منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك" (¬1). 2 - عن أبي سعيد الخدرى قال: أصيب رجل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" (¬2). فدل هذين الخبرين على أن الجوائح التي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوضعها هى التي تصيب ما بيع من الثمر قبل أن يزهى، وأن الجائحة التي لم يسقطها وألزم المشترى مصيبتها، وأخرجه عن جميع ماله بها هى التي تصيب الثمر المبيع بعد بدو صلاحه. وأجاب المخالفون: بأن حديث أنس يجاب عنه بأن التنصيص على الوضع مع البيع قبل الصلاح لا ينافى الوضع مع البيع بعده ولا يصلح مثله لتخصيص عادل على وضع الجوائح ولا لتقييده. وعن حديث أبى سعيد بأنه غير صالح للاستدلال به على محل النزاع، لأنه لا تصريح فيه بأن ذهاب ثمرة ذلك الرجل كان بعاهات سماوية، وأن عدم نقل تضمين بائع الثمرة لا يصلح للاستدلال به لأنه قد نقل ما يشعر بالتضمين على العموم فلا ينافيه عدم النقل في قضية خاصة. قلت: وليس فيه أيضًا ما يدل على بدو صلاح الثمرة. القول الراجح: يتعلق بمسألة جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها أو عدم جوازه. • الحكم التكليفي لوضع الجائحة: على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) صحيح. (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (1191) وأبو داود والترمذي.

(أ) أن وضعها مستحب وبه قال الجمهور. (ب) أنه واجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك" فإنه صريح في وجوب الوضع لا في استحبابه وبه قال الشوكاني. (جـ) الكراهة وهو قول أبى حنيفة وأصحابه وحملوا النهى في قوله (لا يحل) على الكراهة. • وقوع الجائحة: الأصل في ذلك: اشتراط القبض في صحة البيع. فمن اشترطه في كل شيء جعل الضمان على البائع ومن لم يشترطه جعل الضمان على المشترى. • إذا وقعت الجائحة قبل القبض: اختلف العلماء في الضمان على من يكون في الجائحة على قولين: الأول: ما أهلكته الجائحة فهو من ضمان البائع وهذا مذهب مالك، وقديم قولي الشافعي، ومذهب أحمد وسائر أصحاب الحديث وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أهل الظاهر. • أدلتهم: واستدلوا بما يأتى: (أ) عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح (¬1). (ب) وعنه -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إن بعت من أخيك شيئًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، لِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق" (¬2). وفي لفظ: "من باع ثمرًا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئًا، علام يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم". ووجه الاستشهاد منها: الصراحة في الحكم ولا يعدل عنه إلا لدليل أقوى. الثاني: تكون من ضمان المشترى: وهذا مذهب أبى حنيفة والجديد عند الشافعي: أدلتهم: ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه مسلم (1554). (¬2) صحيح: أخرجه مسلم (190) وأبو داود (3467).

(أ) حديث عمرة عن عائشة أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن ابني اشترى ثمرة فلان، فأذهبتها الجائحة فسألته أن يضع عنه فتألى أن لا يفعل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تألى فلان أن يفعل خيرًا" (¬1). قالوا: فلو كان من ضمان البائع لأجيره عليه لأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف، فتعلق بها الضمان كالنقل والتحويل. (ب) القياس على حالة إتلاف الآدمى فإن البائع لا يضمنه، فكذلك هاهنا يجامع أن الكل إتلاف لغيره. (جـ) قول الشافعي: "لم يثبت عندي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعْدُه ولو كنتُ قائلًا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير". • وأجاب أصحاب القول الأول بما يلي: 1 - حديثهم لا حجة لهم فيه، فإن فعل الواجب خير فإذا تألَّى أن لا يفعل الواجب فقد تألى أن لا يفعل خيرًا. 2 - أن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلف بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض بدليل المنافع في الإجارة. 3 - قياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة. • القول الراجح: أن الضمان على البائع لثبوت النص بذلك والله أعلم. • إذا وقعت الجائحة بعد القبض: إذا هلاك المبيع بعد القبض سواء كان ذلك بآفة سماوية أو بفعل المشترى أو بفعل البائع أو بفعل أجنبى فلا ينفسخ البيع، ويكون هلاكه على ضمان المشترى، لأن المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشترى ويُرجع بالضمان على الأجنبى حال كون الاعتداء منه. • فوائد: تضمين الإمام مالك البائع ما أصاب الرقيق في ثلاثة أيام بعد البيع استنادًا إلى حديث "عهدة الرقيق ثلاثة أيام" فيه بعدٌ لضعف ما استدل به (¬2). ¬

_ (¬1) ضعيف: أخرجه أحمد (24286/ 24623) والبيهقي (5/ ص 305) وسبب ضعفه: حارثة بن أبي الرجال ضعيف لا يحتج به. (¬2) ضعيف: أخرجه: أحمد (17290) وأبو داود (3506) وابن ماجة (2245) وسبب ضعفه الانقطاع بين الحسن وعقبة بن عمرو.

- إذا استأجر أرضًا فزرعها: فتلف الزرعُ فلا شيء على المؤْجر. نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا. - أجرة الكيال والوزان في المكيل والموزون على البائع؛ لأن عليه تقبيض المبيع للمشترى، والقبض لا يحصل إلا بذلك، فكان على البائع. - نقل المنقولات، وما أشبه، فهو على المشتري، لأنه لا يتعلق به حق توفية. - علل العلماء تضمين البائع جائحة الثمرة. بأن قبض الثمرة على رؤوس الشجر بالتخلية قبض غير تام، فهو كما لو لم يقبضها. • آثار الجائحة على عقد البيع من حيث النفاد والبطلان: 1 - إذا هلك المبيع. قبل قبض المشترى للسلعة بآفة سماوية أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع ينفسخ العقد. وإذا هلك بفعل المشترى لا ينفسخ وعليه الثمن - وإذا هلك بفعل البائع انفسخ وسقط الثمن عن المشترى. وإذا وقعت بفعل أجنبى لا ينفسح البيع ويكون المشترى بالخيار إن شاء فسخ، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن وطالب الأجنبى بالضمان. 2 - وإذا هلك المبيع قبل القبض فالعقد نافذ لا ينفسخ. • الآثار المترتبة على البيع: أولًا: انتقال الملك: يملك المشترى المبيع، ويملك البائع الثمن، ويكون ملك المشترى للمبيع بمجرد عقد البيع الصحيح ولا يتوقف على التقابض، وإن كان للتقابض أثره في الضمان وسيأتى تفصيل القول في بيع ما لم يقبض في البيوع الفاسدة. ثانيًا: أداء الثمن الحالّ: الأصل في الثمن الحلول، وهذا متفق عليه بين الفقهاء في الجملة قال ابن عبد البر: الثمن أبدأ حالّ، إلا أن يذكر المتبايعان له أجلًا فيكون إلى أجله. ثالثًا: تسليم المبيع: قال ابن رشد: أجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، ومن شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع عقد الصفقة.

البيوع المحرمة

البيوع المحرمة • إن الله تعالى قد أحل لنا البيع وهو من مستلزمات الحياة. • والبيع كما يقول أهل العلم حلال بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. • قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1). • عن رافع بن خديج قال: قيل يا رسول الله، أىُّ الكسب أطيب؟ قال: "عمل الرجل بيده وكُلُّ بيع مبرور" (¬2). • والإجماع: وقع إجماع الأمة على أن البيع حلال. • والمعقول: ما دام كل إنسان في حاجة أخيه لأنه لا يستطيع أن يحصل كل ما يريد إلا بالبيع والشراء فكان مصلحة له. • وفي القاعدة الشرعية: أن الأصل في المعاملات وأنواع التجارات والمكاسب الحل والإباحة فلا يمنع منها إلا ما حرمه الله ورسوله (¬3). • فهذا أصل عظيم، يستند إليه في المعاملات والعادات. • فمن حرم شيئًا من ذلك، فهو مطالب بالدليل، لأنه على خلاف الأصل، وبهذا يعلم سماحة الشريعة وسعتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتطورها حسب مقتضيات البشر، ومصالح الناس. • وهي قاعدة مبناها العدل والقسط ومراعاة مصالح الطرفين. • ولا تخرج المعاملة عن هذا الأصل العظيم، من الإباحة إلى التحريم، إلا لما يقترن بها من محذور، يرجع إلى ظلم أحد الطرفين، كالربا، والغرر، والجهالة، والخداع، والتغرير، وغير ذلك. فهذه معاملات عند تأملها تجدها تعود إلى ظلم أحد الطرفين. والمعاملات المحرمة ما حرمت إلا لمفاسدها وظلمها. • بعض التعريفات التي تحتاج إليها في البيوع المحرمة: • تعريف الربا (¬4): لغة: الزيادة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 275. (¬2) حسن: أخرجه أحمد (4/ 141) والطبرانى في الكبير (4411) والحاكم في المستدرك (2/ 10) وصححه الشيخ الألبانى في الصحيحة (607). (¬3) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (2/ 126). (¬4) راجع توضيح الأحكام من بلوغ المرام (4/ 5) وإعلام الموقعين (2/ 137).

شرعًا: زيادة في شيء مخصوص. • حكمه: محرم بالكتاب والسنة والإجماع. • أقسامه: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - ربا الفضل: هو بيع ربوى بمثله مع زيادة في أحد المثلين. 2 - ربا النسيئة: هو بيع الجنس الواحد ببعضه، أو بجنس آخر مع زيادة في الكيل أو الوزن في نظير تأخير القبض. 3 - ربا القرض: وهو أن يقرضه شيئًا مما يصح قرضه، ويشترط عليه منفعة مقابل القرض كسكنى داره أو ركوب دابته. وقسمه ابن القيم إلى خفي وجلي: الخفى: حرام لأنه وسيلة إلى الجلي، فتحريمه من باب تحريم الوسائل إلى المقاصد، وهذا ربا الفضل، ذلك أنه إذا بيع درهم بدرهمين تدرج به إلى الربح المؤجل، وهو علة ربا النسيئة فمن حكمة الله أن سد عليهم هذه الذريعة وهي حكمة معقولة. الجلي: هو ربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، والغالب أنه لا يفعله إلا محتاج فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، حتى ترهقه الديون، فمن رحمة الله بخلقه أنه حرمه. • تعريف الغرر (¬1): هو ما يكون مجهول العاقبة لا يدرى أيكون أم لا. • تعريف الجهالة (¬2): يراد بها الجهالة الفاحشة أو التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله، وهو النزاع الذي تتساوى فيه حجة الطرفين بالإستناد إلى الجهالة، كما لو باع إنسان شاة من قطيع. • تعريف الضرر (¬3): يراد به ما إذا كان تسليم المبيع لا يمكن إلا بإدخال ضرر على البائع، فيما ¬

_ (¬1) راجع الفقه الإِسلامى (د. وهبة الزحيلى) (4/ 435 - 437). (¬2) المصدر السابق (4/ 379). (¬3) المصدر السابق (4/ 381).

البيوع المحرمة

سوى المبيع من ماله. كما لو باع جذعًا معينًا في سقف مبنى، أو ذراعًا من ثوب يضره التبعيض، فإن التنفيذ يقضى بهدم ما حول الجذع وتعطيل الثوب. • تعريف الميسر (¬1): الميسر: هو القمار، واشتقاقه من اليُسر بمعنى السهولة، لأنه كسب بلا مشقة ولا كد، أو من اليسار وهو الغنى، لأنه سببه للرايح، أو من اليَسَر بمعنى التجزئة والاقتسام. وقيل كل شيء فيه خطر فهو من الميسر. البيوع المحرمة قد يكون التحريم بسبب الغرر والجهالة، وقد يكون بسبب الربا، وقد يكون بسبب الضرر، وغير ذلك. وإليك بعض الأمثلة: أولًا: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة: وقد سبق تعريف الغرر والجهالة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر وبيع الحصاة" (¬2). وزيادة في معنى الغرر. قال الخطابي -رحمه الله تعالى-: أصل الغرر هو ما طوى عنك علمه وخفى عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غرة أي على كسْرِ الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولًا غير معلوم، ومعجوزًا عنه، غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيعه سمكًا في الماء أو طيرًا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدًا آبقًا (¬3)، أو جملًا شاردًا أو ثوبًا في جراب لم يره ولم ينشره، أو طعامًا في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمرة شجر لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدرى هل تكون أم لا؟ فإن البيع فيها مفسوخ. ¬

_ (¬1) راجع تفسير المنار (2/ 258) والكليات لأبي البقاء الكفوي (ص:803). (¬2) أخرجه مسلم (1513) وأبو داود (3376) والترمذي (1230) والنسائي (7/ 262) وابن ماجة (2194). (¬3) العبد الآبق: هو الذي هرب من سيده.

وإنما نهى - صلى الله عليه وسلم - عن هذه البيوع تحصينًا للأموال أن تضيع وقطعًا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها. وأبواب الغرر كثيرة وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل (¬1). وقال النووى -رحمه الله تعالى-: أما النهى عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق (¬2) والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهمًا (¬3)، وبيع ثوب من أثواب، وشاه من شياه (¬4)، ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل، لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر بيعًا إذا دعت إليه حاجة كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي في ضرعها لبن، فإنه يصح للبيع، لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه، فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها. واعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة، وعسب الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هى داخلة في النهى عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهى عنها لكونها من بياعات الجاهلية الشهورة. والله أعلم انتهى باختصار (¬5). ومن أمثلة البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة ما يأتى: 1 - بيع المنابذة: هو أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل ويقول كل واحد منهما هذا بهذا. أو: كأن يقول البائع للمشترى أي ثوب نبذته إليك فسعره بثلاثين جنيهًا مع أن الأسعار داخل المحل مختلفة وكذلك إذا قال المشترى للبائع أي ثوب نبذته إلىَّ فسعره كذا. فهذا كله منهى عنه لما جاء في الحديث الصحيح. ¬

_ (¬1) معالم السنن على هامش سنن أبى داود (3/ 672). (¬2) هو العبد الذي هرب من سيده. (¬3) الصُّبرة: الطعام المجتمع كالكومة. (¬4) المقصود بالثوب والشاة: أى غير محدد ولا معلوم بعينه. (¬5) شرح صحيح مسلم (5/ 144).

- عن أبي سعيد الخدرى -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المنابذة، وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه. ونهى عن الملامسة، والملامسة: لمس الثوب لا ينظر إليه (¬1). فهذا بيع محرم للنهى عنه كما في الحديث السابق، وللجهالة، وأدائه إلى معنى القمار، ولعدم الرؤية، أو للشرط الفاسد، والغرر. 2 - بيع الملامسة: هو: أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلًا ولا يعلم ما فيه. - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيعتين ولبستين: نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذلك. والمنابذة أن ينبذ الرَّجُل إلى الرَّجُل بثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ" (¬2). - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نُهى عن لبستين: أن يحتبي الرَّجُل في الثوب الواحد، ثم يرفعه على منكبه، وعن بيعتين: اللماس، والنباذ" (¬3). - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الملامسة والمنابذة" (¬4). - فهذا البيع كسابقه منهى عنه كما بالحديث بالإضافة إلى الجهل والغرر في المعقود عليه، فأحد العاقدين تحت الخطر إما غانمًا أو غارمًا فيدخلان في باب الميسر المنهى عنه. 3 - بيع الحصاة: هو أن يلقى البائع أو المشتري بحصاة فأى ثوب وقع عليه كان هو المبيع بلا تأمل ولا روية ولا خيار بعد ذلك. - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري واللفظ له (2144) ومسلم (1512) وغيرهما. (¬2) أخرجه البخاري (2144) ومسلم واللفظ له (1512) وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري (2145). (¬4) أخرجه البخاري (2147) ومسلم (1511) وغيرهما. (¬5) أخرجه مسلم (1513) وغيره.

4 - بيع حَبَلُ الحَبَلَة: وهو: البيع بثمن مؤجل ولد ولد الناقة بمعنى تلد الناقة، ثم ينظر حتى تحبل المولودة وتلد. • عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، قال: وحَبَل الحَبَلة أن تنتج الناقة ما في بطنها، ثم تحمل التي نُتجت، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك" (¬1). • وهذا البيع باطل: لأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول، ولأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك للبائع وغير مقدور على تسليمه، وبيع غرر، وبيع ما لم يخلق، وقد أجمع العلماء: أن هذا لا يجوز في بيوع المسلمين (¬2). (5) و (6) بيع المضامين والملاقيح: والمضامين: هى ما في البطون وهي الأجنة. والملاقيح: هى ما في أصلاب الفحول. • عن سعيد بن المسيب قال: "لا ربا في الحيوان وإنما نهى من الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة والمضامين بيع ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح بيع ما في ظهور الجمال" (¬3). • فهذا البيع لا يجوز أيضًا للأسباب السابقة في حبل الحبلة. 7 - بيع عسب الفحل: • عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل" (¬4). • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع ضراب الجمل" (¬5). • عسب الفحل: هو ضراب الذكر من كل حيوان فرسًا كان أو جملًا أو تيسًا أو غير ذلك. • والمراد من النهى هو: الأجر الذي يأخذ على ضرابه. فلو استأجر فحلًا بلا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3843) ومسلم (1514) وغيرهما. (¬2) راجع صحيح مسلم بشرح النووى (5/ 146) والتمهيد لابن عبد البر بترتيب الشيخ المغراوى (12/ 182). (¬3) إسناده صحيح: أخرجه مالك في الموطأ (كتاب البيوع) باب: ما لا يجوز من بيع الحيوان. وانظر شرح السنة للبغوى (8/ 137) طبعة المكتب الإِسلامى. (¬4) أخرجه البخاري (2284) والنسائي (4685). (¬5) أخرجه مسلم (1565) والنسائي (4684).

نزاء لا يجوز، لما فيه من الغرر لأن الفحل قد يضرب وقد لا يضرب، وقد تلقح الأنثى وقد لا تلقح، وقد ذهب إلى تحريمه أكثر الصحابة والفقهاء، ورخص فيه الحسن وابن سيرين وهو قول مالك قال: لأنه من باب المصلحة ولو منع منه، لانقطع النسل، وهو كالاستئجار للإرضاع، وتأبير النخل، وما نهت السنة عنه، فلا يجوز المصير إليه بطريق القياس. أما إعارة الفحل للإنزاء وإطراقه فلا بأس به، ثم لو أكرمه المستعير بشيء يجوز له قبول كرامته: فقد رُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل ما حق الإبل؟ قال: "حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها" (¬1). وروى عن أنس بن مالك: "أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل فنهاه، فقال: يا رسول الله إنا نطرق الفحل، فنكرم، فرخص له في الكرامة" (¬2). قال معمر عن قتادة: إنه كره عسب الفحل لمن أخذه ولم ير به بأسًا لمن أعطاه (¬3) انتهى. • وقال الحافظ ابن حجر عن عسب الفحل ما نصه: وعلى كل تقدير فبيعه وإجارته حرام لأنه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه، وفي وجه للشافعية والحنابلة تجوز الإجارة مدة معلومة، وهو قول الحسن وابن سيرين ورواية عن مالك، وحمل النهى على ما إذا وقع لأمد مجهول، وأما إذا استأجره مدة معلومة فلا بأس كما يجوز الاستئجار لتلقيح النخل، وتعقب بالفرق لأن المقصود هنا ماء الفحل وصاحبه عاجز عن تسليمه بخلاف التلقيح، ثم النهى عن الشراء والكراء إنما صدر لما فيه من الغرر. وأما عارية ذلك فلا خلاف في جوازه، فإن أهدى للمعير هدية من المستعير بغير شرط جاز، وللترمذي (¬4) من حديث أنس: "أن رجلًا من كلاب سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عسب الفحل فنهاه، فقال: يا رسول الله إنا نطرق الفحل فنكرم، فرخص له في الكرامة" (¬5) انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (988). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (1274). (¬3) راجع شرح السنة للبغوى (8/ 128). (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (1274). (¬5) فتح البارى (4/ 539).

• وقال ابن العربى: فإن أجره على الطرق ليس بحمل. دخله الفساد من وجهين: أحدهما: جهالة الإجارة. والثانية: جهالة الأجل. فإن يستأجره وقضى حاجته فيه جاز قبول الكرامة بإزائه، لأنّ المكارمات بقضاء الحاجات ومقابلتها بالمشاركات والمعاوضة جائزة شرعًا، وتدخل في هبة الثواب التي استثناها الشرع من الأعواض المجهولة (¬1). انتهى باختصار. 8 - بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها (المعاومة والمخاضرة): • عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع" (¬2). • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تباع الثمرة حتى تُشْقَحَ. فقيل: وما تُشْقَح؟ قال: تَحْمَارُّ وتَصْفَارُّ ويُؤكَلُ منها" (¬3). • عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة" (¬4). • عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى يزهو (ثمرة النخل حتى تزهو) وعن السُّنْبُل حتى يَبْيَضَّ ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري" (¬5). • عن أبي البخترى قال: سألت ابن عباس عن بيع النخل؟ فقال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع النخل حتى يَأكُلَ منه أو يُؤْكَل، وحتى يوزن. قال فقلت: ما يوزن؟ فقال رجل عنده: حتى يحزر (يحرز) " (¬6). ¬

_ (¬1) عارضة الأحوذى (5/ 220). (¬2) أخرجه البخاري (2194) ومسلم (1534) وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري (2196) ومسلم (1543) (84). (¬4) أخرجه مسلم (3791). (¬5) أخرجه البخاري (2195) ومسلم واللفظ له (1535) وغيرهما. (¬6) أخرجه البخاري (2247) ومسلم (1537) وغيرهما.

• ومعنى يحرز: أي يحفظ ويصان (¬1). • ومعنى يحزر: أي يوزن أو يخرص (¬2). • وفائدة ذلك: معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يتصرف فيه المالك (¬3). • عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وعن بيع الثمر بالثمر" (¬4). • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة (قال أحدهما (¬5): بيع السنين هى المعاومة) وعن الثُّنْيَا (¬6) ورخص في العرايا (¬7) " (¬8). • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كراء الأرض (¬9)، وعن بيعها السنين، وعن بيع الثمر حتى يطيب" (¬10). • عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمزابنة" (¬11). • عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، فقيل له: وما تُزْهَى؟ قال حتى تحمر. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ ". • وفي رواية: "إن لم يثمرها الله، فبم يستحل أحدكم مال أخيه" (¬12). • عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع ثَمَر التمر حتى يزهو، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمر بم تستحل مال أخيك" (¬13). ¬

_ (¬1)، (¬2)، (¬3) راجع فتح البارى (4/ 504). (¬4) أخرجه مسلم (1538) وغيره. (¬5) المقصود أحد الرواة وهما أبو الزبير أو سعيد بن ميناء. (¬6) الثنيا: أن يثتثنى من البيع شيئًا مجهولًا فيفسد البيع. (¬7) العرايا: هي بيع الرطب على النخل بالتمر خرصا أي تخمينًا. (¬8) رواه مسلم (1543) (85). (¬9) كراء الأرض: هو إجارتها على تحديد ما يأخذ مثل ما ينبت على حافتى مسيل الماء مثلًا. (¬10) أخرجه مسلم (1543) (86). (¬11) أخرجه البخاري (2207). (¬12) أخرجه البخاري (2198) ومسلم (1555) (17). (¬13) أخرجه البخاري (2208) ومسلم (1555) (15) وغيرهما.

• معنى المخاضرة: هى بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها (¬1). • ومعنى المعاومة: هى بيع الثمار سنين، وهي ما يسميه الزراع فلان يشترى حديقة فلان سنوات وهي خشب. • وفي ذلك يقول الإمام النووى -رحمه الله-: وأما النهى عن بيع المعاومة وهو بيع السنين، فمعناه أن يبيع ثمر الشجرة عامين أو ثلاثة أو أكثر فيسمى بيع المعاومة، وبيع السنين، وهو باطل بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره، لهذه الأحاديث، ولأنه بيع غرر، لأنه بيع معدوم من مجهول غير مقدور على تسليمه وغير مملوك للعاقد. والله أعلم (¬2). • وقال المازرى: المعاومة: هى في العرف بيع الثمر سنين. وعلة المنع أنه من بيع الثمار قبل بدو صلاحها. ولأنه إذا باع سنين فمعلوم أن ما في السنة الثانية لم يوجد. وإذا منع بيعها بعد الوجود وقبل بدو الصلاح، فكيف إذا لم توجد؟ (¬3). • وقال أبو عمر ابن عبد البر: قوله في الحديث "حتى تحمر" يدل على أن الثمار إذا بدا فيها الاحمرار وكانت مما تطيب إذا احمرت مثل ثمر النخل وشبهها حل بيعها، وقبل ذلك لا يجوز بيعها، إلا على القطع في الحين. وقوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة" أي إذا بعتم الثمرة قبل بدو طيبها ومنعها الله كنتم قد ركبتم الغرر وأخذتم مال المبتاع بالباطل، لأن الأغلب في الثمار أن تلحقها الجوائح قبل ظهور الطيب فيها، فإذا طابت أو طاب أولها أمنت عليها العاهة في الأغلب وجاز بيعها، لأنّ الأغلب من هذا كله السلامة (¬4). • وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فيه بيان أن في ذلك أكلًا للمال بالباطل، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هى كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل ¬

_ (¬1) راجع فتح البارى (4/ 472) والروضة الندية (2/ 204). (¬2) شرح صحيح مسلم (5/ 207) د. قلعجى. (¬3) إكمال إكمال المعلم للأُبيّ (5/ 383). (¬4) التمهيد بترتيب الشيخ المغراوى (12/ 223 - 236).

الأموال بالباطل: فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها (¬1). • وقال ابن قدامة: لا تخلو الثمرة المباعة من أن يكون قد بدا صلاحها أو لم يبد فإن بدا صلاحها جاز البيع مطلقًا بدون خلاف. أما إذا لم يبد صلاحها فلا تخلو حالة الشراء من ثلاثة أوجه: الأول: أن يشترط المشترى بقاءها إلى الحصاد والجز. فهذا لا يجوز ودليله الإجماع المنعقد على ذلك، وسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع" (¬2). وحكى ابن المنذر إجماع العلماء على هذا. الثاني: أن يشترط البائع على المشترى القطع في الحال، وحكمه الجواز لأن المنع إنما كان خوفًا من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها. وقد روى أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، قال: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه" (¬3). وليس فيها غرر، فهو يدخل على بصيرة، وإن كان البيع قبل بدو الصلاح مع شرط القطع لا فائدة فيه غالبًا, ولهذا فحصول مثل هذا نادر أَوْ لا يكاد يقع لأن الإنسان إنما يشترى ما ينفعه والثمرة قبل بدو صلاحها لا نفع فيها في الغالب. الثالث: أن يبيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقًا من غير شرط، وقد اختلف الفقهاء في صحة هذا البيع على قولين: القول الأول: هذا البيع باطل. وهذا مذهب مالك والشافعى وأحمد. وحجتهم ما سبق من حديث أنس - رضي الله عنه -. القول الثاني: يجوز مثل هذا البيع، ويقطع في الحال. وهذا مذهب أبى حنيفة. وحجته: أن إطلاق العقد يقتضى القطع فهو كما لو اشترطه، وفسر عن البيع بأنه بيعها مدركة قبل إدراكها بدلالة قوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه" (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (29/ 48). (¬2)، (¬3)، (¬4) سبق تخريجها قريبًا.

وحاصل قوله يرجع إلى النتيجة التي ذهب إليها الجمهور وهي المنع من البيع بشرط البقاء، لأنه أجاز البيع بشرط القطع. • واختار ابن قدامة - رحمه الله - القول الأول وهو عدم الجواز (¬1). جمهور الفقهاء -بوجه عام- على أن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، غير جائز ولا صحيح (¬2). 9 - بيع المجهول: • عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا صوف على ظهر، ولا سمن في لبن، ولا لبن في ضرع" (¬3). 10 - بيع الثنيا (أو استثناء المجهول في البيع): عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وعن الثنيا ورخص في العرايا" (¬4). ومعنى الثنيا: الاستثناء، وهي في البيع: أن يبيع شيئًا ويستثنى بعضه، فإن كان المستثنى معلومًا، كشجرة معلومة من أشجار بيعت صح البيع. وإن كان مجهولًا كبعض الأشجار، لم يصح. لما فيه من الجهالة والغرر وأكل مال الناس بالباطل. 11 - بيع ما ليس عندك والرخصة في بيع السلم أو السلف: • عن حكيم بن حزام قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يأتينى الرجل يسألنى من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك" (¬5). • عن حكيم بن حزام قال: "نهانى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبيع ما ليس عندي" (¬6). ¬

_ (¬1) راجع (اختيارات ابن قدامة الفقهية 2/ 45 - 47). (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 189). (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 11935) وفي الأوسط (4/ 3720) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 10857) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 102) رجاله ثقات. (¬4) سبق تخريجه قريبًا. (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3503) والترمذى (1232) والنسائي (4627) وابن ماجة (2187) وغيرهم. (¬6) صحيح: أخرجه الترمذي (1233) وغيره.

قوله: "أبتاع له من السوق ثم أبيعه". مقصود السائل أنه هل يبيع ما ليس عنده ثم يشتريه من السوق ثم يسلمه للمشترى الذي اشترى له منه. "قال لا تبع ما ليس عندك" أي شيئًا ليس في ملكك حال العقد (¬1). • قال الخطابى: قوله: "لا تبع ما ليس عندك" يريد بيع العين دون بيع الصفة ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جَمَلُه الشارد، ويدخل في ذلك كل شىء ليس بمضمون عليه مثل أن يشترى سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها، ويدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفًا على إجازة المالك لأنه يبيع ما ليس عنده ولا في ملكه يجيزه وهو غرر لأنه لا يدرى هل يجيزه صاحبه أم لا؟ والله أعلم (¬2). • أما بيع السلم أو السلف فهو بمعنى واحد وسمى السلم سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسمى سلفًا لتقديمه قبل أوان استلام المبيع. • ومعنى بيع السلم أو السلف: هو بيع آجل بعاجل، أو بيع شىء موصوف في الذمة أي أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المثمن لأجل، وبعبارة أخرى: هو أن يسلم عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل. مثاله: كأن يقول صاحب السلم: اشتريت منك طِنًّا من الأرز صفته كذا إلى أجل كذا بسعر خمسمائة جنيهًا ويعطيه الثمن حالًا. وقبل المسلم إليه (صاحب الأرز). وهذا النوع جائز بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬3). قال ابن عباس: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه" (¬4). ¬

_ (¬1) تحفة الأحوذى (4/ 360). (¬2) معالم السنن على حاشية سنن أبى داود (3/ 769). (¬3) سورة البقرة: 282. (¬4) حسن: أخرجه الشافعى في مسنده (598) والحاكم (2/ 286) والبيهقى (6/ 18).

• عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، قال: من أسلف في شىء ففى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" (¬1). أما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز، ولأن بالناس حاجة إليه، لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم أو على الزرع ونحوها حتى تنضج، فجوز لهم السلم دفعًا للحاجة. • وقد استثنى عقد السلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم، لما فيه من تحقيق مصلحة اقتصادية، ترخيصًا للناس، وتيسيرًا عليهم، وصرح في المدونة بأن السلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه. • وقال زكريا الأنصارى: السلم عقد غرر جُوِّز للحاجة (¬2). • قال القرافى: السلف رخَّص فيه صاحب الشرع لمصلحة المعروف بين العباد فاستثناه لذلك (¬3). ظن بعض العلماء خروجه عن القياس وعده من "باب بيع ما ليس عندك" المنهى عنه في حديث حكيم بن حزام. ولكن هذا الظن بعيد عن الصواب وليس بشىء، فإن حديث حكيم بن حزام يراد به بيع عين معينة ليست في ملك البائع حينما أجرى عليها العقد، وإنما يشتريها من صاحبها فيسلمها للمشترى الذي اشتراها منه قبل دخولها في ملكه، وهذا هو صريح الحديث وقصته. فأما السلم فهو متعلق بالذمة لا العين، فهو بيع موصوف في الذمة، لذا فهو على وفق القياس، والحاجة داعية إليه (¬4). • وقال ابن القيم - رحمه الله -: وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2240) ومسلم (1604). (¬2) راجع الفقه الإِسلامى (د. وهبة الزحيلى) (4/ 598) والموسوعة الفقهية الكويتية (25/ 194 (¬3) الذخيرة (5/ 255). (¬4) توضيح الأحكام من بلوغ المرام (4/ 62).

ثانيا: البيوع المحرمة بسبب الربا

له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه. فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع" (¬1). ثانيًا: البيوع المحرمة بسبب الربا: • وقد سبق تعريف الربا: لغة وشرعًا. • وهي زيادة في شىء مخصوص. بمعنى (¬2): ليس كل زيادة ربا في الشرع، وليس كل زيادة في بيع ربا، فإذا كان المبيعات مما تجوز فيه الزيادة فلا بأس، فلو بعت سيارة بسيارتين فلا بأس، وكتابًا بكتابين فلا بأس، لأنه ليس كل زيادة تكون ربا. بل الزيادة التي تكون ربا هى: ما إذا وقع العقد بين شيئين يحرم بينهما التفاضل كالذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، ويقاس عليها ما يماثلها في العلة. • وقد اختلف العلماء في العلة: • فمذهب الحنفية والحنابلة: أن العلة في الأصناف الأربعة: الكيل، وفي الذهب والفضة: الوزن. • وعند المالكية: العلة في الأصناف الأربعة: الاقتيات والادخار، وفي الذهب والفضة: العلة فيهما غلبة الثمنية، أو جوهر الثمنية، فالعلة قاصرة على الذهب والفضة. • وعند شيخ الإِسلام في الاختيارات: العلة في الأصناف الأربعة: الطعم مع الكيل أو الوزن، وفي الذهب والفضة، مطلق الثمنية، وعليه فإن العلة متعدية إلى غيرهما كالفلوس والأوراق النقدية. • وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: وأقرب شىء أن يقال: إن العلة في الذهب والفضة كونهما ذهبًا وفضة، سواءً كانا نقدين أو غير نقدين، والدليل على أن الربا يجرى في الذهب والفضة، وإن كانا غير نقدين: حديث القلادة الذي رواه فضالة بن عبيد "أنه اشترى قلادة فيها ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (1/ 492). (¬2) راجع الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن العثيمين رحمه الله (8/ 387 - 391).

ذهب وخرز باثنى عشر دينارًا ففصلها فوجد فيها أكثر، فنهى النبى - صلى الله عليه وسلم - أن تباع حتى تفصل" (¬1). • ومعلوم أن القلادة خرجت عن كونها نقدًا، وعلى هذا فيجرى الربا في الذهب والفضة مطلقًا سواء كانتا نقدًا، أم تبرا (¬2) أم حليًّا على أي حال كانت، ولا يجرى الربا في الحديد والرصاص والصفر (النحاس) والماس وغيرها من أنواع المعادن. • أما العلة في الأربعة: كونها مكيلة مطعومة، يعني أن العلة مركبة من شيئين الكيل والطعم، إذ هذا هو الواقع فهي مكيلة مطعومة ويظهر أثر الخلاف في الأمثلة: فإذا باع صاعًا من دقيق بصاعين منه فإذا قلنا: إن العلة الكيل فلا يجوز، وإن قلنا: إن العلة الطعم جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز أيضًا. • وإذا باع فاكهة بجنسها متفاضلة فإن قلت: العلة الطعم فلا يجوز، وإن قلنا: العلة الكيل جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز، فالأمثلة تبنى على الخلاف في تحديد العلة. • فإن قال قائل: سلمنا أنها مطعومة في البر والشعير والتمر، لكن ما القول في الملح؟ أجاب عنه شيخ الإِسلام: بأن الملح يصلح به الطعام فهو تابع له، ولهذا يقال: "النحو في الكلام كالملح في الطعام" فالملح من توابع الطعام، وبناءً على هذا التعليل يجرى الربا في التوابل التي يصلح بها الطعام، لأنها تابعة له. انتهى. • وليس القصد هنا ذكر أحكام الربا وشروطه ومسائله، بل القصد هنا التعرف على أحكام بعض البيوع الربوية، وهي التي ورد النهى عنها في السنة. • ومن هذه البيوع ما يلي: 1 - بيع العينة: العينة لغة: السلف. وشرعًا: هو أن يبيع البائع شيئًا من غيره بثمن مؤجل، ويسلم إلى المشترى ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل مما باع به وينقده الثمن. ومثاله: قول القائل أنا بعت على زيد سيارة بعشرين ألفًا إلى سنة، فهذا بيع نسيئة، ثم إنى اشتريتها من هذا الرجل بثمانية عشر ألفًا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1591). (¬2) التِّبر: هو الذهب والفضة قبل أن يضربا دنانير ودراهم، فإذا ضربا كانا عينًا.

فهذا حرام لا يجوز، لأنه حيلة واضحة، لأن الرجل أعطى عينًا وأخذ عينًا، والعين النقد. وهي محرمة لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬1). إذًا هو محرم، بل من كبائر الذنوب (¬2). • من مسائل العينة في زماننا: • قال الشيخ ابن العثيمين - رحمه الله تعالى -: ومن مسائل العينة أو من التحيل على الربا ما يفعله بعض الناس اليوم، يحتاج إلى سيارة، ويذهب إلى تاجر، ويقول أنا أحتاج السيارة الفلانية في المعرض الفلانى، فيذهب التاجر ويشتريها من المعرض بثمن، ثم يبيعها بأكثر من الثمن على هذا الذي احتاج السيارة إلى أجل، فهذا حيلة ظاهرة على الربا, لأن حقيقة الأمر أنه أقرضه ثمن السيارة الحاضرة بزيادة، لأنه لولا طلب هذا الرجل ما اشتراها ولا قرب إليها، وهذه حيلة واضحة، وإن كان مع الأسف كثير من الناس انغمس فيها, ولكن لا عبرة بعمل الناس، العبرة بتطبيق الأحكام على النصوص الشرعية. وكذلك أيضًا انتشرت حيلة سابقة: يأتى الفقير إلى شخص فيقول أنا أحتاج ألف ريال، فيذهب التاجر إلى صاحب دكان عنده أكياس رز أو أي شىء فيشترى التاجر الأكياس من صاحب الدكان مثلًا بألف ريال، ثم يبيعها على المحتاج بألف ومائتين، ونحن نعلم أنه لا يجوز أن يباع قبل قبضه، فكيفية القبض عندهم أن يمسح على الأكياس بيده، مع أن النبى - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوذها التجار إلى رحالهم" (¬3) فهل هذا قبض؟ هذا يسمى عَدًّا ولا يسمى قبضًا، لكن كانوا يفعلون هذا، بعد ذلك يأتى الفقير إلى صاحب الدكان الذي عنده هذه الأكياس، ويبيعها عليه بأقل مما اشتراها من التاجر، لأن الفقير يريد دراهم ولا يريد أكياس طعام، فمثلًا يبيعها على صاحب الدكان بألف إلا مائة ريال، فيؤكل ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (3462) وغيره من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وانظر الصحيحة (11). (¬2) راجع الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله تعالى (8/ 223). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (3499) وغيره.

المسكين الفقير من الجانبين، من جانب التاجر الأول ومن صاحب الدكان، فصاحب الدكان أخذ منه مائة ريال، والتاجر أخذ مائتين زائدًا على الألف، وهذه سماها شيخ الإسلام - رحمه الله - الحيلة الثلاثية، لأنها مكونة من ثلاثة أشخاص، ومسائل الربا لا تحل بالحيل (¬1). انتهى. قلت (فؤاد): ومن مسائل العينة في عصرنا أيضًا ما يسميه بعض التجار "الحرق" أي حرق السلعة بمعنى أنه يبيع مثلًا الثلاجة للمشترى بمبلغ 1500 جنيه مؤجلًا على أقساط، ويشتريها منه نقدًا بمبلغ 1000 جنيه. • ومنهم من يقوم ببناء البيت لشخص ما فيتكلف عليه عشرون ألفًا، ويبدأ يقبض من صاحب البيت مؤجلًا ثلاثين ألفًا، أو يعمل له عمرة للسيارة وغير ذلك من الحيل الربوبية، فانتهوا أيها المرابون حتى لا تصيبكم حرب الله تعالى، واعلم أن رزقك الذي كتب لك سوف يأتيك فاطلبه بالحلال ولا تستعجل فتطلبه بالحرام، ولو صبرت لجاءك بالحلال. • قال الشيخ ابن العثيمين - رحمه الله -: واعلم: أنه كلما احتال الإنسان على محرم لم يزدد إلا خبثًا، فالمحرم خبيث، فإذا احتلت عليه صار أخبث، لأنك جمعت بين حقيقة المحرم وبين خداع الرب عَزَّ وَجَلَّ، والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية "وإنما الأعمال بالنيات" (¬2) ولولا الزيادة الربوية ما عرفت هذا الرجل، والعجيب أن الشيطان يغر ابن آدم فيقول: نحن نفعل هذا رحمة بالفقير من أجل أن تتيسر أحواله، ولولا هذا ما تيسرت، لكن أقول لكم كلما كان أفقر صارت الزيادة عليه أكثر، فهذه نقمة وليست رحمة، فمثلًا: يأتى إنسان متوسط الحال يستدين من هذا الرجل فيبيع عليه ما يساوى ألفًا بألف ومائتين، ويأتى إنسان آخر يستدين من أجل أن يأكل هو وأهله فيبيع عليه ما يساوى ألفًا بألف وخمسمائة، فيقول: لأن هذا لا يفى، ومتى يفى؟ فأين الرحمة؟ ولو كان غرضه الرحمة بالفقير لكان هذا الثاني أولى بالرحمة من الأول المتوسط الحال، لكن الشيطان يلعب على ابن آدم (¬3). انتهى. ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (8/ 224 - 225). (¬2) أخرجه البخاري، ومسلم وغيرهما. (¬3) الشرح الممتع (8/ 226).

• وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: فيا سبحان الله! أيعود الربا الذي عظَّم الله شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله، ولعن آكله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجىء في غيره إلى أن يستحل نوعاه بأدنى حيلة لا كلفة فيها أصلًا إلا بصورة عقد هى عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها؟ (¬1). 2 - بيع المزابنة والرخصة في العرايا: المزابنة: مأخوذة من الزَبْن. وهو في اللغة: الدفع لأنها تؤدى إلى النزاع والمدافعة. وفي الاصطلاح الفقهى: المزابنة: هى كل شىء من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده، ابتيع بشىء مسمى من الكيل، والوزن، والعدد ظنًا وتقديرًا، وذلك بأن يقدر مثلًا الرطب على النخل بمقدار مائة صاع، فيبيع بقدره من التمر. • عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطة، إن كانت نخلًا، بتمر كيلًا، وإن كان كرمًا، أن يبيعه بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا، أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله" (¬2). • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة والمحاقلة" (¬3). • عن سهل بن أبي حثمة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر (بالتمر) وقال: "ذلك الربا، تلك المزابنة" إلا أنه رخص في بيع العريَّة النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت يخرصها تمرًا، يأكلونها رطبًا" (¬4). • والعريَّة: مفرد العرايا. • وهي بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض. • اتفق العلماء على تحريم بيع المزابنة لأنها ربا، لأنه بيع مكيل بمكيل من جنس مع عدم المساواة بينهما بالكيل أو لعدم العلم بالمماثلة فيهما. • قال صديق حسن خان - رحمه الله -: ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (3/ 295). (¬2) أخرجه البخاري (2205) ومسلم (1542) وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري (2381) ومسلم (1543) وغيرهما. (¬4) أخرجه البخاري (2383) ومسلم (1540) وغيرهما.

والذي أخبرنا بتحريم الربا، ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا، والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة ومن منع ذلك فقد تعرض لرد الخاص بالعام ولرد الرخصة بالعزيمة ولرد السنة بمجرد الرأى، وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة: كما روى عن أبي حنيفة - رحمه الله - ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة كما وقع في حديث جابر (¬1). فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك (¬2). • قال ابن المنذر: ادعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه - صلى الله عليه وسلم - من بيع الثمر بالتمر وهذا مردود لأن الذي روى النهى عن بيع الثمر بالتمر هو الذي روى الرخصة في العرايا فأثبت النهى والرخصة معًا (¬3). • وعند الحنابلة: (لا تجوز العريَّة إلا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشترى إلى الرطب. والله أعلم) (¬4). 3 - بيع المحاقلة: المحاقلة في اللغة: مأخوذة من الحقل: وهو الحرث، وموضع الزرع. • وفي الاصطلاح: بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية بالظن والتقدير. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة" (¬5). • قال النووى - رحمه الله -: اتفق العلماء على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا، وأنه ربا، وأجمعوا أيضًا على تحريم بيع العنب بالزبيب، وأجمعوا أيضًا على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية، وهي المحاقلة (¬6). ¬

_ (¬1) عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أذن للعرايا أن يبيعوها يخرصها يقول: "الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة" وهو حديث صحيح: أخرجه أحمد (3/ 360) وابن حبان (5008) وغيرهما. (¬2) الروضة الندية (2/ 239). (¬3) فتح البارى (4/ 453). (¬4) فتح البارى (4/ 459). (¬5) أخرجه البخاري (2381) ومسلم (1543). (¬6) شرح صحيح مسلم (5/ 197).

• ولا يختلف الفقهاء في أن بيع المحاقلة غير جائز، وهو فاسد عند الحنفية، باطل عند غيرهم، وذلك لحديث جابر السابق ذكره، ولأنه بيع مكيل بمكيل من جنسه، فلا يجوز خرصا (ظنًّا وتقديرًا) لأن فيه شبهة الربا الملحقة بالحقيقة في التحريم. ولعدم العلم بالمماثل، والجهل بالتساوى كالعلم بالتفاضل وأيضًا تزيد المحاقلة -كما قال الشافعية على المزابنة- فإن المقصود من المبيع فيها مستور بما ليس من صلاحه فانتفت الرؤيا أيضًا (¬1). 4 - بيع اللحم بالحيوان: عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان" (¬2). • قال أبو عمر ابن عبد البر: وقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث وفي معناه، فكان مالك يقول: المراد من هذا الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد، وهو عنده من باب المزابنة والغرر, لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر. • وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلًا، فكذلك بيع الحيوان باللحم إذا كانا من جنس واحد، والجنس الواحد عنده. الإبل والبقر والغنم وسائر الوحش وذوات الأربع المأكولات، هذا كله عنده جنس واحد؛ لا يجوز بيع لحمه بلحمه إلا مثلًا بمثل. • ولحوم الطير كلها صنف واحد: الإوز، والبط، والدجاج، والحمام واليمام، ولا يجوز لحم شىء منه بشىء من الجنس المذكور، إلا مثلًا بمثل، ويجوز على التحرى. قال ابن عبد الحكم: لا يجوز التحرى إلا فيما قل مما يدرك ويلحقه التحرى، وأما ما كثر، فلا يجوز فيه التحرى، لأنه لا يحاط بعلمه انتهى باختصار (¬3). ¬

_ (¬1) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 138). (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 655)، قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث يتصل من وجه ثابت من الوجوه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب هذا. التمهيد (12/ 135) وقال الإمام البغوي: حديث ابن المسيب وإن كان مرسلًا، لكنه يتقوى بعمل الصحابة، واستحسن الشافعي مرسل ابن المسيب. شرح السنة (8/ 77). (¬3) التمهيد بترتيب الشيخ المغراوى (12/ 136، 140).

5 - بيع الأشياء بجنسها وبينهما فضل، أو بغير جنسها نسيئة كان ربا: عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البُرَّ بالبُرِّ، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يدًا بيد كيف شئتم، وأما نسيئة فلا" (¬1). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" (¬2). عن أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه - قال: جاء بلال إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - بتمر بَرْنىٍّ، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم -: "من أين هذا؟ " قال بلال: كان عندي تمر ردىء، فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبى - صلى الله عليه وسلم -. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "أوّه، أوّه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشترى فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" (¬3). • قال ابن عبد البر: الربا عند جماعة العلماء في المصنف الواحد يدخله من جهتين، وهما: النساء والتفاضل، فلا يجوز شىء من الأنواع الستة بمثله إلا يدًا بيد مثلًا بمثل على ما نص عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا اختلف الجنس جاز فيه التفاضل، ولم يجيز فيه النساء. وقاسوا عليها ما أشبهها وما كان في معناها (¬4). • قال الإِمام البغوي - عن حديث "لا تبيعوا الذهب بالذهب" الحديث. - في الحديث بيان تحريم الفضل والنساء في الصرف عند اتفاق الجنس. - وفي الحديث دليل على أنه لو باع حُليًّا من ذهب بذهب لا يجوز إلا متساويين في الوزن، ولا يجوز طلب الفضل للصنعة، لأنه يكون بيع ذهب بذهب مع الفضل. وفيه دليل على أنه لو باع مال الربا بجنسه ومعهما، أو مع أحدهما شىء آخر، مثل أن باع درهمًا ودينارًا بدينارين أو بدرهمين، أو باع درهمًا وثوبًا بدرهمين، أو بدرهم وثوب، لا يجوز، لأن اختلاف الجنس في أحد شقى الصفقة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1587) وأبو داود (3349) والبغوي في شرح السنة (8/ 2056) وغيرهم. (¬2) أخرجه مسلم (1588) وغيره. (¬3) أخرجه البخاري (2312) ومسلم (1594) وغيرهما. (¬4) راجع التمهيد بترتيب الشيخ المغراوى (12/ 51).

يوجب توزيع ما في مقابلتهما عليهما باعتبار القيمة وعند التوزيع يظهر الفضل، أو يوجب الجهل بالتماثل حالة العقد، والجهل بالتماثل في بيع مال الربا بجنسه بمنزلة يقين التفاضل في إفساد البيع، وإلى هذا ذهب بعض أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قول شريح، وابن سيرين، وإبراهيم النخعى، وإليه ذهب ابن المبارك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق (¬1). • ومن ذلك لا يجوز إبدال الذهب القديم بالجديد مع إعطاء الفرق بمعنى أن المرأة تعطى الصائغ 100 جم من الذهب القديم وتستبدله بوزن 200 جم وتدفع الفرق من الجنيهات مثلًا. وهذه صورة من صور الربا المحرم. • وقد سئل الشيخ ابن العثيمين - رحمه الله تعالى - عن ذلك فقال: لا يجوز أن تبدل ذهبًا رديئًا بذهب طيب وتعطى الفرق. هذا محرم ولا يجوز ويدل لذلك ما يثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة بلال - رضي الله عنه -: جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - بتمر جيد فقال له: "من أين هذا" قال بلال: كان عندنا تمر ردىء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبى - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوه لا تفعل عين الربا عين الربا" (¬2). فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن زيادة ما يجب فيه التساوى من أجل اختلاف الوصف أنها هى عين الربا وأنه لا يجوز للمرء إن يفعله ولكن سول الله - صلى الله عليه وسلم - كعادته أرشده إلى الطريق المباح فأرشده النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يبيع الردىء بدراهم ثم يشترى بالدراهم تمرًا جيدًا وعلى هذا فنقول إذا كان لدى المرأة ذهب ردىء أو ذهب ترك الناس لبسه فإنها تبيعه بالسوق ثم تأخذ الدراهم وتشترى بها ذهبًا طيبًا تختار هذه الطريقة التي أرشد إليها نبينا - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ومن الأخطاء أيضًا بيع الذهب بالأجل، فلابد أن يكون يدًا بيد أي خذ وهات بمعنى ادفع الثمن حالًا وخذ ذهبك وزنًا أما إذا أخذ الذهب ودفع نصف المبلغ أو تبقى من المبلغ شىء لو يسيرًا أعطاه بعد يوم أو أكثر فهذا لا يجوز لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: "بيعوا الذهب بالذهب ... يدًا بيد كيف شئتم، وأما نسيئة فلا". ¬

_ (¬1) شرح السنة (8/ 65، 66). (¬2) سبق تخريجه قريبًا. (¬3) فقه وفتاوى البيوع (ص: 386، 387) جمعها: أشرف عبد المقصود.

والنسيئة هى التأخير عن الدفع حالًا. وكذلك لا يجوز بيع الذهب بالشيكات، وذلك لأن الشيكات ليست قبضًا، وإنما هى وثيقة حوالة فقط (¬1). وكذلك لا يجوز بيع العملة بأجل، فتأخير أحدهما من ربا النسأ، وهو حرام مطلقًا (¬2). ولا يجوز بيع العملات من الجنس الواحد متفاضلة فمثلًا نجد بعض الناس يشترى فئة عشرة جنيهات القديمة بفئة عشرين جنيهًا، بزعم قد أصبحت عُملة أثرية. فهذا لا يجوز للحديث السابق ذكره. "الدينار بالدينار لا فضل بينها ... ". إذ الجنس الواحد لابد فيه من التقابض والتساوى في بيع بعضه ببعض، وهذا المعنى لا يقتصر على العملات الورقية فقط، بل كل الأجناس الربوية تأخذ نفس الحكم لعموم الأدلة السابقة. 6 - بيع الكالئ بالكالئ (الدَّين بالدين): عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، يعني الدَّين بالدَّين" (¬3). على ضعف هذا الحديث. أجمعت الأمة على عدم جواز بيع الدين بالدين. • وفي ذلك يقول الإِمام أحمد - رحمه الله -: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين (¬4). • وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 389، 391). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (13/ 441 - 443). (¬3) إسناده ضعيف: أخرجه الحاكم (2/ 57) والدارقطنى (3/ 71، 72) والبيهقي (5/ 290 - 291) والطبرانى في الكبير (4/ 267) وغيرهم وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف. وانظر تلخيص الحبير (3/ 62) رقم (1209)، وإرواء الغليل (5/ 1382). (¬4) تلخيص الحبير (3/ 62). (¬5) الإجماع لابن المنذر (ص 56) والمغنى (6/ 106).

• ومعنى الكالئ بالكالئ: أي النسيئة بالنسيئة، وذلك أن يشترى الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضى به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شىء، فيبيعه منه ولا يجرى بينهما تقابض (¬1). - وهذه الصورة محرمة بإجماع الأمة، لما فيها من الربا الحرام تطبيقًا لقاعدة "زدنى في الأجل وأزيدك في القدر". ولكن لبيع الدين صور أخرى منها ما هو جائز ومنها ما هو حرام. فمثلًا: بيع الدين على الغير: فلا يجوز أن يباع بالدين بل ولا بالعين. مثال ذلك: إنسان في ذمته لشخص مائة صاع بُر فجعل هذا الرجل يطلبه يقول أعطنى يا فلان وهو يماطل به، فقيل للرجل الذي له الحق نعطيك عنها مائة درهم، ونحن نأخذها من المطلوب فلا يجوز، حتى وإن كان بعين فإنه لا يجوز، فلو قيل: لهذا الرجل الذي له مائة صاع في ذمة فلان سوف نعطيك عنها مائة ريال تأخذها نقدًا فإنه لا يجوز، لأنه يشبه أن يكون غير مقدور على تسليمه، وإذا كان كذلك فإنه يكون فيه غرر إذ إن المطلوب قد يوفى كاملًا وقد لا يوفى فلا يصح. لكن لو كان الذي اشترى دين فلان قادرًا على أخذه منه كرجل له سلطة يستطيع أن يأخذ هذا المال الذي في ذمة الرجل في ساعة فالصحيح: أنه يجوز، لأن العلة عن نهى بيع ما في الذمم إنما هى الخوف من الغرر، وعدم الاستلام فإذا زالت العلة زال المعلول وزال الحكم. ولكن إذا قلنا يجوز إذا كان قادرًا على أخذه لابد أن يكون المدين قد أقر بالدين، أما إذا كان منكرًا، وجاء إنسان وقال أنا أريد أن أشترى دين فلان الذي هو لك وهو منكر ولم يقر، ولكن قال أخاطر فأشتريه وأطالبه عند القاضى فلا يجوز، لأنه مخاطرة، لكن كلامنا فيما إذا باع دينًا في ذمة مقر على شخص قادر على استخراجه، فالصواب أنه جائز. ومن صوره بيع الدين على من هو في ذمته. مثاله: أنا أطلب شخصًا مائة صاع بُر فجاء إلىَّ وقال: أنا ليس عندي بُر، ولكن أنا أعطيك عن المائة صاع مائتى ريال، فهنا بيع دين بدين ففيه تفصيل. إن كان باعه بسعر وقته فلا بأس وإن باعه بأكثر فإنه لا يجوز. ¬

_ (¬1) النهاية لابن الأثير (4/ 194).

والدليل: حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كنا نبيع الإبل بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ عنها الدراهم" فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شىء" (¬1) فاشترط النبى - صلى الله عليه وسلم - شرطين: الشرط الأول: أن تأخذها بسعر يومها. الشرط الثاني: أن لا يتفرقا وبينهما شىء. فالعلة في الشرط الأول: إذ إنه إذا أخذها بأكثر فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه. وقد نهى النبى - صلى الله عليه وسلم -: "عن ربح ما لم يضمن" (¬2). مثاله: الدينار يساوى عشرة فقال: أنا آخذ منك: بأحد عشر فهذا لا يجوز، لأن الذي أخذ بأحد عشر بدل الدينار ربح درهمًا فربح في شىء لم يدخل في ضمانه، لأن الدنانير في ضمان من هو في ذمته، ولم يدخل عليه إلى الآن. والمعنى: أن ربح ما لم يضمن: هو أن يبيعه سلعة قد اشتراها ولم يكن قبضها نهى من ضمان البائع الأول ليس من ضمانه فهذا لا يجوز بيعه حتى يقبضه فيكون في ضمانه. أما العلة في الشرط الثاني: لأنه سيأخذ عن الدنانير دراهم وبيع الدنانير بالدراهم لابد فيها من القبض في مجلس العقد، وحينئذ لو لم يقبض لبطل العقد، كما لو باع دنانير بدراهم ولم يقبض فإنه يبطل العقد (¬3). والخلاصة: أن الأصل عدم جواز بيع الدين في الصرف، لأنه يؤدى إلى الربا. وأما في غير الصرف والسلم فبيع الدين إذا كان من المدين نفسه فجائز في أكثر صوره لحصول القبض من قبل، وإذا كان لغير المدين فإن كان بثمن عين فيجوز في أكثر صوره، بشرط كون الدين مستقرًا، وكون المدين مليا ومقرا، لإمكان التسليم والقبض، وعدم الغرر والضرر، وأما بيع الدين لغير المدين بالدين ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد (2/ 83) وأبو داود (3354) وغيرهما. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (2/ 174) وأبو داود (3504) وغيرهما. (¬3) راجع الشرح الممتع (8/ 432 - 436).

فإنه لا يجوز في أكثر صوره، لما فيه من الغرر والجهالة والنهى الوارد في ذلك من عدم جواز بيع الكالئ بالكالئ (¬1). 7 - بيعتين في بيعة وهل يلحق بهذا النوع البيع بالتقسيط؟ • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة" (¬2). • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" (¬3). • واختلف العلماء في معنى بيعتين في بيعة: قال الترمذى - رحمه الله -: والعمل على هذا عند أهل العلم. وقد فسَّر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة، أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما، فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما. قال الشافعي: ومن معنى نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، أن يقول: أبيعك دارى هذه بكذا. على أن تبيعنى غلامك بكذا. فإذا وجب لي غلامك وجب لك دارى، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدرى كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته (¬4). • قال الخطابى - رحمه الله - في معالم السنن تعليقًا على حديث "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا": لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحح البيع بأوكس الثمنين، إلا شىء يحكى عن الأوزاعى وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل. انتهى. • وتعقبه الشوكانى - رحمه الله - في نيل الأوطار فقال: ولا يخفى أن ما قاله هو ظاهر الحديث، لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع به. انتهى. ¬

_ (¬1) مجلة الشريعة والدراسات الإِسلامية الكويتية العدد (35) (ص 329). (¬2) حسن: أخرجه الترمذى (1231) وغيره. وراجع إرواء الغليل (5/ 149). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (3461) وغيره. وراجع إرواء الغليل (5/ 149 - 150). (¬4) سنن الترمذى (3/ 533)، بعد الحديث رقم (1231).

• وقال أيضًا الخطابى في معالم السنن باختصار: وإنما المشهور عن أبي هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن بيعتين في بيعة" فأما على الوجه الذي ذكره أبو داود، (المقصود حديث ... فله أوكسهما أو الربا) فيشبه أن يكون ذلك في حكومة في شىء بعينه، كأنه أسلفه دينارًا في قفيزين إلى شهر، فهذا بيع ثانٍ قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتقابضا الأول كانا مُرْبيين. ثم قال: وتفسير ما نهى عنه من بيعتين في بيعة على وجهين: أحدهما: أن يقونا بعتك هذا الثوب نقدًا بعشرة ونسيئة بخمسة عشر، فهذا لا يجوز لأنه لا يدرى أيهما الثمن الذي يختاره منهما فيقع به العقد، وإذا جهل الثمن بطل البيع. والوجه الآخر: أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرين دينارًا على أن تبيعنى جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضًا فاسد لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارًا وشرط عليه أن يبيعه جاريته بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه، وإذا ألزمه سقط بعض ثمنه، وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولًا. - ومن هذا الباب أن يقول: بعتك هذا الثوب بدينارين على أن تعطينى بهما دراهم صرف عشرين أو ثلاثين بدينار، فأما إذا باعه شيئين بثمن واحد، كدار وثوب، أو عبد وثوب فهذا جائز وليس من باب البيعتين بالبيعة الواحدة، وإنما هى صفقة واحدة جمعت شيئين بثمن معلوم وعقد البيعتين في بيعة واحدة على الوجهين اللذين ذكرناهما عند أكثر الفقهاء فاسد. انتهى. - وقوله: "فله أوكسهما" قال الشوكانى - رحمه الله -: يدل على أنه باع الشىء الواحد بيعتين، بيعة بأقل وبيعة بأكثر. وقيل في تفسير ذلك هو أن يسلفه دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعنى القفيز الذي لك علىَّ إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة، لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول. كذا في شرح السنن لابن رسلان (¬1). ¬

_ (¬1) راجع معالم السنن للخطابى على هامش سنن أبى داود (3/ 739، 740) ونيل الأوطار للشوكانى (6/ 287) وعون المعبود شرح سنن أبى داود (9/ 238) وعارضة الأحوذى لابن العربى (5/ 191، 192).

- وفسره الحنابلة بأن يشترط أحد المتبايعين على الآخر عقدًا آخر، كسلف وقرض، وبيع وإجارة وشركة ونحو ذلك، كقول البائع للمشترى: بعتك كذا بكذا على أن تؤجرنى دارك بكذا ونحو ذلك، فهذا الشرط يبطل العقد عندهم من أصله. وحكمه البطلان، لأنه إذا فسد الشرط وجب رد ما يقابله من الثمن، وهو مجهول فيصير الثمن مجهولًا. وفسره بعضهم بأن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بألفين نسيئة، وبألف نقدًا، فأيهما شئت أخذت به. • أما ابن القيم فيقول: (البيعتان في بيعة) أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم يشتريها منه بثمانين حالة، فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا. وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الثمنين فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا, ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى. أما أخذه بمائة مؤجلة أو بثمانين حالة، فليس في هذا ربا ولا جهالة، وإنما خيره بأى الثمنين شاء. • قال الشيخ عبد الرحمن السعدى: الذي يدخل في النهى عن بيعتين في بيعة مسألة العينة وعكسها، لأن فيه محذور الربا وحيلة الربا. - وأما تفسير الحديث بأن يقول: بعتك هذا البعير بمائة على أن تبيعنى الشاة بعشرة، فلا تدخل لأنه لا محذور في ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام من بلوغ المرام للشيخ/ عبد الله البسام (7/ 449، 450).

باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة؟

باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة (¬1)؟ وفيه مباحث: المبحث الأول: معنى بيع التقسيط لغةً وشرعًا: أولًا: في اللغة: يطلق التقسيط في اللغة على معانٍ منها: 1 - التفريق وحمل الشىء أجزاء، يقال: قسط الشىء أي فرّقه وجعله أجزاء، والدّين جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة (¬2). 2 - الاقتسام بالسّويّة: يقول الليث: تقسطوا الشىء بينهم أي اقتسموه بالسوية. وفي العباب على القسط والعدل. وفي اللسان على العدل والسواء (¬3). فهو بهذا المعنى تجزئة الشىء إلى أجزاء متماثلة، كتأجيل دين بخمسمائة دينار إلى خمسة أسابيع على أن يدفع منه مائة دينار كل أسبوع (¬4). 3 - التقتير، يقال: قسط على عياله النفقة تقسيطًا إذا قترها عليهم. وقال الطرماح: كفاه كف لا يرى سبيها ... مقسطًا رهبة إعدامها (¬5) ¬

_ (¬1) بحث في حكم البيع بالتقسيط للدكتور محمد عقلة الإبراهيم نشرته مجلة الشريعة العدد السابع (ص 135 - 219) (تصدر عن جامعة الكويت). (¬2) لسان العرب، المجلد السابع، فصل القاف، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، (1388 هـ -1968 م). المعجم الوسيط، المكتبة العلمية، طهران، فعل قسط. المصباح المنير، مطبعة مصطفى الحلبى، معجم متن اللغة، لأحمد رضا -باب القاف- فعل قسط. المعجم العربى الحديث، خليل الحر، باب القاف، فعل قسط. (¬3) تاج العروس، المجلد الخامس، فصل القاف من باب الطاء، قسط: دار ليبيا للنشر، بنغازى، القاموس المحيط: الفيروزابادى، فصل القاف، باب الطاء. (¬4) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: مكتبة النهضة، بيروت، بغداد. (¬5) تاج العروس، لسان العرب، المعجم الوسيط.

4 - والقسط الحصة والنصيب: يقال: تقسطنا الشىء بيننا أي أخذ كل حصته ونصيبه. ويقال: وفاه قسطه أي نصيبه وحصته (¬1). ومن خلال استعراضنا لهذه المعانى يظهر أن المعنيين الأول والثانى هما أقربها إلى المعنى الشرعى الاصطلاحى لبيع التقسيط. فهما يفيد أن تفريق الشىء إلى أجزاء على وجه من العدل والمساوة، وإذا كان الشىء المقسط هو الدّين فالمراد جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة. ثانيًا: في الاصطلاح الشرعى: من المعانى التي يمكن اعتبارها بيانًا للمراد ببيع التقسيط في المفهوم الشرعى: "أن يبيع التاجر السلعة مدفوعة الثمن فورًا بسعر، ومؤجلة أو مقسطة الثمن بسعر أعلى" (¬2). "التقسيط: تأجيل أداء الدّين مفرقًا إلى أوقات معينة" (¬3). "الثمن المقسط هو ما اشترط أداؤه أجزاء معلومة في أوقات معينة" (¬4). ويبدو للناظر في هذه المعانى أن بيع التقسيط من المنظور الشرعى هو بيع السلعة بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال، على أن يكون دفع ذلك الثمن مفوقًا إلى أجزاء معينة، وتؤدى في أزمنة محددة معلومة. • بين التأجيل والتقسيط: لما وضح لنا في ضوء المعنى الشرعى لبيع التقسيط أن عامل الأجل عنصر أساسى فيه ناسب المقام أن نبين العلاقة بين التأجيل والتقسيط. فالتأجيل هو تأخير دفع ثمن السلعة إلى زمن مستقبل سواء كان ذلك الزمن شهرًا أم عامًا، وسواء أكان البائع يقبض الثمن جملة واحدة أم على دفعات. أما التقسيط فهو تأجيل دفع الثمن على أن يقبضه المشتري على دفعات. ¬

_ (¬1) "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية"، إسماعيل بن حماد الجوهرى -تحقيق: أحمد عطا عبد الغفور -المجلد الثالث- الطبعة الأولى: دار العلم للملايين، القاهرة، 1979. (¬2) "مقومات الاقتصاد الإسلامى"، د. عبد السميع المصري: مكتبة وهبة -الطبعة الأولى 1975، ص 107 نقلًا عن كتاب "التجارة في الإِسلام" للدكتور عبد الغنى الراجحى. (¬3) "درر الحكام شرح مجلة الأحكام"، المادة (157)، (3/ 110). (¬4) "شرح المجلة"، منير القاضى، الجزء الأول، ص 280، الطبعة الأولى، مطبعة العانى 1949، وزارة المعارف.

وعليه، يمكن القول بأنه يوجد بين التأجيل والتقسيط علاقة عموم وخصوص مطلق، ففى كل تقسيط تأجيل، فالتأجيل هو العموم المطلق، وقد يكون في التأجيل تقسيط وقد لا يكون. فالتقسيط أخص من التأجيل (¬1). المبحث الثاني: صورة المسألة: أن بيع التقسيط يحقق مصلحة تعود على كل من البائع والمشترى، إذ تتمثل مصلحة البائع في تيسير السبل وفتح الأبواب لنفاق (*) سلعته وواجبها، أما المشترى فتظهر مصلحته في حصوله على السلعة التي تمس حاجته إليها, ولا يملك ثمنها في الحال، بأن يدفع ذلك الثمن مؤجلًا على دفعات تتناسب وقدراته المالية، علاوة على ما يعطيه الأجل من فرصة لإنماء المال أو كسبه فيدفع الثمن دون عنت أو إرهاق. وعلى هذا، فصورة بيع التقسيط -والذي أخذ طابعًا من الشيوع والانتشار في عصرنا -تتم بأن يقصد المستهلك- لاسيما صاحب الدخل المحدود، والذي يحتاج إلى سلعة تسد حاجة من حاجاته أو توفر له أسباب العيش الكريم، أو تجلب له الكسب والنماء أحيانًا من غسالة أو ثلاجة أو سيارة وغير ذلك من الأدوات والآلات الكهربائية والميكانيكية والأثاث -يقصد- التاجر الذي يبيع هذه المواد بالتقسيط فيخبره بثمنها إذا أراد أن يدفع حالًا وثمنها إذا أراد أن يدفع مقسطًا، وهو طبيعة الحال أعلى من الثمن الحال، فإذا ما اختار المشترى الثمن المؤجل المقسط وتم الاتفاق على ذلك كانت تلك صورة بيع التقسيط الذي نحن بصدد الحديث عنه. المبحث الثالث: مظان مسألة البيع بالتقسيط وأصولها: لم يكن اصطلاح البيع بالتقسيط معروفًا عند علماء الشريعة والفقه الإسلامى قبل القرن الحالى، حيث عرف وشاع هذا النوع من البيع، ومن البديهى والأمر كذلك أن لا يكون للمصطلح وجود في كتب الحديث النبوى وهي إحدى المصادر الرئيسية التى يستقى منها الفقه أحكامه. ولما كان الأمر كذلك، اقتضى أن نبين المواطن وأن نشير إلى المظان التي فيها جذور هذه المسألة وأصولها في مصادر الحديث والفقه. ¬

_ (¬1) "درر الحكام" (2/ 111). (*) "المجلة: نَفَق البيع ينفق بالضم نفقًا، راج".

ففى كتب الحديث نجد أصل هذا النوع من البيع قد ورد في المواطن التالية: أولًا: حديث نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة. ثانيًا: حديث نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة بألفاظه المختلفة. ثالثًا: الأحاديث التي تتضمن نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شرطين في بيع، أو بيع وشرط، أو بيع وسلف. فقد ورد في شروح هذه الأحاديث ما يفيد أن من الصور التي تعنيها هذه الأحاديث: أن يبيع الرجل السلعة نقدًا بكذا، ونسيئة بكذا ... وهذا المعنى يعتبر أصل مسألة بيع التقسيط. أما في كتب الفقه الإسلامى فنجد أصل مسألة بيع التقسيط يرد تحت عنوان "البيوع الفاسدة" أو "البيوع المنهي عنها" في كتب البيوع. أو في باب بيوع الآجال. فقد تناولت تلك الكتب في عداد حديثها عن البيوع المنهى عنها، البيوع التى ذكرت آنفًا في كتب الحديث وبيان الفقهاء لمعانى تلك الأحاديث، والتي تتضمن الصورة التي أسلفت وهي أن يقول البائع للمشترى: هذه السلعة حالًا بكذا، ومؤجلًا بكذا، ومن ثم، فإن إعطاء المسألة حقها من الوضوح والجلاء يستوجب الخطوات التالية: 1 - ذكر الأحاديث النبوية الشريفة التي تعتبر أهم مظان مسألة بيع التقسيط مع تخريجها بألفاظها المختلفة، وبيان درجتها من الصحة. 2 - إثبات عبارات أمهات كتب الحديث التي تناولت هذه الأحاديث بالبيان والشرح. 3 - إيراد عبارات الفقهاء في شرحهم لهذه الأحاديث عند كلامهم على البيوع المنهى عنها. 4 - استخلاص علة تحريم هذه البيوع كما وردت صريحة في عبارات علماء الفقه والحديث، مما يعني أن وجود العلة يقتضى المعلول وهو الحرمة، وانتفاءها يقتضى انتفاءه فتكون جائزة. 5 - الانتهاء إلى نتيجة مفادها أن بيع التقسيط جائز على ضوء تلك المقدمات أم غير جائز. وبيان الأمور السالفة الذكر بصورة وافية يحتاج إلى بلورتها على النحو التالى:

المطلب الأول: نص الأحاديث النبوية وتخريجها: الحديث الأول: ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (¬1). الحديث الثاني: ما روى عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة (¬2). الحديث الثالث: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل سلف وبيع" ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما لم يضمن "ولا بيع ما ليس عندك" (¬3). المطلب الثاني: معنى الأحاديث النبوية: لما كنت بصدد التماس أصول مسألة البيع بالتقسيط والوقوف على مظانها، ألفيت ذلك مسوغًا لبيان ما تحمله عبارات العلماء -سواء شراح الحديث النبوى، أم مبينو معانيه من الفقهاء- من معان، حتى أتمكن في ضوئها من التعرف على تلك الأصول والمظان. ومما هو جدير بالتنبيه عليه في هذا المجال أن لتلك الأحاديث الشريفة معانٍ ¬

_ (¬1) حسن: رواه مالك في "الموطأ" بلاغًا / 460، وأحمد في "مسنده" (2/ 432، 475)، والترمذي في "سننه"، وقال: حديث حسن صحيح (3/ 524)، والنسائي في "سننه" (2/ 226)، والبيهقي في "سننه" (5/ 343)، والبغوي في "شرح السنة" (8/ 142)، وابن حبان كما في موارد الظمآن رقم (1109)، وابن الجارود رقم (600)، والحديث أخرجه كذلك أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد صحيح (2/ 175). كما أخرجه من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بلفظ "مطل الغنى ظلم، وإذا أحلت على ملىء فاتبعه، ولا بيعتين في بيعة" (2/ 71)، وبهذا اللفظ أخرجه الترمذى (3/ 52)، وابن ماجة رقم (2404)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/ 8 - 9) دون الجملة الأخيرة، والبزار في كشف الأستار بلفظ نهى عن بيعتين في بيعة (2/ 91)، والحديث أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه بلفظ "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" (7/ 192/ 2)، وعنه أبو داود في "سننه" (2/ 246)، وابن حبان كما فى موارد الظمآن (1110). والحاكم في المستدرك: وقال: صحيح على شرط مسلم (2/ 45)، والبيهقي في "سننه" (5/ 343)، وصححه ابن حزم في المحلى (9/ 16)، وراجع "إرواء الغليل" (5/ 149). (¬2) صحيح لغيره: أخرجه أحمد (1/ 398)، والطبرانى في "الأوسط" (1633) وغيرهما. راجع: "مجمع الزوائد" (4/ 84 - 85)، و"إرواء الغليل" (5/ 148 - 149). (¬3) حسن: أخرجه أبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (4615)، وابن ماجة (2188) وغيرهم. وانظر: "إرواء الغليل" (5/ 146 - 148).

عديدة، بسطتها كتب الحديث والفقه، ولما كان ميدان هذا البحث هو بيع التقسيط فسوف أقتصر على المعنى الوثيق الصلة به منها، تحاشيًا للإطالة والإطناب، ونظرًا لكون تلك المعانى بعيدة أو عديمة الارتباط بموضوع البحث، هذا، مع العلم بأن تلك المعانى قد أشارت إليها المصادر التى سأعتمد عليه في القضية موضع البحث في نفس المكان لمن رغب في الوقوف عليها. أولًا: معنى هذه الأحاديث عند علماء الحديث: 1 - حديث نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة. قال الترمذى في بيان معناه: وقد فسر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، ونسيئة بعشرين, ولا يفارقه على أحد البيعتين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما. قال الشافعى: ومن معنى نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك دارى هذه بكذا على أن تبعنى غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجب لك دارى، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدرى كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته (¬1). وبهذا المعنى فسره صاحب معالم السنن (¬2)، وصاحب بذل المجهود (¬3) وصاحب عون المعبود (¬4) وصاحب نصب الراية (¬5) وصاحب سبُل السلام (¬6)، وصاحب نيل الأوطار (¬7) وصاحب فتح العلام (¬8). ¬

_ (¬1) "الجامع الصحيح وهو سنن الترمذى"، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (3/ 524). (¬2) "معالم السنن"، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابى ت 388 هـ، (3/ 123): المكتبة العلمية، ط 2، 1401 هـ، 1981 م. (¬3) "بذل المجهود في حل ألفاظ أبى داود"، للشيخ أحمد السهارنغورى، (15/ 135): دار الكتب العلمية، الطبعة والتاريخ: بدون. (¬4) "عون المعبود شرح سنن أبى داود"، للشيخ أبى الطيب محمد شمس الحق آبادى، (9/ 332): المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط 2، 1388 هـ، 1969 م. (¬5) "نصب الراية لأحاديث الهداية"، لجمال الدين أبى محمد بن عبد الله بن يوسف الزيلعى ت 762 هـ: من مطبوعات المجلس العلمى -الهند، وطبع بمصر 1357 هـ، 1938 م، الطبعة الأولى. (¬6) "سبل السلام شرح بلوغ المرام"، للإمام محمد بن إسماعيل الكحلانى ثم الصنعانى ت 1189 هـ (3/ 16) ط 4: مطبعة عيسى الحلبى. (¬7) "نيل الأوطار منتقى الأخبار" للشيخ محمد بن علي الشوكانى (5/ 172): مكتبة ومطبعة الحلبى بمصر، الطبعة الأخيرة. (¬8) "فتح العلام لشرح بلوغ المرام" (2/ 13): دار صادر -بيروت.

وجاء في الموطأ وشرح الزرقانى عليه: قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعة بدينار نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل، حال كونه قد وجبت عليه -أى لزمه- بأحد الثمنين: أن ذلك مكروه لا ينبغى لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة، وهذا من بيعتين في بيعة فيمنع لذلك (¬1). وقال النسائي: باب بيعتين في بيعة، هو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة دينار نقدًا، وبمائتى دينار نسيئة (¬2) وبمثله فسره البيهقى (¬3) والمناوى (¬4). ما تقدم يتبين لنا بجلاء أن أكثر المعانى شيوعًا لهذا الحديث هو أن يذكر البائع للمشترى ثمنين أحدهما عاجل وآخر أكثر منه مقدارًا، وهذه الصورة هى الأساس لبيع التقسيط، وسيتضح ذلك ببيان علتاه. 2 - حديث نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة. إن المتتبع لعبارات شراح الحديث لمعنى صفقتين في صفقة يجد أنها قد اقتصرت على تفسير سماك له، فقد روى أسود عن شريك عن سماك أنه قال: الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنساء (*) بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا. وهذا المعنى هو الذي أورده أحمد في مسنده مع الفتح الربانى (¬5) كما نقله صاحب عون المعبود (¬6)، وصاحب منتقى الأخبار (¬7)، وصاحب نصب الراية (¬8). ¬

_ (¬1) "شرح موطأ مالك"، تأليف أبى عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقانى ت 1122 هـ، (4/ 271)، تحقيق ومراجعة: إبراهيم عطوة عوض: مكتبة مصطفى الحلبى، ط1، 1382 هـ -1962 م. (¬2) "سنن النسائي" للحافظ أبى عبد الرحمن النسائي ت 303 هـ (7/ 60): مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبى، ط1، 1283 هـ -1964 م. (¬3) "السنن الكبرى"، للإمام أبى بكر أحمد بن الحسين البيهقى (5/ 343)، ط1، دار المعرفة، بيروت، لبنان. (¬4) "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمحدث محمد المدعو عبد الرؤوف المناوى (6/ 308)، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، ط1، 1470 هـ. (*) المجلة: النسيئة كالتفعيلة: التأخير، وكذا: النسا بفتح ومد. (¬5) "الفتح الربانى لترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيبانى"، لأحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتى، (15/ 45) ط1، 1370 هـ. (¬6) "عون المعبود" (9/ 332). (¬7) "منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار"، لمجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحرانى المعروف بابن تيمية، ت 621 هـ وعليه "شرح نيل الأوطار" للشوكانى (5/ 172). (¬8) "نصب الراية" لأحاديث الهداية (4/ 20).

وقال ابن أبي شيبة: أن يقول الرجل إن كان نقدًا فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا (¬1). 3 - حديث "شرطان في بيع"، "سلف وبيع"، "بيع وشرط": أما "شرطان في بيع" فقد قال صاحب المنتقى شرح الموطأ في بيان معناه: أن يقول: بعت هذه السلعة نقدًا بكذا، وبكذا نسيئة (¬2)، وبمثله فسره النسائي (¬3)، كما نقل كل من صاحب عون المعبود (¬4) ونيل الأوطار (¬5) تفسير البغوي له بهذا المعنى، وبه فسره الإمام زيد (¬6) وصاحب فيض القدير (¬7). أما صاحب سبل السلام (¬8) وصاحب فتح العلام (¬9) فقد أورد كل منهما تفسيرين أحدهما المتقدم، والثانى أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعنى السلعة الفلانية بكذا. أما "سلف وبيع" فقد فسره صاحب فتح العلام: بأن يريد الشخص أن يشترى سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النساء، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة (¬10). وبمثله فسره صاحب سبل السلام (¬11) وصاحب نيل الأوطار إلا أنه علق على هذا المعنى بقوله: والأولى تفسير الحديث بما تقتضيه الحقيقة الشرعية أو اللغوية أو العرفية أو المجاز عند تعذر الحمل على الحقيقة، لا بما هو معروف في بعض المذاهب غير معروف في غيره (¬12). ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (8/ 2/192). (¬2) "المنتقى شرح الموطأ"، للقاضى أبى الوليد سليمان بن سعد الباجى، (5/ 36)، الناشر: دار الكتاب العربى، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1403 هـ -1983 م. (¬3) "سنن النسائي" (7/ 258). (¬4) "عون المعبود" (9/ 403). (¬5) "نيل الأوطار" (5/ 203). (¬6) "مسند الإمام زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب - رضي الله عنهم -"، ص 260: منشورات مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، طبعة 1966. (¬7) "فيض القدير" (6/ 332). (¬8) "سبل السلام" (3/ 17). (¬9) "فتح العلام" (2/ 13). (¬10) نفس الكان. (¬11) "سبل السلام" (3/ 17). (¬12) "نيل الأوطار" (5/ 202).

مما تقدم من معانٍ أوردتها كتب الحديث لمعنى "بيعتين في بيعة"، "صفقتين في صفقة"، "شرطين في بيع"، يظهر لنا أن نتفق في معنى واحد وهو أن يبيع التاجر سلعته بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحاضر. ثانيًا: معنى الأحاديث النبوية عند علماء الفقه: وردت عن فقهاء مختلف المذاهب الإسلامية معانٍ للأحاديث الثلاثة المتقدمة، سأحاول فيما يأتى بيانها بالقدر الذي يسمح به المقام. 1 - في الفقه الحنفى: قال صاحب المبسوط: وصفة الشرطين في بيع أن يقول: بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا (¬1). وبمثل هذا المعنى فسره صاحب تحفة الفقهاء (¬2)، وصاحب بدائع الصنائع (¬3)، وصاحب الفتاوى البزازية (¬4)، وصاحب حاشية الشلبى على الكنز (¬5) وصاحب فتح القدير (¬6) كما أن صاحب كتاب "اختلاف الفقهاء" قد أورد هذا المعنى عن أبي حنيفة وأصحابه (¬7). 2 - في الفقه المالكى: جاء في الموطأ: قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعته بدينار نقدًا أو ¬

_ (¬1) "المبسوط" لشمس الدين السرخسى (7/ 8، 28): دار المعرفة، بيروت، ط 3 بالأوفست، 1398 هـ -1978 م. (¬2) "تحفة الفقهاء" لعلاء الدين السمرقندى ت 529 هـ، (2/ 46): دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405 هـ، 1984 م. (¬3) "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" لعلاء الدين الكاسانى ت 587 هـ، (6/ 3041)، الناشر: زكريا على يوسف. (¬4) "الفتاوى البزازية، بهامش الفتاوى الهندية"، لحافظ الدين محمد بن شهاب المعروف بابن البزازات 827 هـ، (4/ 431)، الناشر: المكتبة الإسلامية، تركيا، ط 2: المطبعة الأميرية ببولاق، 1310 هـ. (¬5) حاشية الشيخ شهاب الدين الشلبى على كنز الدقائق: دار المعرفة، بيروت، ط1 المطبعة الأميرية ببولاق 1314 هـ. (¬6) "شرح فتح القدير على الهداية" للإمام كمال الدين بن الهمام، ت 681 هـ (6/ 446): مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبى، ط 1، 1398، 1979 م. (¬7) "اختلاف الفقهاء" لأبي جعفر محمد بن جرير الطبرى (33): دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 2.

بشاة موصوفة إلى أجل، وقد وجبت عليه بأمر الثمنين أن ذلك مكروه لا ينبغى لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن بيعتان في بيعة، وهذا بيعتين في بيعة (¬1). وبمثل هذا المعنى ورد تفسير الحديث في بداية المجتهد (¬2) والقوانين الفقهية (¬3) والكافى (¬4). وجاء في مختصر خليل في ذكر البيوع المنهى عنها: وكبيعتين في بيعة يبيعها بإلزام بعشرة نقدًا أو أكثر لأجل. وقد بينه صاحب "جواهر الإكليل" بقوله: (وكبيعتين فى بيعة) أي عقد واحد، في الموطأ نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، ومحمله عند مالك على صورتين أشار المصنف لإحداهما بقوله (يبيعها) أي مالك السلعة المعينة، (بشرط إلزام) للمشترى أو للبائع بالشراء، وأنه ليس له تركه على وجه يتردد فيه، ويحصل به الغرر كبيعها (بعشرة) من الدراهم مثلًا (نقدًا) أى حالة (أو) بـ (أكثر) منها كعشرين (لأجل) كشهر، ومفهوم بإلزام أنه لو كان بالخيار في الأخذ والترك جاز له ذلك (¬5). وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الدردير في الشرح الكبير والدسوقى في حاشيته عليه (¬6) وصاحب التاج والإكليل (¬7)، وصاحب مواهب الجليل (¬8)، كما أورد صاحب كتاب اختلاف الفقهاء هذا المعنى عن الإمام مالك (¬9). ¬

_ (¬1) "الموطأ" (460). (¬2) "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد القرطبى (2/ 133، 134): المكتبة التجارية الكبرى بمصر. (¬3) "القوانين الفقهية" لابن جزى المالكي ت 1346 هـ، ص 629، ط1: دار الفكر. (¬4) "الكافي في فقه أهل المدينة المالكي" لأبى عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبى، (2/ 740) ط 2، (1400 هـ، 1980 م) مكتبة الرياض الحديثة. (¬5) "جواهر الإكليل" للشيخ صالح عبد السميع الأبى الأزهرى وشرح مختصر خليل عليه (2/ 22): مطبعة عيسى الحلبى. (¬6) "الشرح الكبير" لأبى البركات الشيخ أحمد الدردير بهامش حاشية الدسوقى عليه للشيخ شمس الدين محمد عرفة الدسوقى (2/ 58)، مطبعة عيسى الحلبى. (¬7)، (¬8) "التاج والإكليل لمختصر خليل" لأبى عبد الله العبدري المشهور بالمواق ت 897 هـ بهامش مواهب الجليل لأبى عبد الله محمد المغربى المعروف بالخطاب ت 954 هـ (4/ 364، 365)، ط 2، 1398 هـ -1978 م. (¬9) "اختلاف الفقهاء" (33).

3 - في الفقه الشافعى: قال الإمام الشافعى فيما رواه المزنى في المختصر عنه في معنى بيعتين في بيعة، وهما وجهان، أحدهما: أن يقول بعت هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين نسيئة، قد وجب لك بأيهما شئت أنا، أو شئت أنت، فهذا بيع الثمن فيه مجهول، وثانيهما: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعنى دارك بألف (¬1)، والحديث بهذا المعنى ذكره صاحب المهذب (¬2) والتنبيه (¬3)، والنووى في المجموع (¬4)، والروضة (¬5) وشارحو المنهاج، كصاحب مغنى المحتاج (¬6) وصاحب نهاية المحتاج (¬7) وصاحب تحفة المحتاج (¬8) وشارحو المنهج، كصاحب فتح الوهاب (¬9) وحاشية البجيرمى (¬10) وحاشية سليمان الجمل (¬11). وقال الغزالى: أن يقول: بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقدًا فخذ بأيهما شئت (¬12). ¬

_ (¬1) "مختصر المزنى" للإمام إبراهيم المزنى الشافعى بهامش كتاب الأم للشافعى (2/ 204): طبعة دار الشعب. (¬2) "المهذب في فقه الإمام الشافعى" لأبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازى الفيروزآبادى ت 476 هـ (1/ 267)، الناشر: مكتبة عيسى البابى الحلبى بمصر. (¬3) "التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعى" لأبى إسحاق الشيرازى (63)، الطبعة الأخيرة 1370 هـ: مطبعة مصطفى الحلبى. (¬4) "المجموع شرح المهذب" لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى ت 676 هـ (9/ 372، 377)، الناشر: زكريا على يوسف. (¬5) "روضة الطالبين" للإمام أبى زكريا محيى الدين النووى (3/ 397)، الناشر: المكتب الإسلامى للطباعة والنشر. (¬6) "مغنى المحتاج إلى معرفة معانى ألفاظ المنهاج" للشيخ محمد الخطيب الشربينى ت 997 هـ (2/ 30): المطبعة التجارية الكبرى بمصر. (¬7) "نهاية المحتاج شرح المنهاج" لمحمد أبى العباس أحمد بن حمزة الرملى ت 1004 هـ، (3/ 57)، مطبعة مصطفى الحلبى، الطبعة الأخيرة 1376 هـ -1967 م. (¬8) "تحفة المحتاج وبهامشها حاشية الشروانى" لأبى حجر الهيثمى (4/ 294): المطبعة الوهبية - القاهرة. (¬9) , (¬10) "فتح الوهاب بشرح الطلاب" للشيخ أبى زكريا الأنصارى بهامش حاشية البجيرمى على المنهج (2/ 209)، المطبعة التجارية الكبرى بمصر. (¬11) "حاشية الشيخ سليمان الجمل على المنهج" (3/ 73)، المطبعة التجارية الكبرى بمصر. (¬12) "الوجيز في الفقه الشافعى" للإمام محمد بن محمد الغزالى ت 505 هـ (1/ 38): مطبعة الآداب والمؤيد بمصر، 1317 هـ.

4 - في الفقه الحنبلى: يقول صاحب "المغنى" وقد روى أبو هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة". ... مثل أن يقول: بعتك دارى هذه على أن أبيعك دارى الأخرى بكذا، أو على أن تبيعنى دارك، أو على أن أؤجرك ... فهذا كله لا يصح " .. وقد روى في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر نسيئة .. وهو أيضًا باطل" (¬1). وبمثل هذا المعنى فسره صاحب الفروع (¬2) وصاحب حب الإنصاف (¬3) وصاحب المقنع (¬4)، وصاحب التنقيح المشبع (¬5). 5 - تفسير علماء السلف وأصحاب المذاهب الأخرى للأحاديث: لقد ورد عن علماء السلف الصالح من الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- ما يفيد أن هذه الأحاديث تعنى أن يقول: هو بنقدٍ كذا، وبنسيئةٍ كذا، فقد ورد هذا المعنى عن علي - رضي الله عنه - (¬6) وابن عباس - رضي الله عنهما - (¬7) وابن مسعود - رضي الله عنه - (¬8)، كما نقل مثله عن الأوزاعى وعطاء والثورى (¬9) والقاسم بن محمد (¬10) والشعبى وابن سيرين - رضي الله عنهم - أجمعين (¬11). ¬

_ (¬1) "المغنى لابن قدامة" أبى محمد عبد الله بن أحمد المقدسى، المتوفى 620 هـ (4/ 259): مكتبة الجمهورية العربية بمصر. (¬2) "الفروع" لأبى عبد الله محمد بن مفلح المقدسى، ت 793 هـ (4/ 30): دار الطباعة بمصر، الطبعة الثانية، 1962 م. (¬3) "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد"، لعلاء الدين أبى الحسن المرداوى (4)، ط1، 1378 هـ: مطبعة السنة المحمدية، القاهرة. (¬4) "المقنع في فقه الإمام أحمد" لأبى محمد بن عبد الله بن قدامة المقدسى، (2/ 17)، الطبعة الثالثة، 1393 هـ. (¬5) "التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع"، لعلاء الدين أبى الحسن المرداوى، ت 885 هـ (125): الطبعة السلفية بمصر. (¬6) "الإسلام وثقافة الإنسان"، د. سميح عاطف الزين (378). (¬7) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 193). (¬8) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 138). (¬9) "اختلاف الفقهاء" (31 - 33). (¬10) "الموطأ" (460)، الزرقانى على الموطأ (271)، تنوير الحوالك شرح الموطأ (2/ 75). (¬11) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 138).

وبهذا المعنى أيضًا فسره الظاهرية (¬1) والأباضية (¬2) والشيعة الزيدية (¬3). مما تقدم من أقوال العلماء في معنى الأحاديث النبوية الشريفة الثلاثة يظهر أن هذه الأحاديث تفيد معنيين: الأول: وهو أرجحهما، وأكثرهما ورودًا عند العلماء هو أن يقول البائع للمشترى بعتك هذه السلعة بسعر معجل بكذا، وبمؤجل كذا -وهو أصل مسألة بيع التقسيط. الثاني: أن يقول للمشترى أبيعك كذا على أن تبيعنى أو تؤجرنى أو تقرضنى كذا. المطلب الثالث: علة التحريم في البيوع المذكورة: من خلال الحديث عن معنى "بيعتين في بيعة" و"صفقتين في صفقة" و"شرطين في بيع" و"بيع وسلف" تبين أن هذه الأنواع بمعانيها التي ذكرت منهى عنها بصريح وصحيح السنة النبوية، ولما كانت هذه البيوع تقع في إطار المعاملات المالية، فإن البحث عن علة التحريم يعتبر أمرًا مقبولًا شرعًا, ولما كانت القاعدة الشرعية تذهب إلى أن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، فإن وقوفنا على تلك العلة يوضح لنا في أي الأحوال تكون تلك البيوع في دائرة الحظر -حال وجود العلة- وفي أي الأحوال تكون في إطار الإباحة -حال انتفاء العلة- وهذا ما سنحاوله فيما يأتى: أولًا: علة النهى عند علماء الحديث: أن المتتبع لعبارات كتب الحديث النبوى وشروحها العديدة يجد أن تحريم البيعتين في بيعة وما إليها من البيوع موضوع البحث مرده إلى جهالة الثمن الذي تم به البيع. ¬

_ (¬1) "المحلى" لأبى محمد بن محمد بن حزم الظاهرى ت 456 هـ (9/ 627): مكتبة الجمهورية العربية بمصر. (¬2) "شرح النيل وشفاء الغليل"، لمحمد بن يوسف أطفيش، ت 1332 هـ، (4/ 74)، طبعة القاهرة، 1343 هـ. "الإيضاح" للشيخ عماد بن علي الشماخى، (3/ 70 - 72)، ط1: دار الفتح 1390 هـ - 1971 م. (¬3) "البحر الزخار الجامع لمذاهب الأمصار"، لأحمد بن يحيى المرتضى بن مفضل الحسنى، ت 840 هـ (4/ 294)، ط 1، 1948: مؤسسة الرسالة، بيروت، شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار لأبى الحسن بن مفتاح (3/ 83، 84): دار إحياء التراث العربى، بيروت.

يقول الترمذى في سننه تعقيبًا على حديث النهى عن بيعتين في بيعة: وفسره بعضى أهل العلم، أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدًا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحدهما (¬1). فهذا القول يفيد أن علة النهى هى جهالة المتعاقدين بالثمن، إذ يقبض المشترى السلعة ويفارق البائع دون أن يعين ما إذا كان الثمن المعجل أو المؤجل هو الذي تم به البيع، أما إذا انتفت العلة بأن حدد المشترى أي الثمنين يختار لإتمام العقد به فإن العقد يصح لانتفاء الجهالة المفضية إلى المنازعة. وهذه العلة هى التي نص عليها الخطابى (¬2) والصنعانى (¬3) والشوكانى (¬4) وصاحب بذل المجهود (¬5) وفتح العلام (¬6). ثانيًا: علة النهى عند الفقهاء: قال السرخسى في شأن علة النهى "وإذا اشترى شيئًا إلى أجلين وتفرق على ذلك لم تجز ... وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما وأمضى البيع عليه جاز" (¬7) وقال في موضع آخر بعد بيان معنى بيعتين في بيعة .. فهو فاسد لأنه لم يقاطعه على ثمن معلوم .. فإن كانا يتراضيان بينهما ولم يفترقا حتى قاطعه على ثمن معلوم، وأتما العقد عليه فهو جائز، لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شروط الصحة" (¬8). وهذا ظاهر في أن علة النهى عن بيعتين في بيعة وفي معناها هى عدم العلم بالثمن الذي تم عليه العقد، مما يعني أنه إذا انتفت العلة المذكورة وعلم الثمن يصح البيع. وما ذهب إليه السرخسى هو ما ذهب إليه غيره من فقهاء الحنفية كعلاء الدين ¬

_ (¬1) "سنن الترمذى" (3/ 533). (¬2) "معالم السنن" (3/ 123). (¬3) "سبل السلام" (3/ 16). (¬4) "نيل الأوطار" (5/ 172). (¬5) "بذل المجهود" (15/ 136). (¬6) "فتح العلام" (2/ 13). (¬7)، (¬8) "المبسوط" (13/ 28، 13/ 8).

السمرقندى (¬1) وعلاء الدين الكاسانى (¬2) والسلبى في حاشيته على الكنز (¬3) والكمال بن الهمام (¬4). 2 - في الفقه المالكى: ويبين علة النهى عندهم ما قاله الدسوقى في هذا الصدد: وهي أن يبيع السلعة بتًّا بعشرة أو أكثر لأجل معين، ويأخذها المشترى على السكوت، ولم يعين أحد الأمرين، ويختار بعد أخذها أحد الثمنين المعجل أو المؤجل، وإنما منع للجهل بالثمن حال البيع" (¬5). وفي مواهب الجليل على مختصر خليل يقول في بيان العلة: (وكبيعها بالإلزام) أي بالإلزام للمتبايعين أو لأحدهما، فلا يجوز إلا إذا كان لهما الخيار معًا ... ويقول تعقيبًا على قول الدردير: وإنما قال بالإلزام احترازًا مما إذا باع ذلك على خيار لهما أو إحداهما فإن ذلك يجوز ويقول: شرط الجواز أن ينتفى الأمران أعنى اللزوم لهما أو لأحدهما" (¬6). ومن خلال هذه العبارات يظهر لنا أن علة النهى عند المالكية تتراوح بين الجهل بالثمن وبين سد ذريعة الربا, ولذا اشترطوا أن لا يكون هناك إلزام للبائع أو المشترى وذلك لاحتمال أن يكون من له الخيار قد وقع في نفسه أن يختار الشراء بالثمن المعجل وعندها يلزمه ما اختاره، ولما كان شأن الإنسان أن يقع في التردد إذا كان أمامه فرصته للتأمل والاختيار فربما يخطر له أن يختار المؤجل بعد ذلك، فكأنه قد باع ما هو معجل بالمؤجل وبينهما فارق في الثمن، وهو ما يمكن أن يكون ذريعة إلى الربا، وهو ما عناه الإمام مالك بتعليله منع هذا البيع حين قال: لأنه إن أخر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن قصد العشرة كان إنما اشترى بها الخمسة عشر إلى أجل" (¬7). ¬

_ (¬1) "تحفة الفقهاء" (2/ 46). (¬2) "بدائع الصنائع" (6/ 3083). (¬3) "حاشية الشلبى على الكنز" (4/ 54). (¬4) "فتح القدير" (6/ 262). (¬5) "حاشية الدسوقى على الشرح الكبير" (2/ 58). (¬6) "مواهب الجليل". (¬7) "الموطأ" (460).

وهذه العلل أوردها غير من ذكرنا من فقهاء المالكية كالزرقانى (¬1) وابن جزى (¬2) والموّاق (¬3). 3 - في الفقه الشافعى: المتتبع لعبارات فقهاء المذهب الشافعى يجد أنها تكاد تطبق على اعتبار الجهل بالثمن وإبهامه وعدم استقراره هى علة تحريم الأنواع التي نحن بصددها من البيوع سواء بطريق الصراحة أو الدلالة. فأبو إسحاق الشيرازى يقول بعد بيان معنى بيعتين في بيعة .. فالبيع باطل لأنه لم يعقد على ثمن بعينه (¬4). ويقول النووى: .. وهو باطل، أما لو قال: بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة فيصح العقد (¬5) وإلى مثل هذا ذهب الشافعى (¬6) وابن الرفعة (¬7) والشيخ زكريا الأنصارى (¬8) والبجيرمى (¬9) وسليمان الجمل (¬10) والخطيب الشربينى (¬11) والرملى (¬12) وجلال الدين المحلى (¬13) وغيرهم. 4 - في الفقه الحنبلى: إن علة النهى عن بيعتين في بيعة وغيرها من البيوع التي اعتبرناها أصولًا لمسألة البيع بالتقسيط تتمثل عند علماء الحنابلة بالجهل في الثمن وما يصاحبه من غرر أو مقامرة وما إليها .. يقول العبدري في شأن تلك العلة " .. لم يصح ما لم ¬

_ (¬1) "شرح الزرقانى على الموطأ" (4/ 270). (¬2) "القوانين الفقهية" (269). (¬3) "التاج والإكليل" (4/ 364). (¬4) "المهذب" (1/ 267). (¬5) "الروضة" (3/ 397). (¬6) "مختصر المزنى" (2/ 204). (¬7) "نيل الأوطار" (5/ 172). (¬8) "فتح الوهاب" (2/ 209). (¬9) "حاشية البجيرمى" (2/ 209). (¬10) "حاشية الجمل" (3/ 73). (¬11) "مغنى المحتاج" (2/ 30). (¬12) "نهاية المحتاج" (3/ 57). (¬13) "شرح الجلال المحلى على المنهاج" (2/ 177).

يتفرقا على أحدهما -الثمن المعجل والمؤجل- وهو المذهب نص عليه -يعني الإمام أحمد- وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم" (¬1). ويقول ابن القيم "وليس هاهنا ربًا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شىء من المفاسد .. " (¬2). وإلى هذه العلة ذهب ابن قدامة في المغنى (¬3) والمقنع (¬4) وابن مفلح المقدسى (¬5) والبهوتى (¬6) وغيرهم. 5 - العلة عند السلف من الصحابة والتابعين، والمذاهب الأخرى، وبعض المعاصرين: لقد ذهب كثير من علماء السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم- إلى أن علة النهى عن بيعتين في بيعة وما إليها من البيوع المنهى عنها هى الجهل بالثمن الذي تم عليه العقد -صراحة أو دلالة- يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لا بأس أن يقول للسلعة هى بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا, ولكن لا يفترقان إلا عن رضى" (¬7)، أى بأحد الثمنين. ويقول الأوزاعى: "لا بأس بذلك -بيعتين في بيعة- ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد الثمنين" (¬8) وإلى مثل هذا ذهب أبو عبيد والثورى (¬9) والزهرى وطاوس وقتادة وسعيد بن المسيب (¬10) والحكم وحماد (¬11). ¬

_ (¬1) "الإنصاف" (4/ 350). (¬2) "إعلام الموقعين" لأبى عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية ت 751 هـ (3/ 150)، ط 8: مكتبة ومطبعة عبد السلام شقرون. (¬3) "المغنى" (4/ 295). (¬4) "المقنع" (2/ 17). (¬5) "الفروع" (4/ 30). (¬6) "كشاف القناع عن متن الإقناع" للشيخ منصور بن يونس البهوتى، (3/ 174): مكتبة الرياض الحديثة. (¬7) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 20). (¬8) "معالم السنن" (3/ 12)، "اختلاف الفقهاء" (32). (¬9) "نيل الأوطار" (5/ 172). (¬10) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 136 - 138)، للحافظ أبى بكر عبد الرزاق الصنعانى ت 211 هـ ط1: منشورات المجلس العلمى. (¬11) "أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك" للشيخ محمد زكريا الكاندهلوى (11/ 291): المكتبة الإعدادية -مكة- دار الفكر، بيروت.

وبهذا المعنى علله فقهاء الشيعة (¬1) والأباضية (¬2) وصاحب الروضة الندية (¬3) وصاحب كتاب "المعاملات في الإسلام" (¬4)، و"منهاج المسلم" (¬5). وفي ضوء ما ذكرنا من أقوال علماء المذاهب الفقهية المختلفة في تقصى علة عدم جواز البيعتين وما إليها، ظهر لنا بكل جلاء أن العلة عندهم -على تفاوت عباراتهم- لا تخرج عن جهل الثمن الذي تم العقد عليه، أو سد ذريعة الربا كما عند المالكية. وعليه، فإذا ارتفعت هذه العلة من بيع التقسيط بحيث يذكر البائع للمشترى ثمنين: أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه، فيختار المشترى واحدًا منهما بعينه قبل التفرق من مجلس العقد فإن هذا البيع يكون جائزًا شرعًا. المطلب الرابع: حكم البيعتين فى بيعة: لقد ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى أن بيعتين في بيعة باطل أو فاسد (¬6) ولم يشذ عن القول ببطلانه إلا نفر من الفقهاء كطاوس والحكم وحماد، وقد نقلنا عن غير واحد من العلماء قوله أن كلامهم ¬

_ (¬1) "شرائع الإسلام فى مسائل الحلال والحرام"، لأبى بكر القاسم نجم الدين الشيعى الجعفرى ت 676 هـ/ 26، القسم الثاني، في العقود، الفصل الرابع، شرح الأزهار (3/ 83، 84). (¬2) "الإيضاح" (3/ 70 - 72)، "البيان الشافى في البرهان الكافي" (1/ 387). (¬3) "الروضة الندية شرح الدرر البهية" لأبى الطيب صديق بن حسن بن علي الحسينى التنوجى (2/ 105): دار المعرفة، بيروت. (¬4) "إن الدين عند الله الإسلام"، المعاملات في الإسلام، أحمد عبد الجواد (3/ 41)، مطبعة محمد هاشم الكتبى، دمشق. (¬5) "منهاج المسلم" لأبى بكر الجزائرى (320)، الطبعة الثامنة، 1396 هـ، 1976 م: دار الفكر، بيروت. (¬6) البيع الباطل هو ما كان غير مشروع لا بأصله ولا بوصفه، والفاسد ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه. ويكون البيع باطلًا إذا أورث خللًا في ركن البيع، ويكون فاسدًا إذا أورثه في غيره كالتسليم والتسلم الواجبين به، والانتفاع المقصود منه، وعدم الإطلاق عن شرط لا يقتضيه وغير ذلك، والباطل لا يفيد ملك الرقبة ولا ملك التصرف، ولا ينقلب صحيحًا بحال، أما الفاسد فلا يفيد ملك الرقبة ولكنه يفيد ملك التصوف قبل فسخ العقد، فهو وإن أفاد الملك وهو مقصود في الجملة، لكنه لا يفيد تمامه، إذ لم ينقطع به حق البائع من البيع، ولا المشتري من الثمن، فلكل منهما حق الفسخ، ولكنه ينقلب صحيحًا بالقبض وبتعيين المدة أو الثمن، فالفاسد إذن تلحقه الإجازة بحذف المفسد قبل اتصاله بالعقد. انظر: فتح القدير، والعناية على الهداية (6/ 401، 402).

محمول على ما إذا جرى بين المتعاقدين بعد العقد ما يدل على الاتفاق على أحد الثمنين، فكأن المشترى قال للبائع بعد ذكر الثمنين: اخترت المعجل أو المؤجل، فقال البائع: أجزت أو رضيت، وحينئذ فلا خلاف بين الجمهور وبين هذه الطائفة من العلماء في القول بصحة العقد. جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية تحت عنوان: الاعتياض عن الأجل بالمال؛ الصورة الأولى: صدور إيجاب مشتمل على صفقتين إحداهما بالنقد والأخرى بالنسيئة مثل أن يقول: بعتك هذا نقدًا بعشرة، وبالنسيئة بخمسة عشر. يرى جمهور الفقهاء أن هذا البيع إذا صدر بهذه الصيغة لا يصح لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة، وجاء في الشرح الكبير (كذا فسره مالك والثورى وإسحاق وهذا قول أكثر أهل العلم, لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين، ولأن الثمن مجهول فليس يصح كالبيع بالرقم المجهول) وقد روى عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا فيذهب إلى أحدهما فيحتمل أنه جرى بينهما بعد ما يجرى في العقد فكأن المشترى قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال: خذه أو قال: قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقدًا كافيًا، فيكون قولهم كقول الجمهور " ... فعلى هذا إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح, لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابًا" (¬1). ما تقدم هو حكم البيعتين في بيعة من حيث الحل والحرمة والصحة والبطلان، ولما كان هذا البيع حرامًا باطلًا كان واجب الفسخ، ولا يترتب عليه أثره، ولكن لو تفرق البائع والمشترى وقد قبض المشترى السلعة، فما هو الأثر المرتب على ذلك فيما لو هلكت العين البيعية أو استهلكت أو تغيرت؟ والجواب على هذا السؤال نجده في ثنايا حديث نبوى شريف أخرجه أبو داود في سننه -وقد مر بنا نصه وتخريجه عند التعرض للأحاديث النبوية التي تصلح مناطا لبيع التقسيط- فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكَسُهما أو الرِّبا". ¬

_ (¬1) "الموسوعة الفقهية"، وزارة الأوقاف، الكويت (2/ 38)، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م، مطبعة الموسوعة الفقهية.

فمن العلماء من أخذ بظاهر الحديث ورتب على هذه الصورة من البيع أثرًا: فقد روى عن الأوزاعى أنه قال وقد سئل عن معنى بيعتين في بيعة -وهو أن يقول هو نقدًا بكذا ونسيئة بكذا-: لا بأس بذلك ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد المعنيين. فقيل له: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين فقال: هى بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين (¬1). وروى عن محمد بن سيرين أنه قال: شرطين في بيع، أبيعك إلى شهر بعشرة، فإن حبسته شهرًا فتأخذ بعشرة قال شريح: أقل الثمنين وأبعد الأجلين أو الربا (¬2). وبه قال طاوس: فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرنا معمر وابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه: إذا قال بكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا فوقع البيع على هذا فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين (¬3). ومن جهة أخرى، فقد قال الإمام الذهبي إن محمد بن عمرو -راوى الحديث- شيخ مشهور، أخرج له الشيخان متابعة، وقد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس (¬4). وقد أجاب جمهور العلماء عن الحديث الذي استدل به القائلون بأنه إذا تم البيع بصورة بيعتين في بيعة أن للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين بأجوبة منها: 1 - أن في صحة الحديث مقالًا، قال المنذرى: في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، والمشهور من رواية الدراوردى ومحمد بن عبد الله الأنصارى "أن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة" (¬5). 2 - أن الحديث على فرض صحته فعنه أجوبة منها: (أ) يجاب عما قاله الأوزاعى بما قاله الخطابى وغيره: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحيح البيع بأوكس الثمنين إلا شىء يحكى ¬

_ (¬1) "معالم السنن" (3/ 123)، "بذل المجهود" (15/ 135)، "اختلاف الفقهاء" (32)، "سنن أبى داود" (3/ 533). (¬2) "المحلى" (9/ 628). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 137 - 138). (¬4) "معالم السنن" (3/ 123). (¬5) "نيل الأوطار" (5/ 174).

عن الأوزاعى. وهو مذهب فاسد، وذلك لما يتضمنه هذا العقد من الغرر والجهل" (¬1). وأما قول شريح فيجاب عنه بأنه محمول على معنى آخر ذكره ابن حزم فقال: فإن حبسته شهرًا آخر فتأخذ عشرة أخرى (¬2). (ب) ما ذكره الخطابى وغيره: أن ما رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود يشبه -يحتمل- أن يكون ذلك في حكومة في شىء بعينه: كأنه أسلفه دينارًا في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعنى القفيز الذي لك على بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما -أقلهما- وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتقابضا -قبل فسخ البيع الأول- كانا مربيين (¬3). فهذا القول يفيد أن الربا هو من باب بيع الدين بالدين، لأن البائع باع المشترى الدَّين الذي له عليه بثمن أكثر وهو منهى عنه، لأنه من باب بيع "الكالئ بالكالئ" وقد نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من الربا. (جـ) أن الحديث من باب بيع الدين بالدين كما يفهم من قول ابن الأثير في النهاية حيث فسر الحديث بقوله: أن يستلف الرجل من الرجل مالًا فيعطيه سلعة إلى أجل، فإذا حل الأجل وطالب بالوفاء قال: بعنى تلك السلعة إلى أجل آخر وأزيدك، ولا يجرى بينهما تقابض، فصار بذلك بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا، وهذا هو بيع الدَّين بالدَّين، كأنه أسلفه دينارًا في صاع بر مثلًا إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له بعنى الصاع بصاعين إلى شهرين فهذا بيع ثان ودخل في الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أقلهما وهو الصاع، وإلا كان الثاني ربا للتفاضل، أو كأنه باعه دينًا بدين وهو الكالئ بالكالئ المنهى عنه (¬4). (د) أن الحديث محمول على ما إذا استهلك المشترى للبيع كله أو بعضه: ففى بذل المجهود: وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه - ¬

_ (¬1) "معالم السنن" (3/ 122)، "بذل المجهود" (15/ 134)، "عون المعبود" (9/ 322). (¬2) "المحلى" (9/ 629). (¬3) "معالم السنن" (3/ 122)، "بذل المجهود" (15/ 135)، "المجموع" (9/ 372). (¬4) "التاج الجامع للأصول" (2/ 206)، "المعاملات في الإسلام" (3/ 45)، النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ت 606 هـ (5/ 219)، تحقيق: محمد محمد طناجى، الناشر: المكتبة الإسلامية.

الخطابى - رضي الله عنه - قوله: من باع بيعتين ... ظاهره مخالف للمذاهب كلها إلا أن يقال فى معناه: أن من باع شيئًا على أنه بخمسة إن كان ناجزًا، أو بعشرة إن كان نسيئة ثم افترقا من غير أن يتعين أحدهما فهذا البيع فاسد لكونهما افترقا قبل تعيين الثمن، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة، وكان الحكم فيه الفسخ، إلا أن المشترى استهلك المبيع أو أكله فلا يجب فيه إلا المثل أو القيمة؛ وهو أوكس عادة من الثمن المتعين بينهما في البيعتين معًا، فصار المعنى أنه من باع بيعتين كذلك ثم لم يبق المبيع حتى يفسخ البيع فله أن يأخذ القيمة أو المثل ويأخذ الثمن لأنه أخذ الثمن كان إبقاء للبيع وهو مأمور بفسخه، وأما إذا أخذ الثمن ولم يفسخ فقد أربى لكونه عقد عقدًا فاسدًا، والعقود الفاسدة كلها داخلة في حكم الربا (¬1). ويؤيد حمل الحديث على هذا المعنى ما نقله ابن جرير الطبرى عن الثورى أنه قال: إن بعت بيعًا فقلت: هذا بالنقد بكذا. وبالنسيئة بكذا فذهب المشترى فهو بالخيار في البيعتين، وإن لم يكن وقع بيعك على أحدهما فهو مكروه وهو بيعتان إلى بيعة، وهو مردود وهو الذي ينهى عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته وإن قد استهلك ذلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين (¬2). وروى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر بعد أن ذكر قول طاوس الذي تقدم قبل قليل أنه قال: وهذا إذا كان المبتاه قد استهلكه (¬3). (هـ) ما قاله صاحب نيل الأوطار في معرض رده على المبطلين للبيع مؤجلًا مع زيادة الثمن لأجل التأجيل: لأن ذلك التمسك هو الرواية الأولى من حديث أبى هريرة: "من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا" وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهى عن بيعتين في بيعة ولا نتيجة فيه على المطلوب. ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوى صالحة للاحتجاج لكن احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان -أبيعك كذا شريطة أن تبيعنى كذا- قادحًا في الاستدلال بها على التنازع فيه على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة -وهي أن يقول نقدًا بكذا ونسيئة بكذا- إلا إذا قال من أول الأمر نسيئة ¬

_ (¬1) "بذل المجهود" (15/ 135). (¬2) "اختلاف الفقهاء" (32). (¬3) "مصنف عبد الرزاق" (8/ 137، 138).

بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى (¬1). (و) ما قاله ابن حزم الظاهرى: هذا الخبر صحيح إلا أنه موافق لمعهود الأصل، وقد كان الربا وبيعتان في بيعة والشروط في البيع كل ذلك مطلقًا غير حرام إلى أن حرم كل ذلك، فإذا حرم كل ما ذكرنا فقد نسخت الإباحة بلا شك، فهذا خبر منسوخ بلا شك بالنهى عن البيعتين في بيعة، فموجب إبطالهما معًا لأنهما عمل منهى عنه (¬2). (ز) ما قاله ابن القيم أن الحديث لا يحمل على الصورة المعروفة وهي أن تكون السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا حيث يقول: "أنه - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن بيعتين في بيعة، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر، وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين أو الربا في الحديث الربا. وذلك سدًا لذريعة الربا، فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة ثم اشتراها بمائتين حالة فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ الثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهو من أعظم الذرائع عن الربا، وأبعد كل البعد عن حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة" (¬3). ويبدو أن المالكية لهم رأى آخر في المسألة وهو أن المشترى إذا قبض المبيع في صورة البيعتين في بيعة، فإن البائع يعطى قيمة المبيع نقدًا, ولا يعطى أقل الثمنين إلى أقصى الأجلين. فقد نقل عن مالك قوله: من باع سلعة بدينار نقدًا أو بدينارين إلى شهر فسخ ذلك، وردت إلى قيمتها نقدًا, ولا يعطى أقل الثمنين إلى أقصى الأجلين (¬4). وقال صاحب الكافى: "وإن قبضت السلعة وفاتت، رد قابضها قيمتها يوم قبضها بالغة ما بلغت واتبع ذلك بقوله: وهذا كله قول مالك وأصحابه" (¬5). ووجه ما قاله المالكية: أن السلعة لم يقع شراؤها على شىء بعينه بقطع أو بخيار، وإنما إذا وقع على مالًا يدرى أى السلعتين يختار، وقد وجبت إحداهما، فحيث قبضها وتعذر ردها وجبت قيمتها. ¬

_ (¬1) "نيل الأوطار" (5/ 173). (¬2) "المحلى" (9/ 629). (¬3) "إعلام الموقعين" (3/ 150)، "الوجه" (62). (¬4) "اختلاف الفقهاء" (32). (¬5) "الكافى"، المجلد الثاني (740).

وخلاصة الأمر في حكم بيعتين أنها من البيوع المنهى عنها المحكوم ببطلانها واستحقاقها الفسخ إذا وقعت بالصورة التي لا يعلم فيها الثمن، وهذا رأى عامة الفقهاء. أما من حيث حكمها إذا حدث قبض بموجبها فجمهور الفقهاء يرون أن البيع الباطل لا ينتج أثرًا، وأنه لا يصح الأخذ بظاهر حديث أبى داود, لأن العمل بظاهره يفيد أن البيع صحيح إذ هو الذي ينتج آثارًا ويرتب حقوقًا, ولذلك وجهوا إلى الحديث المطاعن التي ذكرنا في صحته من جهة، وفي صلاحيته للاحتجاج به على المطلوب، والتمسوا له التأويلات التي تقدمت على فرض صحته انسجامًا مع الحقيقة الشرعية التي تأبى أن ترتب على العقد الباطل آثارًا، وتمكينًا للبائع من الوصول إلى حقه الذي ذهب بتعذر استرداد العين التي باعها بموجب عقد البيعتين في بيعة المنهى عنه شرعًا. وقد نازع بعض الفقهاء في هذه الحقيقة بناء على ثبوت الحديث عندهم، وعملهم بظاهر معناه. وبعد النظر في أدلة الفريقين، وما صوّبه الجمهور إلى أدلة مخالفيهم من طعون عملت على إيهانها، وعجزها عن الانتهاض للاحتجاج بها على مدعاهم، أرى أن الحق فيما قال الجمهور، والله تعالى أعلم. المبحث الرابع: حكم البيع بالتقسيط: تمهيد: بعد أن تتبعنا أقوال العلماء في بيان معنى الأحاديث الثلاثة وعلتها انتهينا إلى النتائج التالية: 1 - أن تلك الأحاديث تصلح أن تكون موطنًا مناسبًا ومظان ملائمة للبحث في مشروعية البيع بالتقسيط. وذلك لأنها تشترك من حيث معناها في صورة هى أصل ذلك البيع والمتمثلة بقول البائع للمشترى أبيعك هذه السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا. 2 - أن تحريم هذه البيوع يستند إلى علة تتمثل في جهل المتعاقدين بالثمن، وسد ذريعة أن يكون هذا البيع طريقًا إلى الربا المحرم. فالقول بعدم صحة هذه البيوع مجردة إلى أن الصيغة الصادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد، فلم يجزم البائع ببيع واحد، وأن الثمن مجهول، هل هو

المعجل أم المؤجل؟ وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح، ويكون عرضًا، فإذا قبل الموجه إليه العرض إحدى الصفقتين كان إيجابًا موجهًا إلى الطرف الأول فإن قبل تم العقد، وإلا لم يتم العقد (¬1). في ضوء ما تقدم كنا نتوقع أن يكون البت في الحكم الشرعى لبيع التقسيط أمرًا ميسورًا يكفى فيه التثبت من وجود العلة المذكورة، فيحكم بالجواز في الحالة الأولى وبالبطلان في الحالة الثانية. ولكن حكمة الله ورحمته بعباده التي كان اختلاف عقول البشر عامة وعلماء الفقه خاصة مظهرًا من مظاهرها اقتضتا أن تعمل تلك العقول -التي تحررت من قيود الخوف والرهبة، فانطلقت تلتمس الحقيقة في هدى نور الله- فيما بين يديها من النصوص تأملًا وترديد فكر، فيكون نتاج ذلك ثمرات خيرة من الأفكار والآراء والأحكام المتباينة في خط سيرها المتفقة في هدفها ألا وهو نشدان مرضاة الله عز وجل، والتمكين لشريعته في الأرض .. وإذا بنا نتيجة لذلك أمام آراء لا رأى، وبصدد أحكام لا حكم واحد في هذه المسألة، وأبرز تلك الأحكام: 1 - أن بيع التقسيط غير جائز شرعًا. 2 - أن بيع التقسيط جائز شرعًا. 3 - رأى وسط يذهب إلى عدم القول بجوازه أو عدم جوازه مطلقًا بل يرى أنه مكروه، وشبهة الأولى اتقاؤها. وممن قال بعدم الجواز، وأنه لا يصح زيادة الثمن في مقابل تأجيل قبض الثمن: زين العابدين، علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى، وأبو بكر الرازى الجصاص الحنفى (¬2). أما القول بجواز بيع التقسيط، وبأن أخذ زيادة في السعر مقابل التأجيل أمر ¬

_ (¬1) "مجلة المسلم المعاصر"، ص 89 ع 308، ربيع الثاني 1404 هـ، الموسوعة الفقهية، الكويت (2/ 38). (¬2) "نيل الأوطار" (5/ 173)، "شرح الأزهار" (3/ 84)، "تفسير أحكام القرآن" لأبى بكر الجصاص (2/ 187)، تحقيق: محمد الصادق قمحاوى، الناشر: دار الصحف بالقاهرة، الإمام زيد للشيخ محمد أبو زهرة (293) وما بعدها: المكتبة الإسلامية، بيروت، الروضة الندية (106).

يقره الشارع فهو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وبه قال زيد بن علي والمؤيد بالله والمهدى والمفتى من شيعة آل البيت (¬1). أما القول الثالث الذي اتخذ موقفًا وسطًا بين القولين السابقين فهو ما ذهب إليه د. رفيق المصري في كتابه "مصرف التنمية الإسلامى" (¬2). وقد لخص الشيخ أبو زهرة سبب الخلاف بين المجيزين والمانعين بقوله "ويعود سبب الخلاف لأجل الزيادة، أتعد الزيادة في مقابل الأجل كالزيادة في الدين في نظير الأجل أم لا تعد؟ فالذين قاسوا الزيادة في مقابل الأجل على الزيادة في الدين في نظير الأجل وجعلوهما صورة واحدة قالوا بالحرمة، وأما الذين فرقوا بينهما فقالوا بالحل" (¬3). المطلب الأول: أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط: استدل القائلون بأن بيع التقسيط لا يصح شرعًا بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والمعقول، فمن القرآن الكريم استدلوا بقوله سبحانه وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬4) فهي تفيد تحريم البيوع التي يؤخذ فيها زيادة مقابل الأجل لدخولها في عموم كلمة الربا (¬5). كما استدلوا بقوله عز شأنه: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬6). ¬

_ (¬1) "الأم" (3/ 15)، "نيل الأوطار" (5/ 173)، "فقه السنة" السيد سابق (3/ 141)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، "الروضة الندية" (2/ 106)، "شرح الأزهار وهوامشه" (3/ 84)، "البهجة شرح التحفة" (2/ 7)، "الموسوعة الفقهية الكويتية" (2/ 39)، "التاج الجامع للأصول" (206)، "الإمام زيد" (293، 294)، "الحلال والحرام"، د. القرضاوى، (259) ط13: المكتب الإسلامى 1400 هـ -1980 م، "المبسوط" (3/ 8)، "حاشية الطحاوي على الدر المختار" (3/ 97)، "تبيين الحقائق" (4/ 79)، "المدونة" (4/ 151)، "مجموعة فتاوى ابن تيمية" (29/ 502)، "الدسوقى على الشرح الكبير" (3/ 65). (¬2) "مصرف التنمية الإسلامى"، د. رفيق المصري، (189، 190): مؤسسة الرسالة 1397 هـ، 1977 م. (¬3) "الإمام زيد" أبو زهرة، (293). (¬4) سورة البقرة: 275. (¬5) "الإمام زيد" (293)، بحوث في الربا، محمد أبو زهرة (48): دار الفكر العربى. (¬6) سورة النساء: 29.

فقد جعلت الآية الرضا شرطًا لحل الكسب والربح في المبادلات التجارية، وإلا كان ذلك الكسب حرامًا وأكلًا لأموال الناس بالباطل، وعامل الرضا غير متوفر في البيع بالتقسيط, لأن البائع مضطر للإقدام عليه ترويجًا للسلعة، والمشترى مضطر له رغبة في الحصول على السلعة التي تمس حاجته إليها ولا يملك ثمنها حالًا، فيرغم على دفع الزيادة مقابل الأجل (¬1). أما من السنة النبوية فاستدلوا بأحاديث منها: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - عن صفقتين في صفقة وقد مر معنا ما رواه أحمد عن سماك في تفسير الحديث بقوله: هو الرجل يبيع الرجل فيقول: هو بنساء كذا، وهو بنقد بكذا وكذا. وقد علق الشوكانى على ذلك بقوله: وفي هذا التفسير متمسك لمن قال "يحرم بيع الشىء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء" (¬2). كما استدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا، وهذا يعني أن من باع يأخذ زيادة مقابل الأجل يكون قد دخل في الربا المحرم إذا لم يأخذ الثمن الأقل. وهذا يفيد أنه لا يجوز للبائع أن يبيع سلعته بأكثر من سعر يومها تجنبًا للوقوع في ربا النسيئة (¬3). قال صاحب الروضة الندية: فالحديثان -حديث ابن مسعود وحديث أبى هريرة- قد دلا على أن الزيادة لأجل النساء ممنوعة، ولهذا قال: فله أوكسهما أو الربا "والأعيان التي هى غير ربوية داخلة في عموم الحديثين" (¬4). واستدلوا كذلك بما أخرجه أبو داود في سننه عن محمد بن عيسى بن هشيم عن صالح بن عامر -كذا قال محمد- قال: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا على أو قال: قال على: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك (¬5). ¬

_ (¬1) "الإمام زيد" محمد أبو زهرة، (294)، دار الفكر العربى: أبرز صور البيوع الفاسدة، د. محمد وفاء (48): مطبعة السعادة، 1404 هـ، 1984 م. (¬2) "نيل الأوطار" (5/ 173). (¬3) أبرز صور البيوع الفاسدة (37). (¬4) "الروضة الندية" (2/ 106). (¬5) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3382).

قالوا: وبيع التقسيط من بيع المضطر، لأنه لا يقبل بالزيادة لأجل المدة إلا المضطر في الغالب. ويؤيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض" (¬1) وهو يفيد أن البيع الجائز شرعًا ما توفر فيه عنصر الرضا من التعاقدين بإجراء العقد، ولا رضا مع الاضطرار والإكراه فيكون البيع باطلًا. وعليه، فالبائع بأجل والمشترى إلى أجل كلاهما مضطر للبيع ولا يصدق عليهما قوله سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض". أما من المعقول فاستدلوا بأمور منها: أن الزيادة في الثمن المؤجل هى من باب الربا واستدلوا لقولهم هذا بما يأتى: 1 - أن الزيادة في الثمن هى في نظير الأجل والتأخير، إذ لم يقابلها إلا المدة والتنفيس بالأجل فقط، ومتى كانت الزيادة كذلك فهي زيادة من غير عوض، فتنطبق عليها كلمة (الربا)، وتتناولها أدلة تحريم الربا وتندرج تحتها (¬2). 2 - أن القول ببطلان البيع بأكثر من الثمن إلى أجله خشية أن يكون ذريعة إلى الربا، فيكون بمنزلة جارية نقدًا وعشرة دنانير إلى شهرين بعشرين دينار إلى شهرين (¬3). 3 - أن الزيادة مقابل الأجل هى من باب الشرطين في بيع وسلف وبيع: وصفة الشرطين في بيع كما تقدمت: أن يقول المبيع بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا وذلك غير جائز. والبيع مع السلف أن يبيع منه شيئًا ليقرضه أو يؤجله أو الثمن ليعطيه على ذلك ربحًا. يقول د. عبد السميع المصرى بعد أن نقل التفسيرين المتقدمين عن المبسوط "وظاهر مما تقدم عن صاحب المبسوط أن العلة في عدم الجواز في الصورتين عند الأحناف -الحنفية- هى الربا، لأنه في الصورة الأولى جعل الأجل في الثمن مقابلًا بالزيادة فيه صراحة فهي زيادة في الدَّين بغير عوض، وهي معنى الربا. وفي الصورة الثانية يحتال على الربا في القرض ببيع شيئًا مع المحاباة في ثمنه بمقابل القرض" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجة في سننه (2185)، وسنن البيهقى (6/ 17). (¬2) "شرح الأزهار" (3/ 74)، "بحوث في الربا" (48)، "الإمام زيد" (293، 294). (¬3) الحجة. (¬4) "مقدمات الاقتصاد الإسلامى" (108)، عن كتاب "نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية"، لإبراهيم زكى الدين بدوى (214).

ويتابع قائلًا: "ولا شك عندي في أن هذا هو روح الشريعة الإسلامية، وهو الغاية من تحريم الربا في الإسلام، لأن الزيادة في الثمن هى مقابل الأجل في التقسيط أى مقابل استغلال حاجة المشترى الضعيف بينما الإسلام دين الرحمة والإخاء والتعاون، يقول سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1). وإذا لم يتعادل سعر النقد والتقسيط فقد ذهبت عدالة التوزيع ... ولم يستطع ذو الدخل الصغير أن ينال حظه من الرفاهية ... " (¬2). 4 - القياس على إنقاص الدين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، إذ لا فرق بين إنقاص الثمن مقابل إنقاص المدة، وبين زيادة الثمن مقابل زيادة المدة، أولًا فرق بين أن نقول سدد الدين أو نزد في نظير الأجل، وأن تبيع بزيادة في الثمن لأجل التأجيل، فالمعنى فيهما أن الأجل له عوض وهو بمعنى الربا (¬3). وبيان ذلك كما قاله أبو بكر الجصاص "أنه لو كان لرجل على آخر ألف درهم دين مؤجلة فصالحه منها على خمسمائة حالة فلا يجوز، لما روى عن ابن عمر أنه سئل عن الرجل يكون له على الرجل الدَّين إلى أجل فيقول له: عجل لي وأضع عنك فقال: هو ربا. وروى عن زيد بن ثابت أيضًا النهى عن ذلك، وهو قول سعيد بن جبير والشعبى والحكم، وقول أصحابنا وعامة الفقهاء. ومما يدل على بطلانه تسمية ابن عمر إياه ربا، وأسماء الشرع توقيف. ولأنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلًا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلًا من الأجل فأبطله الله وحرمه وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬4). وقال: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (¬5)، حظر أن يؤخذ للأجل عوض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله، فإنما جعل الحط مقابل الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله على تحريمه. ولا خلاف أنه لو كان له عليه ألف درهم حالة فقال له: أجلنى وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز، لأن المائة عوض عن الأجل، كذلك الحط في معنى الزيادة، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 280. (¬2) "مقدمات الاقتصاد" (108، 109). (¬3) "بحوث في الربا" (48)، "الإمام زيد" (293). (¬4) سورة البقرة: 279. (¬5) سورة البقرة: 278.

إذ جعله عوضًا من الأجل. وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الإبدال عن الآجال" (¬1). وجاء في حاشية ابن عابدين "أنه إذا بيع الشىء بثمن مؤجل ثم وجب الأداء معجلًا فإنه ينقص من الثمن بمقدار التعجيل" وبذلك يتبين أن الفقهاء أباحوا الزيادة في نظير الأجل، وأى فرق بينها وبين الربا" (¬2). 5 - أن أبا حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبًا فقال: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غدًا فلك نصف درهم، إن الشرط الثاني باطل, فإن خاطه غدًا فله أجر مثله، لأنه جعل الحط مقابل الأجل، والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم لأنه بمنزلة بيع الأجل" (¬3). مما تقدم يتبين لنا أن عمدة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط هو أن ذلك ضرب من الربا المحرم، ومستندهم الرئيسى في ذلك أن الزيادة في الثمن هى في مقابل الأجل، والأجل ليس بالشىء الذي يستحق عوضا فتكون زيادة بلا عوض وهو عين الربا الذي نهى الشرع عنه وحرمه. المطلب الثانى: أدلة القائلين بجواز بيع التقسيط: استدل القائلون بجواز بيع التقسيط بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والإجماع والعرف والمعقول. فمن القرآن الكريم استدلوا بما يأتى: عموم الأدلة القاضية بالجواز كقوله سبحانه وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬4). وهو نص عام يشمل جميع أنواع البيع، ويدل على أنها حلال، إلا الأنواع التي ورد نص بتحريمها، فإنها تصبح حرامًا بالنص مستثناة من العموم، ولم يرد نص يقضى بتحريم جعل ثمنين للسلعة ثمن معجل وثمن مؤجل، فيكون حلالًا أخذًا من عموم الآية (¬5). ¬

_ (¬1) "تفسير آيات الحكام"، لأبى بكر الرازى الجصاص (2/ 1985). (¬2) "بحوث في الربا"، أبو زهرة (48)، "حاشية ابن عابدين" (5/ 160، 6/ 757). (¬3) "تفسير الجصاص" (2/ 187). (¬4) سورة البقرة: 275. (¬5) "نيل الأوطار" (5/ 173)، "شرح الأزهار" (3/ 84)، مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد النجدى الحنبلى وولده محمد، المجلد 29 ص 499، تصوير ط1، 1398 هـ.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فالزيادة في الثمن مقابل الأجل داخله في عموم النص، إذ إن أعمال التجارة تنبنى على البيع نسيئة، ولابد أن تكون لهم ثمرة، وتلك الثمرة داخلة في باب التجارة وليست داخلة في باب الربا. فالثمن في البيع الآجل هو للسلعة مراعى فيه الأجل، وهو من التجارة المشروعة المعرضة للربح والخسارة (¬1). ومن جهة أخرى، فالرضا ثابت في هذا البيع، لأن من يفعل ذلك من التجار إنما يجعله طريقًا إلى ترويج تجارته. فهو إجابة لرغبته. كما أن الذي تسلم العين دون دفع ثمن حاله قد تسلم العين منتفعًا بها مغلة، موضع إتجار، وهذا لا ينافى رضاه (¬2). واستدلوا كذلك بقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬3). وبيع السلعة بثمن مؤجل مع الزيادة مما تنتظمه هذه الآية، لأنها من المداينات الجائزة فتكون مشروعة بنص الآية (¬4). أما من السنة النبوية والآثار: فقد ورد فيها ما يدل على أن الشارع قد سوغ جعل المدة عوضًا عن المال، وأنه يجوز أن يختلف الثمن المؤجل عن الثمن المعجل بزيادة في المؤجل، وأن هذه الزيادة مباحة ومن ذلك: ما روى "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشًا، فكان يشترى البعير بالبعيرين إلى أجل" (¬5)، وهو دليل واضح على جواز أخذ زيادة على الثمن نظير الأجل. ¬

_ (¬1)، (¬2) "الإمام زيد" (294)، "أبرز صور البيوع الفاسدة" (50، 51)، النشرة الإعلامية للبنك الإسلامى الأردنى رقم (3/ 26). (¬3) سورة البقرة: 282. (¬4) "فتوى في مجلة البحوث الإسلامية" (ص 270 ع 6) 1403 هـ وفي مجلة الاقتصاد الإسلامى للشيخ عبد العزيز بن باز ص 42، العدد 11، شوال 1402 هـ، وفي كلمات مختارة (عقائد، أحكام، مواعظ) للشيخ عبد العزيز بن باز، جمعها عبد الله بن جار الله ص 137 رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. (¬5) حسن: أخرجه أبو داود (3357)، وأحمد (2/ 171 و 216)، والدارقطنى (3/ 69، 70)، وقال الحافظ في "الفتح" (4/ 489) إسناده قوى. وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط في المسند، طبعة الرسالة.

وما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا, ولنا على الناس ديون لم تحل؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ضعوا وتعجلوا" (¬1). والحديث دليل على أنه لو بيع شىء ما بالنسيئة، واضطر المشترى للسداد قبل الاستحقاق يجوز تخفيض الثمن بمقدار يتكافأ مع المدة التي تفصل تاريخ السداد الفعلى عن تاريخ الاستحقاق، فإذا جاز التخفيض لقاء التعجيل فلابد عقلًا من جواز الزيادة لقاء التأجيل وهو ما قال به ابن عابدين (¬2). ومن الآثار الدالة على جواز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من المعجل، وجواز زيادة الثمن في الشراء بالأجل. ما نقله الشيخ أبو زهرة عن كتاب المجموع والروض النضير في الفقه الزيدى الشيعي عن أبي خالد قال: سألت زيد بن علي عن رجل اشترى سلعة إلى أجل ثم باعها مرابحة والمشترى لا يعلم أنه اشتراها إلى أجل ثم علم بعد ذلك؟ فقال: هو بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء رد. وقد عقب على هذا القول بأنه يفيد حكمًا بالنص وآخر بالالتزام: أما الحكم الذي استفيد بالنص فهو أن عدم ذكر الأجل في المرابحة إذا كان البائع قد اشترى إلى أجل يعد خيانة في المرابحة، وهي خيانة لا يمكن تقديرها كالخيانة في الزيادة بالثمن، وأن الحكم في هذه الحالة هو أن المشترى بالخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه. والحكم الالتزامي هو أنه يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن المعجل، ويتبين ذلك من خلال أن ترك ذكر البائع للأجل في المرابحة خيانة، لأن شأن التجارة أن يكون الثمن العاجل أقل من الثمن الآجل، وترك ذكر الأجل والبيع بثمن عاجل غش، لأنَّه لم يتبين ما استفاده بالتأجيل، والربح مع هذا التأجيل يكون على غير أساس سليم .. " (¬3). قال صاحب الروض النضير: "واعلم أنه يؤخذ من كلام الإِمام -زيد بن علي- أن بيع الشىء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء جائز، ولهذا ثبت للمشترى الآخر الخيار، إذ لولا زيادة الثمن في شراء الأجل لم يظهر لإثبات الخيار وجه" (¬4). ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف: أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 52)، والدارقطني في "سننه" (3/ 46) وغيرهما. (¬2) "مصرف التنمية الإِسلامى" (186)، "حاشية ابن عابدين" (5/ 160)، (6/ 757). (¬3) "الإِمام زيد" نقلًا عن المجموع والروض النضير (292). (¬4) "الروض النضير" (3/ 168)، نقلًا عن "الإِمام زيد" (293).

والإجماع يدل على أن البيع بالتقسيط لا بأس به، فالمسلمون لا يزالون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها (¬1). كما أن العرف قد جرى على أن النقد الحال أعلى قيمة من النقد المؤجل، وطالما أن العقد ابتداء لم ينص على سعرين فهو حلال (¬2). أما عن القياس والمعقول فاستدلوا بما يأتي: • أن البيع إلى أجل مع زيادة الثمن هو بيع بثمن معلوم من المتبايعين بتراضيهما فوجب الحكم بصحة البيع كالبيع بثمن حال (¬3). • القياس على السلم: فالبيع إلى أجل من جنس بيع السلم، وذلك أن البائع في السلم يبيع في ذمته حبوبًا أو غيرها مما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به في وقت السلم فيكون المسلم فيه مؤجلًا والثمن معجلًا، فهو عكس مسألة البيع بالتقسيط، وهو جائز بالإجماع، والحاجة إليه ماسة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم، وتأخير تسليم الثمن في البيع إلى أجل (¬4). • القياس على بيع المرابحة: فإذا كان الأجل معلومًا في البيع بأجل صح البيع ولا شىء فيه لأنه من قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعا التي يجوز فيها إشتراط الزيادة في السعر في مقابلة الأجل، لأن الأجل وإن لم يكن مالًا حقيقة إلا أنه في باب المرابحة احتراز عن شبهة الخيانة، بشرط أن لا تكون الزيادة فاحشة، وإلا كانت أكلًا لأموال الناس بالباطل (¬5). • لأن للأجل حصة من الثمن: ولهذا تزاد قيمة ما يباع بثمن مؤجل على ما يباع بثمن حال. فما دام البائع قد حدد الثمن وعينه لمن يشترى بثمن حال، وحدد الثمن وعينه لمن يشترى بثمن مؤجل، وقد اختار المشترى الشراء بأحد الثمنين، فالبيع صحيح شرعًا, ولا شبهة للربا فيه. ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" ابن تيمية (29/ 499)، "مجلة الاقتصاد الإِسلامى" ع 11، شوال 1402 هـ، بحوث في الربا، 48. (¬2) علي الخفيف نقلًا عن مقومات الاقتصاد الإِسلامى (107). (¬3) "هوامش شرح الأزهار" (4/ 83). (¬4) "مجلة الاقتصاد الإِسلامي"، فتوى الشيخ ابن باز (43). (¬5) "يسألونك في الدين والحياة" أحمد الشرباصى، المجلد الخامس ص 147، الطبعة 11، دار الجيل، بيروت.

فالزيادة التي تضاف على الأقساط هى حصة الأجل من الثمن وهي الفرق بين ثمن السلعة إذا بيعت بثمن حال وقيمتها إذا بيعت بثمن مؤجل، والشريعة الإِسلامية شريعة معان وحقائق لا شريعة ألفاظ وأسماء، تحرم الشر إذا سمى باسم، وتبيحه إذا سمى بآخر (¬1). • أن الأصل في الأشياء والعقود والشروط عند الفقهاء الإباحة متى كانت برضا المتعاقدين الجائزى الأمر فيما تبايعا, ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه أو نسخه أو تقييده أو تخصيصه بنص أو قياس. ولما لم يرد دليل قطعي الثبوت والدلالة على تحريم البيع بالتقسيط، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل، بل قد ورد في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهى عن الغرر ونقض العهود والخيانة، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العقود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة (¬2). المطلب الثالث: في دليل الرأى الوسط خلاصة هذا الرأي -الذي ذهب إليه د. رفيق المصري- أن البيع إلى أجل مع زيادة الثمن مقابل ذلك ليس حرامًا على الإطلاق ولا حلالًا على الإطلاق بل هو مكروه، وما كان كذلك فيخضع لحكم الشبهة التي نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على موقف الشرع منها في حديثه المشهور "أن الحلال بين، وأن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه .. " (¬3). ويرى أن تأمين قروض مجانية للمستهلكين يخفف من ظاهرة اللجوء إلى البيع بثمن أجل مقسط، كما يؤدى إلى الحد من زيادة الثمن (¬4). ¬

_ (¬1) "مجلة لواء الإِسلام" (ص 822) عدد 11 من السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، أبريل 1951، ص 903 من عدد 12 من نفس السنة شعبان 1370 هـ، مايو 1951 م. (¬2) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (29/ 126)، نشرة البنك الإِسلامي الأردني رقم (3) ص 27 - 30 ونقلًا عن "الأم" للشافعى و"شرح أصول البزروى". (¬3) صحيح البخاري (52)، ومسلم (1599). (¬4) "مصرف التنمية الإِسلامي" (188/ 190).

المطلب الرابع: مناقشة الأدلة والترجيح أولًا: مناقشة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط: ناقش جمهور الفقهاء أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط على النحو التالى: أجابوا عن استدلالهم بقوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، بأن الآية نص عام، يشمل جميع أنواع البيع، ويدل على أنها حلال إلا ما خصه الدليل، ولم يقم نص يدل على حرمة جعل ثمنين للسلعة مؤجل ومعجل فيبقى حلالًا عملًا بعموم الآية (¬1). ومن جهة أخرى، فإن آية الربا لا تتناول محل النزاع، لأن الحديث في البيع بثمن مؤجل إنما يقع على السعر (الثمن)، وليس للسعر استقرار لما فيه من التفاوت بحسب الغلاء والرخص، والرغبة في البيع وعدمها، فلم يكن أصلًا يرجع إليه في تعليق الحكم به، وحيث خرجت آية الربا عن أن تكون داخلة في محل النزاع، انتفت الحاجة إلى النظر فيما يعارضها، وما يترتب عليه (¬2). وأما استدلالهم بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وأن عنصر الرضا مفقود في البيع بالتقسيط فيكون باطلًا فيجاب عنه: بأن الرضا ثابت, لأن من يبيع بثمن مؤجل له سلطة تامة، ويتمتع بكامل الحق في تحديد السعر الذي يريد بحسب حالة البيع من تعجيل أو تأجيل، وهو إذ يطلب ثمنًا مؤجلًا فإنما يفعل ذلك وسيلة من وسائل ترويج بضاعته، فهو يلبي لديه رغبة في الحصول على الثمن الأعلى نظير تأخير الدفع، وما كان كذلك فلا اضطرار فيه. وأما المشترى فإنه كذلك بالخيار في الامتناع عن الشراء أو البحث عن تاجر آخر أو سلعة بديلة، أو أن يقترض قرضًا حسنًا ليدفع بالثمن المعجل، ومع ذلك فقد حصل على السلعة التي يريد دون أن يدفع ثمنًا في الحال وهي للسلعة محل انتفاع وله فيها مصلحة (¬3). ¬

_ (¬1) "نيل الأوطار" (5/ 172)، "الإِسلام وثقافة الإنسان" (378). (¬2) "الإِمام زيد" (294). (¬3) "الإِمام زيد" (294)، "مصرف التنمية الإسلامى" (187)، "الإِسلام وثقافة الإنسان" (378)، المجلة العلمية لتجارة الأزهر، ص 90، 92، العدد السادس، 1983.

وأما استدلالهم بحديث النهى عن صفقتين في صفقة وتفسير سماك له بما يفيد منعه فيجاب عنه: أن هذا الحديث يحتمل أكثر من تفسير، فكما يحتمل أن يكون المراد به أبيعك هذه السلعة بألف نقدًا أو بألفين نسيئة، يحتمل أن يراد به بعتك هذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا. أو أن يسلف دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علىّ إلى شهرين بقفيزين فصار بيعتين في بيعة واحتمال الحديث لتفسير خارج عن محل النزاع يقدح في الاستدلال به على المتنازع فيه. على أن غاية ما في الحديث من دلالة هو المنع من البيع إذا رفع على صورة أبيعك نقدًا بكذا ونسيئة بكذا لا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك، فالدليل أخص من الدعوى. ومن جهة أخرى، فالنهى في الحديث محله فيما إذا قبل المشترى على الإبهام ولم يعين أي الثمنين، أما لو قال قبلت بألف نقدًا أو بألفين نسيئة صح ذلك (¬1). أما استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا". وأنه يفيد أن من باع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحال فعليه أن يأخذ بالأقل منهما وإلا دخل في الربا المحرّم فجوابه: أن في إسناده محمَّد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، والمشهور عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة (¬2). وعلى فرض صحته، فهو لا يقيد تحريم البيع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحال، بل يفيد أن المتبايعين إذا تفرقا دون تحديد وتعيين أحد الثمنين، فما يستحقه البائع هو أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين كى لا يقعا في الربا المحرم بصورة قطعية (¬3). كما يجاب عنه بما قاله الشوكاني في حديث الصفقتين في صفقة المتقدم. ¬

_ (¬1) "نيل الأوطار" (5/ 172). (¬2) "نيل الأوطار" (5/ 171). (¬3) "فقه الإِمام الأوزاعى"، د. عبد الله محمَّد الجبورى (2/ 189)، وزارة الأوقاف العراقية، إحياء التراث الإِسلامى: مطبعة الإرشاد، بغداد 1397، 1977 م.

ومن جهة أخرى، فإن ابن القيم قد فسر الحديث بأن يبيع الرجل السلعة بمائة مؤجلة ثم يشتريها منه بمائتين حالة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهو من أعظم الذرائع إلى الربا. وأنه لا يعني النهى عن البيع بخمسين حالة أو بمائة مؤجلة فهي ليست قمارًا ولا جهالة ولا غررًا ولا شيئًا من المفاسد، فإن البائع خير المشترى بين أي الثمنين شاء وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والأمضاء ثلاثة أيام (¬1). أما حديث النهى عن بيع المضطر وقولهم بأنه لا يقدم على دفع ثمن أعلى مع تأخير الدفع إلا المضطر فيجاب عنه بالآتي: أنه جاء في سند الحديث: رواه أبو داود عن محمَّد بن عيسى عن هشيم عن صالح بن عامر كذا قال محمَّد قال: حدثنا شيخ من تميم .. قال في عون المعبود: قال الشيخ في إسناد الحديث رجل مجهول لا ندرى من هو وقال ابن مفلح: صالح لا يعرف، تفرد عنه هشيم، والشيخ لا يعرف أيضًا, ولأبي يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول، قد بلغني عن حذيفة أنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم - .. فذكر الحديث وفيه: "ألا إن بيع المضطرين حرام"، الكوثر ضعيف بإجماع، قال أحمد: أحاديثه بواطيل ليس بشىء (¬2). أما قولهم بأن الزيادة في الثمن المؤجل من باب الربا، واستدلالهم على ذلك بأنها زيادة في نظير الأجل، ولا يقابلها عِوض فتكون محرمة فالجواب عنه: بأن القول بتحريمها لكون الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط، فلا يخفى أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل والمسألة محتملة للبحث والمناقشة (¬3). وأما القول بأن الزيادة لا يقابلها عوض فمردود، وذلك لأن البائع حين رضى بتسليم السلعة إلى المشترى بثمن مؤجل إنما فعل ذلك من أجل انتفاعه بالزيادة، والمشترى إنما رضي بدفع الزيادة من أجل المهلة، وعجزه عن تسليم الثمن نقدًا. فكلاهما منتفع بهذه المعاملة, فلا يصدق القول بأن الزيادة بغير مقابل (¬4). ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (2/ 149، 150). (¬2) "عون المعبود" (9/ 235). (¬3) "الروضة الندية" (2/ 106). (¬4) "مجلة الاقتصاد الإِسلامي"، فتوى الشيخ ابن باز (43).

وأما قولهم ببطلان البيع بثمن مؤجل يزيد على الحال خشية أن يكون ذريعة إلى الربا، فيكون بمنزلة جارية نقدًا وعشرة دنانير إلى شهر، بعشرين دينارًا إلى شهرين فيجاب عنه: بأنه لو رأى رجل جارية ثيِّبًا عند رجل فأعجبته، فسأله أن يزوجها إياه، فاشتراها منه بمائة دينار إلى سنة، فقبضها فوطئها فلم ينتقصها ذلك شيئًا ثم باعها منه بخمسين دينارًا إلى ذلك الأجل، فتكون قد رجعت له جاريته وبقى له خمسون دينارًا إلى ذلك الأجل، إنما ينبغي أن تبطل هذه الصورة ويجعل كأنه استأجرها بخمسين الدينار الزيادة ليطأها، وقد قال المخالفون بجوازها، فأجازوا ما ينبغي أن يبطل، وأبطلوا ما هو جائز من الزيادة مقابل الأجل (¬1). وأما قولهم بأن الزيادة مقابل الأجل هى من باب الشرطين في بيع وسلف وبيع وقد نص صاحب المبسوط على عدم جوازهما لأنهما من باب الربا, لأن الزيادة مقابل الأجل فالجواب عنه: أن قول صاحب المبسوط محمول على ما إذا ذكر ثمنين عاجلًا وآجلًا ولم يجدد أحدهما، والقول بالبطلان في هذه الحالة قول عامة الفقهاء بسبب الجهالة، وسدًا لذريعة الربا. ولقد جاء في كتاب المبسوط ما يدل صراحة على جواز زيادة الثمن مقابل الأجل إذا كان ذلك معلومًا للمتعاقدين حيث يقول: "وإذا اشترى شيئًا إلى أجلين وتفرقا عن ذلك لم يجز لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الشرطين في بيع، وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما، وأمض البيع عليه جاز .. " (¬2). وأما القول بأن زيادة الثمن المؤجل من الحال في البيع بالتقسيط هى مقابل استغلال حاجة المشترى فتنتفي الرحمة والعدالة، فيرد عليه بأن العلماء حين قالوا بجواز بيع التقسيط قد قيدوا ذلك بشروط سنأتي على ذكرها، ومنها أن لا تتضمن الزيادة غبنًا فاحشًا للمشترى، علمًا بأن هذا الغبن ليس مقصورًا على البيع بالتقسيط بل قد يكون بالنقد، ولكن عند ضعف الوازع الديني، وغياب الحس الإيماني. وبالإضافة إلى ما تقدم فهناك فروق جوهرية بين الربا والبيع بالنسيئة أبرزها ما يأتي: 1 - أن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر، ولا تساوى بين الشىء وثمنه مع اختلاف جنسهما، فلا يصح تحريم الزيادة في البيع بثمن مؤجل لكونها ربا (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب الحجة. (¬2) "المبسوط" (13/ 28). (¬3) "الروضة" (2/ 106).

2 - أن البيع في حالة البيع سلعة لها منافع ولها غلات، وإن كانت مما ينتفع به باستهلاكه فإن أسعارها تختلف باختلاف الأزمان، وإن كانت مما ينتفع به بسعر، فإذا احتاط البائع لنفسه فباعها بثمن مؤجل مرتفع ومعجل غير مرتفع فلأن موضوع المعاملة يقبل الارتفاع والانخفاض في الأزمان، وله غلات بنفسه، أما النقود في حالة الربا فهي وحدة التقدير، فالمفروض أن لا يؤثر فيها الزمان، وينبغي أن تكون كذلك دائمًا، لأنها ليست سلعًا ترتفع وتنخفض (¬1). وعليه، فما يأخذه البائع بثمن مؤجل فرقًا بين العاجل والآجل إنما يأخذه ثمن غلة، بخلاف الديون التي تجرى في النقدين، فإن من يتسلمها يتسلم عينًا لا تختلف فيها الأسعار باختلاف الأزمنة، لأنها مقوِّمة الأسعار، وهي لا تغل بنفسها، بل تغل بالاتجار وتنقلها من الأيدى ببضائع تعلو وتنخفض، فالبضائع هى التي تغل وليست هى موضع الدين (¬2). 3 - أن هناك فرقًا بين أن يكون الأجل مراعى عند تقدير ثمن السلعة في البيع بثمن مؤجل، وبين أن يكون الأجل قد خصص له جزء معين من المال بالإضافة إلى المقدار الذي جعل بدلًا في المعاوضة. إن فرقًا بين أن يبيع شخص سلعة تساوى في السوق الحاضرة مائة بمائة وخمسة مؤجلة، وبين أن يقترض شخص من آخر إلى أجل معين على أن يردها إليه عند حلول الأجل مائة وخمسة، فإن الأول جائز ولا شىء فيه من الربا، فإن المقدار كله المائة والخمسة قد جعل ثمنًا للسلعة، والسلعة التي كان سعرها في السوق الحاضرة مائة يمكن أن تباع مع تأجيل الثمن وعدم تأجيله بمائة وبمائة وخمسة وبمائة إلا خمسة، على حسب الظروف والأحوال واختلاف الرغبات. وأما الثاني فغير جائز لأنه من ربا النساء الذي جعل فيه الزمن مقصودًا قصدًا أصليًا في العقد مفروضًا له قدر معين من الثمن يتزايد هذا المقدار عادة إذا حل الأجل ولم يوف المدين بأداء الدين. والخلاصة أن المائة والخمسة في صورة البيع بها إلى أجل وقعت كلها ثمنًا للسلع التي كان يمكن أن تباع بذلك الثمن حالًا، وأما المائة والخمسة في صورة ¬

_ (¬1) "بحوث في الربا" (48). (¬2) "الإِمام زيد" (294).

اقتراض المائة بمائة وخمسة فإنها وقعت بدلا لشيئين: المائة بدل المائة، والخمسة بدل الزمن وثمن له خاصة، وهذا لا شك أنه الربا الممنوع (¬1). 4 - أن البيع بالتقسيط فيه تخيير للمشترى بين الشراء نقدًا بثمن أقل أو بثمن أكثر مؤجلًا، بخلاف الربا فإنه لا تخيير فيه. كما أن الربا استغلال للناس ومص للدماء، وخيانة للمجتمع، وظلم للطبقة الكادحة من قبل أخذ الطمع والجشع. أما البيع بالتقسيط فهو تيسير لمعاملات الناس وتخفيف عنهم (¬2). 5 - أن البيع بثمن مؤجل لا تحدث فيه زيادة في الثمن حتى ولو ماطل المشترى في الدفع عند حلول أجل الوفاء، فليس للبائع إلا ما اتفق عليه، وذلك بخلاف عقد الربا حيث يستمر المقترض في دفع الفوائد في حالة عدم تسديد القرض حتى يتضاعف بشكل كبير إذ في الغالب قد تكون الفائدة بسعر أعلى من السعر العادى عند التأخير في الدفع (¬3). 6 - أن البيع بالتقسيط يترتب على من يتعامل به مختلف آثار ومقتضيات البيع بالطرق الشرعية ولاسيما ما يتعلق بالخيارات، وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالقرض بفائدةٍ ربويةٍ (¬4). 7 - أن الثمن في البيع بالأجل هو للسلعة مراعى فيه الأجل وهو من التجارة المشروعة المعرض للربح والخسارة. وأما الزيادة في الربا فهي بلا مقابل وهو الذي حرَّمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لأخطاره وأضراره (¬5). 8 - أنه في حالة البيع بثمن مؤجل يفترض أن تكون العلاقة بين البائع والمشترى علاقة تكافؤ -في الأعم الأغلب، ولا عِبرة للحالات الشاذة- لأن القدرة على المساومة والتفاوض مفتوحة لكلا الطرفين على قدم المساواة. أما في حالة القرض الربوى فيفترض عدم التكافؤ إذ إن طرفًا فيها يعاني من حالة صعبة بالنسبة للطرف الآخر (¬6). ¬

_ (¬1) "مجلة الاقتصاد الإِسلامى"، فتوى الشيخ عبد الرحمن تاج ص 43، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ. (¬2)، (¬3) "المجلة العلمية لتجارة الأزهر" ص 90 - 92، العدد السادس، أبريل، 1983 م. (¬4) من محاضرة عامة ألقاها د. أنس مصطفى الزرقا حول "مفهوم الاقتصاد الإِسلامى" بالجامعة الأردنية الساعة 12 ظهرًا 4/ 11/ 85. (¬5) "النشرة الإعلامية رقم (3) " للبنك الإِسلامى الأردني (26). (¬6) "مصرف التنمية الإسلامى" (187).

9 - أن التبادل في حالة الربا يتم على أشياء مثلية، في حين أن التبادل في حالة البيع يتم على أشياء مختلفة؛ سلعة مقابل نقد، وهذا الاختلاف في الأشياء المتبادلة هو الذي ينشىء النشاط التجارى المفيد المنتج في البيع بالمقارنة مع النشاط الربوى (¬1). أما القول المانعين من بيع التقسيط بأن الزيادة في البيع بالنسيئة هى مقابل الزمان فقد ناقشه جمهور الفقهاء على النحو التالي: 1 - أن الزيادة في الثمن المؤجل لا تتعين عِوضًا عن الزمان، بدليل أن بعض الناس يبيع آجلًا بأقل مما اشترى لحاجته إلى البيع وتصريف السلع أو لتوقعه انخفاض الأسعار في المستقبل، ومن التجار من يبيع بأقل من القيمة الحقيقية بثمن حال أو مؤجل، فلا تتعين الزيادة للزمان، بل الزيادة في أكثر الأحيان غير متعينة (¬2). 2 - أننا لو سلّمنا بجعل الزيادة مقابل التأخير والزمن كما دلت على ذلك بعض الأحاديث والآثار, فإنما منع الشارع منها إذا كانت ابتداءً كما كان عليه أمر الجاهلية في قولهم: "أما أن تقضي وأما أن تُربي" (¬3). وأما استدلالهم يكون الزيادة في مقابل الأجل بالقياس على إنقاص الدَّين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، وهو غير جائز بدليل تسمية ابن عمر - رضي الله عنهما - له ربا ونهى زيد بن ثابت وغيره عنه، وبدليل إبطال أبي حنيفة لشرط التعجيل في خياطة الثوب مقابل زيادة الأجرة، وبدليل عدم جواز زيادة الدين الحال مقابل تأجيل صاحبه مدة. فالجواب عنه: 1 - أن ابن أبي شيبة قد أخرج من مصنفه أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل فيقول له: عجِّل لي وأضع عنك كذا فقال: "لا بأس في ذلك، إنما الربا أن يقول المدين أخر لي وأنا أزيدك، وليس عجّل وأنا أضع عنك" وفي رواة أخرجها البزار عن عبد الله بن عمرو، وأخرجها الطبراني بنحوها: "إنما الذي فيه نهى أن يقول المدين أعجّل لك كذا، وتضع عنه البقية" (¬4). ¬

_ (¬1) نفس المرجع، (189). (¬2) "الإِمام زيد" (295)، أبرز صور البيوع الفاسدة (50). (¬3) "الإِمام زيد" (294). (¬4) "تفسير الجصاص" (2/ 186).

وليس قول ابن عمر وغيره بأولى من قول ابن عباس، لاسيما أن لقوله سندًا من الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ضعوا وتعجلوا". 2 - وأما قول أبي حنيفة فيقع في إطار اشتراط منفعة محددة في المعقود عليه لمصلحة العاقد، وهذا النوع من الشروط مما أبطله الحنفية والشافعية في المعتمد من مذهبهم والظاهرية بعدم جوازه وقال المالكية والحنابلة في الراجح من مذهبهم والزيدية والأباضية والإمامية بجوازه. وقد استدل القائلون بعدم الجواز بحديث نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط، وهو حديث ضعيف، أنكره أحمد، وقال لا نعرفه مرويًا في مسنده وقال النووى عنه، أما الحديث فغريب، وضعفه ابن تيمية، وقال ابن حجر في إسناده مقال. وقال ابن القيم لا يعلم له إسناد يصح (¬1). 3 - وأما القياس على زيادة الدين الحال مقابل زيادة الأجل فمع الفارق وهو أن المقيس عليه منصوص على عدم جوازه فهو بيع الدين بالدين، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكالئ بالكالئ. ومن جهة أخرى، فإن إنقاص الثمن مقابل تقصير المدة غرضه التيسير على المدين وتسهيل الدفع وقضاء الدين عليه، أما الزيادة مقابل زيادة الأجل فغرضها التضييق على المدين فلا وجه للقياس. 4 - أن القول بإنقاص الثمن إذا أدى المدين الثمن المؤجل معجلًا بمقدار ما يعادل الأجل يرتكز على مبدأ سبق بيانه وهو أن الأساس هو السلعة لا النقد المجرد. لأن السلعة هى التي يتغير سعرها تبعًا للظروف والأحوال والرغبة فيها، أما النقد فهو مقوِّم السلع وهو ثابت لا يتغير، لأنها ليست سلعًا ترتفع وتنخفض (¬2). 5 - أن العقود في الشريعة الإِسلامية ينظر إليها غير موازنة ببعضها، فالعقد مع تأجيل الثمن عقد قائم بذاته ينظر إليه من حيث سلامة العقد، وكونه غير شامل للربا بأنواعه من نظر إلى غيره. وهذه النظرة تجعل العقد صحيحًا في ذاته، وكون المبيع معجلًا بعقد آخر بثمن أقل لا يؤثر في العقد الأول، لأنهما عقدان متغايران يتميز كل واحد منهما عن صاحبه (¬3). ¬

_ (¬1) "الملكية في الشريعة الإِسلامية" العبادى (2/ 209). (¬2) "بحوث في الربا" (48، 49). (¬3) "الإِمام زيد" (294).

ثانيًا: مناقشة أدلة القائلين بالجواز: لقد تناول القائلون بعدم جواز البيع بثمن مؤجل يفوق الثمن الحال بعض أدلة القائلين بالجواز بالمناقشة، وذلك على خلاف ما قام به الجمهور من تفنيد جميع أدلة المانعين بصورة شاملة وافية، مما يعد مؤشرًا على قوة حجّتهم (¬1). فقد ناقش المانعون قول الجمهور في استدلالهم بالآية الكريمة {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} على حل البيع عملًا بعموم النص حيث لم يرد صحيح يخصصه بقولهم: إن الآية تفيد تحريم البيع بزيادة الثمن مقابل الأجل، لأنها داخلة في عمومِ كلمة الربا التي تعنى الزيادة، كما أنها تفيد الإباحة في قوله سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فإن العقود الربوية مقيدة لهذه الإباحة. وإذا قيل بأن البيوع بأثمان مؤجلة داخلة في معنى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إذ هى بيع، يقال إنها تحتمل أن تكون داخلة في عموم البيع أو الربا، وعند الاحتمال من غير ترجيح يقدم احتمال الحظر على احتمال الإباحة وخصوصًا أن إحلال البيع ليس على عمومه بل خرجت منه البيوع وهذا منها (¬2). ومن جهة أخرى، فإن قوله تعالى {وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وليس مجملًا بدليل أن الله عَزَّ وَجَلَّ وضحه بأنه كل زيادة على رأس المال مقابل الأجل {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وقد أجمع العلماء على تفسير الربا في هذه الآية بأنه الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية وهو ما كان يحصل عليه الدائن من زيادة لرأس ماله عندما يعجز بدينه عند حلول الأجل فيقول له: "إما أن تقضي ديني وأما أن تربي" أي تزيدني في الدين نظير الأجل فدل على أن كل زيادة في مقابل الأجل ربا، والأجل لا يعد مالًا لعدم إمكان حيازته والاستئثار به وادخاره لوقت الحاجة، فلم يكن جائزًا أن يأخذ مالا عوضًا عنه، ومن ثم كانت زيادة ثمن السلعة المؤجل عن الثمن المال زيادة خالية عن العوض، وهذا هو الربا (¬3). أما استدلال الجمهور بحديث: "ضعوا وتعجلوا" فالجواب عنه: ¬

_ (¬1) أبرز صور البيوع الفاسدة (51). (¬2) "الإِمام زيد" (294). (¬3) "نظرية الأجل في الالتزام في الشريعة الإِسلامية والقوانين العربية"، د. عبد الناصر العطار (221): مطبعة السعادة، القاهرة، ط 1978.

أن في إسناده مسلم بن خالد وهو سيئ الحفظ ضعف، وهو كما قال الدارقطني؛ ثقة إلا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث (¬1). ومن جهة أخرى، فإن الزمن في الحديث كان للحط من الدَّين لا للزيادة، بخلاف البيع المؤجل فإنه للزيادة في الثمن لا للنقص منه، وفرق ما بين الزيادة والنقص كفرق من يداين ويزيد لأجل الزمن، ومن يعفو عن بعض الدين ليسهل على المدين الدفع، ولذلك لا يصلح الحديث دليلًا في الموضوع (¬2). ويضاف إلى ذلك أن القول بجواز إنقاص الثمن مقابل تعجيل دفع الثمن المؤجل لم يرد إلا في الدر المختار حيث نسبه ابن عابدين لبعض المتأخرين، وقال: أن أبا السعود ارتضاه، ولعل أبا السعود العمادى ارتضاه لأنه كان يسهل على سليمان القانوني ما يريد من إدخال الأفكار الأوروبية في بلاده، ولذلك لم يعتبر علماء الأتراك فتاويه، بل قد نص بعضهم كأبي بكر الرازى على أن ذلك من الربا الذي نص عليه تحريمه (¬3). وأخيرًا قالوا: أن من يقول بجواز السلف إذا قال عجل لي وأضع عنك من الجائز أنهم أجازوه إذا لم يجعل ذلك شرطًا في العقد، وذلك بأن يقوم البائع بحط بعض الثمن عن المشترى بغير شرط، فيقوم المشترى بحط بتعجيل الدين المتبقي بغير شرط (¬4). أما عن استدلال الجمهور بأن المشترى قد رضي بالزيادة مقابل الأجل، والرضا هو شرط صحة التجارة وتوفر كان العقد صحيحًا أجابوا: بأن رضا المشترى بزيادة السعر المؤجل عن السعر الحال، لا عبرة به إذا اعتبرنا هذه الزيادة ربا، لأن تراضي البائع والمشترى على الربا لا يجعله حلالًا (¬5). أما عن القول بأن الأسعار تتفاوت ارتفاعًا وانخفاضًا لأن السلعة لها سعر نقدى معين بخلاف النقود فالجواب عنه: أنه إذا كان للبائع أن يبيع ابتداء بثمن مؤجل أكثر من سعر السوق، فذلك ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (2/ 46). (¬2) "الإِمام زيد" (294)، مصرف التنمية، (186)، "نظرية الأجل" (222). (¬3) "بحوث في الربا" (49). (¬4) "تفسير أبى بكر الرازى الجصاص" (2/ 187). (¬5) "نظرية الأجل" (222، 223).

يختلف عن تخيير المشترى بين الشراء بثمن حال أو ثمن مؤجل أكثر من ذلك الثمن الحال. فالبيع الأول يمكن أن يقال فيه بأن الأسعار تتفاوت كما أن للمشترى مطلق الحرية في قبوله، وإذا كانت الشريعة الإِسلامية تنهى عن الربح غير المعقول في التجارة. أما البيع الثاني وهو موضوع البحث فإنه يتميز بأن للسلعة ثمن حال معروف، وزاد هذا الثمن بسبب التأجيل. وهنا لا يمكن القول بأن الأسعار تتفاوت وتزيد وتنخفض لأن السلعة تحدد لها سعر نقدى معين ولم يقصد البائع إلى زيادة الثمن المؤجل إلا بسبب الأجل (¬1). وأخيرًا يقترح د. عبد الناصر العطار -وهو من القائلين بأن الثمن المؤجل عن السعر الحال أمر لا يتفق مع قواعد الشرع، ويعتبره ربا أو شبهة ربا- يقترح علاجًا بديلا لبيع التقسيط يتمثل فيما عرفته بعض النظم الاقتصادية من وسائل مشروعة يتم فيها تأجيل ثمن المبيع دون زيادة بعض السلع بسعرها اليومي وتأجيل ثمنها مع دفعه أقساطًا تخصم من الراتب. وفي إمكان غير الموظفين تطبيق هذا النظام عن طريق النقابات والجمعيات التعاونية، ولا شك أن هذا النظام لا غبار عليه في الإِسلام، كما أن بعض التجار يعلن عن بيع سلعة بالتقسيط وبدون فوائد أي بذات السعر الفوري (¬2). ثالثًا: مناقشة الرأى الثالث: لقد رأينا أن خلاصة هذا الرأى تتمثل في القول بأن البيع بالتقسيط ليس مباحًا على الإطلاق ولا محرَّمًا على الإطلاق وذلك اتقاء للشبهات واستبراء للدّين والعرض والجواب على ذلك: 1 - أن صاحب هذا الرأى قد قال صراحة "ومع ذلك فإننا نعتقد أن البيع بالنسيئة بزيادة الثمن لقاء التأجيل إنما هو مشروع .. " وفي هذا تناقض مع القول بأنه ليس مباحًا ولا حرامًا، فأبسط درجات المشروعية هى الإباحة. 2 - أن الشبهة هى ما اجتمع فيها جانب يؤيد الحل وآخر يؤيد الحرمة، ولقد ورد في حديث صاحب هذا الرأى ما يقطع بمشروعية البيع بالتأجيل مع زيادة الثمن، وصال وجال في بيان فروق أساسية بينه وبين الربا المحرم، فأى وجه للاشتباه بعدئذ؟ وهذا كانت هذه الشبهة والحرص على الاستبراء للدِّين تغيب عمن كانوا ¬

_ (¬1)، (¬2) "نظرية الأجل" (222، 223).

يدعون سبعين بابًا من الحلال مخافة أن يقعوا في باب الحرام، ومع ذلك لم نجد في عباراتهم أدنى تحفظ عند صدور عباراتهم بجواز هذا البيع، مراعيًا للشروط الشرعية. 3 - أما دعوة صاحب هذا الرأى من يتعاملون ببيع التقسيط إلى الاقتراض الحسن تقليلًا لتداول هذا البيع، واتهامه لهم بالهجوم على هذا النوع من البيع مع عدم مسيس حاجتهم إليه، دون محاولة الحصول على القرض الحسن، فأظنه كلامًا مبالغًا فيه، وهل أبواب القروض الحسنة مشرعة لمن يلجها ونحن في عصر أصبح الفرد فيه يضن بالدرهم والدينار على أمه وأبيه وصديقه وأخيه؟ ثم إذا توفر هذا القرض الحسن ليغطى شراء سلعة يسيرة الثمن، فأنى له أن يتوفر لشراء عربة يكتسب منها صاحبها قوته وقوت من يعول؟ أو شراء شقة يسكنها؟ فما أرتأه من تبنى هذه الفكرة ليس إلا حلمًا جميلًا صدر عن حسن ظن ونية -إن شاء الله-. وعليه ففى ظني، أن هذا الرأى يعوزه الدليل المقنع، ويفتقر إلى الموضوية، وينقصه عامل الانسجام، بين ما طرحه صاحبه من أفكار، وبالتالي لا يقوى على النهوض مذهبا ثالثًا إلى جانب المذهبين الرئيسيين المتقدمين من الناحية الحقيقية -اللهم إلا من باب عرضه باعتباره وجهة نظر تمثل رأى صاحبها فحسب- فاقتضى التنويه إليها. • الترجيح: بعد أن عرضنا لأقوال من أجاز بيع التقسيط من الفقهاء، ومن قالوا بعدم جوازه ووقفنا على المناقشات والردود التي وجهها جمهور الفقهاء إلى كافة أدلة القائلين بمنع البيع بثمن مؤجل مع الزيادة على الثمن الحال، ورأينا أنه لم يسلم دليل منها من الطعن الذي يضعف من حجيته وصلاحيته للاستدلال به، وفي حين أن أدلة الجمهور قد سلمت لهم في غالبيتها وما وجه إلى بعضها من نقاش لا يقلل من أهميتها, ولا يلغي فاعليتها فقولهم مثلًا بأن آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} تتضمن النهى عن كل زيادة وتعتبرها ربا، ففيها إباحة البيع وتحريم الربا، وعند اجتماع الحظر والإباحة يقدم الحظر، فهذا القول يصدق لو لم يوجد ما يرجِّح كفة الحكم بالإباحة وقد اتضح ذلك الرجحان من خلال الفروق الهامة التي تقدمت بين البيع والربا. ونقول للمعترضين -كما قال الشيخ أبو زهرة- مقالة الله لمن اعترض مثل اعتراضهم، إذ قالوا بأن البيع مثل الربا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.

وأما الأحاديث والآثار في جواز إنقاص الثمن مقابل تعجيل الوفاء بالدين. فعل ما فيها من مقال في سندها، إلا أن مفهومها، وما يسندها من أدلة تقدمت في موضعها يجعل من معانيها ودلالتها أمرًا مستساغًا شرعًا. مما يجعلنا نخلص إلى القول بأن صحة بيع التقسيط وجواز التعامل به هو الأولى بالأخذ به والمصير إليه، والله تعالى أعلم. رابعًا: فتاوى العلماء القائلين بجواز البيع بالتقسيط: بعد أن وصلنا إلى نتيجة مفادها أن القول بجواز بيع التقسيط هو الأولى بالأخذ به نظرًا لقوة أدلته، ولأنه يتفق مع روح الشريعة في تحقيق مصلحة المتعاقدين، وتيسير معاملات الناس وحل مشكلاتهم. وزيادة في التأكيد، والتماسًا لترسيخ هذه الحقيقة نسوق طائفة من فتاوى علماء المسلمين القدامى والمعاصرين والتي جاءت مصرحة بجواز البيع بالتقسيط: 1 - فتوى شيخ الإِسلام ابن تيمية: سئل عن رجل عنده فرس شراه بمائة وثمانين درهمًا، فطلبه منه إنسان بثلاثمائة درهم إلى مدة ثلاثة شهور، فهل يحل ذلك؟ فأجاب: الحمد لله، إن كان الذي يشتريه لينتفع به، أو يتجر به، فلا بأس ببيعه إلى أجل، لكن المحتاج لا يربح عليه الربح المعتاد، لا يزيد عليه لأجل الضرورة. وأما إذا كان محتاجًا إلى دراهم، فاشتراه ليبيعه في الحال، ويأخذ ثمنه، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء (¬1). 2 - فتوى في كتاب "جواهر الفتاوى" السؤال: هل يجوز لأصحاب الأموال بيعها حالًا بثمن، ومؤجلًا بأجل معلوم بثمن أعلى منه أو لا يجوز كما يقول البعض بحجة أي قرض جر نفعًا فهو ربا، ولما في المنهاج من نهى عن بيعتين في بيعة، كأن يقول البائع بعتك نقدًا بكذا أو مؤجلًا بكذا فخذ بأيهما شئت؟ .. أجيبونا مأجورين: الجواب: أن كل الكتب المعتمدة متفقة على جواز البيع المذكور بالوجهين، وأن المال الذي قيمته مائة فلس نقدًا يجوز بيعه مؤجلًا إلى شهر بمائة وعشرة أفلس. ¬

_ (¬1) "مجموعة فتاوى ابن تيمية" (29/ 501).

ولا ربا في ذلك، فإنما هو -الربا- بيع النقود بالنقود، والمطعوم بالمطعوم إذا اتفق النوعان. ففى التحفة دلالة واضحة على أن الأجل يقابله قسط من الثمن وعبارتها في البيع بشرط الأجل وشرطه أن يحدَّد بمعلوم. وأن لا يبتعد بقاء الدين إليه، وإلا بطل البيع للعلم حال البيع بسقوط بعضه، وهو يؤدى إلى الجهالة المستلزم للجهل بالثمن لأن الأجل يقابله قسط منه. وأن استدلال المانع للبيع المذكور بالأجل "كل قرض جر نفعًا فهو حرام" بالأصل المقرر، لا تقريب له، لأن ذلك إنما هو في القرض وهو عقد مستقل غير البيع، وعبارة عن إعطاء شىء شخصًا على اعتبار رد مثله إليه كأن يعطيه عشرة دراهم قرضًا أو قفيزًا من الحنطة مثلًا على الاعتبار المار. فإنه لا يجوز للمقرض أخذ عشرة دراهم وفلس واحد، ولا قفيز حنطة ومُدٍّ بدل ما أقرضه لكون ذلك ربا، وكلامنا في البيع بغير الجنس نقدًا أو عرضًا حالًا أو مؤجلًا وأين هذا من ذلك؟ وأما ما جاء في المنهاج من النهى عن بيعتين في بيعة، فمنشؤه اشتمال الصيغة على كلمة أو للترديد والتشقيق المستلزمة للجهالة والإبهام، وإلا فلو أن البائع بصفقتين كأن باع كيلو من السكر بدرهم حالًا، وكيلو آخر بستين فلسًا إلى شهر وقَبِل المشترى مع ذلك بلا شبهة (¬1). 3 - فتوى الشيخ محمَّد رشيد رضا: حول شراء السلعة بأكثر من ثمن المثل إلى أجل فيجيب: أن هذا الشراء جائز وليس من الربا المحرم -والله أعلم- (¬2). 4 - فتوى الشيخ عبد الوهاب خلّاف وفيها: سألني تاجر هل يحل شرعًا بيع الشيء بسعر أعلى لمن يدفع الثمن مؤجلًا؟ فأجبته: نعم، يحل هذا شرعًا, وليس فيه شىء من الربا المحرم. فيحل شرعًا بيع الإردب من القمح بأربعة جنيهات لمن يدفع الثمن حالًا، وبيعه بخمسة جنيهات لمن يدفع الثمن مؤجلًا (¬3). ¬

_ (¬1) "جواهر الفتاوي أو خير الزاد في الإرشاد"، جمعها ورتبها الشيخ عبد الكريم (2/ 23 - 25)، طبعة سنة 1390 هـ، 1970 م. (¬2) "فتاوى الإمام محمَّد رشيد رضا"، جمع وتحقيق: صلاح الدين المنجد، الجزء الخامس ص 1882 فتوى رقم 690: دار الكتب الجديد بيروت ط 1، 1971. (¬3) "مجلة لواء الإِسلام" ص 822 العدد 11 السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، أبريل 1951 م.

5 - فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز: يقول ... فقد سئلت عن حكم بيع كيس السكر ونحوه إلى أجل بثمن أكبر من الثمن النقدي: والجواب عن ذلك أن هذه المعاملة لا بأس بها، لأن البيع النقد غير بيع التأجيل ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، فكان كالإجماع منهم على جوازها (¬1). 6 - فتوى الشيخ بدر متولي عبد الباسط: سئل عن جواز قيام بيت التمويل الكويتي بشراء السلع والبضائع وبيعها لهم بالأجل وبأسعار أعلى من أسعارها النقدية .. فأجاب بقوله: إن ما صدر عن طالب الشراء يعتبر وعدًا، ونظرًا لأن الأئمة اختلفوا هل الوعد ملزم -يعني قضاءً- أو لا، فإني أميل إلى الأخذ برأى ابن شبرمة - رضي الله عنه - الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، يكون وعدًا ملزمًا قضاء وديانةً وهذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأخذ بهذا المذهب أيسر على الناس والعمل به يضبط المعاملات لهذا ليس هناك من تنفيذ هذا الشرط مانع (¬2). 7 - فتوى "مؤتمر المصرف الإِسلامى الأول بدبي": والذي اجتمع فيه تسعة وخمسون عالمًا من شتى أنحاء العالم الإِسلامي، وقد عرضت على المؤتمر الصورة التالية: يتطلب المتعامل من الصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها، ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به الصرف، وكذلك الثمن الذي سيشتريها به المتعامل من البنك بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما. فجاءت توصية المؤتمر: يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدًا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقًا لذات الشروط. ¬

_ (¬1) "مجلة الاقتصاد الإِسلامى" ص 42، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ، كلمات مختارة ص 137، 138. (¬2) "مجلة الاقتصاد الإِسلامي" ص 34 المجلد الأول، العدد الثالث، صفر 1402 هـ، والفتوى صدرت في جمادى الآخرة 1399 هـ.

إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه (¬1). 8 - فتوى د. أحمد الشرباصى: السؤال: هل يعتبر البيع بالتقسيط حرامًا، إذا كان مجموع الثمن المقسط يزيد عن ثمن السلعة إذا بيعت فورًا؟ الجواب: البيع يكون إما بثمن معجل، وإما بثمن مؤجل إلى أجل معين، وقد نص الفقهاء على جواز النوعين، ومن الواضح أن البيع بالتقسيط من قبيل البيع بثمن مؤجل ... وبهذا يعلم أنه يجوز شرعًا بيع السلعة بثمن مؤجل زائد على ثمنها الحالي إذا كان الأجل معلومًا .. فإذا كان الإنسان مثلًا يشترى جوال السماد بمائتين وخمسين قرشًا بثمن معجّل فإنه يصح أن يشتريه بأربعمائة قرش بثمن مؤجل يدفعه بعد أربعة أشهر من تاريخ الشراء ويكون هذا البيع صحيحًا ولا شىء فيه (¬2). 9 - فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: السعودية: السؤال: أراد رجل الزواج مثلًا، وليس عنده ما يكفى من مبلغ الصداق، فذهب إلى صاحب دكان فقال له أبيعك سيارة بسبعة آلاف ريال سعودى ديْنًا، تدفعها كاملة عند نهاية السنة فهل هذا ربا، مع أن العلم قيمة السيارة نقدًا عشرة آلاف وخمسمائة ريال سعودى فقط، وهذه السيارة هى التي اشترط عليها وهي محور الاشتراط ما بين البائع ومن يريد الزواج. الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من شراء شخص من آخر سيارة لأجلٍ بثمن أكثر مما تباع به نقدًا عاجلًا ليبيعها المشتري إلى من شاء سوى من باعها عليه ومن في الحكمة فليس ربا بل هو عقد بين صحيح وجائز .. (¬3). ¬

_ (¬1) "فتاوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي" المنعقد في المدة من 23 - 25 جمادى الثاني 1399، مجلة الاقتصاد الإسلامي، المجلد الأول، العدد الثالث، صفر 1402 هـ، ص 35. (¬2) "يسألونك في الدين والحياة"، أحمد الشرباصي، المجلد الخامس (147)، الطبعة الأولى: دار الجيل، بيروت. (¬3) "فتوى رقم (1638، 7/ 8/ 1397 هـ).

10 - فتوى صادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء: ردًّا على السؤال التالي: لدى السائل من يبيع السيارات بأقساط وعلى المبلغ المؤجل فوائد محددة لكنها تزيد بتأخير دفع القسط عن موعد تسديده فهل هذا التعامل جائز أم لا؟ وأجابت بما يلي: إذا كان من يبيع السيارة ونحوها إلى أجل يبيعها بثمن معلوم إلى أجل أو آجال معلومة زمنًا وقسطًا لا يزيد المؤجل من ثمنها حدًّا يتجاوزه فلا شىء، وإن كان المؤجل كما هو مفهوم من السؤال يزيد بتأخر دفع القسط عن موعده المحدد بنسبة معينة فذلك لا يجوز بإجماع المسلمين لأنه ينطبق عليه ربا الجاهلية (¬1). 11 - فتوى صادرة عن الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف والشئون الإِسلامية بالكويت: السؤال: ما هو رأى الشرع في البيع بالأجل، هل يسمح الشرع بأن يكون هناك سعر للسلعة في حالة بيعها بالنقد، وسعر آخر لنفس السلعة في حالة بيعها بالأقساط؟ الجواب: أنه لا مانع من أن يكون سعر البيع بالتقسيط أعلى من سعر البيع بالنقد الفورى، وللبائع أن يحتسب الأرباح التي يريدها بأي أسلوب حسابي .. (¬2). 12 - فتوى الدكتور عبد الحليم محمود وقد جاء فيها: لقد أباح جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المؤجل أعلى من الثمن المدفوع فورًا، وذلك لأن الثمن المدفوع فورًا يمكن الانتفاع به في معاملات تجارية أخرى. أما الثمن المؤجل فإنه لا يتأتى فيه ذلك. وهذا النوع من المعاملات ليس داخلًا في نطاق الربا ... (¬3). 13 - فتوى مجلة "منار الإسلام": أجاب الشيخ موسى صالح شرف على سؤال ورد إلى زاوية "منكم وإليكم" ¬

_ (¬1) "مجلة البحوث الإِسلامية"، العدد السادس، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ص 270، ربيع ثاني، جمادى 1، 2 - 1403 هـ. (¬2) "مجلة الشريعة والدراسات الإِسلامية" ص 264، السنة الأولى، العدد الأول، رجب 1404 هـ، تصدر عن جامعة الكويت. (¬3) "فتاوى الشيخ عبد الحليم محمود" (2/ 300، 301): دار المعارف.

بالمجلة بتوقيع -مسلم، المغرب- يقول فيه: أعمل بإحدى الشركات، وتقوم بتوزيع المنازل على من يرغب في شرائها بطريقتين: الأولى أن يدفع الثمن فورًا، والثاني على أقساط تخصم من الراتب، والثمن بهذه الطريقة يفوق الثمن المؤدى فورًا، فهل الزيادة مشروعة أم لا؟ الجواب: يجوز للمسلم أن يشترى ويدفع الثمن فورًا، كما يجوز أن يؤخر دفع الثمن كله أو جزء منه إلى أجل بالتراضي مع الشركة أو صاحب الشىء المباع. وللبائع أن يزيد في الثمن الحالي. بشرط أن لا يستغل المشترى أو يظلمه، والأصل في ذلك الإباحة. لم يرد نص في تحريمه على أن يحدد المشترى إن كان يريد نقدًا أو بالتقسيط منذ البداية وأن لا تكون الشركة تحسب الأقساط على أساس الربا. وأن لا يكون الثمن قابلًا للزيادة فيما لو عجز المشترى عن دفع الأقساط في حينه (¬1). خامسًا: مزايا البيع بالتقسيط وسلبياته: بعد أن استعرضنا أدلة الفقهاء القائلين بجواز بيع التقسيط، والقائلين بعدم جوازه وترجح لدينا أن القول بجوازه هو القول الأقوى دليلًا، والأولى بالترجيح، والأجدر بالعمل به -بعد هذا- أرى إتمامًا للفائدة أن نذكر فوائد هذه المعاملة وإيجابيتها، ومضارها وسلبياتها، فذلك يزيد إلى قناعتنا دليلًا، وإلى يقيننا يقينًا، بصحة القول المختار. أولًا: مزايا بيع التقسيط: 1 - تقديم الشركات والمؤسسات التجارية والمحلات التجارية التسهيلات لذوى الدخل المحدود، ممن لا تسمح لهم مكاناتهم المادية بدفع أثمان السلع التي يحتاجون بثمن حال، وهذا من شأنه أن يرغبهم في الإقبال على التعامل معها، كما يعمل على ترويج السلع والبضائع كيلا تبقى مكدسة في مخازنهم (¬2). ¬

_ (¬1) مجلة "منار الإِسلام"، تصدرها وزارة الأوقاف بدولة الإمارات، العدد الرابع، السنة الحادية عشرة، ربيع الآخر، 1406 هـ، يناير 1986 م، ص 47. (¬2) "العقود المسمّاة"، د. أنور سلطان، 28، شرح عقد البيع في القانون المدني الكويتي، د. عباس الضراف: 76 دار البحوث العلمية بالكويت 1395 هـ، 1975 م، شرح القانون التجارى د. على العريف: 208 مطبعة أحمد مخيمر ط2، 1959. العقود التجارية: على حسن يونس (55) دار الفكر العربي، البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية (6)، العقود الشائعة أو المسماة وعقد البيع (214)، د. جاك حكيم، مطبعة محمَّد نهاد الكتبى، دمشق.

2 - التغلب على المشكلة التي تواجه كثيرًا من الناس -لاسيما الفئات ذات المرتبات المتدنية- والمتمثلة في القدرة على التوفير والادخار، لأن ضيق ذات اليد وكثرة المطالب من جهة، وعدم توافر الإرادة التي لا غنى للإنسان عنها للادخار قد تحول دون هذه الغاية (¬1). 3 - إرضاء رغبة لدى الإنسان في الحصول على الشىء الذي يريد دون انتظار، فالتعامل بالتقسيط يشجع المشترى على الإقدام على الشراء (¬2). ثانيًا: سلبيات البيع فأبرزها: 1 - ما يقع من مشكلات بين البائع والمشترى تنشأ في حالة عجز المشترى عن سداد الأقساط كليًا أو جزئيًا، وذلك بسبب تعذر استرداد البائع للسلعة، أو حصوله على حقه فالبائع يحوِّل معظم أمواله إلى ديون على الغير لا تتوفر فيها ضمانة جدية فإذا عجز معظم المشترين عن الوفاء بسبب أزمة اقتصادية ضيع أمواله وعجز عن الوفاء لدائنه وانعكس ذلك على الوضع الاقتصادى برمته. ويجاب عن هذه السلبية: بأن الأحكام التي شرعت بقصد ضبط علاقة البائع بالمشترى في حالة البيع بالأجل، والتي تبين بدورها كل منهما والتزاماته إزاء الآخر من شأنها أن تتغلب على هذه المشكلات. على أن هذه المشكلات ليست قاصرة على البيع بالتقسيط بل قد توجد في البيع المطلق والإجارة وغيرها من العقود. 2 - أن سهولة الحصول على السلعة والدفع قد تغري المشتري بالشراء لاسيما لسلع قد لا تكون ضرورية مما يثقل كاهله بالدين ويربك ميزانية أصحاب الدخول المحدودة إذا تنوعت الأقساط التي يلتزمون بها، ويكرس روح الاستهلاك في المجتمع، وهذا يتنافى مع توجيهات الإِسلام إلى عدم التوسع في الاستهلاك، والمبالغة في الإنفاق لاسيما في الأمور التحسينية (¬3). ويجاب عن ذلك بأن المسلم في تصرفاته عمومًا ومعاملاته المالية على وجه الخصوص لا يطلق لنفسه العنان كى يسترسل على هواها، بل هو محكوم فيما يأتي ويدع بتوجيهات الشرع وأحكامه التي تدعوه إلى أن يكون معتدلًا في إنفاقه حتى في حالة اليسار {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ¬

_ (¬1)، (¬2) "شرح القانون التجارى" (1/ 208). (¬3) "هامش الوسيط" للدكتور السنهورى (4/ 173)، العقود التجارية (55)، العقود الشائعة (15/ 2).

فأنى للمسلم وهو الذي يتمتع بالأفق الواسع، والعقل الراجح، فلا تستخفه شهوة، ولا يمد عينيه إلى متاع الدنيا وزهرتها إلى حدود المباح المعقول أن يغرق نفسه في الديون التي يعلم أنه سيؤديها ولو بعد حين، وأن يقع تحت وهم سهولة الحصول على السلعة عاجلًا. 3 - أن هذا النوع من البيع يدفع التاجر إلى رفع سعر السلع حتى يواجه احتمال إعسار المشترى وبخاصة في أوقات الانكماش الاقتصادى (¬1). ويجاب عن هذا، بأن التاجر الذي يرتضي لنفسه هذا النوع من التعامل لابد أن يكون على علم بطبيعته ومقتضاه، ويدرك أن سيقتضي إثمان السلع التي يبيع مؤجلة، ولأجل هذه الاعتبارات رخَّص له الشرع بأن يزيد من ثمن السلعة عن الثمن المعجل تعويضًا له عن حرمانه من استثمار ثمنها بسبب التأجيل، ولكن على أن تكون الزيادة في الحدود المقبولة شرعًا وإلا انقلب إلى الربح الفاحش الذي يحرمه الشرع. علاوة على أن إغلاء السعر لا يختص بالبيع بالتقسيط، فقد يربح التاجر ربحًا فاحشًا وإن كان يبيع بثمن حال، متى غابت من ضميره رقابة الله سبحانه وتعالى، وفقدت من قلبه الرحمة بعباده. 4 - أن البيع بالتقسيط يتضمن خطرًا بالنسبة للبائع، لأن المبيع تنقل ملكيته إلى المشترى ويصبح البائع دائنًا بالثمن في حين يكون للمشترى التصرف في المبيع. ولذلك أجاز القانون المدني للبائع أن يتطلب فسخ البيع واسترداد المبيع في حالة امتناع المشترى عن الوفاء بباقي الأقساط (¬2) ويقال جوابًا عن هذه السلبية: إن الضمانات التي منحها الشرع للبائع في حالة حدوث مثل هذا الخطر المتوقع تكفل التغلب على المشكلة وعلاجها. 5 - أنه في حالة إفلاس المشترى لا يحق للبائع وفق القانون التجارى طلب الفسخ والاسترداد لسلعته ويقتصر أمره على أن يكون دائنًا عاديًا يدخل بالباقي من الثمن في التفليسة، ويخضع لقسمة الغرماء تحقيقًا للمساواة بينهم (¬3). ويجاب عن ذلك: بأن ما للبائع بالتقسيط من مال في ذمة المشترى لا يختلف ¬

_ (¬1) "هامش الوسيط" (43/ 173). (¬2) "بيع التقسيط والبيوع الائتمانية" (24). (¬3) "العقود التجارية" (57)، العقود المسماة (215).

عن سائر الديون التي يتحملها لغيره من الغرماء، فلا معنى لتمييزه، لاسيما وأنه أقدم على هذا الضرب من التعامل بمحض اختياره فهو بالتالى مهيئًا لتحمل نتائجه والتعامل معها بصورة إيجابية. من هنا نرى أن سلبيات البيع بالتقسيط -إن وجدت أو وجد شىء منها- فهي طفيفة ضئيلة إزاء المزايا والإيجابيات التي ذكرناها له، كما أنها في أكثرها مبالغ فيها، مما يعزز ما ذهبنا إليه من القول بمشروعية البيع بالتقسيط وحِلِّ التعامل به -إن شاء الله تعالى-. سادسًا: رأى القانون في جواز البيع بالتقسيط: علمنا مما تقدم أن القول بجواز البيع بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال مقسطًا كان أو غير مقسط هو ما ذهبت الجمهرة العظمى من الفقهاء إليه (¬1). والقانون الوضعي يتفق مع الحكم الشرعى في هذا الاتجاه: جاء في الوسيط "يقع كثيرًا أن يبيع شخص عينًا بثمن مقسط ... وأكثر ما يقع ذلك في بيع السيارات والآلات الميكانيكية .. وفي بيع المحلات التجارية والأراضي والدور .. فيجمع إلى أصل الثمن فوائده، ويقسم المجموع أقساطًا على عدد المشهور أو السنين، إذا وفاها المشترى جميعها خلصت له ملكية المبيع" (¬2). فقد ذكر أنه مضاف إلى الثمن الحال فوائده ... وإذا كانت الفوائد هى ما تستعمله القوانين الوضعية من اصطلاح للتعبير عن الفرق بين الثمن المعجل والمؤجل لأنها تقر مبدأ الفائدة الربوية ... فإن ما يقابل ذلك في اصطلاح الشرع هو زيادة الثمن بالنسيئة عنه في النقد مقابل الأجل. فإذا كان الشرع لا يوافق القانون في التسمية والحكم، فلا ريب أن القانون يوافق الشرع على أصل الفكرة وهي زيادة الثمن نظير الأجل. على أننا ينبغي أن نلاحظ أنه إن كان المراد بالفائدة -الزيادة- مع اختلاف الجنسين, كأن يبيع شخص لآخر شقة مثلًا بعشرين ألف دينار يدفع عشرة آلاف حالًا ويدفع العشرة المتبقية مع زيادة مقدار (كذا) على كل قسط لقاء الأجل فإن من العلماء من يرى جواز ذلك: ¬

_ (¬1) انظر ص 52 هامش2. (¬2) "الوسيط" للسنهوري (4/ 172).

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف جواب عن سؤال نصّه: إذا اشترى إنسان ألف متر من الأرض للبناء مثلًا بألفي جنيه على أن يدفع في الحال ربع ثمنها والباقي يدفعه أقساطًا سنوية لمدة خمس عشرة سنة كل قسط مائة جنيه على أن يدفع المائة مائة وخمسة أو ستة فأجاب: بعض المسلمين قالوا هذا حرام لأن هذه الخمسة فائدة وهي ربا محرم، وأنا أخالف في هذا وأقرر أن هذه الخمسة أو الستة ليست ربا الفضل الوارد بالسُّنة وإنما هى حصة الأجل من الثمن وهي الفرق بين سعر المبيع إذا بيع بثمن حال وسعره إذا بيع بثمن مؤجل. ويقول "وزارة الأوقاف تبيع الأرض في مدينة الأوقاف على هذه الصورة: يدفع المشترى في الحال خُمس الثمن ويدفع الباقي على خمسة عشر قسطًا، منها عشرة أقساط يدفع المشترى فوق كل قسط ثلاثة أو أربعة في المائة منه، وسمتها فائدة ولهذا اعترض عليها بعض المسلمين فسمتها بدل بيع، وأخيرًا صرحت بالحقيقة وجعلت في وقت للمزايدة سعرين: سعرًا للمتر لمن يدفع الثمن كله في الحال، وسعرًا أعلى للمتر لمن يدفع بعض الثمن في الحال وباقيه على آجال. والفرق يساوى مجموع ما كان يضاف على الأقساط" (¬1). ويبدو لي أن ما ذهب إليه الشيخ خلاف -رحمه الله- من جواز إفراد الزيادة على القسط الشهرى بالذكر أو غير مستساغ شرعًا، بخلاف ما لو أُدمجت الزيادة التي تقابل الأجل مع المبلغ الإجمالي للسلعة ولم تتميز، كما لو قال البائع للمشترى: أبيعك هذه الشقة بعشرين ألفًا، تدفع نصفها فورًا ويقسط الباقي على أشهر معلومة، وكان قد أضاف الزيادة التي تقابل التأجيل إلى العشرين ألفًا فإن البيع يجوز. في حين لو قال له: رأس مالها خمسة عشر ألفًا وتدفع كذا فورًا والباقي على أقساط، ويضاف إلى كل قسط زيادة مقدارها كذا -وهي الصورة التي أفردها الشيخ- فإن ذلك لا يجوز، لأن هذه الزيادة لا معنى لها حينئذ إلا الربا المحرم. والله تعالى أعلم. المبحث الرابع: أحكام بيع التقسيط: المطلب الأول: شروط البيع بالتقسيط: من المعلوم أن لعقد البيع المطلق شروطًا ¬

_ (¬1) مجلة "لواء الإِسلام" (ص 903)، عدد مايو 1951، فتوى الشيخ عبد الوهاب خلاف.

فصلتها كتب الفقه الإسلامي، غير أن البيع بالتقسيط يختص ببعض الشروط المرتبطة بطبيعته أهمها ما يأتي: أولًا: أن يكون الأجل أو الآجال فيه معلومة: فلما كان الأجل عنصرًا أساسيًا في بيع التقسط لأنه قسيم البيع المطلق أو الحال الذي يدفع الثمن فيه فورًا، فسنتكلم عن العلم بالأجل من حيث الاعتبارات التالية: 1 - معناه: من اللازم أن يكون أجل دفع كل قسط في هذا البيع معلوم الوقت عند كلا العاقدين, لأن جهالته تفضى إلى النزاع فيفسد البيع. والظاهر من عبارة جمهور الفقهاء أن أجل الدفع إذا كان مجهولًا فإن البيع يفسد سواء أكان الجهالة يسيرة أم فاحشة، فإذا حدد دفع كل حصة بآخر الشهر مثلًا صح فاتفاق نظرًا للعلم النافي للجهالة، أما إن كان وقت الدفع مجهولًا جهالة فاحشة كما لو حدده بنزول المطر مثلًا فهذا باطل باتفاق. أما إن كانت الجهالة يسيرة كالتحديد بالحصاد فالبيع باطل عند الجمهور أيضًا, لأن الفاحشة فيها غرر الوجود والعدم، واليسيرة مما يتقدم الأجل قيس ويتأخر؛ فيؤدى إلى المنازعة فيوجب فساد البيع. وقال بعض الحنفية بالجواز إن كانت الجهالة ليست فاحشة نظرًا وإن الحصاد لا يكون في كل وقت بل في مدة من الزمن محدودة يتردد وقوعها بين أولها وآخرها (¬1). وقد ذهب المالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح في المذهب إلى أن تأجيل الثمن إلى أجل مجهول يبطل العقد (¬2) وذهب الحنفية إلى أن البيع لا يبطل بالجهالة اليسيرة كقدوم الحاج والحصاد (¬3). وذهب أحمد في رواية عنه، وهو قول ابن شبرمة إلى أن العقد صحيح ويبطل التأجيل (¬4). ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (7/ 3093)، "المبسوط" (13/ 26، 27)، "الفتاوى البزازية" (4/ 404)، "المجموع" (9/ 373)، "كشاف القناع" (3/ 194، 203)، "الفروع" (4/ 85)، "حاشية قليوبي وعميرة" (2/ 177)، "شرح النيل" (4/ 4)، "حاشية الدسوقي" (2/ 67). (¬2) "الدسوقى على الشرح الكبير" (2/ 123)، "حاشية قليوبي وعميرة" (2/ 178)، "المغني" (3/ 589). (¬3) "الهداية" (2/ 33)، "فتح القدير" (6/ 455). (¬4) "المغني" (3/ 589).

دليل الجمهور: إن هذا شرط فاسد، والبيع يبطل بالشروط الفاسدة، وأنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة (¬1). دليل الحنفية: أن الجهالة مانعة من لزوم العقد، وليست في صُلبه، بل في أمر خارج هو الأجل، فإذا زال المانع قبل وجود ما يقتضي الفساد وهو المنازعة عند المطالبة الحاصلة عند مجىء الوقت ظهر محل المقتضى وهو انقلابه صحيحًا (¬2). دليلُ رواية الحنابلة الثانية قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون على شروطهم"، ولأن الأجل مجرد وصف للعقد لا ركن فيه فيلغى ويصح العقد، ولأن الفساد للمنازعة وقد ارتفع قبل تقرره (¬3) والراجح ما ذهب إليه الجمهور من القول ببطلان هذا العقد، لأن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد، ولأن العقد لا يخلو عن أن يكون صحيحًا أو فاسدًا، فإذا كان صحيحًا مع وجود الأجل لم يفسد باشتراطه، وإن كان فاسدًا لم ينقلب صحيحًا كما لو باع درهمًا بدرهمين ثم حذف أحدهما. جاء في المادة (246) من مجلة الأحكام العدلية: يلزم أن تكون المدة معلومة في البيع بالتقسيط والتأجيل، وفي المادة (247): إذا عقد البيع على تأجيل الثمن إلى كذا يومًا أو شهرًا أو سنة أو إلى وقت معلوم عند العاقدين كيوم قاسم ويوم النيروز صح البيع إذا كان قاسم أو النيروز معلومًا عند المتبايعين، أما لو كان مجهولًا عندهما أو عند أحدهما فقط فلا يصح. وفي المادة (248): تأجيل الثمن إلى مدة غير معينة كأمطار السماء يفسد البيع (¬4) أما القانون الوضعى ففى المادة (483) من القانون الأردني: الثمن في البيع المطلق يستحق معجلًا ما لم يتفق على أو يتعارف على أن يكون مؤجلًا أو مقسطًا لأجل معلوم وفي المادة (574) مدنى عراقى "يصح البيع بثمن حال إلى أجل معلوم". وهاتان المادتان وإن ذكرتا الأجل في ظاهر النص، وأوجبنا أن يكون أجل ثمن ¬

_ (¬1) المراجع في هامش (2). (¬2) "فتح القدير" (6/ 455). (¬3) "كشاف القناع" (3/ 190) "المغني" (3/ 590). (¬4) "شرح مجلة الأحكام العدلية"، منير القاضى (1/ 280 - 282)، درر الحكّام شرح مجلة الأحكام، حيد مجلد 1ج (2/ 473)، "النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإِسلامية"، صبحى محمصانى، (473): دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1972 م.

المبيع معلومًا، إلا أنه ليس فيهما ما يدل على أن عدم ذكره يبطل العقد. فلم يقصد بهما مخالفة القواعد القانونية العامة، ومن ثم يفسر النص على أنه ذكر حكم البيع بثمن مؤجل إلى أجل معلوم، وسكت عن حكم البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول، فيرجع إلى القواعد القانونية العامة وهي تجيز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول. ومن هنا نرى أن الاتجاه القانوني يخالف الاتجاه الفقهي الإسلامي من حيث تحديد أجل معلوم للثمن، ففى حين يشترط الفقه ذلك، ويتشدد فيه، ويبطل العقد عند انعدامه، فإن القوانين المدنية تسمح بقدر من الغرر لا تسمح به الشريعة الإِسلامية. ولا ريب أن نظرة الفقه الأكثر سدادًا وهي الأحق بالعمل بها (¬1). وهذا هو قول أبى حنيفة. وقال الصاحبان: الحالان سواء، ولا يعطى المشترى أجلًا في الحالة الثانية لأن السنة المطلقة تنصرف إلى سنة تعقب العقد بلا فصل، فإذا مضت انتهى الأجل، كما لو عين الأجل نصًّا (¬2). وإلى هذا ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة حيث اعتبروا ابتداء الأجل من وقت العقد (¬3). وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية برأى أبي حنيفة. ففى المادة (250) يعتبر ابتداء مدة الأجل والقسط المذكورين من وقت تسليم المبيع (¬4). كما نصت المادة (484) من القانون الأردني على أنه إذا كان الثمن مؤجلًا أو مقسطًا فإن الأجل يبدأ من تاريخ تسليم المبيع، وفي المادة (574) من القانون العراقي يعتبر ابتداء الأجل والقسط المذكورين فيعقد البيع وقت تسليم المبيع ما لم يتفق على غير ذلك" (¬5). وما قلناه من ابتداء الأجل من وقت التسليم عند أبي حنيفة مشروط بما إذا لم يكن للمشترى خيار فإن كان في البيع خيار الشرط لهما أو لأحدهما فابتداء الأجل من حين وجوب العقد وهو وقت سقوط الخيار لا حين وجوده لأن تأجيل الثمن ¬

_ (¬1) "نظرية الأجل" (187)، "أحكام عقد البيع" (287). (¬2) "بدائع الصنائع" (7/ 3093، 3261)، "الفتاوى البزازية" (4/ 511). (¬3) "المجموع" (9/ 214)، "كشاف القناع" (3/ 203). (¬4) "مجلة الأحكام العدلية"، منير القاضى (1/ 284). (¬5) "أحكام عند البيع" (286).

هو تأخيره عن وقت وجوبه ووقت وجوبه هو وقت العقد وانبرامه لا قبله. وهذا قول أبي حنيفة. وبه قال إمام الحرمين من الشافعية، لأن الخيار يمنع من المطالبة بالثمن كالأجل فكان قريبًا والخيار تأجيل لإلزام الملك أو نقله والأجل تأخير المطالبة، فكان في معناه ولا سبيل إلى جمع المثلين (¬1). وقال الشافعية والحنابلة ابتداء الأجل ومن وقت العقد -على الراجح من مذهبهم (¬2). وإلى هذا المعنى ذهبت المادة (250) من المجلة. 3 - انتهاء الأجل؛ إذا باع رجل لآخر سلعة بثمن مؤجل أو مقسط، فإن الأجل يحل في الحالات التالية: (أ) حلول الأجل: فإذا باع السلعة على أن يدفع المشترى مقدارًا معينًا من الثمن في نهاية كل شهر مثلًا، فإن الأجل ينتهى لكل قسط بانقضاء الشهر. وقبل ذلك لا يحق للبائع أن يطلب المشترى بالثمن لأن رضاه بالتأجيل رضي بتأخير حقه إلى الموعد المضروب. (ب) موت المشتري وإفلاسه: فإذا توفي المشترى حل الثمن المؤجل، ولا يحل بموت البائع، لأن الأجل يبطل بموت المدين دون الدائن، ووجه ذلك: أن فائدة التأجيل تظهر في أن يتجر المشترى فيؤدى الثمن من نماء المال، فإذا مات تعين المال الذي تركه لقضاء الدين فلا يجدى التأجيل (¬3). وإذا أفلس المشتري في البيع المؤجل وعجز عن أداء الثمن فلا يفسخ العقد، لأنه يجوز للشخص أن يشترى سلعة بقرض حالًا وإن لم يكن في ملكه، نعرف أن وجوب تسليم الثمن ليس من حكم العقد، والعجز عن تسليم الثمن إذا طرأ بالإفلاس لا يكون أقوى من العجز عن تسليم الثمن إذا اقترن بالعقد (¬4). 3 - شروط التأجيل: يشترط لصحة التأجيل والتقسيط ما يأتي: (أ) أن يكون الثمن من نوع الديون، فإذا أجل تسليم المبيع المثلى إلى الثمن ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (7/ 3662). (¬2) "المجموع" (9/ 215)، "كشاف القناع" (3/ 204). (¬3) "الفتاوى البزازية" (4/ 511، 512)، "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (2/ 212)، "الأم" (3/ 88)، "المغنى" (4/ 485). (¬4) "المبسوط" (13/ 198).

المعين بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا فالبيع باطل. لأن التأجيل إنما جاز لضرورة عدم وجود الثمن لدى المشترى وتمكينًا له من اكتسابه في مدة الأجل، ولا ضرورة في الأعيان، فكان التأجيل فيها تغييرًا لمقتضى العقد فأوجب فساده (¬1). (ب) أن لا يكون الثمن بدل صرف، ولا ثمن مسلم فيه في بيع السلم، لأنه يشترط فيهما قبض الثمن في المجلس، فلا يمكن التأجيل سدًّا لذريعة الربا (¬2). (جـ) أن لا يكون في السعر غبن فاحش: فعلى البائع أن يقتصر على الربح الذي جرت به العادة وأن لا يستغل ظروف المشترى الحرجة ليبيعه بأضعاف مضاعفة, لأن هذا من الجشع والطمع والإضرار بالناس وأكل أموالهم بالباطل (¬3). (د) العلم بالثمن الأول إذا كان البيع بالتقسيط يقع في نطاق بيوع الأمانة كبيع المرابحة والتولية أو المواضعة، فإذا لم يكن معلومًا فالبيع فاسد لجهالة الثمن (¬4). (هـ) أن لا يشترط في عقد البيع بالتقسيط أنه إذا عجل المشتري الثمن فإن البائع يسقط من المطلوب قدرًا معينًا. ويحق للبائع إسقاط بعض الثمن دون اتفاق مسبق ويكون ذلك من قبيل تمليك الدين ممن هو عليه، ومن باب حسن الاقتضاء (¬5). (و) لا يجوز في عقد البيع بالتقسيط أن يشترى البائع على المشترى -سواء عند العقد أم بعده- أن يزيد في الثمن أو الربح عندما يتأخر المدين عن الوفاء بالدين (¬6). ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (7/ 4083 - 84)، "المجموع" (9/ 373). (¬2) "الفتاوى البزازية" (4/ 398). (¬3) "مجموعة فتاوى ابن تيمية" (29/ 496)، "الإِسلام وثقافة الإنسان" (397)، "الحلال والحرام"، القرضاوى (147)، "مجلة لواء الإِسلام" (822) عدد 11 السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، 1951 م، "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ، "مجلة البحوث الإِسلامية" العدد السابع 1403 هـ، فتوى رقم 71. (¬4) الفتوى الصادرة عن الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية رقم (61/ 81)، نشرتها مجلة الشريعة (ص 264) العدد الأول، السنة الأولى. (¬5) "فتوى الهيئة العامة بوزارة الأوقاف الكويتية"، نظرية الأجل، د. عبد الناصر العطار (271). (¬6) "فتوى الهيئة العامة بوزارة الأوقاف الكويتية" رقم (61/ 81).

(ز) أن يكون غرض المشتري من شراء السلعة بثمن مؤجل أعلى من المعجل سد حاجته إليها، أو الاتجار بها، أما إذا كان يقصد من ذلك بيعها لحاجته الماسة إلى مبلغ من المال لقضاء بعض مصالحه، وهي ما تعرف بمسألة عدم الجواز، لما روى أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - سئل عن التورق فقال: هو أخية الربا (¬1). وهناك بعض الشروط التي انفرد القانون الوضعى بذكرها لبيع التقسيط: 1 - أن يكون البائع تاجرًا، ومعتادًا على بيع السلعة بالتقسيط، أو يشكل البيع بالتقسيط أحد أعماله الأساسية (¬2). 2 - أن لا يقل رأس ماله عن خمسة آلاف جنيه مصرى أو ما يعادلها لغرض إكسابه مركزًا ماليًا يمنعه من التعسف (¬3). 3 - أن يتوفر لديه سجل خاص لقيد العمليات المتعلقة بهذا البيع، وفق النموذج الذي تقره وزارة التجارة (¬4). 4 - أن يكون عقد البيع محررًا على نسختين، وذلك حسمًا لمادة النزاع الذي ربما ثار بين المتعاقدين (¬5). 5 - أن يستوفى البائع ما لا يقل عن 25% من ثمن السلعة نقدًا عند التسليم بقصد حماية المشترى (¬6). 6 - أن لا يقل القسط عن جنيه شهريًا، وأن لا تزيد مدة التقسيط المتبقى من ثمن البيع عن سنتين من تاريخ العقد (¬7). 7 - أن تكون أقساط الثمن متساوية في المقدار، وأن تكون منتظمة وتؤدى خلال فترة معقولة (¬8). وهذه الشروط لا تأباها نصوص الشريعة وقواعدها العامة كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون على ¬

_ (¬1) "مجموعة فتاوى ابن تيمية" (29/ 486). (¬2) "العقود التجارية" (60 - 63)، القانون التجارى، رضا عبيد (68 - 70)، "شرح القانون التجاري"، د. على الصريف (1/ 212، 213)، النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإِسلامية (2/ 473). (3 - 7) المراجع السابقة. (¬8) بيع التقسيط (16).

شروطهم .. " وقاعدة: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وقاعدة: لا ضرر ولا ضرار: الضرر يزال، كما أشار ابن عابدين في حاشيته إلى بعض هذه الشروط (¬1). المطلب الثاني: مقتضى البيع بالتقسيط وتبعاته: مقتصى عقد البيع انتقال ملكية المبيع للمشترى، وملكية الثمن للبائع. ولما كان الثمن في البيع بالتقسيط مؤجلًا، فعليه لا يتم قبضه عند التعاقد، غير أن ذلك لا يعطى البائع حق الامتناع من تسليم البيع. جاء في المجموع شرح المهذب (قال أصحابنا: للمشترى الاستقلال بقبض المبيع بغير إذن البائع إذا كان دفع الثمن، أو كان مؤجلًا. ..) (¬2). وقال في موضع آخر "ولو باع بشرط أن لا يسلم المبيع حتى يستوفى الثمن، فإن كان الثمن مؤجلًا بطل العقد، لأنه يجب تسليم المبيع في الحال، فهو شرط مناف لمقتضاه" (¬3). ومعلوم أن مقتضى العقد هو تملك المبيع بمجرد تمامه. وقال الكاساني في عداد حديثه عن الشروط الفاسدة في عقد البيع .. ومنها شرط الأجل في المبيع العين والثمن العين، وهو أن يضرب لتسليمها أجل، لأن القياس يأبى التأجيل أصلًا، لأنه تغيير مقتضى العقد، لأنه عقد معاوضة تمليك وتسليم بتسليم. والتأجيل ينفى وجوب التسليم المال فكان مغيرًا لمقتضى العقد. وإنما جاز التأجيل لصاحب الأجل لضرورة العدة ترفيهًا وتمكينًا له عن اكتساب الثمن في المدة المضروبة، ولا ضرورة في الأعيان فيبقى الأجل فيها تغييرًا محضًا لمقتضى العقد فيوجب فساد العقد (¬4). وقال في موضع آخر ومن آثار عقد البيع: ثبوت حق الحبس للمبيع لاستيفاء الثمن في الثمن الحال، فإن كان مؤجلًا لا يثبت حق الحبس، لأن ولاية الحبس تثبت حقًّا للبائع لطلبه المساواة عادة، ولما باع بثمن مؤجل نقدًا سقط حق نفسه فبطلت الولاية، وكذا الحكم لو كان الثمن حالًا فأجله البائع بعد العقد (¬5). ويقول ¬

_ (¬1) "حاشية ابن عابدين" (4/ 533). (¬2) "المجموع" (9/ 295). (¬3) "المجموع" (9/ 412). (¬4) "بدائع الصنائع" (7/ 3083، 3084). (¬5) "بدائع الصنائع" (7/ 3261).

"إذا أخر -البائع- الثمن بعد العقد بطل حق الحبس، لأنه أخر حق نفسه في قبض الثمن فلا يتأخر حق المشترى في قبض المبيع وكذا لو قبض المشترى المبيع بإذن البائع بطل حق الحبس حتى لا يملك الاسترداد لأنه أبطل حقه بالإذن بالقبض" (¬1). وجاء في المبسوط "إذا لم يصل إلى البائع جميع الثمن يبقى له الحق في حبس المبيع إلا أن يكون الثمن مؤجلًا، فحينئذ ليس له أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل، ولا بعد حلول الأجل, لأنه قبل حلول الأجل ليس له أن يطالب بالثمن، وإنما بحبس المبيع بما له أن يطالبه من الثمن، وأما بعد حلول الأجل فلأن حق الحبس لم يثبت له بأصل العقد فلا يثبت بعد ذلك تبعًا بهذا الحق ما كان له من استحقاق إليه قبل البيع، فإذا لم يبق ذلك بعد العقد، لا يثبت ابتداء بحلول الأجل (¬2). وجاء في المدونة: (قلت) أرأيت لو أني اشتريت من رجل ثوبًا بعينه بعشرة دراهم إلى أجل، فافترقنا قبل أن أقبض الثوب منه، أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال): نعم والبيع جائز، وللمشترى أن يأخذ ثوبه، ولا يفسد البيع افتراقهما، لأنه لم يمنع من أخذه منه، لأن الثمن إلى أجل، وليس للبائع أن يحبس الثوب ويقول لا أدفعه حتى آخذ الثمن (¬3). وفيها أيضًا: (قلت) أرأيت لو اشتريت منه سلعة بعينها بدين إلى أجل فافترقنا قبل أن أقبض، أيجوز هذا في قول مالك أم لا؟ (قال) لا بأس بذلك في قوله وليقبض سلعته، لأن مالكًا كره أن يشترى الرجل الطعام كيلًا بدين إلى أجل والطعام بعينه، ثم يؤخر كيل الطعام إلى الأجل البعيد (¬4). وفي المغني: ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده، باختيار البائع وبغير اختياره، لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن .. (¬5) وهذا في حال كون الثمن معجلًا، ففى المؤجل أولى. وفيه أيضًا: "وإن اختلفا في التسليم فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض ¬

_ (¬1) "بدائع الصنائع" (7/ 3265). (¬2) "المبسوط" (13/ 192، 193). (¬3) "المدونة الكبرى" للإمام مالك بن أنس (4/ 153)، دار صادر، بيروت. (¬4) "المدونة الكبرى" (4/ 154). (¬5) "المغني" (4/ 126).

الثمن. وقال المشترى: لا أسلم حتى أقبض المبيع، والثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع .. " ويقول: وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع على الإطلاق (¬1) يعني سواء اكان في الذمة أم عينًا، مؤجلًا أم معجلًا. وفي الدر المختار: وفي بيع سلعة بمثلها أو ثمن بمثله سلما معًا ما لم يكن أحدهما دينًا كسلم وعن مؤجل، وقال صاحب رد المختار: للبائع حبس المبيع إلى قبض الثمن ... ويسقط بتأجيل ثمن (¬2). ويقول ابن أمين الحجاج "المبيع المؤجل فيه الثمن سبب في الحال، لأن الأجل دخوله على الثمن ليقيد تأخير المطالبة قبل الأجل لا على البيع، فلا معنى لمنعه من الانعقاد ولا لحكمه الذي هو ثبوت الملك في البيع وثبوت الثمن في الذمة إذ لا وجه لتأثير الشىء فيما لا يدخل عليه. ومعنى هذا أن البيع المؤجل فيه الثمن ينعقد صحيحًا نافذًا لازمًا إلا فيما دخل عليه الأجل (¬3). ومن هذه العبارات يظهر بجلاء أن الملكية تنتقل بمجرد العقد وأنه ليس لأجل الإضافة في الفقه الإسلامي أثر على وجود الالتزام وأن البائع لا يجوز أن يمتنع من تسليم السلعة إذا قبضها المشترى بإذنه، أو كان الثمن مؤجلًا قبض شيئًا من الثمن أو لم يقبضه كله، لأنه أسقط حق نفسه باختياره، فلا يثبت له ما ينافى مقصود الشرع من العقد. وكما أن المبيع ينتقل إلى المشترى كمقتضى للعقد، فإن ينتقل إلى البائع بمقتضاه أيضًا، ويكون هذا الانتقال فوريًا إن كان الثمن حالًا، وعند حلول الأجل إن كان الثمن مؤجلًا. وفي القانور الوضعي من المقرر كذلك أنه لا ارتباط من انتقال الملكية وبين أداء الثمن، فالملكية تنتقل إذا كان المبيع منقولًا معينًا بالذات فعقد البيع ينشىء التزامًا بنقل الملكية وإذا جرى الاتفاق على تأجيل الثمن أو على أقساط تستحق بعد فترة من إبرام العقد فيتوجب على البائع أن يسلم المبيع فور الانتهاء من إبرام البيع، ولكن انتقال الملكية كما نصت على ذلك المادة (286) و (269) و (374) من مجلة ¬

_ (¬1) "المغني" (4/ 218). (¬2) "حاشية رد المحتار على الدرر المختار" (4/ 561). (¬3) "التقرير والتجبير شرح التحرير" لابن أمين الحاج (132)، ط 1316 بمصر.

الأحكام وإلى هذا أشارت المادة (346) من القانون المدني المصري و (356) مدني عراقي و (397) مدني كويتي (¬1). ولكن انتقال الملكية يتم تلقائيًا في المبيع المعين بالذات الذي يملكه البائع، والإفراز في المبيع المنقول المعين بالنوع، وبالتسجيل في العقار ويتم انتقال الملكية مقابل التزام المشترى بالثمن سواء دفعه المشترى حين العقد، أم بقى دينًا في ذمته مستحق الأداء أم كان مؤجلًا أم مقسطًا. وهذا ما نصت عليه المواد (204، 205) مدني مصرى، (393، 394) مدني لبناني، (231) مدني عراقي، (205، 206) مدني سوري و (494) مدني أردني (¬2). ومما تقدم يظهر أنه فيما يتعلق بالمنقول المعين بالذات أن ملكيته تنتقل إلى المشترى فور إبرام العقد، ويستوى في ذلك حكم الشرع ومجلة الأحكام والقوانين الوضعية (¬3). ونظرًا لطبيعة بيع التقسيط التي تيسر للمشترى الحصول على السلعة بشروط سهلة تغريه بالشراء فيثقل بذلك كاهلة ويعجزه عن الوفاء بدينه، مما ينعكس أثره على البائع إضاعة لحقوقه، وإضعافًا لمركزه المالي مع من يحصل على بضائعه منهم، لذا اقتضى الأمر أن يقوم المشرع القانوني ببعض الترتيبات بغرض الحفاظ على حقوق كل من البائع والمشترى في هذه المعاملة وكان أبرز هذه الإجراءات ما يأتي: أولًا: فيما يتعلق بالمحافظة على حقوق البائع: وتحقيقًا لهذا الغرض منح الضمانات التالية: 1 - حق حبس المبيع والامتناع من تسليمه للمشترى في حالة إفلاس المشترى أو إعساره أو ضعف التأمينات التي قدمها لكفالة الثمن. 2 - حق استرداد المبيع فيما إذا أحل المشترى بتنفيذ التزامه بسداد ثمن المبيع بعد مضى الأجل المحدد في بيع التقسيط. ¬

_ (¬1) "شرح عقد البيع" د. الصراف (353، 526 - 529). (¬2) "نظرية الأجل" (112)، "بيع التقسيط" في هامشه (101, 102)، "شرح أحكام عقد البيع" د. الونداوى، (108)، "شرح أحكام عقد البيع في القانون المدني الليبي" (165)، "العقود المسماة"، أنور سلطان، 22 - 24. (¬3) "شرح عقد البيع" د. الصراف (357).

3 - الاحتفاظ بالملكية: فيجوز للبائع أن يشترط في العقد تعليق انتقال الملكية على شرط واقف يتمثل بدفع الثمن المقسط كله. 4 - الرهن والكفالة. 5 - إيقاع بعض الجزاءات على المشتري إذا امتنع عن تسلم المبيع كالغرامة التهديدية، أو إيداع المبيع عند ثالث، أو المطالبة بالفسخ. وتطبق على هذه الضمانات أحكامها العامة كما أوردتها كتب الفقه والقانون في مظانها. ولقد رتب قانون التجارة على المشترى عقوبات شديدة في هذه الحالة منها بيع السلعة بالمزاد العلني بعد مضى مدة معقولة يحددها البائع ويخطر بها المشترى بسرعة، أو أن يبيعها في السوق إن كان لها سعر معلوم على يد سمسار، ومن ثم يودع حصيلة البيع خزانة المحكمة مع الاحتفاظ بحقه في خصم الثمن ومصروفات البيع (¬1). ثانيًا: في جانب المشتري: قلنا أن البيع إذا تم صحيحًا مستوفيًا لأركانه وشروطه لزم البائع أن يقوم بتسليم المبيع للمشترى سواء كان الثمن حالًا أم مؤجلًا برضا البائع، ويلتزم البائع في مقابل ذلك بتسليم الثمن للبائع إذا كان حالًا، أو عند حلول أجل الأقساط إذا كان مقسطًا. وتحدثنا فيما تقدم عن الضمانات الشرعية والقانونية التي تحفظ من البائع في مواجهة المشترى سواء من حيث الامتناع من تسليم المبيع، أو فسخ العقد واسترداد السلعة، أو الاحتفاظ بملكية المبيع، أو الإيجاز السائر للبيع، أو أخذ رهن أو كفيل. وسنتكلم الآن عن الضمانات التي منحها الشرع والقانون للمشترى من أجل المحافظة على حقوقه وأهمها: 1 - تسليم العين المبيعة: وينطبق على التسليم من حيث كيفيته وطرقه، والحالة التي يسلم عليها المبيع، وجزاء الإخلال به من التنفيذ العيني جدًّا، وفسخ العقد، وضمان عدم التعرض والاستحقاق والعيوب الخفية أحكام تسليم المبيع والثمن -بوجه عام- على البيع بالتقسيط. ¬

_ (¬1) "شرح عقد البيع في القانون الكويتي" (673).

2 - حق حبس الثمن: فإذا كان تنفيذ البائع لالتزامه بتسليم المبيع مؤجلًا إلى وقت لاحق محدد ومتفق عليه بين الطرفين، وكما دفع الثمن مقسطًا كذلك، فلم يقم البائع بتسليم المبيع في الزمن المحدد، فإن للمشترى الحق في التوقف عن دفع الأقساط اللاحقة، لأنه لا يمكنه المطالبة بإبطال البيع في هذه الحالة، ولا ممارسة دعوى الضمان فيكون له الامتناع عن الوفاء بالثمن (¬1). ويملك المشترى هذا الحق سواء كان لم يتسلم المبيع بعد، أم تسلمه لكنه عاد إلى البائع لسبب فاحتفظ به (¬2)، ومن جهة أخرى يملك المشترى حبس الثمن عن البائع إذا تهدد حق المشترى في ملكية المبيع الذي تسلمه فعلًا كما لو تعرض أحد للمشترى مطالبًا بالمبيع إلى حق سابق على البيع، أو إذا حكم على المبيع أن ينزع من المشترى لظهوره مستحقًا بدين أو رهن، أو كان به عيب خفي يبرر رده، وقد جاء في المادة (392) من المجلة أنه لا يجوز بأى وجه كان للمشترى أن يحبس الثمن الحال بعد قبض في المبيع إلا إذا استحق المبيع -وقد نص القانون على جواز المبيع كما في المواد (457) مصرى، (446) ليبي، (425) سوري، (430) لبناني، (576) عراقي. ويثبت حق المشترى في التعرض ولو لم ينص عليه في البيع كما في (445) مصري، (434) ليبي، (413) سوري، (576) عراقي (¬3). وكذلك يملك نزع المبيع من يد المشتري لأسباب جدية كما لو طالب الشفيع بالمبيع بحق الشفعة، ودفع الثمن للبائع، أو كما لو كان البائع قد اشترى المبيع ولم يدفع ثمنه، الأمر الذي يهدد بفسخ عقد البيع واسترداد المالك الأصلي للمبيع. ولو ظهر في المبيع عيب خفي يستوجب ضمان البائع كان للمشترى أن يحبس الثمن (¬4). وفي الحالات السابقة يتوقف حق حبس الثمن على ما إذا كان لم يدفع الثمن. أما إذا كان قد دفعه فليس أمامه إلا دعوى الفسخ أو دعوى الضمان (¬5). ¬

_ (¬1) "بيع التقسيط والعقود الائتمانية" (328). (¬2) المرجع نفسه (329). (¬3) "شرح عقد البيع في القانون الكويتي" (664)، "بيع التقسيط" (330 - 338). (¬4) "العقود المسماة" (285 - 288)، "أحكام عقد البيع" الوانداوى (170، 214)، "شرح عقد البيع في القانون الليبي" (296) وما بعدها، "شرح عقد البيع في القانون الكويتي" (418، 419). (¬5) "بيع التقسيط" (340)، "عقد البيع" الوانداوي، (287)، "شرح عقد البيع في القانون الليبي" (266)، "العقود المسماة" (178).

ويسقط حقه في الحبس في تلك الحالات إذا زال سبب الحبس أو تنازل المشتري له عن حق الحبس أو قدم البائع للمشتري كفيلًا بالثمن (¬1). 3 - حماية المشتري بالتطبيق للقواعد العامة: فيستطيع المشتري بموجب القواعد العامة المنظمة لإبرام العقود اللجوء إلى القواعد المتعلقة بعيوب الإرادة بصفة خاصة، كالغلط والتدليس والإكراه والاستغلال، كما يستطيع اللجوء إلى نظرية الظروف الطارئة التي تسمح للقاضي إذا ظهرت حوادث استثنائية لم يكن بالإمكان توقعها على حدوثها إرهاق المدين وتهديده، بخسارة فادحة بأن يتدخل لتعديل آثار العقد لصالح المشتري وخفض الجزء المؤجل دفعه من الثمن (¬2). 4 - حماية المشتري بنصوص تشريعية خاصة: فنظرًا لعدم كفاية القواعد العامة على توفير الحماية اللازمة للمشتري، فقد وضع الشرع عددًا من الأنظمة التشريعية الخاصة بهدف الوقوف إلى جانب المشتري ومنها: حماية سابقة على التعاقد: وذلك بإلزام كل من يقوم بالنشر أو الإعلان عن سلعة لإغراء المستهلك بشرائها بالتقسيط ببعض البيانات سواء الشخصية المتعلقة بشخصية البائع وطبيعة المبيع ومدة الدفع، أو المتعلقة ببيان ثمن السلعة الحقيقي، وبذا يكون المشتري على بينة من الأمر، فلا يتعرض للغش أو الخداع من قبل البائع (¬3). حماية في مرحلة التعاقد: وذلك عن طريق إصدار الأنظمة التي تلزم بأن يتم عقد البيع الآجل كتابة، وإعلام المشتري بشروط التعاقد، وتحديد شروط التعاقد من حيث بيان الحد الأدنى الذي يدفع مقدمًا، ومدة الأجل والحد الأقصى للزيادة في الثمن مقابل الأجل، وعدم إعطاء البائع الحق في استحقاق الأقساط المتبينة إذا عجز المشتري عن أداء بعض الأقساط (¬4). ¬

_ (¬1) "عقد البيع" (292 - 294)، "شرح أحكام عقد البيع الليبي" (354)، "الوسيط" (4/ 794)، "العقود المسماة" (288) "بيع التقسيط" (341) وما بعدها. (¬2) "أحكام عقد البيع"، الوانداوي (167)، "بيع التقسيط" (352 - 358). (¬3)، (¬4) "بيع التقسيط" (358 - 363).

خلاصة البحث

خلاصة البحث تتمثل أهم النتائج التي توصلت إليها بعد إعداد البحث بما يأتي: 1 - أن البيع بالتقسيط يعني أن يعرض البائع على المشتري سلعة بثمن يدفعه في وقت لاحق لإتمام العقد، وبصورة دفعات متفرقة تدفع في أزمان يتفق المتعاقدان عليها، مع ملاحظة وجود زيادة في ثمن السلعة عن ذاك الذي تباع به لو كان الدفع للثمن حاضرًا عند العقد. 2 - أن مظان مسألة البيع بالتقسيط تكمن في ثنايا البيوع الفاسدة أو البيوع المنهي عنها في كتب الحديث النبوى والفقه الإسلامي لاسيما "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة" و"نهيه عن صفقتين في صفقة" و"نهيه عن شرطين في بيع أو سلف وبيع"، وذلك لأن من أبرز معاني هذه الأحاديث كما ذكرتها عبارات شراح الحديث والفقهاء: أن يقول البائع للمشتري أبيعك هذه السلعة بكذا حالًا أو بكذا مؤجلًا. وهي أقرب الصورة إلى معنى بيع التقسيط والبيع بأجل. 3 - أن البيوع المذكورة باطلة أو فاسدة عند جمهور العلماء وعلة بطلانها أو فسادها كون الثمن مجهولًا، ولكونها ذريعة إلى الربا المحرم وعليه، بينت عبارات العلماء بصورة صريحة أو عن طريق الدلالة أنه إذا انتفت هذه العلة بأن اختار المشتري أحد الثمنين وعينه قبل التفرق من المجلس، ولم يكن البائع قد ألزمه بالبيع قبل الاختيار فإن العقد يكون صحيحًا، بل إن الفساد يزول عند الحنفية لو عين الثمن المراد بعد العقد من منطلق قولهم بأن الفساد يرتفع بزوال المفسد. 4 - بناء على ما تقدم، ولما كان بيع التقسيط يتضمن اختيار المشتري برضاه وإرادته للثمن الآجل مع الزيادة قبل التفرق من المجلس، وبناء على ما أقامه جمهور الفقهاء من أدلة تنفى التشابه بين الزيادة في الثمن عند البيع بالتقسيط وبين الزيادة في الربا وهو المستند الرئيسي للمانعين من القول بصحة بيع التقسيط، بالإضافة إلى أدلتهم القوية الأخرى، ومناقشتهم الدقيقة لأدلة القائلين بالبطلان مما جعلها لا تنتهض بها حجة، كل ذلك كان مرجحًا ومعزرًا للقول بصحة التعامل ببيع التقسيط، وأنه لا أثم ولا حرمة فيه ولا شبهة. 5 - أن فتاوى وأقوال جل العلماء القدامى والمعاصرين جاءت تعلن القول بصحة بيع التقسيط.

6 - أن علماء القانون المدني الوضعي قد وافقوا علماء الشريعة في القول بصحة البيع بالتقسيط. 7 - أن علماء الشريعة ورجال القانون قد أحاطوا عقد البيع بالتقسيط؛ بسياج من الشروط التي تضمن تحقيق هدفه في تيسير معاملات الناس، وتسهيل حصولهم على حاجاتهم من خلال الدفع الميسر المريح، مع ملاحظة ترويج بضائع التجار وتنشيط الحركة التجارية دون أن يكتنف ذلك شىء من الاستغلال أو الغبن أو التغرير أو الخداع وإضاعة الحقوق أو المماطلة والتسويف أو اتخاذ الحلال ذريعة إلى الحرام. 8 - أن الأحكام الفقهية والنصوص القانونية قد أوضحت بصورة جلية حدود العلاقة بين البائع والمشترى، وما يترتب لكل واحد منهما أزاء الآخر من حقوق والتزامات، ووضعت القيود، ومنحت كلًا منهما الضمانات التي تكفل له حقه وتصونه من العبث والإهدار، فيبقى التعامل بين المسلمين نقيًّا لا يشوبه لبس، ولا يفضي إلى خصومة، بل يكون سبيلًا إلى تحقيق مقصود الشارع الحكيم في المحبة والتعاون والتراحم بين العباد.

ثالثا: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع

ثالثًا: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع 1 - بيع الرجل على بيع أخيه: • عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له" (¬1). • عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" (¬2). • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يسم المسلم على سوم أخيه" (¬3). • عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر" (¬4). • قال النووى -رحمه الله-: أما البيع على بيع أخيه: فمثاله أن يقول لمن اشترى شيئًا في مدة الخيار: أفسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، وهذا حرام، يحرم أيضًا الشراء على شراء أخيه، وهو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن، ونحو هذا. • وأما السوم على سوم أخيه: فهو أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول الآخر للبائع أنا أشتريه، وهذا حرام بعد استقرار الثمن. وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد ليس بحرام (¬5). • قال الحافظ ابن حجر: قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء. وهو مجمع عليه (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2140) ومسلم (1514) وغيرهما. (¬2) أخرجه البخاري (2139) ومسلم (1514) وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري (2727) ومسلم (1515). (¬4) صحيح أخرجه النسائي (7/ 258) رقم (4516). (¬5) شرح صحيح مسلم (5/ 149. 150). (¬6) فتح البارى (4/ 414، 415).

والحرمة لما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه، والنهي يقتضي الفساد (¬1). وهذا بالإضافة إلى التدابر والتقاطع والتحاسد والبغضاء. 2 - بيع النَّجْشُ: النجش لغة: الإثارة. يقال: نجش الطائر: إذا أثاره من مكانه. ومعناه اصطلاحًا: أن يزيد الرجل في ثمن السلعة، وليس قصده أن يشتريها، بل ليرغب غيره، فيوقعه فيه، أو يمدح البيع بما ليس فيه ليروجه. وسمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختص بذلك الناجش، وقد يختص به البائع كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك. وقال ابن قتيبة: النجش: الختل والخديعة (¬2). • عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجش" (¬3). • قال الإِمام البخاري: قال ابن أبي أوفى "الناجش آكل ربا خائن" وهو صراع باطل لا يحل (¬4). • قال الحافظ ابن حجر: أطلق ابن أبي أوفى على من أخبر بأكثر مما اشترى به أنه ناجش لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير فاشتركا في الحكم لذلك وكونه آكل ربا بهذا التفسير (¬5). • ومذهب جمهور الفقهاء: أن بيع النجش حرام، وذلك لثبوت النهي عنه، ولما فيه من خديعة المسلم، وهي حرام (¬6). 3 - بيع تلقي الجَلَب أو الركبان أو السلع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُتلقى الجَلَبُ" (¬7). ¬

_ (¬1) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 214 - 218). (¬2) المصدر السابق (9/ 220) وفتح البارى (4/ 416). (¬3) أخرجه البخاري (2142) ومسلم (1516). (¬4) انظر صحيح البخاري كتاب البيوع -باب النجش، والحديث رقم (2675). (¬5) فتح البارى (4/ 417). (¬6) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 221). (¬7) أخرجه مسلم (1519).

• عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى يُبلغ به سوق الطعام" (¬1). • وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تُتلقى السلع حتى تبلغ الأسواق" (¬2). • عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن تلقى البيوع" (¬3). • التلقى: هو الخروج من البلد التي يجلب إليها القوت ونحوه. • والجلب: بمعنى الجالب، أو هو بمعنى المجلوب، وهو ما يجلب من بلد لبلد. • والركبان: جمع راكب والتعبير به جرى على الغالب، والمراد القادم ولو واحدًا أو ماشيًا. • ومعنى ذلك أن يقوم بعض الناس أو التجار بتلقى السلع الواردة إليهم وذلك قبل ورودها السوق، وقبل أن يقدموا البلد ويعرفوا سعر السوق فيخبروهم أن السعر ساقطة والسوق كاسدة والرغبة قليلة حتى يخدعوهم عما في أيديهم ويبتاعوه منهم بالوكس من الثمن، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لما فيه من الضرر. • ذهب جمهور الفقهاء إلى أن بيع التلقي محرم لثبوت النهي عنه ولما فيه من تغرير وخداع أصحاب السلع، والإضرار بالعامة. • وقال الإِمام البخاري: باب النهي عن تلقي الركبان وأن بيعه مردود. لأن صاحبه عاص آثم إذا كان به عالمًا، وهو خداع في البيع، والخِّداع لا يجوز (¬4). 4 - بيع الحاضر للباد: معناه: أن يخرج الحضري وهو السمسار إلى جالب السلعة سواء كان من أهل البادية أم من الحاضرة. وهو غريب عن البلد ويريد بيع سلعته بسعر الوقت في الحال، فيقول له هذا السمسار: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلَقُّوا الركبان، ولا يبع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2166). (¬2) أخرجه البخاري (2165) ومسلم (1517). (¬3) البخاري (2149) ومسلم (1518). (¬4) فتح البارى (4/ 436).

حاضر لباد" قال طاوس: فقلت لابن عباس: ما قوله لا يبع حاضر لباد؟ قال: "لا يكون له سمسارًا" (¬1). • السمسار: هو متولى البيع والشراء لغيره. • عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبع حاضر لبادٍ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (¬2). وهذا من البيوع المحرمة للنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد وكذلك للإضرار بالمسلمين فالبادي يقدم على البلد ويبيع سلعته بما يعود عليه بالكسب الحلال ويقضي الناس حوائجهم، لكن إذا تولى التسعير له سمسار يعرف حاجة الناس وفاقتهم زاد في السعر بربح قد يصل أضعافًا مضاعفة وهذا مخالف لسماحة الإِسلام ويسر الشارع الكريم، ولهذا جاء في الحديث: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (¬3). • قال ابن المنذر: اختلفوا في هذا النهي فالجمهور أنه على التحريم بشرط العلم بالنهي وأن يكون المتاع المجلوب مما يحتاج إليه وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع؛ وتعقب الحافظ ابن حجر الفقرة الأخيرة فقال: فأما اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك فلا يقوم لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه، فإن الضرر الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه (¬4). 5 - بيع فضل الماء: • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء" (¬5). • عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2158) ومسلم (1521). (¬2) أخرجه مسلم (1522) وأبو داود (3442). (¬3) راجع اختيارات ابن قدامة الفقهية (2/ 26 - 27). (¬4) فتح البارى (4/ 434، 435). (¬5) أخرجه مسلم (1565) وغيره. (¬6) أخرجه البخاري (2353) ومسلم (1566) وغيرهما.

• قال الإِمام النووى - رحمه الله -: أما النهي عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ فمعناه أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه، فلا يمكن أصحاب المواشى رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض، لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعى ذلك الكلأ، خوفًا على مواشيهم من العطش، ويكون بمنعه الماء مانعًا من رعى الكلأ (¬1). إذًا في منع الماء الزائد عن حاجة الإنسان فيه الضرر على الحرث والنسل والمواشي، وقد نهينا عن الضرر. ولذلك توعد الله من فعل ذلك بأنه يمنع من فضل الله يوم القيامة ولا يكلمه. • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل مائه فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك". وفي رواية: "رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل" (¬2). 6 - بيع المحتكر: عن معمر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحتكر إلا خاطئ" (¬3). • قال النووى - رحمه الله -: قال أهل اللغة: الخاطئ: هو العاصي الآثم. وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار. قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة، ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه، فأما إذا جاء من قريته، أو اشتراه في وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم (5/ 261،260). (¬2) أخرجه البخاري (2358 - 2369) ومسلم (108). (¬3) أخرجه مسلم (1605).

وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار ولا تحريم فيه، وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال. • قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره، أُجبر على بيعه دفعًا للضرر عن الناس (¬1). • أما ما ذكر عن سعيد بن المسيب ومعمر راوى الحديث أنهما كانا يحتكران: فهذا محمول على احتكار ما لا يضر بالناس كالزيت والأدم، أما احتكار ما يضر بالناس فلا. إذ لا يظن بالصحابي أن يروى الحديث ثم يخالفه، وكذلك سعيد بن المسيب لا يظن به في فضله وعلمه أن يروى الحديث ثم يخالفه إلا أن يحمل الحديث على بعض الأشياء التي لا تعتبر من القوت كالزيت (¬2). 7 - البيع الذي فيه غش ومكر وخديعة: • عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كى يراه الناس؟ من غش فليس مني" (¬3). • عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر برجل يبيع طعامًا فقال: "كيف تبيع؟ ". فأخبره، فأُوحى إليه أن أدخل يدك فيها فأدخل، فإذا هو مبلول، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من غشنا" (¬4). • عن قيس بن سعد قال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المكر والخديعة في النار" لكنت من أمكر الناس (¬5). ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم (5/ 346). (¬2) راجع شرح صحيح مسلم (5/ 346) وشرح السنة (8/ 179) والزواجر للهيتمي (1/ 454). (¬3) أخرجه مسلم (102). (¬4) صحيح: أخرجه أبو داود (3452) والبغوي في شرح السنة (8/ 2121). (¬5) حسن: أخرجه ابن عدي في الكامل وغيره. انظر الصحيحة (1057).

• عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار" (¬1). • قال ابن العربي: الغش حرام بإجماع الأمة, لأنه نقيض النصح، وهو من الغشش وهو الماء الكدر، فلما خلط السالم بالمعيب وكتم ما لو أظهره لما أقدم عليه المبتاع (¬2). • وقال البغوي: والتدليس في البيع حرام مثل أن يخفى العيب (¬3). • وقال ابن حجر الهيتمي: كل من علم بسلعته عيبًا وجب عليه وجوبًا متأكدًا بيانه للمشتري، وكذلك لو علم العيب غير البائع كجاره وصاحبه ورأى إنسانًا يريد أن يشترى ولا يعرف ذلك العيب وجب عليه أن يبينه له كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا بيَّن ما فيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه" (¬4). وكثير من الناس لا يهتدون لذلك أو لا يعلمون (¬5). • فاعلم يرحمك الله تعالى أن التدليس والغش والخداع منهي عنه شرعًا باتفاق العلماء. وقد يكون هذا التدليس والغش والخداع بالفعل والقول وكتمان الحقيقة. • بالفعل: كإحداث فعل في المعقود عليه ليظهر بصورة غير ما هو عليه في الواقع، أي أنه تزوير الوصف المعقود عليه أو تغييره بقصد الإيهام كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بوضع الجيد في الأعلى، وطلاء الأثاث والمفروشات القديمة والسيارات، لتظهر أنها حديثة، والتلاعب بعداد السيارة، لتظهر بأنها قليلة الاستعمال. • ومن أشهر أمثلته الشاه المصراة: وهي التي يحبس اللبن في ضرعها بربط الثدى، مرة يومين أو ثلاثة ليجتمع لبنها ويمتلئ إيهامًا للمشتري بكبر ضرعها وغزارة لبنها. ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه ابن حبان (567)، وانظر الصحيحة (1058). (¬2) عارضة الأحوذي (6/ 45). (¬3) شرح السنة (8/ 167). (¬4) صحيح: أخرجه الحاكم (2/ 10) وغيره. وانظر غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للشيخ الألباني - رحمه الله - (339). (¬5) الزواجر (1/ 467).

• وبالقول: كالكذب الصادر من أحد العاقدين أو ممن يعمل لحسابه حتى يحمل العاقد الآخر على التعاقد ولو بغبن، كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر: هذا الشىء يساوى أكثر، ولا مثيل له في السوق، أو دفع لي فيه سعر كذا فلم أقبل، ونحو ذلك من المغريات الكاذبة. • أما كتمان الحقيقة: كأن يكتم البائع عيبًا في المبيع، كتصدع في جدران الدار وطلائها بالدهان أو الجص، وكسر في محرك السيارة، ومرض في الدابة المبيعة، أو يكتم المشتري عيبًا في النقود ككون الورقة النقدية باطلة التعامل (مزورة) أو زائلة الرقم النقدى المسجل عليها. وحكم هذا أنه جزم شرعًا باتفاق الفقهاء (¬1). 8 - بيع التلجئة: التلجئة في اللغة: الإكراه والاضطرار. وهي من الإلجاء، كأنه قد ألجأك إلى أن تأتي أمرًا باطنه خلاف ظاهره، وأحوجك إلى أن تفعل فعلًا تكرهه (¬2). وفي الاصطلاح: فيرجع معناها إلى معنى الإلجاء وهو الإكراه التام أو الملجى، كتهديد شخص لغيره بإتلاف نفس أو عضو أو ضرب مبرح إذا لم يفعل ما يطلبه منه. أو: هو المضطر إلى البيع لتهريب أمواله من وجه ظالم. أو: هو كتابه عقد، والتظاهر بالبيع من غير نية أو صيغة. وبيعه فاسد عند الحنفية، باطل عند الحنابلة (¬3). ففي هذا النوع ضرر للبائع حيث يكره على البيع وهو لا يريد وقد نهانا الله عن ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) راجع الفقه الإسلامي (د. وهبة الزحيلي) (4/ 218 - 220). (¬2) راجع القاموس المحيط ومختار الصحاح والنهاية لابن الأثير (لفظ: لجأ). (¬3) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 62) والفقه الإسلامي (4/ 501) وأصول المنهج الإسلامي (عبد الرحمن العبيد) (ص 467). (¬4) سورة النساء: 29.

رابعا: البيوع المحرمة لذاتها

• عن أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض" (¬1). • قال الشيخ ابن العثيمين - رحمه الله تعالى-: يشترط التراخي من البائع والمشتري, لأننا لو لم نشترط التراضي لأصبح الناس يأكل بعضهم بعضًا فكل إنسان يرغب في سلعة عند شخص يذهب إليه ويقول له اشتريتها منك بكذا، وهذا يؤدى إلى الفوضى والشغب والعداوة والبغضاء. فلا يصح البيع من مكره للاحق. • والمكره هو الملجأ إلى البيع: أي المغصوب على البيع، فلا يصح من المكره إلا بحق، فلو أن سلطانًا جائرًا أرغم شخصًا على أن يبيع هذه السلعة لفلان فباعها فإن البيع لا يصح، لأنها صدرت عن غير تراض، ومثل ذلك ما لو علمت أن هذا البائع باع عليك حياءً وخجلًا فإنه لا يجوز لك أن تشتري منه ما دمت تعلم أنه لولا الحياء والخجل لم يبع عليك، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله-: يحرم قبول هدية إذا علم أن الرجل أهداها له على سبيل الحياء والخجل، لأن هذا وإن لم يصرح بأنه غير راضي، لكن دلالة الخال على أنه غير راض. أما إذا كان الإنسان مكرهًا على البيع بحق فإن هذا إثبات للحق وليس ظلمًا وعدوانًا. • مثال ذلك: شخص رهن بيته لإنسان في دين عليه وحل الدين فطالب الدائن بدينه، ولكن الراهن الذي عليه الدين أبي، ففى هذا الحال يجبر الراهن على بيع بيته، لأجل أن يستوفى صاحب الحق حقه فيرغم على ذلك (¬2). رابعًا: البيوع المحرمة لذاتها • وهذا النوع من البيوع يشمل كل ما لم تكن له قيمة في الشرع وقد حرمها الله تعالى وحرمها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن أمثلة ذلك: • (1) و (2)، و (3) و (4): بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام: • قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ...} الآية (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه ابن ماجة (2185) وغيره. (¬2) الشرح الممتع على زاد المستقنع (8/ 120 - 122). (¬3) سورة المائدة: 3.

• وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). • عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى إذا حرم شيئًا حرم ثمنه" (¬2). • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو بمكة عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: "لا، هو حرام". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" (¬3). • قال الإِمام البغوي -رحمه الله تعالى-: في تحريم بيع الخمر (¬4) والميتة دليل على تحريم بيوع الأعيان النجسة وإن كان منتفعًا بها في أحوال الضرورة. وفيه دليل أن بيع جلد الميتة قبل الدباغ لا يجوز لنجاسة عينه، وأما بعد الدباغ فيجوز عند أكثر أهل العلم، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أيما أهاب دبغ فقد طهر" وقال مالك: لا يجوز. واختلفوا في عظم ما لا يؤكل لحمه، وفي عظام الميتة، فذهب قوم إلى نجاستها، وتحريم التصرف فيها، وهو قول الشافعي، وذهب قوم إلى أنها لا حياة فيها, ولا يحلُّها الموت، وهي طاهرة بعد زوال الزهومة عنها، وقالوا بطهارة العاج (ناب الفيل) وهو قول أصحاب الرأى. وتحريم بيع الخنزير دليل على هذا أيضًا، وعلى أن ما لا ينتفع به من الحيوانات لا يجوز بيعها مثل الأسد والقرد والدب والحية والعقرب والفأرة والحدأة والرخمة والنسر، وحشرات الأرض ونحوها. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 90. (¬2) صحيح: أخرجه أحمد (1/ 322)، وأبو داود (3488)، والدارقطني واللفظ له (3/ 7) وغيرهم. (¬3) أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581) وغيرهما. (¬4) والخمر هو كل ما خامر العقل: فيلحق بها الحشيش والأفيون والهيروين والكوكايين والبانجو والبيرة وغير ذلك من الأسماء الحديثة.

وفيه دليل على أن من أراق خمرًا لنصراني، أو قتل خنزيرًا له أنه لا غرامة عليه, لأنه لا ثمن لهما في حق الدين. وفي تحريم بيع الأصنام دليل على تحريم بيع الصور المتخذة من الخشب والحديد والذهب والفضة وغيرها، وعلى تحريم بيع جميع آلات اللهو والباطل مثل الطنبور والمزمار والمعازف كلها، فإذا طمست الصور، وغيرت آلات اللهو عن حالتها، فيجوز بيع جواهرها، وأصولها، فضة كانت أو حديدًا أو خشبًا أو غيرها. انتهى باختصار (¬1). • فقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: قال جمهور العلماء: العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النجاسة فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة، ولكن المشهور عند مالك طهارة الخنزير. والعلة في منع بيع الأصنام عدم المنفعة المباحة، فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها جاز بيعها عند بعض العلماء من الشافعية وغيرهم، والأكثر على المنع حملًا للنهي على ظاهره، والظاهر أن النهي عن بيعها للمبالغة في التنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم الصلبان التي تعظمها النصارى ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته (¬2). (5) و (6) بيع الكلب والدم والسِّنَّور (القط): • عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي، وحلوان الكاهن" (¬3). • عن أبي جحيفة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأمة ولعن الواشمة والمستوشمة، وأكل الربا وموكله، ولعن المصور" (¬4). • قال الحافظ ابن حجر: ظاهر النهي تحريم بيع الكلب، وهو عام في كل كلب معلمًا كان أو غيره مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز ومن لازم ذلك أن لا قيمة على متلفه وبذلك قال الجمهور. والعلة في تحريم بيعه عند الشافعي نجاسته مطلقًا وهي قائمة في المعلم وغيره (¬5). ¬

_ (¬1) "شرح السنة" (8/ 27، 28). (¬2) "فتح البارى" (4/ 497). (¬3) أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1567). (¬4) أخرجه البخاري (2238). (¬5) "فتح الباري" (4/ 499).

• وقوله "نهى عن ثمن الدم": قال الحافظ ابن حجر: المراد تحريم بيع الدم كما حرم بيع الميتة والخنزير، وهو حرام إجماعًا أعنى بيع الدم وأخذ ثمنه" (¬1). • وقال الإِمام أحمد - رحمه الله -: بيع الدم لا يجوز, لأنه نجس (¬2). • وقال ابن حزم - رحمه الله -: وقد حرم الله تعالى الخنزير والخمر، والميتة، والدم فحرم ملك كل ذلك وشربه والانتفاع به وبيعه، ولا يحل بيع كلب أصلًا لا كلب صيد ولا كلب ماشية ولا غيرهما فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه وهو حلال للمشتري حرام على البائع ينتزع منه الثمن متى قدر عليه كالرشوة في دفع الظلم (¬3). • أما بالنسبة للسنور أو الهر أو القط فقد جاء النهي عن بيعه أيضًا. • عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسِّنَّور؟ قال: زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬4). • عن جابر - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب والسَنَّور" (¬5). قوله (زجر): قال ابن حزم - رحمه الله -: الزجر: أشد النهي. ولا يحل بيع الهر فمن اضطر إليه لأذى الفأر فواجب على من عنده منها فضل عن حاجته أن يعطيه منها ما يدفع به الله تعالى عنه الضرر (¬6). 7 - بيع الصُّوَر: • عن سعيد بن أبي الحسن قال: "كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما - إذ أتاه رجل فقال: يا أبا عباس إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها ¬

_ (¬1) "فتح البارى" (4/ 499). (¬2) شرح السنة (8/ 25). (¬3) "المحلى" (9/ 8 , 9). (¬4) أخرجه مسلم (1569). (¬5) صحيح: أخرجه أبو داود (3479)، والترمذي (1279)، وابن ماجة (2161). (¬6) "المحلى" (9/ 13).

أبدًا" فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهُهُ. فقال: "ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، كل شىء ليس فيه روح" (¬1). • عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذين يصنعون هذه الصُّوَر يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" (¬2). • عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون" (¬3). • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه تماثيل أو تصاوير" (¬4) وفي رواية: "كلب ولا صورة" (¬5). • قال الإِمام النووي: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان (أو ذى الروح) حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر, لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير غير ذى الروح كالشجر فليس بحرام. هذا حكم نفس التصور، وأما اتخاذ المصور وفيه صورة ذى روح فإن كان معلقًا في حائط أو ثوب مما لا يمتهن فهو حرام، وإن كان في بساط يداس أو مخدة ونحوهما مما يمتهن فليس بحرام ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له. ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة هذا البيت؟ والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث. والله أعلم. انتهى باختصار (¬6). • وقال ابن حزم - رحمه الله -: لا يحل بيع الصور إلا للعب الصبايا فقط. وحرام علينا تنفير الملائكة عن بيوتنا وهم رسل الله عَزَّ وَجَلَّ والمتقرب إليه عز وجل بقربهم (¬7). انتهى باختصار. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2225)، ومسلم (2110) وغيرهما. (¬2) أخرجه البخاري (5951)، ومسلم (2108) وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري (5950)، ومسلم (2109) وغيرهما. (¬4) أخرجه مسلم (2112). (¬5) أخرجه البخاري (3322). (¬6) راجع شرح صحيح مسلم للنووى (6/ 745) د. قلعجي، وشرح صحيح مسلم للأُبّي (7/ 252، 253) (¬7) "المحلى" (9/ 25، 26).

8 - بيع آلات اللهو والمعازف والطرب: • من المعلوم لكل من اطلع على كتب الأئمة، اتفاقهم على تحريم الغناء الذي تصحبه آلات الطرب والمعازف، ولا عبرة بقول من شذ وخالف. وإليك بعض الأدلة في ذلك. • قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). • قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -وهو أحد السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة والمفتين فسر هذه الآية بالغناء، كما روى ذلك عنه أبو الصهباء البكرى أنه سمع عبد الله بن مسعودِ وهو يُسأل عن هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فقال عبد الله: "الغناء، والذي لا إله إلا هو" يرددها ثلاث مرات (¬2). • عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعرى أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخَمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم -جبل- يروح عليهم بسَارحة لهم -أي ماشية- يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" (¬3). • في هذا الحديث يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيكون أقوام من أمته "يستحلون الحِرَ" وهو الفرج، وهو كناية عن الزنا، والحرير والخمر والمعازف، وقوله "يستحلون" صريحة في أن المذكورات ومنها "المعازف" هى في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن المعازف مع المقطوع بحرمته وهو "الزنا والخمر" ولو لم تكن محرمة ما قرنها معها، ثم أخبر عن أقوام من هؤلاء المستحلين لهذه المحرمات أنهم ينزلون إلى "جنب علم" وهو: الجبل العالي، وعندهم الراعي يسرح ¬

_ (¬1) سورة لقمان: 6، 7. (¬2) حسن: أخرجه ابن جرير الطبرى في تفسيره، وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 373)، والحاكم (2/ 411)، والبيهقي في السنن (10/ 223). (¬3) أخرجه البخاري (5590).

خامسا: البيوع المحرمة لغيرها

بمواشيهم، فيأتيهم الفقير ذو الحاجة فيقولون له: ارجع إلينا غدًا ليعطوه "فيبيتهم الله" أي يهلكهم ليلًا، ويوقع الجبل ويدكه عليهم، ويمسخ أقوامًا منهم قردة وخنازير، أعاذنا الله من ذلك والمسلمين. • عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف"، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذاك؟ قال: "إذا ظهرت القينات (المغنيات) والمعازف وشربت الخمور" (¬1). • عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا القينات (المُغَنِّيات) ولا تستروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام". في مثل هذا أنزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) (¬3). • ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع آلات اللهو المحرمة والمعازف إلا ما جاز استعماله منها وصرحوا بعدم صحة بيعها (¬4). خامسًا: البيوع المحرمة لغيرها 1 - البيع عند أذان الجمعة: • أمر الله تعالى بترك البيع عند النداء (الأذان) يوم الجمعة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬5). • والأمر بترك البيع نهى عنه. • ولم يختلف الفقهاء في أن هذا البيع محرم لهذا النص. • قال صديق حسن خان: والمراد بالآية ترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل لهم: بادروا تجارة ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه الترمذي (2212) وغيره. انظر: "الصحيحة" (1604). (¬2) سورة لقمان: 6. (¬3) حسن: أخرجه الترمذي (1282 - 3195) وغيره. انظر: "الصحيحة" (2922). (¬4) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 157). (¬5) سورة الجمعة: 9.

الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شىء أنفع منه وأربح وذروا البيع الذي نفعه يسير. قال في الكشاف: عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب الفساد، لأن البيع لم يحرم لعينه بل لما فيه من التشاغل عن الصلاة فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة (¬1). • قيود تحريم هذا البيع: 1 - أن كون المشتغل بالبيع ممن تلزمه الجمعة، فلا يحرم البيع على المرأة والصغير والمريض. 2 - أن يكون المشتغل بالبيع عالمًا بالنهى. 3 - انتفاء الضرورة للبيع، كبيع المضطر ما يأكله، وبيع كفن من خيف تغيره بالتأخير. 4 - أن يكون البيع بعد الشروع في أذان الخطبة (¬2). 2 - البيع في المسجد: • عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيع والاشتراء في المسجد (وفي رواية) عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن الحِلق يوم الجمعة قبل الصلاة" (¬3). • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك" (¬4). • قال الشوكاني: الحديثان يدلان على تحريم البيع والشراء، وإنشاد الضالة، وإنشاد الأشعار والتحلق يوم الجمعة قبل الصلاة (¬5). • عن عطاء بن يسار: "كان إذا مر عليه من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معك؟ وما تريد؟ فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه، قال: عليك بسوق الدنيا، وإنما هذا سوق الآخرة" (¬6). ¬

_ (¬1) "فتح البيان في مقاصد القرآن" (14/ 139، 140). (¬2) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 225). (¬3) حسن: أخرجه أحمد (2/ 179 - 212)، وأبو داود (1079)، والترمذي (322) وغيرهم. (¬4) صحيح: أخرجه الترمذي (1321) وغيره. انظر: "الإرواء" (1495). (¬5) "نيل الأوطار" (2/ 271). (¬6) "موطأ مالك" (1/ 174) بلاغًا.

• قال الشيخ عبد الله البسام حول الحديث الثاني: حديث أبى هريرة ما يؤخذ من الحديث: 1 - إنه يجب على من سمع من يبيع أو يشترى في المسجد أن يقول له جهرًا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تبن للبيع والشراء. 2 - تحريم البيع والشراء في المسجد. 3 - المساجد إنما بنيت لطاعة الله وعبادته، فيجب أن تجتنب أحوال الدنيا (¬1). انتهى باختصار. وقال الخطابي: ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد: من أمور معاملات الناس، واقتضاء حقوقهم، وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد (¬2). 3 - بيع المصحف للكافر: • اتفق الفقهاء على أن اليبع ممنوع وصرح جمهورهم بالحرمة، لأن فيه امتهان حرمة الإِسلام بملك المصحف. وقد قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬3). وأصل هذا التعليل يرجع إلى ما روى في الصحيح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو" (¬4). • ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، فلا يجوز تمكينهم منه. ولأنه يمنع الكافر من استدامة الملك عليه، فمنع من ابتدائه كسائر ما لا يجوز بيعه، ولما في ملك الكافر للمصحف ونحوه من الإهانة (¬5). • قال النووى: قوله "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو" ¬

_ (¬1) "توضيح الأحكام" (1/ 529). (¬2) "شرح السنة" (2/ 375). (¬3) سورة النساء: 141. (¬4) أخرجه البخاري (2990)، ومسلم (1869) (92). (¬5) راجع الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 230 - 231).

وفي الرواية الأخرى "مخافة أن يناله العدو" (¬1)، وفي الرواية الأخرى: "فإني لا آمن أن يناله العدو" (¬2). فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذ لعدم العلة، هذا هو الصحيح (¬3). 4 - بيع السلاح في الفتنة: • ولقد بوب الإِمام البخاري في صحيحه (باب: بيع السلاح في الفتنة وغيرها) وذكر تحته حديثًا. • عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين فبعت الدرع فابتعت به مَخْرَفًا (¬4) في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته (¬5) في الإِسلام" (¬6). • قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - تعليقًا على باب بيع السلاح في الفتن المراد بالفتنة: ما يقع في الحروب بين المسلمين لأن في بيعه إذ ذاك إعانة لمن اشتراه، وهذا محله إذا اشتبه الحال، فأما إذا تحقق الباغى فالبيع للطائفة التي في جانبها الحق لا بأس به، قال ابن بطال: إنما كره بيع السلاح في الفتنة لأنه من باب التعاون على الإثم. • وقال الحافظ أيضًا: ويحتمل أن المراد بإيراد هذا الحديث جواز بيع السلاح في الفتنة لمن لا يخشى منه الضرر لأن أبا قتادة باع درعه في الوقت الذي كان القتال فيه قائمًا بين المسلمين والمشركين وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، والظن به أنه لم يبعه ممن يعين على قتال المسلمين، فيستفاد منه جواز بيعه في زمن القتال لمن لا يخشى منه (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1869) (93). (¬2) أخرجه مسلم (1869) (94). (¬3) "شرح صحيح مسلم" (6/ 310). (¬4) مخرفًا: المخرف هو البستان. (¬5) تأثلته: أي جعلته أصل مالى. (¬6) أخرجه البخاري (2100). (¬7) "فتح البارى" (4/ 378، 379).

• وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: لا يصح بيع سلاح في فتنة بين المسلمين، فلو حصل فتنة، وقتال بين المسلمين، وجاء رجل يشترى منك سلاحًا، وغلب على ظنك أنه اشترى منك السلاح ليقاتل المسلمين فإنه يحرم عليك أن تبيعه إياه. فإن قال صاحب السلاح: لعله اشتراه لأجل أن يصطاد به صيدا مباحًا فما الجواب؟ نقول: لا نمنع إلا إذا غلب على ظنك أنه اشتراه من أجل أن يقاتل المسلمين. وكذلك لو اشترى رجل سلاحًا ليصطاد به صيدًا في الحرم بأن تعرف أن هذا الرجل من أهل الصيد، وهو الآن في الحرم واشترى منك السلاح لأجل أن يصطاد به صيدًا في الحرم، فهذا حرام ولا يصح البيِع لأنه من باب التعاون علي الإثم والعدوان، وتأمل القرآن الكريم في قوله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). يدخل فيها آلاف المسائل لأنها كلمة عامة تشمل التعاون على الإثم والعدوان في العقود والتبرعات والمعاوضات والأنكحة وغير ذلك، فكل ما فيه التعاون على الإثم والعدوان فإنه حرام (¬2). 5 - تحريم بيع العصير ممن يتخذه خمرًا وكل بيع أعان على معصية: • عن بريدة الأسلمى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرًا فقد تقحم النار على بصيرة" (¬3). • قال الصنعانى - رحمه الله -: والحديث دليل على تحريم بيع العنب ممن يتخذه خمرًا لوعيد البائع بالنار وهو مع القصد محرم إجماعًا وأما مع عدم القصد فقال الهادوية يجوز البيع مع الكراهة ويؤول بأن ذلك مع الشك في جعله خمرًا وأما إذا علمه فهو محرم ويقاس على ذلك ما كان يستعان به في معصية وأما ما لا يفعل إلا لمعصية كالمزامير والطنابير ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 2. (¬2) "الشرح الممتع" (8/ 206 - 207). (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5352)، وقال ابن حجر في "بلوغ المرام" (770) إسناده حسن.

ونحوها فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعًا وكذلك بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون بها على ضرب المسلمين فإنه لا يجوز (¬1). • قال موسى بن أحمد الحجاوي القدسي صاحب "زاد المستقنع": "ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمرًا". • وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - شرحًا لهذه الفقرة فقال: قوله "ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمرًا" (ممن) أي على من، فلا يصح بيع العصير على إنسان يريد أن يتخذه خمرًا، والعصير معروف كعصير عنب أو تين أو برتقال أو غيره اشتراه إنسان وهو عصير طازج، لأجل أن يخمره، ويتخذه خمرًا فإن البيع لا يصح. والدليل قول الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬2). فإن قال قائل: ما الذي يدريني أن هذا الرجل اشترى العصير ليتخذه خمرًا أو ليشربه في الوقت الحاضر؟ نقول: إذا غلب على ظنك أن هذا من القوم الذين يشترون العصير ليتخذوه خمرًا كفى ذلك وصار هذا حرامًا، لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، والله سبحانه وتعالى قد نهى عن ذلك. وإلا فالأصل الصحة، وعدم المنع. وكذلك لا يصح بيع أواني لمن يستقي بها الخمر: بأن أعرف أن صاحب هذا المطعم يأتيه الناس يشربون الخمر عنده، وأتى إليَّ ليشتري أواني يسقي بها الخمر، فهذا غير جائز، لأن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان (¬3). • قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ولا يصح بيع ما قصد به الحرام، كعصير يتخذه خمرًا إذا علم ذلك، كمذهب أحمد وغيره، أو ظن، وهو أحد القولين، ويؤيده أن الأصحاب قالوا: لو ظن المؤجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية، كبيع الخمر ونحوه، لم يجز له أن يؤجره تلك الدار ولم تصح الإجارة، والبيع والإجارة سواء (¬4). ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (3/ 55). (¬2) سورة المائدة: 2. (¬3) "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (8/ 205 - 207). (¬4) الاختيارات الفقهية (ص 180) طبعة دار العاصمة.

سادسا: بيوع مختلف في حرمتها

سادسًا: بيوع مختلف في حرمتها 1 - بيع التورق: • وصورته: أن يقوم المشتري بشراء السلعة مؤجلة بمبلغ مائة جنيهٍ مثلًا من البائع ثم يبيعها بأقل من غير بائعها الأول وليكن بمبلغ ثمانين جنيهًا ويقبض ثمنها. • قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: مسألة التورق فيها خلاف بين العلماء، وفيها روايتان عن الإِمام أحمد. • فمن العلماء من قال: هى جائزة، لأن هذه السلعة قد يشتريها الإنسان لغرض مقصود بعين السلعة، كرجل اشترى سيارة من أجل أن يستعملها، أو يكون الغرض قيمة السيارة، فاشتراها لأجل أن يبيعها ويتوسع بالثمن فهذا الغرض كالغرض الأول، لكن الغرض الأول أراد الانتفاع بعينها وهذا أراد الانتفاع بقيمتها فلا فرق. ولهذا قالوا إنها جائزة. • القول الثاني: إنها حرام وهي رواية عن الإِمام أحمد، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬1)، وهو المروى عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - (¬2). • ووجه ذلك: أن مقصود الذي اشترى السيارة هو الدراهم، فكأنه أخذ دراهم قدرها ثمانون بدراهم قدرها مائة إلى أجل، فيكون حيلة، وقد نص الإِمام أحمد أن (مسألة التورق) من مسائل العينة. ولكن على القول بأنها حلال لابد أن يكون الباعث لها الحاجة، فلو كان الباعث لها الزيادة والتكاثر فإن ذلك حرام لا يجوز، لأنه إذا لم يكن حاجة فلا وجه لجوازها، إذ إنها حيلة قريبة على الربا. • قال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (إعلام الموقعين) (¬3): إن شيخنا - رحمه الله - كان يراجع فيها كثيرًا لعله يحللها, ولكنه -رحمه الله- يأبى ويقوم هل حرام، والحيل لا تزد المحرمات إلا خبثًا. • ثم قال الشيخ ابن عثيمين: لكن أنا أرى أنها حلال بشروط هي: الشرط الأول: أن يتعذر القرض أو السلم أي: أن يتعذر الحصول على المال ¬

_ (¬1) قال في "الاختبارات" (ص 190): وتحرم مسألة التورق وهو رواية عن أحمد. (¬2) راجع "مجموع الفتاوى" (29/ 30 - 434 - 442 - 446). (¬3) "إعلام الموقعين" (3/ 223).

بطريق مباح، والقرض في وقتنا الحاضر الغالب أنه متعذر، ولاسيما عند التجار إلا من شاء الله، والسلم أيضًا قليل، ولا يعرفه الناس كثيرًا، والسلم هو: تعجيل الثمن وتأخير المبيع أي: آتي للشخص وأقول أنا محتاج عشرين ألف ريال، وأعطني عشرة آلاف ريال أعطيك بدلها بعد سنة سيارة صفتها كذا، وكذا أو أعطيك بدلها بُرًّا أو أرزًا، ويصفه فهذا يسمى السلم، ويسمى السلف، وهو جائز فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يفعلون ذلك السنة والسنتين في الثمار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلف في شىء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" (¬1). الشرط الثاني: أن يكون محتاجًا لذلك حاجة بيِّنة. الشرط الثالث: أن تكون السلعة عند البائع، فإن لم تكن عند البائع فقد باع ما لم يدخل في ضمانه، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع السلع في مكان شرائها حتى ينقلها التاجر إلى رحله" (¬2). فهذا من باب أولى، لأنها ليست عنده، فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة، فأرجو ألا يكون بها بأس، لأن الإنسان قد يضطر أحيانًا إلى هذه المعاملات (¬3). 2 - بيع العربون: • صفته: أن يشترى السلعة، ويدفع إلى البائع درهمًا أو أكثر، على أنه إن أخذ السلعة، احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع (¬4). • والفقهاء مختلفون في حكم هذا البيع. • فجمهورهم، من الحنفية والمالكية والشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، يرون أنه لا يصح، وهو المروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والحسن كما يقول ابن قدامة، وذلك: للنهي عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العربان" (¬5). ولأنه من أكل أموال الناس بالباطل، وفيه غرر ولأن فيه شرطين مفسدين: شرط الهبة للعربون، وشرط رد المبيع بتقدير أن لا يرضى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2239)، ومسلم (1604). (¬2) أخرجه البخاري (2123)، ومسلم (1527) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬3) "الشرح الممتع" (8/ 231 - 233). (¬4) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 93). (¬5) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3502)، وابن ماجة (2192) وغيرهما.

• ومذهب الحنابلة جواز هذه الصورة من البيوع، وصرحوا بأن ما ذهب إليه الأئمة من عدم الجواز، هو القياس، لكن قالوا: وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى عن نافع بن الحارث: أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر، وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شىء أقول؟ هذا عمر - رضي الله عنه - (¬1). • قال الخطابي - رحمه الله -: وقد اختلف الناس في جواز هذا البيع، فأبطله مالك والشافعي للخبر، ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ويدخل ذلك في أكل المال بالباطل، وأبطله أصحاب الرأى. وقد روى عن ابن عمر أنه أجاز هذا البيع ويروى ذلك أيضًا عن عمر. ومال أحمد بن حنبل إلى القول بإجازته، وقال: أي شىء أقدر أن أقول وهذا عمر - رضي الله عنه - يعني أنه أجازه، وضعف الحديث فيه لأنه منقطع وكأن رواية مالك فيه عن بلاغ (¬2). • قال الشوكاني - رحمه الله -: والأولى ما ذهب إليه الجمهور، لأن حديث عمرو بن شعيب قد ورد من طرق يقوى بعضها بعضًا. ولأنه يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة كما تقرر في الأصول. والعلة في النهي عنه: اشتماله على شرطين فاسدين: أحدهما: شرط كونه ما دفعه إليه يكون مجانًا إن اختار ترك السلعة. والثاني: شرط الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع (¬3). • وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: ما حكم أخذ البائع للعربون إذا لم يتم البيع وصورته أن يتبايع شخصان، فإن تم البيع أكمل له القيمة وإن لم يتم البيع أخذ البائع العربون ولا يرده للمشتري. • فأجاب: لا حرج في أخذ العربون في أصح قولى العلماء إذا اتفق البائع والمشترى على ذلك ولم يتم البيع (¬4). ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 94). (¬2) "معالم السنن على حاشية سنن أبي داود" (3/ 768). (¬3) "نيل الأوطار" (6/ 289). (¬4) "فقه وفتاوى البيوع" (ص 291). جمع أشرف بن عبد المقصود.

3 - بيع الحيوان بالحيوان نسيئة: • عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" (¬1). • عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بأس بالحيوان: واحدًا باثنين، يدًا بيد، وكرهه نسيئة". وفي رواية: "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اثنين بواحد، ولا بأس به يدًا بيد" (¬2). • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "جاء عبد فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد. فجاء سيده يريده، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعنيه" فاشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحدًا بعد، حتى يسأله "أعبدٌ هو؟ " (¬3). • عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا فنفذت الإبل فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن آخذ من قلائص (¬4) الصدقة فكنت آخذ البعير بالبعيرين" (¬5). • عن أبي رافع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلف من رجل بكرًا (¬6)، فقدمت عليه إبل من الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا (¬7) , فقال: "أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً" (¬8). • قال البغوي -رحمه الله تعالى-: والعمل على هذا عند أهل العلم كلهم أنه يجوز بيع حيوان بحيوانين نقدًا، ¬

_ (¬1) حسن: أخرجه أحمد (5/ 12)، وأبو داود (3356)، وابن ماجة (2270) وغيرهم وصححه الشيخ الألباني "الصحيحة" (5/ 540)، والمشكاة (2822) وصحيحي أبو داود وابن ماجة. (¬2) حسن: أخرجه ابن ماجة (2271)، وأحمد (3/ 310) وغيرهما. وانظر: "الصحيحة" (2416). (¬3) أخرجه مسلم (1602) وغيره. (¬4) القلائص: جمع قلوص: وهي الناقة الشابة. (¬5) حسن: أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/ 56 - 57)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 288)، وقال الحافظ في "بلوغ المرام" رجاله ثقات (794). (¬6) البَكْر من الإبل: كالغلام من الآدميين. (¬7) الرباع: من الإبل ما استكمل ست سنين ودخل في السابعة. (¬8) أخرجه مسلم (1601).

سواء كان الجنس واحدًا أو مختلفًا واختلفوا في بيع الحيوان بالحيوان، أو بالحيوانين نسيئة، فمنعه جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروى فيه عن ابن عباس، وهو قول عطاء بن أبي رباح، وإليه ذهب سفيان الثورى، وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما روى عن الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" ورخص فيه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - روى ذلك عن علي وابن عمر، وإليه ذهب سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والزهرى، وهو قول الشافعي وإسحاق، سواء كان الجنس واحدًا أو مختلفًا مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم وسواء باع واحدًا بواحد أو باثنين فأكثر. • وقال مالك - رحمه الله -: إن كان الجنس مختلفًا يجوز، وإن كان متفقًا فلا. • واحتج من جوز ذلك بما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا فنفذت الإبل .. " الحديث وسبق ذكره. • وروى أن علي بن أبي طالب باع جملًا يقال له: عُصيفير بعشرين بعيرًا إلى أجل (¬1). • وعن ابن عمر أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة (¬2) (وهي قرية قرب المدينة). • وأما حديث الحسن عن سمرة فاختلف أهل الحديث في اتصاله، وأوله بعضهم وحمله على بيع الحيوان بالحيوان نسيئة من الطرفين فيكون من باب الكالئ بالكالئ (أي الدَّين بالدَّين)، وحديث عبد الله بن عمرو دليل على جواز السلم في الحيوان، وهو قول أكثر أهل العلم، ولم يجوزه أصحاب الرأى. انتهى باختصار" (¬3). • ورجح الشوكاني التحريم، وتقرر في الأصول أن دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة (¬4). ¬

_ (¬1) إسناده منقطع: أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 652)، وعبد الرزاق في "المصنف" (14142)، وجاء في المصنف أيضًا ما يعارض هذا (14143) من طريق ابن المسيب عن على أنه كره بعيرًا ببعيرين نسيئة. (¬2) إسناده صحيح: أخرجه مالك (2/ 652)، والشافعي في مسنده (557)، والبيهقي في السنن (5/ 288). (¬3) "شرح السنن" (8/ 73 - 75). (¬4) "نيل الأوطار" (6/ 361).

§1/1