صحيح المقال في مسألة شد الرحال

عبد العزيز بن عمر الربيعان

مدخل

مدْخل ... صَحِيح الْمقَال فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال لفضيلة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الربيعان مدير المعهد الْمُتَوَسّط بالجامعة الإسلامية الْحَمد لله وَصلَاته وَسَلَامه على رَسُوله ومصطفاه، وعَلى آله وصحابته والمهتدين بهداه.. أما بعد.. فَهَذَا هُوَ الْموضع الثَّانِي الَّذِي وعدت ببحثه ومناقشة فَضِيلَة الْأَخ الْكَرِيم الشَّيْخ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالم فِيهِ، وَالَّذِي قلت فِي مُقَدّمَة الْمَوْضُوع السَّابِق المنشور فِي مجلة الجامعة الْعدَد السَّابِق لهَذَا الْعدَد تَحت عنوان (الْبَحْث الْأمين فِي حَدِيث الْأَرْبَعين) .. قلت هُنَاكَ: إِن فَضِيلَة الشَّيْخ عطيه وَقع فِي أخطاء تقليدية يجب التَّنْبِيه عَلَيْهَا وَبَيَان الْحق فِيهَا، وَمعنى قولي تقليدية أعنى أَنَّهَا أخطاء قديمَة فِي مسَائِل قد بحثت وَظهر وَجه الْحق فِيهَا؛ فَلَا دَاعِي لإعادة بحثها وبلبلة الأفكار حولهَا؛ كَيفَ وعلماء بِلَادنَا لَا اخْتِلَاف بَينهم فِي حكمهَا، وَأَنه الْمَنْع وَالتَّحْرِيم؛ فَكيف سَاغَ لفضيلته أَن يضْرب بمذهبهم عرض الْحَائِط ويعلن من بَينهم مذهبا يعتبرونه بِدعَة، بل مَعْصِيّة الله وَرَسُوله؛ لمصادمتة الحَدِيث الصَّحِيح ومحالفته مَذْهَب السّلف الصَّالح وَمن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَان. وَهَذَا الْوَصْف الْأَخير أَعنِي بِهِ موضوعنا هَذَا، وموضوعا آخر تذبذب فِيهِ فَضِيلَة الشَّيْخ؛ فَلَا تكَاد تجزم بِرَأْيهِ الثَّابِت فِيهِ، وأعنى بذلك مَوْضُوع الاحتفال بالمولد النَّبَوِيّ، إِحْدَى الْبدع الَّتِي جارى فِيهَا المسمون النَّصَارَى؛ مصداق قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: "لتتبعن سنَن من كَانَ قبلكُمْ.." الحَدِيث. وَقد تعرض الشَّيْخ لهَذَا الْمَوْضُوع أثْنَاء كَلَامه على سُورَة الْإِنْسَان.. وَمن هُنَا ندخل فِي الْمَوْضُوع متوكلين على الله ومستعينين بحوله وقوته.

المسألة الأولى

الْمَسْأَلَة الأولى ... بَدَأَ الشَّيْخ فِي بَحثه فِي مَسْأَلَة حكم شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بترجمة هَذَا نَصهَا: "شدّ الرّحال إِلَى الْمَسْجِد النَّبَوِيّ للسلام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم"، ثمَّ أتبع ذَلِك بقوله: "وَمِمَّا اخْتصَّ بِهِ الْمَسْجِد النَّبَوِيّ - بل من أهم خَصَائِصه بعد الصَّلَاة فِيهِ - السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دَاخل هَذَا الْمَسْجِد قَدِيما وحديثا"..

مناقشة: ونريد أَن نناقش فضيلته فِيمَا تقدم فَنَقُول: هَذِه الخاصية الَّتِي أثبتها فضيلته لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ، وَجعلهَا من أهم خَصَائِصه مَا الدَّلِيل عَلَيْهَا؟.. وَمن الَّذِي قررها أصلا وَجعلهَا كَمَا ذكر فضيلته؟.. هَل قررها الْقُرْآن؟.. فليتكرم على الْمُسلمين بِذكر الْآيَة الَّتِي بيّنت ذَلِك أَو أشارت إِلَيْهِ، هَل قرر ذَلِك الرَّسُول؟.. فليتكرم بِذكر الحَدِيث الَّذِي أَفَادَ هَذَا الحكم؛ فإننا بأمس الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته لأسباب لَا تخفى على من يهمه أَمر الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين. هَل أجمع على ذَلِك أَصْحَاب رَسُول الله وَعمِلُوا بِهِ؟ أم ذهب إِلَيْهِ جمهورهم أَو كَثْرَة مِنْهُم أَو حَتَّى وَلَو بضعَة من كبارهم وفقهائهم؟.. إِن كَانَ كَذَلِك فعلى الرَّأْس وَالْعين، وَلَكِن نُرِيد من فضيلته أَن يرشدنا إِلَى الْمصدر الَّذِي ذكر ذَلِك من المصادر الْمُعْتَبرَة عِنْد عُلَمَاء الْإِسْلَام، ونعنى بعلماء الْإِسْلَام أَئِمَّة السّلف خَاصَّة، ونعى بالسلف الْقُرُون الثَّلَاثَة الأولى من هَذِه الْأمة؛ لشهادة الْمُصْطَفى عَلَيْهِ السَّلَام بفضلهم، وَلما عرف لَهُم من أَحْوَال فِي الْعلم وَالدّين تخْتَلف عَنْهَا أَحْوَال من جَاءُوا بعدهمْ، وَلِأَن فبمَا بعدهمْ كثرت الْأَهْوَاء والابتداع فِي الدّين وَلم يسلم من ذَلِك إِلَّا الْقَلِيل، وَمن ثمَّ فإننا لَا نطمئن إِلَى نقل كثير من الْمُتَأَخِّرين وَلَا بآرائهم مَا لم يكن الْمصدر الَّذِي نقلوا عَنهُ مَوْجُودا بَين أَيْدِينَا، خَاصَّة فِي الْأُمُور الَّتِي فِيهَا خلاف جوهري يمس العقيدة، أَو يخْشَى أَن يَمَسهَا، أَو لَهُ صلَة ببدعة فتن بهَا كثير من الْمُسلمين كمسألتنا هَذِه. كَمَا نذكِّر مسبقا بأننا لَا نعتبر عمل الصَّحَابِيّ الْوَاحِد حجَّة فِي الدّين إِذا انْفَرد بِهِ دون غَيره من الصَّحَابَة، وَلم يرد أَنهم وافقوه قولا وَلَا عملا وَمَا لم نعلم لَهُ مُسْتَندا من الْكتاب أَو السّنة؛ ذَلِك لِأَن التشريع من حق الله وَرَسُوله فَقَط وَلَا نصيب لأحد بعد الله وَرَسُوله فِيهِ، أما المجتهدون من الْعلمَاء فهم معرّضون لِأَن يُصِيبُوا وَلِأَن يخطئوا، وصوابهم أَن يوافقوا حكم الله وَرَسُوله بفهم مُقْتَضى نَص شَرْعِي، وخطؤهم أَن لَا يوافقوا حكم الله وَرَسُوله بِأَن لَا يوفّقوا لفهم النَّص الشَّرْعِيّ الَّذِي يُرِيدُونَ فهمه. أما التخرص والاعتماد على وَاقع النَّاس، وَالِاسْتِدْلَال بِمَا تَفْعَلهُ الجماهير فَلَيْسَ حجَّة فِي الدّين عِنْد أحد يعرف أَن الْإِسْلَام هُوَ دين الله الَّذِي أنزلهُ على رَسُوله ورضيه لَهُم منهجا فِي الْعِبَادَات والمعاملات والأخلاق والآداب والسلوك؛ فأكمله وَأتم بِهِ النِّعْمَة على الْمُسلمين وبيّنه رَسُوله صلى الله عله وَسلم لأمته أتم بَيَان، كَانَ ذَلِك قبل أَن يقبض الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ، فَمَا من خير إِلَّا دلّ عَلَيْهِ أمته وَمَا من شَرّ إِلَّا نَهَانَا عَنهُ وحذرها من الْوُقُوع فِيهِ، خَاصَّة مَا يتَعَلَّق بتوحيد الله وحمايته من شوائب الشّرك وسد الذرائع الَّتِي يخْشَى أَن تتدرج بأمته إِلَى الْوُقُوع فِيمَا وَقعت فِيهِ الْأُمَم السَّابِقَة، فجزاه الله عَنَّا خير مَا جزى نَبيا عَن أمته. أما زعم الشَّيْخ أَن السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد قَدِيما وحديثا؛

فتعبيره بقديم وَحَدِيث يدل على أَنه يسْتَدلّ بالواقع، ويؤكد ذَلِك كَون فضيلته لم يُورد أَي دَلِيل شَرْعِي على صِحَة مَا ذهب إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا اسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا ظن أَنه عمل النَّاس، ثمَّ إِن زَعمه ذَلِك قَول بِلَا علم، وَدَعوى بِلَا بَيِّنَة؛ إِذْ إِن فضيلته لم يُوجد إِلَّا مُنْذُ خمسين سنة تَقْرِيبًا، فَكيف علم مَا عَلَيْهِ النَّاس فِي هَذَا الْأَمر مُنْذُ ألف سنة؟.. لَا يعلم ذَلِك، من عَاشَ هَذِه الْقُرُون كلهَا. إِذا كَيفَ علم فضيلته أَن السَّلَام على رَسُول الله مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد؟ أَظن كل هَذَا من أجل محاولة الرَّبْط الوثيق بَين الْقَبْر وَالْمَسْجِد، كَمَا سَيَأْتِي تصريحه بذلك وَالِاسْتِدْلَال العجيب عَلَيْهِ بِحَدِيث: "مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة".. وَنسي - سامحه الله - أَن الْمَسَاجِد تخْتَلف عَن الأضرحة، وَلَيْسَ بَينهمَا وَجه شبه وَلَا جَامع مُشْتَرك. وَقَالَ الشَّيْخ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح: "مَا من أحد يسلّم عَليّ إِلَّا رد الله عَليّ روحي فأرد عَلَيْهِ السَّلَام"، ثمَّ قَالَ: ومجمعون على أَن ذَلِك يحصل لمن سلم عَلَيْهِ من قريب، ثمَّ أكد مَا ادّعاه أَولا بقوله: وَمَا كَانَ هَذَا السَّلَام يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، سَوَاء قبل وَبعد إِدْخَال الْحُجْرَة بِالْمَسْجِدِ. مناقشة: وَهنا نناقش الشَّيْخ من نواح حول مَا نقلنا من كَلَامه: 1- مَا مُرَاده بِالصَّحِيحِ؟.. أيعني البُخَارِيّ وَمُسلم أَو أَحدهمَا كَمَا هُوَ اصْطِلَاح الْعلمَاء غَالِبا، وكما يُشِير إِلَيْهِ اكتفاءه هُوَ بِكَلِمَة الصَّحِيح دون كلمة الحَدِيث؛ إِذْ حسب فهمي أَنه لَو كَانَ مُرَاده غير الصَّحِيحَيْنِ لقَالَ: كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح، وَلَكِن - كَمَا يَقُولُونَ - (لَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح) لَو كَانَ الحَدِيث الْمشَار إِلَيْهِ صَحِيحا، وَلَكِن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ واردا بِسَنَد صَحِيح؛ فَأَيا مَا كَانَ قصد الشَّيْخ بِهَذَا الْوَصْف فَهُوَ خطأ؛ لِأَن الحَدِيث فِي أبي دَاوُد وَبَعض الْكتب الْأُخْرَى غير البُخَارِيّ وَمُسلم بِسَنَد حسن فَقَط؛ إِذْ إِن فِي سَنَده أَبَا صَخْر حميد بن يزِيد قَالَ فِيهِ ابْن حجر فِي التَّقْرِيب: (صَدُوق يهم) . 2- فِي الحَدِيث الَّذِي نَحن بصدده قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: "مَا من أحد يسلم عَليّ"، وَكلمَة (أحد) نكرَة مسبوقة بِنَفْي وَلم تُوصَف بِمَا يميزها وَلم تقيد بِمَا يخصصها؛ فَمن ثمَّ تكون عَامَّة تَشْمَل جَمِيع من يصدقها عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أحد، فَإذْ كَانَ الْأَمر كَذَلِك من أَيْن تكون الْفَضِيلَة الْخَاصَّة الَّتِي يدندنون حولهَا محاولين تَأْوِيل النُّصُوص من أجلهَا؟ ... وَقد ذهب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية إِلَى أَنه لَا فَضِيلَة هُنَا للمردود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْفَضِيلَة للراد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ لِأَن ذَلِك من بَاب الْمُكَافَأَة على الْإِحْسَان ورد الْجَمِيل بِمثلِهِ. ثمَّ إِن الشَّيْخ وفقنا الله وإياه! يمِيل بِقُوَّة - حسب فهمي من كَلَامه - إِلَى أَن رد السَّلَام مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام

الْمشَار إِلَيْهِ فِي الحَدِيث إِنَّمَا يصل لمن سلم من قريب دون من سلم من بعيد، وَدَلِيل ذَلِك كَونه حكى الْإِجْمَاع على أَن ردّ السَّلَام يحصل لمن سلم من قريب وَسكت عَن رَأْي من يرى أَنه لَا فرق بَين الْبعيد والقريب، مِمَّا يُشِير إِلَى أَنه غير مُعْتَد بذلك الْمَذْهَب وَلَا ملتفت إِلَيْهِ. مَعَ أَن مَا أعرض عَنهُ فضيلته هُوَ الصَّحِيح للأدلة الْآتِيَة: أ- دَعْوَى الِاخْتِصَاص لَا دَلِيل عَلَيْهَا، لَا من النَّقْل وَلَا من الْعقل، وكل دَعْوَى لَا تؤيدها الْأَدِلَّة مآلها للرَّدّ والبطلان. ب- الحَدِيث مُطلق من الْقُيُود، وَمَا أطلقهُ المشرع لَا يجوز تَقْيِيده بِدَلِيل سوى الظَّن؛ فقد وصف الله الظَّن بِأَنَّهُ لَا يغنى من الْحق شَيْئا. ج- فِي هَذَا التَّخْصِيص قِيَاس لحَال مَا بعد الْمَوْت على حَال الْحَيَاة، وَهُوَ قِيَاس فَاسد؛ لبعد الْفَارِق بَين الْحَالين؛ إِذْ حَال الْحَيَاة محسوس مشهود، وَحَال مَا بعد الْوَفَاة غيب لَا يعلم حَقِيقَته إِلَّا الله، وَالَّذِي يظْهر أَنه لَا فرق هُنَا بَين الْبعيد والقريب. ثمَّ إِن الله تَعَالَى مكّن رَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من رد السَّلَام على من سلم عَلَيْهِ من قريب وَهُوَ فِي حَال وَفَاة ومفارقة للحياة الدُّنْيَا، لَا يعجز أَن يُمكنهُ من ذَلِك بِالنِّسْبَةِ للبعيد أَيْضا؛ إِذْ إِن الْقَضِيَّة غيب وقدرة إلهية خارقة - وَالله أعلم -. ثمَّ لَو كَانَ الْأَمر كَمَا ظن الْبَعْض وَهُوَ أَن الردّ لَا يحصل إِلَّا من قريب لَكَانَ المسلّم يحْتَاج من أجل الْحُصُول على ذَلِك إِلَى أَن يدْخل الْحُجْرَة وَيقف على شَفير الْقَبْر، أما وَهُوَ دَاخل الْمَسْجِد فَقَط فَذَلِك بعيد وَلَيْسَ بقريب، وَالشَّيْخ جعل الْفَارِق بَين الْبعيد والقريب هُوَ الْمَسْجِد؛ فَمن سلم من دَاخل الْمَسْجِد فَهُوَ فِي نظره قريب، وَمن سلم من خَارجه فَهُوَ بعيد، وَلم يخصص مَكَانا من الْمَسْجِد دون مَكَان، وَنحن نتساءل: كَيفَ يكون من سلم وَهُوَ فِي غربي الْمَسْجِد - خَاصَّة بعد الزِّيَادَات الْأَخِيرَة، وَبَينه وَبَين الْقَبْر مئات الأمتار - يكون قَرِيبا، وَمن سلم من خَارج الْمَسْجِد من النَّاحِيَة الشرقية أَو الْقبلية - وَبَينه وَبَين الْقَبْر أمتار محدودة قد لَا تبلغ الْخَمْسَة عشر أَو الْعشْرين مترا - يكون بَعيدا، مَعَ أَن الْمُعْتَمد فِي ذَلِك والأساس الَّذِي بنى عَلَيْهِ فضيلته هَذَا الحكم هُوَ الِاجْتِهَاد الْمُجَرّد من الدَّلِيل؟.. أما أَنا فَلَا أجد جَوَابا لهَذَا التساؤل سوى مَا ذكرت قبل، وَهُوَ حرصه على أَن يرْبط بَين الْمَسْجِد والقبر. 4- قد ورد حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطرق مُتعَدِّدَة وشواهد كَثِيرَة يَرْوِيهَا أَئِمَّة أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ الطَّاهِر وَغَيرهم؛ يُفِيد هَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ وشواهده أَن لَا فرق بَين الْقَرِيب والبعيد بِالنِّسْبَةِ للسلام على رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَمَا يُفِيد أَيْضا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن اتِّخَاذ قَبره عيدا، وَقد فهم رُوَاة هَذَا الحَدِيث من آل الْبَيْت النَّبَوِيّ أَن من اتِّخَاذ قَبره عَلَيْهِ السَّلَام عيدا

التَّرَدُّد على الْقَبْر؛ فقد أنكر كل من عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين وَابْن عَمه الْحسن بن الْحسن على من يتَرَدَّد على الْقَبْر مستدلين عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمشَار إِلَيْهِ، وَالَّذِي يرويانه بإسناديهما إِلَى جدهما سيد الْخلق - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَمَا أخبرا أَنه لَا فرق فِي السَّلَام عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَن يكون من قريب أَو من بعيد. وَهَذَا نَص الحَدِيث: قَالَ أَبُو يعلى فِي سَنَده: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة.. ثمَّ سَاق السَّنَد إِلَى عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين أَنه رأى رجلا يَجِيء إِلَى فُرْجَة كَانَت عِنْد قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ فَيدْخل فِيهَا، فَنَهَاهُ ثمَّ قَالَ: أَلا أحدثكُم حَدِيثا سمعته من أبي عَن جدي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسم.. قَالَ: " لَا تَتَّخِذُوا قبرى عيدا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتكُمْ قبورا؛ فَإِن تسليمكم يصلني أَيْنَمَا كُنْتُم". وَفِي بعض الرِّوَايَات: "وصلوا عَليّ؛ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُ كُنْتُم! ".. وَفِي رِوَايَة: "فَإِن صَلَاتكُمْ وتسليمكم ". وَفِي مُسْند سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد أَخْبرنِي سُهَيْل بن أَنِّي سُهَيْل قَالَ: رَآنِي الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أَنا طَالب رضى الله عَنْهُم عِنْد الْقَبْر؛ فناداني وَهُوَ فِي بَيت فَاطِمَة يتعشى فَقَالَ: هلمّ إِلَى الْعشَاء! قلت: لَا أريده، فَقَالَ: رَأَيْتُك عِنْد الْقَبْر؟.. قلت: سلمت عَليّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِذا دخلت الْمَسْجِد فَسلم، ثمَّ قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قبرى.. وَفِي رِوَايَة: بَيْتِي عيدا، وَلَا بُيُوتكُمْ قبورا؛ لعن الله الْيَهُود اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وصلوا عَليّ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُمَا كُنْتُم"، ثمَّ قَالَ الْحسن بعد رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث: " مَا أَنْتُم وَمن بالأندلس إِلَّا سَوَاء". قَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية: "وَرَوَاهُ القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق فِي فضل الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وسلّم". وَفِي سنَن أبي دَاوُد نَص الحَدِيث الْمُتَقَدّم - لفظا بِلَفْظ - عَن أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام فِي كتاب الرَّد على الاخنائي: "هَذَا حَدِيث حسن رُوَاته ثِقَات مثساهير، لَكِن عبد الله بن نَافِع الصَّائِغ فِيهِ لين لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِهِ، خَاصَّة وَأَن لهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد مُتعَدِّدَة"، ثمَّ ذكر وَاحِدًا من شواهده فِي سنَن سعيد بن مَنْصُور. قلت: وَسَيَأْتِي إِن يَشَاء الله نقل احتجاج الْعَلامَة مُحَمَّد بشير السهسواني بِهَذَا الحَدِيث بِرِوَايَاتِهِ فِي رده على زيني دحلان. مَاذَا نستفيد من هَذَا الحَدِيث؟ ونستفيد من هَذَا الحَدِيث مَا يَلِي: 1- الرَّد على من زعم أَن السَّلَام على رَسُول الله بعد وَفَاته عَلَيْهِ السَّلَام مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، وَأَن السَّلَام من قريب أفضل وأنفع مِمَّا إِذا كَانَ من بعيد.

2- أَن عَليّ بن الْحُسَيْن وَالْحسن بن الْحسن اعتبرا التَّرَدُّد على الْقَبْر دَاخِلا فِي اتِّخَاذه عيدا نُهِىَ عَنهُ فِي الحَدِيث، وَأَن ذَلِك التَّرَدُّد يتعارض مَعَ مُقْتَضى ذَلِك النَّهْي الصَّادِر عَن الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. 3- يدل نهيهما وإنكارهما على من تردد إِلَى الْقَبْر أنّ عمل جُمْهُور الْمُسلمين فِي زمانهما - وخاصة الْعلمَاء - عدم التَّرَدُّد إِلَى الْقَبْر؛ إِذْ لَو كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ لما استنكر كل وَاحِد مِنْهُمَا تردد من أَتَى إِلَى الْقَبْر، وَلما نَهَاهُ عَن أَمر يَفْعَله سَائِر الْمُسلمين وَلَا يُنكر بَعضهم على بعض، ولاحتج الْمنْهِي بِأَن مَا فعله يَفْعَله سَائِر النَّاس وَلَا يُنكر عَلَيْهِم من قبل الْعلمَاء، علما بِأَن مَا أنكرهُ هَذَانِ الإمامان لم ينفردا بإنكاره بل نقل عَن جُمْهُور عُلَمَاء السّلف وأئمتهم، كَالْإِمَامِ مَالك؛ إِذْ ثَبت عَنهُ أَنه يكره قَول الرجل: زرت قبر النَّبِي أَو سلمت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.. يعْنى عِنْد قَبره. وَلم يكن مَعْرُوفا عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنهم كَانُوا يَتَرَدَّدُونَ على الْقَبْر، إِلَّا مَا عرف عَن عبد الله بن عمر من أَنه إِذا أَرَادَ سفرا أَو قدم من سفر جَاءَ إِلَى الْقُبُور الثَّلَاثَة بعد مَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد رَكْعَتَيْنِ؛ فَيَقُول: "السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا خَليفَة رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه"، وَلَا يزِيد على هَذَا؛ فَمَاذَا يَقُول من يزْعم أَن السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أخص خَصَائِص الْمَسْجِد النَّبَوِيّ؟.. وَأَن السَّلَام على رَسُول الله مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد.. وماذا يَقُول من يرى وجوب أَو اسْتِحْبَاب أَو إِبَاحَة شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف، مُعَارضا بذلك نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام، ومحاولا تَأْوِيل ذَلِك النهى، غير ملتفت لعمل السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ... بل حاول أَن ينْسب إِلَيْهِم مَا لم يَقُولُوا أَو يَفْعَلُوا. لَا أعلم لَهُم جَوَابا إِلَّا أَن يدعوا إِحْدَى ثَلَاث دعاوى: الأولى: أَن يدعوا ضعف الحَدِيث الَّذِي أَفَادَ النَّهْي عَن اتِّخَاذ قَبره عَلَيْهِ السَّلَام عيدا، وَأفَاد أَن لَا فرق فِي السَّلَام عَلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَام- بَين أَن يكون من قريب بعيد، وَهَذِه الدَّعْوَى لَو لجأوا إِلَيْهَا لقلنا لَهُم: إِن طَرِيقا وَاحِدَة من طرق هَذَا الحَدِيث تساوى طرق حَدِيث "مَا من أحد يسلم عَليّ.." الخ. وَتبقى بَقِيَّة الطّرق لَا مُقَابل لَهَا بِالنِّسْبَةِ لذَلِك الحَدِيث.. علما بِأَن حَدِيث "لَا تَتَّخِذُوا.." قد اسْتدلَّ بِهِ فِي الْمَوْضُوع أَئِمَّة الْإِسْلَام قَدِيما وحديثا كَمَا تقدم، وكما تَجدهُ فِي أَي كتاب تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، والْحَدِيث إِذا ارْتَفع عَن دَرَجَة الضعْف فَهُوَ أولى بِالْقبُولِ من آراء الرِّجَال. الثَّانِيَة: أَن يتهموا إمامي أهل الْبَيْت -وَغَيرهم مِمَّن اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على عدم جَوَاز التَّرَدُّد على الْقَبْر - بِسوء الْفَهم، وَأَنَّهُمْ نزلُوا الحَدِيث فِي غير منزله، ووضعوه فِي غير مَوْضِعه. وَالْجَوَاب على هَذِه الدَّعْوَى أَن نقُول: لَا يشك من لَهُ أدنى إِلْمَام بعلوم الشَّرِيعَة وتاريخ الْإِسْلَام أَن السّلف أعلم بنصوص الشَّرِيعَة ومقاصدها وأهدافها من الْخلف مَرَّات متكررة، وخاصة رَاوِي الحَدِيث،

وَمن شَاهد التطبيق العملي لمقتضاه من جِهَة سلف الْأمة والقرون المفضلة أَحْرَى وأجدر بِمَعْرِِفَة مُرَاد الله وَرَسُوله مِمَّن جَاءَ بعدهمْ، كَيفَ وَفِيمَا بعدهمْ تدخلت الْأَهْوَاء وتأثر كثير من النَّاس بِمَا حدث من بدع وَنحل وأفكار دخيلة على الْإِسْلَام؟.. الثَّالِثَة: أَن يَقُولُوا: إِذا كَانَ من السّلف من لَا يرى مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عِنْد الْقَبْر، أَو يرى ذَلِك مَكْرُوها فقد وجد فيهم من يرى اسْتِحْبَاب ذَلِك وَأَنه من الْأَعْمَال الصَّالِحَة، أَو أَنه مُبَاح على الْأَقَل، وَلَيْسَ من يرى ذَلِك أولى بِاعْتِبَار رَأْيه من الْفَرِيق الثَّانِي. وَالْجَوَاب على ذَلِك أَن نقُول: إِذا كَانَ من يرى عدم مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عِنْد الْقَبْر بِالنِّسْبَةِ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد وجد من يُعَارضهُ من معاصريه وأقرانه؛ فَإِن الله قد أمرنَا أَن نرد مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ فعلينا أَن نطبق هَذَا الأَصْل الْعَظِيم وَأَن نسلك هَذَا السَّبِيل القويم؛ فَنَنْظُر من يكون الدَّلِيل بجانبه فنعلم أَنه هُوَ الْمُصِيب وَأَن مخالفه على خطأ وَقد حرم الصَّوَاب، وَلَكِن إِن كَانَت الْمَسْأَلَة فِي فروع الشَّرِيعَة، وَهَذَا الْمُخطئ قد بذل وَسعه فِي تحرى الصَّوَاب والتماس الْحق؛ فَلَا لوم عَلَيْهِ وَلَا إِثْم بِشَرْط أَن يكون أَهلا للِاجْتِهَاد وَمن الحائزين على مؤهلاته، أما إِن كَانَت الْقَضِيَّة قَضِيَّة عقيدة فَالَّذِي نعتقده وَالَّذِي فهمناه عَن عُلَمَاء أهل السّنة أَن الْخَطَأ فِي أُمُور العقيدة غير مَعْذُور فِيهِ إِذا كَانَ الْمُسلم يعِيش فِي بِلَاد الْإِسْلَام الَّتِي يُوجد فِيهَا من يبين العقيدة الصَّحِيحَة؛ إِذْ إِن الْإِنْسَان إِمَّا أَن يكون عَالما قَادِرًا على فهم نُصُوص الْوَحْي؛ فسيكون مؤاخذا على الْخَطَأ؛ لِأَن أُمُور العقيدة وَاضِحَة جلية، وَلذَلِك لم يخْتَلف السّلف فِي أُمُور العقيدة مَعَ أَنهم اخْتلفُوا فِي بعض مسَائِل الْفُرُوع، وَإِمَّا أَن يكون جَاهِلا؛ فَعَلَيهِ أَن يسْأَل أهل الذّكر من عُلَمَاء السّنة الَّذين إِذا ذكرُوا حكما ذكرُوا دَلِيله من الْكتاب أَو السّنة. وَرُبمَا قَالُوا: صَحِيح أَن هَذَا الحَدِيث يُفِيد أَن السَّلَام يبلغهُ - عَلَيْهِ السَّلَام - من الْبعيد كَالصَّلَاةِ، وَلَكِن لَا يرد إِلَّا على من سلم من قريب! فَنَقُول لَهُم حِينَئِذٍ: مَا الدَّلِيل على مَا زعمتم؟.. هَذَا مُجَرّد ظن وَتدْخل فِي أُمُور الْغَيْب الَّتِي هِيَ من اخْتِصَاص الله وَحده، وَلَا سَبِيل إِلَى علمهَا من غير طَرِيق الْوَحْي. النَّاحِيَة الثَّانِيَة: مَاذَا يَعْنِي فَضِيلَة الشَّيْخ حِين يَقُول: وَمَا كَانَ هَذَا السَّلَام يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد سَوَاء قبل أَو بعد إِدْخَال الْحُجْرَة؟.. إِن كَانَ يَعْنِي هَذَا النَّوْع المبتدع الَّذِي تمارسه الْعَامَّة والدهماء، وَهَذَا الضجيج والأصوات الْعَالِيَة بَين مُنَاد وداع ومتوسل ومستجير وطالب للشفاعة من غير مَالِكهَا.. إِن كَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي يقْصد الشَّيْخ فَلْيقل فِيهِ فضيلته مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لدينا أَي اعْتِرَاض أَو مناقشة؛ لأننا لَا نعترف بِهَذَا النَّوْع من السَّلَام أصلا وَلَا نعتبره من الدّين الَّذِي أنزلهُ الله على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه من مخلفات عصور الانحطاط الَّذِي نتج عَنهُ قيام الوثنية فِي أغلب بلدان الْمُسلمين إِلَّا مَا طهره الله - كأرض المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - من هَذِه الوثنية، بفضله تَعَالَى ثمَّ ببركة الدعْوَة الصَّالِحَة وَالْحَرَكَة الناجحة

الَّتِي قَامَ بهَا شيخ الْإِسْلَام ومجدده مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب، وَقَامَ بنصره وحمايته أُمَرَاء آل سعود رحم الله أسلافهم وَبَارك فِي أخلافهم ووفقهم لحماية دين الْإِسْلَام من عَبث العابثين وَكيد الكائدين. أما إِن كَانَ مُرَاد الشَّيْخ السَّلَام على النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّذِي أَمر الله بِهِ الْمُسلمين بقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، وَالَّذِي يعنيه الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين يَقُول: "من صلى عليَّ مرّة وَاحِدَة صلى الله عَلَيْهِ بهَا عشرا"، وَالَّذِي يردده الْمُسلم فِي كل صَلَاة مَفْرُوضَة أَو راتبة أَو نَافِلَة ضمن التَّشَهُّد الْمَفْرُوض؛ فَيَقُول: "السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته"، وَالَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُسلم كلما دخل مَسْجِدا من الْمَسَاجِد أَو خرج مِنْهُ؛ فَيَقُول: "بِسم الله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله"، وَكَذَلِكَ كلما ذكر الْمُسلم نبيه أَو سمع ذكره قَالَ: "صلى الله عَلَيْهِ وَسلم" ... إِن هَذَا النَّوْع من السَّلَام هُوَ الَّذِي يعنيه فَضِيلَة الشَّيْخ فَلَيْسَ صَحِيحا أَن هَذَا السَّلَام مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، بل إِن هَذَا السَّلَام يمارسه الْمُسلم فِي كل مَكَان وَفِي كل مُنَاسبَة، وَلم يكن يَوْمًا من الْأَيَّام مَقْصُورا على مَكَان من الْأَمْكِنَة. وَإِن كَانَ فضيلته يرى أَن هُنَاكَ نَوْعَيْنِ من السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَحدهمَا عَام فِي كل مَكَان؛ فِي الصَّلَاة، وَعند دُخُول الْمَسَاجِد، وَعند ذكره عَلَيْهِ السَّلَام، وَالْآخر خَاص بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ، وَأَنه هُوَ الَّذِي يعنيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: "مَا من أحد يسلم عَليّ ... " الحَدِيث؛ فليقدم لنا دَلِيله على ذَلِك، وَله منا الشُّكْر، وليعلم فضيلته من جَدِيد أننا لَا نقبل من أحد أَن يَقُول على الله وَرَسُوله وَدينه بِلَا علم وَلَا برهَان؛ إِذْ يَقُول تَعَالَى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} ، وَيَقُول النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد"، وَيَقُول: "من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد "، وَيَقُول عَلَيْهِ السَّلَام: "عَلَيْكُم بِسنتي.." إِلَى قَوْله: " وكل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار". النَّاحِيَة الثَّالِثَة: وَكَيف علم الشَّيْخ أَن السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: "مَا من أحد يسلم عَليّ إِلَّا رد الله عَليّ روحي فأرد عَلَيْهِ السَّلَام" - كَيفَ علم الشَّيْخ - وَفقه الله - أَن هَذَا السَّلَام مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد قبل وَبعد إِدْخَال الْحُجْرَة فِيهِ؟.. وَمن أَيْن علم فضيلته أَن الْمُسلمين مُنْذُ ألف وَأَرْبَعمِائَة سنة إِلَى يَوْمنَا هَذَا نزَّلوا هَذَا الحَدِيث على السَّلَام عِنْد الْقَبْر فِي دون غَيره؟.. وَأَنَّهُمْ مجمعون على ذَلِك وَلم يُخَالف مِنْهُم أحد؟.. وماذا يَقُول عَن الصَّحَابَة الَّذين لم يرد أَن أحدا مِنْهُم يسلم على النَّبِي عِنْد الْقَبْر مَا عدا عبد الله بن عمر؟. ثمَّ هَل عَاشَ فضيلته ألف وَأَرْبَعمِائَة سنة حَتَّى يرى مَاذَا فعل كل مُسلم عَاشَ على وَجه الأَرْض مُنْذُ

وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا؛ حَتَّى يتسنى لَهُ أَن يجْزم بِمَا جزم بِهِ وَيَدعِي مَا ادَّعَاهُ من أَمر لَا يدْرك إِلَّا بالحس والمشاهدة؟.. إِذا كَانَ هَذَا مستحيلا فتحقيق مَا ادَّعَاهُ الشَّيْخ مُسْتَحِيل أَيْضا، فَلَو أَن فضيلته قرر ذَلِك حكما شَرْعِيًّا لكَانَتْ المشكلة أخفّ، سَوَاء أصَاب أَو أَخطَأ؛ لِأَن الحكم الشَّرْعِيّ يدْرك بِالِاجْتِهَادِ فِي نُصُوص الشَّرْع، والمجتهد يُصِيب أَحْيَانًا ويخطئ أَحْيَانًا أُخْرَى، وَلَكِن مَا قَرَّرَهُ فضيلته دَعْوَى علم بِمَا جرى عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ مُنْذُ أَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان؛ فيا عجب العجاب! وَإِن كَانَ الشَّيْخ - وَفقه الله - بنى حكمه هَذَا على أساس اعتقادي بأنّ هَذَا هُوَ الْحق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة شرعا؛ لأننا نقُول لَهُ: حَتَّى وَإِن اسْتَطَعْت أَن تثبت أَن هَذَا هُوَ الْحق شرعا فَإنَّك لَا تَسْتَطِيع أَن تثبت أَن النَّاس جَمِيعًا التزموا بِهِ وحافظوا عَلَيْهِ، فهناك فَرَائض الْإِسْلَام وأركانه ولوازم التَّوْحِيد ومقتضياته قد أخلّ النَّاس بهَا وَلم يحافظ عَلَيْهَا ويؤديها - وفْق مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام - إِلَّا بعض الْمُسلمين، وهى أُمُور ثَابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع إِجْمَالا وتفصيلا؛ فَمَا بالك بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة الَّتِي وَقع الْخلاف فِي أَصْلهَا وفروعها، وَوَقع قوم مِنْهَا فِي مهالك مُنْذُ اخْتَلَط على الْكثير من الْمُسلمين الصَّوَاب بالْخَطَأ وَالْحق بِالْبَاطِلِ وَالْهدى بالضلال، علما بِأَن التخرص والتخمين وَقِيَاس الْمَاضِي بالحاضر وَالِاعْتِبَار بواقع النَّاس فِي عصر من العصور مَا كَانَت هَذِه الْأُمُور يَوْمًا من الْأَيَّام مصَادر علم تُقَام على أساسها الْأَحْكَام، خَاصَّة أُمُور الدّين الَّتِي لَا مصدر لَهَا سوى الْوَحْي السماوي والتنزيل الرباني والتشريع الرباني، وَلَو كَانَ الظَّن والتخرص مصدر علم يُوصل إِلَى حقائق الْأُمُور لصار الْعلم من أسهل الْأَشْيَاء تحصلا، ولاستطاع أَجْهَل النَّاس أَن يتَحَمَّل أَيَّة متاعب.

المسألة الثانية

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: قَالَ الشَّيْخ عَطِيَّة ص 577: "ولنتصور حَقِيقَة هَذِه الْمَسْأَلَة يَنْبَغِي أَن نعلم أَولا أَن الْبَحْث فِيهَا لَهُ ثَلَاث حالات: الأولى: شدّ الرّحال إِلَى السجد النَّبَوِيّ للزيارة وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ. الثَّانِيَة: زِيَارَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قريب وَالسَّلَام عَلَيْهِ بِدُونِ شدّ الرّحال، وَهَذِه أَيْضا مجمع عَلَيْهَا. الثَّالِثَة: شدّ الرّحال للزيارة فَقَط، وَهَذِه الْحَال هِيَ مَحل الْبَحْث ومثار النقاش السَّابِق. مناقشة: وَنحن نناقش ففضيلة الشَّيْخ هُنَا فِي فقرة وَاحِدَة من هَذَا الْكَلَام الَّذِي نَقَلْنَاهُ هُنَا من كِتَابه، وهى دَعْوَاهُ بِأَن مَا عبر عَنهُ هُوَ (بالحالة الثَّانِيَة) مجمع عَلَيْهِ، فنسأل فضيلته مَتى انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع؟.. وَمن هم الَّذين أَجمعُوا على ذَلِك؟.. وَمَا دليلك على حُصُول هَذَا الْإِجْمَاع؟..

وَهل انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع زمن الصَّحَابَة؟.. أم زمن التَّابِعين؟.. أم مَتى كَانَ ذَلِك؟..وَمن الَّذين أَجمعُوا على هَذَا الْأَمر؟.. هَل هم أهل الِاجْتِهَاد من أمة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام أم غَيرهم؟.. وَمن نقل إِجْمَاعهم؟.. هَل علم بِهَذَا الْإِجْمَاع الإِمَام مَالك- رَحمَه الله- وَمَعَ ذَلِك يكره أَن يَقُول الْإِنْسَان: زرت قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟.. وَهل علم بِهِ عَليّ بن الْحُسَيْن وَالْحسن بن الْحسن إِمَامًا أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ فِي زمانهما؟ ... وَمَعَ ذَلِك ينهيان عَن التَّرَدُّد على الْقَبْر الشريف.. وَهل علم بِهَذَا الْإِجْمَاع قاضى الْمَدِينَة سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَهُوَ أحد أَئِمَّة التَّابِعين وَأحد قُضَاة الْمَدِينَة وَأحد فقهائها وسكانها، وَكَذَلِكَ من ذكرُوا قبله نشأوا فِي بلد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعايشوا وتلقوا الْعلم فِيهَا بجوار قَبره الشريف وشاهدوا بأعينهم عمل الْأَئِمَّة من التَّابِعين وتابعيهم مِمَّن يُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ، وَمن الوافدين إِلَيْهَا من أقطار الأَرْض، وماذا كَانُوا يعْملُونَ. فعلى كل حَال هم أعلم مِمَّن يدعى الْإِجْمَاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من غير أَن يقدم دَلِيلا يثبت صِحَة دَعْوَاهُ. فإمَّا أَن يَقُول الشَّيْخ: إِن الْإِجْمَاع انْعَقَد قبل هَؤُلَاءِ وهم خالفوه، وَإِمَّا أَن يَقُول: انْعَقَد الْإِجْمَاع فِي زمنهم وَلَا عِبْرَة بخلافهم، وَإِمَّا أَن يَقُول: إِن الْإِجْمَاع انْعَقَد بعدهمْ. فَالْأول فِي غَايَة البشاعة، وَالثَّانيَِة مثلهَا، وَالثَّالِثَة يحْتَاج لإثباتها إِلَى دَلِيل مَقْبُول عِنْد من يُخَالِفهُ فِي هَذِه الدَّعْوَى، وَلَا أَظُنهُ يثبت وجود إِجْمَاع بعد خلاف؛ إِذْ إِن النَّاس كلما كَثُرُوا وَكلما طَال الأمد بَينهم وَبَين عصر النُّبُوَّة كثر خلافهم وتشعبت آراؤهم وَكَثُرت أهواؤهم؛ فَكيف يتَصَوَّر أَن يتفقوا بَعْدَمَا اخْتلف من فِي قبلهم فِي حكم من الْأَحْكَام أَو مَسْأَلَة من الْمسَائِل؟.. من أجل ذَلِك نكرر الرَّجَاء إِلَى فضيلته ليدلنا على الْمصدر الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْهُ فضيلته خبر هَذَا الْإِجْمَاع الَّذِي خَفِي على جهابذة الْعلمَاء قَدِيما وحديثا، ولكننا نشرط مسبقا بأننا سَوف لَا نكتفي بِأَن يَقُول لنا فضيلته ذكر هَذَا الْإِجْمَاع فلَان أَو عَلان فِي كتاب كَذَا، حَتَّى نعلم الْمصدر الأساسي الَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ فلَان أَو عَلان فِيمَا نقل من هَذَا الْإِجْمَاع؛ لِأَن مُجَرّد كَلَام مدون فِي كتاب لأحد الْعلمَاء يدعى مُؤَلفه أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد على كَذَا وَكَذَا - دون أَن يبين مُسْتَند - لَا يكفى لإِثْبَات وَقبُول مَا ادَّعَاهُ، وَمَا الْفرق بَين نِسْبَة الْإِجْمَاع إِلَى الْأمة وَبَين نِسْبَة الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ألم تَرَ أَن الحَدِيث الْمَنْسُوب إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقبل وَلَا يعْتَبر حَدِيثا لمُجَرّد وجوده فِي كتاب من الْكتب مهما علت منزلَة صَاحب ذَلِك الْكتاب رُتْبَة فِي الْعلم وَالتَّقوى؛ حَتَّى يقدم السَّنَد الَّذِي عَنهُ تلقى ذَلِك الحَدِيث؛ فَينْظر أهل الْعلم وطلاب الْحق فِي هَذَا السَّنَد، هَل هُوَ مِمَّن يقبل خَبره أم لَيْسَ كَذَلِك؟.. أَلَيْسَ مِمَّا يُؤْخَذ على طَالب الْعلم أَن يتَكَلَّم فِي موعظة أَو خطْبَة أَو كتاب؛ فينسب إِلَى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا أَو أَكثر وَهُوَ غير متأكد من صِحَّته سندا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟.. إِذا مَا بَال الْإِجْمَاع أمره خَفِيف عِنْد بعض الْمَشَايِخ فيسهل عَلَيْهِ أَن يَقُول: هَذَا مجمع عَلَيْهِ، أَو ثَبت

ذَلِك بِالْإِجْمَاع دون أَن يكون هُنَاكَ مُسْتَند مَقْبُول عِنْد التَّحْقِيق لهَذَا الْإِجْمَاع المزعوم؟.. وَلَو أَن فَضِيلَة الشَّيْخ - وفقنا الله وإياه - سلك الطَّرِيق الَّذِي سلكه بعض الْعلمَاء، وَهُوَ قَول أحدهم عِنْدَمَا يتَعَرَّض للْكَلَام على مَسْأَلَة لَا يعلم فِيهَا خلافًا لأحد فَيَقُول: "حكم هَذِه الْمَسْأَلَة كَذَا من غير خلاف نعلمهُ"؛ - فيقيد ذَلِك بِعَدَمِ علمه - لَكَانَ خيرا لَهُ، وَصدق الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله إِذْ يَقُول: "من ادّعى الْإِجْمَاع فقد كذب، وَمَا يدريه لَعَلَّ النَّاس اخْتلفُوا". ثمَّ إِن فَضِيلَة الشَّيْخ - هداه الله - لم يُوضح لنا على أَي شَيْء انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع من الْأَحْكَام الثَّلَاثَة؛ إِذْ إِنَّه اكْتفى بقوله: "وَهَذَا أَيْضا مجمع عَلَيْهِ"، وَالْإِشَارَة هُنَا تعود إِلَى الْحَالة الثَّانِيَة - حسب تَعْبِيره - الَّتِي شرحها فضيلته بِأَنَّهَا (زِيَارَة الرَّسُول وَالسَّلَام عَلَيْهِ بِدُونِ شدّ رحال) ؛ فقرر أَن هَذِه الزِّيَارَة مجمع عَلَيْهَا، وَلَكِن أَعلَى أَنَّهَا وَاجِبَة أَو مُسْتَحبَّة أَو مُبَاحَة؟.. لَا ندرى؛ فَأَي فَائِدَة من ذكر هَذَا الْإِجْمَاع الَّذِي لم يبين على أَي شئ انْعَقَد؟.. ثمَّ نسْأَل الشَّيْخ هَل ورد على لِسَان المشرع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلمة (زِيَارَة فلَان من الْمَوْتَى) ؟.. الَّذِي أعتقد أَن الْجَواب بِالنَّفْيِ؛ إِذْ إِن الَّذِي ورد على لِسَانه عَلَيْهِ السَّلَام.. زِيَارَة الْقُبُور أَو الْمَقَابِر أَو الْقَبْر فَقَط، كَقَوْلِه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها؛ فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة"، وَقَوله: "لعن الله زوارات الْقُبُور"، وَقَوله: " اسْتَأْذَنت رَبِّي فِي زِيَارَة قبر أُمِّي"، وَهَكَذَا ... فالتعبير بزيارة فلَان الْمَيِّت تَعْبِير عَامي غوغائي بدعي لَا يَلِيق بطلبة الْعلم؛ فليتنبه لذَلِك من يحب الِاتِّبَاع وَيكرهُ مَا سواهُ".

المسألة الثالثة

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ حفظه الله ص 577: "الثَّالِثَة: شدّ الرّحال للزيارة فَقَط، وَهَذِه الْحَالة الثَّالِثَة هِيَ مَحل الْبَحْث عِنْدهم ومثار النقاش السَّابِق، قَالَ ابْن حجر فِي فتح الْبَارِي على حَدِيث شدّ الرّحال: قَالَ الْكرْمَانِي: "وَقد وَقع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي عصرنا فِي الْبِلَاد الشامية مناظرات كَثِيرَة وصنفت فِيهَا الْمسَائِل من الطَّرفَيْنِ". قلت: إِن ابْن حجر يُشِير بذلك إِلَى مَا رد بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ وَغَيره على الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية، وَمَا انتصر بِهِ الْحَافِظ شمس الدّين بن عبد الْهَادِي وغبره لِابْنِ تَيْمِية، وَهِي فِي مَشْهُورَة فِي بِلَادنَا، وَهَذَا يُعْطِينَا مدى الْخلاف فِيهَا وتاريخه. وَقد أَشَارَ ابْن حجر إِلَى مُجمل القَوْل فِيهَا بقوله: "إِن الْجُمْهُور أَجَازُوا بِالْإِجْمَاع شدّ الرّحال لزيارة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." إِنَّمَا يقْصد بِهِ خُصُوص الصَّلَاة.. الخ".

مناقشة: ومناقشتنا للشَّيْخ هُنَا حول قَول فضيلته: "وَهَذَا يُعْطِينَا مدى الْخلاف فِيهَا وتاريخه"؛ إِذْ إِن عِبَارَته تِلْكَ تفِيد أَنه يرى أَن مبدأ الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَانَ على يَد ابْن تَيْمِية، وَكَذَلِكَ مَا نَقله عَن ابْن حجر من قَوْله: إِن الْجُمْهُور أَجَازُوا بِالْإِجْمَاع.. الخ. لهَذَا نسْأَل فضيلته فَنَقُول: إِذا كَانَ مبدأ الْخلاف فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على يَد ابْن تَيْمِية وَمن فِي زَمَنه، وَمَعْلُوم أَن ابْن تَيْمِية عَاشَ- رَحمَه الله- بَين الْقرن السَّابِع وَالثَّامِن، فَمَاذَا كَانَ عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأمة الإسلامية قبل وجود ابْن تَيْمِية بِخُصُوص هَذِه الْمَسْأَلَة؟.. هَل كَانُوا مُجْمِعِينَ على مَشْرُوعِيَّة شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف، أَو لزيارة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا هُوَ تَعْبِير فضيلته؟.. وَهل إِجْمَاعهم على أَن هَذَا الْعَمَل وَاجِب أَو على أَنه مُسْتَحبّ أَو على أَنه مُبَاح؟. إِن كَانَ الْأَمر كَذَلِك أَلا يكون ابْن تَيْمِية خَارِجا على إِجْمَاع الْأمة هُوَ وَمن وَافقه؟. أم أَنهم مجمعون على الْمَنْع؛ فَيكون السبكى وَمن وَافقه خَارِجين على الْإِجْمَاع؛ فيستحقون مَا يسْتَحقّهُ من خرق الْإِجْمَاع وَخرج عَلَيْهِ؟.. لَا ندرى أَي ذَلِك يكون الْجَواب عَلَيْهِ بنعم، فَأَي من هَذِه الأسئلة أجَاب عَلَيْهِ فضيلته بنعم؛ فَهِيَ ورطة لَا يَسْتَطِيع التَّخَلُّص مِنْهَا. إِن الْخلاف قَائِم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُنْذُ تكلم فِيهَا، وَإِن الْكَلَام فِيهَا وَالْخلاف حولهَا حَادث بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة من هَذِه الْأمة، أما زمن الْقُرُون الثَّلَاثَة فَلم يُوجد أحد يَقُول بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة قبر من الْقُبُور؛ فضلا عَن الْوُجُوب أَو الِاسْتِحْبَاب. والَّذِي أعتقده أَن فَضِيلَة الشَّيْخ لَا ينْسب وَلَا يرضى أَن ينْسب إِلَى مثل شيخ الْإِسْلَام ابْن تيمبة أَنه يخرج على إِجْمَاع الْأمة وَيضْرب بِهِ عرض الْحَائِط، وَيَأْتِي بِمذهب يُخَالِفهُ. وَأَنا أعجب كثيرا كَيفَ فهم فَضِيلَة الشَّيْخ من عبارَة ابْن حجر وَمَا نَقله ابْن حجر عَن الْكرْمَانِي؛ كَيفَ فهم من ذَلِك أَن مبدأ الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَانَ على يَد ابْن تيميه؟.. أما أَنا فَأَقُول: هَذَا الْفَهم لَا وَجه لَهُ وَلَا مَأْخَذ من كَلَام الرجلَيْن، وَإِنَّمَا ذكرا أمرا وَقع فِي ذَلِك الزَّمَان دون أَن يَقُولَا فِيهِ إِنَّه مبدأ الْخلاف فِي تِلْكَ الْقَضِيَّة، وَكَيف يزعمان مَا فهمه فَضِيلَة الشَّيْخ مَعَ أَن الْخلاف فِيهَا قد نَشأ مُنْذُ وجد من يَقُول بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ، وَمِمَّنْ نُقل عَنهُ هَذَا القَوْل الْغَزالِيّ وَمن لف لفه من المبتدعة، وَمِمَّنْ نُقل عَنْهُم القَوْل بِالْمَنْعِ قبل ابْن تَيْمِية بمئات من السنين القَاضِي عِيَاض، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَإِسْحَاق ابْن إِسْمَاعِيل، وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَغَيرهم كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله، فَهَل خَفِي ذَلِك على الْكرْمَانِي وَابْن حجر؟.. أَنا أَقُول: لَيْسَ فِي كَلَامهمَا مَا يدل على أَن ذَلِك خَفِي عَلَيْهِمَا، وَلكنه خَفِي على فَضِيلَة الشَّيْخ فَليُرَاجع مكتبته من الْآن إِن أحب أَن يقف على الْحَقِيقَة، علما بِأَن الثَّلَاثَة الْمَذْكُورين أَعْلَاهُ كلهم من الْمَالِكِيَّة، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ هُوَ مَذْهَب مَالك نَفسه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.

تمّ قَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ - نقلا عَن ابْن حجر-:" إِن الْجُمْهُور أَجَازُوا بِالْإِجْمَاع شدّ الرّحال.. الخ.." فنسأل فضيلته: هَل هَذَا التَّعْبِير صَحِيح؟ ….هَل هُنَاكَ إِجْمَاع لِلْجُمْهُورِ وَإِجْمَاع للْأمة كلهَا؟.. وَهل الْجُمْهُور عدد مَحْدُود معِين حَتَّى نعلم أَنهم اتَّفقُوا فَنَقُول أجمع الْجُمْهُور؟.. وَهل مَذْهَب الْجُمْهُور يُسمى إِجْمَاعًا؟ أَلَيْسَ إِذا قيل: (يرى الْجُمْهُور) فَمَعْنَى هَذَا أَن هُنَاكَ من يخالفهم مِمَّن يعْتد بِرَأْيهِ ويحسب لمذهبه؟.. وَهل خطأ الأول يسوغ الْخَطَأ للثَّانِي؟.. أَلَيْسَ على كل وَاحِد من الْعلمَاء أَن يحرص على أَن لَا يَقع فِيمَا وَقع فِيهِ غَيره من الأخطاء؟.. الصَّحِيح فِي نَظرنَا أَن هَذَا التَّعْبِير خطأ، وَأَن الْإِجْمَاع مَا اتّفق عَلَيْهِ المجتهدون من عُلَمَاء هَذِه الْأمة قاطبة، فِي عصر من العصور دون أَن يُخَالف وَاحِد مِنْهُم، وَبِدُون ذَلِك لَا ترد كلمة إِجْمَاع، وَإِنَّمَا يُقَال: يرى الْجُمْهُور كَذَا، أَو ذهب الْجُمْهُور إِلَى كَذَا. ثمَّ مَن هَؤُلَاءِ الْمعبر عَنْهُم بالجمهور الَّذين يرَوْنَ جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ هَل هم جُمْهُور الصَّحَابَة، أم جُمْهُور التَّابِعين، أَو تابعيهم، أَو الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَمن فِي عصرهم، أَو جُمْهُور عُلَمَاء الْقرن الثَّالِث؟ لَا نَدْرِي أَي جُمْهُور هَذَا، غير أننا لَا نستبعد أَن يكون المُرَاد هُنَا جُمْهُور الْعَامَّة فِي الْقرن الرَّابِع وَمَا بعده، بِمَا فيهم بعض المبتدعة من الْعلمَاء أَو المنسوبين للْعلم. إِن كَانَ أُولَئِكَ هم الْجُمْهُور المُرَاد فِي هَذَا الْمَوْضُوع فالنقل صَحِيح. أما إِن كَانَ المُرَاد بِهِ جُمْهُور الْعلمَاء من أهل الْقرن الأول أَو الثَّانِي أَو الثَّالِث، أَو الملتزمين بِالسنةِ من الْعلمَاء إِلَى يَوْمنَا هَذَا فالنقل غلط وَالدَّعْوَى مَرْدُودَة، بل الصَّحِيح الْعَكْس على طول الْخط؛ فَفِي الْقُرُون الثَّلَاثَة لم يُوجد من يَقُول بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور من الْعلمَاء المعتبرين، وَبعد الثَّلَاثَة وجد من يرى ذَلِك، وَلَكِن مِمَّن شاركوا فِي الابتداع فِي الدّين وَمن لَا يتقيدون بالنصوص الشَّرْعِيَّة، وَلَا يميزون بَين الحَدِيث الصَّحِيح من غَيره، أَمْثَال أبي حَامِد الْغَزالِيّ، وَمَعَ الْأَيَّام اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْبِدْعَة - بل الْمعْصِيَة - حَتَّى صَارَت عِنْد كثير من المنتسبين للْعلم أمرا وَاقعا لَا يجوز الْجِدَال فِيهِ، بل يساء الظَّن بِمن يُنكره أَو يتَرَدَّد فِي الْجَزْم بمشروعيته؛ فأولوا الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي مِنْهُ وَمَا أثر عَن الْأَئِمَّة من إِنْكَاره كلما احْتج عَلَيْهِم المتمسكون بِالسنةِ بِحَدِيث أَو قَول إِمَام، كَقَوْلِهِم: إِن مَالِكًا كره اللَّفْظ فَقَط، وَإِلَّا فزيارة قبر النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أفضل الْأَعْمَال وَأجل القربات الموصلة إِلَى ذِي الْجلَال، دون أَن يقدموا أدنى دَلِيل من السّنة على صِحَة مَا زَعَمُوا. ثمَّ نوجه هَذَا السُّؤَال إِلَى فَضِيلَة الشَّيْخ فَنَقُول: حسب علمنَا لَا يجوز أَن يعْتَبر الْجُمْهُور بِكَثْرَة الْعدَد فِي الشؤون العلمية والمذاهب الْفِقْهِيَّة والعقيدة الإبراهيمية المحمدية، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن ينظر إِلَى الكيف أَولا، وَبعد أَن نميز الْعلمَاء على الْحَقِيقَة لَا على الإدعاء والألقاب نَنْظُر بعد ذَلِك إِلَى مذاهبهم فِي مَسْأَلَة مَا، فَإِذا

وجدنَا كثرتهم ذَهَبُوا مذهبا، وقليلاً مِنْهُم ذهب مذهبا آخر قُلْنَا عَن مَذْهَب الْكَثْرَة: إِنَّه مَذْهَب الْجُمْهُور، أَي جُمْهُور الْعلمَاء الَّذين يسْتَحقُّونَ أَن يوصفوا بِالْعلمِ، أما مُجَرّد الْكَثْرَة فتسميتهم بالجمهور فِيهِ شئ من المغالطة والتغرير بِالنَّاسِ، أَرَأَيْت فِي زمن الإِمَام أَحْمد لما تبنى الْمَأْمُون فكرة القَوْل بِخلق الْقُرْآن وَسقط فِي تِلْكَ الْفِتْنَة آلَاف الْعلمَاء بَين مقتنع ومداهن، ووقف بالمقابل عدد قَلِيل من الْعلمَاء قد لَا يبلغ عَددهمْ أَصَابِع الْيَد على رَأْسهمْ إِمَام أهل السّنة أَحْمد بن حَنْبَل، أَيجوزُ أَن يُقَال عَن مَذْهَب الْمَأْمُون وشلته مَذْهَب الْجُمْهُور، وَمذهب هَؤُلَاءِ الْقلَّة مَذْهَب شَاذ يُخَالف لجمهور الْمُسلمين؟.. وواقع الْأَمر فِي مَسْأَلَتنَا هَذِه هُوَ أَنه عبر بِكَلِمَة (الْجُمْهُور) عَمَّن هبّ ودب من عَالم مُبْتَدع وجاهل متعلم، وَصَارَ مَذْهَب فطاحل الْعلمَاء وأئمة الْهدى - أَمْثَال شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية - مذهبا شاذا مُخَالفا لِلْجُمْهُورِ. وَصدق من قَالَ: "لَا تفتر بِالْبَاطِلِ لِكَثْرَة الهالكين وَلَا تزهد بِالْحَقِّ لقلَّة السالكين". (ابْن تَيْمِية فِي زَمَنه هُوَ الْجُمْهُور حَتَّى وَلَو كَانَ وَحده خَاصَّة فِي مَوْضُوعَات العقيدة) .. ونقول لفضيلة الشَّيْخ: نَحن نعتقد أَن ابْن تَيْمِية وَمن وَافقه فِي زَمَنه هُوَ الْجُمْهُور، خُصُوصا فِي أُمُور العقيدة؛ لالتزامهم بِالسنةِ الصَّحِيحَة مهما كلفهم الْأَمر، وَمن خَالفه فَهُوَ صَاحب الْمَذْهَب الشاذ وَحَتَّى وَلَو وَافقه أَكثر النَّاس؛ لِأَن الْحق بالبرهان وَالدَّلِيل لَا بكرَة الآخذين بِهِ وَقلة المتنكرين لَهُ. وبرهانا على مَا قُلْنَا بِالنِّسْبَةِ لِابْنِ تيميه أَن من قَرَأَ كتبه وتتبع فَتَاوَاهُ وبحوثه ورسائله - وَهُوَ من أهل البصيرة فِي الدّين - يجد أَنه على مَذْهَب السّلف الصَّالح والرعيل الأول من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَمن على شاكلتهم من معاصريهم، فَهُوَ دَائِما يَدْعُو مخالفيه إِلَى الْكتاب وَالسّنة؛ فَيَقُول لَهُم: بيني وَبَيْنكُم كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَا أثبتا فَهُوَ الثَّابِت وَمَا بطلا فَهُوَ الْبَاطِل، وَيَقُول لَهُم: إِذا اخْتَلَفْنَا فِي فهم آيَة أَو حَدِيث رَجعْنَا إِلَى فهوم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة المهديين من بعدهمْ؛ فَنَنْظُر بِمَاذَا فسروا تِلْكَ الْآيَة أَو ذَلِك الحَدِيث؛ فهم أعلم منا وأفْقَهُ للغة وَالشَّرْع. فَمن كَانَ هَذَا مذْهبه وَهَذِه طَرِيقَته فَهُوَ وَمن وَافقه هم الْجُمْهُور مهما قلوا وَكثر مخالفوهم؛ لِأَن من تبع جُمْهُور السّلف من الْخلف فمذهبه مَذْهَب الْجُمْهُور، وَمن خَالف جُمْهُور السّلف من الْخلف فمذهبه خلاف مَذْهَب الْجُمْهُور، بل مَذْهَب شَاذ لَيْسَ حرياً بِالصَّوَابِ. وَالْخُلَاصَة: أَن من كَانَ مَعَ الدَّلِيل فَهُوَ على الصَّوَاب وَلَو كَانَ وَاحِدًا بَين جَمِيع أهل الأَرْض، وَمن قَالَ أَو عمل بِغَيْر دَلِيل فَهُوَ بعيد عَن الصَّوَاب وَلَو أَنهم أهل الأَرْض جَمِيعًا،

وبصرف النّظر عَن كل مَا تقدم وَعَن كل من تقدم قبل زمن ابْن تَيْمِية، وَعَن كل مَا هُوَ الْوَاقِع عِنْد التَّحْقِيق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، بل يَصح مَا قيل من أَن مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف - وأعني بذلك زمن ابْن تَيْمِية دون غَيره من الْأَزْمِنَة - الصَّحِيح أَن الْوَاقِع بِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَن مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء فِي ذَلِك الزَّمَان هُوَ مَا ذهب إِلَيْهِ شيخ الْإِسْلَام، وَهُوَ طَاعَة الله وَرَسُول بِالْتِزَام مُقْتَضى حَدِيث "لَا تشد الرّحال ... " الخ. وَقد ذكرنَا فِيمَا سبق أَن مَسْأَلَة شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر سَوَاء قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو غَيره لم يتَكَلَّم فِيهَا أحد من أهل الْعلم، وَلم تخطر على بَال أحد مِنْهُم فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة الأولى من تَارِيخ الْإِسْلَام؛ عملا مِنْهُم بِحَدِيث "لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد"؛ وَلذَلِك لما سُئِلَ الإِمَام مَالك عَمَّن نذر السّفر لزيارة الْقَبْر الشريف، نهى عَن الْوَفَاء بِهَذَا النّذر قَائِلا: إِن كَانَ مُرَاده الْمَسْجِد فليأت الْمَسْجِد وَليصل فِيهِ، وَإِن كَانَ مُرَاده الْقَبْر فَلَا يَأْته؛ لحَدِيث "لَا تعْمل الْمطِي ... ". انْظُر: الرَّد على الأخنائي ص35 قَالَ شيخ الْإِسْلَام - يَعْنِي الإِمَام مَالك-: ومذهبه الْمَعْرُوف فِي جَمِيع كتب أَصْحَابه الْكِبَار وَالصغَار الْمُدَوَّنَة لِابْنِ قَاسم، والتفريع لِابْنِ الْجلاب أَنه من نذر إتْيَان الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة إِن كَانَ أَرَادَ الصَّلَاة فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفَّى بنذره، وَإِن كَانَ أَرَادَ غير ذَلِك لم يوفّ بنذره. قلت: وَمَعْلُوم أَن النّذر إِذا كَانَ فِيهِ طَاعَة الله وَجب الْوَفَاء بِهِ، وَإِذا كَانَ فِيهِ مَعْصِيّة حرم الْوَفَاء بِهِ، وَإِذا كَانَ فِي أَمر مُبَاح فَلَا يلْزم الْوَفَاء بِهِ، وَإِذا وفى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَفِيد شَيْئا عِنْد الله؛ وَلِهَذَا لما كَانَ مَالك - رَحمَه الله -يرى أَن شدّ الرّحال لزيارة قبر الني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَاخل فِي النَّهْي الَّذِي تضمنه حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." نهى عَن الْوَفَاء بِنذر من نذر السّفر لهَذِهِ الزِّيَارَة، وَاسْتدلَّ لذَلِك بِالْحَدِيثِ نَفسه. أما الَّذِي حصل فِيهِ الْخلاف بَين أَئِمَّة السّلف حول مَوْضُوع الزِّيَارَة فَهُوَ مَسْأَلَة الْفرق بَين الْقَرِيب والبعيد بِالنِّسْبَةِ للسلام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ إِذْ قد رأى بَعضهم أَن السَّلَام من قريب يحصل بِهِ الرَّد مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام دون السَّلَام عَلَيْهِ من بعيد؛ لِأَن هَذَا الْبَعْض أوّل حَدِيث "مَا من أحد يسلم عَليّ.." الخ. على أَنه خَاص بِمن سلم من قريب، وَكَذَلِكَ استأنسوا بِفعل عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا؛ نُقل ذَلِك عَن الإِمَام أَحْمد وَابْن حبيب. كَمَا ذهب الْبَعْض الآخر إِلَى عدم الْفرق بَين الْقَرِيب والبعيد كَمَا تقدم، وَمَعْلُوم أَن هَذَا لَا يدْخل فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال. وَتقدم أَن ذكرنَا عددا من عُلَمَاء الْأمة الإسلامية قبل زمن ابْن تَيْمِية يحرمُونَ شدّ الرّحال لزيارة أَي قبر من الْقُبُور، ويستدلون بِحَدِيث " لَا تشد الرّحال.." مِنْهُم القَاضِي عِيَاض وَالْقَاضِي حُسَيْن وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَإِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، وَهُوَ مَذْهَب الإِمَام مَالك - رَحمَه الله- كَمَا تقدم، بل ورد عَنهُ قَوْله

لما سُئِلَ عَن نذر السّفر الزِّيَارَة الْقَبْر الشريف: لَا وَفَاء لنذر الْمعْصِيَة وَهَذَا مَعْصِيّة؛ لِأَن الحَدِيث يَقُول…وَذكره. ونعود الْآن إِلَى الْمَوْضُوع الَّذِي بدأنا الْكَلَام فِيهِ، وَهُوَ إِثْبَات كَون مَذْهَب ابْن تَيْمِية فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هُوَ مَذْهَب جُمْهُور عُلَمَاء زَمَانه فَنَقُول: إِنَّه لما حصلت المناظرة بَين ابْن تَيْمِية وَبَعض الْقُضَاة الرسميين فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال، وَاخْتِلَاف بَعضهم مَعَه فِيهَا أثاروا الْحُكُومَة ضِدّه، وأغروها بِهِ فسجن ظلما بسببهم، - ودائماً الْعَاجِز عَن إِقَامَة الْحجَّة يلجأ إِلَى قُوَّة الْحَاكِم؛ فيوهمه أَن خَصمه مجرم يَنْبَغِي التنكيل بِهِ وإهانته وإرغامه على الرُّجُوع عَن رَأْيه بِالْقُوَّةِ - فَلَمَّا سجن هبَّ الْعلمَاء من أقطار الْعَالم الإسلامية يطالبون الْحُكُومَة بالإفراج عَنهُ معلنين أمامها أَن مَا ذهب إِلَيْهِ هَذَا الرجل هُوَ وَالْحق وَالصَّوَاب، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْإِسْلَام قَدِيما وحديثاً. انْظُر لذَلِك مَا دونه الإِمَام الْحَافِظ ابْن عبد الْهَادِي فِي كِتَابه الْعُقُود الدرية فِي مَنَاقِب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية، وَانْظُر هُنَاكَ كم كتابا نَقله عَن عُلَمَاء بَغْدَاد وَحدهَا لتعرف صِحَة مَا قَررنَا. ملخصات لبَعض خطاباتهم: وَأَنا أورد هُنَا مقتطفات مِمَّا تضمنته خطاباتهم: قَالَ ابْن عبد الْهَادِي ص342 من الْكتاب الْمشَار إِلَيْهِ - العنوان (انتصار عُلَمَاء بَغْدَاد للشَّيْخ فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال للقبور) - ثمَّ قَالَ: "وَقد وصل مَا أجَاب بِهِ الشَّيْخ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى عُلَمَاء بَغْدَاد؛ فَقَامُوا فِي الِانْتِصَار لَهُ وَكَتَبُوا بموافقته، وَرَأَيْت خطوطهم بذلك وَهَذِه صُورَة لما كتبُوا: ملخص الْخطاب الأول: ولَا ريب أَن الْمَمْلُوك وقف على مَا سُئِلَ عَنهُ الإِمَام الْعَلامَة وحيد دهره وفريد عصره تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية، وَمَا أجَاب بِهِ فَوَجَدته خُلَاصَة مَا قَالَه الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب حسب مَا اقْتَضَاهُ الْحَال من نَقله الصَّحِيح، وَمَا أدّى إِلَيْهِ الْبَحْث من الْإِلْزَام والالتزام لَا يداخله تحامل وَلَا يَعْتَرِيه تجاهل، وَلَيْسَ فِيهِ - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - مَا يَقْتَضِي الإزراء والتنقيص بِمَنْزِلَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهل يجوز أَن يتَصَوَّر مُتَصَوّر أَن زِيَارَة قَبره تزيد فِي قدره؟.. وَهل تَركهَا مِمَّا ينقص من تَعْظِيمه؟ حاشا للرسول من ذَلِك.. إِلَى أَن قَالَ: مَعَ أَن الْمَفْهُوم من كَلَام الْعلمَاء وأنظار الْعُقَلَاء أَن الزِّيَارَة لَيست عبَادَة وَطَاعَة لمجردها، حَتَّى لَو حلف أَنه يَأْتِي بِعبَادة أَو طَاعَة لم يبر بهَا - يَعْنِي الْقيام بزيارة الْقَبْر الشريف - مَا اعْتبر بارا بِيَمِينِهِ.

لَكِن القَاضِي ابْن كج - من متأخري أَصْحَابنَا - ذكر أَن نذر هَذِه الزِّيَارَة عِنْده قربَة تلتزم ناذرها. وَهُوَ مُنْفَرد بِهِ لَا يساعده فِي ذَلِك نقل صَرِيح وَلَا قِيَاس صَحِيح، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مُطلق الْخَبَر النَّبَوِيّ فِي قَوْله - عَلَيْهِ السَّلَام -: "لَا تشد الرّحال" إِلَى آخِره.. أَنه لَا يجوز شدّ الرّحال إِلَى غير مَا ذكر؛ فَإِن فعله كَانَ مُخَالفا لصريح النَّهْي، وَمُخَالفَة النَّهْي إِمَّا كفر أَو غَيره على قدر الْمنْهِي عَنهُ ووجوبه وتحريمه وَصفَة النَّهْي، والزيارة أخص من وَجه؛ فالزيارة بِغَيْر شدّ الرّحال غير مَنْهِيّ عَنْهَا وَمَعَ الشد مَنْهِيّ عَنْهَا. حَرَّره ابْن الكتبي الشَّافِعِي.. ملخص كتاب آخر: مَا أجَاب بِهِ الشَّيْخ الْأَجَل الأوحد، بَقِيَّة السّلف وقدوة الْخلف رَئِيس الْمُحَقِّقين وخلاصة المدققين تَقِيّ الْملَّة وَالْحق وَالدّين من الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة صَحِيح مَنْقُول فِي غير مَا كتاب أهل الْعلم لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي ذَلِك؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ ثلب للرسول - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا غض من قدره عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد نَص الشَّيْخ أَبُو نَاصِر الْجُوَيْنِيّ فِي كتبه على تَحْرِيم السّفر لزيارة الْقُبُور، وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي الإِمَام بن مُوسَى فِي إكماله، وَهُوَ من أفضل الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَابنَا. تمّ قَالَ: وَمن الْمُدَوَّنَة: "وَمن قَالَ عَليّ الْمَشْي إِلَى الْمَدِينَة أَو بَيت الْمُقَدّس؛ فَلَا يَأْتِيهَا أصلا إِلَّا أَن يُرِيد الصَّلَاة فِي مسجديهما فليأتهما، فَلم يَجْعَل نذر زِيَارَة قَبره - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - طَاعَة يجب الْوَفَاء بهَا؛ إِذْ من أصلنَا أَن من نذر طَاعَة لزمَه الْوَفَاء بهَا، وَكَانَ من جِنْسهَا مَا هُوَ وَاجِب بِالشَّرْعِ، كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، أَو لم يكن قَالَ القَاضِي أَبُو إِسْحَاق عقيب هَذِه الْمَسْأَلَة: لَوْلَا الصَّلَاة فيهمَا لما لزمَه إتيانهما"، ثمَّ ذكر أَن ذَلِك فِي كتب الْمَالِكِيَّة كالتقريب للقيرواني، والتنبيه لِابْنِ سِيرِين. كتبه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْبَغْدَادِيّ، الْخَادِم للطائفة الْمَالِكِيَّة بِالْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفَة المستنصرية. ملخص كتاب ثَالِث: بعد الْبَسْمَلَة وَالْحَمْد لَهُ وَالصَّلَاة وَالتَّسْلِيم على خير الْبَريَّة وَآله وصحابته قَالَ: مَا ذكره مَوْلَانَا الإِمَام الْعَالم الْعَامِل جَامع الْفَضَائِل بَحر الْعُلُوم، ومنشأ الْفضل جمال الدّين - جمل الله بِهِ الْإِسْلَام وأسبغ عَلَيْهِ سوابغ الْأَنْعَام - أُتِي فِيهِ بِالْحَقِّ الْجَلِيّ الْوَاضِح، وَعرض فِيهِ عَن أَعْضَاء الْمَشَايِخ؛ إِذْ السُّؤَال وَالْجَوَاب اللَّذَان تقدماه لَا يخفى على ذِي فطنة وعقل أَنه أُتِي فِي ذَا الْجَواب المطابق للسؤال بحكاية أَقْوَال الْعلمَاء الَّذين تقدموه، وَلم يبْق عَلَيْهِ فِي ذَلِك إِلَّا أَن يَعْتَرِضهُ معترض فِي نَقله فيبرزه لَهُ من كتب الْعلمَاء الَّذين حكى أَقْوَالهم، والمعترض لَهُ بالتشنيع إِمَّا جَاهِل لَا يعلم مَا يَقُول، أَو متجاهل ليحمله حقده وحمية الْجَاهِلِيَّة على رد مَا هُوَ عِنْد الْعلمَاء مَقْبُول، أعاذنا الله من غوائل الْحَسَد، وعصمنا من مخائل النكد. كتبه الْفَقِير إِلَى رضوَان ربه: عبد الْمُؤمن ابْن عبد الْحق الْخَطِيب.

هَذِه ثَلَاثَة خطابات من مَجْمُوع عدد كَبِير من الخطابات الموجهة من عُلَمَاء بَغْدَاد إِلَى حُكُومَة الشَّام؛ للدفاع عَن ابْن تَيْمِية ومذهبه فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال، وَالشَّهَادَة مِنْهُم بِأَن مذْهبه فِيهَا هُوَ الْحق المتمشي مَعَ الحَدِيث الصَّحِيح، وَأَنه مَذْهَب جَمَاهِير عُلَمَاء الْأمة وَأَن من خَالفه فَلَا حجَّة مَعَه وَلَا بَيِّنَة لدعواه. وَأَنا أُحِيل على كتاب (الْعُقُود الدرية فِي مَنَاقِب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية) لِابْنِ عبد الْهَادِي؛ من أَرَادَ مزيداً من الإطلاع والتأكد بِالنِّسْبَةِ لما لخصت من خطابات هَؤُلَاءِ الْعلمَاء، وبالنسبة لما تركت تجنباَ للإطالة؛ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ معي إِن الْجُمْهُور المزعوم - يَا فَضِيلَة الشَّيْخ - إِنَّمَا يُوجد فِي الخيال فَقَط، أما فِي عَالم الْحَقِيقَة فَلم يُوقف لَهُ على أثر وَلم يعثر لَهُ على خبر، هَذَا الْجُمْهُور الَّذِي يضْرب بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عرض الْحَائِط أَو يؤوله حسب مزاجه وعاطفته؛ ليشرع للنَّاس مَا لم يَأْذَن بِهِ الله وَلم يكن من هدى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم!. الْعَلامَة السهواني وَالشَّيْخ دحلان: وَإِلَى فَضِيلَة الشَّيْخ خَاصَّة وطلبة الْعلم عَامَّة أنقل مَا سطره الْعَلامَة مُحَمَّد بشير السهواني الْهِنْدِيّ فِي كِتَابه (صِيَانة الْإِنْسَان عَن وَسْوَسَة الشَّيْخ دحلان) ، قَالَ رَحمَه الله - وَهُوَ يُنكر أَن يكون ثَبت عَن أحد من السّلف عمل الزِّيَارَة مُطلق حَتَّى وَلَو بِدُونِ شدّ رحال - قَالَ: وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ إِجْمَاع السّلف وَالْخلف على قَوْله - يَعْنِي قَول دحلان - فَإِن أَرَادَ بالسلف الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين تبعوهم بِإِحْسَان فَلَا يخفى أَن دَعْوَى إِجْمَاعهم مجاهرة بِالْكَذِبِ، وَقد ذكرنَا غير مرّة فِيمَا تقدم أَنه لم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة شَيْء فِي هَذَا، إِلَّا عَن عبد الله بن عمر وَحده؛ فَإِنَّهُ ثَبت عَنهُ إتْيَان الْقَبْر للسلام عِنْد الْقدوم من سَفَره، وَلم يَصح هَذَا عَن أحد غَيره وَلم يُوَافقهُ أحد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ لَا من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَلَا من غَيرهم، وَقد ذكر عبد الرازق فِي مُصَنفه عَن معمر عَن عبيد الله بن عمر أَنه قَالَ: مَا نعلم أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك إِلَّا عبد الله، ثمَّ قَالَ رَحمَه الله: وَكَيف ينْسب مَالك إِلَى مُخَالفَة إِجْمَاع السّلف وَالْخلف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَهُوَ أعلم أهل زَمَانه بِعَمَل أهل الْمَدِينَة قَدِيما وحديثاً، وَهُوَ يُشَاهد التَّابِعين الَّذين شاهدوا الصَّحَابَة وهم جيرة الْمَسْجِد وأتبع النَّاس للصحابة، ثمَّ يمْنَع النَّاذِر من إتْيَان الْقَبْر، وَيُخَالف إِجْمَاع الْأمة؟ هَذَا لَا يَظُنّهُ إِلَّا جَاهِل كَاذِب على الصَّحَابَة وَأهل الْإِجْمَاع. ثمَّ قَالَ: وَقد نهى عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين - الَّذِي هُوَ أفضل أهل بَيته وأعلهم فِي وقته - ذَلِك الرجل الَّذِي كَانَ يَجِيء إِلَى فُرْجَة كَانَت عِنْد الْقَبْر فَيدْخل فِيهَا فيدعو، وَاحْتج عَلَيْهِ بِمَا سَمعه من أَبِيه عَن جده عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنْهُم- عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيداً، وَلَا بُيُوتكُمْ قبورا؛ فَإِن تسليمكم يبلغنِي أَيْنَمَا كُنْتُم"، وَكَذَلِكَ ابْن عَمه الْحسن بن الْحسن بن عَليّ شيخ أهل بَيته كره أَن يقْصد الرجل الْقَبْر للسلام عَلَيْهِ وَنَحْوه عِنْد غير دُخُول الْمَسْجِد، وَرَأى أَن ذَلِك من اتِّخَاذه عيداً، وَقَالَ للرجل الَّذِي رَآهُ عِنْد الْقَبْر: مَالِي رَأَيْتُك عِنْد الْقَبْر؟.. فَقَالَ: سلمت على النَّبِي

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِذا دخلت الْمَسْجِد فَسلم، ثمَّ قَالَ: إِن رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيداً وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر، لعن الله الْيَهُود اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وصلوا عَليّ؛ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُمَا كُنْتُم"، ثمَّ قَالَ: مَا أَنْتُم وَمن بالأندلس إِلَّا سَوَاء. تمّ قَالَ: الْعَلامَة السهسواني - رَحمَه الله -: "كَذَلِك سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وقاضي الْمَدِينَة فِي عصر التَّابِعين ذكر عَنهُ ابْنه إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ لَا يَأْتِي الْقَبْر قطّ، وَكَانَ يكره إِتْيَانه". ثمَّ قَالَ - رَحمَه الله-: "أفيظن بهؤلاء السَّادة الْأَعْلَام أَنهم خالفوا الْإِجْمَاع، وَتركُوا تَعْظِيم رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وتنقصوه؛ لما لم يرَوا مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة قَبره، عاملين بِالْحَدِيثِ الثَّابِت عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام؟ " ثمَّ قَالَ: "فَهَذَا لعمر الله هُوَ الْكَلَام الَّذِي تقشعر مِنْهُ الْجُلُود". تمّ قَالَ: "وَلَيْسَ مَعَ عباد الْقُبُور من الْإِجْمَاع إِلَى مَا رَأَوْا عَلَيْهِ الْعَوام والطغاة فِي الْأَعْصَار الَّتِي قل بهَا الْعلم وَالدّين، وضعفت فِيهَا السّنَن ... الخ مَا كتبه - رَحمَه الله- من كَلَام صَحِيح وَتَحْقِيق يعجز عَن نقضه من ادّعى سواهُ". قلت: إِن هَؤُلَاءِ الْعَوام والطغاة فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة - كَمَا أَشَارَ الْعَلامَة مُحَمَّد بشير السهسواني رَحمَه الله - هم الجذور الَّذِي يعنيه من زعم أَن جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور، وَالَّذِي نَقله فَضِيلَة الشَّيْخ عَطِيَّة مُوَافقا عَلَيْهِ أَو مستدلا بِهِ1. وَأَقُول مرّة أُخْرَى: أَلَيْسَ مَذْهَب ابْن تَيْمِية أقرب إِلَى مَذْهَب خصومه مِمَّا نقل عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة من التَّابِعين وتابعيهم؟.. الْجَواب بِلَا؛ ذَلِك لِأَن ابْن تَيْمِية لَا يمْنَع زِيَارَة الْقَبْر الشريف مُطلقًا، بل يُصَرح بِأَن زيارته بِدُونِ شدّ رَحل عمل صَالح إِذا لم يصل الْأَمر إِلَى الْمُبَالغَة والغلو، كالإكثار من التَّرَدُّد عَلَيْهِ بِحَيْثُ يصل ذَلِك بالإنسان إِلَى اتِّخَاذه عيداً، أَو يتَجَاوَز ذَلِك إِلَى دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام والإستغاثة بِهِ، وَنَحْو ذَلِك من أُمُور الْعِبَادَة الَّتِي صرفهَا لغير الله كفر وشرك. أما هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فَكَمَا ترى النَّقْل عَنْهُم يرَوْنَ عدم مَشْرُوعِيَّة هَذِه الزِّيَارَة ونمها لَيست عملا صَالحا

_ 1 يفهم من كَلَام الْكَاتِب وَمن كَلَام السهسواني الَّذِي نقل عَنهُ أَن زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير مَشْرُوعَة، وَلم تثبت عَن أحد من السّلف مُطلقًا، وَأَن مُجَرّد إِتْيَانه يعْتَبر اتِّخَاذه عيدا. وَهَذَا خلاف مَا يدل عَلَيْهِ عُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، أَلا فزروها فَإِنَّهَا تذكر الْآخِرَة"، وَقد خلط الْكَاتِب - عَفا الله عَنهُ - بَين حكم شدّ الرّحال وَبَين حكم زِيَارَة الْقَبْر نَفسه، وَالْفرق وَاضح بَين الْحكمَيْنِ لمن تَأمل؛ لِأَن شدّ الرّحال غير جَائِز لقصد الْقَبْر عِنْد التَّحْقِيق، أما زِيَارَة الْقَبْر بِدُونِ شدّ الرّحال فمشروعة، وَالله أعلم.. "الْمجلة".

وَينْهَوْنَ عَنْهَا، ويستدلون على ذَلِك بالأحاديث1. فَلْينْظر الْمنصف، ولتأمل طَالب الْحق، وليتراجع المندفع على غير هدى، وليعلم أَن الدّين لَيْسَ بالعواطف وَلَيْسَ بالتقليد الْأَعْمَى، وَأَن أَي عَالم مهما ارْتَفَعت دَرَجَته وعلت مَنْزِلَته لَا يَنْبَغِي أَن يعْتَبر قَوْله ومذهبه واختياره أموراً مسلمة غير قَابِلَة للمناقشة والتمحيص. سُؤال موجه يُرْجَى الْجَواب عَلَيْهِ: وَهَذَا سُؤال نوجهه إِلَى فَضِيلَة الشَّيْخ نرجوه الْجَواب عَلَيْهِ وَهُوَ: إِذا كَانَ ابْن حجر قَالَ: يرى الْجُمْهُور بِالْإِجْمَاع جَوَاز شدّ الرّحال ... الخ، فبصرف النّظر عَمَّا تقدم من مناقشتنا لهَذِهِ الدَّعْوَى أصلا وفروعاً أَقُول الْآتِي: مادام أَن الْقَضِيَّة قَضِيَّة جَوَاز - أَعنِي إِبَاحَة فَقَط - فَمَا فَائِدَة هَذِه الزِّيَارَة؟.. أتريدون من الْإِنْسَان أَن يُسَافر من أقْصَى الأَرْض إِلَى أدناها يجوب المسافات الشاسعة والفيافي الْبَعِيدَة والقفار الموحشة، وَينْفق الْأَمْوَال ويعرض نَفسه للمخاطر؛ ليتوصل إِلَى أَمر مُبَاح غَايَة مَا فِيهِ أَنه غير محرم وَلَا مَكْرُوه؟.. يَا للعجب العجاب - يَعْنِي مُجَرّد سياحة لَا أقل وَلَا أَكثر -، هَذَا إِذا ثَبت أَن الصَّحِيح هُوَ هَذَا الْمَذْهَب الْمَنْسُوب لِلْجُمْهُورِ _ كَمَا زَعَمُوا - فَمَعْنَى هَذَا أَن هُنَاكَ مذهبا آخر لغير الْجُمْهُور يرى عدم الْإِبَاحَة، وَهَذَا الْمَذْهَب الآخر قد يكون هُوَ الصَّوَاب2؛ إِذْ إِنَّه لَا يلْزم أَن يكون الْحق دَائِما مَعَ الْجُمْهُور.

_ 1 بل الحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ " كنت نَهَيْتُكُمْ.. الخ"، يدل على عكس مَا يرَاهُ الْكَاتِب، وَمَا نقل عَنْهُم وَسَمَّاهُمْ أَئِمَّة، وَقد أثبت شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية الْحق الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث الْمَذْكُور، والعجيب من الْأَمر أَن الْكَاتِب نقل كَلَام شيخ الْإِسْلَام فِي هَذَا الْمَعْنى فِي نفس هَذِه الصفحة، ثمَّ تَركه دون تَعْلِيق، وَنقل كَلَام من تبنى فكرتهم من عدم مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة الْقُبُور مُطلقًا، وَأَنه عمل غير صَالح وحبذه، ودعا إِلَيْهِ كَمَا ترى 00"الْمجلة". 2 بل الصَّوَاب هُوَ مَا ذكر فِي التَّعْلِيق رقم (1) .. "الْمجلة".

المسألة الرابعة

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة: وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ صَحَّ578 نقلا عَن ابْن حجر: وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على عدم شدّ الرّحال لمُجَرّد الزِّيَارَة، وَمَا روى عَن مَالك من كَرَاهِيَة أَن يُقَال: "زرت قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم"، وَأجِيب على ذَلِك بِأَن كَرَاهِيَة مَالك للفظ فَقَط تأدبا، لَا أقل وَلَا أَكثر، لَا أَنه كره الزِّيَارَة؛ فَإِنَّهَا من أفضل الْأَعْمَال وَأجل القربات الموصلة إِلَى ذِي الْجلَال، وان مشروعيتها مَحل إِجْمَاع. سطر الشَّيْخ هَذَا الْكَلَام وَلم يتعقبه بِحرف وَاحِد، بل إِن صَنِيعه فِيمَا كتبه بعد ذَلِك يدل على تَنْبِيه لهَذَا الْكَلَام وَرضَاهُ؛ فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم!!.

فتعال معي أَيهَا الْأَخ الْمُحب للسّنة وَالتَّحْقِيق، والكاره للبدعة والتلفيق.. تعال لترى الْعَجَائِب: أَولا: الْمَنْقُول عَن مَالك هُوَ كَرَاهِيَة الزِّيَارَة بِدُونِ شدّ رحال، بَيْنَمَا الْكَلَام هُنَا عَن مَسْأَلَة شدّ الرّحال؛ فبماذا نفسر صَنِيع الْحَافِظ ابْن حجر هَذَا؟.. إِن ابْن حجر كَغَيْرِهِ من النَّاس يُخطئ ويصيب. ثَانِيًا: من الَّذِي أخبر ابْن حجر أَن كَرَاهِيَة مَالك للفظ فَقَط؟.. وَإِذا كَانَت الزِّيَارَة مَشْرُوعَة ومجمعا على مشروعيتها كَمَا زَعَمُوا كَيفَ يكره الإِمَام مَالك التَّلَفُّظ بذكرها؟ ... 1 هَل يكره مَالك للرجل أَن يَقُول: صليت أَو صمت أَو تَصَدَّقت أَو حججْت؟ ... وَقَوله: كره مَالك اللَّفْظ تأدبا، نقُول: يَا للعجب العجاب.. تأدب مَعَ من؟.. وَعَن مَاذَا؟.. أتأدبا مَعَ الشَّرْع بِأَن لَا يذكر مَا شَرعه؟.. أم تأدبا عَن ذكر الْمَشْرُوع فَلَا يتَلَفَّظ بِهِ اللِّسَان؟ ... وَهل هَذِه الْقَاعِدَة تسري على جَمِيع الْعِبَادَات؛ فيتأدب الْمُسلم عَن ذكرهَا؟.. أم هِيَ خَاصَّة بِهَذِهِ الْعِبَادَة الْمجمع عَلَيْهَا؟ 2. ثمَّ مَا الَّذِي سوغ هَذَا الِانْتِقَال المفاجئ؟.. الحَدِيث عَن شدّ الرّحال.. وَذكر أَدِلَّة الْمُخَالف تعلق بِمُطلق الزِّيَارَة؟.. يَا لِلْإِسْلَامِ من أَهله. ثمَّ هَذَا الْإِجْمَاع المزعوم هَل انْعَقَد على أساس دَلِيل من الْوَحْي؟.. أم بِدُونِ ذَلِك؟.. إِن كَانَ على أساس دَلِيل فَأَيْنَ ذهب ذَلِك الدَّلِيل؟.. ابْن حجر مُحدث كَبِير وإحاطته بالأحاديث لَا تكَاد تُوجد عِنْد غَيره بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة - هَذَا مبلغ علمي وَقد أكون على خطأ- فلِمَ لم يطلع على الدَّلِيل الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ هَذَا الْإِجْمَاع؟.. وَإِن كَانَ قد اطلع فلِمَ لم يذكرهُ.؟ أم أَنه انْعَقَد على غير أساس من الْوَحْي؟.. إِن كَانَ كَذَلِك فلدينا أسئلة كَثِيرَة مِنْهَا: أَولا: هَل يُوجد إِجْمَاع بِدُونِ مُسْتَند شَرْعِي؟.. ثَانِيًا: قدمنَا من القَوْل مَا يثبت أَن من أَئِمَّة الْإِسْلَام من ينْهَى عَن زِيَارَة الْقَبْر الشريف، فَأَيْنَ هم من الْإِجْمَاع وَأَيْنَ الْإِجْمَاع مِنْهُم؟ ثَالِثا: على مدعي الْإِجْمَاع أَن يُثبتهُ، وَإِلَّا فَهِيَ دَعْوَى بِلَا بَيِّنَة.. رَابِعا: إِذا كَانَت هَذِه الْمَسْأَلَة - ونعنى الزِّيَارَة فَقَط- مَحل إِجْمَاع، أَي مَشْرُوعِيَّة الزِّيَارَة؛ فَأَيْنَ الصَّحَابَة من هَذِه المشروعية وَمن هَذِه الْعِبَادَة؟.. هَل علمُوا بهَا؟ هاتوا برهانكم وأثبتوا دعواكم إِن كُنْتُم صَادِقين.

_ 1 الصَّحِيح مَا تقدم أَن مَالك يكره مُطلق الزِّيَارَة لَا التَّلَفُّظ بهَا، أما شدّ الرّحال لَهَا فقد صرح بِتَحْرِيمِهِ كَمَا تقدم فِي أَكثر من مَوضِع من بحثنا هَذَا. الْمجلة.. (بل الصَّحِيح أَن الزِّيَارَة مَشْرُوعَة بِدُونِ شدّ الرّحال وَلَا معنى لكراهتها لفظا وَلَا معنى، وَلَا تفهم كَرَاهَة مُطلق الزِّيَارَة من قَول مَالك الْمشَار إِلَيْهِ، كَيفَ وَقد قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: "أَلا فزوروها" فِي الحَدِيث الَّذِي تقدم ذكره فِي التَّعْلِيق السَّابِق. 2 على حد زعمهم.

ثَالِثا: قَوْله: فَإِنَّهَا من أفضل الْأَعْمَال وَأجل القربات الموصلة إِلَى ذِي الْجلَال. نقُول: هَذَا الْكَلَام لَا يَلِيق بِمثل الْحَافِظ ابْن حجر، وَلَا بِمثل فَضِيلَة أخينا فِي الله الشَّيْخ عَطِيَّة. إِن الْحَافِظ ابْن حجر، وَكَذَلِكَ الشَّيْخ عَطِيَّة يعلمَانِ أَن التشريع من حق الله وَرَسُوله، وَلَا مدْخل فِيهِ لأحد من النَّاس سوى الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي أخبرنَا الله جلّ وَعلا عَنهُ أَنه لَا يَأْتِي بِشَيْء من التشريع من تِلْقَاء نَفسه {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} ؛ فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَكيف يسوغ للْعُلَمَاء أَن يَقُولُوا عَن مَسْأَلَة لَا دَلِيل إطلاقا على مشروعيتها لَا من الْكتاب وَلَا من السّنة وَلَا من الْإِجْمَاع.. كَيفَ يسوغ لَهُم أَن يدعوا أَنَّهَا من أفضل الْأَعْمَال وَأجل القربات الموصلة إِلَى ذِي الْجلَال..؟. وَالْخُلَاصَة نقُول: يَا من زعمت مَشْرُوعِيَّة الزِّيَارَة بشد الرحل أَو بِدُونِ شدّ الرحل! تفضل علينا بِبَيَان دليلك؛ فإننا وَمن قبلنَا أَئِمَّتنَا أهل السّنة والتوحيد مُنْذُ ألف وَأَرْبَعمِائَة سنة والبحث جَار عَن دَلِيل هَذِه الْمَسْأَلَة وَلم يعثر عَلَيْهِ، فيا حبذا وَيَا عظم فَضلكُمْ لَو تقدمتم إِلَى أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالكشف عَن هَذَا الدَّلِيل، وَإِلَّا فَارْجِعُوا إِلَى الْحق تؤجروا عِنْد الله، وتسلموا من تبعة القَوْل على الله وَرَسُوله بِلَا دَلِيل، وَلَكِن اعلموا مقدما أننا لَا نقبل حَدِيثا مَا لم تثبت صِحَّته عَن الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أما أَحَادِيث الوضاعين والدجالين الَّتِي كفانا مُؤنَة إِبْطَالهَا أهل الْعلم والدراية فَنحْن وَأَنْتُم متفقون على عدم الِالْتِفَات إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تقوم بهَا الْحجَّة وَلَا يجوز الِاسْتِدْلَال برهَا، وَنحن نُرِيد دَلِيلا من وَحي الرَّحْمَن1. ثمَّ التَّعْبِير بقَوْلهمْ: "وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على عدم مَشْرُوعِيَّة شدّ الرّحال" تَعْبِير رَكِيك نَاقص؛ إِذْ أَنه لَا يُوجد وَلم يُوجد من يَقُول إِن شدّ الرّحال- بِمُجَرَّدِهِ - مَشْرُوع أَو مَمْنُوع؛ فالتعبير الصَّحِيح أَن يُقَال: "وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على عدم جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور.. الخ"، وَكَذَلِكَ قَوْلهم عَن المانعين إِنَّهُم استدلوا بِمَا روى عَن مَالك.. الخ. الصَّحِيح أَن قَول مَالك وَغَيره من الْعلمَاء لَا يسْتَدلّ بِهِ فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، وَإِنَّمَا يسْتَدلّ بنصوص الشَّرْع إِن وجد شَيْء مِنْهَا فِي الْمَوْضُوع، وَإِلَّا نظر هَل حصل إِجْمَاع من الْأمة فِي حكم الْمَسْأَلَة المبحوثة، وَإِن لم يُوجد رَجَعَ إِلَى الْقيَاس إِن كَانَت الْمَسْأَلَة فِي غير العقيدة وَفِي غير الْعِبَادَات. أما قَول الْعلمَاء كل وَاحِد على انْفِرَاد فَلَا يَنْبَغِي أَن يُسمى أَو يعْتَبر دَلِيلا تثبت بِهِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، وَإِنَّمَا يسْتَأْنس بِهِ فَقَط، كَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فهم هَذَا الإِمَام أَو الْعَالم لنَصّ من النُّصُوص أَو مذْهبه فِي مَسْأَلَة من الْمسَائِل، وَكَذَلِكَ يحْتَج بِهِ على من نسب إِلَى هَذَا الْعَالم خلاف مَا ثَبت عَنهُ، أما اعْتِبَار قَول مَالك أَو غَيره

_ 1 أما مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة الْقُبُور بِمَا فِي ذَلِك قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِدُونِ شدّ الرّحال - فقد سبق أَن ذكرنَا فِي تعليقاتنا السَّابِقَة دليلها بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح: " كنت نَهَيْتُكُمْ ... الحَدِيث"، كَمَا نوهنا على أَن شدّ الرّحال غير جَائِز لغير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة؛ عملا بِحَدِيث: "لَا تشد الرّحال ... الحَدِيث" وَالَّذِي يُلَاحظ أَن الْكَاتِب يَقع أَحْيَانًا فِي الْخَلْط بَين الْأَمريْنِ. "الْمجلة".

دَلِيلا من أَدِلَّة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة دون أَن يكون هُنَاكَ إِجْمَاع من عُلَمَاء الْأمة فاصطلاح غير مَقْبُول، كَمَا أَنه لَا يصدر إِلَّا عَن إِنْسَان مبالغ فِي تَعْظِيم الْمذَاهب الْفِقْهِيَّة والآراء البشرية إِلَى حد إحلالها مَحل النُّصُوص الشَّرْعِيَّة- عياذا بِاللَّه -.

المسألة الخامسة

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة: وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ وَفقه الله: (وَلَعَلَّ مَذْهَب البُخَارِيّ حسب صَنِيعه هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ أَتَى فِي نفس الْبَاب بعد حَدِيث شدّ الرّحال مُبَاشرَة بِحَدِيث: "صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا خير من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ"، مِمَّا يشْعر بِأَنَّهُ قصد بَيَان مُوجب شدّ الرّحال وَهُوَ فَضِيلَة الصَّلَاة - هَكَذَا فِي كتاب الشَّيْخ - فَيكون النَّهْي عَن شدّ الرّحال مُخْتَصًّا بالمساجد وَلأَجل الصَّلَاة إِلَّا فِي تِلْكَ الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة لاختصاصها بمضاعفة الصَّلَاة فِيهَا دون غَيرهَا من بَقِيَّة الْمَسَاجِد والأماكن الْأُخْرَى، ثمَّ نقل كلَاما لِابْنِ حجر مفاده أَن النَّهْي منصب على الْمَسَاجِد فَقَط دون غَيرهَا من الْأَغْرَاض وَالْبِقَاع والصلوات. وَهَذَا الاستنباط الَّذِي توصل إِلَيْهِ فَضِيلَة الشَّيْخ، واستطاع بواسطته أَن يكتشف مَذْهَب الإِمَام البُخَارِيّ فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال - الَّتِي مَا حدث الْكَلَام فِيهَا إِلَّا بعد وَفَاة الإِمَام البُخَارِيّ - رَحمَه الله - بِمَا لَا يقل عَن مِائَتي سنة - غير سليم لما يَأْتِي: أَولا: فِي زمن البُخَارِيّ وَقَبله لم يُوجد من عُلَمَاء الْمُسلمين من يَقُول بمشروعية وَلَا بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور، حَتَّى نَنْظُر مَذْهَب البُخَارِيّ، هَل هُوَ مَعَ المانعين لشد الرّحال إِلَى الْقُبُور أَو جمع غَيرهم، وَالسَّبَب أَنه حَتَّى ذَلِك التَّارِيخ لم يحدث فِي الْأمة الإسلامية قبوريون. ثَانِيًا: عدم صِحَة قَول من زعم أَن مَذْهَب الْجُمْهُور مَشْرُوعِيَّة أَو جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور فِي يَوْم من الْأَيَّام حَتَّى يَوْمنَا هَذَا، إِلَّا أَن يُرَاد بالجمهور طغام الْعَوام وَمن على شاكلتهم من الْعلمَاء. ثَالِثا: البُخَارِيّ فَقِيه ملهم؛ لذَلِك لَا نستبعد أَن يكون الله تَعَالَى قد ألْقى فِي روع ذَلِك الْفَقِيه الملهم أَن سيحدث بعْدك فِي أمة مُحَمَّد قبوريون لَهُم مزاعم فَاسِدَة، وَمن مزاعمهم أَن يدّعوا أَن الْحِكْمَة من اسْتثِْنَاء الْمَسْجِد النَّبَوِيّ من المسجدين الآخرين فِي حَدِيث النهى عَن شدّ الرّحال هِيَ من أجل زِيَارَة الْقَبْر النَّبَوِيّ الشريف - كَمَا زعم ذَلِك أَبُو زهرَة فِي كِتَابه (ابْن تَيْمِية) ، وَمَا أَظُنهُ أول من قَالَ بذلك وَلَا آخر من يَقُول بِهِ - فَألْقى الله فِي روع ذَلِك الإِمَام بِأَن يتَقَدَّم بِالرَّدِّ عَلَيْهِم قبل وجودهم بِمَا يُقَارب مِائَتي سنة؛ فَيَقُول: إِن الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة استثنيت فِي حَدِيث لَا تشد الرّحال لما تميزت بِهِ من فضل على جَمِيع بقاع الأَرْض ترَتّب عَلَيْهِ مضاعفة ثَوَاب الصَّلَاة فِيهَا.

هَذَا هُوَ السَّبَب الَّذِي من أَجله أورد البُخَارِيّ حَدِيث فضل الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة بعد حَدِيث "لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد.."، أَي أَنه أَرَادَ أَن يبين حِكْمَة الِاسْتِثْنَاء وموجبه، وَأَنَّهَا لَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ كَغَيْرِهَا من الْمَسَاجِد وَالْبِقَاع لَا تشد لَهَا الرّحال. فالقضية - فِي نظر البُخَارِيّ وَأَمْثَاله - قَضِيَّة مَسَاجِد وصلوات، لَا قَضِيَّة أضرحة ومزارات. وَبعد أَن كتب فَضِيلَة الشَّيْخ مَا تفلسف بِهِ حول صَنِيع البُخَارِيّ الَّذِي فَرغْنَا الْآن من الْكَلَام حوله، نقل كلَاما لِابْنِ حجر مفاده أَن النَّهْي الَّذِي تضمنه حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." خَاص بالمساجد والصلوات، دون غَيرهَا من الْبِقَاع والأغراض والعبادات. وَنحن نناقش فضيلته فِيمَا هُوَ من ابتكاره، وَفِيمَا نَقله عَن غَيره؛ فنبين بحول الله وتوفيقه أَنَّهَا مزاعم مُجَرّدَة عَمَّا يسندها ويشد عضدها من لُغَة أَو شرع؛ فَنَقُول: أَنْتُم معترفون بِأَن حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." يَشْمَل الْمَسَاجِد شمولا أوليا مباشرا سوى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة المستثناة، بل تحاولون أَن تجعلوه خَاصّا مَقْصُورا عَلَيْهَا، فَهَل ترَوْنَ أَن الأضرحة أفضل عِنْد الله من الْمَسَاجِد؟.. أَلَيْسَ الحَدِيث الآخر قد نَص على أَن الْمَسَاجِد هِيَ أحب الْبِقَاع إِلَى الله؟.. وَفِي الْقُرْآن الْكَرِيم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .. وَفِيه قَوْله تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} .. فَكيف سَاغَ لكم وَلمن قلدتموهم أَن تَقولُوا: الْمَمْنُوع زِيَارَة الْمَسَاجِد، دون زِيَارَة الْمشَاهد؟ ‍‍‍‍‍‍‍ بإمكانكم أَن تَقولُوا: لِأَن الْمَسَاجِد يعوض بَعْضهَا عَن بعض؛ فَلَا فرق بَين مَسْجِد وَآخر عدا الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة، أما الْقُبُور خَاصَّة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يعوض بَعْضهَا على بعض، كَمَا أَن الْمَسَاجِد أَيْضا لَا تعوض عَنْهَا لِأَنَّهَا لَيست من جِنْسهَا. وجوابنا على ذَلِك أَن نقُول:- إِن الله تَعَالَى جعل الْمَسَاجِد أَمَاكِن لِلْعِبَادَةِ؛ فَيتَوَجَّه الْمُسلم إِلَى مَسْجِد ليؤدى فِيهِ عِبَادَته لرَبه كَمَا أمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَكَانَ من السائغ عقلا أَن يكون السّفر إِلَيْهَا فَضِيلَة محمودة لمن يُرِيد أَن يَجْعَل لعدد كَبِير من بيُوت الله نَصِيبا من عِبَادَته، تِلْكَ الْبيُوت الَّتِي أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه تبَارك وَتَعَالَى، وَقد قرر الْفُقَهَاء أَن الْمَسْجِد الأقدم وَالْأَكْثَر جمَاعَة والأبعد من منزل الْإِنْسَان أفضل من عَكسه، وَهَذَا مَسْجِد قبَاء قد ثَبت فَضله شرعا، وَمَعَ ذَلِك لم يسْتَثْن مَعَ الْمَسَاجِد المستثناة، أما الْقُبُور فَلم يَجْعَلهَا الله وَرَسُوله أَمَاكِن لِلْعِبَادَةِ، بل على الْعَكْس فقد نهى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَجعلهَا من المواقع الَّتِي لَا تصح الصَّلَاة فِيهَا، وَلعن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لاتخاذهم الْمَسَاجِد على الْقُبُور محذرا أمته من أَن تحذوا حذوهم، مكررا ومؤيدا حَتَّى آخر لَحْظَة من حَيَاته الشَّرِيفَة، وَلكنه مَعَ هَذَا قد أخبر - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن أمته ستحذو حَذْو الْيَهُود وَالنَّصَارَى وتتبع سُنَنهمْ؛ رغم تحذيره ومبالغته فِي النصح والتنبيه، وَمن أبرز سُنَنهمْ الَّتِي حذر الرَّسُول أمته من اتباعها - وَقد اتبعوها - اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، وَهَذِه مبدؤها الغلو فِي الْقُبُور واتخاذها أعيادا بِكَثْرَة التَّرَدُّد عَلَيْهَا، ثمَّ التَّعَلُّق بِأَهْلِهَا وَتوجه الْقُلُوب إِلَيْهِم ثمَّ دعاؤهم من دون الله، ثمَّ.. ثمَّ.. ثمَّ.. ثمَّ.. الخ.

ثمَّ نقُول: إِن الْمَسَاجِد كَمَا يصدق عَلَيْهَا أَنَّهَا مَسَاجِد كَذَلِك يصدق عَلَيْهَا أَنَّهَا بقاع وَأَنَّهَا أَمَاكِن، والْحَدِيث لم يذكر فِيهِ الْمُسْتَثْنى؛ فَهُوَ مُبْهَم، والمبهم يَنْبَغِي أَن يقدر بأعم مدلولاته مَا لم يرد دَلِيل آخر يفسره؛ لِأَن الِاقْتِصَار على بعض المدلولات دون بَعْضهَا الآخر تحكم وَاتِّبَاع للهوى؛ فَمَا دَامَ أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حديثنا هَذَا يجوز أَن يكون الْمَسَاجِد فَقَط وَيجوز أَن يكون الْبِقَاع والأماكن جَمِيعًا - والشارع لم يخصص - فَيجب علينا وَالْحَالة هَذِه أَن نعتبر الْأَعَمّ الأشمل، ونجري الحَدِيث على ظَاهره، وَلَا يكون لنا تدخل فِي نُصُوص الشَّرْع بِمُجَرَّد أهوائنا؛ لِأَن أحدا منا لَو سُئِلَ فَقيل لَهُ: لم قصرت هَذَا الْعَام على بعض أَفْرَاده بِلَا دَلِيل؟ … فَإِنَّهُ لَا جَوَاب لَدَيْهِ يخرج بِهِ من طائلة العتاب، أما لَو سُئِلَ فَقيل لَهُ: جعلت هَذَا الْعَام على التَّخْصِيص، وَمن ثمَّ لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ عتاب. إِذا فالتوجيه للْحَدِيث كَمَا يَلِي: لَا تشد الرّحال لمَكَان فِي الأَرْض أَو بقْعَة من الْبِقَاع طَاعَة لله أَو لأَدَاء عبَادَة يَبْتَغِي بهَا وَجه الله إِلَّا الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة؛ لما لَهَا من الْفضل على سَائِر الْبِقَاع.. أما الْأَسْفَار الدُّنْيَوِيَّة كَالَّذي لتِجَارَة، آو زِيَارَة قريب أَو صديق، أَو لسياحة؛ فَلَا مدْخل لَهَا هُنَا؛ لِأَنَّهَا لَيست مِمَّا يمارسه العَبْد لله بنية أَنه مَشْرُوع يُثَاب عَلَيْهِ، بل هِيَ من الْأُمُور العادية الْمُبَاحَة؛ فإدخالها فِي مَوْضُوع شدّ الرّحال واتخاذها وَسِيلَة لتأويل الحَدِيث وَصَرفه عَن ظَاهره - موهما من فعل ذَلِك أَن إِجْرَاء الحَدِيث على ظَاهره يُفْضِي إِلَى منع شدّ الرّحال لهَذِهِ الْأُمُور العادية الدُّنْيَوِيَّة - فَهَذَا غير صَحِيح، بل خلط بَين أُمُور الدُّنْيَا وَأُمُور الدّين. ثمَّ إِن هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ فِي معنى الحَدِيث هُوَ الَّذِي فهمه مِنْهُ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم، وهم الَّذين سَمِعُوهُ مُبَاشرَة من مصدره الْأَصْلِيّ. وبرهان ذَلِك كَمَا يَلِي: قَالَ أَبُو يعلى فِي مُسْنده: 1- حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمنْهَال حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع … وسَاق الْإِسْنَاد إِلَى سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري قَالَ: لَقِي أَبُو بصرة جميل بن بصرة أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ مقبل من الطّور، فَقَالَ: لَو لقيتك قبل أَن تَأتيه لم تأته، إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " إِنَّمَا تضرب أكباد الْمطِي إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْمَسْجِد الْحَرَام، ومسجدي هَذَا، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى". 2- وَعَن قزعة قَالَ: سَأَلت عبد الله بن عمر: آتِي الطّور؟ قَالَ: دع الطّور لَا تأته، ثمَّ قَالَ: "لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد". رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة والأزرقي فِي أَخْبَار مَكَّة، وَإِسْنَاده صَحِيح. انْظُر تخذير الساجد للألباني ص139. أما السّفر لطلب الْعلم ولزيارة الْوَالِدين وَالصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاء الْأَحْيَاء؛ فَلَيْسَ المُرَاد من مثل ذَلِك السّفر

الْبقْعَة الَّتِي يحلونَ فِيهَا، إِنَّمَا المُرَاد زِيَارَة الْأَشْخَاص الْأَحْيَاء بِأَيّ مَكَان حَلّوا. أما زِيَارَة الْقُبُور لتذكر الْآخِرَة وَدون شدّ رَحل؛ فجائزة، وَمن زارها لهَذَا الْغَرَض فليدعُ لأصحابها على الْعُمُوم اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَهَؤُلَاءِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - الَّذين سمعُوا الحَدِيث مِنْهُ مُبَاشرَة - قد فَهموا مِنْهُ أَن النَّهْي فِي هَذَا الحَدِيث يعم جَمِيع الْبِقَاع وَلَا يخْتَص بالمساجد؛ فالطور الَّذِي أنكر أَبُو بصرة على أَنِّي هُرَيْرَة إِتْيَانه وَالسّفر إِلَيْهِ لَيْسَ بِمَسْجِد، وَلكنه مَكَان من الْأَمْكِنَة، وَأَبُو هُرَيْرَة يقره على إِنْكَاره وَلَا يرد عَلَيْهِ، وَفِي الْأَثر الثَّانِي يُفْتِي عبد الله بن عمر من استفتاه فِي السّفر إِلَى الطّور فَيَقُول: "دع الطّور لَا تأته"، وكل مِنْهُمَا يسْتَدلّ بِحَدِيث: "لَا تشد الرّحال.."، أفيقول أحد بعدهمْ إِنَّه أعلم باللغة أَو بِالشَّرْعِ من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أَو يظنّ بِأحد أَنه أعلم مِنْهُم؟.. وَحَتَّى لَو حاول أحد التشكيك فِي أَسَانِيد هَذِه الْأَخْبَار فَإِنَّهُ - أَولا - لَا سَبِيل لَهُ إِلَى ذَلِك، ثَانِيًا لَو فعل لطالبناه بِأَن يقدم لنا أَسَانِيد صَحِيحَة إِلَى من نسب عَنهُ، حَتَّى يعلم أَن طلب الْإِثْبَات منوطه إِلَيْهِ كَغَيْرِهِ، وَأَن مُجَرّد الدَّعَاوَى بِدُونِ بَيِّنَات لَا يُفِيد شَيْئا، وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى ذَلِك أَيْضا، بل مُجَرّد نقُول فِي الْكتب قل إِن تثبت إِلَى من نسبت إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا نقل من الإجماعات المزعومة. الْخطر على عقيدة التَّوْحِيد فِي الْقُبُور لَا فِي الْمَسَاجِد: السُّؤَال موجه إِلَى من يَقُول بِمَنْع زِيَارَة الْمَسَاجِد وَإِبَاحَة أَو مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة الْقُبُور نقُول فِيهِ: مَعْلُوم أَن أَحْكَام الشَّرْع لَا تَأتي إِلَّا لحكمة، وَهَذِه الْحِكْمَة قد تكون مَنْصُوصا عَلَيْهَا وَقد لَا ينص عَلَيْهَا، وَقد تدْرك بِالِاجْتِهَادِ وَقد لَا تدْرك، وَقد تدْرك جزما وَقد تدْرك ظنا، وعَلى كل حَال أَحْكَام الشَّرْع لَهَا حكم ووارده لعلل إِمَّا تَحْصِيل مصَالح وَإِمَّا دفع مفاسد. فَهَل تتصورون أَن من الْحِكْمَة منع زِيَارَة الْمَسَاجِد بشد الرّحال وَإِبَاحَة أَو مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة الْقُبُور وَلَو بشد الرّحال؟.. ألستم تعلمُونَ أَن فتْنَة بني آدم ووقوعهم فِي الشّرك بِاللَّه وَعبادَة المخلوقين كَانَ منشؤها الغلو فِي الْأَمْوَات من الصَّالِحين؟.. وَلَا يزَال الْأَمر كَذَلِك حَتَّى ساعتنا هَذِه؛ فَفِي بعض الْبِلَاد الإسلامية لَا تَجِد مَسْجِدا تصلي فِيهِ إِلَّا ومبني على قبر، وَقد يكون هَذَا الْقَبْر قد اتخذ وثنا يعبد من دون الله، كالضريح الْمَنْسُوب للحسين، والمنسوب للسيدة زَيْنَب والبدوي، و.. و.. وَإِلَى مَالا يُحْصى فِي مصر وَغَيرهَا من آلَاف الأضرحة والقباب المقامة على الْقُبُور وَعَلَيْهَا الْمَسَاجِد الَّتِي لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بناها، وأبطل صَلَاة من صلى فِيهَا، وَذَلِكَ على مسمع ومرأى من الْعلمَاء أَو المحسوبين على الْعلمَاء من أَصْحَاب الشَّهَادَات الْكَبِيرَة، بل إِن من هَؤُلَاءِ بعض المنتسبين إِلَى الْعلم قد يشاركون الْعَوام فِي عبَادَة الْأَمْوَات بِالْحَجِّ إِلَى قُبُورهم وَالطّواف، حول مقاصيرهم وَيطْلبُونَ مِنْهُم مَالا يملكهُ إِلَّا الله معتقدين أَنهم يملكُونَ النَّفْع والضر،

والسعادة والشقاوة، وَلذَلِك حذر الني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته من الْوُقُوع فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَلَكنهُمْ وَقَعُوا إِلَّا من عصمه الله وَقَلِيل مَا هم. ونخن فِي هَذِه الْبِلَاد - وَالْحَمْد لله - لَا نزال فِي آثَار الدعْوَة الْخيرَة الَّتِي قضى الله بهَا على مظَاهر الوثنية فِي بِلَادنَا؛ نسْأَل الله تَعَالَى أَن يديم علينا نعْمَة التَّوْحِيد الَّتِي هِيَ أعظم نعْمَة تمتّع بهَا إِنْسَان على وَجه الأَرْض، وَأَن يوفق وُلَاة أمورنا لمزيد من حماية هَذِه النِّعْمَة وَمَعْرِفَة قدرهَا والحرص عَلَيْهَا والاغتباط بهَا، إِنَّه سميع مُجيب. أما الْمَسَاجِد فَمَا كَانَت يَوْمًا من أَيَّام الدُّنْيَا مصدر فتْنَة وخطر على عقائد أهل التوحيدي وإتباع الرُّسُل، فلماذا يتَصَوَّر الْبَعْض أَن المشرع يَعْنِي بالقبور أَكثر من عنايته بالمساجد، فيبيح شدّ الرّحال لَهَا فِي الْوَقْت الَّذِي يمْنَع فِيهِ من شدّ الرّحال للمساجد؟. اللَّهُمَّ وفقنا لاتباع رَسُولك والرضى بسنته، وَأَن لَا نبتدع فِي دينه، اللَّهُمَّ حبب إِلَيْنَا الْمَسَاجِد واجعلنا من أَهلهَا وعمارها، وَلَا تفتنا بالقبور وأحداثها المشرع الْحَكِيم يُبِيح زِيَارَة الْمَقَابِر بعد مَنعه مِنْهَا مُبينًا الْحِكْمَة فِي ذَلِك: كَانَ الني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن زِيَارَة الْقُبُور؛ لما يُعلمهُ عَلَيْهِ السَّلَام من خطر فتنتها على من لم يتَمَكَّن من معرفَة الله على بَصِيرَة، ويتشبع من معرفَة التَّوْحِيد الَّذِي خلق الْجِنّ وَالْإِنْس من أَجله. فَلَمَّا انْتَشَر الْإِسْلَام حسياً ومعنوياً، وتمكنت الْمعرفَة بِاللَّه وتوحيده فِي نفوس الْمُؤمنِينَ، وانتشر نور هدى الله فِي الأَرْض أَبَاحَ لَهُم زِيَارَة الْقُبُور مُعَللا ذَلِك بِأَنَّهَا تذكر الْآخِرَة، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: "كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها فأهما تذكر الْآخِرَة ". هَذِه إِحْدَى حكمتين أَو علتين من أجلهَا رخص الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام بزيارة الْقُبُور بعد أَن كَانَ ناهياً عَنْهَا مَانِعا مِنْهَا. أما الْعلَّة الثَّانِيَة فَهِيَ الْإِحْسَان إِلَى الْمَوْتَى بِالدُّعَاءِ لَهُم من الزائر، وَهَذِه الْعلَّة أَو الْحِكْمَة أخذت من عمل الرَّسُول وتعليمه لمن سَأَلَهُ مَاذَا يَقُول إِن هُوَ زار الْمَقَابِر، وَلَيْسَ هُنَاكَ حِكْمَة ثَالِثَة أَو عِلّة ثَالِثَة من أجلهَا تزار الْمَقَابِر، بل الْعلَّة الأولى هِيَ الأَصْل والأساس، أَعنِي تذكرة الْآخِرَة، بِدَلِيل أَن الرَّسُول - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- ذكرهَا لما أذن فِي زِيَارَة الْقُبُور وَلم يذكر الْأُخْرَى. فيا ترى من زار قبر الرَّسُول، وَشد الرّحال لهَذِهِ الزِّيَارَة من أقْصَى الأَرْض أَو أدناها؛ أَي العلتين قصد؟ أيريد أَن يتَذَكَّر الْآخِرَة؟ فَعنده فِي بِلَاده، وَفِي كل بلد من الْمَقَابِر والأجداث الهامدة مَا يسيل دُمُوعه ويحرك قلبه ويذكره بِالْمَوْتِ وَمَا بعده؛ فَلَا دَاعِي لقطع القفار وجوب الديار لقبر أَو قبرين أَو ثَلَاثَة فِي أقْصَى الأَرْض وَأَدْنَاهَا، وَمَعَ ذَلِك هَذِه الْقُبُور الثَّلَاثَة - مَعَ أَن الْمَقْصُود مِنْهَا وَاحِد فَقَط - وَهِي محاطة بالجدران المنيعة والأستار الجميلة والزخارف البديعة وشباك الْحَدِيد.. الخ.

تمنع ذَلِك الزائر من الْوُصُول إِلَى الْقَبْر أَو الْقُبُور الثَّلَاثَة وتذكر الْآخِرَة بهَا، بل إِن أرضية تِلْكَ الْقُبُور وَمَا حولهَا مبلطة مستوية، وَلَا يعلم أحد على وَجه الأَرْض كَيْفيَّة تِلْكَ الْقُبُور الْكَرِيمَة بِالنِّسْبَةِ لبعضها. (انْظُر وَفَاء الْوَفَاء بأخبار دَار الْمُصْطَفى للسمنهودي) . فَهَذِهِ الْأَشْيَاء فِي نَظرنَا تمنع من تحقق الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة شرعا من زِيَارَة الْقُبُور. أم أَن ذَلِك الزائر يُرِيد الْحِكْمَة الثَّانِيَة، وَهِي الدُّعَاء للأموات ... أيريد أَن يَدْعُو لرَسُول الله وعَلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمغفرة وَالْعِتْق من النَّار؟.. الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ بحاجة إِلَى الدُّعَاء من أحد؛ إِذْ قد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر، وَقد تحققت لَهُ السَّعَادَة بِجَمِيعِ مَعَانِيهَا وأنواعها - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-. صَحِيح أَنه رغّب إِلَى أمته فِي أَن يسْأَلُوا الله لَهُ الْوَسِيلَة، وَكَذَلِكَ قد أَمر بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ، وَلَكِن ذَلِك لمصلحتنا نَحن لَا لمصلحته هُوَ، وَإِلَّا فدعاؤه لنَفسِهِ وَلغيره أَحْرَى بالإجابة من دُعَاء جَمِيع النَّاس لَهُ، وَهَذَا الدُّعَاء الَّذِي هُوَ سُؤال الْوَسِيلَة لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَذَلِكَ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهِ لَيْسَ مَكَانَهُ عِنْد الْقَبْر، بل لَيْسَ لَهُ مَكَان مَخْصُوص غير أَن سُؤال الْوَسِيلَة مُقَيّد بِسَمَاع الْأَذَان وَإجَابَة الْمُؤَذّن لحكمة لَا نعلمها. فَإِن قَالُوا: قبر الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ خَصَائِص؛ فَلَا يماثل بِقَبْر غَيره، وَلذَلِك يزار من قريب وَمن بعيد وتشد لَهُ الرّحال، وَلَيْسَ من ذَلِك تذكر الْآخِرَة الَّذِي يحصل بالمقابر الْأُخْرَى أَكثر، وَلَا الدُّعَاء لصَاحب الْقَبْر، بل لحقوق الرَّسُول - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - على أمته وعظيم قدره.. إِن قَالُوا ذَلِك أجبناهم بِأَن نقُول: أَولا أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أعلم مِنْكُم بحقوقه وَأكْثر مِنْكُم تَعْظِيمًا لَهُ، وَمَا رَأَوْا أَن ذَلِك يسْتَلْزم زِيَارَة قبر لَا بشد وَلَا بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ التابعون لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْمنَا هَذَا، بل إِن الَّذين يزورون الْقَبْر الشريف من أهل السّنة بِدُونِ شدّ رَحل يدْخلُونَ زيارته تَحت الْأَمر الشَّرْعِيّ إِن كَانَ أمرا أَو إِبَاحَة، أما حُقُوقه - عَلَيْهِ السَّلَام- فمعلومة لديهم وعظيمة فِي نُفُوسهم وَقُلُوبهمْ واعتقادهم، وَلَيْسَ مِنْهَا شدّ الرحل لزيارة قَبره؛ إِذْ لَو كَانَ مِنْهَا لأمر بِهِ وحث عَلَيْهِ؛ فَمَا من جزئية وَلَا كُلية تعود على أمته بِالْخَيرِ وَالْمَنْفَعَة فِي أُمُور دينهم إِلَّا بَينهَا أتم بَيَان ودعا إِلَيْهَا وَرغب فِيهَا، فَمَا باله - يهمل هَذِه الْمَسْأَلَة؟ أنسياناً ... أم تقصيراً؟ ... حاشاه من كل ذَلِك. وَأَنا وَالله أعجب كثيرا لفضيلة الشَّيْخ عَطِيَّة عِنْدَمَا أمرّ بِبَعْض الْمَوَاضِع فِي بَحثه لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، وعندما ألاحظ بعض الْعبارَات وَبَعض التَّصَرُّفَات، من ذَلِك أَنه لم ينْقل فِي هَذَا الْبَحْث عَن غير ابْن حجر، وَكَأن أحدا من عُلَمَاء الْمُسلمين لم يُوجد، أَو لم يتَعَرَّض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة من أَي جَانب من جوانبها؛ فَلَا أَدْرِي أكلّ ذَلِك ثِقَة مُطلقَة بِابْن حجر دون غَيره، أم ذَلِك نتيجة لكسل حالَ بَينه وَبَين بحث الْقَضِيَّة فِي كتب فحول الْعلمَاء وأئمة الْإِسْلَام، مثل كتب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية، وَكَذَا كتب شمس الدّين ابْن الْقيم، وَكَذَا الصارم

المنكي لِابْنِ عبد الْهَادِي الَّذِي خصصه لبحث هَذِه الْمَسْأَلَة، وَقد استقصى رَحمَه الله الْبَحْث فِيهَا ووفى الْمَوْضُوع حَقه. أَلَيْسَ من الْإِنْصَاف، بل وَمن حق الْبَحْث العلمي، بل وَمن لَازم الِاحْتِيَاط للدّين وللعلم ولتجنب نقد الآخرين أَن ينظر الباحث فِيمَا قدمه الطرفان من بحوث واستدلال وتعليل؛ حَتَّى يكون على بَصِيرَة من أمره؛ فيبدي رَأْيه وَيقدم نتيجة اجْتِهَاده بعد تَأمل وَنظر عميق؟ … أعتقد مَا فِيهِ أحد يخالفني فِيمَا قلت هُنَا.. إِذا فَمَا الَّذِي حَال بَين الشَّيْخ وَبَين النّظر والتعمق فِي التَّحْقِيق؟.. هَل خفيت عَلَيْهِ تِلْكَ المراجع الْعَظِيمَة والمباحث الهامة النفيسة؟.. لَا أعتقد ذَلِك، فَالْجَوَاب عِنْد فضيلته. وَمن ذَلِك أَيْضا أَنه سطّر أَكثر من صفحة من كِتَابه فِي إِثْبَات جَوَاز شدّ الرّحال للتِّجَارَة وللسياحة ولزيارة الْأَقَارِب والأصدقاء الْأَحْيَاء، ولطلب الْعلم، وَرَاح فضيلته ينقب عَن الْأَدِلَّة الَّتِي تثبت جَوَاز السّفر لهَذِهِ الْأُمُور، كَأَن أحدا من خلق الله زعم أَن السّفر لهَذِهِ الْأَشْيَاء غير جَائِز، وَقصد فضيلته - حسب ظَنِّي، وَعَسَى أَن لَا يكون هَذَا الظَّن صَوَابا - إِرَادَة التهويل أَمَام السذج؛ لِأَنَّهُ قَالَ بعد كَلَامه الْمُتَعَلّق بِإِثْبَات جَوَاز السّفر لهَذِهِ الْأُمُور: فَيكون السّفر لزيارة الرَّسُول من ضمنهَا، وَلِأَنَّهُ رتَّب ذَلِك على قَوْله - بِالْمَعْنَى لَا بِالنَّصِّ -: إننا لَو أَخذنَا بِظَاهِر الحَدِيث - على مَا فهم ابْن تَيْمِية - لَأَدَّى بِنَا ذَلِك إِلَى تَعْطِيل مصَالح النَّاس وَالْحجر عَلَيْهِم بِتَحْرِيم مَا أحله الله من الْأَسْفَار للأمور الْمشَار إِلَيْهَا. وَقد سبق أَن قُلْنَا لفضيلته: إِنَّه لَا يَصح الْخَلْط بَين أُمُور الدّين الَّتِي أَمر الشَّرْع بهَا أَو نهى، وَبَين أُمُور الدُّنْيَا الْمُبَاحَة، وَلَا الْخَلْط بَين مَا نهى عَنهُ الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَام- وَبَين مَا بَقِي على الأَصْل والبراءة، وَلَا الْخَلْط بَين أَمر يتَعَلَّق بالأماكن والعبادات، وَبَين أُمُور تتَعَلَّق بالأغراض الدُّنْيَوِيَّة والمقاصد العادية. ونسأل الشَّيْخ فَنَقُول: هَل مَشْرُوعِيَّة أَو جَوَاز شدّ الرّحال خَاص بِقَبْر الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَام - أم عَام لقبور الصَّالِحين وَالْعُلَمَاء مثلا؟.. أم عَام لجَمِيع مَقَابِر الْمُسلمين؟. إِن قُلْتُمْ: خَاص بِقَبْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيره، قُلْنَا: هَل عَرَفْتُمْ ذَلِك بِدَلِيل أم بتعليل؟.. إِن قُلْتُمْ: بِدَلِيل، قُلْنَا: تكرموا علينا وعَلى عَامَّة الْمُسلمين فبينوا هَذَا الدَّلِيل؛ لِأَنَّهُ خَفِي علينا، وكتمان الْعلم حرَام، وَإِن قُلْتُمْ: عرفنَا ذَلِك بتعليل، قُلْنَا: الْعلَّة الَّتِي بَينهَا الْمُصْطَفى عَلَيْهِ السَّلَام لزيارة الْقُبُور هِيَ تذكر الْآخِرَة فَقَط، فَهَل عثرتم على عِلّة أُخْرَى؟.. أفيدونا مَأْجُورِينَ. أما مَسْأَلَة الدُّعَاء للأموات الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا أخذت من فعل الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وأجابته لمن سَأَلَهُ مَاذَا يَقُول إِن هُوَ زار الْقُبُور فقد قُلْنَا: لَا تنطبق فِي حق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ لاستغنائه عَن دُعَاء غَيره إِلَّا فِيمَا بيّنه، وَلم يقل عِنْد قَبْرِي بل قَالَ: "إِذا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّن "، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لسؤال الْوَسِيلَة، وبالنسبة للصَّلَاة وَالتَّسْلِيم عَلَيْهِ فهما فِي الصَّلَاة

الْمَفْرُوضَة والمستحبة، وَعند دُخُول الْمَسْجِد، وَعند ذكره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي كل مُنَاسبَة وكل زمَان وَمَكَان. بل قد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " وصلوا عَليّ؛ فَإِن صَلَاتكُمْ وتسليمكم يبلغنِي حَيْثُمَا كُنْتُم"، قَالَ ذَلِك فِي الْوَقْت الَّذِي نهى فِيهِ عَن اتِّخَاذ قَبره عيدا، فَالله الْمُسْتَعَان.. وَإِن قُلْتُمْ عَام لقبور الصَّالِحين وَالْعُلَمَاء والأقارب، أَو لجَمِيع الْمُسلمين وَمَا إِلَى ذَلِك.. قُلْنَا: ولِمَ لَا تذكرُونَ الصَّالِحين أبدا؟.. بل كلامكم خَاص بِقَبْر الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ومقصور عَلَيْهِ مِمَّا أوهم الْعَامَّة أَن هُنَاكَ نصوصاً وَإِرَادَة بِالْأَمر بزيارة قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْخُصُوص1. وَقَالَ الشَّيْخ - وَهُوَ يروي لنا تَأْوِيل ابْن حجر لحَدِيث النَّهْي عَن شدّ الرّحال -: وبتأمل كَلَام ابْن حجر نجده يتَضَمَّن إِجْرَاء معادلة على نَص الحَدِيث بِأَن لَهُ حالتين فَقَط: الأولى: أَن يكون النهى منصباً على شدّ الرّحال لأي مَكَان سوى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة من أجل الصَّلَاة، وماعدا الْمَسَاجِد وَالصَّلَاة خَارج عَن النَّهْي، وعَلى هَذَا تخرج زِيَارَة الْقُبُور مَعَ غَيرهَا من الْأُمُور الْأُخْرَى عَن دَائِرَة النَّهْي. وَالثَّانيَِة: أَن يكون النَّهْي عَاما لجَمِيع الْأَمَاكِن ماعدا الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة وبلدانها، وَلَكِن لَا لخُصُوص الصَّلَاة، بل لكل شَيْء مَشْرُوع بِأَصْلِهِ.. إِلَى أَن قَالَ: وَمن هَذَا كُله السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا مُعَارضَة على حَالَة من الْحَالَتَيْنِ، وَلَا يتعارض مَعَ مَا مَعَهُمَا الحَدِيث. انْتهى كَلَام فضيلته بِاخْتِصَار وَتصرف فِي بعض الْكَلِمَات مَعَ الِالْتِزَام بِالْمَعْنَى. وَنحن نناقش هَذَا الْكَلَام من نواح: النَّاحِيَة الأولى: نحمد الله حَيْثُ إِن أَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَايَة من الْبَيَان والوضوح؛ فَلَا نحتاج لفهمها إِلَى إِجْرَاء معادلات وَلَا اسْتِخْدَام فلسفات. النَّاحِيَة الثَّانِيَة: لِمَ هَذَا التعويل على آراء ابْن حجر دون غَيره من عُلَمَاء الْأمة الإسلامية، خَاصَّة السّلف الصَّالح من لدن الصَّحَابَة إِلَى آخر الْقُرُون الثَّلَاثَة2؟ هَل لم يتَعَرَّض لمعْرِفَة وَبَيَان معنى هَذَا الحَدِيث أحد من أَئِمَّة الْإِسْلَام قبل ابْن حجر؟.. بل لقد تعرضوا وفهموا وبينوا وَعمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ قبل ابْن حجر، وَقبل أَن يستنبط فَضِيلَة الشَّيْخ معادلته الفلسفية من كَلَام الْحَافِظ ابْن حجر هَذِه. النَّاحِيَة الثَّالِثَة: من أَيْن أتيتم ببلدان الْمَسَاجِد الثّلاثة وأدخلتم فِي الْمَوْضُوع مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ محاولين أَن تجْعَلُوا

_ 1 ولماذا أَمر عمر رضى الله عَنهُ بإخفاء قبر (دانيال) - عَلَيْهِ السَّلَام - حِين وجد جثمانه فِي بِلَاد فَارس؟ أَلَيْسَ نَبيا كنبينا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ لِمَ لَمْ يتْرك قَبره مَعْلُوما للْمُسلمين ليزوروه ويفعلوا عِنْده كَالَّذي يفعل النَّاس الْيَوْم عِنْد قبر نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام؟ أيريد عمر أَن يحرم الْمُسلمين من هذأ الْخَيْر الْعَظِيم؟. 2 بل الْأَرْبَعَة.

شدّ الرحل لزيارة قبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَشْرُوعَة أَو مُبَاحَة؟.. وَمَا الدَّافِع وَالْحَامِل على هدا اللف والدوران يَا فَضِيلَة الشَّيْخ؟.. هَل الْأمة وَاقعَة فِي مشكلة صعبة تحاول أَنْت إِيجَاد حل لَهَا وسبيل لخروجها من هَذِه المشكلة؟.. لَا دَاعِي لهَذَا يَا فَضِيلَة الشَّيْخ، أُمُور الدّين وَاضِحَة جلية، وَسنة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تَركهَا بَيْضَاء نقية، لَا تشتبه على من قصد الْحق بتجرد وإخلاص، وَلَا تَلْتَبِس لَا فِي كلياتها وَلَا فِي جزئياتها على من ولى وَجهه شطر كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا الَّذِي يحدث المشاكل ويسبب البلبلة هَذِه الفلسفات وَتلك التأويلات والتحريفات لنصوص الْكتاب وَالسّنة لتوافق مَذْهَب فلَان وتؤيد رأى عَلان، وَإِلَّا كَيفَ يتَصَوَّر أَن عَالما من عُلَمَاء الْأمة الإسلامية يَدعِي مَشْرُوعِيَّة شئ من غير دَلِيل من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس صَحِيح؟.. مَا الَّذِي يحملهُ على ذَلِك؟.. هَل يشْعر بِأَن فِي دين مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام نقصا يُرِيد أَن يكمله؟.. والْخُلَاصَة: أننا نقُول ونعتقد جازمين مائَة على مائَة أَن كل شئ ينفعنا عِنْد الله إِذا التزمنا بِهِ وعملنا بِمُقْتَضَاهُ قد بَينه لنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتم وأكمل بَيَان، فَلَا مَكَان فِي الدّين لزِيَادَة، وَلَا مجَال فِيهِ لفلسفة أَو معادلة يُرَاد من وَرَائِهَا استنباط شرعيات قد خفيت على سلف الْأمة وأئمتها. أما الْمَعْنى الصَّحِيح للْحَدِيث فَهُوَ الَّذِي فهمه أَصْحَاب رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي الله عَنْهُم - بِدُونِ إِجْرَاء معادلة وَبِدُون تكلفة وتمحل، وَهُوَ الَّذِي بَيناهُ فِيمَا سبق من هَذَا الْبَحْث؛ فَلَا نعيده. وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ بعد سِيَاقه الْكَلَام الَّذِي تقدم: (وجهة نظر) ، ثمَّ قَالَ تَحت هَذَا العنوان: "وبالتحقيق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وإثارة النزاع فِيهَا يظْهر أَن النزاع والجدال فِيهَا أَكثر مِمَّا كَانَت تحْتَمل، وَهُوَ إِلَى الشكلي أقرب مِنْهُ إِلَى الْحَقِيقِيّ، وَلَا وجود لَهُ عملياً". ونناقش فَضِيلَة الشَّيْخ فَنَقُول: 1- هَذَا اتهام صَرِيح للْعُلَمَاء إِمَّا فِي عُقُولهمْ وأفهامهم، وَإِمَّا فِي مقاصدهم وأغراضهم؛ إِذْ مادام أَن الْجِدَال شكلي كَمَا تَقولُونَ، وَالْخلاف فِيهَا صوري لَا وجود لَهُ فِي الْوَاقِع؛ فَمَا الَّذِي حملهمْ على هَذَا النزاع الطَّوِيل العريض؟ ثمَّ من الْمُتَّهم يَا فَضِيلَة الشَّيْخ بإثارة الْجِدَال وتطوير النزاع الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ من الْحَقِيقَة شَيْء؟.. نَحن وجدناك فِي بحثك تميل إِلَى الرَّأْي الْمُخَالف لما ذهب إِلَيْهِ ابْن تَيْمِية فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَهَل هُوَ الْمُتَّهم فِي نظركم؟.. 2- مادام أَن الْجِدَال فِي هَذِه الْقَضِيَّة صوري لَا حَقِيقَة لَهُ، فَمَا الَّذِي دعَاك إِلَى أَن تكْتب صفحات عديدة، وتنفق وقتك وجهدك فِي الْبَحْث وَالتَّحْقِيق والتدليل وَالتَّعْلِيل، وَالتَّرْجِيح والمقارنة وإجراء المعادلات وَنقل الإجماعات الْخَاصَّة والعامة؟.. لِمَ لمْ توفر على نَفسك هَذِه الجهود وَهَذَا الْوَقْت الثمين، وتبدي وجهة نظرك هَذِه مسبقاً فتستريح وتريح؟..

3- مَا الَّذِي اشْتَمَلت عَلَيْهِ الرسائل الَّتِي ألفت من الطَّرفَيْنِ، كَمَا يَقُول الْكرْمَانِي، وينقل عَنهُ ابْن حجر، وفضيلتكم عَن بني حجر؟.. هَل هُوَ هذيان فارغ وسفسطة لَيْسَ لما معَان؟.. إِن كَانَ كَذَلِك فَهَل هَذَا ناتج عَن سوء فهمهم أم عَن سوء مقاصدهم؟.. 4- ألستم بنفسكم - يَا فَضِيلَة الشَّيْخ - تَقولُونَ: وَلَعَلَّ مَذْهَب البُخَارِيّ حسب صَنِيعه هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؟.. أَلَيْسَ معنى هَذَا أَنكُمْ قد فهمتم أَن فِي الْمَسْأَلَة مذهبين، أَحدهمَا لِلْجُمْهُورِ وَالثَّانِي لغير الْجُمْهُور، وَالْأول تبناه السُّبْكِيّ وَالثَّانِي تبناه ابْن تَيْمِية- حسب تقريركم؟ أَلَيْسَ ابْن حجر يَقُول - حسب نقلكم -:" أجمع الْجُمْهُور كَانَ جَوَاز شدّ الرّحال..؟ "، أَلَيْسَ إِذا قيل: مَذْهَب الْجُمْهُور كَذَا؛ فَمَعْنَاه أَن فِي الْمَسْأَلَة مذهبين؟ فَكيف بعد ذَلِك ظهر لفضيلتكم أَن لَا شَيْء من هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَة مَذْهَب وَاحِد؟.. وَأي المذهبين يَا فَضِيلَة الشَّيْخ بدا لكم أَنه لَا وجود لَهُ؟.. هَل هُوَ مَذْهَب ابْن تَيْمِية وَمن وَافقه الَّذِي فِي سَابق تقريركم ومناقشتكم أَنه مَذْهَب شَاذ حَادث بعد مُضِيّ سَبْعَة قُرُون من تَارِيخ الْإِسْلَام؟.. أم مَذْهَب السُّبْكِيّ وَمن وَافقه الَّذِي قررتم فِيمَا تقدم من بحثكم أَنه مَذْهَب الْجُمْهُور.؟. ثمَّ أَخذ فضيلته يشْرَح وجهة نظره تِلْكَ فَقَالَ: وَتَحْقِيق ذَلِك كالآتي وَهُوَ: ماداموا متفقين على شدّ الرّحال لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ للسلام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومتفقون على السَّلَام على رَسُول الله بِدُونِ شدّ الرّحال، فَلَنْ يَتَأَتَّى لإِنْسَان أَن يشد الرّحال للسلام دون الْمَسْجِد، وَلَا يخْطر ذَلِك على بَال إِنْسَان، وَكَذَلِكَ شدّ الرحل للصَّلَاة فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ دون أَن يسلم على رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لن يخْطر على بَال إِنْسَان، وَعَلِيهِ فَلَا انكفاك لأَحَدهمَا عَن الآخر؛ لِأَن الْمَسْجِد النَّبَوِيّ مَا هُوَ إِلَّا بَيت، وَهل بَيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا جُزْء من الْمَسْجِد، كَمَا فِي حَدِيث الرَّوْضَة. ومناقشتنا لفضيلة الشَّيْخ هُنَا فِي نقاط، علما بأنني وَالله لَا أرى هَذَا الْكَلَام يسْتَحق المناقشة: 1- لماذا (متفقين.. متفقون) ، أليست الثَّانِيَة معطوفة على الأولى بِالْوَاو؟.. أَلَيْسَ التعاطف يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فِي الْإِعْرَاب؟.. 2- تَقولُونَ يَا صَاحب الْفَضِيلَة: إِنَّهُم متفقون على شدّ الرّحال لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ للسلام على رَسُول الله.. أرجوكم إِعَادَة النّظر من الْآن فِي هَذَا الْكَلَام للطبعة القادمة إِن شَاءَ الله؛ لِأَن الْوَاقِع الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْبَحْث من أَوله إِلَى آخِره هِيَ هَذِه النقطة، فَلَو كَانُوا متفقين عَلَيْهَا لم يجر شَيْء من هَذَا الْخلاف أبدا، وَلَا ألّفت مؤلفات من الْجَانِبَيْنِ، وَلَا صَار هُنَاكَ مَذْهَب لِلْجُمْهُورِ وَمذهب لغير الْجُمْهُور كَمَا قررتم، وَلَا سجن شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية، وَلَا قَامَ الْعلمَاء فِي بَغْدَاد وَغَيره للانتصار لَهُ وَالشَّهَادَة بِأَنَّهُ على الْحق، كَمَا قدمنَا نقل ذَلِك من مصادره.

بل الصَّحِيح أَيهَا الشَّيْخ أَنهم متفقون على زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أمكن ذَلِك بِدُونِ شدّ رَحل، ومتفقون على مَشْرُوعِيَّة شدّ الرّحال لزيارة الْمَسْجِد النَّبَوِيّ للصَّلَاة فِيهِ، لَا لزيارة الْقَبْر. أما شدّ الرّحال لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ للسلام فموضع خلاف وافتراق لَا مَوضِع اجْتِمَاع واتفاق. نقُول لفضيلته: مَا معنى قَوْلكُم (فَلَنْ يَتَأَتَّى) ؟ هَل معنى ذَلِك أَنه مُسْتَحِيل؟.. فَمَا وَجه استحالته؟.. أَنا نَفسِي مستعد أَن أثبت لَك أَنه مُمكن بِكُل سهولة وَيسر؛ فأنني لَا أجد أَي مَانع أَو مشكلة لِأَن آتِي عِنْد الْقَبْر الشريف وَأسلم وأنصرف دون أَن أُصَلِّي، وَدون أَن أَجْلِس؛ حَتَّى لَا تلزمني تَحِيَّة الْمَسْجِد وَدخُول الْمَسْجِد ثمَّ الْخُرُوج مِنْهُ بِدُونِ صَلَاة لَا فَائِدَة مِنْهُ، فوجوده وَعَدَمه سَوَاء، وَإِنَّمَا أفعل ذَلِك من أَجلك، حَتَّى إِنَّه يَتَأَتَّى وَغير مُسْتَحِيل كَمَا تصورت، وَكَذَلِكَ باستطاعتي أَن أَقف خَارج الْمَسْجِد، وَأسلم على رَسُول الله ثمَّ أنصرف دون أَن أَدخل الْمَسْجِد. فَإِن قُلْتُمْ: بذلك لَا تكون قد زرت وَلَا تعْتَبر قد سلمت لِأَنَّك بعيد، أجبتكم بِأَن قلت: أَرَأَيْتُم لَو أَن حَائِط الْحُجْرَة الْمَوْجُود حاليا ألصق بجدار الْمَسْجِد الشرفي وبجداره القبلي، هَل تتوقفون عَن زيارته - عَلَيْهِ السَّلَام - وَالسَّلَام عَلَيْهِ لِأَن الْقَبْر صَار بَعيدا؟.. إِن قُلْتُمْ نعم، قُلْنَا: موقفكم الْآن للسلام بعيد؛ لِأَن بَيْنكُم وَبَين الْقَبْر مَسَافَة لَيست بقليلة، بل إِن فضيلتكم قررتم أَن رد السَّلَام مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَام - يحصل لمن سلم دَاخل الْمَسْجِد، وَلم تحددوا مَكَانا معينا محدودا من الْمَسْجِد، وَالْمَكَان الَّذِي قلت إِنَّنِي أَقف فِيهِ خَارج الْمَسْجِد وَأسلم على رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أقرب إِلَى الْقَبْر الشريف من أَكثر نواحي الْمَسْجِد. تمّ يَقُول فضيلته: وَلَا يخْطر ذَلِك على بَال إِنْسَان. من الَّذِي يعلم يَا فَضِيلَة الشَّيْخ مَاذَا يخْطر فِي قُلُوب النَّاس، وعَلى بَال كل وَاحِد من بني آدم سوى خالقهم تبَارك وَتَعَالَى؟ فعلى أَي أساس بنيت هَذَا الْجُزْء الْمُؤَكّد؟.. حَتَّى وَلَو كَانَ ذَلِك كفرا يخرج من الْملَّة الإسلامية فقد خطر الْكفْر على بَال مئات الملايين من الْبشر؛ أَلَسْت ترى أَن أَكثر أَبنَاء الْمُسلمين، وَأَن الملايين من المنتسبين لِلْإِسْلَامِ قد ضيعوا الصَّلَاة، وَمنعُوا الزَّكَاة، وارتكبوا الْفَوَاحِش والمنكرات؟.. أَلَيْسَ كل وَاحِد مِنْهُم يُسمى إنْسَانا؟.. فلماذا مسألتك هَذِه لَا تخطر وَلنْ تخطر على بَال إِنْسَان؟.. أَرَأَيْت لَو علتم أَن شخصا وصل الْمَسْجِد النَّبَوِيّ قادما من مصر أَو الشَّام أَو أَي قطر من أقطار الأَرْض، وَصلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ أَو أَكثر، ثمَّ سَافر وَلم يَأْتِ عِنْد قبر النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَلَا سلم عَلَيْهِ السَّلَام الْخَاص الَّذِي يُقَال عِنْد الْقَبْر، وَلكنه يُصَلِّي وَيسلم على نبيه فِي صلَاته وَعند دُخُول الْمَسْجِد وَعند الْخُرُوج مِنْهُ وَعند ذكره وَفِي كل مُنَاسبَة؛ فبماذا تحكمون عَلَيْهِ يَا فَضِيلَة الشَّيْخ؟.. أتقولون: إِن ذَلِك لن يَتَأَتَّى، نقُول لكم: قد تأتى وَوَقع فعلا، أتقولون إِن ذَلِك لن يخْطر على بَال إِنْسَان.. نقُول لكم: خطر على باله وَوَقع مِنْهُ، أتقولون إِنَّه كفر بذلك؟.. نقُول لكم: لم يكفر، وَلم يرتكب كَبِيرَة من الْكَبَائِر وَلَا صَغِيرَة من الصَّغَائِر؛ فَمن زعم غير ذَلِك فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَدون ذَلِك الدَّلِيل خرط القتاد.

ثمَّ مَا معنى قَوْلكُم يَا فَضِيلَة الشَّيْخ: "فَلَا انفكاك لأَحَدهمَا عَن الآخر"، وَأَنْتُم تعنون إتْيَان الْمَسْجِد النَّبَوِيّ للصَّلَاة فِيهِ، وزيارة الْقَبْر الشريف، فَعدم الانفكاك هَذَا هَل هُوَ لأمر شَرْعِي أم لأمر عَقْلِي؟.. وَمرَّة أُخْرَى هَل أَخَذْتُم هَذَا الحكم من شرع الله الْمنزل على رَسُوله؟.. فلماذا لم تَذكرُوا دليلكم على مَا قُلْتُمْ، وَبِه حكمتم؟.. هَل خطابكم وبحثكم موجه إِلَى الْعَامَّة فَقَط؟ وَلَا نصيب فِيهِ لطلبة الْعلم.. إِن كَانَ كَذَلِك فقد أجحفتم يَا فَضِيلَة الشَّيْخ فِي حق طلبة الْعلم، وتجاهلتم حصتهم فِي الْفَائِدَة.. أم أَنكُمْ أَخَذْتُم هَذَا الحكم من مُقْتَضى الْعقل؟.. فَلَو تكرمتم فبينتم وَجه اسْتِحَالَة هَذَا الانفكاك من النَّاحِيَة الْعَقْلِيَّة؛ لِأَنِّي بحثت مَعَ عدد لَا بَأْس بِهِ من طلبة الْعلم فِي هَذَا الْمَوْضُوع، والتمسنا وَجه عدم الانفكاك بَين وُصُول الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وَالصَّلَاة فِيهِ، وَبَين زِيَارَة الْقَبْر النَّبَوِيّ؛ بحثنا ذَلِك من النَّاحِيَة الشَّرْعِيَّة وَمن النَّاحِيَة الْعَقْلِيَّة؛ فَلم يظْهر لنا شئ من ذَلِك.

الخلاصة

الْخُلَاصَة: وخلاصة القَوْل هُنَا أَن فَضِيلَة الشَّيْخ أَرَادَ أَن يقْضِي على مشكلة طالما استثارت النقاش والجدال بَين المتمسكين بِالسنةِ المتقيدين بالنصوص الشَّرْعِيَّة- خَاصَّة فِي أُمُور الْعِبَادَات - من جَانب، وَبَين غَيرهم مِمَّن تهاونوا فِي أَمر الْبدع وتساهلوا مَعهَا، بل وحاولوا أَن يجْعَلُوا من بعض الْبدع سننا يلْزم النَّاس بهَا، ويهاجمون ويتهمون إِذا لم يقبلوها أَو طولبوا بِالدَّلِيلِ على أَنَّهَا من دين الْإِسْلَام - من جَانب آخر. أَرَادَ الشَّيْخ أَن يقْضِي على هَذِه المشكلة، وَيُوجد الرَّأْي تجاه تِلْكَ الْمَسْأَلَة بجرة قلم، وبكلمات لَا تبلغ الْعشْرَة أسطر، وَنحن نقُول: بَارك الله فِيك، وَنحن من ورائك ضد الْخلاف وضد أَسبَابه، وَلَكِن بِشَرْط - يَا فَضِيلَة الشَّيْخ - أَن يكون الْمَذْهَب المقبول الَّذِي نَبْنِي عَلَيْهِ هُوَ الْمَذْهَب المتمشي مَعَ السّنة، وَالَّذِي عَلَيْهِ سلف الْأمة، وَلَو لم يكن هُوَ الْمُوَافق لعواطف الْعَامَّة وَالْمُنَاسِب لأذواقهم. وَيَقُول الشَّيْخ حفظه الله: لِأَن الْمَسْجِد مَا هُوَ إِلَّا بَيته - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَهل بَيته إِلَّا جُزْء من الْمَسْجِد؟ كَمَا فِي حَدِيث الرَّوْضَة: " مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة".. ثمَّ قَالَ: فَهَذِهِ قُوَّة ربط بَين بَيته ومنبره فِي مَسْجده. وَهنا نناقش فضيلته فَنَقُول: الْمَسْجِد النَّبَوِيّ لَيْسَ هُوَ بَيت الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ بَيت الله وَمَسْجِد رَسُوله، وَبَيت الْإِنْسَان غير مَسْجده، وبيته - عَلَيْهِ السَّلَام - لَيست جُزْءا من الْمَسْجِد لَا قبل وَفَاته - عَلَيْهِ السَّلَام - وَلَا بعد وَفَاته وَدَفنه فِيهِ، فداؤه آبَاؤُنَا وَأُمَّهَاتنَا وأنفسنا وأبناؤنا، مَاذَا لَو كَانَ الْأَمر كَمَا زعم لَكَانَ الرَّسُول وصاحباه مدفونين فِي الْمَسْجِد، وَهل يجوز دفن الْأَمْوَات فِي الْمَسَاجِد واتخاذها مَقَابِر؟.. أبعد الله ذَلِك الْيَوْم الَّذِي تصبح فِيهِ مَسَاجِدنَا مَقَابِر، مِثْلَمَا وَقع فِي بعض الْبِلَاد الْأُخْرَى، وَلَو كَانَ بَيته جُزْءا من الْمَسْجِد مَا سَاغَ أَن يَقع فِيهِ مَا لَا يَلِيق بالمساجد كقضاء الْحَاجة؛ إِذْ الْمَسَاجِد لَا يَلِيق بهَا إِلَّا الْعِبَادَة من صَلَاة وتلاوة وَذكر، وَمَا يمت إِلَى ذَلِك بصلَة من مدارسة علم وَبحث شؤون الْمُسلمين

وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُقيم قي بَيته مَعَ أَهله لَيْلًا وَنَهَارًا وَيَقْضِي حَاجته، وَلَا يفعل هَذَا فِي جُزْء من الْمَسْجِد، وَكَانَ - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- إِذا اعْتكف خرج من بَيته وَدخل الْمَسْجِد؛ فَلَو كَانَ بَيته جُزْءا من الْمَسْجِد كَمَا زعم فَضِيلَة الشَّيْخ لما احْتَاجَ- عَلَيْهِ السّلم- إِلَى أَن يتْرك الْبَيْت من أجل الِاعْتِكَاف. أما إِن كَانَ قصدكم بعد وَفَاته وَدَفنه – عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -، وَبعد إحاطة الْمَسْجِد بالحجرة بِعَمَل وتدبير حَاكم لم يُرَاجع الشَّرْع، وَلم يستثر عُلَمَاء الْأمة الإسلامية فِي عمله هَذَا - وَهَذِه من الْأَدِلَّة العديدة الَّتِي عرفنَا مِنْهَا أَنكُمْ تعتبرون الْوَاقِع دَلِيلا على الشَّرْع، مَعَ أَن الْوَاجِب أَن يُقَاس الْوَاقِع بِالشَّرْعِ؛ فَإِن أقره وَوَافَقَهُ فَهُوَ شَرْعِي وَإِلَّا فَهُوَ عمل بَاطِل يَنْبَغِي رده وَالْقَضَاء عَلَيْهِ - إِن كَانَ ذَلِك هُوَ قصدكم - يَا فَضِيلَة الشَّيْخ - فَنحْن نفيدكم أَن الْحُجْرَة لَا تزَال وَلنْ تزَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَيست من الْمَسْجِد وَلَا جُزْءا من أَجْزَائِهِ؛ لِأَن فِي داخلها مَقْبرَة، والمقبرة لَا تكون مَسْجِدا شَرْعِيًّا أبدا، وَالصَّلَاة فِيهَا بَاطِلَة بِنَصّ الحَدِيث النَّبَوِيّ الصَّحِيح بل إِن من اتخذ الْمقْبرَة مَسْجِدا فَهُوَ مَلْعُون على لِسَان سيد الْخلق مُحَمَّد بن عبد الله عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم التَّسْلِيم. أما استدلالكم بِحَدِيث الرَّوْضَة على أَن الْمَسْجِد هُوَ نَفسه بَيت الرَّسُول، وَأَن بَيت الرَّسُول جُزْء من الْمَسْجِد فَأنْتم باستدلالكم هَذَا كمن يحاول أَن يَجْعَل من خيوط العنكبوت أربطة للسفن الْكَبِيرَة حَتَّى لَا تذْهب بهَا أمواج الْبحار. أَلا تعلم يَا فَضِيلَة الشَّيْخ أَن الْغَايَة لَا تدخل فِي المغيَّى؟.. إِنَّنِي أفهم من حَدِيث: "مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة" أَن الْمَوْصُوف هُوَ المساحة الْوَاقِعَة ابْتِدَاء بجدار الْمَسْجِد الملاصق للحجرة وانتهاءً بالمنبر، والمنبر يدْخل فِي تِلْكَ المساحة الموصوفة؛ لِأَنَّهَا تحيط بِهِ لصِغَر حجمه ولوجوده دَاخل الْمَسْجِد، وَقد لَا يدْخل الْمِنْبَر، الله أعلم؛ لَا نجزم بِهَذَا قطعا وَلَا بِهَذَا قطعا، وَإِنَّمَا نقُول مَا يتَرَجَّح فِي نَظرنَا وَالْعلم عِنْد الله. وَقَالَ الشَّيْخ: "وَمن نَاحيَة أُخْرَى هَل يسلم أحد عَلَيْهِ - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- من قريب؛ لينال فضل رد السَّلَام مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَام - إِلَّا إِذا كَانَ سَلَامه عَن قرب وَمن الْمَسْجِد نَفسه". نقُول يَا فَضِيلَة الشَّيْخ: هَذَا كُله من تخيلاتك وتصوراتك الْخَاصَّة وَلَا مُسْتَند لَهُ من شرع وَلَا من عقل، وَقد أجبنا على هَذَا مفصلا فِي مَا تقدم من هَذَا الْبَحْث فَلَا دَاعِي لتكراره. تمّ قَالَ الشَّيْخ: "وَهل تكون الزِّيَارَة سنية إِلَّا إِذا دخل الْمَسْجِد وَصلى أَولا تَحِيَّة الْمَسْجِد؟.." نقُول: إِن أردْت زِيَارَة الْمَسْجِد فَأَنت صَادِق، وَالْوَاقِع كَمَا قلت، لَا تكون الزِّيَارَة سنية شَرْعِيَّة إِلَّا إِذا دخل الْمَسْجِد وَصلى فِيهِ، أما مُجَرّد أَن يصل الْمَدِينَة ثمَّ يرجع دون أَن يدْخل الْمَسْجِد وَيُصلي فِيهِ؛ لَا يعْتَبر ذَلِك قد زار الْمَسْجِد وَلَا يعد مُنْتَفعا بِتِلْكَ الزِّيَارَة.

إِمَّا إِن كُنْتُم تعنون بالزيارة السّنيَّة زِيَارَة الْقَبْر، وَأَنَّهَا لَا تكون سنية إِلَّا بِأَن يدْخل الْإِنْسَان الْمَسْجِد فَيصَلي ثمَّ يزور؟.. فَمن هُوَ الَّذِي وضع هَذِه السّنة؟.. هَل علمهَا الرَّسُول- صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أَصْحَابه فِي حَيَاته؟.. فَقَالَ: إِذا أَنا مت فادفنوني فِي الْمَكَان الْفُلَانِيّ ثمَّ زوروني وسلموا عَليّ، وَإِذا وصلتم الْمَدِينَة فادخلوا الْمَسْجِد أَولا ثمَّ صلوا كَذَا وَكَذَا، ثمَّ توجهوا إِلَى قبرى للزيارة والسّلام؟.. هَل قَالَ الرَّسُول ذَلِك ... دلونا على الْمرجع الَّذِي روى فِيهِ هَذَا الحَدِيث من كتب السّنة، وَلكم ألف شكر. أم هِيَ سنة تقررت بعد وَفَاته - عَلَيْهِ السَّلَام- فَمن الَّذِي قررها بِاللَّه عَلَيْكُم؟.. وَهل لأحد بعد رَسُول الله وَبعد انْقِطَاع الْوَحْي من قبل السَّمَاء أَن يسن فِي الدّين سننا ويقرر شرائع؟.. لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. رُبمَا يَقُول الشَّيْخ: نعم، الْخُلَفَاء الراشدون لَهُم أَن يشرعوا بعد الرَّسُول - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - بِدَلِيل "عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي" الخ.. إِن قَالَ ذَلِك قُلْنَا أَولا الْخُلَفَاء الراشدون مَا ثَبت عَنْهُم تشريع شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر، وَلَا بقَوْلهمْ وَلَا فعلهم، وَثَانِيا هم لَا يشرعون من عِنْد أنفسهم وَلَكِن المُرَاد بسنتهم طريقتهم وهديهم فِي الِاجْتِهَاد فِي فهم نُصُوص الشَّرْع وَتَقْرِير الْأَحْكَام المستمدة من نُصُوص الْوَحْي وسياستهم للدولة الإسلامية فِي أَحْوَال حربها وَسلمهَا وَسَائِر أحوالها، وَلذَلِك خصّ الْخُلَفَاء دون غَيرهم مِمَّن قد يكون فِي مستواهم علما وصلاحا. تمّ قَالَ الشَّيْخ: "وَبِهَذَا فَلَا انفكاك لشد الرّحال إِلَى الْمَسْجِد عَن زِيَارَة الرَّسُول- صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَلَا لزيارته عَن الْمَسْجِد؛ فَلَا مُوجب لهَذَا النزاع". وَنحن نقُول لفضيلته: إِن الَّذين تنارعوا أعلم بدين الله، وَلَو أَن النزاع لَفْظِي - كَمَا توهمتم - لما تنازعوا، وَلَكنهُمْ فَهموا فِي الْمَوْضُوع غير مَا فهمتم فضيلتكم، وَمن ضمن مَا فَهموا "إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى.." الخ الحَدِيث؛ لهَذَا قَالَ مَنْ لَا يرى جوَار شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور: إِن من جمع فِي نِيَّته زِيَارَة الْمَسْجِد وزيارة الْقَبْر فقد جمع بَين مَشْرُوع وممنوع، وَمن ثمَّ لَهُ أجر الْمَشْرُوع وَعَلِيهِ إِثْم الْمَمْنُوع، وَلم يوافقوكم على أَن الْمَمْنُوع يشْتَرك مَعَ الْمَشْرُوع فيؤجر على الْجَمِيع، بل هَذَا فهمكم الْخَاص، وَلِهَذَا قُلْتُمْ. فَلَا مُوجب لهَذَا النزاع. أما الَّذين يوافقونكم على أَنه لَا دَاعِي وَلَا مبرر للنزاع فِيهِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لمن سَافر نَاوِيا زِيَارَة الْمَسْجِد النَّبَوِيّ للصَّلَاة فِيهِ، وَلم يدْخل فِي نِيَّة سَفَره زِيَارَة الْقَبْر، وَبعد أَن يصل إِلَى الْمَسْجِد وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ أَو أَكثر يتَوَجَّه إِلَى الْقَبْر، فَتكون بداية نِيَّة زِيَارَة الْقَبْر بعد وُصُول الْمَسْجِد وَالصَّلَاة فِيهِ؛ حَتَّى لَا يكون لَهَا نصيب من السّفر الْبعيد وَشد الرّحال؛ هَذِه الصُّورَة هِيَ الَّتِي لَا مجَال للنزاع فِيهَا، وفعلا لم يحدث وَلم يحصل فِيهَا نزاع بَين ابْن تَيْمِية وخصومه، أما من قبلهم فقد بَينا مَذْهَبهم.. وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.

§1/1