صب الخمول على من وصل أذاه إلى الصالحين من أولياء الله

ابن المِبْرَد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«صَبُّ الخمُولِ عَلَى مَنْ وَصَل أَذَاهُ إلَى الصَّالِحِينَ مِنْ أوْلِيَاء اللهِ»

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 8 - 17 - 418 - 9933 - 978 lSBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الُّلبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوادِرِ الكُوَيْتِيَةٍ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م نُورُ الدِّيْن طَالِب المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفيذي

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه، ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه. أمّا بعد: فقد روى البخاريُّ في "صحيحه" من حديثِ أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله قال: مَنْ عَادى في ولياً فَقد آذنتُه بالحَربِ ... " الحديث، وقيل في هذا الحديث: إنَّه أشرفُ حديثٍ في ذِكْرِ الأولياء، فأولياءُ الله تعالى تجبُ موالاتُهم، وتَخرُمُ معاداتُهم، كما أنَّ أعداءَه تجب معاداتُهم، وتحرُمُ موالاتُهم، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}؛ فاللهُ تعالى يتولَّى نُصْرَة أوليائه، ويحبُّهم ويؤيِّدهم، فَمَنْ عاداهم فقد عادى الله تعالى وحَارَبَه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 360).

وفي هذا ألَّفَ الإمامُ يوسفُ بنُ عبدِ الهادي كتابَه اللطيف: "صَبُّ الخُمولِ على مَنْ وصل أذاه إلى الصالحين مِنْ أولياء الله"، ذاكراً خِصَالهم وصِفَاتِهم، محذَراً فيه مِنَ الوقيعة فيهم بقولٍ أو فعل، وأوردَ فيه من قصصِ الصالحينَ والأولياءِ وحكاياتِهم مما يُسَرِّي عن كثيرٍ من أهل الخير والصلاح، ومعرِّفاً فيه ما أوجبَ لهم الفَضْلَ والفلاح، ونَثرً فيه حكاياتِ مَنْ تَعَرَّضَ للصالحين بالأذى والظُلم، وكيف أخملَ اللهُ ذِكْرهُم، وأمَاتَ صِيْتَهم، وقَطَع نَسْلَهم. إذا رأيتَ ذَوي بَغْي فَقُلْ لهم ... ستندمونَ وحَاذِرْ أَنْ تُساكِنَهم فمِثْلُهم في الوَرى كانُوا جَبابرةً ... (فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم) * * * هذا وقد تمَّ -بفضل الله تعالى- الوقوفُ على النسخةِ الخطية الفريدة لهذا الكتاب، وهي النسخةُ المحفوظةُ بدار الكتب الظاهرية بدمشق تحت رقم (1141)، وهي بخطِّ المؤلف المعروف بغرابة الشكل، وصعوبة القراءة، وقلَّة الإعجام، وتقع في (83) لوحة. * * * * هذا وقد تمَّ تحقيق هذا الكتاب وفق الخطة الآتية: 1 - نسخُ الأصلِ المخطوط اعتماداً على النسخة الخطية المُشار إليها، وذلك بحسب رسم وقواعد الإملاء الحديثة.

2 - معارضةُ المنسوخٍ بالمخطوط؛ للتأكُّد من صحة النص وسلامته. 3 - عزو الآيات القرآنية بذكر اسمِ السُّورة ورقم الآية، وجعلها بين معكوفتين في صُلْب النص، وإدراجها برسم المصحف الشريف. 4 - تخريج الأحاديثِ النبوية الشريفة تخريجاً لائقاً بخدمة النَّصِّ المحقق. 5 - توثيقُ الآثار والحكايات التي نقلها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في ثنايا الكتاب. 6 - كتابة مقدمةٍ للكتاب مشتملة على ترجمة مختصرة للمؤلف، وتَقْدمة موجزة عن الكتاب. هذا وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم. حَرَّرَهُ نُورُ الدِّين طَالِب 17 / صفر/ 1432 هـ 22/ 1 / 2011 م

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف (¬1) * هو الإمام يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي المقدشي الأصل، الدمشقي المولد، الحنبلي المذهب، المعروف بـ: "ابن عبد الهادي"، والملقب بـ: "ابن المِبْرَد". * ولد سنة (841 هـ) في أول يوم منها، وقد نشأ في بيئة علمية معروفة، فتفقه على أبيه وجده، وسمع عليهما الحديث. وكان ملازماً للعلماء والصالحين؛ فحفظ "المقنع" لابن قدامة ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: * "السحب الوابلة" لابن حميد (3/ 1166). * "النعت الأكمل" للغزي (ص: 68). * "شذرات الذهب" لابن العماد (8/ 43). * "مختصر طبقات الحنابلة" للشطي (ص: 74). * "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 1141). * "مقدمة ثمار المقاصد" للدكتور أسعد طلس. * "الإمام يوسف بن عبد الهادي الحنبلي وأثره في الفقه الإسلامي" للدكتور محمد عثمان شبير. * "الإمام يوسف بن عبد الهادي وآثاره الفقهية" للدكتور صفوت عبد الهادي.

على عدد من العلماء، وقرأ على مشايخ أكثر "صحيح البخاري"، و"مسند الحميدي"، و"الدارمي"، وغيرها. * "فمن مشايخه الذين قرأ وحفظ عليهم: الشيخ علاء الدين المرداوي صاحب "الإنصاف"، وتقي الدين ابن قندس صاحب الحاشية المشهورة على "الفروع"، وزين الدين أبو الفرج ابن الحبال، وغيرهم. * وقد تخرج على يديه جماعات من التلامذة؛ الذي صاروا فيما بعد أعلاماً كباراً؛ كـ: ابن طولون، وعبد القادر النعيمي، وغيرهما. * أثنى عليه جماعة من أهل العلم، ووصفوه بالإمامة والحفظ والإتقان: قال فيه تلميذه ابن طولون: "هو الشيخ الإمام، علم الأعلام، المحدث الرحالة، العلامة الفهامة، العالم العامل، المتقن الفاضل". وقال فيه ابن العماد: "كان إماماً علامة، يغلب عليه علم الحديث والفقه، ويشارك في النحو والتصريف والتفسير، وله مؤلفات كثيرة". وقال الشطي: "أجمعت الأمة على تقدمه وإمامته، وأطبقت الأئمة على فضله وجلالته". * ترك الإمام ابن عبد الهادي كتباً كثيرة بلغت أسماؤها مجلداً، كما قال ابن طولون، ومن أهم تلك الكتب: 1 - "جمع الجوامع في الفقه على مذهب الإمام أحمد" في ثلاثة وسبعين مجلداً، غالبه مفقود.

2 - "الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي". 3 - "مغني ذوي الأفهام" في الفقه. 4 - "هداية الإنسان إلى الإستغناء بالقرآن". 5 - "إرشاد المسالك إلى مناقب مالك". 6 - "الدر النفيس في أصحاب محمد بن إدريس". 7 - "محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب". 8 - "زيد العلوم وصاحب المنطوق والمفهوم". 9 - "معارف الإنعام وفضل الشهور والأيام". 10 - "زينة العرائس من الطرف والنفائس". * توفي -رَحِمَهُ اللهُ- بصالحية دمشق، سادس عشر المحرم، من سنة تسع وتسع مئة، وصلي عليه بجامع الحنابلة، ودفن بسفح جبل قاسيون -رَحِمَهُ اللهُ-، ورضي عنه.

صُوَر المَخْطُوْطَاتْ

صورة غلاف النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

«صب الخمول على من وصل أذاه إلى الصالحين من أولياء الله» تأليف الإمام يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي الدمشقي الحنبلي المولود سنة 841 هـ - والمتوفى سنة 909 هـ رحمه الله تعالى بعناية لجنة مختصة من المحققين بإشراف نور الدين طالب

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهُوَ حَسْبِي الحمدُ لله المنتصرِ لأوليائه، المنتقمِ ممَّنْ عاداهم بأنواعِ بلائهِ. أحمدُه على جزيلِ عطائهِ، وأشكرُه على كثيرِ نَعمائِهِ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شهادة تجعلُنا من أحبابِه وأصفيائِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صَلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحابِه وأزواجِه وأبنائِه، وسَلَّمَ تسليماً. أمّا بعد: فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- اختار صفوةً من خلقه، فأحبَّهم وأحبُّوه، ورضيَهم لنفسه فعبدُوه وأطاعوه، فإنْ سألوه أعطاهم، كان توجَّهوا إليه مَنَّاهم، وإن أشرفوا على رياضِ قدسِه حَيَّاهم، فهم هم، وليس غيرُهم إياهم.

مدح الأولياء والصالحين في كتاب الله، وكونهم من خواص الله وأحبابه

* - مدحَهم في كتابه، وجعلَهم من خواصِّه وأحبابه، فإذا تأملْتَ غالبَ القرآن، وجنتَه في مدحِهم ووصفِهم، وذمِّ أعدائِهم وحزبِهم، فمَنْ والاهم والاه، ومن عاداهم عاداه، فإبليسُ حين أبغضهم قلبُه، أقصاه ربُّه، وذمَّه هو وحزبُه. فتأمَّلْ إلى الفريقين، وما ذكره الله فيهما من مدح وذمٍّ، وموالاةٍ ومعاداةٍ، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} يذلهم ويهينهم، {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} وإن كثرت، {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} وإن قويت {مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} لمَّا أطاعوه واتبعوه {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ}، فلم يكن لهم في الله نصيب، ولا له فيهم حبيب، {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} في الدنيا والآخرة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} جعل الله لهم الذلة في الدنيا والآخرة، {كَتَبَ اللَّهُ} في كتابه قبل خلقه {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} لجميع من عادانا {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} على كل أحد من خلقه {عَزِيزٌ} [المجادلة 14: 21] لا يصل إليه أحد منهم بأذى. ثم انتقل إلى وصف أوليائه، فقال: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: يحبونهم {وَلَوْ كَانُوا

آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}؛ لأن قلوبهم مع الله واقفة، لا يحبون إلا من أحبَّ، ويُبغضون من أبغض، فليست قلوبُهم مع إرادتهم وشهوتهم، {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}، فلا يدخله غيرُ مراد الله، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}، فلم يتمكن منهم عدو، {وَيُدْخِلُهُمْ} في الآخرة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في جواره {خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} في الدارَيْن {وَرَضُوا عَنْهُ} فيهما، فهم مطبوعون على الرضا بقدر الله، ليس لهم شهوةٌ غيرُ ما قضى لهم وَقدَّرَ {أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. فدونك الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ فإن هذه الآيات قد احتوت على الفريقين، فَزِنْ نفسَك بهذا الميزان، واعتبرها بهذا الاعتبار، فإن رأيتها من حزب الله وأوليائه، تؤمن بالله ورسوله صادقة، وتقرب مراده على مرادها، ولا توادُّ مَنْ حاربه وعصاه، ولو كان والداً أو ولداً أو أخاً، ولا تحبّ إلا لَهُ، ولا تبغض إلا له، فأنت من حزبه. وعلامةُ حبه كثرةُ ذكره. وإن وجدتها قد نسيت ذكرَ الله وأهملته، ووالت من لا يحب الله ورسولَه، وقدمت مالك وولدك وزوجتك وإخوتك وعشيرتك، ومرضاتهم على مرضاة ربك، فإياك إياك. وقال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]

الفرق بين حزب الله وحزب الشيطان في القرآن، وأن العاقبة لحزب الله

* فتأمل القرآنَ جميعَه، تجن فيه الفرقَ بين حزبِ الله، وحزب الشيطان، وتجدِ العاقبةَ لحزب الله. تأمل حالَ نوحِ وقومه، وحالَ إبراهيمَ وضعفِه، والنمرودِ وقوته، وكانت العاقبةُ له، وكيف ترك أباه وقومَه لرضا الله، حتى إنه عزم على ذبح ولده لله، وإنما ابتلاه الله بذلك حين سكن قلبُه لأدنى شيء من محبته، فأراد الله أن يخرج محبته من قلبه. وانظر إلى موسى وفرعونَ، وانظر حال محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أخرجه وحده، وكان [لو أراد] قهر به جميع ملوك الدنيا. قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]. * فليس عليهم خوفٌ، لا في الدنيا؛ لأن الله معهم، وناصرُهم، ولا هم يحزنون، لا في الدنيا على ما فاتهم، ولا في الآخرة؛ لأنه ليس ثَمَ فيها حزن. أخبرنا الجماعة، وأنا ابن الزَّغبوبِ: أنا الحَجَّارُ: أنا ابن الزَّبيديِّ: أنا السِّجْزِيُّ: أنا الداوديُّ: أنا السَّرَخْسِيُّ، أنا الفِرَبْرِيُّ: أنا البخاريُّ: ثنا خالدُبن مخلدٍ: ثنا سليمانُ بن بلالٍ: حدثني شريكُ بن عبد الله بن أبي نمرٍ، عن عطاءِ بن يسارٍ، عن أبي هريرةَ، قالَ: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِياً فَقَن آذَنْتُهُ بِالحَربِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبْتُهُ، كُنْتُ

سَمْعَهُ الَّذِيِ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيِ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَفشِي بِهَا، فَإِنْ سَأَلنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّنتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" (¬1). ومن هذه الحيثية -حيثُ دخلَ من القوة الربانية الناشئة عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-، المستمدة عظمة قدرة الله - قَدَّمَ سلطانُ أولياءِ الله أكثرَ من غيره؛ بكونه صار الرأسَ للكثير، وتحقَّقَ ذلك، قال -تعظيماً للسر الإلهي-: قَدَمي هذه على رقبة كلِّ وَلِيٍّ لله (¬2). ولما أُلقي إبراهيمُ في النار، طفأها نورُ الإيمان، وما سكن جسدُه منه، ولهذا وردَ في بعض الآثار: أن النارَ قالت: يا ربِّ! لو عصيتكم، بم كنت تعذبني؟ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6137). (¬2) قال الحافظ ابن حجر في "الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع" (ص: 99) في قول الإمام عبد القادر الجيلاني المنقول عنه ما معناه: "منزلة الشيخ -تغمده الله تعالى برحمته- في العلم والعمل والمعرفة في أعلى الدرجات، وأما المقالة التي نقلت عنه، فإن ثبت أنه قالها فليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بأهل عصره، والمراد بالقدم: الطريقة، ولا شك أن طريقته بالنسبة لمن كان في عصره أمثل الطرق، ولأنه كان متحققاً بالعلم والعمل، متصفاً باتباع طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين في الإعتقاد، ومن نقل عنه خلاف ذلك لم يقبل منه. ونقل ابن العماد في "شذرات الذهب" (4/ 200) عن الحافظ ابن رجب أنه قال: أحسن ما قيل في هذا الكلام ما ذكره السُّهْرَوردي في "عوارفه": أنه من شطحات الشيوخ التي لا يقتدى بهم فيها، ولا تقدح في مقاماتهم، ومنازلهم، فكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم.

قال: بناري الكبرى. قالت: يا رب! ولك نارٌ أكبر مني؟ قال: نعم، نار محبتي، أُسْكِنُها قلوبَ عبادي المؤمنين. ولهذا ورد: أن النار تقول للمؤمنين يوم القيامة: يا مؤمن! جُزْ، فقد أطفأ نورُكَ لَهِبي (¬1). فنورُ الإيمان يطفئُ نارَ الشياطين، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100]. وقال -عَزَّ وَجَلَّ- عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]. ولما أُلقي إبراهيمُ في النار، قال: حَسْبِيَ الله ونعمَ الوكيلُ، فطفئت؛ لأنها خلق الله، لا تفعل شيئاً إلا بأمره. قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69، 70]. وهذه الكلمةُ قالها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما خُوِّف بالناس؛ كما قال الله- عز وجل-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174]. ولما ضرب موسى البحر بالعصا، وكان بها السرُّ الإلهي، انفرق ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 258) عن يعلى بن منية -رضي الله عنه-.

البحرُ له، ولم يلتئف بعضُه على بعض، فلما دخلَه فرعونُ بالقوة الشيطانية، لم يمسكه، فالتأم عليه، فقتله. تجبَّرَ النمرودُ، وتكبر على إبراهيم، وأراد قتلَه بكبير قدرته الضعيفة، فعجز، وقتله الله بأصغر مخلوقاته وأضعفِها. وفرعونُ افتخر بنهر ما أجراه، مما أجراه، فقتله الله به. خالدُ بن سنان بالقوةِ الإلهية جعل يضرب النارَ الشيطانيةَ بيده، ويقول: يداً يداً كل حق لله مُؤَدّى، أنا عند الله الأعلى. فطفت يدُ الإيمان ونورُه نارَ الشيطان. العلاءُ بن الحضرميِّ، وسعدُ بن أبي وَقَّاصٍ حين مَشَيا بالجيوش والعساكر على البحر بالقوة الإيمانية، لم يغرق [...] كسرى تكبر بعساكره، وتجبر ومَزَّق كتابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فمزقه الله كُلَّ مُمَزَّق، حتى آخرَ الأمر طلبَ المصالحةَ على أن تؤخذ غالبُ بلاده. و [.....] عنه حتى قال: أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم؟! فأجابه: [......] الإيمان، بلغة الأعاجم، [......] لا يكون بيننا وبينكم صلح أبداً حتى نأكل أترج وكوثى بعسل وفريذين. فقال: واويلاه! إن الملائكة لتتكلم على ألسنتهم، ثم لم يزل يهرب إلى أن اختفى قعر أرض، فقتل هنالك. خالدُ بن الوليدِ حين أصاب سيفَه طرفٌ من الأنوار الإلهية، قيل له: سيفُ الله، فما سلَّه على أحد إلا عليه نور الإيمان.

عمرُ كان الشيطانُ يهربُ منه (¬1)، ويَفْرَق منه، فما لقيَه في طريق، إلا وسلك غيرَهُ. لمَّا ضرب الزبيرُ بن العوامِ شجاعاً فارساً، تلبس اللبوسَ المنيعةَ والحديد، وعيره [....] بلبسه، ثم بفرس ولبسه، ثم خدت الأرض، فقيل له: ما أحدَّ سيفَكَ! فغضبَ، يشير: إن العمل ليده لا لسيفه، فكان ذلك بقوة الإيمان. افتخر بعضُ ملوك الروم بعِلْجِ عنده ما ضرب شيئاً بيده إلا وقتلَه، فبرز له بعضُ غلمانِ المسلمين، فثبت له، فضربه، فلم يقتله، ثم ضربه المسلمُ بيده الصغيرة الحقيرة، فقتله. أخبرنا جماعةٌ ومن شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا الصيدلانيُّ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا أبو نعيمٍ: ثنا أبو إسحاقَ بن إبراهيم بن محمدِ بن حمزةَ: ثنا أبو عبيدةَ محمدُ بن أحمدَ بن المؤمِّل، قال أبو نعيمٍ: وثنا إبراهيمُ بن عبد الله بن إسحاقَ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ السراجُ، قالا: ثنا محمدُ بن عثمانَ بن كرامةَ: ثنا خالدُ بن مخلدٍ، عن سليمانَ بن بلالٍ، عن شريكِ بن عبد الله بن أبي نمرٍ، عن عطاءٍ، عن أبي هريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: مَنْ آذَى لِي وَلِيّاً، فَقَد آذَنْتُهُ بِالحَربِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَاءِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يتقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَكُنْتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "منها".

عاقبة من ينال أولياء الله بسوء

بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَلَئِنْ سَأَلنِي عَبْدِي، أعطَيْتُهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي، أَعَذْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَكْرَهُ أَنَا إِسَاءَتَهُ، أَوْ مَسَاءَتَهُ" (¬1). وهكذا رأيتُه في "صحيح البخاري" في نسخة مغربية قديمة، وليس فيها: "فإذا أَحببتُه" (¬2). * فإياكَ إياكَ أن تنالَ أحداً من أولياء الله بسوء، فيعاديَك، فَيُؤْذِنَكَ بالمحاربة، فتقعَ معه فيما لا قدرةَ لك على دفعه عن نفسك بالجنود. الحذارَ الحذارَ، التوقِّي التوقِّي، لا تهلكْ نفسَك، لا يغرَّكَ الشيطانُ بالقوة الشيطانية، ولا تغترَّ بجنودِك وأعوانِك، وعساكرِك وإخوانِك. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 249]. كَم من جَبَّارٍ تجبر، فبنى الحصونَ والدساكر، وجمعَ الجنودَ والعساكر، فما دفعت عنه الحصونُ التي بنى، وجف بها أنهاره والعساكر. يا مجنون! أفق لنفسك، واعرف من أنت. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 4). (¬2) رواه البخاري (6137) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفيه: "فإذا أحببته".

أخبرنا القاضي أبو حفص: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا القاضي أبو أحمدَ محمدُ بن أحمدَ: ثنا الحسنُ بن عليٍّ: قرئ على أبي موسى محمدِ بن المثنى، قال: وثنا محمدُ بن الحسينِ بن سلمةَ بن أبي كبشةَ: أن أبا عامرٍ العقديَّ حدثهما: ثنا عبد الواحدِ بن ميمونٍ، عن عروةَ، عن عائشةَ، قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يروي عن ربِّه -عَزَّ وَجَلَّ-، قال: "مَنْ آذَى لِي وَلِيّاً، فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي" (¬1). فيا من استحلَّ محاربةَ ربِّه وخالقِه، ومن يقدرُ على هلاكه بقوله: مُتْ، فيموت، وذُبْ، فيذوب، وليسَ يقدرُ هو معه على شيء بالكلية! ما أقلَّ عقلَكَ، وما أتعسَكَ! تأمَّلْ حالك، فينه كيف أرادَ أحالَكَ، ولا تُدخل نفسَك في محاربةِ ربِّك بأن تضرَّ أحداً من أوليائه، أو تعادِيَه، أو تقعَ فيه في وجه من وجوه الأذى، حتى ولا بكلمة، فيكونَ ذلك سبَب هلاكِك وتعسِك في الدنيا والآخرة، فكف من واحدٍ أخمل نفسه بمثل ذلك! أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا أبو جعفرٍ، أنا أبو أبو عليّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا يحيى بن أيوبَ: ثنا سعيدُ بن أبي مريمَ: ثنا ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 5).

نافعُ بن يزيدَ: حدثني عياشُ بن عياشٍ، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن زيدِ بن أسلمَ، عن أبيه، قال: وجد عمرُ بن الخطابِ معاذَ بن جبلٍ قاعداً عندَ القبرِ يبكي، فقال له عموُ: ما يبكيك؟ قال: يبكيني شيء سمعتُه من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءِ الله، فَقَن بَارَزَ الله بِالمُحَارَبَةِ" (¬1). فإياكَ أن تبارزَه بالمحاربة، فتقعَ فيما لا قدرع لك ولا لأحدٍ على دفعه، ولهذا قال الحافظُ أبو نعيم: كيف تستجيزُ نقيصةَ أولياءِ الله، ومؤذيهم يُؤْذِنُ بمحاربةِ الله؟! (¬2). فهذا المقام صانَ هذا الحافظَ من الخمولِ دَهْرَهُ، وأَعلى في الدارين قَدْرَهُ، ونشر في الخلق ذِكْرَهُ. ووقوعُ الخطيب في كثيرٍ من الأخيارِ والفحول أوجبَ له الخمول، نعوذ بالله من ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 5). (¬2) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 4). (¬3) بل الخطيب البغدادي -رَحِمَهُ اللهُ- قد طار ذكره في الآفاق، ولا شبهة عند كل لبيب أن المتأخرين من أصحاب الحديث عيال على أبي بكر الخطيب- كما قال ابن نقطة-. وقد أثنى عليه جمع غفير من كبار العلماء؛ كالسمعاني، وابن ماكولا، وابن خلكان، وابن الأثير، والذهبي، وغيرهم. وما أحلى قول السبكي فيه كما في "طبقات الشافعية الكبرى"-: " فما طاف سورُها -يعني بغداد- على نظيره، يروي عن أفصح من نطق بالضاد، ولا أحاطت جوانبها بمثله، كان طفح ماء دجلتها وروّى كل صاد". أما ما انتقده عليه بعض العلماء من الوقوع في بعض الأئمة، فقد ذكر الخطيب =

خدمة الصالحين ومجالستهم

فكُفَّ يَدك ولسانك وقلبك وجميعَ جوارحك عن أولياء الله، وإياكَ أن تُهلك نفسك في الدارين، وتُخرقها بالنارين، فتوجبَ لها العارَيْن، فليس بعد ذلك [...] وليس معه قرةُ عين، هذا لعمرُكَ الصَّغَارُ بعينِه. فمَنْ عاداهم هلَكَ، وانعطِفْ حيثما سلك، ولو جلسَ في قُبَّهِ الفلك. ومَنْ والاهم سَلِم، ومن قَرُبَ منهم علم، و [من] جالَسَهم غَنِم. * فيا سعادةَ مَنْ خدمَهم، ومن جالسهم لأنهم القومُ لا يشقى بهم جليسُهم. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: ثنا عائشةُ بنتُ عبد الهادي: إنا الحَجَّارُ: أنا ابن الزَّبيديّ، أنا السّجْزِيُّ: أنا الداوديُّ: أنا السَّرَخْسِيُّ: أنا الفِرَبْرِيُّ: أنا البخاريُّ: ثنا قتيبةُ بن سعيدٍ: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن أبي صالح، عن أبي هريرةَ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لله-عَزَّ وَجَلَّ- مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْماً يَذْكُرُونَ الله -عَزَّ وَجَل- تنَادَوْا: هلُمُّوا إِلًى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ ¬

_ = نفسه في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (1/ 12) تعليل ذلك، فقال: ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه ويقف على ما لكتابنا هذا ضمَّناه، يلحق سيء الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا، وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك، وبهم ذكرنا، وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميَّزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمَجِ تحيزنا، وما مثلهم ومثلنا إلا كما ذكر أبو عمرو بن العلاء: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.

رَبُّهُمْ -عَزَّ وَجَلَّ- وَهُوَ أَعلَمُ مِنْهُم: ما يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبّحُونَكَ، وَيُكَبّرُونَكَ، وَيَحمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هلْ رَأَوْني؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا وَالله ما رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْني؟! قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ، كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَحمِيداً، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحاً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونَ؟ قَالَ: يَسْألونَكَ الجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهلْ رَأَوْها؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا والله يا رَبِّ ما رَأَوْها، قَالَ: فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ أَنّهُم رَأَوْهَا؟! قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُم رَأَوْها، كَانُوا عَلَيْها أَشَدَّ حِرْصاً، وَأَشَدَّ لَها طَلَباً، وَأَعظَمَ فِيها رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يمعَوَّذونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَقُولُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: وَهلْ رَأَوْها؛ قَالَ: يَقُولُونَ: لا وَالله يا رَبِّ ما رَأَوها، قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوها؟! قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْها، كَانُوا أَشَدَّ مِنْها فِرَاراً، وَأَشَدَّ لَها مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: اشْهدُوا أنَي قَدْ غَفرتُ لَهُم، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فِيهِم فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِم جَلِيسُهُم" (¬1). أخبرنا أبو حفص المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبي: ثنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن أحمدَ: حدثني أبي: ثنا أسودُ بن عامر: ثنا جريرٌ، عن الحسنِ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إِذَا جَلَسَ القَوْمُ يَذْكُرُونَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6045).

قَالَ الله لِمَلائِكَتِهِ: إِنِّي قَدْ غَفَرتُ لَهم، فَجَلِّلُوهُم بِالرَّحْمَةِ، قَالَتِ المَلائِكَةُ: يا رَبَّنَا! إِنَّ فِيِهمْ فُلاناً، قَالَ: هُمُ القَوْمُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ" (¬1). فَيَا مَنْ حَصَلَتْ لَهُ السَّعَادَةُ بِمُجَالَسَتِهِم! إِيَّاكَ أَنْ تَضُرَّ نَفْسَكَ بِعَدَاوَتهِمْ وَبُغْضِهِمْ، فَاغْتَنِمْ أَنْفَاسَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ، فَهُمُ القَوْمُ لا يَشْقَى بِهمْ جَلِيسُهم، طُرُقُهُمْ مُسْتَقِيمَةٌ، وَمُصَاحَبَتُهم سليمةٌ، ونفوسُهم رحيمةٌ، فالربحُ لمن خدمهم، ومَنْ ليسَ منهم، فهم القومُ لا يشقَى بهم جليسُهم، لهم أحوالٌ ظاهرة، ونفوسٌ طاهرة، وقلوبٌ عامرة، وليس لهم رغبةٌ في الدنيا، وإنما رغبتُهم في الآخرة، فهم مغبطون في الدارين، بمنازلهم الظاهرة. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: ثنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبونعيبم: ثنا محمدُ بن جعفرٍ: ثنا جعفرُ بن محمدٍ: ثنا مالكُ بن إسماعيلَ، وعاصمُ بن عليٍّ، قالا: ثنا قيسُ بن الربيعِ: ثنا عمارةُ بن القعقاع، عن أبي زُرعةَ، عن عمرِو بن جريرٍ، عن عمرَ بن الخطابِ -رضي الله عنه-، قال: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ الله نَاساً ما هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ القِيَامَةِ لِمَكَانِهم مِنَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-". فقال رجل: مَنْ هم، وما أعمالهُم؛ لعلَّنا نحبُّهم؟ قال: "قَوْمٌ يَتَحَابونَ بِروحِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ غَيْرِ أرحَامٍ بَيْنَهُم، وَلا أَموَالٍ يَتَعَاطَوْنها بَيْنَهمْ، وَالله! إِنَّ وُجُوههُم لَنُورٌ، وإِنَّهُمْ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 358).

من أحب الأولياء والصالحين فهو منهم

لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ". ثم قرأ: ({أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] (¬1). فلا يخافون في الدنيا مع إيمانهم أن الله معهم، كما قال -عليه السلام- لأبي بكر وهما في الغار: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وليس عليهم خوف في البرزخ مع إيمانهم؛ فإنَّ أنعمَ الناس أجساداً قومٌ سكنوا التراب، وأَمِنوا من العذاب. وليس عليهم خوفٌ يوم القيامة، بل هم في المنازل الثلاثة آمنون. وليس عليهم حزنٌ في الأحوال الثلاثة؛ لا في الدنيا، فإنهم قد رضوا بما قدَّر الله لهم، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة. * من سعادتهم على مولاهم: أن جعل مَنْ أحبَّهم منهم، كما قال -عليه السلام- لمن سأله عن الرجل يحبُّ القومَ ولمْ يلحقْ بهم؛ يعني: في العمل، قال: "هُوُ مِنْهُمْ"، وفي رواية: "هُوَ مَعَهمْ" (¬2). * ومن سعادتهم وكلرامتهم على مولاهم: أنهم يُذْكَرون بذكره، ويُذْكَر بذكرهم، كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أخبرتنا زينبُ بنتُ الكمال: أنا محمدُ بن أبي زيدٍ: أنا محمودٌ الصيرفيُّ: أنا ابن فاذشاه: أنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا أحمدُ بن عليٍّ الأبارُ: ثنا الهيثمُ بن خارجةَ: ثنا رشدينُ بن سعدٍ، عن عبد الله بن ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 5). (¬2) رواه البخاري (5817) عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

ذكر الأولياء والصالحين لله، وذكر كل شيء معهم

الوليدِ، عن أبي منصورٍ مولى الأنصار: أنه سمَع عَمرَو بن الجَموحِ يقول: إنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قَالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي، وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِين يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي، وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ (¬1). وأخبرنا جماعةُ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن يعقوبَ: ثنا الحسنُ بن علويه: ثنا إسماعيلُ بن عيسى: ثنا الهياجُ بن بسطام، عن مسعرِ بن كدامٍ، عن بُكيرِ بن الأخنسِ، عن سعدٍ، قال: سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أولياءُ الله؟ قال: " الَّذِينَ إِذَا ذُكِرُوا (¬2) ذُكِرَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-" (¬3). وبه إلى أبي نعيم: ثنا جعفرُ بن محمدِ بن عمرَ: ثنا أبو حصينٍ القاضي: ثنا يحيى بن عبد الحميدِ: ثنا داودُ العطارُ، عن عبد الله بن عثمانَ بن خُثيمٍ، عن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ، عن أسماءَ بنتِ يزيدَ، قالتْ: قالَ رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُم بخِيَارِكُمْ؟ "، قالوا: بلى. قَالَ: "الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ الله -عَزَّ وَجَلًّ-" (¬4). * فإن جلسوا بمكان، وذَكروا الله، ذَكر معهم كلُّ شيء، وافتخرتِ الأرضُ والجبالُ والبقاعُ بذكرهم، كان صَلَّوا، صَلَّى مَنْ لم يكن يصلِّي بصلاتهم. ¬

_ (¬1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (2/ 41). (¬2) في "حلية الأولياء": "رؤوا". (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 6). (¬4) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 6).

فهم بركةٌ كيفما كانوا، وقد ذُكر عن شيخِ الإسلامِ أبي الفَرَجِ الشيرازيِّ: أنه لما قدم دمشقَ، استأجر بستاناً، وكان ذلك البستانُ له وقتٌ يتنزه فيه الفَسَقَةُ، فلما جاء وقته هو فيه، وإذا خلائقُ قد أَتوه بالخمور والنساء وغير ذلك على عادتهم، فعِيلَ صبرُه من ذلك، ففي اليوم الثاني كَثُروا، فلما كانَ في اليوم الثالت، وحضروا، قام وقال: أيها الناس! إنا استأجرنا هذا البستان، ومن أراد أن يدخله، ونُحالِلُه، فليتوضأ معنا، حتى نصلِّي الظهر، فقام كلُّ أحدٍ منهم، وتوضأ، ثم صلى بهم الظهرَ، فأطال فيها، وجلس يذكرُ إلى العصر، ثم أقامَ وصلّى بهم العصرَ، وجلس في الذكر إلى المغرب، فامتنع كثيرٌ منهم بذلك من السُّكر وغيره، ولم يتمكن أحدٌ من ذلك، ثم كانت هذه عادتهم معهم، فلم يحضره بعدَ ذلك أحدٌ من الفَسَقة، وتابَ خلائقُ منهم، قال: وصار لي في شهر أكثرُ من ألف صاحب. فانظر كيف أزال المَنَاكر بهذه الخبرية اللطيفة، وأحبَّه الخلقُ، فهكذا يكون الصبرُ في [الآمر] بالمعروف، والناهي عن المنكر. فنظرُ أهلِ الخير يزيل المنكرَ، وعبادتُهم تزيل المنكر، ومباشرةُ أيديهم تزيل المنكر، كما روي عن الشيخِ عبد الله اليونينيِّ: أن حَمَّاراً وقع حملُه، فساعدَه في تحميله، فلما أوصله إلى بيت الأمير الذي هو له، إذا به من أحسن الأكل، فغضب عليه، فقال: والله! بيدي وضعته، ولكن أَعلم من أين أُتيت، ثم جاء إلى الشيخ، فأسلمَ على يديه، فلما علم الأميرُ، تاب عن شرب الخمر، فكان ذلك كلُّه من بركة الشيخ.

حفظ الأولياء والصالحين بحفظ الله، وكلائته

وقد حُكي عن الشيخ أبي عمرَ نحوُ ذلك أيضاً. وقد ذُكر عن بعض المشايخ: أنه أرسلَ إلى بعض البغايا: نجيءُ الليلةَ عندَك، فتزينت، وتطيبت، وجلست، وإذا بالشيخ قد جاء، وكان ثَمَّ أميرٌ يكره الشيخ، فلما سمع بذلك، قال: وخمرُ الشيخِ علينا، فأرسل إليه بوعاء فيه خمر، فلما دخل الشيخُ المكانَ، توضأ، وقام يصلي، فدخل قلبَها خوفُ الله، فتوضات، وقامت تصلِّي خلفه، فلما أصبحتْ، رمت ما كانت فيه، ولبستْ ثياب العبادة، وتابت، فجاء الأميرُ ليرى ما صنع الشيخ، ويوبِّخُه بالمعصية، فوجدَها قد تابت، وأخبرتْه بما كان من الشيخ، وقصدَ الوعاءَ الذي أرسلَ فيه الخمرَ، وإذا به من أحسن السكر، فتابَ عن بغض المشايخ، وحصلت التوبةُ للكل ببركته. * فهم محفوظون بحفظ الله، وكلاءته، لا تضرهم فتنةٌ، ولا تنالهم بليةٌ، سالمون من المحن، مُوَقَّوْن من الفتن. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا المِزِّيُّ وغيرُه: أنا ابن أبي عمرَ: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا أبو نعيمٍ، ثنا القاضي أبو أحمدَ محمدُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن القاسمِ بن الحجاجِ: ثنا الحكمُ بن موسى: ثنا إسماعيلُ بن عياشٍ: حدثني مسلمُ بن عبيدِ الله، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِنَّ لله -عَزَّ وَجَلَّ- ضَنَائِنَ مِنْ عِبَادِهِ، يُعَذَيهِم في رَحمَتِهِ، وَيُحيِيهم في عَافِيَتِهِ، إِذَا تَوَفَّاهُم، تَوَفَّاهُم إِلَى جَنَّتِهِ، أولئك الَّذِين تَمُرُّ عَلَيْهِمُ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ

صحبة الأولياء والصالحين ومعاداتهم، وذكر شيء من أحوالهم

المُظْلِمِ وَهم مِنْها في عَافِيَةٍ" (¬1). * فمَنْ صاحَبَهم، سَلِم معهم، ومَنْ عاداهم وقاطَعَهم، وقعَ في المعامعِ والبلايا العِظام، أفرغ الله عليهمُ الصبرَ، وحماهم من الدنيا، وضَيَّقَ عليهم المعيشةَ، وهم قابِضُون على دينهم، كالقابضِ على الجمرِ، فالدنيا سِجْنُهم، ومحلُّ الشدائدِ عليهم. واكتسابهم الأجرَ، إن أصابَتْهم المصائبُ، فَرَّجوها بالذكر، وإن تنفَّس لهم الدهرُ، وغمرتهم النعم، قابلوها بالحمد والشكر. حظُّهم من الدنيا ناقص، ومن الآخرة خالص، يتلَذَّذون بالطاعة، ويَغْتَمُّون من البطالة والإضاعة، لا يَعْبَأُ الناسُ بهم ذَرَّة، ولو أقسمَ أحدُهم على الله لأبَرَّه. وقد روينا في "الصحيح": "إِنَّ مِنْ عِبَادِ الله مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ" (¬2). أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ستُّ الأهلِ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المُهْتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيّ: أنا ابن المُذْهِب: أنا أبو بكرٍ القَطيعيُّ: أنا عبد الله بن أحمدَ: ثنا أبي: ثنا هيثمُ بن خارجةَ: ثنا إسماعيلُ بن عياشٍ، عن نعيمِ بن أبي [...]، عن شريحِ بن عبيدٍ، عن عتبةَ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 6). (¬2) رواه البخاري (2556)، ومسلم (1675)، عن أنس -رضي الله عنه-.

ابن عبد السلامِ، صاحبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِنَّ العَبْدَ المُومِنَ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأَبَرَّهُ". وأخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ: أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا محمدُ بن أحمدَ بن الحسنِ: ثنا محمدُ بن نصبر الصائغُ: ثنا إبراهيمُ ابن حمزةَ: ثنا ابن أبي حازيم، عن كثيرِ بن زيدٍ، عن الوليدِ بن رباحٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ أَشْعَثَ ذِي طِمرَيْنِ تَنْبُو عَنْهُ أَعيُنُ النَّاسِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأَبَرَّهُ" (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: أنا أبو إسحاقَ بن حمزةَ: ثنا أحمدُ بن شعيبِ بن يزيدَ ح. قال: وثنا إسحاقُ بن أحمدَ: أنا إبراهيمُ بن يوسفَ: ثنا محمدُ بن عزينر: ثنا سلامةُ بن روح: ثنا عقيلُ، عن ابن شهاب، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ذِي طِمرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ البَرَاءُ بنُ مَالِكٍ". ثم إن البراءَ لقي زحفاً من المشركين، وقد أوجع المشركون في المسلمين، فقالوا له: يا براء! إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أقسمتَ على ربِّكَ، لأبرك، فاَقْسِمْ على ربك. فقال: أقسمتُ عليكَ يا ربِّ لما منختَنا أكتافَهم، فمُنحوا أكتافَهم. ثم التقوا على قنطرةِ السوس، فأوجعوا في المسلمين، فقالوا: أقسمْ يا براءُ على ربك -عَزَّ وَجَلَّ-، ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 7).

أثر دعائهم، وأنه السهم المصيب

قال: أُقسم عليكَ يا ربِّ لما منحْتَنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك - صلى الله عليه وسلم -، فمنحوا أكتافهم، وقُتل البراءُ بن مالكٍ شهيداً (¬1). * فدعاؤهم السهمُ المصيبُ. فالحذرَ الحذرَ من الأسباب التي توجب الدعاءَ منهم؛ فقد قال قائلٌ عن سعدِ بن أبي وقاصٍ قولَ كذبٍ، فقال: اللهمَّ إن كان عبدُك كاذباً، قام رياء وسمعة، فاقطعْ لسانه. فما استتمَّ دعوته حتى أتاه سهمٌ فقطع لسانه (¬2). ودعاء يعصمهم من الحريق في النار، كما روينا عن أبي الدرداء: أنه قيل له: احترقَ بيتك. فقال: لم يحترق. ثم أُتي فقيل: احترق بيتُك، فقال: لم يحترق. ثم أُتي فقيل له: احترق بيتُك، فقال: لم يحترق، لم يكنِ الله ليفعلَ. فجاء رجلٌ فقال: انتهتِ النارُ إلى بيتك، فلما وصلت إليه، طفئت. فقال: علمتُ أن الله لم يكن ليفعلَ. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 7). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 345).

التحصن بآيات الله من القرآن وشرطه

فقيل له: ما ندري أيُّ كلامك أعجبُ، قولُك: لم يحترق، أو قولُك: لم يكن الله ليفعلَ. فقال: ذلك بكلماتٍ سمعتُهن من رسول - صلى الله عليه وسلم -، من قالهن حين يصبح، لم يُصبه سوءٌ حتى يُمسي، ومن قالهن حين يُمسي، لم يصبه سوء حتى يُصبح. * وقد تحصَّنَ كثيرٌ منهم بآيات من القرآن من اللصوص والأعداء والسباع، وكل ذلك شرطُه الإيمان الصادق، ومن ليس من أهله لا ينفعُه ذلك. ونعلُ أحمدَ بن حنبلٍ أذهبتِ الجنَّ؛ فإنه ورد أن جاريةً للخليفة كانت تُضرَع، فدُعي لها أحمدُ، فضربها بنعله، فذهب عنها، ولم يعد، فلما مات أحمدُ، عاد، فدعا لها صاحبُه أبو بكرٍ المروذيُّ، فقال له الجني: حتى تكون أحمدَ بن حنبلٍ. وكذلك ذهبَ كثير منهم بقراءة شيء. فيحكى عن ابن تيمية: أنه كان يقول في أُذنه: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فيزول عنه. وأخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن البالِسيِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ: ثنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا سهلُ بن عبد الله: ثنا الحسينُ بن إسحاقَ: ثنا داودُ بن رشيدٍ: ثنا الوليدُ بن مسلمٍ: ثنا ابن لهيعةَ، عن عبد الله بن هبيرةَ، عن حَنَشٍ الصنعانيِّ، عن عبد الله بن مسعودٍ: أنه قرأ في أُذن مبتلًى، فأفاقَ، فقال

خوف الكفرة مع كفرهم من دعاء الأولياء والصالحين

له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا قَرَأْتَ في أُذُنِهِ؟ "، قال: قرأت: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]. حتى ختم السورة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَنَّ رَجُلاً مُوقِناً قَرَأَها عَلَى جَبَلٍ، لَزَالَ" (¬1). * وقد خاف منهم ومن دعائهم الكفرهُّ مع كفرهم، لَمَّا شاهدوا الباهر من أمرهم. أخبرنا جدي: أنا الصلاحُ بنُ أبي عمَر: أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ: أنا حنبل: أنا ابن الحُصَينِ: أنا ابن المُذْهِبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: ثنا عبد الله بن أحمدَ بن حنبلٍ: ثنا محمودُ بن يزيدَ الكوفيُّ: ثنا محمدُ بن فضيلٍ: ثنا الصلتُ بن مطرٍ، عن قدامةَ بن حماطة ابن أخت سهمِ بن منجابٍ: سمعتُ سهمَ بن منجابٍ قال: غزونا مع العلاءِ بن الحضرميِّ، فسرنا حتى أتينا دارين، والبحر بيننا وبينهم، فقال: يا عليمُ، يا حكيمُ، يا عليُّ، يا عظيمُ! إنا عبيدُك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك، اللهمَّ فاجعلْ لنا إليهم سبيلاً، فتقحَّمَ بنا البحرَ، فخُضْنا ما يبلغُ لبودَنا، فخرجْنا إليهم (¬2). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخِنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا أبو حامدٍ أحمدُ بن محمدٍ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ الثقفيُّ: ثنا يعقوبُ بن إبراهيمَ، والوليدُ بن شجاعٍ، قالا: ثنا ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 7). (¬2) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" (ص: 169)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 7).

فرار الكفرة من الأولياء والصالحين ليس بمخصوص بالصحابة والتابعين

عبد الله بن بكرٍ، عن حاتمِ بن أبي صفرةَ، عن سماكِ بن حربٍ، عن أبي هريرةَ، قَال: لقد رأيتُ للعلاءِ بن الحضرميِّ ثلاثَ خصالٍ ما منهنَّ خصلةٌ إلا وهي أمحجبُ من صاحبتها: انطلقْنا نسير حتى قدمْنا البحرين، وأَقبلنا نسيرُ حتى كنا على شطِّ البحر، فقال العلاءُ: سيروا، فأتى البحرَ، فضرب دابتَه، فسارَ وسزنا معه ما يجاوزُ ركَب دوابنا، فلما رآنا ابن مكعبرٍ، عاملُ كسرى، قال: لا، والله! لا نقابلُ هؤلاءِ، ثم قعدَ في سفينة، فلحقَ بفارس (¬1). * فانظر بعينِ بصيرتك إلى هذا الكافر، كيف فَرَّ عن ملاقاتهم، وهربَ عن معاداتهم، وليس هذا الأمرُ بمخصوص بالصحابة والتابعين، بل هو في كل عصر إلى يوم الدين. أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا: أنا ابن البالسيِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا شيخُ الإسلامِ ابن أبي عمَر: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظ أبو نعيمٍ: ثنا عبد الله بن جعفرٍ: ثنا إسماعيلُ بن عبد الله: ثنا سعيدُ ابن أبي مريمَ: ثنا يحيى بن أيوبَ، عن ابن عِجلانَ، عن عياضِ بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لِكُلِّ قَرْنٍ مِنْ أُمَّتِي سَابِقُونَ" (¬2). وأخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا: أنا ابن المحبِّ: أخبرتنا زينب بنتُ الكمالِ: أنا يوسفُ بن خليلٍ: أنا محمدُ بن أبي زيدٍ: أنا محمودٌ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 8). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 8).

الصيرفيّ: أنا أبو الحسينِ بن فاذشاه: أنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا محمدٌ: ثنا إسماعيلُ بن أبي زيدون: ثنا عبد الله بن هارونَ: ثنا الأوزاعيُّ، عن الزهريِّ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خِيَارُ أُمَّتِي في كُلِّ قَرْنٍ خَمْسُ مِئَةَ، وَالأبْدَالُ أَربَعُونَ، فَلا الخَمسُ مِئة يَنْقُصُونَ، وَلا الأَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنَ الخَمْسِ مِئَةٍ أَبْدَ [لَ] الله مَكَانَهُ، وَأَدخَلَ مِنَ الأَرْبَعِينَ مَكَانَهُمْ"، قالوا: يارسولَ الله! دُلَّنا على أعمالهم. قال: "يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِم، وَيَتَوَاسَوْنَ فِيمَا آتَاهُمُ الله -عَزَّ وَجَلَ-" (¬1). وبهِ إلى أبي نعيمٍ: ثنا محمدُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن السَّرِيِّ: ثنا قيسُ بن إبراهيمَ: ثنا عبد الرحمن الأرمنيُّ: ثنا عثمانُ بن عمارةَ: ثنا المعافى بن عمرانَ، عن سفيانَ الثوريِّ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن الأسودِ، عن عبد الله، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لله في الخَلْقِ ثَلاَثَ مِئَةٍ قُلُوبُهم عَلَى قَلْبِ آدَمَ، وَلله تَعَالَى في الخَلْقِ أَربَعُونَ قُلُوبُهُم عَلَى قَلْبِ مُوسَى، وَلله في الخَلْقِ سَبْعَةٌ قُلُوبُهم عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ، وَلله في الخَلْقِ خَمسَةٌ قُلُوبُهُم عَلَى قَلْبِ جِبْرِيلَ، وَللهِ في الخَلْقِ ثَلاثَةٌ قُلُوبُهُم عَلَى قَلْبِ مِيكائِيلَ، وَلله في الخَلْقِ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ، فَإِذَا مَاتَ الوَاحِدُ، أَبْدَلَ الله مَكَانَهُ مِنَ الثَّلاثَةِ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الثَّلاثَةِ، أَبْدَلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مَكَانَهُ مِنَ الخمسَةِ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الخمسَةِ، أَبْدَلَ الله مَكَانَهُ مِنَ السَّبْعَةِ، وإِذَا مَاتَ مِنَ السَّبْعَةِ، أَبْدَلَ الله مَكَانَهُ مِنَ الأَرْبَعِينَ، وَإِذَا مَاتَ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 8).

تشبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه بالأولياء والصالحين

مِنَ الأَرْبَعِينَ، أَبْدَلَ الله مَكَانَهُ مِنَ الثَّلاثِ مِئَةٍ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الثَّلاثِ مِئَةٍ، أَبْدَلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مَكَانَهُ مِنَ العَامَّةِ، فَبِهِمْ يُحييِ وَيُمِيت، وَيُمطِرُ وَيُنْبِتُ وَيَدْفَع البَلاءَ". قيل لعبد الله بن مسعودٍ: كيفَ بهم يحيى ويميت؟ قال: لأنهم يسألون الله -عَزَّ وَجَلَّ- إكثارَ الأمم، فيكثرون، ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستسقون فيسقون، ويسألون فتنبت لهم الأرض، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء (¬1). أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أبو عمرِو بنُ حمدانَ: ثنا الحسنُ بن سفيانَ: ثنا عبد الوهابِ بن الضحاكِ: ثنا ابن عياشٍ: ثنا صفوانُ بن عمرٍو، عن خالدِ بن معدانَ، عن حذيفةَ بن اليمانِ، قال: قالَ رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا حُذَيْفَةُ! إِنَّ في كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أُمَّتِي قَوْماً شُعْثا غُبْراً، إِيَّايَ يُرِيدُونَ، وَإِيَّايَ يَتَّبِعُونَ، وَكِتَابَ الله يُقِيمُونَ، [أولئك مِنِّي، وَ] أَنَا مِنْهُم، وَإِنْ لَمْ يَرَونِي" (¬2). * فمنحهم له، واتباعهم له، شبه نفسه بهم. كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أخبرتنا فاطمةُ بنتُ سعدِ الخيرِ: ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 9). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 9).

رفضهم لباطن العاجلة وفسادها، ونظروا إلى ظاهر الدنيا فوضعوها

أخبرتنا فاطمةُ بنتُ عبد الله: أنا ابن ربذةَ: ثنا الطبرانيُّ: ثنا أبو بكرِ ابن سهلٍ: ثنا عمرُو بن هاشمٍ: ثنا سليمانُ بن أبي كريمةَ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَأَلَ عَنِّي، أَوْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ، فَلْيَنْظر إِلَى أَشْعَثَ شَاحِبٍ مُشَمِّرٍ، لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةً، وَلا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ، فَشَمَّرَ إِلَيْهِ، الْيَوْمَ المِضْمَارُ، وَغَداً السِّبَاقُ، وَالغَايَةُ الجَنَّةُ أَوِ النَّارُ" (¬1). فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان على هذا الوصف، فمن كان بهذا الوصف، فهو شبيهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -. * نظروا إلى باطنِ العاجلةِ وفسادِها، فرفضوها، وإلى الظاهرِ من الدنيا وزينتها، فتحققوا أنه خيال ووبال، فوضعوها. أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرِ بن حمدانَ: أنا عبد الله بن أحمدَ: حدثني أبي: ثنا غوثُ بن جابرٍ، قال: سمعتُ محمدَ بن داودَ يحدِّث عن أبيه، عن وهبِ بن منبهٍ، قال: قالَ الحواريون: يا عيسى! مَنْ أولياءُ الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى بنُ مريمَ: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجِلِ الدنيا حين نظر الناس إلى عاجِلها، فأماتوا منها ما يخشون أن يَثْنيهم، وتركوا ما علموا أن سيتركُهم؛ فصار استكثارهُم منها استقلالاً، وذكرُهم إياها فواتاً، وفرحُهم بما أصابوا منها حزناً؛ فما ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3241).

عارضَهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، وخَلَقَتْ الدنيا عندَهم، فليسوا يجدِّدونها، وخربَتْ بيوتهم، فليسوا يُعَمِّرونها، وماتت في صدورهم، فليسوا يُحيونها، يُهدمونها، فيبنون بها آخرتهم، ويُبيعونها، فيشترون بها ما تبقَّى لهم، ورفضوها، فكانوا فيها هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت بهم المَثُلات، وأحيوا ذكرَ الموت، وأماتوا ذكرَ الحياة، يُحبون الله، ويحبون ذكرَه، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به، لهم خبرٌ عجيب، وعندهم الخبرُ العجيب، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم عُلم الكتاب، وبه علموا، وليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون (¬1). ولهذا روينا عن محمدِ بن واسعٍ: أنه كان له بيتٌ ورثه من والديه، فكان كما انهدم منه شيء، انتقل إلى غيره، حتى انتهى به الأمرُ إلى أنه لم يبقَ منهم غيرُ الدهليز، فانتقل إليه، فجعل كما انكسرت منه خشبةٌ، انتقل إلى تحت الأخرى، حتى لم يبق منه غير خشبة أو خشبتين، فانتقل إلى تحتها، فمات تحتها، فسقطت. وكان الحسن يقول: لو فارق ذكرُ الموت قلبي، لفسدَ. وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: "مَا لِي ولِلدُّنْيَا؟! إِنَّمَا مَثلِي وَمَثلُ الدُّنْيَا، كَمَثلِ رَاكِبٍ قَالَ في ظِلِّ شَجَرَةٍ في يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَها" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 10). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (7859) عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.

وقال: "مَثلُ ابن آدَمَ وَالدُّنْيَا كَمَثلِ رَجُلٍ أَدخَلَ أُصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ تَرْجِعُ" (¬1). وقال لابن عمرَ: "كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابرُ سَبِيلٍ". وكانَ ابن عمَر [يقولُ]: إذا أصبحتَ، فلا تنتظرِ المساءَ، وإذا أمسيتَ، فلا تنتظرِ الصباحَ، وخُذْ من صِحَّتِكَ لمرضِك، ومن حياتِك لموتك (¬2). وقد ذكرتُ هذا الحديثَ مرةً عندَ بعضِ الأمراءِ، فقال: أنا والله كذلك، أُصبح أقولُ: ما أُمسي، وأُمسي أقول: ما تصبح. فقلت له: كذبتَ والله. فغضب، وقال: هكذا يا سيدي! قلت: نعم، فإني أنا أظن أني أزهدُ منك. قال: بكثير. فقلت: مع هذا نفسي تحدثني أني أعيش خمسةَ آلافِ سنةً. قال: خمسةَ آلافِ سنة؟! قلتُ: نعم، وأكثر. فقال: وهل عاش أحدٌ ذلك؟ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2323)، وابن ماجه (4108) عن المستورد -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (6053).

فقلت: ولو لم يعشْه، نفسي تؤمِّلُ أكثرَ من ذلك، وأنا أُثبتُ لك كذبَ ما تقولُ نفسُك. وكان يُعَمِّر في عمارة عظيمة، وهو مجتهدٌ فيها. فقلت: لو أمسككَ السلطانُ، وقالمالك: عشيةً أقتلُك، أو في غدٍ هنالك أكلٌ أو شربٌ أو جماعُ زوجةٍ، أَوَ كنتَ تجتهدُ في تمام هذه العمارة، أو تضحك؟! فقال: لا. فقلت: هذا يبين لك كذبَ هذا الأمر الذي تقوله بلسانك. فالذي قلبُه مصدقٌ بهذا، ونفسُه مثلُ محمدِ بن واسع، ومثلُ ابن عمر، الذي لم يضع لَبِنةً على لَبِنةٍ. وأما نحن، فكلُّ ما نحن فيه أقوالٌ باللسان، وليس ثَمَّ من الإيمان بشيء من ذلك، ولو كان إيمان، صدقَ القولَ العملُ. وقلت مرة لبعض قُضاتنا: كلُّنا بقينا تيامنة. قال: نعوذ بالله من الشيطان، لا والله! إنما نحن على حقيقة الإيمان. فقلت: لا والله! إنما هو قول باللسان، ولو كان له حقيقةٌ، صدق القول العمل. فإن التيامنة لا تؤمن بثواب ولا عقاب؛ فإن من آمن بالثواب والعقاب، خاف ورجا، ومن خاف ورجا، ارتكبَ واجتنَب، فارتكبَ

صون أولياء الله أنفسهم لنفسه، عن حقارة الدنيا الدنية

المأمورَ به رجاءَ الثواب، واجتنَب المنهيَّ عنه خوفَ العقاب. وغالبُ الناس في زماننا ليس من هذه المثابة في شيء، لا عليه لا من واجب، ولا من محرم، وهذا شأنُ من لا يؤمن بثواب ولا عقاب، وإن قال بلسانه: أؤمن بذلك؛ فإن القول باللسان ليس هو المقصود، إنما المقصود العملُ بالنفس، كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرجُ يُصَدِّقُ ذلك أَوْ يُكَذِّبُهُ" (¬1). وهذا شأنُ المنافق، القول باللسان في سورة الظاهر، وليس ثَمَّ في سورة الباطن شيء، فالمنافقُ ليس له غيرُ صورة القولِ باللسان، والمؤمنُ على الحقيقة، إنما له حقيقةُ صورةِ العمل. * فأولياءُ الله صانوا أنفسَهم النفيسةَ، عن حقارة الدنيا الدنية، ولاحت لهم الآخرةُ بزينتها العلية، فباعوا الدنيَّ الخسيس، بالغالي النفيسر، وصانهم مولاهم عن القاذورات، وجَنّبَهم ما يدنِّسهم، وحماهم من كل شيء [فيه] أذاهم. فمَنْ أخافَهم، فقد عرض نفسَه للمخاوف، ومن آذاهم، فقد أوقَع نفسَه في أسباب المتالف. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أخبرتنا ابنة علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله ابن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا سفيانُ بن وكيعٍ: ثنا إبراهيمُ بن عُيينةَ، عن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5889) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

من بارز بالعداوة فقد بارز الله، ولن يعجزه

ورقاءَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما بعثَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- موسى وهارون إلى فرعون، قال: لا يغرنكما لباسُه الذي ألبستُه، فإن ناصيتهُ بيدي، فلا ينطقُ ولا ينظرُ ولا يطرِفُ إلا بإذنى، ولا يغرنكما ما مُتِّع به من زهرة الدنيا وزينة المترفين، فلو شئتُ أن أزينكما من زينة الدنيا بشيء يعرف فرعون أن قدرتَه تعجزُ عن ذلك، لفعلتُ، وليس ذلك لهوانكما عليَّ، ولكني ألبستكماَ نصيبكما من الكرامة؛ على أن لا ينقصكما شيئاً، وإني لأذودُ أوليائي عن الدنيا كما يذودُ الراعي إبلَه عن مَبَارِكِ الغرة، وإني لأُجنبهم زينةَ الدنيا؛ كما يُجنبُ الراعي إبلَه عن مراتع الهلَكَة، أريدُ أن أنور بذلك مراتبهم، وأُطَهر بذلك قلوبَهم، في سيماهم الذي يعرفون به، وأَمرِهم الذي يفتخرون به، واعلمْ أنه من أخاف في ولياً، فقد بارزني بالعداوة، وأنا الثائر لأوليائي يوم القيامة (¬1). * فمن بارزهم بالعداوة، فقد بارز الله، ولن يعجزه، والله هو وليُهم ومولاهم في الدنيا والآخرة، وهو الآخذُ بثأرهم في الدنيا والآخرة. فيا مَنْ نصبَ نفسَه لمعاداة الخالق، وجعلَه خصمَه وعدوَّه، والثائرَ عليه! أين تهرب؟ وبأيِّ حصنٍ تتحصَّن؟ وبأيِّ أعوانٍ وعددٍ تتقوىَ؟ فإذا لقيتَ من اتصف بأدنى صفاتهم، فأذلَّ لهم نفسَك، واخفضْ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 61).

لهم جناحَك، واحرص على خدمتهم ومرافقتهم، تنلِ (¬1) السعادةَ في الدارين. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخِنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن السنديِّ: ثنا الحسنُ بن علويه القطانُ: ثنا إسماعيلُ بن عيسى: ثنا إسحاقُ بن بشرٍ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ ح. قال أبو نعيمٍ: وثنا أبي: ثنا إسحاقُ بن إبراهيمَ: ثنا محمدُ بن سهلٍ: ثنا إسماعيلُ بن عبد الكريمِ: حدثني عبد الصمدِ بن معقلٍ، سمعتُ وهبَ بن منبهٍ يقولُ: لما بعثَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- موسى وأخاه هارون إلى فرعون، قال: لا يعجبنكما زينتُه، ولا ما مُتَعّ به، ولا تَمُدَّا إلى ذلك أعينَكما؛ فإنها زهرةُ الحياة الدنيا، وزينة المترفين، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلمُ فرعونُ حين ينظر إليها أن مقدرته تعجزُ عن مثل ما أُوتيتما، فعلتُ، ولكني أرغبُ بكما عن ذلك، وأزوِّيه عنكما، وكذلك أفعلُ بأوليائي، وقديماً ما خرتُ لهم في ذلك، فإني لأذودُهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيقُ غنمَه عن مراتع الهلكة، وإني لأنّجَنبهم شهوتَها وعيشتَها كما يجنبُ الراعي الشفيقُ إبلَه عن مبارِكِ الغرة، وما ذلك لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا نصيبَهم من كرامتي سالماً موفراً، لم تكلِمْه الدنيا، ولم يُطْغِه الهوى، واعلم أنه لم ¬

_ (¬1) في الأصل: "تنال".

زينة الأولياء وحلية المتقين أعظم بهجة من زينة الدنيا

يتزين العبادُ بزينةٍ أبلغَ فيما عندي من الزهد في الدنيا؛ فإنها زينةُ المتقين، عليهم منها لباسٌ يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك هم أوليائي حقاً حقاً، فإذا لقيتَهم، فاخفضْ لهم جناحَك، وذلل لهم قلبك ولسانك، واعلم أنه من أهان في ولياً، أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة، وباراني، وعرض في نفسه، ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أَفيظنُّ الذي يحاربني أن يقوم لي، أو يظن الذي يعاديني أن يعجزني، أو يظن الذي يبارزني أن يسبقني، أو يفوتني؟! وكيف وأنا الثائرُ لهم في الدنيا والآخرة، لا أَكِلُ نُصرتهم إلى غيري؟ زاد إسماعيلُ بن عيسى في حديثه: فاعلم يا موسى: أن أوليائي الذين أَشعروا قلوبَهم خوفي، فتظهر على أجسادهم في لباسهم وجهدهم الذي يفوزون به يوم القيامة، وأملهم الذي به يذكرون، وسيماهم الذي به يعرفون، فإذا لقيتَهم، فذلِّلْ لهم نفسَك (¬1). * فهؤلاء القومُ عليهم زينةُ الأولياء، وحِلْيةُ المتقين، أعظمُ بهجةً وزينةً من زينة الدنيا، أنوارُهم ظاهرة، وقلوبُهم طاهرة، وأرواحُهم روحانية، ونفوسُهم عُلوية، فلا يعرفُهم إلا عبادُ الرحمن، ولا تظهر سيماهم إلا لأهل الإيمان. وأما عبادُ الشيطان وحزبُه، فإن الشيطان قد عاداهم، وهرب منهم، فلا يشتهي رؤياهم، وأوحى إلى حزبه من الجن والإنس أذاهم. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 11 - 12).

فإن قام أحدهم يصلي أو يتصدق، قالوا: مُراءٍ، وإن تكلم بالحق، بُغض ومُقت. وإن خفيت هذه الزينةُ الربانيةُ عن حزب الشيطان، فهم أطباءُ الخلق على الحقيقة، وحكماءُ الناس على الطريقة. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن البالسيِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أبو الحسنِ أحمدُ بن محمدٍ: ثنا العباسُ ابن يوسفَ: حدثني محمدُ بن عبد الملكِ، قال: قال عبد الباري: قلتُ لذي النونِ: صفْ في الأبدالَ، فقال: إنكَ لتسألُني عن دياجي الظُّلَم لأكشفَها لك، عبد الباري! هم قوم ذكروا الله بقلوبهم تعظيماً لربهم لمعرفتهم بجلاله، فهم حُجج الله على خلقه، ألبسهم النورَ الساطعَ من محبته، ورفعِ لهم أعلامَ الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقامَ الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهمُ الصبرَ عن مخالفته، وطهَّر أبدانَهم بمراقبته، وَطيَّبَهم بطيب أهل معاملتِه، وكساهم حُللاً من نسج مودَّته، ووضعَ على رؤوسهم تيجانَ مسرَّته، ثم أودعَ القلوبَ من ذخائرِ الغيوبِ، فهي معلَّقة بمواصلته، فهمومُهم إليه ثائرة، وأعينُهم إليه بالغيب ناظرة. قد أقامَهم على باب النظر من قربه، وأجَلسَهم على كراسي أطباءِ أهلِ معرفته. ثم قال لهم: إن أتاكم عليلٌ من فقدي، [ف] آووه، أو مريضٌ من شوقي، فعالجوه، أو خائف مني، فأَمِّنوه، أو آمنٌ من بَطْشي، فَحَذِّروه، أو راغبٌ في مواصلتي، فَمَنُّوه، أو راحلٌ نحوي، فزوِّدوه، أو جبانٌ عن متاجري، فشجِّعوه، أو آيسٌ من

فضلي، فغذوه، أو راجٍ لإحساني، فبشِّروه، أو حسنُ الظن بي، فباسطوه، أو محبٌّ لي، فواظبوه، أو معظِّم لقدري، فعظّموه، أو سائرٌ نحوي عني، فأرشدوه، أو مسيءٌ بعد إحسان، فعاتبوه، ومَنْ واصلَكُم، فواصلوه، ومن غابَ عنكم، فافتقدُوه، ومن حَمَّلَكم جنايةً، فاحتملوه، ومن قَصَّر في واجبِ حقي، فاتركوه، ومن أخطأ خطيئة، فناصِحوه، ومن مرضَ من أوليائي، فعودُوه، ومن حزنَ، فبشِّروه، كان استجارَ بكم ملهوفٌ، فأجيروه. يا أوليائي! لكم عاتبتُ، وفي آثاركم رغبتُ، ومنكم الوفاء طلبتُ، ولكم اصطفيتُ وانتخبتُ، ولكم استخدمتُ واختصصتُ، إني لا أحبُّ استخدامَ الجبارين، ولا مواصلةَ المتكبرين، ولا مصافاةَ المخلّطين، ولا مجاورةَ المخادعين، ولا قربَ المعجَبين، ولا مجالسة البطَّالين، ولا موالاةَ الشَّرِهين. يا أوليائي! جزائي لكم أفضلُ الجزاء، وعطائي لكم أجزلُ العطاء، وبذلي لكم أفضلُ البذل، وفضلي عليكم أكثرُ الفضل، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة، ومطالبتي لكم أشدُّ المطالبة، أنا محيي القلوب، وأنا علامُ الغيوب، أنا مراقبُ الحركات، أنا ملاحظُ اللحظات، أنا المشرفُ على الخواطر، أنا العالمُ بمجالِّ الفِكر، فكونوا دعاةً إليَّ، لا يفزعكم دوني سلطانٌ سواي، فمن عاداكم، عاديتهُ، ومن والاكُم، واليتهُ، ومن آذاكم، أهلكتهُ، ومن أحسنَ إليكم، جازيتهُ، ومن هجركم، قَلَيْتُه (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 12 - 13).

أهل الله به كلفون

فإن كنتَ من أهل المعرفة والذَّكاء، بانَ لك الحكماءُ والأطباء، وعرفتَ المقربين والأحباء، كان كنت من أهل الذَّوْق، عرفتَ الخلخالَ من الطَّوق، كان كنت من [أهل] العشق والمحبة، فَرَّقت بين العجوز والشبّه، كان كنتَ من أهل التورع، عرفتَ الأصلَ من الفرع، وإن كنتَ من جنس الثور والحمار، لم تعرفِ النافع من الضار، والماء [الحارَّ] من البارد، والبارد من الحار، والمطعم من الجزار. * فأهلُ الله به كلِفُون، يُسرعون إلى محبته وطاعته، ويَكْلَفون بعبادته ومحبته، يَغضبون لغضب الله، ويرضَوْن لرضاه. قد تركوا هواهم لمولاهم، فوالاهم وأدناهم، وناداهم وحياهم، فليس الناس إلا هم. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا الحافظُ أبو بكرِ بن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا فاطمةُ بنتُ سعدِ الخيرِ: أخبرتنا فاطمةُ بنتُ محمدٍ: أنا ابن ربذةَ: أنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا أحمدُبن منصورٍ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا عبد الله بن محمدِ بن يحيى بن عروةَ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ مُوسَى -عليه السلام- قال: يا ربِّ! أخبرني بأكرِم خلقِك عليكَ، قال: الذي يُسرع إلى هوايَ إسراعَ النَّسرِ إلى هواه، والذي يَكْلَفُ بعباديِ. الصالحينَ كما يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بالناس، والذي يغضَبُ إذا انْتُهِكَتْ محارمي غضبَ النَّمِرِ لنفسِه؛ فَإِنَّ النَّمِرَ إِذَا غَضِبَ، لَئم يُبَالِ أَقَلَّ النَّاسُ أَم كَثُرُوا" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1839).

وأخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَج: أنا حمدُ بن أحمَد: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أبي: ثنا أحمدُ بن محمدٍ: ثنا أبو عثمانَ سعيدُ بن عثمانَ: ثنا أبو الفيضِ ذو النونِ المصريُّ، قال: إن لله لصفوة من خلقه، كان لله -عَزَّ وَجَلَّ- لخيرةً [من خلقه]، فقيل له: يا أبا الفيض! فما علامتُهم؟ قال: إذا خلع العبدُ الراحةَ، وأعطى المجهودَ في الطاعة، وأحبَّ سقوطَ المنزلة. فقالماله بعضُ مَنْ كان في المجلس حاضراً: يا أبا الفيض! من هؤلاء القوم رحمك الله؟ فقال: ويحك! هؤلاء قومٌ جعلوا الركبَ لجباههم وساداً، والترابَ لجنوبهم مِهاداً، هؤلاء خالطَ القرآنُ لحومَهم ودماءهم، فعزلهم عن الأزواج، وحَرَّكهم بالإدلاج، فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت، وتصدعت هممهُم به فكدحت، فجعلوه لظلمتهم سِراجاً، ولنومهم مهاداً، ولسبيلهم مِنهاجاً، ولحجتهم إفلاجاً، يفرح الناسُ ويحزنون، وينام الناسُ ويسهرون، ويُفطر الناسُ ويصومون، ويأمن الناسُ ويخافون. فهم خائفون حَذِرون، وَجِلون مُشْفِقون مشمِّرون، مبادِرُون من الفوت، ويستعدُّون للموت، يتصغر جسيمُ ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب، وخطرِ ما يوعدون من الثواب، درجوا على شرائع القرآن، وتخلصوا بخالص القربان، واستناروا بنور الرحمن، فما لبثوا أن أنجز لهم القرآنُ موعودَه، وأوفى لهم عهودَه، وأحلَّهم سُعودَه، وأجارهم وعيدَه، فنالوا به الرغائب، وعانقوا به الكواعب، وأمنوا به العواطب،

وحذروا به العواقب، لأنهم فارقوا الدنيا بعين قالية، ونظروا إلى ثواب الآخرة بعين راضية، واشتروا الباقية بالفانية، فنِغمَ ما اتَّجروا وربحوا الدارين، وجمعوا الخيرين، واستكملوا الفضلين، بلغوا أفضل المنازل، بصبرِ أيامٍ قلائل، قطعوا الأيامَ باليسير، حذارَ يومٍ قمطرير، وسارعوا في المهلة، وبادروا خوفَ حوادث الساعات، ولم يركبوا أيامهم باللَّهو واللذات، بل خاضوا الغمرات للباقيات الصالحات، أوهن والثه قُوّتهم التعب، وَغيَّرَ لونَهم النَّصَب، وذكروا ناراً ذاتَ لهب، يتسارعون إلى الخيرات، منقطعين عن اللذات، بريئون من الريب والخنا، فهم خُرْسٌ فصحاء، عُمْيٌ بصراء، فعنهم تقصر الصفات، وبهم تدفع النقمات، وعليهم تتنزل البركات، فهم أحلى الناس منطقاً ومذاقاً، وأوفى الناس عهداً وميثاقاً، سراجُ العباد، ومنارُ البلاد، ومصابيحُ الدجى، ومعادنُ الرحمة، ومنابع الحكمة، وقوامُ الأمة، تَجَافى جنوبُهم عن المضاجع، فهم أقبلُ الناس للمعذرة، وأصفحُهم بالمغفرة، وأسمحُهم بالعطية، نظروا إلى ثواب الله بأنفُسٍ تائقة، وعيون وامقة، وأعمالٍ موافقة، فحلُّوا عن الدنيا مطيَّ رحالهم، وقطعوا منها حبالَ آمالهم، لم يدغ لهم خوفُ ربهم من أموالهم تليداً ولا عتيداً، فتراهم لم يشتهوا من الأموال كنوزَها، ولا من الأوبار خُزوزَها، ولا من المطايا عزيزَها، ولا من القصور مَشيدَها. بلى! ولكنهم نظروا بتوفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإلهامِه لهم، فحركهم ما عرفوا بصبر أيام قلائل، فصمُّوا عن المحارم، وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم، وهربوا بأنفسهم عن المآثم، فسلكوا من السبيل رشاده،

أولياء الله إن حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفقدوا

ومَهَّدُوا للرشاد مِهادَه، وشاركوا أهلَ الدنيا في آخرتهم، عزوا عن الرزايا، وغُصصِ المنايا، هابوا الموتَ وسكراتهِ، وكُرُباتهِ وفَجَعاته، ومن القبرِ وضِيقه، ومنكبر ونكيرٍ ومن ابتدارهما، وانتهارِهما وسؤالهما، ومن المقامِ بين يدي الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأمنهم مولاهم من تلك المخاوف. قال الحافظُ أبو نعيمٍ: وهم مصابيحُ الدجى، وينابيعُ الرشدِ والحِجَى، خُصُّوا بخفيِّ الاختصاص، واتقوا من التصنيع بالإخلاص (¬1). * إن حضروا، لم يعرفهم من الناس غيرُ الخواص، وإن غابوا، لم يفقدهم غير شذوذٍ من ذوي الإخلاص. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيم: ثنا عبد الله بن محمدٍ، ومحمدُ بن أحمدَ، وجماعةٌ، قالوا: ثنا الفضلُ بن الحبابِ: ثنا شاذ بن فياضٍ: ثنا أبو قحذمٍ، عن أبي قِلابةَ، عن عبد الله بن عمرَ بن الخطابِ، قال: مرَّ عمرُ بن الخطاب بمعاذِ بن جبلٍ وهو يبكي، فقال: ما يبكيكَ يا معاذُ؟ فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَحَبُّ العِبَادِ إِلَى الله تَعَالَى الأتْقِيَاءُ الأخْفِيَاءُ، الَّذِينَ إِذَا غَابوا، لَمْ يُفْقَدُوا، وَإِذَا شَهِدُوا، لَمْ يُعْرَفُوا، أولئك أَئِمَّةُ الهُدَى، وَمَصَابيحُ العِلْمِ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 14 - 15). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 15).

قبول أولياء الله للحق، وبذلهم ما عندهم

أَخْلصوا في العلم، وقَصَّروا الأمَل، تمرُّ الفتنُ، فتنجلي عنهم من غير ضرر، وتصقل قلوبهم، جلَي السيفِ من الران. كما أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أبو عمرِو بن حمدانَ: ثنا الحسنُ بن سفيانَ: ثنا أبو موسى إسحاقُ بن إبراهيمَ بن الهرويُّ: ثنا أبو معاويةَ عمرُو بن عبد الجبارِ السنجاريُّ: ثنا عبيدةُ بن حسانَ، عن عبد الحميدِ بن ثابتِ بن ثوبانَ مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: حدثني أبي، عن جدي، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: شهدتُ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً، فقال: "طُوبَى لِلْمُخْلِصِينَ، أولئك مَصَابيحُ الهُدَى تنجَلِي عَنْهُم كُلُّ فِتنةً ظَلْمَاءَ" (¬1). * إن قيل لهم الحقُّ، قبلوه، كان سئلوا ما عندهم، بذلوه، [ولو أنَّ] الحق كان لهم أو عليهم. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا محمدُ بن أحمدَ: ئنا بشرُ بن موسى: ثنا يحيى بن إسحاقَ ح. وأخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عَمر: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا حنبل: أنا ابن الحُصَينِ: أنا ابن المُذْهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بنُ الإمامِ أحمدَ: ثنا أبي، عن يحيى بن إسحاقَ: ئنا ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 16).

تساوى عند أولياء الله الذهب والحجر، والصفو والكدر، والمادح والذام

ابن لهيعةَ، عن خالدِ بن أبي عمرانَ، عن القاسمِ بن محمدٍ، عن عائشةَ، قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَدْرُوَنَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ الله؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلمُ. قال: "الَّذينَ إِذَا أُعْطُوا الحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهم لأَنْفُسِهِمْ" (¬1). * استوى عندَهم الذهبُ والحجر، والصفوُ والكدر، والمادحُ والذامّ، وجميعُ أنواع الطعام، ولهذا كان أحمدُ يقول: طعامٌ دونَ طعام، وشرابٌ دونَ شراب، وأيامٌ قلائلُ. وكان يقول: ما بينك وبين لذته، حتى ينزل من بلعومك. وقال ولدُه: ما رأيتُ أبي أكلَ البطيخَ على سبيل التفكُّه، إلا أن يكون على سبيل الغذاء. * قلوبُهم بالعرش مُعَلَّقَة، وبما جاء الله مصدِّقة، ينبسطون جَهْراً، وينقبِضُون سراً، يبسطهم الإرتياحُ والاشتياق، ويُقلقهم خوفُ القطيعة والفراقّ، مؤونَتُهم خفيفة، وأرواحُهم لطيفة، ومعاشرتُهم ظريفة. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحداد: أنا الحافظُ أبونعيمٍ: ثنا عبد الله بن محمدِ بن جعفرٍ: ثنا عبد الله بن محمدِ بن زكريا: ثنا سَلَمَةُ بنُ شَبيبٍ: ثنا الوليدُ بن إسماعيلَ: ثنا شيبانُ بن مهرانَ، عن خالدِ بن المغيرةِ، عن مكحولٍ، عن عياضِ بن ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 67).

مبادرة أولياء الله إلى حق الله من غير تسويف

غنمٍ: أنه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ مِنْ خِيَارِ أُمَّتِي- فِيمَا نبَّأنِي المَلأُ الأعلَي، في الدَّرَجَاتِ العُلا - قَوْماً يَضْحَكُونَ جَهْراً مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ ربّهِم، وَيَبْكُونَ سِرّاً مِنْ خَوْفَ شِدَّةِ عَذَابِ رَبِّهِمْ، يَذْكُرُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ في بُيُوتهِ الطَّيِّبة، وَيَدَعُونَهُ بِألسِنَتِهم رَغَباً وَرهباً، وَيَسْأْلُونَهُ بِأَيْدِيهِم خَفْضاً وَرَفْعاً، ويشتاقون إليه بقلوبهم عَوْداً وبَدْءاً، مَؤُونَتهُم على الناس خفيفة، وعلى أنفسِهم ثقيلة، يَدِبُّون في الأرض حفاةً على أقدامهم دبيبَ النملِ بغيرِ مَرَع ولا بَذْخٍ ولا مُثْلَةٍ، يمشون بالسكينة، ويتقربون بالوسيلة، يلْبَسون الخُلْقان، ويَتْبعون البرهان، ويتلون الفرقان، ويقربون القربان، عليهم من الله شهود حاضرة، وأعين حافظة، ونعمٌ ظاهرة، يتوسمون العباد، ويتفكرون في البلاد، أجسادُهم في الأرض، وأعيثُهم في السماء، أقدامُهم في الأرض، وقلوبهم في السماء، أنفسُهم في الأرض، وأفئدتهم عند العرش، أرواحُهم في الدنيا، وعقولُهم في الآخرة، ليس لهم همّ إلا ما أمامهم، فنورُهم ومقامهم عند ربهم، ثم تلا هذه الآية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]. * يبادرون إلى حقِّ الله من غير تسويفٍ، ويوفون الطاعةَ من غير تطفيف (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أخبرتنا فاطمةُ بنتُ سعدِ الخيرِ: أخبرتنا فاطمةُ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 16 - 17).

تمام عقولهم، وحسن أقوالهم وأفعالهم

الجوردانيةُ: أنا ابن ربذةَ: أنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن موسى: ثنا عمرُ بن يحيى: ثنا حكيمُ بن حزامٍ، عن أبي جناب، عن أبي الزبيرِ، عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الله ثَلاثَاً. إِذَا رَأَى حَقّاً مِنْ حُقُوقِ الله، لَمْ يُؤَخِّرْهُ إِلَى أَيَّامٍ لا يُدرِكُها، وَأَنْ يَعمَلَ العَمَلَ الصَّالِحَ العَلانِيَة عَلَى قَوَامٍ مِنْ عَمَلِهِ في السَّرِيَرةِ، وَهُوَ يَجْمَعُ مَعَ ما يَعمَلُ صَلاحَ ما يُؤَمِّلُ". قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَهكذا وَلِيُّ الله"، وعقدَ بيدِه ثلاثاً، أو قالَ: ثلاثين (¬1). * وهم أتمُّ الناسِ عقلاَّ، وأحسنُهم قولاً وفعلاً، زهدوا في الدنيا، وسارعوا إلى رضا الله في سائر الأشياء. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن البالسيِّ: أنا المِزَّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أبو بكرِ بن خلادٍ: ثنا الحارثُ بن أبي أسامةَ: ثنا داودُ بن المحبرِ: ثنا ميسرةُ بن عبدويهِ، عن حنظلةَ بن وداعةَ، عن أبيه، عن البراءِ بن عازبٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ لله خَوَاصَّ يُسْكِنُهُمُ الرَّفيعَ مِنَ الجِنَانِ، كَانُوا أَعقَلَ النَّاسِ"، قلنا: يا رسولَ الله! - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانوا أعقلَ الناس؟ قال: "كَانَتْ هِمَّتُهُمُ المُسَابَقَةَ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالمُسَارَعَةَ إِلَى ما يُرْضِيهِ، وَزَهِدُوا في فُضُولِ الدُّنْيَا وَرِيَاشِها وَنَعِيمِهَا، وهانَتْ عَلَيْهِم فَصَبَرُوا قَلِيلاً، وَاسْتَرَاحُوا طَوِيلاً" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 17). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 17).

ذكر شيء من صفات أولياء الله في كتابه

وهذه قاعدةٌ معروفة من الناس: من تعبَ قليلاً، استراح طويلاً، ومن خافَ، أَدْلَجَ، ومن أدلجَ، بلغَ المنزلَ، ومن اجتهدَ، نالَ. * وقد ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- كثيراً من صفاتهم في كتابه؛ كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 16 - 19]. وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. أخبرنا أبو حفص المقرئُ: أنا أبو الحسن الموصليُّ: أنا المحبوبيُّ: أنبأ ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالب اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: أنا أبو بكرِ بن حمدانَ: أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمدَ: ثنا شيبانُ: ثنا أبو هلالٍ: ثنا بكرُ بن عبد الله المزنيُّ، قال: لما أُلقي إبراهيمُ -عليه السلام- في النار، جأرت عامةُ الخليقةِ إلى ربها، فقالوا: يا ربِّ! خليلُك يُلقى في النار، فائْذَنْ لنا أن نُطفئَ عنه، قال: هو خليلي، ليس في في الأرض خليلٌ غيرُه، وأنا ربُّه، ليس له ربٌّ غيري، فإن استغاثَكُم، فَأغيثوه، وإلا، فدعوه. قال: فجاء مَلَكَ القَطْر فقالَ: يا ربّ! خليلُك يُلقى في النار، فائذنْ في أن أُطفئ عنه بالقَطْر، قال: هو خليلي، ليس لي في الأرض خليلٌ غيرُه، وأنا ربُّه، ليس له ربٌّ غيري، فإن استغاثك، فَأغِثْه، وإلا، فدعه، فلما أُلقي في النار، دعا ربَّه -عَزَّ وَجَلَّ-، فقال الله:

{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، قال: فبردت يومئذ على أهل المشرق والمغرب، فلم ينضَجْ بها كُراعٌ (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ، والفخرُ بن البخاري: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: أنا أحمدُ بن السنديِّ: ثنا الحسنُ بن علويه: ثنا إسماعيلُ: ثنا إسحاقُ بن بشرٍ، قال: قال مقاتلٌ وسعيدٌ: لما جيء بابراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، فخلعوا ثيابه، وشدوا قماطه، ووُضع في المنجنيق، بكت السماءُ والأرض، والجبال والشمس والقمر، والعرش والكرسي والسحاب، والربح والملائكة، كلٌّ يقول: يا ربِّ! إبراهيمُ عبدُك بالنار يُحرق، فائذنْ لنا في نصرته، فقالت النار وبكت: يا ربِّ سَخَرتني لبني آدم، وعبدُك يحرَق بي، فأوحى الله إليهم: إن عبدي إيايَ عبدَ، وفي جنبي أوذي، إن دعاني، أجبته، وإن استنصركم، فانصروه. فلما رُمي استقبله جبريل -عليه السلام- بين المنجنيق والنار، فقال: السلامُ عليك يا إبراهيمُ، أنا جبريل، ألك حاجةٌ؟ قال: أما إليك، فلا، حاجتي إلى الله ربي، فلما قُذف في النار، سبقه إسرافيلُ، فسلط النار على قِماطه فأكلته، وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فلو لم يخلط بالسلام، لمات فيها برداً (¬2). فهذه النارُ التي هي أضرُّ شيء لبني آدم، أرادَ عدوُّ الله إحراقَ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 19 - 20). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 20).

ضيق الدنيا وقلتها لذة لأولياء الله، واتساعها عذاب لأهلها

نبىِّ الله وخليلهِ بها، فجعلَها الله عليه برداً وسلاما، حتى كانت عليه ألذَّ من جميع لذات الدنيا. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبونعيمٍ: ثنا الحسينُ بن محمدٍ: ثنا يحيى بن محمدٍ: ثنا يوسفُ القطانُ: ثنا مهرانُ بن أبي عمرَ: ثنا إسماعيلُ بن أبي خالدٍ، عن المنهالِ بن عمرٍو، قال: أُخبرت أنَّ إبراهيمَ -عليه السلام- لما أُلقي في النار، كان فيها ما أدري إما خمسين، وإما أربعين يوماً، قال: ما كنت أياماً ولياليَ قَطُّ أطيبَ عيشاً مني إذْ كنتُ فيها، ووَدِدتُ أنَّ عيشي وحياتي كلَّها مثل عيشي إذ كنت فيها (¬1). فانظر إلى أضر شيء، بقدرة القادر صيره على حبيبه ألذَّ شيء، وكيف لا يكون كذلك، والعذابُ والنعيم، والضرُّ والنفع، الكل بيده، فهو القادرُ أن يجعل العذابَ نعيماً، والنعيمَ عذاباً، والضرَّ نفعاً، والنفعَ ضراً، والكلُّ بيده، إذا أراد شيئاً، فإنما يقول له: كن فيكون. * وكذلك جعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- الضيقَ وقلَّةَ الدنيا لأوليائه لذةًّ، وجعل الاتساعَ من الدنيا وما فيها عذاباً لأهلها؛ فإن كثيرها هموم وغموم، وهي تدنس المتقين، كما قيل لأبي بكر -رضي الله عنه-: ألا تستعمل أهلَ بدرٍ؟ قال: إني أرى مكانَهم، ولكني أكره أن أُدَنِّسهم بالدنيا (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 20). (¬2) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 37).

أخبرنا أبو حفص المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنبأ ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ، أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: ثنا عبد الله بن أحمدَ: حدثني أبي: ثنا يزيدُ: ثنا المسعوديُّ، عن عونِ بن عبد الله، قال: قالَ عبد الله: لا يبلغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتى يحلَّ بذروتهِ، ولا يحلُّ بذروته حتى يكونَ الفقرُ أحبَّ إليه من الغنى، والتواضعُ أحبَّ إليه من الشرف، وحتى يكونَ حامدُه وذامُّه عندَه سواءً (¬1). قال: ففسرها أصحابُ عبد الله؛ قالوا: حتى يكون الفقرُ في الحلال أحبَّ إليه من الغنى في الحرام، والتواضعُ في طاعة الله أحبَّ إليه من الشرفِ في معصية الله، وحتى يكون حامدُه وذامُّه عندَه في الحقِّ سواءً. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظ أبو نعيمٍ: ثنا أبو محمدِ بن حيانَ: ثنا أحمد بن عليِّ بن الجارودِ: ثنا عبد الله بن سعيدٍ الكنديُّ: ثنا حفصُ بن غياثٍ، وأبو يحيى التيميُّ، قالا: عن ليثٍ، عن عثمانَ، عن زاذانَ، عن سلمانَ، قال: إن الله تعالى إذا أراد بعبدٍ شراً، أوَ هلَكَةً، نزعَ منه الحياءَ، فلم تلقَه إلامَقيتاً مُمَقَّتاً، فإذا كانَ مَقيتاً ممقَّتاً، نُزعت منه الرحمةُ، فلم تلقَهُ إلا فَظّاً غليظاً، فإذا كان كذلك، نُزعت معه الأمانةُ، ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 132).

فلم تلقه إلا خائنًا مخوَّنًا، فإذا كان كذلك، نزعتْ رِبْقَةُ الإسلام من عُنقه، فكان لعينًا ملعَّنًا (¬1). وفي رواية: فلا يبالي الله في أيِّ وادٍ هلك (¬2). وقال بعضهم: إذا كان كذلك، أهلكه الله بما شاء من غضبه. أخبرنا أبو حفص المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أخبرتنا ابنةُ علوانَ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا أَبو المغيرةِ: ثنا جريرٌ: ثنا حبيبُ بن عبيدٍ: أن رجلاً أتى أبا الدرداء، وهو يريد الغزو، فقال: يا أبا الدرداء! أوصني، فقال: اذكرِ الله في السراء، يذكرك في الضراء، وإذا أشرفت على شيء من الدنيا، فانظر إلى ما يصير (¬3). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا محمدُ بن أحمدَ: ثنا بشرُ ابن موسى: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئُ: ثنا سعيدُ بن أبي أيوبَ، عن عبد الله بن الوليدِ، عن عباسِ بن خليدٍ، عن أبي الدرداءِ: أنه قال: لولا ثلاثُ خلالٍ، لأحببتُ أن لا أبقى في الدنيا، قلت: وما هن؟ فقال: ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 204). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 147). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 209).

عدم احتقار القليل من الشر أن تتقيه، ولا شيئا من الخير أن تفعله

لولا وضوعُ وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار يكون تقدمة لحياتي، وظمأ الهواجر، ومقاعدةُ أقوامٍ ينتقون الكلام كما تنتقى الفاكهة، وتمامُ التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه في مثل مثقال ذرة، حتى يترك بعضَ ما يرى أنه حلال خشيةَ أن يكون حرامًا، يكون حاجزًا بينه وبين الحرام، إن الله تعالى قد بين لعباده الذي هو مصيرهم إليه، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. * فلا تحقرنَّ شيئًا من الشر أن تتقيه، ولا شيئًا من الخير أن تفعله (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا المقدامُ بن داودَ: ثنا عليُّ بن معبدٍ: ثنا موهبُ بن راشدٍ: ثنا مالكُ بن دينارٍ، عن جلاسِ بن عمرٍو، عن أبي الدرداءِ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقولُ: أَنَا الله لا إِلَهَ إِلا أَنَا مَالِكُ المُلْكِ، وَمَلِكُ المُلُوكِ، قُلُوبُ المُلُوكِ في يَدِي، وَإِنَّ العِبَادَ إِذَا أَطَاعُونِي، حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنَّ العِبَادِ إِذَا عَصَوْنِي، حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالسَّخَطِ وَالنَّقْمَةِ، فَسَامُوهُمْ سُوءَ العَذَابِ، فَلا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى المُلُوكِ، وَلكن اشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالذِّكْرِ والتَّضَرُّعِ إِلَيَّ أَكْفِكُمْ مُلُوكَكُمْ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 212). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 388).

وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أبي: ثنا عبد الله بن محمدٍ: ثنا الحسينُ بن الحسنِ: أنا الهيثمُ بن جميلٍ: ثنا عبد الغفورِ، عن همامٍ، عن كعبٍ، قال: إنا نجدُ أن الله تعالى يقول: إني أنا الله لا إله إلا أنا خالقُ الخلق، أنا الملكُ العظيمُ، دَيَّانُ يوم الدين، وملكُ الملوك، قلوبُهم بيدي، فلا تَشَاغَلُوا بذكرهم عن ذكري ودعائي والتوبةِ إليَّ حتى أُعَطِّفهم عليكم بالرحمة، فأجعلَهم رحمةً، وإلا جعلتهم نقمةً (¬1). وبه إلى أبي نعيم: ثنا أبي: ثنا أبو الحسنِ بن أبانَ: ثنا عبد الله بن محمدِ بن سفيانَ: حدثني إسماعيلُ بن إبراهيمَ: حدثني صالحٌ، عن مالكِ بن دينارٍ، قال: قرأتُ في الحكمة: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ - يقول: أنا ملكُ الملوك، قلوبُ الملوك بيدي، فمن أطاعني، جعلتُهم عليه رحمةً، ومن عصاني، جعلتهم عليه نقمةً، فلا تشغلوا أنفسَكُم بسبِّ الملوك، ولكن توبوا إليَّ أُعَطِّفْهم عليكم (¬2). وبه إلى أبي نعيم: ثنا سليمانُ: ثنا إسحاقُ بن عبد الرزاقِ: ثنا عمرُو بن حمدانَ: ثنا الحسنُ بن سفيانَ: ثنا بشرُ بن الحكم: ثنا عبد الرزاق: ثنا معمرٌ، عن صاحبٍ له: أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان: يا أخي! اغتنم صحتك وفراغك قبل أن ينزل بك من البلاء مالا يستطيع العباد ردَّه، واغتنمْ دعوةَ المبتلى (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 25). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 172). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 214).

أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أحمدُ بن جعفرٍ: ثنا عبد الله ابن أحمد: ثنا أبي: ثنا الوليدُ بن مسلم: ثنا صفوانُ بن عمرٍو: حدثني عبد الرحمن بن جُبيرِ بن نُفيرٍ، عن أبيه، قال الوليد: وثنا ثورٌ، عن خالدِ بن معدانَ، عن جُبيرِ بن نُفيرٍ، قال: لما فُتحت قبرسُ، فُرِّقَ بينَ أهلِها، فبكى بعضُهم إلى بعض، ورأيتُ أبا الدرداء جالسًا وحَده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يُبكيك في يومٍ أعزَّ الله فيه الإِسلامَ وأهلهَ؟ قال: ويحكَ يا جبير!، ما أهونَ الخلقَ على الله إذا هم تركوا أمره! بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى (¬1). وبه إلى الإِمام أحمدَ: ثنا معمرُ بن سليمانَ: ثنا قرابُ بن سليمانَ: أن أبا الدرداء كان يقول: ويلٌ لكلِّ جَمَّاعٍ فاغرٍ فاه كأنه مجنون، يرى ما عند الناس، ولا يرى ما عنده، لو يستطيع، لوصلَ الليلَ بالنهار، ويلَه من حساب غليظ، وعذاب شديد (¬2). وبه إلى الحافظِ أبي نعيمٍ: ثنا أبي: ثنا أحمدُ بن محمدٍ: ثنا الربيعُ بن تغلبَ: ثنا فرجُ بن فضالةَ، عن لقمانَ بن عامرٍ، عن أبي الدرداءِ، قال: إياكم ودعوةَ المظلومِ، ودعوةَ اليتيم؛ فإنهما تسريانِ بالليلِ والناسُ نيامٌ (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 217). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 217). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 221).

وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ، قال: قالَ أبو الدرداءِ: مِنْ أبغضِ الناسِ إليَّ أن أَظلمَه مَنْ لا يستعينُ عليَّ إلا بالله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬1). وبه إلى الحافظِ أبي نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن إسحاقَ: ثنا عبد الله بن سليمانَ: ثنا عليُّ بن خشرمٍ: ثنا عيسى بن يونسَ، عن الأوزاعيِّ، عن حسانَ بن عطيةَ: أن أبا الدرداءِ كان يقول: اللهمَّ إني أعوذُ بكَ أن تلعنني قلوبُ العلماء، قيل: وكيف تلعنُك قلوبُهم؟ قا [ل]: تكرهني فتلعنني (¬2). وبه إلى عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: حدثني عبد الله بن صندلٍ: ثنا فضيلُ بن عياضٍ، عن سليمانَ بن مهرانَ، عن عمرِو بن مرةَ، عن عبد الله بن سلمةَ، قال: قال رجلٌ لمعاذِ بن جبلٍ: علمني، قال: وهل أنت مُطيعي؟ قال: إني على طاعتك لحريصٌ، قال: صُمْ وأَفطِرْ، وصَلِّ ونَمْ، واكتسبْ ولا تأثمْ، ولا تموتَنَّ إلا وأنت مسلمٌ، وإياكَ ودعوةَ المظلوم (¬3). وبه إلى أبي نعيم: ثنا أبو محمَّد بنُ حيانَ: ثنا عبد الرحمن بن محمدٍ: ثنا هَنَّادُ بن السَّرِيِّ: ثنا وكيعٌ، عن يزيدَ بن إبراهيمَ، عن أبي هارونَ الغنويِّ، عن مسلمِ بن شدَّادٍ، عن عُبيدِ بن عُميرٍ، عن ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 221). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 223)، وليس فيه: "فتلعنني". (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 233).

أبي بن كعبٍ، قال: ما مِنْ عبد ترك شيئًا لله، إلا أبدَلُه الله به ما هو خيرٌ منه من حيثُ لا يحتسب، وما تهاون به أحدٌ، فأخذه من حيث لا يصلح، إلا آتاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما هو أشدُّ عليه منه من حيث لا يحتسب (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن جعفرٍ: ثنا أبو بكرِ بن النعمانِ: ثنا محمدُ بن سعيدٍ: ثنا أبو جعفر الرازيُّ، عن الربيعِ بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ، عن أبي بن كعبٍ، قال: المؤمنُ بينَ أربعٍ: إن ابتُلي صبر، وإن أُعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل، فهو يتقلَّب في خمسة من النور، وهو الذي بقول الله -عَزَّ وَجَلَّ -: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]، فكلامُه نور، وعملُه نور، ومدخلُه في نور، ومخرجُه نورٌ، ومصيرهُ إلى النور يومَ القيامة، فكيفما تقلب، فهو في النور. والفاجرُ يتقلَّب في خمسة من الظُّلَم، فكلامُه ظُلمة، وعملُه ظلمة، ومدخلُه ظلمة، ومخرجُه في ظُلمة، ومصيرُه إلى الظلمةِ يومَ القيامة (¬2). ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬3). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أبو أحمدَ محمدُ بن أحمدَ: ثنا عبد الله بن محمدٍ: ثنا إسحاقُ بن راهويه: ثنا الفضلُ بن موسى، عن الوليدِ بن جُميع، عن أبي الطفيل، عن حذيفةَ، قال: ثلاثُ فتنٍ: والرابعةُ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 253). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 255). (¬3) رواه البخاري (2315)، ومسلم (2579)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

تسوقُهم إلى الدجال: التي ترمي بالرضف، والتي ترمي بالنشف، والسوداءُ المظلمةُ التي تموج كموجِ البحر، والرابعة التي تسوقهم إلى الدجال (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا زينبُ بنتُ الكمالِ: أنا يوسفُ بن خليلٍ: أنا محمدُ بن أبي زيدٍ: أنا الصيرفيُّ: أنا ابن فاذشاه: أنا الطبرانيُّ: ثنا إسحاقُ بن إبراهيمَ: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا معمرٌ، عن أبي إسحاقَ، عن عمارةَ بن عبدٍ، عن حذيفةَ، قال: إياكُمْ والفتنَ لا يشخصُ إليها أحدٌ، هو الله! ما شَخَصَ إليها أحدٌ إلا نسفَتْه كما ينسفُ السيل الدِّمَنَ، إنها مشبهة مقبلة، حتى يقولَ الجاهلُ: هذه تشبهُ، وتبين مدبرة، فإذا رأيتموها، فاجتمعوا في بيوتكم، وكَسِّروا سيوفَكم، وقَطِّعوا أوتارَكُم (¬2). وبه إلى أبي نعيمِ: ثنا أبو عبد الله الحسينُ بن حمويه: ثنا محمدُ بن عبد الله الحضرميُّ: ثنا مصرفُ بن عمرٍو: ثنا عبد الرحمن بن محمدِ بن طلحةَ، عن أبيه، عن الأعمشِ، عن أبي وائلِ، وزيدِ بن وهبٍ عن حذيفةَ، قال: إن للفتنة وَقَفاتٍ وبغتاتٍ، فمن استطاعَ أن يموتَ في وقفاتها، فليفعلْ، يعني بالوقفات: غمدَ السيف (¬3). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن حمزةَ: ثنا الحسنُ بن ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 273). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 273)، ورواه الحاكم في "المستدرك" (8385). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 274).

إبراهيمَ بن بشارٍ: ثنا عبد الله بن عمرانَ: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ، عن همامٍ، عن حذيفةَ، قالَ: ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا ينجو فيه إلا مَنْ دعا بدعاءٍ كدعاءِ الغريق (¬1). وبه إلى الحضرميِّ: ثنا محمدُ بن عبد الله بن نميرٍ: ثنا محمدُ بن بلالٍ، عن عمرانَ القطان، عن الأعمشِ، عن أبي وائلٍ، عن حذيفةَ، قال: ما الخمرُ صِرْفًا بأذهبَ بعقولِ الرجالِ من الفتنة (¬2). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أبو حامدِ بن جبلةَ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا عمرُ بن محمدٍ الأسديُّ: حدثني أبي: ثنا سلامُ بن مسكينٍ، قال: سمعتُ الحسنَ يقولُ: لما كانَ من أمر الناس ما كان من أمر الفتنة، أتوا عبد الله بن عمرَ، فقالوا: أنتَ سيدُ الناسِ، وابن سيدِهم، والناسُ بكَ راضون، اخرجْ نُبايِعْك. فقال: لا والله! لا يُهَراق فيَّ محجمةٌ من دم، ولا في سببي ما كان فيَّ الروح. قال: ثم أُتي، فَخُوِّف، فقيل له: لتخرجَنَّ، أو لتُقتلنَّ على فراشك. فقالَ مثلَ قوله الأول. قال الحسن: فو الله! ما استقلوا منه سنًا حتى لحق بالله -عز وجل- (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 274). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 274). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 293).

وقد روينا في "الصحيح": أن معاوية لما حجَّ، خطبَ فقالَ: من كان يزعُم أنه أحقُّ منا بهذا الأمر، فليخرجْ، وفي رواية: فليبرزْ لنا قَرْنه، فنحنُ أحقُّ به منه ومن أبيه. قال عبد الله بن عمرَ: فأردتُ أن أقول: أحقُّ منك بهذا الأمر مَنْ قاتَلَكَ وأباكَ على الإِسلام، فذكرتُ ما أعدَّ الله في الجِنان للمتقين، وخِفْت أن يُنقل عني غيرُ ذلك، فحلَلْتُ حَبْوتي، وسَكَتُّ، فقيل له: حُفظت، وعُصمت (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أبو حامدِ بن جبلةَ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا محمدُ بن الصباحِ: ثنا الوليدُ بن مسلمٍ: ثنا ابن جابر، عن القاسمِ بن عبد الرحمن: أنهم قالوا لابن عمرَ في الفتنة الأولى: ألا تخرجُ فتقاتل؟ قال: قد قاتلتُ والأنصابُ بينَ الركنِ والباب، حتى نفاها الله -عَزَّ وَجَلَّ- من أرض العرب، فأنا أكره أن أقاتل من يقول: لا إله إلا الله. قالوا: والله! ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يُفني أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضُهم بعضًا، حتى إذا لم يبق غيرُك، قيل: بايعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين. قال: والله! ما ذلك بي، ولكن إذا قلتم: حيَّ على الصلاة، أجبتكم [وإذا قلتم:] حيَّ على الفلاح، أجبتكم، فإذا افترقتم، لم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3882).

مقام الولاية أعظم وأجل من مقام الخلافة

أجامعكم، وإذا اجتمعتم، لم أفارقكم (¬1). ولما أُصيب عمرُ -رضي الله عنه-، آيسه منها، فقال لأصحاب الشورى: يشهدُكم عبد الله، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزيةِ له، فلم يلتفتْ إليها بعدَ ذلك، ولم يُرِدْها, ولم يقاتلْ عليها حين قاتل الناسُ عليها، وكان المرجعُ إليه، والإقتداءُ في الدنيا من الخلفاء وغيرهم، حتى إن الخليفةَ عبد الملك بن مروان بعثَ إلى نائبه الحجاجِ أن يقتديَ به في أمر الحجِّ، وأن يجعلهَ قدوةَ جميعِ الناس فيه، وأن يكونَ له تبعًا في ذلك. حتى إن الحجاجَ ركبَ، وجاء إلى خدمته لأجل الاقتداء به، ومشى في خدمته، حتى إنه لمَّا أصيب في قدمه، قال له الحجاج: لو نعلمُ من أصابك؟ قال: أنت أصبتني، قال: وكيف أصبتك؟ قال: حملتَ السلاحَ في يوم لم يكن يُحمل فيه، وأدخلتَ السلاحَ الحرمَ، ولم يكن السلاحُ يدخل الحرم (¬2). * فهذا المقام الذي كان فيه، وصار إليه، أعظمُ وأكبرُ وأجلُّ والله من مقام الخلافة؛ فإن قدوتهم كانت به، فهم محتاجون إليه، وليس به حاجة إليهم، فهو كان في مقام الإقتداء لهم ولغيرهم، وهذا مقام السلطنة الكبرى. وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا إبراهيمُ بن عبد الله: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 294). (¬2) رواه البخاري (923) عن سعيد بن جبير.

ثنا قتيبةُ بن سعيدٍ: ثنا محمدُ بنُ يزيدَ: ثنا عبد العزيزِ بن أبي روادٍ: ثنا نافعٌ، قال: دخل ابن عمرَ -رضي الله عنه- الكعبةَ، فسمعتُه وهو ساجد يقول: قد تعلمُ ما يمنعني من مزاحمة قريشٍ على هذه الدنيا إلا خوفُك (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا القاضي عبد الله بن محمدِ بن عمرَ: ثنا عليُّ بن سعيدٍ: ثنا عبادُ بن الوليدِ: ثنا قرةُ بن حبيبٍ: ثنا عبد الله بن بكرٍ، عن عبيدِ الله (¬2) بن عمرَ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ: أنه أتاه رجلٌ، فقال: يا أبا عبد الرحمن! أنت ابن عمرَ، وصاحبُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -وذكر من مناقبه-، فما يمنعك من هذا الأمر؟ قال: يمنعني أن الله تعالى حَرَّم عليَّ دم المسلم. قال فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ - يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. قال: قد فعلْنا، قاتلناهم حتى كان الدينُ لله، فأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكونَ فتنةٌ، ويكونَ الدينُ لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬3). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا زينبُ بنتُ الكمالِ: أنا يوسفُ بن خليلٍ: أنا ابن أبي زيدٍ: أنا الصيرفيُّ: أنا ابن فاذشاه: أنا الطبرانيُّ: ثنا عبد الله بن أحمدَ بن حنبلٍ: ثنا الحكمُ بن ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 292). (¬2) في الأصل: "عبد الله" بدل "عبيد الله". (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 292 - 293).

موسى: ثنا إسماعيلُ بن عياش: حدثني المطعمُ بن المقدامِ الصنعانيُّ، قال: كتبَ الحجاجُ بن يوسفَ إلى عبد الله بن عمرَ: بلغني أنك طلبتَ الخلافةَ، وإن الخلافةَ لا تصلُح لِعَيِيٍّ، ولا بخيلٍ، ولا غيورٍ. فكتب إليه ابن عمرَ: أما ما ذكرتَ من الخلافة أني طلبتُها، فما طلبتُها، وما هي من بالي، وأما ما ذكرتَ من العيِّ والبخلِ والغيرة، فإنَّ من جمعَ كتابَ الله، فليسَ بعييِّ، ومن أَدَّى زكاةَ ماله، فليس ببخيل، وأما ما ذكرتَ من الغيرة، فإن أحقَّ ما غِرْتُ فيه ولدي أن يشرَكني فيه غيري (¬1). أخبرنا أبو حفص المقرىُ: أنا الإمامُ أبو الحسن الموصليُّ: أنا المحبوبيُّ: أخبرتنا ستُّ الأهلِ ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكر أحمدُ بن حمدانَ القطيعيُّ: أنا الإمامُ أبو عبد الرحمن عبد الله بنُ الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا ابن ادريسَ: ثنا حصينٌ، عن سالمِ بن أبي الجعد، عن جابرٍ، قال: ما رأيتُ، أو ما أدركتُ أحدًا إلا قد مالَتْ به الدنيا، أو مال بها، إلا عبد الله بن عمرَ (¬2). فأما قولُ هذا المُبيرِ: إنه لا يصلُح للخلافة، وإنه أرادها، فهذا كذبٌ وافتراء. وأما قوله: إنها لا تصلُح لعيي ولا بخيل ولا غيور. يتهمه بالعِيِّ، فإن هذا عينُ الكذبِ والإفتراء، فقد كانَ من أشجع ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (13048). (¬2) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 294).

الصحابة، ومن أكرم الصحابة، ووألله! ما بينه وبين أستاذِ الحجاجِ عبد الملكِ بن مروانَ مسافة في الكرم؛ فإن عبد الملك مشهورٌ بالبخل، وقد ذكره غيرُ واحد من العلماء من البخلاء، وعدُّوا ابن عمرَ من الأجواد. كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادٌ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا إبراهيمُ بن عبد الله: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا قتيبةُ بن سعيدٍ: ثنا محمدُ بن يزيدَ: ثنا عبد العزيزِ بن أبي روادٍ، عن نافعٍ، قال: كان ابن عمرَ إذا اشتدَّ عُجْبُه بشيء من ماله، قَرَّبه لربه -عَزَّ وَجَلَّ-. قال نافع: وكان رقيقهُ قد عرفوا ذلك منه، فربما شَمَّرَ أحدُهم، فيلزم المسجدَ، فاذا رآه ابن عمرَ -رضي الله تعالى عنه- على تلك الحالة الحسنة، أعتقه. فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن! والله! ما بهم إلا أن يخدعوك. فيقول: من خَدَعَنا بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، انخدَعْنا له. قال نافع: فلقد رأيتنا ذاتَ عشية، وراح ابن عمرَ على نجيبٍ له قد أخذه بمال، فلما أعجبه سيرُه، أناخَهُ مكانه، ثم نزلَ عنه، فقال: يا نافع! انزعوا زمامَه ورحلَه وجَلِّلوه وأَشْعِروه وأَدخلوه في البُدْن (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 294 - 295).

فكان لا يعجبه شيء من ماله إلا قَدَّمه لله -عَزَّ وَجَلَّ -. وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أبو حامدِ بن جبلةَ: ثنا أبو العباسِ الثقفيُّ: ثنا محمدُ بن الصباحِ: ثنا سفيانُ، عن عبيدِ الله، عن نافعٍ، قال: بينا ابن عمرَ يسير على ناقة، إذ أعجبتْهُ، فقال: إخ إخ، فأناخها، ثم قال: يا نافعّ! حُطَّ عنها الرحلَ، فكنتُ أرى أنه لشيء يريده، أو لشيء رابَهُ منها، فحططتُ الرحلَ. فقال لي: انظرْ هل ترى عليها مثلَ رأسها. فقلت: أنشدك إنك إن شئت بعتها، واشتريت بثمنها. قال فجللها، وقلَّدها، وجعلَها في بُدْنِه، وما أعجبَه من ماله شيء قَطُّ إلا قَدَّمه (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن محمدِ بن سنانَ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا عمرُو بن زُرارةَ: ثنا أبو عبيدةَ الحدادُ، عن عبد الله بن أبي عثمانَ، قال: كان عبد الله بن عمرَ أعتقَ جاريتَه التي يقال لها: رُمَيثة، فقال: إني سمعتُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وإني والله! إن كنتُ لأحبُّك في الدنيا، اذهبي فأنت [حرة] لوجه الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬2). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا القاضي أبو أحمدَ: ثنا جعفرُ بن محمدٍ: ثنا محمدُ بن سعيدٍ: ثنا أبو عاصمٍ، عن مالكِ بن مِغْوَلٍ، عن إبراهيمَ بن ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 295). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 295).

مهاجرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمرَ، قال: لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، دعا ابن عمرَ جاريةً له، فأعتقها (¬1). أخبرنا أبو حفصٍ المقرىُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أخبرتنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن أحمدَ: حدثني أبي: ثنا عبد الأعلى، عن بردٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ: أنه كان لا يُعجبه شيء من ماله إلا خرج منه لله -عز وجل-. قال: وكان ربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفًا. قال: وأعطاه ابن عامرٍ ثلاثين ألفًا، فقال: يا نافعُ! إني أخاف أن تفتنني دراهمُ ابن عامر، اذهبْ فأنت حرٌّ. قال: وكان لا يُدْمِنُ اللحمَ شهرًا إلا إذا كان مسافرًا، أو في رمضان، وكان يمكث الشهر لا يذوق فيه مُزْعَة لحم (¬2). وبه إلى الطبرانيِّ: ثنا محمدُ بن السَّرِيِّ: ثنا الحكمُ بن موسى: ثنا يحيى بن حمزةَ: عن بردِ بن سنان، عن نافعٍ، قال: إنْ كان ابن عمرَ ليقسمُ في المجلسِ الواحدِ ثلاثين ألفًا، ثم يأتي عليه شهر ما يأكل فيه مُزْعَةً لحم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 295). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 295). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (13045).

وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا خالدُ بن حيانَ: ثنا عيسى بن كثيرٍ، عن ميمونِ بن مهرانَ، قال: أتت ابن عمر اثنان وعشرون ألفَ دينار في مجلس، فلم يقم حتى فرقها (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أبو حامدِ بن جبلةَ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا أبو همامٍ: ثنا عمرُ بن عبد الواحدِ، عن عمرَ بن محمدٍ، عن نافعِ، قال: ما ماتَ ابن عمرَ حتى أعتقَ ألفَ إنسانٍ، أو زادَ (¬2). وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا هاشمُ بنُ القاسمِ: ثنا عاصم -يعني: ابن محمدٍ- عن أبيه، قال: أعطى ابن جعفرٍ بنافعٍ عشرةَ آلاف، أو ألفَ دينارٍ، فقلتُ: يا أبا عبد الرحمن! فما تنتظر أن تبيع؟ قال: فهلا ما هو خير من ذلك، هو حرٌّ لوجه الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬3). وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا وكيعٌ: ثنا المغيرةُ بن زيادٍ، عن نافعٍ، قال: باع ابن عمر أرضًا له بمئتي ناقة، فحمل على مئة منها في سبيل الله، واشترط على أصحابها أن لا يبيعوا حتى يجاوزوا بها وادي القرى (¬4). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن محمدِ بن سنانَ: ثنا أبو العباسِ السراجُ: ثنا عمرُو بن زرارةَ: ثنا إسماعيلُ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، أن ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 296). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 296). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 296). (¬4) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 296).

معاويةَ بعثَ إلى ابن عمرَ مَائةَ ألف، فما حالَ الحولُ وعنده منها شيء (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا الحسنُ بن محمدٍ: ثنا إسماعيلُ بن إسحاقَ: ثنا سليمانُ بن حربٍ: ثنا أبو هلالٍ: ثنا أيوبُ بن وائلٍ، قالَ: قدمتُ المدينة، فأخبرني رجلٌ جارٌ لابن عمرَ: أنه أتى ابن عمرَ أربعةُ اَلافٍ من قِبل معاويةَ، وأربعةُ اَلافٍ من قِبَلِ آخرَ، وألفانِ من قبل آخر، وقطيفةٌ فجاء إلى السوق يريد عَلَفًا لراحلته بدرهمٍ نسيئةً، فقد عرفتُ الذي جاءه، فأتيتُ سُرِّيته فقلت: إني أريد أن أسألكِ عن شيء، وأحبُّ أن تَصْدُقيني. فقلتُ: أليس قد أتت أبا عبد الرحمن أربعةُ آلاف من قِبل معاوية، وأربعةُ آلاف من قِبل إنسان آخر، وألفان من قِبل آخرَ، وقطيفة؟ قالت: بلى. قلت: فإني رأيتُه يطلب عَلَفًا بدرهمٍ نسيئةً. قالت: ما بات حتى فَرَّقها، فأخذَ القطيفةَ فألقاها على ظهره، ثم ذهبَ فوجَّهها، ثم جاء. فقلت: يا معشر التجار! ما تصنعون بالدنيا، وابن عمر أتته البارحة عشرةُ آلاف درهم، فأصبح اليوم يطلب لراحلته عَلَفًا بدرهم نسيئة (¬2)؟! ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 296). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 296 - 297).

وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا أبو يزيدَ القراطيسيُّ: ثنا نعيمُ بن حمادٍ: ثنا ابن المباركِ، عن عمرَ بن محمدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ: أنه اشتكى، فاشترى له عنقود عنب بدرهم، فجاء مسكينٌ، فقال: أَعطُوه إياه، قال: فأعطَوه إياه، فخالف إليه إنسانٌ، فاشتراه منه بدرهم، ثم جاء به إليه، فجاء المسكينُ يسأل، فقال: أَعطوه إياه، فأعطوه إياه، فخالف إنسان، فاشتراه منه بدرهم، ثم جاء به إليه، فجاءه المسكينُ يسأل، فقال: أَعطوه إياه، ثم خالف إنسان، فاشتراه منه بدرهم، فأراد أن يرجع، فمنع، وأتى به فأكله، ولو علم ابن عمر بذلك العنقود، ما ذاقه (¬1). وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا يزيدُ بن هارونَ: ثنا مستلمُ بن سعيدٍ الثقفيُّ، عن حبيبِ بن عبد الرحمن، عن نافعٍ: أن ابن عمرَ اشتهى عنبًا وهو مريض، فاشتريتُ له عنقودًا بدرهم، فجئت به، فوضعته في يده، فجاء سائل، فقام على الباب فسأل، فقال ابن عمر: ادفعْه في يده، قال: قلت: كلْ منهُ، ذُقْه، قال: لا، ادفعْه إليه، فدفعتُه إليه، قال: فاشتريتُه منه بدرهم، فجئت به إليه، فوضعته في يده، فعاد السائل، فقال ابن عمر: ادفعْه إليه، قلتُ: ذُقْه، كُلْ منه، قال: ادفعْه إليه، فدفعتُه، فما زال يعود السائل ويأمر بدفعه إليه حتى قلتُ للسائل في الثالثة أو الرابعة: ويحكَ! ما تستحي؟ فاشتريتُه منه بدرهم، فجئت به إليه، فأكله (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" ((1/ 297). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 297).

وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا إبراهيمُ بن عبد الله: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا قتيبةُ بن سعيدٍ: ثنا الليثُ بن سعدٍ، عن خالدِ بن يزيدَ، عن سعيدِ بن أبي هلالٍ: أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- نزل الجُحْفَة وهو شاكٍ، فقال: إني لأشتهي حيتانًا، فالتمسوا له، فلم يجدوا له إلا حوتًا واحدًا، فأخذَتْه امرأته صفيةُ بنتُ أبي عبيد، فصنعته، ثم قربته إليه، فأتاه مسكينٌ حتى وقف عليه، فقال له [ابن] عمر: خذه، فقال أهلُه: سبحانَ الله! قد عَنَّيْتَنا، ومعنا زادٌ نعطيه، فقال: إن عبد الله يحبُّه (¬1). وكان لا يحبُّ شيئًا إلا خرجَ عنه لله. وبه إلى أبي نعيمِ: ثنا أبو محمدِ بن حيانَ: ثنا أبو يحيى الرازيُّ: ثنا هنادُ بن السريِّ: ثنا قَبيصةُ بن عقبةَ: ثنا قيسُ بن سليمٍ العنبريُّ، عن أبي بكرِ بن حفصٍ: أن عمرَ بن سعدٍ قال: اشتكى ابن عمر، فاشتهى حوتًا، فصُنع له، فلما وُضع بين يديه، جاء سائل، فقال: أعطوه الحوتَ، قالت امرأتُه: نعطيه درهمًا، فهو أنفعُ له من هذا، واقْضِ أنتَ شهوتَك منه، فقال: شهوتي ما أريد (¬2). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا محمدُ بن عليٍّ: ثنا الحسينُ بن أبي معشرٍ: ثنا أبو الخطابِ: ثنا حاتمُ بن وردانَ: ثنا أيوبُ، عن نافعٍ، قال: اشتهى ابن عمر -رضي الله عنه- حوتًا، فاشتريتُ له سمكة، فشُويت، فوُضعت بين يديه، فجاء سائل يسأل، فأمر بها كما هي، ما ذاق منها ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 297). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 298).

شيئًا، فقالوا: نعطيه خيرًا من ثمنها، فأبى (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا إبراهيمُ بن عبد الله: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا قتيبةُ بن سعيدٍ: ثنا كثيرُ بن هشامٍ: ثنا جعفرُ بن برقانَ: ثنا ميمونُ بن مهرانَ: أن امرأةَ ابن عمر عوتبت فيه، فقيل لها: أما تلطفين بهذا الشيخ؟ فقالت: فما أصنعُ به؟ لا نصنع له طعامًا إلا دعا عليه من يأكله، فأرسلَتْ إلى قوم من المساكين كانوا يجلسون في طريقه إذا خرج من المسجد، فأعطتهم، وقالت لهم: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته، فقال: أرسلوا إلى فلان، وإلى فلان، وكانت امرأته أرسلتْ إليهم بطعام، وقالت: إن دعاكم، فلا تأتوه، فقال ابن عمر: أردتم أن لا أتعشى الليلةَ، فلم يتعشَّ تلك الليلة (¬2). ولو ذهبنا نذكر جميعَ حكايات كرمه وجوده، وخيره ودينه، لطال بنا الأمر، وبلغ عدة مجلدات، وكل ذلك يردُّ قولَ هذا الغبيِّ (¬3) الذي قد أفسدَ على نفسه أمرَ آخرته؛ من أنه بخيل، وكيف افترى ذلك وتقوَّله، وحكاياتُ بخلهِ وبخلِ أستاذه (¬4) مشهورةٌ. * وقد ذكر ابنُ عبدِ ربِّه عبدَ الملكِ يذمه، وأنَّه من البخلاء [...]. وذكر عنه حكاياتٍ عديدةً في ذلك، منها: أنه أكل عنده مرة أعرابي، فتأخر بعد الناس، فجعل يلاحظه، فقال ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 298). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 298). (¬3) يعني: الحجَّاج. (¬4) يعني: عبد الملك بن مروان.

وصف الأبرار الأخيار

له: يا أعرابي! على لقمتك شعرة، فقال الأعرابي: وإنك لتلاحظني ملاحظةَ مَنْ يرى الشعرةَ على لقمتي! والله! لا أكلت بعدها على مائدتك قط. إلى غير ذلك من الحكايات الردية. فيا لله العجب! كيف نالته الخلافة مع ذلك. * عدنا إلى وصف الأبرار الأخيار، الذين من آذاهم أو ضرهم أو عاداهم، أكبه الله وأتعس ماله، وأخمله وأخمل مقاله، وأفسد حاله، ونكس أعلامه، وأذل رجاله. من عادى ربه كيف يسعد؟! ومن بارزه بالمحاربة كيف يحمد؟! لا تغتر بكثير أعوانك، ولا بجنودك، وكبير سلطانك، ولا يغرنك الشيطان بكثرة الأعوان، {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100]، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّه} [البقرة: 249]، ومن كان مع الله، كان الله معه، ومن زرع التقوى، حمد عند الحصاد ما زرعه، ومن دعاه، سمعه، ومن استغاث به، نفعه. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا أبو نعيمٍ: ثنا أبو أحمدَ محمدُ بن أحمدَ: ثنا الحسنُ بن محمدِ بن بهرام: ثنا يحيى بن أيوبَ: ثنا عبادُ بن عبادٍ: ثنا الحجاجُ بن فرافضةَ، عن رجلين سماهما، عن الزهريِّ، عن عبيدِ الله بن عبد الله، عن ابن عباسٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ له: "يَا غُلامُ! أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ

يَنْفَعُكَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِنَّ؟ احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى الله في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ، فَاسْتَعِنْ بِالله، جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَلَوِ اجْتَمَعَ الخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ الله لَكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَعَلى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيْئًا كَتَبَهُ الله لَكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَاعْمَلْ لله بِالرِّضَا في اليَقِينِ، وَاعْلَمْ أَنَّ في الصَّبْرَ عَلَى ما تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيراً، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا" (¬1). وقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]. قالوا: ولن يغلب عسرٌ يُسرينِ. وبه إلى الحافظِ أبي نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن السنديِّ: ثنا الحسنُ بن علويه: ثنا إسماعيلُ بن عيسى: ثنا إسحاقُ بن بشرِ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ: أنه قال: يا صاحبَ الذنب! لا تأمنْ من سوء عاقبته، ولَمَا يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته، فأولُ ذلك قلةُ حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب أعظمُ من الذنب الذي عملته، وضحكُك وأنت لا تدري ما الله صانعٌ بك أعظمُ من الذنب، وفرحُك بالذنب إذا ظفرتَ به أعظمُ من الذنب، وجرأَتُكَ على الذنبِ أعظمُ من الذنبِ إذا ظفرتَ به، وخوفُك من الريح إذا حركَتْ سترَ بابك وأنتَ على الذنبِ لا يضطربُ فؤادُك من نظرِ الله إليكَ أعظمُ من ¬

_ (¬1) ورواه هناد بن السري في "الزهد" (1/ 304).

ذهاب النسناس في زماننا وبقاء الأنجاس

الذنب، ويحكَ! هل تدري ما كان ذنبُ أيوبَ -عليه السلام-، فابتلاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالبلاء في جسده، وذهاب ماله؟ إنما كان ذنبُ أيوبَ -عليه السلام- أنه استعان به مسكينٌ على ظلم يدرؤه عنه، فلم يُعنه، ولم يأمر بمعروف، ولم ينه الظالمَ عن ظلم هذا المسكين، فابتلاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬1). وبه إلى الحافظِ أبي نعيمٍ: ثنا سليمانُ: ثنا عليُّ بن عبد العزيزِ: ثنا أبو نعيمٍ: ثنا سفيانُ الثوريُّ، عن ابن جُريجٍ، عن ابن أبي مُليكةَ، قال: قال ابن عباس: ذهبَ الناسُ، وبقي النسناس، قيل: وما النسناس؟ قال: الذين يتشبهون بالناس، وليسوا بالناس (¬2). * هذا في زمنه، وفي زماننا: ذهب النسناسُ، وبقي الأنجاس، والخناسُ الذي يوسوس في صدور الناس. وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا عمرُ بن أحمدَ: ثنا عليُّ بن محمدٍ: ثنا محمدُ بن إسماعيلَ: ثنا أبو نعيمٍ: ثنا شريكٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد الله بن عباسِ، قال: يأتي على الناس زمانٌ يعرج فيه بعقول الناس، حتى لا تجد فيه أحدًا ذا عقل (¬3). وقد روينا في "المسند"، في كثرة القتل، حتى يقتل الرجل أخاه، وحتى يقتل الرجلُ ابن عمه، قالوا: يا رسول الله! وعقولُنا معنا؟ قال: "لا، تَذْهَبُ عُقُولُ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَيَصِيرُونَ أَجْسَادًا لا عُقُولَ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 324). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 324). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 328).

لَهُمْ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ" (¬1). فيا معشرَ مَنْ يظن أنه عاقلٌ، ولا عقل له! حقِّقِ الأمورَ، يبانُ لك ما أنت فيه من خير وشر، ولا تكن كالبهيمة، تسمعُ ولا تفهمُ ما يراد بالكلام، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ({وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] وقال -عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. فأكثرُ أهلِ زماننا هذا قد صاروا لا عقولَ لهم، بل أكثرُهم قد صار شرًا من البهائم، لا عقلَ ولا دينَ، وقد فسد الناسُ، وكلُّ ذلك تصديقًا لأحاديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الواردة. وقد ذكرتُ في كتابي "أشراط الساعة" طرفًا كثيرًا من ذلك، فلينظره الناظر. وأنت إذا تأملت الناسَ، رأيت جميع محاسن (¬2). فأجمَعُوا السماط، وصرخوا بالعياط، قد تركوا الأذكار، وهربت منهم الأنوار، وأظهروا الرقص والغناء، فأنت أنت، وأنا أنا. ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 391) عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، ولفظه: "إنه لتنزع عقول أهل ذلك الزمان ويخلف له هباء من الناس يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء". (¬2) سقط في الأصل بمقدار لوحة كاملة.

وأما جماعةُ الأتراك، فلا تراني ولا أراك، نفوس طامعة، ولكثرة الأموال جامعة، استحلُّوا دماءَ الناس وأموالَهم وأعراضَهم، وليس ثمة في الدنيا سوى [.....]، لا يعرفون سوى السُّكر، والحرام واللواط والزنى والسلاح، وليس ثَمَّةَ صلاةٌ ولا قيام. نفوسٌ مبهمة، وأبدانٌ على أكلِ الحرام نَهِمَة، وقصدُه بالمعاصي أن يقيم غيره له أكل الدجاجة والوزة، وشربُ الرَّاح بالأقداح، ومعاشرة الوجوه الصِّباح، من أول الليل إلى الصَّباح. وأما جماعةُ التجار، فكذَبَةٌ فَجَّار، أكثرُهم تعاطى بالربا والعِينَة، ويترك بفلسٍ آخرتَه ودينَه، ويمنع الزكاة، ويوثق على الدرهم، بخيلٌ بمالهِ، شحيحٌ بحرامه وحلاله، فلا تَفُضَّ منهم يديك، ولا تطلبْ منهم، فاجتنب [أن] يصير من يحبك منهم عليك. وأما مقدِّمة البلاد، فلا كَثَّرَ الله منهم في العباد، جمعوا المناجيس والخنازير، وقطعوا الطريق، وأخذوا الخليق، وظلموا الفلاحين والفقراء، ونكلوا بلاد الأستاذين والأمراء، وضربوا المساكين ضررًا، فكَمْ لَكْمةٍ، وكم ضربةً! كم تعريصةٍ، وزوج القحبة! وهذا شأنهم هم وأعوانهم، لا كَثَّر الله منهم، ولا رضي عنهم. وأما الزُّعْر، فقد أصاب الخلقَ منهم الذُّعْر، كلُّ عِلْقٍ وابن قَحْبَة قد أخذ السيفَ والجحفةَ، والقوسَ والنشابَ، والزندَ والحربة، وتجمَّع منهم على الخمر [....] عُصبة، فقتلوا وسرقوا، وأخذوا أموالَ الناس سرًا وجهرًا، وقهروهم أخذًاوقَسْرًا، فلا دينَ ولا إيمان، ولا خيرَ ولا إحسان.

وأما السُّوقة، فعصبة فَسَقَة، لا يرعَوُون عن قبيحٍ ارتكبوه، ولا يروعون في خير فعلوه، بَخَسوا الميزان, واستعملوا البهتان، تركوا الديانة، واستعملوا الخيانةَ، وقلةَ الأمانة، فإذا كان هؤلاء الباغون [...] يستجاب دعاه، أو من يغضب لغضبه، إلا أتاه، فلا حول ولا قوة إلا بالله. هذا حال الرجال، وأما الصبيان، فكما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27]، فكلهم فَجَرة، لا يتعلمون خيرًا، ولا يحرصون عليه، وإنما يحرصون على الشر واللواط، والكلام القبيح من الصغر، فكيف [....] هؤلاء وكيف ينسون؟ وأما النساء، فقد صار أكثرُهن قِحاب، أَبخس وأنجس من الرجال [.......]. فيا أيها الدجال! ما أقعدَكَ عن الخروج؟ فقد جاء وقتُك، وما أخَّرك عن الظهور، فقد وُجد أنصارُك وأعوانك، فهذه جنودُك قد كثرت، وهذه أعوانُك قد ظهرت، وهذه عساكرُك قد إنتشرت، كنا نخبر الناس أنك تختفي في البرذعة، فالبرذعة قد فرغت، وصرنا نقول: إنك تعمل في الحزام، فالحزام قد تم. وصرنا نقول: إنك تصنع اللجام، فاللجام قد انتهى. صرنا نقول: إنك في فكرة ترتيب عسكرك، وتهيئة آلتك من جنة أو نار، وثريد وطعام، وماء ومُدام، فكأنا بك وقد أشرفتْ أعلامُك، ونُصبت راياتُك وخيامُك، وبرزَ إليك كلُّ يهودي ومنافق، وكلُّ شيطان ناعق، وكلُّ كلب وكلبة، وكل عِلْق وقَحْبَة.

حاجة البلاد إلى الأوتاد، ليرفع الله بهم البلاء عن العباد

* أقول: وإن غلب الفساد، وعم سائرَ البلاد، فلا بد لها من أوتاد، يدفع الله بهم البلاء عن الناس، ويرفع بهم الشدة والبأس، ولو خلت من الصالحين، لخسف بنا وبهم أجمعين. كما أخبرنا شيخنا زيدٌ المقرئُ قال: كان قد قَدِمَ علينا هذه المدرسةَ رجل غريب، فأقام مدةً، وكان في المدرسة -إذ ذاك- شرورٌ وقلاقل، فأردنا ننزله، فامتنع الناظر، ثم بعد مدة نزله، فلم يقبل، ولم يأخذ شيئًا من الخبز، ثم أقام مدة، ثم قال لي: يا شيخ! تدري حكايتي؟ قلت: لا. قال: أنا في البلاد الفلانية -فذكر بلادًا بعيدة-. قال: حدثتني نفسي: أنه ما بقي في الدنيا أحدٌ من الصالحين. قال: ونحن نسمع بهذه المدرسة في بلادنا. قال: فقلت في نفسي: إن كان قد بقي في الدنيا أحدٌ من الصالحين فهو في تلك المدرسة، فقمتُ وسافرت إليها، أَنظرُ هل أجد بها أحدًا من الصالحين؟ قال: فلما جئت، ورأيت هذه الشرورَ والقلاقل، قلت: ما بقي في الدنيا أحدٌ من الصالحين، فلما أنزلتموني، قلت لنفسي: أنتِ جئتِ في طلب شيء لم تجديه، فو الله! لا أطعمتك من هذه المدرسة شيئًا، فلم أقبل، ولم أُطعمها منه شيئًا. قال: فلما كانت هذه الجمعة، نزلتُ فصليت في جامع الأموي،

فلما خرج الناس من الصلاة، وخرجتُ معهم، فأنا في صحن الجامع، وإذ بشخص يقول: يا فلا [ن]! فقلت: وكم في هذا الجامع من واحد بهذا الإسم غيرك! فقال: يا فلان بنُ فلان! فقلت: ويمكن أن يكون اسمه باسمي، واسم أبيه باسم أبي. فقال: يا فلان بن فلان الفلاني -لشهرةٍ يعرف بها-. قال: فقلت: هو أنا. قال: فجئته، فإذا رجل واقف، فأخذ بطوقي، وهزني، وقال: يا مسكين! لو خَلَتْ من الصالحين، لخسف بها. في الصالحية عندك منهم ستة: ثلاثة في المدرسة، وثلاثة خارج المدرسة، ثم أرسلني، فأُغمي عليَّ، وسقطتُ إلى الأرض، فلم أزل كذلك، حتى أفقتُ، فلما أفقتُ، لم أجد أحدًا. قال: ثم صَعِدْت، فكان يقول: أما الذين في المدرسة، فاطلعتُ منهم على اثنين، والواحد لم أطلع عليه، ما أدري، لعلوِّ درجته، أو لتقصيري؟ وسمعتُ من عدةٍ من القدماء: أن الواحدَ من الثلاثة كان شيخنا الشيخ صفي الدين -رضي الله عنه-، وقد كان -في ابتداء أمرنا- أكثرُ من مدّة واحد يعدُّ من الصالحين الأخيار، حتى من يباعد؟ مثل: شيخِنا الشيخ صفيِّ الدين، والشيخ زينِ الدين بن الحبال، وأخيه شهاب

الدين، والشيخ تقيِّ الدين بنِ قُندس، والحاج عليِّ بن مسمارة، والشيخِ أحمدَ الحمصيِّ، والشيخِ أحمدَ الحمصيِّ الآخرِ، والشيخِ أحمدَ المصريِّ، والشيخِ إبراهيمَ اللاوي، وبرهانِ الدينِ بنِ المتقي، والشيخِ خلفٍ، والشيخِ عمرَ اللؤلئيِّ، والشيخِ زيدٍ وشهابِ الدين بن زيدٍ الموصليِّ، والشيخِ ريحان، وشمسِ الدينِ الليبي، والشيخ أميرِ الدين بنِ الكركي، والشيخ محمدٍ الضحاكِ، والحاجِّ محمدٍ الحجيجِ، والشيخِ حسنٍ الخياطِ، وشمسِ الدين الخبراصيِّ، والشيخِ عثمانَ البلبليِّ، والشيخِ أحمدَ الإِمام، ووالدِه الشيخِ حسنٍ، وشمسِ الدينِ الشبليِّ، والشيخ عليِّ بن العلاءِ، والشيخِ السطيحِ، والشيخِ برهانِ الدينِ الباعونيِّ، والشيخِ إسماعيلَ شيخِ الباسطيةِ، والشيخِ محبِّ الدينِ البغداديِّ، والشيخِ عليِّ بن زيدٍ الموصليِّ، والشيخِ أحمدَ الأقباعيِّ، والعداسِ، وخلائقَ. ثم كان بعدَهم أخيارٌ دونهم في ذلك؛ مثل: تقيِّ الدينِ الجراعيِّ، والقاضي علاءِ الدين المَرْداويِّ، [و] الشيخِ عمرَ العسكريِّ، والشيخِ يوسفَ المرداويِّ، والشيخِ خَطَّابٍ الشافعيِّ، والشيخِ إبراهيمَ بن القدسيِّ، والشيخِ فضلٍ النجديِّ، والشيخِ عليٍّ النجديِّ، وخلائقَ من هذا النحو. ثم في زماننا هذا خَفِيَ الصالحُ، ونرجو من الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يكون منهم الشيخُ محمدٌ الغزاويُّ، والشيخُ محمدُ بن الحصنيِّ، والشيخُ محمدُ بن فاتحٍ، والشيخُ أحمدُ بن شعبانَ الغَزِّيُّ، والشيخُ محمدٌ النجديُّ، والشيخُ صالحٌ، والشيخُ أحمدُ العسكريُّ.

التحذير من إيذاء من يتوسم فيه الخير

* وأنا أؤكد عليك، وأقول: إياك إياك إياك أن يحصل منك أذًى أو ضررٌ لأحد ممن يُتوسم فيه الخيرُ، فربما وقع منه عليك دعوةٌ تستجاب له فيك، فلا تُفلح بعدها أبدًا. وقد قلتُ في موضع من كلامي: إياكَ والإنكارَ على أحد من المشايخ، أو ذوي الأحوال، أو من العلماء، أو الأخيار، فقد شاهدتُ من ذلك العجبَ العجابَ في غير واقعة، فإني قَطُّ ما أنكرتُ شيئًا، أو وَبَّخْتُ أحدًا، إلا وابتُليت ببعض ذلك في نفسي، أو أحدٍ ممن أحب. وقد وقع أنه كان عندنا بالصالحية رجل يقال له: الشيخ حسين، لا يزال عُريانًا مكشوفَ العورة، وللناس فيه معتقَدٌ؛ فقد رآه أخي شهابُ الدين-رحمة الله عليه-، وكان من الصالحين الكبار، ومن العلماء الأخيار، وسُمِعَتْ عند موته البشائرُ من السماء، أنكرَ عليه ذلك، وقال: هذا تظهر عورته للرجال والنساء، وطلبَ مني المساعدةَ على ذلك، فقلت له: هذا لا يعقل. فقال: يُحبس في مكان حتى لا يراه أحد، وسعى في ذلك إلى القاضي الحنبلي وغيره. فما مضى عليه إلا مدة يسيرة، حتى مرض مرضَ الموت، فكان يتعرَّى في مرضه قدامَ الناس، ولا يستتر، فرأيتُ أن ذلك لكلامه ذلك. وفي الأمثال: كُلُّ مَنْ عَيَّرَ ابْتُلِي. ومن قال شيئًا، قيل فيه مثلُه. وكما تدين تُدان.

وبشِّر القاتلَ بالقتل ولو بعد حين. وفي "تاريخ ابن خلكان"، في ترجمة الإمام يوسف بن أيوب الهمذاني الزاهد صاحب الكرامات والأحوال: أنه جلس يومًا للوعظ، واجتمع إليه الناس، فقام مِنْ بينهم فقيه يعرف بابن السقا، وآذاه، وسأله عن مسألة، فقال له: اجلس؛ فإني أجد من كلامك [رائحة] الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الإِسلام، ثم مضى ذلك، وقدم رسولُ ملكِ الروم على الخليفة، فخرج ابن السقا مع الرسول إلى القسطنطينية، فتنصَّر، ومات نصرانيًا، وكان ابن السقا قارئًا للقرآن، محمودًا في التلاوة. وحكى مَنْ رآه بالقسطنطينية: رأيته مريضًا ملقًى على دَكَّة، وبيده مروحةٌ يذبُّ بها الذبابَ عن وجهه، فقلت له: هل القرآنُ باقٍ على حفظك؟ فقال: ما أَذكر منه إلا آية واحدة {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]، والباقي أُنسيته. نعوذ بالله من سخط الله وخذلانه، ونسأله حسنَ الخاتمة (¬1). قال الدَّميريُّ في "حياة الحيوان" بعد هذه الحكاية: فانظر يا أخي كيف هلك هذا الرجل، وخذل بالإنتقاد، وترك الاعتقاد. نسأل الله السلامةَ. قال: فعليك يا أخي بالإعتقاد، وترك الإنتقاد على المشايخ العارفين، والعلماء العاملين، والمؤمنين الصالحين، فإن حرابهم مسمومة. ¬

_ (¬1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (7/ 78 - 79).

فقلَّ مَنْ تعرض لهم وسلم، فسلِّمْ تسلَمْ، ولا تنتقدْ تندمْ، واقتدِ بإمام العارفين، وعلامة العلماء العاملين، ورأس الصديقين في وقته الشيخِ عبد القادرِ الكيلانيِّ، لما عزم على زيارةِ الغوثِ بمكة، وقال رفيقاه ما قالا، فقال: أما أنا، فأذهب على قدم الزيارة والتبرك، لا على قدم الإنكار والامتحان، فآل أمرُه إلى أن قال: قدمي هذا على رقبة كلِّ وليٍّ لله، وآل أمرُ أحدِ رفيقيه إلى الكفر، وترك الإيمان؛ كما اتفق في هذه الحكاية، وآل أمرُ الآخر إلى اشتغاله بالدنيا، وتركِه خدمة المولى. نسأل الله التوفيقَ والهدايةَ والإماتة على الإيمان بالله وبرسوله، والإعتقاد الحسن في أوليائه وأصفيائه بمحمد وآله، انتهى كلامه. وحكى ابن خَلِّكانَ أيضًا: أن رجلاً كان يأكل هو وزوجته دجاجةً مشوية، فوقف على الباب سائلٌ، فرده الرجلُ خائبًا، ونال منه، وكسر قلبه، وكان كثير المال، ثم إنه بعد ذلك افتقر، فوقع بينه وبين زوجته، فطلقها، وتزوجت غيرَه، فبينما هي ذات يوم مع الثاني، وبين يديهما دجاجة مشوية، جاء سائلٌ، فسأل، فقال لامرأته: ناوليه هذه الدجاجة وما معها، فناولته، ونظرت إليه، فإذا هو زوجُها الأول، فرجعت متعجبة، وأخبرت زوجَها الثاني أنه زوجُها الأول، وقالت: والله! لقد كنت معه، وكنا قد صنعنا دجاجة وشويناها، وجلسنا نأكلها، فجاء سائل، فوقف علينا، فزجره، وكسر قلبه، ورده خائبًا، فقال لها زوجُها الثاني: وأنا والله! ذلك المسكين الذي وقف عليكم، أعطاني الله وأغثاني، وأعطاني أكثر من ماله، وأعطاني زوجته لقلة شكره (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 108).

فانظر بعين الإعتبار، وتأدب مع الله، ومع عباد الله، وقد وقع لكثير من النساء الفواجر: أنه تزوج بها رجل من الأخيار، فتكرهه وتبغضه، وتناكده حتى يطلقها، وتتزوج بعده برجل من الأشرار، فيبغضها ويناكدها، وتذل معه، ويذيقها الذل والهوان، ويستوفي حق ذلك الصالح. وقد رأينا كثيرًا ممن قتل شخصًا، نشأ له ولد فقتله. ورأينا كثيرًا ممن أكل مال أيتام غيره، أكل الغيرُ ماله حين مات. وقد روينا أن في بعض الكتب، يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ابن آدم! كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد. ورأينا كثيرًا ممن رَبَّى أولادَ غيره، وحَرَصَ عليهم، يَسَّرَ الله له من ربى أولاده، وحرص عليهم. ورأينا كثيرًا من الناس اتخذ صبيًا يلوط به، فنشأ وكبر، واتخذَ أولادَ ذلك بعده يلوط بهم. ورأينا كثيراً من الأشرار تسلَّط على ناس من أهل الخير، فسلط الله عليه مَنْ هو أقوى منه، فآذاه بنحو ما آذى ذلك. وقد روينا في كتاب "الزهد" للإمام أحمد: يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنتقمُ من الظَّلَمَة بالظلمة، وأَنتقمُ من الظلمة جميعًا (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3358)، ولفظه: أنتقم ممن أبغض بمن أبغض ثم أصير كلاً إلى النار.

الأولياء أوتاد الدنيا

وقد روينا في وصية الشيخ عبد القادر -رضي الله عنه-: أنه قال: يكفيك من الدنيا خدمةُ وليٍّ، أو صحبةُ عالم (¬1). * فالأولياءُ أوتادُ الدنيا، بهم تثبُتُ، وبهم تستقرُّ؛ كما قال -عليه السلام- لأُحُدٍ حين تحرَّكَ: "اسْكُنْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ" (¬2). فبهم ثبتتْ بركتُهم، على كلِّ مَنْ صحبهم، أو رافقهم، أو وُلد لهم؛ كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 182] فحفظ لهما ذلك بصلاحه، وقيل: إنه كان الولد السابع. أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا ابن عروةَ: أنا ابن أبي العباسِ المحبوبيّ: أخبرتنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا أبو جعفرِ بن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا أبو عليِّ بن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: ثنا عبد الله بن الإِمام أحمدَ: ثنا أبي: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا بكارٌ: سمعت وهبًا يقول: إن الربَّ -تبارك وتعالى- قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل: إني إذا أُطِعْتُ، رضيتُ، وإذا رضيتُ، باركتُ، وليس لبركتي نهاية، وإني إذا عُصيتُ، غضبتُ، وإذا غضبتُ، لَعَنْتُ، ولعنتي تبلغُ السابعَ من الولد (¬3). وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا بكارٌ: سمعتُ وهبًا يحدِّثُ: أن بني إسرائيلَ أصابتهم عقوبةٌ وشدةٌ، فقالوا لنبيٍّ لهم: وددنا ¬

_ (¬1) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (10/ 354). (¬2) رواه البخاري (3496) عن أنس -رضي الله عنه-. (¬3) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 52).

قوة أولياء الله بالله

أنا نعلمُ ما الذي يُرضي ربنا -عَزَّ وَجَلَّ-، فنتبعه، فأوحى الله -عَزَّ وَجَلَّ- إليه: أن قومك يقولون: وَدُّوا لو يعلمون ما الذي يُرضيني فنتبعه؟ فأَخبرْهم: إن أرادوا رضاي، فليرضوا المساكين، فإنهم إذا أرضَوْهُم، رضيتُ، وإذا أسخطوهم، سخطتُ (¬1). * وطاعتهم مولاهم لو أجلبَ عليهم أهلُ السماوات والأرض، غلبوهم؛ لأن قوتهم بالله، ولو حمله عليه [...] لجعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضيق مخرجًا. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن عروةَ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبٍ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: ثنا أبي: ثنا ابن آتش: ثنا منذرٌ، عن وهبٍ، قال: يقولُ الربُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: إذا توكَّلَ عليَّ عبدي، لو كادَتْهُ السماوات والأرضُ، جعلتُ له من بين ذلك المخرجَ (¬2). وبه إلى عبد الله: حدثني عبد الله بن عمرَ بن رئابٍ: ثنا ابن المباركِ، عن معمرٍ، عن وهبِ بن منبهٍ: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: إن عبدي إذا أطاعني، لو أجلبَ عليه أهلُ السماء وأهلُ الأرض، جعلتُ له مخرجًا من ذلك، وإذا أطاعني عبدي، ثم دعاني، استجبت له، وإذا سألني، أعطيته (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 52). (¬2) رواه الإِمام أحمد في "الزهد" (ص: 53). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 38).

وبه إلى عبد الله: ثنا أبي: ثنا إبراهيمُ بن خالدٍ: ثنا رياحٌ: حدثني محمدُ بن عمرِو بن ملاحٍ: سمعتُ وهبَ بن منبهٍ يقول: وجدتُ في كتابٍ من كتبِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- المنزَّلة: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: إني مع عبدي المؤمن حين يطيعني، أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، وما تردَّدْتُ عن شيء تردُّدي عن قبضِ عبدي المؤمن، إنه يكره ذلك ويسوءُه، وأنا أكره أن أسوءَه، وليس له منه بدٌّ، وما عندي خيرٌ له، إن عبدي إذا أطاعني، واتبعَ أمري، فلو أجلبَتْ عليه السماوات السبعُ بمن فيهن، والأرضونَ السبعُ بمن فيهن، جعلتُ له من ذلك المخرجَ، وإنه إذا عصاني، ولم يتبعْ أمري، قطعتُ يديه من أسباب السماء، وخسفت به الأرض من تحت قدميه، وتركته في الهُوِيّ، لا ينتصر من شيء، إن سلطانَ الأرض موضوعٌ خامدٌ عندي كما يضعُ أحدُكم سلاحه عنه، لا يقطع سيفٌ إلا بيدي، ولا يُضرب بسوط إلا بيدي، لا يصل إلى شيء من ذلك إلا بإذني (¬1). وبه إلى عبد الله: ثنا أبي: ثنا أبو سعيدٍ: ثنا سليمانُ -يعني: ابن بلال-، عن عمرِو بن أبي عمرٍو، عن عاصمِ بن عمرَ بن قتادةَ، عن محمودِ بن لَبيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ، فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ، فَلَهُ الجَزَعُ" (¬2). وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا عمرانُ: سمعتُ وهبًا يقول: يقولُ الله -تبارك تعالى-: اتَّقُوا غضبي؛ فإن غضبي يدركُ إلى ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 96). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 427).

نصح أولياء الله لله، وإصلاحهم أنفسهم له

ثلاثةِ اَباءَ، وأَحِبُّوا رِضائي؛ فإن رضائي يدركُ في الأمة. * نصحوا لله، وأصلحوا أنفسهم له، فبتدبيره أصلحهم، وجعل قوته في كل جوارحهم. حدثني جدي: ثنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: ثنا محمدُ بن عبد الباقي: أنا الحسنُ بن عليٍّ الجوهريُّ: ثنا محمدٌ: ثنا أحمدُ بن الحسنِ: ثنا الحكمُ بن موسى: ثنا الحسنُ بن عليٍّ، عن صدقةَ، عن هشامٍ الكنانيِّ، عن أنسِ بن مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريلَ -عليه السلام-، عن ربه -عَزَّ وَجَلَّ-، قال: "مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّا، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ ما تَرَدَّدْتُ في قَبْضِ نَفْسِ مُؤْمِنٍ أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَمِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ يُرِيدُ بَابًا مِنَ العِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ، لا يَدْ [خُـ]ـلُهُ عُجْبٌ، فَيُفْسِدُهُ ذلك، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَنَقَّلُ لِي حَتَّى أُحِبَّهُ، وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا، وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْطَيْتُهُ، وَنَصَحَ لِي فَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلحُ إِيمَانَهُ إِلا الفَقْرُ، وَلَوْ بَسَطْتُ لَهُ، أَفْسَدَهُ ذلك، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلحُ إِيمَانَهُ إِلا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ، لأَفْسَدَهُ ذلك، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلحُ إِيمَانَهُ إِلا الغِنَى, وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ، لأَفْسَدَهُ ذلك، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلحُ إِيمَانَهُ إِلا السَّقَمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ، لأفْسَدَهُ ذلك، إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 319).

حفظ أولاد أولياء الله وأزواجهم وكل من سمتهم كذلك

أخبرنا أبو جعفرٍ المقرئُ: ثنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أخبرتنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمد المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: ثنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: ثنا أبي: ثنا سيارٌ: ثنا جعفرٌ: ثنا أبو غالبٍ، قال: بلغنا أن هذا الكلام في وصية عيسى بن مريم -عليه السلام-: يا معشرَ الحواريين! تَحَبَّبوا إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ببغضِ أهلِ المعاصي، وتَقَرَّبوا إليه بالمقتِ لهم، والتمسوا رضاه بسَخَطِهم. قالوا: يا نبيَّ الله! فمَنْ نجالسُ؟ قال: جالسوا مَنْ يزيدُ في أعمالكم منطقُه، ومن تذكركِم بالله رؤيتُه، ويزهِّدكم في دنياكم عملُه (¬1). * وأولادُهم ومَنْ بعدَهم محفوظون بحفظهم، وأزواجُهم وكلُّ مَنْ سمتهم كذلك. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الرحمن، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن خيثمةَ، قال: قال عيسى -عليه السلام-: طوبى للمؤمن، ثم طوبى له، كيف يحفظُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَدَه من بعده (¬2). * حتى إن ذكرَهم للقلوب كالسماد للزرع، تنتفع القلوبُ بذكرهم. كما أخبرنا جدي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا محمدُ بن أبي منصورٍ: أنا أحمدُ بن ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 54). (¬2) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 55).

ذكر شيء من صفات أولياء الله

محمدٍ: ثنا أبو الحسنِ عليُّ بن عمرَ الفقيهُ: ثنا أبو عبد الله الأرجانيُّ: ثنا محمدُ بن أحمدَ: ثنا أحمدُ بن محمدٍ الفزاريُّ: ثنا عبد الله بن [...]: سمعتُ محمدًا يقول: ما رأيتُ للقلبِ أنفعَ من ذكرِ الصالحينَ. [........] ذكرهم بالخير، وإياك أن تذكرهم بالشر، وهم الذين [......] على حالهم، [.........]، فاجتهدْ أن تكونَ مثلَهم، أو تلحقَ بهم، وإياكَ أن تذكرهم بالذمِّ والانتقاص، فإنما أباحَ الشارعُ الحسدَ ليعمل مثلَه، لا لتزولَ النعمةُ عنه، حيث قال: "لا حَسَدَ إِلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ الله القُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآناءَ النَّهَارِ"، فهو يقول: لو أُوتيت مثلَ ما أُوتي هذا، لعملتُ مثلَما يعمل. "وَرَجُلٍ آتاهُ الله الحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ"، فهو يقول: لو أُوتيت مثلَ ما أُوتي هذا، عملتُ مثلَما يعمل (¬1). فالحسدُ الرحمانيُّ ليعمل [...]، والحسدُ الشيطاني لتزولَ النعمةُ عن المحسود، [....] عنه، فالحسدُ الشيطانيُّ يُذهب الحسناتِ. * ومن صفاتهم: أن قلوبَهم لينةٌ، ونفوسَهم رحيمةٌ، يرحمون عباد الله، يرحمون الصغيرَ لصغره، والكبيرَ لكبره، والفقيرَ لفقره، والغنيَّ لغناه، والعاصيَ لمعصيته، والطائعَ لطاعته. وأخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4738) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

أنبأ ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا يونسُ بن محمدٍ، ثنا الفراءُ، عن قتادةَ، قال: بلغنا أنه مكتوبٌ في التوراة: ابن آدمَ! ارحمْ تُرحَمْ، إنه مَنْ لا يرحمُ لا يُرحَمُ، كيف ترجو أن أرحمَك وأنتَ لا ترحَم عبادي؟! وفي الحديث الصحيح شواهدُ ذلك، فقد قال -عليه السلام-: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ" (¬1). وقال: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرحمن" (¬2). وقال: "مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" (¬3). وقال: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِنْ شَقِيٍّ" (¬4). إلى غير ذلك. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إسماعيلُ بن عبد الكريمِ: حدثني عبد الصمدِ بن معقلٍ: أنه سمعَ وهبَ بن منبهٍ يقول: وجدتُ في كتابِ داود -عليه السلام-: إن الله -تبارك وتعالى- يقول: بعزتي وجلالي! إنَّ مَنْ أهانَ وليًا، فقد بارَزَني بالمحاربة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬3) رواه البخاري (5651)، ومسلم (2318) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) رواه أبو داود (4942)، والترمذي (1923) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم "الأوسط" (609) عن أنس -رضي الله عنه-.

من أولياء الله من يعطيه قبل سؤاله

* ومنهم من يعلم الله طاعتَه، فيُعطيه قبل سؤاله. فبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إسماعيلُ -يعني: ابن عبد الكريم-: ثنا عبد الصمدِ بن معقلٍ: أنه سمعَ وهبًا قال: قرأتُ في كتابٍ آخرَ: أن الله -تبارك وتعالى- يقول: كفاني لعبدي مالاً، إذا كان عبدي في طاعتي، أعطيته من قبل أن يسألني، وأستجيبُ له من قبل أن يدعوَني، فإني أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إسماعيلُ: ثنا عبد الصمدِ بن معقلٍ: أنه سمع وهبَ بن منبهٍ قال: قرأتُ في كتابٍ آخرَ: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: بعزتي! إنه من اعتصم بي، فإن كادَتْه السماوات بمن فيهن، والأرضُ بمن فيهن، فإني أجعلُ له من بين ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي، فإني أخسِفُ به من تحت قدميه الأرض، فأجعلُه في الهواء، ثم أَكِلُه إلى نفسِه (¬1). * فمنِ اعتصمَ بالله، عصمه الله، وقام بنصره، وأذلَّ مَنْ قصده وقهره، ومن صالَ بقوته، وأُعجب بنفسه، فلو سلط الله عليه ذرةً، لقهرَتْه، والله خاذلُه ومذلُّه. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا عمرانُ: سمعتُ وهبًا يقول: ما أكرمَ الله تعالى شيئًا قَطُّ ما أكرمَ كريمَ بني آدمَ، إني وجدتُ في كتابِ آلِ داودَ: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: بعزتي! إنه من أهانَ لي وليًّا، فقد استقبلني بالمحاربة، ما تردَّدْتُ عن شيء أريده تردُّدي عن ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2910).

موتِ المؤمنِ؛ قد علمت أنه يكره الموتَ، ولا بدَّ له منهُ، وأنا أكره أن أسوءه، بعزتي! إنه من اعتصم بي، فإن كادَتْه السماوات بمن فيهن، والأرَضونَ بمن فيهن، فإني أجعلُ له من بين ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي، فإني أقطعُ يديه من أسباب السماء، وأخسِفُ به من تحتِ قدميه الأرض، فأجعلُه في الهواء، ثم أَكِلُه إلى نفسِه، كفاني لعبدي مالاً، إذا كان عبدي في طاعتي، أعطيتُه قبل أن يسألني، واستجبتُ له من قبل أن يدعُوَني؛ فإني أعلمُ بحاجته التي ترفُق به من نفسه (¬1). وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا هشامُ بن القاسمِ: ثنا أبو سعيدٍ -يعني: المؤدب-: ثنا مَنْ سمع عطاءً الخراسانيَّ قال: لقيتُ ابن منبهٍ وهو يطوفُ بالبيت، فقلت له: حدثْني حديثًا أحفظُه عنكَ في مقامي هذا، وأَوْجِزْ، قال: نعم، أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى داود عله السلام: يا داودُ ابن أيشا! أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصمُ بي عبد من عبادي دونَ خلقي أعرفُ ذلك من نيته، أو قال: من قلبه، فتكيده السماوات السبعُ ومَنْ فيهن، والأرَضون السبعُ ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجًا. أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصمُ عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسبابَ السماء من يده، وأَسَخْتُ الأرضَ من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأيِّ وادٍ هلك. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الصمدِ -يعني: العَمِّيَّ-، عن مالك: مكتوبٌ في الزبور: بنار المنافق تحترق المدينة. ¬

_ (¬1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 318) نحوه.

وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا ابن حزمٍ -وهو العطارُ-، قال: قال مالكُ بن دينارٍ: قرأت في الزبور: بكبرياء المنافق يحترق المسكين (¬1). وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عارمٌ: ثنا سعيدُ بن زيدٍ: ثنا عثمانُ الشَّحَّامُ: حدثني شيخٌ من أهلِ البصرةِ كان له فضلٌ، وكان له سِنٌّ، قال: بلغني أن داودَ -عليه السلام- سأل ربه -عَزَّ وَجَلَّ-، قال: يا ربِّ! كيف لي أن أمشيَ لك في الأرض بنصح، وأعملَ لك فيها بنصح؟ قال: يا داود! تحب من أحبني من أحمرَ وأبيضَ، ولا تزالُ شفتاك رطبتين من ذكري، واجتنبْ فراشَ الغيبةِ، قال: يا ربِّ! كيف لي أن يحبني في أهل الدنيا البرُّ والفاجرُ؟ قال: يا داود! تُصانعُ أهلَ الدنيا لدنياهم، وتحب أهل الآخرة لآخرتهم، وتختار إليك دينك بيني وبينك؛ فإنك إذا فعلت ذلك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. قال: ربِّ! فأرني أصفياءك من خلقك من هم؟ قال: نقيُّ الكفين، نقي القلب، يمشي تمامًا، ويقول صوابًا. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إبراهيمُ بن خالدٍ: حدثني عبد الله بن بحيرٍ، قال: سمعتُ وهبَ بن منبهٍ يقول: قال موسى -عليه السلام-: أَيُّ ربِّ! أَيُّ عبادِك أحبُّ إليك؟ قال: من أُذْكَر برؤيته. قال: ربِّ! أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: الذين يعودون المرضى، ويعزُّون الثكلى، ويشيِّعون الهلكى (¬2). ¬

_ (¬1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 376). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 45).

أولياء الله عرف فضلهم، ولم يروا لهم فضلا على أحد

* وهم قوم عُرف فضلُهم، ولم يروا لهم فضلاً على أحد. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إبراهيمُ بن خلد: حدثني عبد الله بن بحيير، قال: سمعتُ وهبَ بن منبهٍ يقول: إن موسى -عليه السلام- قال لبني إسرائيل: ائتوني بخيركم رجلاً، فأتوه برجل، قال: أنتَ خيرُ بني إسرائيل؟ قال: كذلك يزعمون، قال: اذهبْ فائتني بشرهم، قال: فذهب، فجاء وليس معه أحد، فقال: جئتني بشرهم؟ قال: أنا ما أعلم من أحد منهم ما أعلم من نفسي، قال: أنت خيرهم. * فهم مع الله، والله معهم. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا سيارٌ: ثنا جعفرٌ، عن عمرانَ القصيرِ، قال: قال موسى بن عمرانَ: أَيْ ربِّ! أين أبغيكَ؟ قال: ابْغِني عند المنكسرةِ قلوبُهم؛ إني أدنو منهم كلَّ يومٍ باعًا، ولولا ذلك، انهدموا (¬1). * لا يخافون من شيء غير الله. أخبرنا جدي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا عبد الوهابِ بن المباركِ: أنا أبو الحسنِ عليُّ بن محمد: أنا أحمدُ بن محمدِ بن يوسفَ: أنا ابن صفوانَ: ثنا أبو بكرٍ القرشيُّ: ثنا أحمدُ بن عمرانَ، قال: سمعتُ أبا معاويةَ يقول: ثنا الأعمشُ، عن شقيقٍ، قال: خرجْنا في غَزاة لنا مخوفةٍ، وإذا رجلٌ نائمٌ، فأيقظناه، فقلنا: تنامُ في مثل هذا ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 177).

المكان؟! فرفعَ رأسَه فقالَ: إني لأستحي من ربِّ العرشِ يعلم أني أخاف شيئًا دونَه، ثم ضرب برأسه فنام. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا مسكينُ بن بكيرٍ: ثنا سفيانُ، عمن أخبره: إن لقمانَ قال لابنه: أَيْ بنيَّ! إن الدنيا بحرٌ عميق، قد غرق فيه ناسٌ كثير، فاجعلْ سفينتك فيها تقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ -، وحَشْوْها الإيمانَ بالله، وشراعَها التوكلَ على الله؛ لعلك تنجو، ولا أراك ناجيًا (¬1). وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا حجاجٌ: حدثني جريرٌ -يعني: ابن حازم-: [حدثني وهيبٌ المكيُّ]، قال: بلغني أن في التوراة، أو في بعض الكتب: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: يا ابن آدمَ! اذكرني إذا غضبتَ، أَذكرْك إذا غضبتُ، فلا أمحقُك مع من أمحق، وإذا ظُلمتَ، فارضَ بنصرتي لك، فإن نصرتي لك خير لك من نُصرتك نفسَك (¬2). أخبرنا جدي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا عمرانُ بن أبي منصورٍ، وابن عبد الباقي: أنا جعفرُ بن أحمدَ: ثنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا محمدُ بن عبد الله الدمانُ: أنا الحسينُ بن صفوانَ: أنا أبو بكرٍ القرشيُّ: حدثني ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 154). (¬2) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 50).

محمدُ بن يحيى: سمعت أبا عبد الرحمن القرشيَّ: حُدِّثْتُ عن الحسنِ، قال: رأيتُ بدويةً دخلتِ الطوافَ، فقالت: يا حَسَنَ الصحبة! جئتُك من بعيد، أقبلْتُ أسألُكَ سترَك الذي لا تَخرقه الرماح، ولا تُزيله الرياح (¬1). أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنبأ ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: ثنا أبي: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا معمرٌ، عن أيوبَ، عن أبي قلابةَ، قال: قال أبو الدرداء: البِرُّ لا يَبْلى، والإثمُ لا يُنسى، والدَّيَّانُ لا ينام، فكنْ كما شئتَ، كما تَدينُ تُدانُ. وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الصمدِ بن عبد الوارثِ: حدثني المثنى بن عوفٍ: ثنا أبو عبد الله -يعني: الجسريَّ-: أن رجلاً انطلق إلى أبي الدرداء، فسلم عليه، فقال: أوصني [........]؛ فإني غازٍ، قال له: اتق الله -عَزَّ وَجَلَّ- كأنك تراه حتى تلقاه، وعُدَّ نفسَك في الأموات، ولا تَعُدَّها في الأحياء، وإياكَ ودعوةَ المظلوم (¬2). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو بكرِ بن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا المظفرُ السمعانيُّ: أنا أبو عمرٍو البيكنديُّ: أنا أبو بكرٍ الجميليُّ: أنا أبو محمدٍ الحلوانيُّ: أنا أبو عليٍّ ¬

_ (¬1) ورواه الرافعي في "التدوين في أخبار قزوين" (3/ 419). (¬2) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 142).

النسفيُّ: أنا أبو أحمدَ المطوعيُّ: أنا أبو بكرٍ محمدُ بن الفضلِ: ثنا عبد الله بن محمدٍ: ثنا أبو الفضلِ محمدُ بن داودَ: ثنا محمدُ بن عيسى: ثنا سفيانُ بن عُيينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، قال: كان رجل ينادي: لا تظلموا الناس عبادَ الله، واتقوا دعوةَ المظلوم، قال: فقلتُ له: ما قصتك؟ قال: كنت رجلاً شرطيًا، فرأيت صيادًا قد صاد سمكةً، فساومتُه بها، فأبى أن يبيعها، [...] فضربتُه، وأخذتُ منه السمكة، فبينا هي معلقةٌ، إذ وَثَبَتْ فعضَّتْ على أصبعي، فلما بلغتُ المنزلَ، رأيتُها قرحةً منكرةً، وكان لنا جار ينظر في القروح، فأَرَيته إياها، فقال: اقطعْها من المفصل، وإلا، دَبَّتْ في يدك؟ فإنها أَكِلَة، قال: فقطعتُها، فدبَّتْ في ظهر الكَفِّ، قال: اقْطعه، فقطعته، فدبَّت في ساعدي، قال: اقطعْها، فدبَّت في العَضُد، فأتاني آتٍ في منامي، فقال لي: دواؤك عندَ مَنْ ظلمتَه، فأتيتُ الصيادَ، فجلست بين يديه وأنا أبكي، فقلت له: حَلِّلْني، فقد أصابني من أجلك هذا، قال: فأخذ الرجل يبكي، وقال: اللهمَّ إني جعلتُه في حِلٍّ، قال: فرأيتُ الدودَ يتناثر من يدي، ثم قال لابن له: احفر زاوية الباب. قال: فحفرَ، فأخرجَ منها جرةً فيها عشرةُ آلافِ درهمٍ، قال: فخذْها أنفقْها على نفسك وعيالك، قال: فأخذتُها وتوقفتُ، فقلتُ له: هل دعوتَ عليَّ حين أخفتُك، فأخذتُ السمكةَ منك؟ قال: نعم، قلت: يا ربِّ! خلقتَ هذا قويًا، وخلقتني ضعيفًا، فأحِلَّ به عقوبةً في الدنيا تكون نكالاً، فهو ما رأيتَ. وبه إلى السمعانيِّ: أنا أبو عمرو البيكنديُّ: أنا أبو الفضلِ

الطرواخيُّ: أنا أبو الحارثِ المروزيُّ: حدثني إبراهيمُ بن عاصمٍ: ثنا الحسينُ بن يحيى: ثنا المؤملُ بن إسماعيلَ، عن عبد العزيزِ بن أبي روادٍ: أن رجلاً لقي لقمانَ، فقال: ألستَ عبد بني فلانٍ؟ قال: بلى، قال: فما بلغَ بك ما ترى؟ قال: قَدَرُ الله، وصدقُ الحديث، وأداءُ الأمانة. قال: وكان من شأنه: أنه كان له بيت مال، فكان لا يستقرض منه إنسانٌ مئةَ درهمٍ إلى عشرةِ آلاف درهم إلا أقرضه، وكان لا يتقاضاه حتى يوسر، فأقرضَ رجلاً في قرية أخرى، فبلغه أنه أيسرَ، ولم يَرُدَّ عليه حقه، فقال: يا بني! اذهب إلى قرية كذا وكذا، وقل لفلان: إن أبي يُقرئك السلامَ، ويقول: بلغني أنك قد أيسرتَ، فلم تردَّ علينا حقنا، ويا بني! انظر ألا تنزل تحت شجرة كذا وكذا, ولا تدخل قرية كذا وكذا. وإذا كان معك صاحبُك، فلا تُغضبه، اذهبْ فأثبت وديعة الله تعالى. قال: فلما كان في طرف القرية، إذا هو برجل، قال: أين تريد؟ قال: أريد قريةَ كذا وكذا، قال: الصحبة؟ قال: نعم، فانطلقا، فلما انتهيا إلى الشجرة، قال: إن أبي قد نهاني أن أنزل تحتها، قال: وما قال لك؟ قال: قال لي: والصاحب فلا تعصه، قال: أنا صاحبك، فلا تعصني، فعدل معه، فكان تحت الشجرة حيةٌ، إذا نزل المسافرُ ونامَ، خرجت الحيةُ فقتلته. قال: فقال لصاحبه: ضع رأسَك.

قال: فنام، فخرجت الحيةُ، ورصدَه صاحبُه، فقتلَها، وأخذ شحمَها، فلما أصبحوا، إذا هو صحيحٌ سويٌّ، فانطلقا حتى انتهيا إلى القرية، فقال صاحبُه: اعدلْ بنا ندخلْ هذه القرية، قال: إن أبي قد نهاني أن أدخلها، قال: فما قال لك؟ قال: قال: والصاحب فلا تعصِه، قال: أنا صاحبك، فلا تعصني، فدخلوا، وإذا في القرية ابنةُ ملكٍ تدخل عليها كل ليلة حتى [...] فيصبح معنا، فلما رأوا ابن لقمان، قال: هلم [...] الليلة، من شبابنا بهذا الشاب الواحد، قالوا: هلمَّ نزوجْك ابنةَ الملك، قال: لا حاجة لي فيها، قال صاحبه: افعل، قال: لا حاجة لي فيها، قال: أليس أَمَرك أبوك أن لا تعصيني؟ ففعل، فقال: إنك إذا دخلت عليها، فإنها تواتيك، فعانِقْها وقَبِّلْها، وجامعها، فإذا ما فرغتَ، فاخرجْ، فأنا لك بالباب. فلما دخل إليها، وأتت إليه، عانقها وقبلها، ثم جامعها، فلما انتهى، خرج إلى الباب، فإذا صاحبه على الباب، معه مجمرٌ فيها [...] وشحم تلك الحية التي قتلها، قال: اذهب فادهن بهذا الشحم يأتي في قبلها حية، فإذا خرجت الحيةُ من قُبلها، فاقتلها، ثم شأنك بها. قال: ففعل، فخرجت الحيةُ من قُبلها، فقتلها، ثم صنع بها ما بدا له، فلما أصبحا، إذا هو صحيحٌ سويٌّ. قال: فانطلقوا إلى قرية غريمِ أبيه، فقال: إن أبي يُقرئك السلام، ويقول: بلغني أنك قد أيسرتَ، فلم تردَّ علينا حقَّنا، قال: تبيت عندي الليلة، فإذا أصبحتَ، أعطيتُك، فقال صاحبُه: افعل.

قال: وكانت له غرفة لها بابان: بابٌ من قِبل البر، وباب من قِبك البحر، قال: فوضع سريرًا من قِبل البر، وسريرًا من قِبل البحر، فأنامَ ابن لقمانَ على السرير الذي من قِبل البحر، وأنامَ ابنه على السرير الذي من قِبل البر، فجاء صاحبُه، فأخذ ابن لقمانَ، فأقامه على سرير ابنه، وأقام ابنه على سريرِ ابن لقمان، فجاء الرجل بالليل، فأخذ السريرَ، فألقاه في البحر، فلما أصبح إذا [....]، وابن لقمانَ صحيح، فأعطاه حقَّه، فرجع، فلما كان في الموضع الذي افترقا، قال: أَقرئ أباك مني السلام، قال: من أنتَ؛ فإني وجدتُك خيرَ صاحب؟ [........] قال أبوك: اذهب وديعة الله، بعثني الله تعالى إليك لأحفظَك. وبه إلى البيكنديِّ: أنا أبو بكرٍ الجميليُّ: أنا أبو محمدٍ الحلوانيُّ: أنا أبو عليٍّ النسفيُّ: ثنا الحاكمُ أبو أحمدَ: ثنا نبهانُ بن إسحاقَ: ثنا الربيعُ: ثنا عبد الله بن وهبٍ: ثنا زيدٌ، عن أبيه، قال: بلغنا أن عيسى -عليه السلام- كان يومًا في أصحابه، إذ مر به رجلٌ، فقال: يرجع هذا ميتًا، فرجع حيًا، على [ظهره] حزمةُ حطب، فقالوا: يا نبي الله! ما من شيء حدثتناه قط إلا كان كما حدثتناه، فقال للرجل: ما أخذت من العمل؟ قال: لا شيء، إلا أنه كان معي قرصان تصدقت بأحدهما على مسكين، فقال: ضع حزمتك، فقال: اكشفها، فإذا فيها أسودُ مقطوعُ الرأس، فقال: لولا القرصُ الذي تصدقتَ به، لقتلكَ هذا الأسودُ، ولكن الصدقةَ تدفع ميتةَ السوء. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو محمدِ بن القيمِ: أنا

أبو عبد الله بن الكمال، وأبو بكرِ بن طرخانَ، قالا: أنا أبو المظفرِ السمعانيُّ. قال ابن المحبِّ: وأنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا أبو المظفرِ السمعانيُّ: أنا أبو عبد الله السعديُّ: أنا أبو إبراهيمَ النسفيُّ: أنا الإمامُ الوالدُ: ثنا الإمامُ أبو نصرٍ المزكي: ثنا الحاكمُ أبو نصرٍ: حدثني أبو العباسِ المراغيُّ: حدثني أبو حمزةَ الخراسانيُّ، قالَّ: حججتُ سنةً من السنين، فكنت أنا ورفيق لي، فوقعتُ في بئر خمسة عشر ذراعًا، فنازعتني نفسي أن أستغيث، فقلت: لا، والله! لا أستغيثُ فما استممتُ هذا الخاطرَ حتى مرَّ برأس البئر رجلان، فقال أحدُهما للَاخر: تعالَ حتى نطمرَ رأسَ البئر؛ فإنه على الطريق، فأتوا بقصب وبارية، فهممتُ أن أصيحَ، فقلت: إلى من هو أقربُ إليَّ منه؟ فسكتُّ حتى طَمُّوا البئرَ، وجلستُ إلى الليل، فإذا أنا بشيء يبحث حتى كشف عن فم البئر، وإذا بشيء قد دَلَّى رجلَه في البئر، وقائلٍ يقولُ: تعلَّقْ به، فتعلقت فإذا هو سَبُعٌ، وإذا هاتفٌ يهتف يقول: يا أبا حمزة! هذا أحسنُ، نجيناك من التلف بالتلف من البئر بالسبع (¬1). أخبرنا الفخرُ المرشديُّ: أنا ابن الجزريِّ: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ ح. وأنا جدي إذنًا: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا ابن البخاريِّ: أنا أبو المنادي: أنا أبو غالبٍ الماورديُّ: ثنا أبو علي التستَريُّ: أنا القاضي ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 177).

أبو عمرَ الهاشميُّ: ثنا أبو العباسِ محمدُ بن أحمدَ الأثرمُ: ثنا أبو زيدٍ المقرئُ: ثنا جعفرُ بن الفزرِ العابدُ، قال: كنت عند سفيانَ ابن عيينةَ، فالتفتَ إلى شيخٍ فقال: حَدِّثِ القومَ بحديث الحية، فقال: حدثني عبد الجبار: أن خميرَ بن عبد الله خرج إلى مُتَصَيَّده، فتمثلَتْ بين يديه حيةٌ، فقالت: أجرني، أجاركَ الله في ظله يومَ لا ظلَّ إلا ظله. قال: ومما أُجيركِ؟ قالت: من عدوٍّ قد رهقني يريد أن يقطعني إربًا إربًا. قال: ومن أنت؟ قالت: من أهل لا إله إلا الله. قال: وأين أخبئك؟ قالت: في جوفك إن كنتَ تريدُ المعروفَ. قال: ففتح فاه، وقال: هاكِ، فدخلتْ جوفه. فإذا رجلٌ معه صمصامةٌ، فقال: يا خمير! أين الحية؟ قال: ما أرى شيئًا. قال: سبحان الله! قال: نعم، سبحان الله! ما أرى شيئًا. فذهب الرجل، فأطلعت الحيةُ رأسَها، وقالت: يا خمير! أتحس الرجل؟ قال لها: قد ذهب. قالت: فاختر مني أحد خصلتين: أن أنكتك نكتة فأقتلك، أو أفرث كبدك فتلقيه من أسفل قطعًا. قال: والله! ما كافأتني؟ قالت: حين تضع المعروف عند من لا يعرفه، وقد عرفتَ عداوةَ ما بيني وبين أبيك قديمًا، وليس معي مال فأعطيك، ولا دابةٌ فأحملك. قال: فأمهليني آتي سفحَ هذا الجبل، فأمهدَ لنفسي، فبينا هو يمشي، إذا بفتى حسنِ الوجه، طيبِ الريح، حسنِ الثياب، فقال له: يا شيخ! مالي أراك مستسلمًا للموت، آيسًا من الحياة؟. قال: من عدوٍّ في جوفي يريد هلاكي. قال: فاستخرجَ شيئًا من كمه، فدفعه إليَّ، وقال: كُلْها، ففعل، فأصابه مغص شديد، ثم ناوله

أخرى فأكلها، فرمى بالحية من أسفله قطعًا. فقال: من أنت يرحمك الله، فما أحدٌ أعظم علي مِنَّةً منك؟ قال: أنا المعروف، إن أهل السماء لما رأوا غدرَ الحيةِ بك، اضطربوا، كُلٌّ يسأل ربَّه أن يُغيثك، قال الله تعالى: يا معروف! أدرك عبدي، فإيايَ أرادَ بما صنع (¬1). وبه إلى ابن البخاريِّ: ثنا إسماعيلُ بن عثمانَ: ثنا أبو الأسعدِ هبةُ الرحمن: أنا جدي عبد الكريمِ: أنا أبو الحسينِ بن بشرانَ: ثنا أبو عمرِو بن السماكِ: ثنا محمدُ بن عبد رَبِّهِ: ثنا بشرُ بن عبد الملكِ: ثنا موسى بن الحجاجِ، قال: قالَ مالكُ بن دينارٍ: ثنا الحسنُ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: كان رجلٌ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَّجِر من بلاد الشام إلى المدينة، ومن المدينة إلى بلاد الشام، ولا يصحبُ القومَ، قال: توكلاً منه على الله -عَزَّ وَجَلَّ-. قال: فبينا هو جاء من الشام يريد المدينة، إذ عرض له لص على فرس، فصاخ بالتاجر [...]. قال: فوقف له التاجرُ، وقال لهُ: شأنك بمالي، وخَلِّ سبيلي. قال: فقال له اللصُّ: المالُ مالي، وإنما أريدُ نفسَك. فقال التاجر: ما ترجو بنفسي؟ شأنك بالمال، وخَلِّ سبيلي. قال: فرد عليه اللص مثلَ المقالة الأولى. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 293 - 294).

فقال له التاجر: أَنظرني حتى أتوضأ، وأصليَ، وأدعوَ ربي -عَزَّ وَجَلَّ-. قال: افعلْ ما بدا لك. قال: فقام التاجر فتوضأ، وصلى أربع ركعات، ثم رفع يديه إلى السماء، فكان من دعائه أن قال: اللَّهمَّ يا وَدودُ، يا وَدودُ، يا ذا العرش المجيد، يا مبدئُ يا معيدُ، يا فعال لما يريد، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركانَ عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدرتَ بها على خلقك، وبرحمتك التي وسعَتْ كل شيء، لا إله إلا أنت. يا مغيثُ أغثني، يا مغيثُ أغثني، يا مغيثُ أغثني -ثلاث مرات-. فلما فرغ من دعائه، إذ بفارس على فرسٍ أشهبَ، عليه ثيابٌ خضر، بيده حربةٌ من نور. فلما نظر اللصُّ إلى الفارس، ترك التاجر، ومر نحو الفارس، فلما دنا منه، شدَّ الفارسُ على اللص، فطعنه طعنةً أرداه عن فرسه، ثم جاء إلى التاجر، فقال له قم فاقتلْه، فقال له التاجر: ممن أتيت، فما قتلتُ أحدًا قطُّ، ولا تطيبُ نفسي بقتله، فرجعَ الفارس إلى اللص وقتله، ثم جاء إلى التاجر، وقال: اعلمْ أني مَلَكٌ من السماء الثالثة، حينَ دعوت الأولى سمعنا لأبواب السماء قعقعةً، فقلنا: أمرٌ حدثَ، ثم دعوتَ الثانية، ففتحت أبواب السماء، ولها شرر كشرر [....]، ثم دعوت الثالثة، فهبط جبريل من قبل السماء وهو ينادي: مَنْ لهذا المكروب؟ فدعوتُ ربي أن يوليني قتلَه.

فاعلم يا عبد الله: أنه من دعا بدعائك هذا في كل كربة وكل شدة وكل نازلة، فَرَّجَ الله عنه، وأغاثه. قال: وخرج التاجر سالمًا غانمًا حتى دخل المدينة، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره القصة، وأخبره بالدعاء، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لَقَدْ سأل الله بأسمائه الحُسْنَى الَّتِي إِذَا دُعِيَ بِهَا أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهَا أَعْطَى". أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا أبو محمدٍ عبد الرحمن بن عبد الواحدِ، وجَدِّي أبو العباسِ، قالا: أنا عبد الله الخشوعيُّ: أنا أبي: أنا أبو محمدِ بن الأكفانيِّ: أنا أبو محمدٍ الكنانيُّ: أنا أبو نصرٍ المريُّ: أنا ابن زَبرٍ: أنا أبي: ثنا عبد الله بن مسلمٍ، عن داودَ بن أبي العباسِ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: بعثَ بي المنصورُ إلى ابن أبي ذئبٍ، أسألُ عن مسألة، فقال: ما هي؟ فذكرتها له. فقال: لا يراني الله -عَزَّ وَجَلَّ- أفتي جبارًا مثلَه في مسألة فيها ضررٌ على المسلمين. قال: فرجعتُ إلى المنصور مغضبًا، فعرف في وجهي ذلك. فقال: لقد جئتَ بغير الوجه الذي ذهبتَ به. فقلت: تبعثُ بي إلى مجنون! ثم أخبرته. فقال المنصور: الذي لقيتُ أنا منه العامَ في الطواف أشدُّ من هذا، كنت بالأسواق إلى أن أراه، فبينا أنا أطوف، إذ قال لي المسيبُ: ألستَ كنتَ تسألُ عن ابن أبي ذئبٍ؟ فقلت: بلى، قال: هو ذا

هو [.....]، فأتيته فقلتُ: السلامُ عليكم ورحمة الله، فناولته يدي، [....] بعينيه في وجهي، فقال: من أنت؟ فلقد أخذتَ بيدي أخذَ جبارٍ. قلت: أوما تعرفني؟ قال: لا. قلت: أنا أبو جعفر المنصور. قال: فجذب يدَه من يدي، وقال: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الَآية، قال: قلت: يا أمير المؤمنين! فما صنعتَ به؟ قال: ما عسيت أن أفعل برجلٍ اللهُ في قلبه عظيم. وبه إلى ابن زَبْرٍ: أنا أبي، قال: ذكر عبد الجبارِ بن سعيدٍ، عن أبيه، عن محمدِ بن إبراهيمَ، قال: حضرتُ أبا جعفرٍ المنصورَ بالمدينة، وعندَه ابن أبي ذئب، فقال له أبو جعفرٍ: يا بن أبي ذئب! أخبرني بحالات الناس. فقال: يا أمير المؤمنين! هلك الناس، وضاعت أمورُهم، فلو اتقيتَ الله فيهم، وقسمت بينهم فيهم فيئهم. فقال: ويلَكَ يا بن أبي ذئب! لولا ما بعثنا بذلك الفيء من البعوث، وسدَدْنا به من الثغور، لأُتيت في منزلك، وأُخذت بعنقك، وذُبحت ذبحَ الجمل.

فقال ابن أبي ذئب: يا أمير المؤمنين! قد بعثَ البعوثَ، وسدَّ الثغورَ، وقسمَ فيهم فيئَهم غيرُك. قال: ويلَكَ! ومن ذاك؟ قال: عُمَرُ بن الخطاب. قال: فأطرقَ أبو جعفرٍ إطراقةً، ثم رفعَ رأسه، فقال: إن عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- عمل بزمان، وعملنا لغيره. فقال: يا أمير المؤمنين! إن الحق لا ينقله الزمان عن مواضعه، ولا يغيره عن وجهه. قال: أحسبُك يا بن أبي ذئب إمامًا على السلطان. قال: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين، فوالذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه! لَصَلاحُك أحبُّ إليَّ من صلاحِ نفسي، وذلك أن صلاحي لنفسي لا يعدوها، وصلاحك لجميع المسلمين. قال: فأطرق أبو جعفرٍ، وابن المسيَّبِ، والحرسُ قيامٌ على رأسه بأيديهم السيوفُ المسللة، ثم رفع رأسه وقال: من أراد أن ينظر إلى خير أهل الأرض اليومَ، فلينظر إلى هذا الشيخ، ولوى إلى ابن أبي ذئب، قال: فقلتُ في نفسي، أشهد أن الله وليُّ الذين آمنوا، وهو منجي المتقين. وبه إلى ابن زبرٍ، أنا أبي: أخبرني عبد الله بن مسلمٍ، عن أحمدَ بن يحيى، عن محمدِ بن إدريسَ الشافعيِّ، قال: قدم أبو جعفرٍ المنصورُ المدينةَ حاجًّا، فأتته الوفودُ من كل بلدٍ يشكون إليه الأمراء.

فأتاه أهل اليمن يشكون معنَ بن زائدةَ، وأتاه بنو أبي عمرٍو الغفاري من أهل المدينة يشكون أميرهم الحسنَ بن زيدٍ. فقال وفدُ اليمن لأبي جعفرٍ المنصورِ -وقد أحضرَ ابن أبي ذئب والعلماءَ-: يا أمير المؤمنين! إن معنَ بن زائدةَ قد تعدَّى علينا، [.......] وقد رضينا بابن أبي ذئبٍ. فقال له أبو جعفرٍ المنصورُ: ما تقول في معنِ بن زائدة؟ قال: قولي فيه وعلمي: أنه عدوُّ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يقتلُ المسلمين بغير حق، والمعاهَدين، وحكمَ بغير ما أُنزِل، ويُفسد العبادَ والبلاد. قال: ثم تقدم الغِفاريون يشكون الحسنَ بن زيدٍ، وسيرتَه فيهم، فقالوا: قد رضينا بابن أبي ذئب، فأطبقَ عليه ابن أبي ذئب بسوء. فقال الحسنُ بن زيدٍ: يا أمير المؤمنين! قد ذكرني بما قد ذكر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسأله عن حال أمير المؤمنين عنده. فقال أبو جعفر: ما تقول فيَّ يا بن أبي ذئب؟ قال: أَعْفِني. قال: عزمتُ عليك. قال: أَعفني. قال: لستُ أفعل. قال: فبكى ابن أبي ذئب، ثم قال: تسألُني عن نفسِك؟ أنتَ أعلمُ بنفسك مني، وما عسى أن أقول فيك، مما فيك، وأنت والله الرجلُ

الذي اتزرت المسلمين أمرهم، ظلمتَهم، واعتديتَ عليهم، وسفكتَ الدماءَ الحرام، وأخذتَ الأموالَ من غير حِلِّها، ووضعتَها في غير حَقِّها، وأهلكت المسلمينَ، والفقراء واليتامى والمساكين. قال محمدُ بن إبراهيم. وبين يَدَي أبي جعفر عمودٌ، فجمع الناسُ عليهم ثيابهم مخافةَ أن تتلطخ عليهم من دمه ودماغه، فلم يهجه بشيء، وانصرف الناس. فقال عمُّ أبي جعفر؟ يا أمير المؤمنين! إن هذا مجلسٌ قد حضره أهلُ الآفاق، وينصرفون إلى البلاد، فيخبرون بما كان إلى أمير المؤمنين من الجرأة، فلو قتلت هذا الكلب لئلا يجترئ عليك غيره من الناس. فقال أبو جعفر: ويحكَ! هذا رجل قد بلغتْ منه صعوبةُ العبادة، وقد سمع الحديثَ: "إِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ قَالَهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر، فَقُتِلَ عَلَيْهَا" (¬1)، فَطَمِعَ أني أقتلُه، فيصير إلى الجنة، وأُريحه مما هو فيه من صعوبة العبادة، ولا والله! ما أهيجه حتى يموتَ أو أموتَ. أخبرنا جدِّي: أنا ابن الصلاحِ: أنا ابن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: ثنا ابن ناصر ح. وأنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا ابن ناصرٍ: أنا المباركُ بن عبد الجبارِ: أنا أبو القاسمِ الأزجيُّ: أنا أبو الحسينِ بن جهضمٍ: حدثني أبو الحسنِ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4344)، عن أبي سعيد -رضي الله عنه-.

السيروانيُّ، قال: قال أبو القاسمِ سمنونُ: دخلت عبادانَ، فسألتُ عن شيخٍ أسالم قلبه، وآنس به، فقيل لي: ما بقي عندنا أحدٌ، إلا وقد رأيتَه، وما بقي لنا غيرُ شيخٍ في البحر، قد نقرَ لنفسه ساجةً، وهو يتعبد فيها منذ ثلاثين سنة، وربما ألقتْه الريح ههنا في كل سنة مرةً أو مرتين، فكأَن نفسي تشوقت إليه، فلما كان في بعض الأيام، قيل لي: إن الرجل قد وصل. قال سمنون: فخرجتُ أنظر إليه، فإذا رجلٌ شيخٌ جالسٌ في ساجةٍ منقورة، حسنُ السمت، فسلمتُ عليه، فردَّ عليَّ السلامَ، فقلت له: إني سائلكَ عن مسألة. فقال: دَعْني من هذا، فإني أريد أن أسألك عن مسألة. قال سمنون: فقلت له: سَلْ، فقال: إنَّ ذَكَري يجري كمَنْخِرَيِ الثورِ، فما أعمل؟ فقلت له: ما عليكَ أكثرُ من أن تنترَ ثلاثًا، وما عدا ذلك فليس عليك. قال سمنون: فقلت له: حدثني بأشدِّ ما رأيتَ في هذا البحر من الوحشة. فقال: ما يمكن، ولكن هَبَّتْ في بعض الليالي ريحٌ عظيمة، وأظلمَ البحرُ وجنَّ، حتى ما رأيتُ مثلَه قَطُّ إن شاء الله، فداخَلَني من ذلك وحشةٌ عظيمة، فطلبت شيئًا يزيل عني تلك الوحشةَ، فإذا أنا بتنيني عظيمٍ فاتحٍ فاه، وألقتني الساجةُ نحوه، فدخلتُ في فيه، وجلستُ على نابٍ من أنيابه، وصليت ركعتين، فزال عني ما كنت أجدُ من الوحشة.

وبه إلى ابن جهضمٍ: أنا أبو بكرِ بن الجلندي: سمعت أبا عبد الله بن الجلاءِ يقول: كنا في غرفة سَرِيٍّ ببغدادَ، فلما ذهب من الليل بعضُه، قام فلبس قميصًا نظيفًا، وسراويل، ولبس نعلًا ورديًا، وخرج، فقلت له: يا عم! إلى أين تمر في هذا الوقت؟ فقال: أعود فتحًا -يعني: الموصليَّ-، فلما مشى في الطريق، لقيه صاحبُ الليل، فأخذه وحبسه، فلما كان من الغد، عُرض مع من عُرض من المحبسين، وأمر الجلاد بضربهم، فقدِّموا واحدًا بعد آخر، فقدَّموا سَرِيًّا، وأمر الجلاد بضربه، فلما رفع الجلاد يده ليضربه، وقفت يدُ الجلاد لمْ تتحرك، فقال صاحب العمل للجلاد: اضربْ ويلَكَ!. قال: بحذائي شيخٌ واقفٌ يومئ إليَّ أن لا أضربَه، فتقف يدي لا تتحركُ، فقال صاحب الشرط: انظروا مَنْ هذا الرجل. قال: فلما رآهم قد أقبلوا إليه، ولَّى، ولقيه رجلٌ، فسلم عليه، فقال للرجل: من هذا الذي سلمتَ عليه؟ قال: وإيش سؤالك عن هذا؟ فقلت: أسألك من هو؟ فقال: هو فتحٌ الموصليٌّ، فأخبر صاحب الشرطة، فقال: أطلقوه، هذا من أصحاب فتح، وسألوا عنه. قال: فتبعناه حتى سلَّم عليه رجل، فسألنا عنه، فقيل: هذا سَرِيٌّ السَّقَطيُّ. أخبرنا أبو العباسِ بن هلالٍ، قال لي: عن ابن المحبِّ، عن النابلسيِّ، عن الواسطيِّ، عن الشيخِ موفقِ الدين. وأنا جماعةٌ من شيوخنا، عن ابن المحبِّ، عن المزيِّ وابنته، عن ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ، عن الشيخِ موفقِ الدينِ: أنا السِّلَفيُّ: أنا الحسينُ بن

الطيوريِّ: أنا أبو القاسم عبد العزيزِ بن أحمدَ: ثنا الحسنُ بن عليِّ بن جهضمٍ: ثنا عليُّ بن هارونَ: ثنا محمدُ بن مخلدٍ: حدثني الفتحُ بن شخرفٍ، قال: تعلق رجلٌ بامرأةٍ ببابِ دمشقَ، [.......] بيده سكينٌ، لا يدنو منه أحدٌ إلا عصره، وكان الرجلُ شديدَ البدن، وبينما الناس كذلك، والمرأة تصيحُ في يده، مرَّ بشْرُ بن الحارثِ، فدنا منه، وحكَّ كتفَه بكتفِ الرجلِ، فوقع الرجلُ إلى الأرض، ومضى بشرٌ، فدنَوْا من الرجل وهو يرشَحُ عرقًا، ومضتِ المرأةُ لحالها، فسألوه: ما حالك؟ فقال: ما أدري، ولكن حاكني شيخ، فقال: إن الله ناظرٌ إليك وإلى ما تعمل، فضعف لقوله قدمي، وهِبْتُه هيبةً شديدةً، فلا أدري مَنْ ذلك الرجلُ. فقالوا له: ذلك بِشْرُ بن الحارثِ، فقال: واسوءتاه! فكيف ينظرُ إليَّ بعدَ اليوم؟ وَحُمَّ الرجلُ من يومه، ومات يوم السابع. وقد أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنه كان بالصالحية رجلٌ من الأخيار يقال له: الرزين، وكان يوصف بالشطارة، وأنه مر مرة وعشر مماليكَ قد أمسكوا امرأةً وهي تصيح، فقال لهم: أَطلقوها، فزمجروا عليه، ولم يمعنوا به، فقال لهم: أطلقوها، [.....] فحمل عليه أحدُهم، وليس معه سلاحٌ ولا غيره، وفي رجله بروةُ قبقاب، فأخذ بزرة منه، وضربه، فرماه، فحمل عليه الثاني، فضربهم بالحجارة حتى بطحَ العشرةَ، وحلت المرأة، وأطلقها، وهشمهم، وأتلفهم، فنزلوا إلى أستاذهم، وكان نائبَ دمشقَ، فشكَوْا عليه إليه، فأرسل إليه عشرين مملوكًا، فخرج عليهم، فقتلهم وهشمهم، وذهبوا إلى [....]

حال، فرجعوا إلى أستاذهم يشكون عليه، فلما أن دخلوا عليه، وإذ به قد دخل، فقالوا: هذا، فنظر إليه، وقال: هذا وحده؟ قالوا: نعم، قال: لم يكن معه أحد؟ قالوا: لا، قال: عليَّ بخِلْعَةً، فألبسَه، وقال: أنا محتاجٌ إلى مثلِك في عسكري. وأخبرنا عنه: أنه مرة قام صوت على حرامية بالليل، فخرج إليهم، فجعل يجري خلف الواحد منهم، فيمسكه ويأتي به إلى حلقة الباب، فيدخل يده فيها، ويكبس عليها بيده، فيطبقها على يده، ثم يذهب إلى الَآخر كذلك، حتى أمسكَ منهم عدةً، وفعلَ بهم ذلك، فأصبحوا في حِلَقِ الأبواب مقيدين. وأخبرنا عنه: أنه كان قد جاء إلى قُبَّهِ سَيَّارٍ عبدٌ، وجعل يقطع الطريقَ على الناس، فأُخبر به هذا الرجلُ، فلبس فرجيته وقبقابه، وصعد إليه يتمشى في الجبل، فلما رآه وقصده، فجعل يمشي نحوه، وهو يمشي نحوه غيرَ مكترث به، فلما دنا منه، نظر إليه، وقال: بالله ما أنت سيدي الرزين؟ فقال: بلى والله! أنا سيدُك الرزين، فلما قال له ذلك، رمى سيفه وجحفته، وأكبَّ على رجله فقبلها، وقال: أنا تائبٌ على يدك، فقال له: اذهبْ في حال سبيلك، وتركه ونزل، فما رئي بعد ذلك. وكان آخَرُ يقال له: الزين، وكان قد تزوج جدتي قبل جدي، فكانت تخبرنا عنه بالعجب، وأنه كان لا يزال يقوم على الخمَّارين والسكرية، وأنهم كانوا مجمعون، وياتونه، وأنه كان يضع القصب، وينزل في البئر، ويصعد عليها على السطح، ويفعل الأحوال العجيبة.

أخبرنا الحافظُ أبو العباسِ إذنًا، وأنا جماعةٌ عنه: أنا أبو المعالي الأرمويُّ: أخبرتنا عائشةُ بنتُ عليٍّ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا البوصيريُّ: أنا الأرتاحيُّ: أنا ابن الفراءِ: أنا ابن الضرابِ: أنا أبي: أنا أبو بكرٍ الدينوريُّ: سمعتُ ابن قتيبةَ يقولُ: سمعت دِعْبِلاً يقول: أُدخلتُ على المعتصم، فقال لي: يا عدوَّ الله! أنت الذي تقول في بني العباس: إنهم في الكتب أنهم سبعة؟ وأمرَ بضربِ عنقي، وما كان في المجلس إلا من كان عدوًّا لي، وأشدُّهم عليَّ ابن شكلةَ، فقام قائمًا، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا الذي قلتُ هذا، ونميته إلى دعبل. فقال له: وما أردتَ بهذا؟ قال: لما تعلم ما بيني وبينه من العداوة، فأردت أن أشيط بدمه. قال: فقال: أطلقوه. فلما كان بعد مدة قال لابن شكلة: سألتُك بالله أنتَ الذي قلته؟ فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، وما نظرة أنظر أبغض إليَّ من دعبل. فقال له: فما الذي أردتَ بهذا؟ قال: علمتُ أن ما له في المجلس عدو أعدى مني، فنظر إليَّ بعين العداوة، ونظرتُ إليه بعين الرحمة. فقال: جزاك الله خيرًا، أو نحو ذلك. وبه إلى الدينوري: ثنا أبو حصينٍ، قال مر داودُ القصابُ بامرأة عند قبر وهي تبكي، فَرَقَّ لها، فقال لها: من هذا الميتُ منك؟ قالت: زوجي. قال: وما كان يعمل؟ قالت: كان يحفر القبور. قال: أبعدَه الله، أما علمَ أن من حفرَ لأخيه المسلم حفرةً وقعَ فيها؟

أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ، أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: أنا ابن ناصرٍ: أنا أبو علي الحسنُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن أحمدَ بن أبي الفوارسِ: ثنا الحاكمُ أبو أحمدَ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا محمدُ بن وهبٍ: أخبرني أحمدُ بن سنانَ: أخبرني سيارٌ، قال: قرأ رجل على شيبان الراعي: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. قال: فذهبَ على وجهه، فلم يُرَ سنةً، قال: فلما كان بعدَ الحول، لقيه رجلٌ فقال: من أين؟ فقال: من ذلك الحساب الدقيق {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. أخبرنا أبو العباسِ الحريريُّ: أنا المشايخُ الثلاثةُ: أنا المزيُّ، وأنا ابن المحبِّ، قالا: أنا ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ: أنا شيخُ الإِسلامِ موفقُ الدينِ: أنا السِّلَفِيُّ: أنا ابن الطيوريِّ: أنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: أنا ابن الحسنِ بن جهضمٍ: ثنا حبيبٌ: ثنا الفضلُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن مرزوقٍ: حدثني أبي: حدثتني أمةُ الملكِ بنتُ هشامِ بن حسانَ، قالت: خرجَ عطاءٌ الأزرق إلى الجبان يصلي بالليل، فعرض له لصٌّ، فقال: اللهمَّ اكْفِنيه، قال: فجفَّت يداه ورجلاه، قال: فجعل يبكي ويقول: والله! لا أعود أبدًا، قال: فدعا الله له، فأطلق، فاتبعه اللص، فقال له: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا عطاءٌ، فلما أصبحَ، سأل الناسَ: هل تعرفون رجلاً صالحًا يخرج بالليل إلى الجبان يصلي؟ قالوا: نعم، عطاء السُّلَمي.

قال: فذهب إلى عطاء السلمي إلى الخربة، فدخل عليه، وقال: إني جئتك تائبًا من قصتي كذا وكذا، فادعُ الله لي، قال: فرفع عطاءٌ السلميُّ رأسَه إلى السماء، وجعل يبكي ويقول: ويحك! ليس أنا، ذاك عطاء الأزرق [...] عن نفسه. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ العكبريُّ: أنا أبو بكرِ بن أبي طاهرٍ: ثنا محمدُ بن عليٍّ: ثنا محمدُ بن عبد الله: أنا ابن بشرانَ: أنا أبو بكرٍ القرشيُّ: ثنا محمدُ بن إدريسَ: ثنا أحمدُ بن أبي الحواريِّ: ثنا زيدُ بن عبيدٍ، عن خليدٍ، عن الحسنِ، قال: أحرقت خِصاصُ البصرة، وبقي في وسطها خُصٌّ لم يحترق، وأميرُ البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري، فخبر بذلك، فبعث إلى صاحب الخص، فأُتي به، فماذا شيخٌ، فقال: يا شيخ! ما بالُ خُصِّك لم يحترقْ؟ قال: إني أقسمتُ على ربي ألا يحرقه، قال أبو موسى: أما إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَكُونُ في أُمَّتِي رِجَالٌ طُلْسٌ رُؤُوسُهُمْ، دُنْسٌ ثِيَابُهُمْ، لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى الله لأَبَرَهُمْ". أخبرنا أبو العباس الحريريُّ: أنا المشايخُ الثلاثةُ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ، أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا عبد الرحمن: أنا أحمدُ بن عليٍّ: حدثني عبد الغفارِ بن عبد الواحدِ: حدثني أبو الحسنِ بن حميدٍ، قال: سمعتُ أبا ذَرٍّ الهرويَّ يقول: كنت عند أبي الفتحِ القواس، وقد أخرج جزءًا من كتبه، فوجد فيه قرض الفأر، فدعا الله -عَزَّ وَجَلَّ - على الفأرة التي قرضته، فسقطت من سقف البيت

فأرة، ولم تزل تضطرب حتى ماتت (¬1). فاحذرْ بأن تؤذي الصالحين أن تصير إلى حال الفأرة. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو منصورٍ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا أبو نعيمٍ: سمعتُ محمدَ بن الحسينِ يقول: سمعتُ الحسنَ بن الرازيِّ يقول: سمعتُ أبا عليِّ الروذبارِيَّ يقول: كان سببُ دخولي مصرَ حكايةَ بنانَ، وذلك أنه أمر ابن طولونَ بالمعروف، فأمر أن يُلقى بين يَدَيِ السَّبُعِ، فجعل السبعُ يشمه ولا يضرُّه، فلما أُخرج من بين يدي السبع، قيل له: ما الذي كان في قلبك حيث شمك السبعُ؟ قال: كنت أتفكر في سؤر السباع ولُعابها (¬2). وبه إلى الإمام أبي الفَرَجِ: أنا عبد الرحمن بن محمدٍ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: سمعتُ عليَّ بن جهضمٍ يقول: حدثني عمرُ النجارُ، قال: دخل أبو الحسين النوريُّ إلى الماء يغتسل، فجاء لصٌّ فأخذ ثيابه، فخرج أبو الحسين من الماء، فلم يجد ثيابه، فرجع إلى الماء، فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء اللصُّ معه ثيابُه، فوضعها مكانها، وقد جفت يدُه اليمنى، فخرج أبو الحسين من الماء، ولبس ثيابه، وقال: يا سيدي! قد ردَّ عليَّ ثيابي، فردَّ عليه يدَه، فرد الله عليه يدَه، ثم مضى (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (14/ 325). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 324). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 251).

وقد كان مرة جاء إلى دمشق حرامي من مصر، [.......] وهو يسرقهم، ولا يقدر عليه، فنزل على الشيخ عبد الرحمن أبو شعر، شيخِ الحنابلة في وقته في شهر رمضان في العشر الأخير، فأخذ [...] وذهب، فلم يمض عليه غيرُ ثلاث ليالٍ حتى أمسك من غير [...]. فنزل على امرأةٍ ليس لها رجل، ولا عندها أحدٌ، فقال لها: أين المال؟ قالت: في هذا المخدع، فدخله، فغلقت الباب عليه، وسكَّرته، وصاحت، فجاء الناس فأمسكوه بغير كلفة، فانظر كيف أُمسك بأيسر كُلفة ولا ضربة، فكان الناس يعدُّون ذلك من بركة الشيخ وفضله، ويقولون: لحوم العلماء مسمومة، وإنه من تجرأ عليهم، لم يمهله الله -عَزَّ وَجَلَّ-. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو منصورٍ القزازُ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا أحمدُ بن عبد الله: أنا جعفرُ بن محمدٍ: ثنا أبو العباسِ بن مسروقٍ، وأبو محمدٍ الحريريُّ، وأبو أحمدَ المغازليُّ، وغيرُهم، عن إبراهيمَ الآجريِّ: أنه جاءه يهوديٌّ يتقاضاه شيئًا من ثمن قصب، فكلمه، فقال له: أرني شيئًا أعرف به شرفَ الإِسلام وفضلَه على ديني حتى أُسلم، قال له: وتفعلُ؟ قال: نعم، فقال له: هات رداءك، قال: فأخذه فجعله رداءً لنفسه، ولفَّ رداءه عليه، ورمى به في النار، نارِ تنورِ الآجرِّ، ودخل في أثره، فأخذ الرداء، وخرج من النار، ففتح رداءَ نفسه وهو صحيح، وأخرجَ رداءَ اليهودي من داخله حراقاً أسود من وسط جوف رداء نفسه، فأسلم اليهوديُّ في الحال (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 223).

وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو بكرٍ العامريُّ: أنا عليُّ بن أبي صادقٍ: أنا أبو عبد الله بن باكويه: حدثني عيسى بن يوسفَ: ثنا أحمدُ بن محمد الزنجانيُّ، قال: سمعتُ أبا عليٍّ البصريَّ، وأبا نصرٍ الروميَّ، قالا: سمعنا أبا الحارثِ الأولاسيَّ يقول: أقبلتُ من جبل اللكامِ مع أبي إسحاقَ العلويِّ، وكان أبو إسحاقَ لا يأكلُ إلا في كلِّ ثلاثةً سَفَّاتِ خرنوبٍ، فلقينا امرأةً، وقد سَخَّر جنديٌّ حمارًا لها، فاستغاثت بنا، فكلَّمه العلويَّ، فلم يردَّهُ عليها، فدعا عليه، فخرَّ الجنديُّ والمرأةُ والحمارُ، ثم أفاقت المرأة، ثم أفاق الحمار، ومات الجندي. فقلت: لا أصحبُك؛ فإنك مستجابُ الدعوة، وأخشى أن يبدوَ مني سوءُ أدب، فتدعوَ عليَّ فقال: لستَ تأمنُ؟ قلت: لا، قال: فأقللْ إذًا من الدنيا ما استطعتَ. ولقد رأينا كثيرًا من المؤذية لم يمهلهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- حتى يبلغوا مناهم، وقد رأينا كل من بغى وتعدى على الناس لم يمهل إلا يسيرًا حتى أُخذ، والمؤذي قصيرُ العمر، وإنما يستطوِلُ الناسُ أعمارَهم؛ لسآمة النفوس من أذاهم، وتَلْقاهم يُصيبهم من الأذى أكثرُ مما يؤذون الناس، وما قطُّ بغى قومٌ إلا قَرَضهم الله قرضًا سريعًا. وقد رأينا غيرَ طائفة يبغون، فيمحقهم الله كلَّهم سريعًا، ويصيرون في حال الضرورة، وكان رجل في زمننا، يقال له: أبو كلب، كان غالبُ الناس يخاف منه، ويتقي شرَّه، حتى الحكامُ لم تكن تقدر عليه، وتعجز عنه، وقد لقيتُه قبل قتله بمدة، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: بشرٍّ والله يا شيخ، ليس نومنا نوم، ولا نهارنا نهار، ونحن

أولياء الله قوم لم تخف نفوسهم إلا من الله

في حال الضرورة، لا نقدر ننام في بيوتنا ليلة واحدة، ولا نأكل كل لقمة. فقلت: لا إله إلا الله، انظروا إلى هؤلاء كيف هم مع ما هم فيه من البغي! فما مضت مدة يسيرة حتى سكر، وجاء إلى باب بعض الحكام سكران، فأُمسك فقُتل. * وهم قوم لم تخف أنفسُهم إلا من الله. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا ابن ناصرٍ: أنا المباركُ بن عبد الجبارِ: أنا محمدُ بن عليٍّ: أنا محمدُ بن عبد الله: ثنا الحسينُ بن صفوانَ: أنا أبو بكرٍ القرشيُّ: ثنا محمدُ بن يحيى: أنا جعفرٍ الرازيُّ، عن أبي حفصٍ السائحِ: أنا أبو وهبٍ وغيرُه: أنَّ عامرَ بن عبد قيسِ هبط واديًا يقال له: وادي السباع، فخُوِّفَ منه، فقال: عَظُمَتْ هيبةُ الله في صدري، حتى ما أهابُ شيئًا غيرَه، واكتنفَتْه السباعُ، فجاء سَبُعٌ منها، فوثبَ عليه من خلفه، فوضعَ يديه على مَنْكِبيه وهو يتلو هذه الَآية: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] فلما رأى السبعُ أنه لا يكترثُ، ذهب، فقيل له: ما هالَكَ ما رأيت؟ قال: إني لأستحي من الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن أهابَ شيئًا غيرَه (¬1). أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا ابن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 89).

ابن الجوزيِّ: أنا سعدُ الله بن عليٍّ، ومحمدُ بن عثمانَ الأياميُّ: أنا الطريثيثيُّ: أنا ابن الطيوريِّ: أنا عبد الله بن مسلمٍ: أنا الحسنُ بن إسماعيلَ: أنا عمرُ بن سويدٍ: ثنا يوسفُ بن عطيةَ: ثنا المعلى بن زيادٍ، عن عامر بن عبد قيسٍ: أنه مرَّ بقافلةٍ قد حبسَهُم الأسدُ من بين أيديهم على طريقهم، فلما جاء، نزل عن دابته، فقالوا له: إنا نخافُ عليك من الأسدِ، فقال: إنما هو كلبٌ من كلاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، إن شاء أن يسلِّطه، سلَّطه، وإن شاء أن يكفَّه، كَفَّه، فمشى إليه حتى أخذ بيديه أُذني الأسدِ، فنحّاه عن الطريق، وجازت القافلةُ، فقيل له: أما خِفْتَه؟ فقال: إني لأستحي من الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يَرى من قلبي أني أخافُ من غيره. ومَرَّ مرةً على أَجَمَة، فقيل له: إنا نخافُ عليك منها الأسدَ، فقال: إني لأستحي من الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن أخاف غيره. وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا أحمدُ بن أبي منصورٍ: أنا المؤتمنُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن محمدٍ: أنا أبو عبد الرحمن السلميُّ: أنا أبو الحسنِ الجرجانيُّ: أنا أبو عوانةَ: ثنا ابن أبي الدنيا: ثنا هارونُ بن عبد الله: ثنا إبراهيمُ بن مهديٍّ: ثنا عمرانُ بن مسلمٍ: ثنا أبو مسكينٍ، قال: قال عامرُ بن عبد قيس: مَنْ خافَ الله، أخافَ الله منه كلَّ شيء، ومن لم يخفِ الله، أخافَه الله من كلِّ شيء (¬1). أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا أبو الحسنِ الإمامُ: أنا المحبوبيُّ: ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 191).

أخبرتنا ستُّ الأهلِ بنتُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: ثنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا أحمدُ بن الحجاجِ: أنا عبد الله بن المباركِ: أنا المستلمُ بن سعيدٍ: ثنا حمادُ بن جعفرٍ: أن أباه أخبره، قال: خرجنا في غَزاة إلى كابل، وفي الجيش صلَةُ بن أَشْيَمَ، فبركَ الناسُ عند العتمة، فقلت: لأرمقنَّ عملَه، فأنظرَ ما يذكرُ الناسُ من عبادته، فصلَّى العتمةَ، ثم اضطجعَ، فالتمسَ غفلةَ الناس، حتى إذا قلت: هدأتِ العيونُ، وثبَ، فدخل غيضة قريبًا منه، فدخلت في أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي. قال: وجاء أسد حتى دنا منه، قال: فصعدتُ في شجرة، قال: فتراه التفت إليه أو [...] حتى سجد، فقلت: الَآن يفترسه، فجلس ثم سلم، فقال: أيها السبع! اطلبِ الرزقَ من مكان آخر، فولَّي، وإن له لزئيرًا يصدع الجبال، فما زال كذلك، فلما كان عند الصبح، جلس فحمِدَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- بمحامدَ لم أسمعْ بمثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تُجيرني من النار، أَوَ مثلي يجترئ أن يسألك الجنة، ثم رجع فأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحتُ وبي من الفترة شيءٌ الله تعالى به عليمٌ (¬1). قال: فلما دنونا من أرض العدو، قال الأمير: لا يشذَّنَّ أحدٌ من العسكر، قال: فذهبتْ بغلتُه بثقلها، فأخذ يصلِّي، فقالوا: إن الناس ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 240).

قد ذهبوا، فمضى، ثم قال: دعوني أصلي ركعتين، فقالوا: الناسُ قد ذهبوا، فمضى، ثم قال: دعوني أصلي ركعتين، فقالوا: الناس قد ذهبوا، قال: إنهما خفيفتان، قال: فدعا، ثم قال: اللهمَّ إني أقسمُ عليك أن تردَّ عليَّ بغلتي وثقلَها، قال: فجاءت حتى قامتْ بين يديه، قال: فلما لقينا العدوَّ، حمل هو وهشامُ بن عامرٍ على العدو طعنًا وضربًا وقتلاً، فكسر ذلك العدوَّ، فقالوا: رجلانِ من العرب صنعا بنا هذا، فكيف لو قاتلونا بأجمعهم؟ فأعطوا المسلمين حاجتهم. وبه إلى عبد الله: حدثني خوثرةُ بن أشرسَ: ثنا حمادُ بن سلمةَ، عن حبيبِ بن الشهيدِ: أن مسلمَ بن يسارٍ كان قائمًا يصلي، فوقع حريق إلى جنبه، فما شعر به حتى أُطفئت النار (¬1). أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: أنا محمدٌ: أنا حمدٌ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أحمدُ بن جعفرٍ: ثنا [أحمدُ بنُ] عليٍّ الأبارُ: ثنا أبو عمارٍ: ثنا الفضلُ بن موسى، عن الحسينِ -يعني: ابن واقد-، عن مطرٍ، عن قتادةَ، قال: مَنْ يَتَّقِ الله يكنْ معه، ومن يكنِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- معه، فمعه الفئةُ التي لا تُغلَب، والحارسُ الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل (¬2). وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا أبو بكرِ بن أبي طاهرٍ: أنا محمدُ بن عبد الله: أنا ابن صفوانَ: أنا أبو بكرٍ القرشيُّ: ثنا محمدُ بن إدريس: ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 290). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 340).

ثنا أحمدُ بن أبي الحواريِّ: ثنا وهبُ بن زيدِ بن عبيدٍ، عن خليدٍ، عن الحسنِ، قال: احترقتْ أخصاصُ البصرة، وبقي في وسطها خصٌّ لم يحترقْ، وأمير البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري، فخبر بذلك، فبعث إلى صاحب الخص، فأتُي به، فإذا شيخُ فقال: يا شيخ ما بالُ خُصِّك لم يحترقْ؟ قال: إني أقسمتُ على ربي أن لا يحرقه، فقال أبو موسى: أما إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَكُونُ في أُمَّتِي رِجَالٌ طُلْسٌ رُؤُوسُهُمْ، دُنْسٌ ثِيَاُبُهُمْ، لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأَبَرَّهُمْ". وقد روينا في "الزهد" للإمامِ أحمدَ: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال لموسى لما بعثه إلى فرعون: واعلم أنه لم يتزين لي العبادُ بزينة هي أبلغُ من الزهد في الدنيا، فإنها زينةُ المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقًا، فإذا لقيتَهم، فاخفضْ لهم جناحَك، وذَلِّلْ لهم قلبَك ولسانَك، واعلمْ أنه من أهان لي وَليًا، أو أخافَه، فقد بارزَني بالمحاربة، وبادَأَني، وعَرَّضَ بنفسه، ودعاني إليها، وأنا أسرعُ شيءٍ إلى نُصرةِ أوليائي، أفيظنُّ الذي يُحاربني أن يقومَ لي؟ أو يظنُّ الذي يُعاديني أن يُعجزني؟ أو يظنُّ الذي يُبارزني أن يَسبقني، أو يَفوتني؟ وكيف وأنا الثائرُ لهم في الدنيا والآخرة، لا أَكِلُ نُصرَتَهم إلى غيري؟ (¬1) وكان فرعونُ قد تحصَّنَ من موسى، وجعل على أبوابه الحَجَبَة، ومعهم الأُسْدُ لأجل موسى، فلما رأته الأسدُ صاحتْ صياحَ الثعالبِ، وجعلتْ تلوذُ به، وتحرسُه، وتحوطه. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 65).

كتاب ابن عبد الهادي إلى جماعة الرواد

ومن أطاعَ الله، أطاعته الأسدُ، وكذلك لما لقي مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره أنه مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ذلَّ له، وخضعَ، وحملَه حتى بلَّغَه موضعَ قصده. وكذلك شيبانُ الراعي ذلَّ له، وقال: لولا مكانُ الشهرة، ما وضعت زادي إلا على ظهره حتى آتي بيتَ الله (¬1). وكذلك إبراهيمُ بن أدهمَ لما نامَ، جاء ثعلبُ، ومعه عِرْقُ رَيْحَان، وجعل يذبُّ عنه. فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يحرسُهم بالمتالف. * * * * ولما كتب إلينا جماعةُ الرواد إلى أهل الصالحية التخويف، طُلب مني أن أكتبَ إليهم جوابَه، فكتبتُ ما هذه صورته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وهو حسبي. لا إلهَ إلا الله، محمدٌ رسول الله. من العبدِ الفقيرِ يوسفَ بن عبد الهادي إلى كلِّ واقفٍ عليهِ. أما بعدُ: فإن الصالحيةَ محلُّ الصالحين، ودارُ المتقين، ولم يقصِدْها أحدٌ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 69).

قطُّ بسوء وأفلَح، وتمرلنك -مع كفره وبغيه- أحرقَ جميعَ البلاد، ولم يتعرَّضْ إليها. والمطلوبُ من أهلها الدعاءُ لكم، أو عليكم، فإنكم في أول الأمر حين أسلمتم [....] دَعَوا لكم. وإن كان قد نزل فيها عسرةٌ أو نحوها, لا يقدر أحدٌ من أهل الصالحية على ردهم، ولا [...]. من الصالحية إن عمرت أو خربت، فلا برزوا لديه [...]، الصالحُ بالطالح، والأرضُ لله يُورِثها مَنْ يشاء من عباده، والعاقبةُ للمتقين. وقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]. ومن أراد النصرَ والظفرَ في الدنيا والآخرة، فما [...] ومراعاة مرضاته، والحذر كل الحذر مما يوجب غضبَ الله ومقتَه؛ من ظلم أحد، أو حرقِ قلبِ أحد، أو كسرِ قلبِ أحد؛ فقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ لما بعثَه إلى اليمن: "اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الله حِجَابٌ" (¬1). فإياكم إياكم إياكم من ظلم أحد، أو كسر قلب فقير، أو حرق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1425)، ومسلم (19).

مكان، أو البغي على أحد لم يقع في حقكم بشيء؟ فانه ليس ثَمَّ شيءٌ أسرعَ عقابًا من البغي والجور. فالحذار الحذار من أذى المسلمين، أو البغي عليهم. وقد أنشدنا بعضُ شيوخنا: إِذَا رَأَيْتَ ذَوِي بَغْيٍ فَقُلْ لَهُمُ ... سَتَنْدَمُونَ وَحَاذِرْ أَنْ تُسَاكِنَهُمْ فَمِثْلُهُمْ في الوَرَى كَانُوا جَبَابِرَةً ... فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنَهُمْ فمن أراد الملكَ والنصرَ والظفرَ، فعليه بتقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ -؟ فقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. قال ابن عباس: {مَخْرَجًا}: من كل شدة وقع فيها. وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]. وقال عمر -رضي الله عنه-: لا تطلبِ العزةَ إلا بالله. ومن اتقى الله، وراقبه، لم يعذبِ الناسَ بعذابٍ عامٍّ من حريقٍ وغيره. فكم يذهبُ في ذلك من مظلوم، وكم يوجِب من دعوة لا تُرَدُّ، وإذا أتاكم واحدٌ أو عشرةٌ من محلة، فآذيتم جميعَ أهل المحلة، أو حرقتموها، كم يصيب ذلك من مظلوم؛ من صغير وكبير، وذكر وأنثى

ممن يغضب الله لغضبه، ولا تُرَدُّ دعوتُه، فيكون ذلك سببَ المقت والطرد والكسر والحرمان. وروي أن بعض الملوك أخربَ كوخًا لفقيرة، فلما شاهدَتْ ذلك، رفعت طَرْفَها إلى السماء، وقالت: يا ربِّ! أنا لم أكنْ، فأنتَ أين كنتَ؟ فأمرَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- جبريلَ أن يخسفَ به وبملكه. ومن لم يراقب الله، لم يراقبه الله، وقد نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن حرق الكفار، فكيف بحريق المسلمين؟! ومن لم يستحْيِ من الله أن يُغضبه، لم يستحيِ الله منه أن يعذِّبَه. وفي "الصحيحين" وغيرهما: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (¬1). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدهِ" (¬2). وقال: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" (¬3). وقال: "شَرُّ النَّاِس مَنْزِلَةً عِنْدَ الله مَنْ انحطَّ في هَوَى أَخِيهِ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَأَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (13)، ومسلم (45) عن أنس -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (10) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، ومسلم (41) عن جابر -رضي الله عنهما-. (¬3) رواه النسائي (3449)، والترمذي (1395) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬4) رواه الدارمي في "السنن" (647).

وقال: "لا يَرْحَمُ الله مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ" (¬1). وقال: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ" (¬2). وقال: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِنْ كُلِّ شَقِيٍّ" (¬3). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا" (¬4). وكل [...] من أشراط الساعة وعلاماتها، وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَامَكُمْ فِتَنٌ كَقِطَع اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، ويُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَه بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ" (¬5). قال أنسُ -رضي الله عنه-: والله! رأيناهم أجسادًا لا عقولَ لهم، يبيع أحدُهم دينَه بدرهمٍ. قلت: قد والله! رأينا في زماننا هذا مَنْ يبيع دينَه بغيرِ شيء. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، والمَاشِي فِيَها خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَا أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ". ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6941)، ومسلم (2319) عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه أبو داود (4942) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) رواه أبو داود (5004) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) رواه الترمذي (2195) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

فقال حذيفةُ -رضي الله عنه-: أرأيتَ إن أدركَني ذلك كيف أصنع؟ قال: "ادْخُلْ بَيْتَكَ، وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ". قال: أفرأيتَ لو دخلَ عليَّ بيتي؟ قال: "ادْخُلْ مَخْدَعَكَ". قال: أرأيتَ إن دخلَ عليَّ مخدعي؟ قال: "غَطِّ عَيْنَيْكَ، وَكُنْ كَابن آدَمَ المَقْتُولِ [...] وَلا تَقْتُلْ مُسْلِمًا". وفي رواية: أرأيتَ إن دخلَ عليَّ أحدٌ يقتلني؟ قال: "قُلْ لَهُ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، فَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَتَكُونُ مِنْ أَصحَابِ الجَنَّةِ". فوالله! لزوالُ الدنيا كلِّها [....] وجملة الفقراء، بل ويموت خير له من أن يُذهب آخرتَه، أو يقتل مسلمًا. فالله الله يا عبادَ الله! فقد أظلَّتكُم الساعةُ وقيامُها، وخروجُ الدجال؛ فإن هذا الذي أنتم فيه من جملة علاماته وظهوره؛ فإني أظن [أنه] خارجٌ فيكم لا محالةَ، وهذه أيامُه وعلاماته. وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا وَقَعَ السَّيْفُ في أُمَّتِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَجٌ إِلا الدَّجَّالُ". وقد رُوي عن أُهبان بن صَيفيٍّ، وكان من فرسان الإِسلام: أنه جاء إليه عليُّ بن أبي طالبٍ يريد منه أن يركبَ معه يقاتلُ معه، فقال له: إن خليلي وابن عمِّك عَهِدَ إليَّ إذا اختلفَ الناسُ: أن اتخذَ سيفًا من خشب،

خوف بعض السلف من أن يعيروا أحدا، أو يوبخوه في المعاصي

فقد اتخذتُه، فإن شئتَ، خرجتُ معكَ به، قال: فتركه (¬1). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَامَكُمْ فِتَنٌ، فَاكْسِرُوا فِيَها قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا فِيَها أَوْتَاركُمْ، وَالْزَمُوا فِيهَا أَجْوَافَ بُيُوتكُمْ، وَكُونُوا كَابن آدَمَ المَقْتُولِ" (¬2). ويقول كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. وصلى الله على سيدنا محمَّد، وآله وصحبه وسلم. * * * * وكان بعضُ السلف يخاف من أن يعير أحدًا، أو يوبخه في المعاصي. كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن البالسيِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا محمدُ بن أبي منصورٍ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا أبو عبد الرحمن السلميُّ، سمعتُ محمدَ بن أحمدَ الفراءَ يقول: سمعتُ عبد الله بن الحجامِ يقولى: [قال حمدونٌ:] إذا رأيتَ سَكْرانًا، فتمايَلْ؛ لئلا تنعى عليه، فَتُبْتَلى بمثلِ ذلك. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2253). (¬2) رواه أبو داود (4259) والترمذي (2254) عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.

وكان يقول: لا تَفُتِّشْ على أحدٍ ما تحبُّ أن يكون مستورًا عليك. وربما كان مَنْ آذيتَه من أولياء الله يعرفُ الإسمَ الأعظمَ، فيدعو عليك، فتقعُ عليك تعاسةُ الدنيا والآخرة. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو بكرِ بن حبيبٍ: أنا أبو سعيدِ بن أبي صادقٍ: أنا ابن باكويهِ: أنا نصرٌ الطوسيُّ: ثنا عليُّ بن محمدٍ: ثنا أبو سعيدٍ أحمدُ بن سعيدٍ: حدثني سعيدُ بن جعفرٍ، وهارونُ الأرمنيُّ، وعثمانُ التمارُ، قالوا: ثنا عثمانُ بن عمارةَ: حدثني إبراهيمُ بن أدهمَ، قال: لقيتُ أسلمَ بن زيدٍ الجهنيَّ، فقلت له: إني صحبتُ رجلاً من الكوفة إلى مكة، فرأيته إذا مشى، يصلي ركعتين، ثم يتكلم بكلام خفي بينه وبين نفسه، فإذا جفنةٌ من ثريد عن يمينه، وكوزٌ من ماء، وكان يأكل ويطعمني، فبكى، وقال: يا بني! ذاك أخي داودُ مسكنُه من وراء بَلْخٍ بقرية يقال لها: المازرة الطيبة، وإنها تفاخر البقاعَ بكينونة داودَ فيها، يا غلام! ما قال لك، وما علَّمك؟ قلت: علَّمني اسم الله الأعظم. قال: ما هو؟ قلت: إنه يتعاظم عَلَيَّ أن أنطقَ به؛ فإنني سألتُ به مرةً، فإذا برجل آخذ بِحُجْزَتي، فقال: سَلْ تُعْطَهْ، فراعني ذلك، وفزعتُ فزعًا شديدًا، فقال: لا روعَ عليك، أنا أخوك الخضر، إن أخي داودَ علَّمَكَ اسمَ الله الأعظمَ، فإياك أن تدعوَ به على رجل بينك وبينه نزع، فتهلكه هلاك الدنيا والآخرة، ولكن ادعُ الله أن يُثَبِّتَ به قلبَك، ويشجعَ به جَنبك، ويقويَ به ضعفَك، ويؤنس به وحشتَك، ويؤمن به روعتك (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 44 - 45).

وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا المحمدانِ: أنا حمدٌ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا عبد الله بن محمدٍ: ثنا عمرُ بن الحسنِ: ثنا محمدُ بن أبي عمرانَ: سمعت حاتمَ الأصمَّ يقول: كنا مع شقيقٍ البَلْخي ونحن مُصَافُّو التركِ في يومٍ لا أرى فيه إلا رؤوسًا تُنْدَرُ، وسيوفًا تُقطع، فقال لي شقيقٌ ونحن بين الصفين: كيف ترى نفسَكَ في هذا اليوم؟ تراها مثلَها في الليلة التي زُفَّت إليك امرأتُك؟ فقلت: لا والله! قال: لكني والله أرى نفسي في هذا اليوم مثلَها في الليلة التي زُفَّت فيها امرأتي. قال: ثم نام بين الصفين ودَرقَتُه تحت رأسه، حتى سمعتُ غطيطَه (¬1). وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: ثنا أحمدُ بن إسحاقَ: أنا أبو بكرٍ أحمدُ بن أبي عاصمٍ يقول: سمعتُ أبا ترابٍ يقول: سمعت حاتمًا الأصمَّ يقول: قال لي شقيقٌ: اصحبِ الناسَ كما تصحبُ النارَ؟ خذْ منفعتَها، واحذرْ أن تُحرقك (¬2). وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: ثنا عبد الرحمن بن محمدٍ: ثنا أحمدُ بن عيسى: ثنا سعيدُ بن العباسِ: ثنا أبي: ثنا حاتمٌ الأصمُّ، قال: سمعت شقيقًا يقول: مَثَلُ المؤمنِ كمثلِ رجلٍ غرسَ نخلةً، وهو يخافُ أن يحملَ شوكًا، ومثلُ المنافقِ كمثلِ رجلٍ زرعَ شوكًا، وهو يطمعُ ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "المنتظم" (8/ 170)، ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 64). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 77).

في غوغاء عباد الله، من أسود وأحمر، لو دعا الله في أمر أجابه

أن يجنيَ ثمرًا، هيهاتَ هيهاتَ! كلُّ مَنْ عمل حسنًا، فإن الله لا يجزيه إلا حسنًا، ولا تنزل الأبرارُ منازلَ الفجار (¬1). وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا عمرُ بن طغر: أنا جعفرُ بن أحمدَ: ثنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: ثنا عليُّ بن عبد الله، عن عليِّ بن الموفقِ، قال: سمعتُ حاتمًا يقول: لقينا التركَ، وكان بيننا جولةٌ، فرماني تركي بوهق، فقلبني عن فرسي، ونزل عن دابته، فقعد على صدري، وأخذ بلحيتي، وأخرج من خفه سكينًا ليذبحني، فَوَحَقِّ سيدي! ما كان قلبي عنده، ولا عند سكينه، إنما كان عند سيدي، أنظرُ ماذا ينزل به القضاء منه (¬2). فقلت: سيدي! قضيتَ عليَّ أن يذبحني هذا، فعلى الرأس والعين، وها أنا لك ومليكك، فبينا أنا أخاطب سيدي، وهو قاعد على صدري ليذبحني، إذا سهم قد نحوه، فسقط، فأخذت السكين من يده، وذبحته، فما هو إلا أن تكون قلوبُكم عند السيد حتى تروا منه ما لم تروا من الآباء والأمهات. * فكَمْ في غوغاءِ عبادِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، من أسودَ وأحمرَ، لو توجَّه إلى الله في أمر، أجابَهُ إليه. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا ابن ناصرٍ: أنا الحسنُ بن أحمدَ: أنا ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 71). (¬2) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (8/ 244).

هلالُ بن محمدٍ: أنا عليُّ بن محمدٍ: ثنا محمدُ بن عيسى: حدثني محمدُ بن عبد الرحمن، عمَّنْ حدثه: أنهم كانوا بالبصرة، في سنة قحط وغلاء، واحتبس القطر، فخرجوا يستسقون، وخرجت اليهود والنصارى، فاعتزلت اليهود ومعهم التوراة، والنصارى ومعهم الإنجيل، والمسلمون ومعهم القرآن، كلهم يدعون، وانصرفوا ولم يُسْقَوْا. فبينا أنا أمشي في طريق المزن، نظرت إذا بين يديَّ فتى عليه أطمارٌ رثةٌ، ثقيلة البؤس، فهو يمشي وأنا خلفه حتى خرج إلى الجَبَّان، فدخل بعضَ تلك المساجد التي بالقرب من المقابر، ودخلتُ خلفه، تحولُ بيني وبينه أركانُ المسجد، فصلى ركعتين، ثم رفع يديه يدعو، وقال في دعائه: يا ربِّ! استغاث بك عبادُك، فلم تَسقهم، يا ربِّ! الآنَ شَمِتَ بنا اليهودُ والنصارى، أقسمتُ عليه يا ربِّ إلا سقيتنا الساعةَ، ولم تَرُدَّني. قال: فما برح يدعو حتى جاءت السحابة، ومُطرنا، فخرجَ، وخرجتُ في أثره لأعرف موضعه. فلما عرفتُه، انصرفتُ، وهيأتُ دراهمَ في صُرَّة، ثم جئت فاستأذنت عليه، فدخلت، وإذا ليس في البيت إلا قطعةُ حصيرٍ ومطهرةٌ فيها ماء، وإذا هو قاعد يعمل الخوصَ، فسلَّمت، فرحَّب بي وبَشَّ، فتحدثتُ معه ساعةً، ثم أخرجتُ الصرةَ، فقلت: رحمك الله! انتفعْ بهذه، فتبسم وقال: جزاك الله خيرًا، أنا غنيٌّ عنها. فألححتُ عليه، فجعل يدعو ويأبى أن يأخذها. فلما أكثرت عليه، تنكر لي وقال: حسبُك الآنَ، ليس بي إليها حاجة.

قضاء الله حاجة الإنسان قبل سؤاله

قال: فأقبلت عليه فقلتُ: رحمك الله! إن لي عليك حقًا، قال: وما هو رحمك الله؟ قلت: كنت أسمعُ دعاءك حين خرجت إلى الجبان. قال: فاصفرَّ وجهُه حتى أنكرتُه، وساءه ما قلتُ له. ثم خرجت من عنده. فلما كان بعد ذلك بأيام، أتيتُه، فلما دخلتُ الدار، إذا هم يصيحون بقيِّمِ الدار: هو ذا، هو ذا قد جاء. فجاء إلى، فتعلق بي، وقال: يا عدوَّ نفسه! ما صنعتَ بذاك الفتى الذي جئته يوم كذا وكذا؟ أي شيء سمعته؟ فقلت: لا تعجَلْ حتى أُخبرك بالحديث، فقال: إنك لما خرجتَ من عنده، قام في الحال، فأخذ حصيرَه ومطهرتَه، وودَّعَنا، وخرج ولم يعدْ إلينا إلى الساعة. فكم في الخلائق من واحدٍ هكذا! * وربما قضى الله حاجةَ أحدِهم قبل أن يسأله إياها. كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ وغيرُه: أنا والدي، والمزيُّ، وغيرُهما: أنا ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ، وغيرُهما: أنا ابن الجوزيِّ: أنا عبد الله بن عليٍّ، ومحمدُ بن أبي منصورٍ: أنا طرادُ بن محمدٍ: أنا أبو الحسينِ بن بشرانَ: أنا ابن صفوانَ: أنا أبو بكرِ بن عبيدٍ: حدثني محمدُ بن الحسينِ: ثنا داودُ بن المحبرِ، عن صالحٍ المريِّ، قال: كان عطاءٌ السلميُّ لا يكاد يدعو، إنما يدعو بعضُ أصحابه، ويؤمِّن هو.

قال: فحُبس بعضُ أصحابه، فقيل له: ألك حاجةِّ؟ قال: دعوةِّ من عطاءٍ أن يفرِّجَ الله عني. قال صالح: فأتيته فقلتُ: يا أبا محمَّد! أما تحب أن يفرجَ الله عنك؟ قال: بلى والله! إني لأحبُّ ذلك، قلت: فإن جليسك فلانًا قد حُبس، فادعُ الله أن يفرج عنه. فرفع يديه وبكى وقال: إلهي! قد تعلم حاجتنا قبل أن نسألكها، فاقضها لنا. قال صالح: فوالله! ما برحنا من البيت حتى دخل الرجل علينا. فانظر بعينك؛ فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يعطيهم قبل أن يسألوه، فإياك منهم أن يخطر ببالهم الدعاءُ عليك، فتهلك. فيا معشرَ مَنْ لا يعقل! تبصَّروا، وكُفُّوا عن أذى الناس وترويعهم. أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: قرأت على أبي الفضلِ بن أبي منصورٍ، عن أبي القاسمِ بن الفسويِّ، عن عبد الله بن بَطَّةَ: أنا أبو بكرٍ الآجريُّ: أنا محمدُ بن البرديِّ: أنا أبو بكرٍ المروذِيُّ: سمعت أبا جعفرٍ البزازَ يقول: سمعت بِشْرًا يقول: ثنا حمادُ بن زيدٍ، عن ابن عونٍ: أنه كانت له حوانيتُ يُكريها. فكان لا يُكريها من المسلمين. فقيل له في ذلك، فقال: إن لها إذا جاء رأس الحول روعةً، وإني أكره أن أروع المسلم. وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا محمدُ بن ناصر: أنا المباركُ بن عبد الجبارِ: أنا أبو بكر محمدُ بن عليٍّ الخياطُ: أنا محمدُ بن أبي الفوارسِ: أنا أحمدُ بن جعفرٍ: أنا أحمدُ بن محمدٍ: أنا أبو بكرٍ

المروذِيُّ، قال: سمعتُ أبا عبد الله أحمدَ بن حنبلٍ، وذكر ابن عونٍ، فقال: كان لا يُكري دورَه من المسلمين. قلت: لأي علة؟ قال: لئلا يروِّعَهم. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: أنا أبو الأزهرِ ضمرةُ بن حمزةَ المقدسيُّ في كتابه، وحدثني عنه محمدُ بن إبراهيمَ: حدثني أبي: ثنا عبيدُ الله بن عبيدٍ: ثنا أبي: ثنا عبد الله بن إدريسَ، عن مالكِ بن دينارٍ، قال: احتبسَ علينا المطرُ، فخرجنا يومًا بعد يوم نستسقي، فلم نر أثرَ الإجابة، فخرجت أنا وعطاءٌ السلميُّ، وثابتٌ البنانيُّ، ومحمدُ بن واسعٍ، وحبيبٌ الفارسيُّ، وصالحٌ المريُّ في آخرين، حتى صرنا إلى المصلى بالبصرة، فاستسقينا، فلم نر أثر الإجابة، وانصرف الناس، وبقيت أنا وثابتٌ في المصلى، فلما أظلم الليل، إذا بأسودَ دقيقِ الساقين، عظيمِ البطنِ، عليه مئزران من صوف، فجاء إلى ماء فتمسح، ثم صلى ركعتين خفيفتين، ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: يا سيدي! إلى كَمْ تردد عبادَكَ فيما لا ينقصُك؟! أَنَفِدَ ما عندَك، أم نفدَت خزائن قدرتك؟ أقسمتُ عليك بحبك لي إلا ما سقيتنا غيثك الساعةَ. فما أتمَّ الكلامَ حتى تغيمت السماءُ وأخذتنا كأفواه القرب، فما خرجنا حتى خُضْنا الماء، فتعجبنا من الأسود، فتعرضتُ له، فقلتُ: أما تستحي مما قلتَ؟ قال: وما قلتُ؟ قال كقولك: بحبك لي، وما يدريك أنه يحبك؟ قال: تنحَّ عن همتي يا من اشتغل عنه بنفسه، أين كنت أنا حين خصني بتوحيده وبمعرفته؟

من أولياء الله قوم لم يتعرضوا على الرب في تصريفه الزمان

أتراه بدأني بذلك إلا لمحتبه لي؟ ثم بادر يسعى، فقلت: ارفق بنا، قال: أنا مملوك عليَّ فرضٌ من طاعة مالكي الصغير, فدخل دار نخاس، فلما أصبحنا، أتيت النخاسَ، فقلت له: عندك غلام تبيعنيه للخدمة؟ قال: نعم، عندي مئة غلام فجعل يُخرج إليَّ واحدًا بعد الَآخر، وأنا أقول: غير هذا، إلى أن قال: ما بقي عندي أحد، فلما خرجنا، إذ أنا به نائم في حجرة خربة، فقلت: بعني هذا، فقال: هذا غلام مشؤوم، لا همةَ له إلا البكاء، فقلت: لذاك أريده، فدعاه وقال: خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه، فأخذته بعشرين دينارًا، فلما خرجنا، قال: يا مولاي! لم اشتريتني؟ فقلت له: لأخدمك، قال: ولم؟ قلت: ألستَ صاحبنا البارحةَ في المصلَّى؟ قال: وقد اطلعتَ على ذلك؟ فجعل يمشي حتى دخل مسجدًا، فصلى ركعتين ثم قال: إلهي وسيدي! سِرٌّ كان بيني وبينك أظهرتَه للمخلوقين، أقسمتُ عليك إلا قبضتَ روحي، فإذا هو ميت، فبقبره يُستسقى به، وتُطلب الحوائج (¬1). * ومنهم قومٌ لم يتعرضوا على الربِّ في تصريفه في الزمان، ولم يريدوا غيرَ الذي أراد، ولم يتعرضوا. وقد أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: أنا إسماعيلُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن هبةِ الله: أنا محمدُ بن الحسينِ: أنا عبد الله بن جعفرٍ: ثنا يعقوبُ بن ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 173 - 174).

أولياء الله قوم جادوا بأنفسهم لله

شعيبٍ: ثنا سليمانُ بن حربٍ، قال: قال حمادُ بن زيدٍ: سمعت أيوبَ يقول: إذا لم يكنْ ما تريدُ، فأَرِدْ ما يكونُ (¬1). وحُقَّ لكلِّ أحدٍ منا أن يصبر على الزمان، فانه لا يأتي زمانٌ ولا يوم ولا ساعة إلا والذي بعدَه شرٌّ منه. أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن أحمدَ: أنا أبي: ثنا أبو معاويةَ: ثنا مالكٌ، عن الحسنِ: أنه كان يقول: ما لي لا أرى زمانًا إلا بكيتُ منه، فإذا ذهبَ، بكيت عليه. وأنشدونا في معنى ذلك: رُبَّ دَهْرٍ بَكَيْتُ مِنْهُ ... فَلَمَّا صِرْتَ بِغَيْرِهِ بَكَيْتُ عَلَيْهِ * وهم قوم جادوا بأنفسهم لله -عَزَّ وَجَلَّ-. أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا أبو بكر بن حبيبٍ البغداديُّ: أنا عليُّ بن أبي صادقٍ: أنا ابن باكويهِ: ثنا نصرُ بن أبي نصرٍ: ثنا عليُّ بن محمدٍ: حدثني سعيدُ بن جعفرٍ، وهارونُ الأرمنيُّ، وعثمانُ التمارُ، قالوا: ثنا عثمانُ بن عمارةَ: حدثني إبراهيمُ بن أدهمَ، قال: لقيتُ رجلاً بالإسكندرية يقال له: أسلمُ بن زيدٍ الجهنيُّ، فقال: من أنت يا غلام؟ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 12).

قلت: شابٌّ من أهل خراسان. قال: ما حملَك على الخروجِ من الدنيا؟ قلت: زهدًا فيها، ورجاء ثواب الله -عَزَّ وَجَلَّ-. فقال: إن العبد لا يتمُّ رجاؤه لثواب الله -عَزَّ وَجَلَّ- حتى يحملَ نفسَه على الصبر. فقال له رجل ممن كان معه: وأيُّ شيء الصبرُ؟ قال: إن أدنى منازل الصبر: أن يروضَ العبدُ نفسَه على احتمال مكارِهِ الأنفس. قال: قلت: ثم مه؟ قال: إذا كان محتملًا للمكاره، أورث الله -عَزَّ وَجَلَّ- قلبه نورًا. قلت: فماذا النور؟ قال: سراجٌ يكون في قلبه يفرق بين الحق والباطل والمتشابه. ثم قال: يا غلام! إياك إذا صحبتَ الأخيارَ وجاريتَ الأبرارَ أن تُغضبهم عليك؛ لأن الله تعالى يغضب لغضبهم، ويرضى لرضاهم، وذلك أن الحكماء هم العلماء، وهم الراضون عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- إذا سخط الناس، يا غلام! احفظْ عني واعقلْ، واحتملْ ولا تعجَلْ، إياك والبخلَ. قلت: وما البخلُ؟

قال: أما البخلُ عند أهل الدنيا، فهو أن يكون الرجل ضنينًا بماله، وأما عند أهل الآخرة، فهو الذي يضنُّ بنفسه عن الله، ألا وإن العبد إذا جاد بنفسه لله، أورث الله قلبَه الهدى والتقى، وأُعطي السكينةَ والوقارَ، والحلمَ الراجحَ، والعقلَ الكامل. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا المحمدان: ابن ناصر، وابن عبد الباقي، قالا: أنا حمدٌ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا عثمانُ بن محمدٍ: قرئ على أبي الحسينِ السريريِّ: سمعتُ يوسفَ بن الحسينِ يقول: سمعت ذا النون يقول: بصحبة الصالحين تطيبُ الحياة، والخيرُ مجموعٌ في القرين الصالح، إن نسيتَ ذَكَّرَكَ، وإن ذكرتَ أعانَكَ (¬1). قال: وسمعتُه يقول: مَنْ لم يعرفْ قدرَ النعم، سُلِبَها من حيثُ لا يعلم (¬2). وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: ثنا محمدُ بن إبراهيمَ: ثنا أبو حامدٍ النيسابوريُّ: ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن: سمعتُ ذا النونِ يقول: إلهي! لو أصبتُ موئلًا في الشدائد غيرَك، أو ملجأً في النوازل سواك، لحقَّ لي أن لا أعرضَ إليه بوجهي عنك، ولا أختاره عليك؛ لقديم إحسانك إليَّ وحديثه، وظاهرِ مِنَّتِكَ عليَّ وباطنها, ولو تقطعتُ في النبلاء إربًا إربًا، وانصبَّتْ عليَّ الشدائدُ صَبًّا صَبًّا، لا أجد مشتكى لبثِّي غيرَك، ولا مُفَرِّجًا لما بي عني سواك، فيا وارث الأرض ومَنْ عليها، ويا ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 359). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 124).

باعثَ جميعِ مَنْ فيها! ورث آملي فيك مني أملي، وبلِّغ همتي فيك منتهى وسائلي (¬1). وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: ثنا أحمدُ بن مصقلةَ: ثنا سعيدُ بن عثمانَ، قال: سمعتُ ذا النونِ يقول: من ذبحَ حنجرةَ الطمعِ بسيف اليأس، وردمَ خندقَ الحرصِ، ظفرَ بكيمياء الخدمة، ومن استقى بحبل الزهد على دَلْو العُزوف، استقى من جُبِّ الحكمة، ومن سلكَ أوديةَ الكَمَد، جنى حياة الأبد، ومن حصدَ عشبَ الذنوب بمنجل الورع، أضاءت له روضة الإستقامة، ومن قطع لسانه بشفرة الصمت, وجد عذوبةَ الراحة، ومن تَدَرَّعَ دَرعَ الصدق، قويَ على مجاهدة عسكرِ الباطل، ومن فرح بمِدْحَة الجاهل، ألبسه الشيطانُ ثوبَ الحماقة. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا محمدُ بن أبي منصورٍ: أنا الحسينُ بن عبد الجبارِ: أنا أبو سعيدٍ مسعودُ بن ناصرٍ: أنا أبو حازمٍ العبدويُّ: أنا ابن جهضمٍ: أنا محمدُ بن جعفرٍ: ثنا يحيى بن الحسنِ، عن معروفٍ الكرخيِّ، قال: رأيتُ في البادية شابًا حسنَ الوجه، له ذؤابتان حسنتان، وعلى رأسه رداء قصب، وعليه قميصُ كتان، وفي رجليه نعلُ طاق. قال معروف: فتعجبتُ منه في مثل ذلك المكان ومن زِيِّه. فقلت: السلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاته. فقال: وعليكَ السلامُ ورحمةُ الله يا عَمّ. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 351).

فقلت: الفتى من أين؟ قال: من مدينة دمشقَ. قلت: ومتى خرجتَ؟ قال: ضحوةَ النهار. قال معروف: فتعجبتُ، وكان بينه وبين الموضع الذي رأيتُه فيه مراحلُ كثيرة، فقلت له: وأين المقصد؟ قال: مكة. فعلمتُ أنه محمول، فودعته، ومضى ولم أره حتى مضت ثلاثُ سنين، فلما كان ذات يوم أنا جالس في منزلي أتفكر في أمره، وما كان منه، إذا بإنسان يدق الباب، فخرجت إليه، فإذا أنا بصاحبي، فسلمت عليه، وقلت: مرحبًا وأهلاً، وأدخلته المنزل، فرأيته منقطعًا والهًا تالفًا، عليه زر مانقة، حافيًا حاسرًا. فقلت: هيه، أيُّ شيء الخبرُ؟ فقال: يا أستاذ! لاطَفَني حتى أدخَلَني الشبكةَ، فرماني، فمرة يلاطفني، ومرة يهددني، ويجيعني مرة، ويكرمني أخرى، فليته وقفني على بعض أسرار أوليائه، ثم فعل بي ما يشاء. قال معروف: فأبكاني كلامه. فقلت له: فحدِّثني [عن] بعض ما جرى عليك منذ فارقتني. فقال: هيهاتَ أن أُبديه، وهو يريد أن يُخفيه، ولكن أُبدي لكَ

بعضَ ما فعل بي في طريقي إليك، مولاي وسيدي، ثم استفرغه البكاء. فقلت: وما فعل بك؟ قال: جَوَّعني ثلاثين يومًا، ثم جئتُ إلى قرية فيها مِقْثاةٌ قد نبذ منها الدود وطرح، فقعدت آكل منه، فبصر بي صاحبُ المقثاة، فأقبل إلى يضرب ظهري وبطني، ويقول: يا لص! ما خرب مقثأتي غيرُك، منذ كم أرصدُك حتى وقعتُ عليكَ، فبينا هو يضربني إذ أقبل فارسٌ إليه مسرعًا، وقلب السوطَ في رأسه، وقال: تعمدُ إلى ولي من أولياء الله، فتقول له: يا لص؟! فأخذ صاحبُ المقثاة بيدي، فذهب بي إلى منزله، فما أبقى من الكرامة شيئًا إلا عمله معي، واستحلني، وجعل مقثاته لله -سبحانه وتعالى- ولأصحاب معروف. فقلت له: صفْ لي معروفًا، فوصفَكَ لي، فعرفتُك بما كنت شاهدتُه من صفتك. قال معروفٌ: فما استتمَّ كلامَه حتى دقَّ صاحبُ المقثاةِ البابَ، ودخل إليَّ، وكان موسِرًا، فخرج من جميع ماله، وأنفقه على الفقراء، وصحبَ الشابَّ سنةً، وخرجا إلى الحج، فماتا في الربذة. وبه إلى الإمامِ أبي الفرجِ: أنا عبد الملكِ بن أبي القاسمِ: أنا أبو عبد الله محمدُ بن عليٍّ: أنا أبو الفضلِ الفاميُّ: أنا محمدُ بن أحمدَ المروانيُّ: حدثني محمدُ بن المنذرِ: ثنا عيسى بن أبي موسى: أنا أبو عبيدِ الله الإمامُ: سمعت أبا عبد الله النباجيَّ يقول: إذا كان عندك ما أعطى الله نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا -عليهم السلام- ولا تراه شيئًا، وإنما تريد ما أعطى الله نمرودَ وفرعونَ وهامانَ، متى تفلح؟

وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ، قال: أبو الخيرِ التينانيُّ الأقطعُ كان مقطوعَ اليد، وكان سببُ ذلك: أنه كان في جبال أنطاكية يطلب المباح، وينام بين الجبال، وكان عاهدَ الله أن لا يأكل من ثمر الجبال إلا ما طرحَتْه الريح، فبقي أيامًا لا تطرح الريح له شيئًا، فرأى يومًا شجرة كُمَّثْرى، فاشتهى منها، فلم يفعل، فأمالتها الريحُ إليه، فأخذ واحدة بيده، واتفق أن لصوصًا قطعوا هنالك الطريق، وجلسوا يقتسمون، فوقع عليهم السلطانُ فأخذهم، وأُخذ معهم، فقُطعت أيديهم وأرجلهم، وقُطعت يدُه، فلما هموا بقطع رجله، عرفه رجلٌ، فقال للأمير: أهلكتَ نفسَك، هذا أبو الخير، فبكى الأمير، وسأله أن يجعله في حِلٍّ، ففعل، وعوتب، فقيل له: هلا عرفتنا نفسَك؟ فقال: أنا أعرف ذنبي؟ إشارةً منه أنه عاهدَ الله أن لا يأخذَ إلا ما ألقته الريح، فأخذ بها غيرَ ما ألقته الريح، فقُطعت. وبه إلى أبي الفرج: أنا المحمدان: ابن عبد الملكِ، وابن ناصرٍ، قالا: أنا أحمدُ بن خيرون: أنا أبو الحسينِ الصوفيُّ: أنا عليُّ بن المثنئ: سمعت أبا الخيرِ التيناتيَّ الأقطعَ يقول: ما بلغَ أحدٌ إلى حالةٍ شريفةٍ إلا بملازمةِ الموافقةِ، ومعانقةِ الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين، وخدمة الفقراء الصادقين (¬1). وبه إلى الإمامِ أبي الفرجِ: أنا عمرُ بن طغر: أنا جعفرُ بن أحمدَ: أنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: أنا ابن جهضمٍ: حدثني محمدُ بن داودَ: ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 378).

سمعتُ ابن الجلاءِ يقول: سمعتُ أبا سليمانَ المقرئَ قال: كنت أحملُ الحطبَ، وأتقوَّتُ منه، وكان طريقي فيه التوقِّي والتحري، قال: فرأيت جماعةً من البصريين في النوم، منهم. الحسنُ، ومالكُ بن دينارٍ، وفرقدٌ السبخيُّ، فسألتُهم عن علة حالي، فقلتُ: أئمة المسلمين دَلُّوني على الحلال الذي ليس لله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه تَبِعَةٌ، ولا للخَلْق فيه مِنَّة، فأخذوا بيدي، وأخرجوني من طرسوسَ إلى مرجٍ فيه خُبَّازَى، فقالوا لي: هذا الحلالُ الذي ليس لله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه تبعة، ولا للمخلوق فيه منة. قال: فمكثتُ آكلُ منه نصفَ سنة، ثلاثة أشهر في دار السبيل، آكلُه نيِئًا ومطبوخًا، فصار لي حديث. فقلت: هذه فتنة. فخرجتُ من دار السبيل، فكنت آكلُه ثلاثةَ أشهر أُخر. فأوجدني الله -عَزَّ وَجَلَّ- قلبًا طيبًا حتى قلتُ: إن كان أهلُ الجنة بهذا القلب الذي لي، فهمْ والله في شيء طيب، وما كنت آنسُ بكلام الناس، فخرجتُ يومًا من باب قلمية إلى صهريج يعرف بالمدنف، فجلست عنده، فإذا أنا بفتى قد أقبل من ناحية لامش يريد طرسوس، وقد بقي معي قطيعات من ثمن الحطب الذي كنت أجيء به من الجبل، فقلت: أنا قد قنعت بهذا الخبازى، أعطي هذه القطعَ هذا الفقيرَ، إذا دخل طرسوسَ اشترى بها شيئًا وأكلَه، فلما دنا مني، أدخلت يدي إلى جيبي حتى أُخرج الخرقةَ، فإذا أنا بالفقير قد علمَ ما أُريد، وحرك شفتيه، وإذا كلُّ ما حولي من الأرض ذَهَبٌ يَتَّقَدُ حتى كاد يخطفُ بصري، ولبستني منه هيبةٌ، فجازَ ولم أسلِّم عليه من هيبته.

زاد أبو الفرج بن أبان: فقلت له: فهل رأيتَه بعد ذلك؟ قال: نعم، خرجتُ يومًا خارجَ طرسوس، إذا به جالسٌ تحت برجٍ من الأبرجة، وبين يديه ركوةٌ فيها ماء، فسلمت عليه، ثم استدعيت منه موعظة، فمدَّ رجلَه فقلب بها الماء، ثم قال: كثرةُ الكلامِ تنشِّف الحسناتِ كما نشفت الأرضُ هذا الماء. ثم قال: حسبك. وبه إلى الإمامِ أبي الفرجِ: أنا محمدُ بن أبي القاسمِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا إسحاقُ بن أحمدَ: ثنا إبراهيمُ بن يوسفَ: ثنا أحمدُ بن أبي الحواريِّ: ثنا أحمدُ بن عاصمٍ، قال: إذا صارتِ المعاملةُ إلى القلب، استراحتِ الجوارحُ (¬1). قال: وسمعته يقول: ما أَغْبِط أحدًا إلا مَنْ عرفَ مولاه، فأشتهي أن لا أموتَ حتى أعرفَه معرفة العارفين، الذين يستحبونه، لا معرفة التصديق (¬2). وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: سمعتُ أبي يقول: قال أحمدُ بن عاصمٍ: أنفعُ اليقينِ ما عَظُم في عينيك ما به أيقنت، وأنفعُ الخوفِ ما حجزك عن المعاصي، وأطالَ منك الحزنَ على ما فات، وألزمَكَ الفكرَ في بقية عمرِك، وخاتمةِ أمرك، وأنفعُ الصدقِ أن تُقِرَّ لله بعيوبِ نفسك، وأنفعُ الحياء أن تستحييَ أن تسأله ما تحبُّ، وتأتيَ ما يكره، وأنفعُ الصبر ما قَوَّاكَ على خلافِ هواكَ، وأفضلُ الجهاد مجاهدتُكَ نفسَك ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 281). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 282).

لتردَّها إلى قبولِ الحق، وأوجبُ الأعداءِ مجاهدةً أقربُهم منك دُنُوًّا، وأخفاهم عنك شخصًا، وأعظمُ لك عداوةً، وهو إبليس. قلت: فما ترى في الإنس بالناس؟ قال: إن وجدتَ عاقلاً مأمونًا، فَأْنَسْ به، واهربْ عن سائرهم كهربك من السباع. قلت: فما أفضلُ ما أتقرَّبُ به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قال: تركُ معاصيه الباطنة. قلت: فما بالُ الباطنةِ أولى من الظاهرة؟ قال: لأنك إذا اجتنبت الباطنة، بطلت الظاهرة والباطنة. قلت: فما أضرُّ الطاعات لي؟ قال: ما نسيتَ بها مساوئَك، وجعلتَها نصبَ عينيك إدلالًا بها وأمنًا. قال: وسمعتُه يقول: استكثرْ من الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنفسِك قليلَ الرزق؛ تخلصًا إلى الشكر، واستقلِلْ من نفسك لله كثيرَ الطاعة؛ إزراءً على النفس، وتعرضًا للعفو، واستجلِبْ شدةَ التيقُّظ بشدة الخوف، وادفعْ عظيمَ الحرصِ بإيثارِ القناعة، واقطعْ أسبابَ الطمعِ بصحةِ اليأس؛ وسُدَّ سبلَ العُجْب بمعرفة النفس، واطلبْ راحةَ البدنِ بإجمام القلب، وتخلَّصْ إلى إجمام القلب بقلةِ الخلطاء، وتعرَّضْ لرقةِ القلبِ بدوام مجالسةِ أهل الذكر، وبادرْ بانتهاز البغيةِ عندَ إمكانِ الفرصة. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو بكرٍ العامريُّ: أنا عليُّ بن

أبي صادقٍ: أنا أبو عبد الله بن باكويهِ: أخبرني أبو يعقوبَ الخراطُ: أنا أبو محمدٍ القرظيُّ: أخبرني عثمانُ بن عليٍّ: أخبرني نبهانُ المغلسُ: أخبرني حذيفةُ بن قتادةَ المرعشيُّ، قال: كنت في المركب، فكُسر بنا، فوقعتُ أنا وامرأة على لوح من ألواح المركب، فمكثنا سبعة أيام. فقالت المرأة: أنا عطشى، فسألتُ الله تعالى أن يَسقينا، فنزلت علينا من السماء سلسلةٌ فيها كوزٌ معلَّق فيه ماء. فشربتُ، فرفعتُ رأسي انظر إلى السلسلة، فرأيت رجلًا جالسًا في الهواء متربعًا. فقلت: ممن أنت؟ قال: من الإنس. قلت: فما الذي بلغك هذه المنزلة؟ قال: آثرتُ مرادَ الله على هواي، فأجلسني كما تراني. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: أنا أبو محمدِ بن حيانَ: ثنا إبراهيمُ بن محمدٍ: ثنا أحمدُ بن فضيلٍ، قال: غزا أبو معاويةَ الأسود، فحاصر المسلمون حصنًا فيه عِلْجٌ لا يرمي بحجبر ولا نُشَّابٍ إلا أصاب به، فشكَوْا ذلك إلى أبي معاوية، فقرأ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، ثم قال: استروني منه، فلما وقف، قالوا: أين تريدون بإذن الله؟ قال: المذاكير. فقال: أَيْ رَبِّ! سمعتَ ما سألوني، فأعطني ما سألوني،

باسم الله، ثم رمى، فمر السهمُ حتى إذا قرب من الحائط، ارتفعَ حتى أتى العلجَ، فأخذ مذاكيرَه، فوقع، فقال: شأنكم به (¬1). وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو بكرٍ العامريُّ: أنا عليُّ بن أبي صادقٍ، وعبدُ الغفارِ بن محمدٍ، قالا: أنا أبو عبد الله بن باكويهِ: ثنا عليُّ بن الحسنِ الأرجانيُّ: ثنا جعفرُ بن محمدٍ: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبا معاويةَ الأسودَ -وهو على سور طرسوس من جوف الليل- يبكي، ويقول: أَلا مَنْ كانت الدنيا أكبرَ هَمِّه، طالَ في القيامة غدًا غَمُّه، ومن خافَ ما بين يديه، ضاق في الدنيا ذَرْعُه، ومن خافَ الوعيد، لها من الدنيا عَمَّا يريد. يا مسكين! إن كنت تريد لنفسك الجزيلَ، فأقللْ نومَك بالليل إلا القليل، اقبلْ من الأخ الناصح، إذا أتاكَ بأمر واضح، لا تهتمَنَّ برزق مَنْ تخلف، فليست أرزاقهم تكلف، وَطِّنْ نفسَك للمقال، إذا وقفت بين يدي ربِّ العزة للسؤال، قَدِّمْ صالحَ الأعمال، ودَعْ عنك كثرةَ الأشغال، بادرْ ثم بادرْ، قبل أن تصلَ المقابر، قبل أن تصل الروح التراقي، وينقطعَ عنك مَنْ تحبُّ أن تُلاقي، كأني بها وقد بلغتِ الحلقوم، وأنت في سكرات الموت مغموم، وقد انقطعتْ حاجتك، وأنت تراهم حولَكَ، وبقيتَ مرتهنًا بعملك. الصبرُ مِلاكُ الأمر، وفيه أعظمُ الأجر، واجعلْ ذكر الله من جلِّ شأنك، واملكْ فيما سوى ذلك لسانك. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 271).

ثم بكى أبو معاوية بكاء شديدًا. ثم قال: أوه من يوم يتغير فيه لوني، ويختلج فيه لساني، ويجفُّ فيه ريقي، ويقلُّ فيه زادي (¬1). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا عبد الله بن محمدٍ: حدثني محمدُ بن أحمدَ: ثنا عبد الله بن خبيقٍ: ثنا يوسفُ بن أسباط، قال: قال لي حذيفةُ المرعشيُّ: ما أُصيب أحد بمصيبةٍ أعظمَ من قساوةِ قلبه (¬2). وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا محمدُ بن الحسينِ الزبيريُّ: ثنا محمدُ بن المسيب: ثنا عبد الله بن خبيقٍ: قال لي حذيفةُ المرعشيُّ: إنما هي أربعةُ أَشياء: عيناك، ولسانك، وهواك، وقلبك، فانظر عينيك، لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظر لسانَك، لا تقل به شيئًا يعلم الله خلافَه من قلبك، وانظر قلبك، لا يكنْ فيه غِلٌّ ولا دَغَلٌ على أحد من المسلمين، وانظر هواك، لا تهْوَ شيئًا، فما دام لم تكن فيك هذه الأربعُ خصال، فاحْثُ الرمادَ على رأسك (¬3). وقال ابن خبيقٍ: حدثني موسى بن المعلَّى، قال: قال حذيفةُ: يا موسى! ثلاثُ خصال إن كنَّ فيك، لم ينزل من السماء خير إلا كانَ لك فيه نصيب: يكون عملُك لله، وتحبُّ للناس ما تحب لنفسك، وهذه الكسرةُ تَحَرَّ فيها ما قدرتَ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 272 - 273). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 269). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/ 168). (¬4) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 270).

وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا عبد الوهابِ بن أحمدَ: أنا حمزةُ بن محمدٍ: أنا أبو القاسمِ عبيدُ الله الخرقيُّ: ثنا أبو بكرٍ النقاشُ: ثنا أبو سعيدٍ الدمشقيُّ: ثنا أحمدُ بن عاصمٍ: حدثني عثمانُ الوجافيُّ، قال: خرجتُ من بيت المقدس أريد بعضَ القرى في حاجة، فلقيتني عجوز عليها جبةُ صوفٍ، وخمارُ صوف، فسلمتُ عليها، فردَّتْ عليَّ السلامَ، ثم قالت: يا فتى من أين أقبلت؟ قلت: من هذه القرية. قالت: وأين تريد؟ قلت: بعض القرى في حاجة. قالت: كم بينك وبين أهلك ومنزلك؟ قلت: ثمانية عشر ميلاً. قالت: ثمانية عشر ميلاً في حاجة؟ إن هذه لحاجة مهمة. قلت: أجل. قالت: فما اسمك؟ قلت: عثمان. فقالت: يا عثمان! ألا سألتَ صاحبَ القرية أن يوجِّه إليك بحاجتك ولا تتعنى؟ قال: ولم أعلمِ الذي أرادت، فقلتُ: يا عجوز! ليس بيني وبين صاحب القرية معرفةٌ.

قالت: يا عثمان! ما الذي أوحش بينك وبين معرفته، وقطعَ بينكَ وبين الإتصال به؟ قال: فأفقتُ، فعرفتُ الذي أرادَتْ، فبكيت. فقالت: من أي شيء تبكي؟ من شيء كنتَ فعلتَه ونسيتَه، أومن شىء أُنسيته وذكرتَه؟ قال: قلت: لا، بل من شيء أُنسيتُه وذكرتُه. قالت: يا عثمان! احمدِ الله الذي لم يتركْكَ في حيرِتك، أتحبُّ الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قلت: نعم. قالت: فاصدُقني. قلت: إي والله! إني لأحبُّ الله -عَزَّ وَجَلَّ-. قالت: فما الذي أفادَكَ من طرائف حكمته إذ أوصلك إلى محبته؟ قال: فبقيتُ لا أدري ما أقول؟ قالت: يا عثمان! لعلك ممن يحبُّ أن يكتمَ المحبةَ؟ قال: فبقيت بين يديها ولا أدري ما أقول. قال: يأبى الله أن يدنس طرائفَ حكمته، وخفيَّ معرفته، ومكنونَ محبته ممارسة قلوب البطالين. قلتُ: رحمكِ الله! لو دعوتِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يشغلني بمحبته. فنفضت يديها في وجهي.

فأعدتُ القولَ أقتضي الدعاء. فقالت: يا عبد الله! امضِ لحاجتك، فقد علم المحبوبُ ما ناجاه الضمير من أجلك. ثم وَلَّت وقالت: لولا خوفُ السلب، لبحتُ بالعجب. ثم قالت: أوه من شوقٍ لا يبرأ إلا بك، ومن حنينٍ لا يسكن إلا إليك، فأين لوجهي الحياء منك؟ وأين لعقلي الرجوع إليك؟ قال عثمان: فو الله! ما ذكرتُ ذلك، إلا بكيتُ، وغُشي عليَّ. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا عبد الوهابِ الأنماطيُّ: أنا المباركُ بن عبد الخالق: أنا محمدُ بن عليٍّ: أنا أحمدُ بن محمدٍ: ثنا الحسينُ بن صفوانَ: أنا أبو بكرِ بن سفيانَ: حدثني محمدُ بن الحسينِ: حدثني عمارُ بن عثمانَ: حدثني بشرُ بن بشارٍ، وكان من العابدين، قال: لقيتُ عبادًا ثلاثةً ببيت المقدس، فقلت لأحدهم: أوصني. فقال: أَلْقِ نفسَك مع القَدَرِ حيثُ ألقاك، فهو أحرى أن يفرغ قلبك، ويقلَّ همك، وإياكَ أن تسخطَ ذلك، فيحل بك السخط، وأنت عنه في غفلة لا تشعر به. فقلت للآخر: أوصني. فقال: ما أنا بمستوصٍ. قلت: على ذاك عسى الله أن ينفع بوصيتك.

قال: أما إذ أبيت إلا الوصية، فأحفظ عني: التمس رضوانه في ترك مناهيه، فهو أوصلُ إلى الزلفى لديه. قال: فقلت للآخر: أوصني، فبكى، واستخرجها سفحًا للدموع، ثم قال: أي أخي! لا تبتغ في أمرك تدبيرًا غير تدبيره، فتهلِكَ فيمن هلك، وتضلَّ فيمن ضلَّ. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَج: أنا أبو بكرٍ العامريُّ: أنا عليُّ بن أبي صادقٍ: أنا أبو عبد الله بن باكويهِ: سمعتُ محمدَ بن الفرحانِ يقول: سمعتُ الجنيدَ يقول: سمعتُ أبا جعفرٍ الخصافَ يقول: حدثني جابرٌ الرحبيُّ، قال: أكثرَ عليَّ أهلُ الرحبةِ يُنكرون عليَّ ما يُعطي الله -عَزَّ وَجَلَّ- أولياءه، فخرجتُ إلى خارج، فركبت السبعَ، ودخلتُ إلى الرحبةِ وأنا أقول: أين الذين يؤذون أولياء الله، فينكرون عليهم؟ فَكَفُّوا عني. وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا عمرُ بن طغر: أنا أحمدُ: أنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: أنا عليُّ بن عبيدِ الله بن جهضمٍ: أنا الخلديُّ: حدثني أبو العباسِ، عن محمدٍ غلامِ أبي عبيدٍ، قال؟ وَدَّعْتُ أبا عبيد حين أردت الحج. فقال لي: معك شيء؟ قلت: لا، ليس معي غيرُ هذه الركوة. فقال: إذا أردت شيئًا، أو جعتَ، أو عطشتَ، فصلِّ ركعتين، واجعلها على يمينك، فإذا سلَّمتَ، رأيتَ كلَّ ما تحب.

قال: فجئتُ إلى بعض المنازل، وليس فيه ماء، والناسُ يصيحون: العطش. فقلت في نفسي: قد قال أبو عبيد ما قال وهو صادق. فأخذتُ الركوةَ، فرميت بها في مصنع، وصليت ركعتين، فما سلمت إلا والرياحُ تذهب بها وتجيء على رأس الماء. فنزلتُ، فأخذت الركوةَ، ثم صحتُ بالناس، فجاؤوا واستَقَوْا حتى رَوُوا. اللَّهمَّ ببركة الصالحين اكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفجار، وما يختلفُ به الليل والنهار. سمعتُ أبي يقول: كان الشيخُ عبد الرحمن أبو شعرٍ يتمثَّل كثيرًا: أَلا رُبَّ ذِي ظُلْمٍ كَمَنْتُ لِظُلْمِهِ ... فَأَوْقَعَهُ المِقْدَارُ أَيَّ وُقُوعِ وَمَا كَانَ لِي [إِلا] سِلاحُ تَرَكُّعٍ ... وَأَدْعِيَة لا تُتَّقَى بِدُرُوعِ وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْجُو الظَّلُومُ وَخَلْفَهُ ... سِهَامُ دُعَاءٍ مِنْ قِسِيِّ رُكُوعِ مُرَيَّشَةٌ بِالهُدْبِ مِنْ جَفْنِ سَاهِرٍ ... مُنَصَّلَةٌ أَطْرَافُهَا بِنَجِيعِ وأنشدنا بعضُ إخواننا في معنى ذلك: أتهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيه ... تَأَمَّلْ فِيكَ ما صَنَعَ الدُّعَاءُ

سِهَامُ اللَّيْلِ لا تُخْطِي وَلكن ... لَهَا أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انْتِهَاءُ وكان الحافظُ العماد يقول: ما رأيتُ أسرعَ إجابة من هذا الدعاء: يا الله، يا أَلله، يا أَلله، أَنتَ الله، أَنتَ اللهُ، أَنتَ اللهُ، إي واللهِ، إي واللهِ، إي والله، بلى والله، بلى واللهِ، بلى واللهِ، اللهُ، اللهُ، اللهُ، وحقِّ اللهِ، وحقِّ اللهِ، وحقِّ اللهِ، اللهُ، اللهُ، اللهُ، لا إلهَ إلا اللهُ، لا إلهَ إلا اللهُ، محمدٌ رسولُ اللهِ. وممَّا يُذكر أنه يُستجاب: أن يقولَ: اللهمَّ يا ودودُ، يا ودودُ، يا ودودُ، يا ذا العرشِ المجيدُ، يا فعالٌ لما يريد، نسألك باسمك الذي ملأ أركانَ عرشِك، وبقدرتك التي قَدِرْتَ بها على خلقك، وبرحمتك التي وَسِعَتْ كلَّ شيء، يا مغيثُ أغثنا، يا مغيثُ أغثنا، يا مغيث أغثنا. وممَّا نُسِبَ إلى الإمام أحمدَ أنَّه مُستجاب، يا حيُّ قبلَ كلِّ حي، وياحيُّ بعدَ كل حي، ويا حيُّ حينَ لا حي، يا حي محيي الموتى، لا إله إلا أنت، سبحانك إنِّي كنتُ من الظالمين. وفي الحديث: "دعوةُ أخي ذي النُّون: لا إلهَ إلا أنتَ، سبحانك إنِّي كنتُ من الظالمين، لا يدعو بها مكروبٌ إلا فَرَّجَ الله كربَه". وفي الحديث: "دعاءُ الكرب، لا يدعو به مهمومٌ ولا مكروبٌ إلا فَرَّجَ الله كربَه: لا إلهَ إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إلهَ إلا الله الحليمُ الكريمُ، لا إلهَ إلا الله رَبُّ العرشِ العظيمِ، لا إلهَ إلا الله رَبُّ السماوات وربُّ الأرضِ ربُّ العرشِ الكريم".

وقال بعضُ العارفين: من قال: يا ألله يا ألله يا ألله، سبعَ مرات، ثم قال بعدها: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين، استجاب الله له. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. وقال إبراهيمُ عندَ نار النمرود: حسبُنا الله ونعمُ الوكيل. والدعاءُ محبوسٌ عن السماء حتى يصلَّى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. اللهمَّ فَرِّجْ عن المهمومين، ونَفِّسْ عن المكروبين، اللهمَّ مَنْ كادَنا فكِدْه، ومن بغى علينا فخُذْه واخْذُلْه، اللهمَّ أصلحْ أمرَ أمةِ محمدٍ، اللهمَّ دَبِّرْنا بحسنِ تدبيرك، والطُفْ بنا في قضائك وتقديرِك، ولا تهلكنا بذنوبنا, ولا تسلَّط علينا بذنوبنا مَنْ لا يرحمنا, ولا تُهلكنا وأنت رجاؤنا، افعلْ بنا ما أنتَ أهلُه، ولا تفعلْ بنا ما نحنُ أهلُه، واشغَلْ عنا كُلَّ ظالمٍ بنفسِه يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمين. وحسبنُا الله ونِعْمَ الوكيلُ، وصلَّى الله على سيدِنا محمدٍ وآلِه وصحبه وسلَّمَ. وفرغ منه واضعُه يوسفُ بن حسنِ بن عبد الهادي، ليلةَ الجمعة، آخرَ شهرِ ربيعٍ الأولِ، سنة ثلاثٍ وتسع مدّة، بمنزلِه بالسهم الأعلى، من صالحية دمشق المحروسة. والحمدُ لله وحده وصلَّى الله على سيدنا محمد، وآلِه وصحبِه وسلَّم

§1/1