شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام

التقي الفاسي

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمات مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: 1- بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين. هذا كتاب "شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام" يظهر مطبوعا لأول مرة، في ثوب قشيب، وحلة أنيقة، وتعليقات مفيدة، وتصحيحات وشروح نافعة، للفيف من الأساتذة، هم الذين قاموا بالإشراف على طبع هذا الكتاب، والتعليق عليه، ومراجعة أصوله، وتصحيح أخطاء نسخه الخطية التي وقعت بتحريف النساخ، وبذلوا مجهودا كبيرا في إعداد هذا الكتاب للنشر. ولولا همة رجل عربي عظيم، هو حضرة صاحب المعالي الشيخ محمد سرور الصبان، ما رأى هذا الكتاب النور، ولا ظهر مطبوعا هذه الطبعة، ونحمد الله الذي وفق لإخراجه، ولظهوره في أيدي المتطلعين إلى قراءته. 2- وقد اعتمدنا في نشر هذا الكتاب على النسخة الخطية الفريدة المحفوظة بدار الكتب المصرية برقم 7484 عمومية و504 تاريخ، والتي رمزنا إليها بالحرف "ك"، وقد أخذنا صورة فوتوغرافية كاملة لها، وذلك بفضل معاونة الأساتذة الأجلاء: أحمد رامي، ومحمد أبي الفضيل إبراهيم، وفؤاد السيد، وما بذلوه لنا من مساعدات قيمة في تصوير هذه النسخة، التي تقع في 394 ورقة من القطع المتوسط، وقد قام بنسخها محمد بن مصطفى الديار بكري، وليس عليها من تاريخ نسخها سوى هذه الجملة المثبتة في آخر الكتاب، وهي "تمت بعون الله الكريم وفضله وإحسانه يوم الربوع المبارك في آخر شهر ربيع الأول على يد أفقر عباد الله محمد بن مصطفى الديار بكري عفا الله عنهم إلخ" ومكتوب على الورقة الأولى من الكتاب: "الحمد لله وحده، من مواهب الله تعالى على عبده محمد بن محمد السقاف عفا الله عنهم آمين 1238هـ".

وقد أشرف قسم التصوير بدار الكتب على تصوير هذه النسخة عام 1955. كما اعتمدنا على النسخة المكية المخطوطة، المنقولة عن نسخة دار الكتب المصرية، وقد قام بنسخها السيد الشيخ عبد الستار الدهلوي، في جزأين كبيرين: الأول في 638 صفحة من القطع المتوسط، وبآخره: "تم الجزء الأول من هذا التاريخ بختام هذا الباب، الباب الخامس والعشرين. ويليه في الجزء الثاني: الباب السادس والعشرون، بتجزئة كاتبه، والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وصحبه وسلم والجزء الثاني، مصدر بفهرس له وحده، وكتب في الصفحة الأولى منه: "الجزء الثاني من شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام" تأليف الإمام العلامة الحافظ أبي الطيب تقي الدين محمد بن شهاب الدين أبي العباس محمد بن علي الفاسي الحسني المكي المالكي تغمده الله برحمته ونفعنا بعلومه آمين، وكتب بعد ذلك أربعة سطور هي: "مع الذيل لكاتبه" في ولاة مكة من بعد المؤلف رحمه الله إلى تاريخ النسخ بالاختصار، مع ترجمة مؤلف الأصل في آخره، وقع هذا الجزء في 335 صفحة عدا الذيل الذي يبدأ من صفحة 336 إلى 378، وقد كتب في آخر الجزء الثاني: "ووجدت في آخر النسخة المنقول منها ما نصه: "تمت بعون الله الكريم وفضله وإحسانه يوم الربوع المبارك في آخر شهر ربيع الأول، وذلك بخط علامة دهره وفريد عصره محمد بن مصطفى الديار بكري عفا الله عنهم" وفي أول صفحة من الذيل ما يلي: وقع الفراغ من نسخ هذه النسخة الشريفة مع التذييل لكاتبه أحقر العبيد وأفقر الورى، أحد ساكني أم القرى، أبي الفيض وأبي الإسعاد عبد الستار الصديقي الحنفي ابن المرحوم الشيخ عبد الوهاب المكي البكري بمصر، في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من شهور العام الخامس والثلاثين والثلاثمائة والألف، من النسخة الموجودة بالكتبخانة المصرية بمصر المحروسة، ويبدأ الذيل بترجمة للمؤلف مما تيسر لناسخه وقت النسخ، ويلي الترجمة، ذكر أخبار مكة بعد الفاسي إلى انتهاء النسخ، وهو عام ألف وثلاثمائة وخمسة وثلاثين هجرية، ومن ذلك نعلم أن هذه النسخة الثانية منسوخة من النسخة المصرية الأولى، ونشير إلى تلك النسخة الثانية بحرف "ك"، وقد يسر لنا الحصول عليها السيد الشيخ عبد الوهاب الدهلوي، حفظه الله، وأثابه خير الثواب، وهاتان النسختان رديئتا الخط، إلى حد بعيد، وفيهما كثير من النقص والتحريف والخطأ. لذلك لم يكن هناك بد من الاعتماد على الكثير من الكتب المخطوطة والمطبوعة، نستعين بها على تصحيح نصوص هذا الكتاب وضبطه، فوق مئات المؤلفات من كتب التاريخ واللغة والأدب والشريعة. وقد عاوننا في بعض التعليقات على رجال الحديث الشيخ سليمان الصنيع مدير "مكتبة الحرم المكي".

وأعارنا الشيخ محمد نصيف من أعيان "جدة" مخطوطته القيمة "إفادة الأنام، بأخبار البلد الحرام، للشيخ الغازي، مساعدة لنا على تنقيح الكتاب، ومراجعة نصوصه، وتصحيح روايته. وقد بذلنا مجهودا ضخما: في مقابلة النسختين الخطيتين: "من كتاب شفاء الغرام"، بعضهما على البعض الآخر، وفي مراجعة نصوصه على مئات الكتب المطبوعة والمخطوطة. واعتمدنا بذلك في تصحيح نصوص الكتاب على كتاب "منتخب شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام" طبع أوروبا عام 1880م. وقد حلينا الكتاب بأربع خرائط، قام برسمها السيد جلال الجدويلي بجريدة الأهرام، مستعينا بخرائط مصلحة المساحة السبعة عشر، عن الحجاز والمملكة العربية السعودية: وبعض الأطالس الإفرنجية، والخرائط الحديثة التي رسمتها شركة أرامكو. ولا يفوتنا أن نتقدم بخالص الشكر لمن قام برسم وطبع خرائط مصلحة المساحة التي تعتبر من المراجع القيمة عن البلاد السعودية. وقد نشرنا في آخر كل جزء من الكتاب فهارس مستوفاة للموضوعات، وذيلنا الكتاب بفهارس كاملة للأعلام والمواضع. وهذا الاستعداد القوي، والعمل المتواصل، من أجل نشر الكتاب نشرا علميا، حديثا متقنا هو الذي أخر صدور الكتاب بعض التأخير، ولا سيما أن النسختين الخطيتين للكتاب خطهما رديء، ويشتملان على تصحيف كثير، وعلى نقص عديد أيضا، وعلى أبيات شعرية محرفة، مما استدعى الوقوف عندها طويلا، وخاصة مع عدم فائدة الكثير من هذه الشواهد الشعرية، التي هي إلى اللغة العامية أقرب. 3- وكتاب الفاسي هذا "شفاء الغرام" كتاب جليل الفائدة، دون فيه أخبار مكة بتفصيل كثير، وإحاطة شاملة، واستيعاب دقيق، ويعد من المصادر الأصلية بعد كتابي الأزرقي1، والفاكهي2.

_ 1 هو أبو الوليد الأزرقي صاحب كتاب "أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار"، وقد توفي نحو عام 250هـ، وكتابه عمدة المؤرخين في جميع العصور، وقد اختصره كثير من المؤرخين. 2 كتاب الفاكهي "تاريخ مكة" من الكتب الأصلية، التي اعتمد عليها الفاسي ونقل عنها، وتوجد نسخة منه في بعض خزائن أوروبا، وقد طبعت في أوروبا منتخبات منه، واسم الفاكهي هو أبو عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي، توفي نحو 280هـ.

وقد رتبه الفاسي على أربعين بابا ألم فيها بجميع ما يتصل بتاريخ مكة من قريب أو بعيد منذ الجاهلية حتى عصره، وذكر تاريخ المسجد الحرام وبنائه وعمارته في مختلف العصور، متحدثا عن الملامح الجغرافية والتاريخية، والسياسية والاجتماعية للجزيرة العربية في شتى العصور، مع تنويهه بفضائل الكعبة والأعمال المتعلقة بها، والمواضع المباركة في مكة وحرمها، كالمدارس والربط وغير ذلك، مضيفا إلى ذلك كله ما وصل إلى علمه من أخبار ولاة مكة في الإسلام على سبيل الإجمال، محررا ذرع الكعبة والمسجد الحرام، جامعا لأشتات من الفوائد والأحداث التاريخية التي لم يدونها الأزرقي والفاكهي "المتوفى عام 280هـ" في كتابيهما، ويقول الفاسي: إن ما ذكراه هو الأصل الذي بنى عليه كتابه، وإن في كتاب الفاكهي محمد بن إسحق بن العباس المكي أمورا كثيرة مفيدة ليست مما يتضمنها كتاب الأزرقي، وقد عاش الأزرقي والفاكهي في المائة الثالثة من الهجرة، وتأخر الفاكهي عن الأزرقي قليلا، ولم يؤلف أحد بعدهما في تاريخ مكة وولاتها وفضلائها إلا القليل، إلى أن جاء الفاسي فألف كتابه هذا الذي عد مرجعا خطرا في تاريخ البلد الحرام، وخاصة منذ القرن الرابع إلى التاسع الهجري. وقد رتب الفاسي كتابه ترتيبا شيقًا، وتحدث فيه عن مكة وحرمها، والآثار المروية فيها، ووصف الكعبة وعمارتها، ومصلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وثواب دخول الكعبة المعظمة وفضائلها، والآيات المتعلقة بها، وأخبار الحجر الأسود والملتزم والأماكن الشريفة بمكة ومقام إبراهيم وحجر إسماعيل، وتكلم عن توسعة المسجد الحرام وعمارته ووصف عمده وعقوده وشرفاته وقناديله وأبوابه ومنابره، وتحدث كذلك في الكتاب عن أخبار زمزم والأماكن التي لها تعلق بالمناسك، وما بني بمكة من المدارس والربط والسقايات والآبار والعيون، وتحدث عن أخبار مكة في الجاهلية، وعلى عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وذكر أسماء أولاد إسماعيل، وولاية ذرية معد بن عدنان على مكة وولاية جرهم وخزاعة وقريش، مستقصيا أخبار قريش بمكة في الجاهلية، متوسعا في أخبار بني قصي ومآثرهم في الجاهلية، وأجواد قريش وحكامهم في الجاهلية، ثم يذكر فتح مكة وولاتها في الإسلام وأخبارها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتحدث في الباب الأربعين عن الأصنام التي كانت حول مكة، وأخبار أسواق مكة في الجاهلية والإسلام، وبذلك ينتهي هذا الكتاب القيم. وترجع أهمية هذا الكتاب التاريخية إلى استقصائه واستيعابه وجمعه لشتى الأخبار التي تتعلق بمكة مما لم يجمعه مدون بعد الأزرقي والفاكهي. وقد تأثر بالفاسي المؤرخون الذين أتوا بعده وألفوا في أخبار مكة والبيت الحرام، مثل: المؤرخ جمال الدين محمد بن ظهيرة القرشي في كتابه "الجامع اللطيف، في فضل

مكة وأهلها، وبناء البيت الشريف"، الذي وصل فيه إلى أخبار مكة، حتى العام الذي انتهى فيه من تأليف كتابه، وهو هام 950هـ1، ومثل العلامة قطب الدين الحنفي المتوفى عام 988هـ في كتابه "تاريخ القطبي" المسمى "كتاب الإعلام، بأعلام بيت الله الحرام" الذي دون فيه أخبار مكة حتى العام الذي انتهى فيه من تأليف كتابه هذا، وهو عام 984هـ2. ويزيد من أهمية كتاب الفاسي ما احتوى عليه الكتاب من نصوص منقولة عن كتب خطية مفقودة حتى اليوم. ونحن في غنى عن أن ننوه بهذا المجهود الذي بذلناه في إخراج الكتاب، والتعليق عليه، والعمل على ضبط أعلامه، وتحقيق نصوصه، وشرح شواهده، وسوى ذلك مما قمنا به من خدمة علمية لهذا الكتاب. والله المسئول أن يلهمنا الرشد، وأن يهدينا سواء السبيل، وما توفيقنا إلا بالله عليه توكلنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير. حياة الإمام تقي الدين الفاسي المكي: ترجم الفاسي لنفسه في كتابه "ذيل كتاب التقييد، بمعرفة رواة السنن والأسانيد، لابن نقطة"3، فقال في نسبه إنه هو: محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن عوف بن أحمد بن علي بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي بن حمزة بن ميمون بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن إدريس بن الحسن بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، الحسني الفاسي المكي. وذكر نسبه السيد عبد الستار الدهلوي الصديقي الحنفي البكري المكي فقال: هو الإمام الحافظ العلامة أبو الطيب تقي الدين محمد بن شهاب الدين أبي العباس أحمد بن علي الحسني الفاسي المكي المالكي المؤرخ الشهير. كان الفاسي يلقب بتقي الدين، ويكنى أبا الطيب، وكان قاضي المالكية بالحرم الشريف، وقد ولد في ليلة الجمعة لعشرين من ربيع الأول عام 775هـ بمكة المكرمة، ونشأ بها، وتتلمذ على علمائها وأهل الفضل فيها، وعني بالحديث، فقرأ وسمع كثيرا من

_ 1 راجع صفحة 325 من هذا المصدر الطبعة الثانية بمصر 1938. 2 راجع صفحة 261 من هذا المصدر. نشر المكتبة العلمية بباب السلام بمكة. 3 وترجم لنفسه كذلك في كتابه "العقد الثمين" ترجمة طويلة مفيدة. وفي ذيل كتاب "شفاء الغرام"النسخة الخطية ترجمة طويلة له.

الكتب، وروى كثيرا من الأحاديث، وقد أجازه كثير من العلماء الأعلام، وقرأ عليهم، وأخذ عنهم، ومن هؤلاء: 1- الإمام العلامة قاضي مكة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة القرشي المخزومي المكي1. 2- جده لأمه قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد بن أحمد النويري الشافعي، خطيب مكة وقاضيها، عالم الحجاز في عصره، والمؤرخ المشهور. 3- ابن جده المذكور لأمه، وهو خال المؤلف، قاضي الحرمين محب الدين النويري. 4- الإمام أبو المعالي عبد الله بن عمر الصوفي. 5- العلامة اللغوي قاضي اليمن مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروزآبادي "729-817هـ" صاحب "القاموس المحيط"2. 6- العلامة المؤلف المفتي الشيخ كمال الدين محمد الدميري المصري الشافعي، ثم المالكي، المتوفي عام 808هـ. 7- العلامة إبراهيم بن محمد الدمشقي الصوفي المعروف بالبرهان. 8- الإمام المؤرخ المشهور الشيخ ابن خلدون المتوفي عام 808هـ، صاحب المقدمة والكتاب التاريخي المشهور. 9- الإمام الشهاب أحمد العلائي، وروى عن كثيرين آخرين من العلماء الأجلاء، والفاسي مؤلف هذا الكتاب يروي غالبا عن الإمامين: أبي أحمد البرهان إبراهيم بن محمد اللخمي، وأبي الفرج الجلال عبد الرحمن بن أحمد العربي.... وكذلك أخذ عن كثير من شيوخ عصره وأئمة زمانه، وكان معاصرا لشيخ الإسلام الحافظ الشهاب أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المصري المشهور، صاحب "فتح الباري" المتوفى عام 852هـ. ويذكر الفاسي في كتابه "شفاء الغرام"3 أنه كان قاضي قضاة المالكية بمكة، وأنه باشر تدريس الفقه المالكي في مدرسة السلطان الملك المنصور بمكة عام 814هـ في بدء

_ 1 هو أحد أجداد ابن ظهيرة المؤرخ صاحب كتاب "الجامع اللطيف، في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف" الذي ألفه عام 950هـ. 2 راجع ترجمته في ص 38جـ 3 وما بعدها من "كتاب أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض" وهو للمقري صاحب كتاب "نفح الطيب". 3 صفحة 329 جـ1 من هذا الكتاب.

إنشائها، وكان يقوم بالتدريس فيها فيما بين الظهر والعصر من يومي الأربعاء والخميس من كل أسبوع. وقد ألف الفاسي مؤلف هذا الكتاب كتبا جليلة مشهورة في مقدمتها: 1- كتابنا هذا "شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام". 2- تاريخه الكبير المسمى "بالعقد الثمين، في تاريخ البلد الأمين" وهو في أربعة أجزاء ضخام، ومنه عدة نسخ خطية بدار الكتب المصرية، وقد ترجم فيه لولاة مكة وأعيانها وعلمائها وأدبائها، منذ ظهور الإسلام إلى عصره، وقد رتبه على حروف المعجم وبدأه بالمحمدين والأحمدين، وصدره بذكر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي أوله مقدمة لطيفة تحتوي على مقاصد الكتاب. 3- "تحفة الكرام بأخبار البلد الحرام" وهو اختصار لكتابه "شفاء الغرام"، ويسمى أيضا: "تحصيل المرام، من تاريخ البلد الحرام". 4- هادي ذوي الأفهام إلى تاريخ البلد الحرام" وهو مختصر من الكتاب السابق "تحفة الكرام". 5- "الزهور المقتطفة، في تاريخ مكة المشرفة" وهو مختصر من كتابه السابق "هادي ذوي الأفهام". 6- عجالة القرى للراغب في تاريخ أم القرى". 7- " الجواهر السنية، في السيرة النبوية". إلى غير ذلك من المؤلفات النفيسة التي كان "شفاء الغرام" أول كتاب يطبع منها. وقد توفي المؤلف في ليلة الأربعاء للثالث والعشرين من شهر شوال المكرم عام 832هـ بمكة المشرفة، بعد أن اعتمر في السابع والعشرين من رمضان من العام المذكور، وترك وراءه آثارا خالدة، وقلما عني أحد من العلماء بتدوين تاريخ البلد الحرام في كتب مفيدة، كما عني الفاسي عالم الحجاز وفقيهه ومؤرخه العظيم. وما أجدر كل مسلم وعربي بأن يلتفت إلى آثار الفاسي المخطوطة، ويسهم في نشرها، ويعمل على إخراجها، ليعم بمؤلفاته النفع، ولنقف على دقائق التاريخ العربي في فترة من أغمض فترات التاريخ الإسلامي. رحمه الله، ونفع بعمله وبمؤلفاته، وجزاه عن العرب وعن المسلمين خير الجزاء؟

تصدير

بسم الله الرحمن الرحيم تصدير: بقلم الأستاذ محمد مبروك نافع، رئيس قسم التاريخ الإسلامي، كلية دار العلوم - جامعة القاهرة. لا أحسبني أبالغ كثيرا إذا قلت: إن العقود الأخيرة من هذا القرن العشرين قد شاهدت يقظة فكرية، ووعيا سياسيا في مختلف أقطار العالم العربي، إذ أدرك هذا العالم أنه غفا سنين طويلة، فبدأ يستيقظ ويتحرك، ليعوض ما فاته إبان إغفاءته، ويحمل العالم على احترام كفايته ومقدرته التي جعلت منه الرائد الأول في إنارة العالم إبان العصور الوسطى المظلمة. فأما من الناحية السياسية فالأمر لا يحتاج - وبخاصة في الآونة الأخيرة- إلى تبيان، إذ كل دلائل الأمور تدل على مدى الاحترام الذي يناله العالم العربي اليوم بين قوى العالم الأخرى المتصارعة، بعد أن كانت لا تلقي بالا إليه. وأما من الناحية الثقافية فأحسب أن مجموع ما تخرجه المطابع في بلاد العالم العربي من مؤلفات ومترجمات وصحف وكتب مخطوطة، تنشر للمرة الأولى أو يعاد نشرها في مختلف النواحي العلمية والأدبية، لأكبر دليل على ما يمتع به هذا العالم العربي الآن من وعي وثقافة ورغبة في الرقي وطموح إلى السيادة. ولا تختلف البلاد العربية من ناحية ما تخرجه مطابعها بعضها عن البعض في هذا المجال باختلاف ظروفها وإمكانياتها، ولكنها جميعا يربط ما بينها هذا الاتجاه الثقافي الحميد الذي يعيد إلى الذاكرة تلك الجهود الجبارة التي بذلها أسلافنا العرب وظهرت آثارها فيما ألفوه من كتب فيما بين القرنين التاسع والثاني عشر للميلاد باللسان العربي، في مختلف العلوم والفنون، أو ترجموه عن اللغات الفارسية والهندية واليونانية، فشرحوه وصوبوا أخطاءه. أقول هذا وبين يدي كتاب "شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام" لمؤلفه القاضي تقي الدين أحمد بن علي الفاسي المتوفى سنة 832هـ، وهو أوسع كتاب في تاريخ

مكة المكرمة بعد كتابي الأزرقي "المتوفي سنة 250هـ" والفاكهي "المتوفي نحو سنة 280هـ". والرأي الشائع بين جمهور المثقفين الآن أنا نعيش في عصر السرعة، وأن المؤلفات المطولة وبخاصة تلك التي تعالج موضوعا واحدا ليس لها مكان في عالم التأليف في الوقت الحاضر، لأن زحمة الحياة وضيق الوقت لا يتسع لما يقولون عنه إنه إسراف في تضييع الوقت. ولكن هذا الرأي مردود، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على اتجاه خطر قد يؤذي الثقافة العالمية إيذاء شديدا، لأنه يدل على انصراف عن الأساس الرئيسي للرقي العقلي الذي هو الأساس الصحيح في كل حضارة. على أن كتاب "شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام" له نظائره فيما يؤلف من كتب في الغرب عن مدائن ليست لها عراقة مكة المكرمة، التي تعتبر المركز الروحي للعالم الإسلامي الذي يناهز عدد سكانه الآن سدس سكان العالم، برغم أن الدين الإسلامي هو أحدث الأديان جميعا من الناحية التاريخية. والكتاب ليس كتابا لتاريخ مكة السياسي فحسب، بل هو بفصوله الأربعين يعتبر دائرة معارف شاملة لهذا البلد الحرام وما يتصل به من النواحي العمرانية والدينية والثقافية والاجتماعية، وفيه من هذه النواحي ما لا يوجد في كتاب آخر من كتب التاريخ المعروفة. ويستطيع المؤلف المحدث في الوقت الحاضر أن يخرج من بين سطوره، ومما ورد استطرادا في بعض فصوله جملة كتب تحمل عناوين مختلفة وتكون كتبا متخصصة، كل واحد منها يعالج ناحية من نواحي العلم أو الفن أو الاجتماع أو غير ذلك لا لمكة فحسب، بل لبلاد المسلمين أجمعين. ولقد نجح بعض المستشرقين في استخراج كنوز علمية من أمثال هذا الكتاب، ووضعوا لها عناوين حديثة ندهش نحن عند قراءتها، ونستغرب أن يكون العرب منذ نيف وعشرة قرون أو أكثر قد عرفوا هذه الأشياء التي يبدو أنها من صنع العصر الأوروبي الحديث. فالاشتراكية مثلا التي تعتبر من مبتكرات العصور الحديثة كانت معروفة لدى المكيين منذ القرن الخامس الميلادي. فهذا هاشم بن عبد مناف أطعم أهل مكة جميعا في سنة أصابهم فيها قحط، إذ جلب لهم من الشام قافلة محملة بالدقيق ونحر الإبل وأطعمهم من جوع. وفي عهده ازدهرت الحياة في مكة ازدهارا كبيرا وأصبحت تعج بالتجار من الشمال والجنوب حتى لقد سماها بعض المستشرقين بندقية "فينيسا" بلاد العرب. وذكر مستشرق آخر أن مكة أصبحت مركزا للصيرفة يمكن أن يدفع فيه التجار أثمان السلع التي ترسل

إلى بلاد بعيدة، كما كانت عملية الشحن والتفريغ لهذه التجارة الدولية تتم هناك، كذلك كان يتم التأمين على المتاجر، وهي تجتاز الطرق المحفوفة بالمخاطر، ولم يأت هذا المستشرق -واسمه أوليري- بهذا الكلام من عنده إنما استنبطه من الكتب العربية القديمة، التي نمر عليها مرا دون أن نقف لنتأمل، ونعلم أنه كان ثمة تأمين على المتاجر، يظن الناس أنه من مستحدثات العصور الحديثة. ونستطيع أن نستنبط من هذه المراجع أيضا أنه كان للدول الكبرى آنئذ -كفارس وبيزنطة- ممثلون تجاريون في قلب مكة ذاتها وأن زعماء مكة -التي وصفها بعض المستشرقين بأنها كانت جمهورية تجارية بلوتوقراطية "أي حكومة الأغنياء"- كانت تعقد محالفات ومعاهدات تجارية تسمح لمندوبي التجار بالتجوال في أقطارها للترويج لمتاجرهم في أمن وطمأنينة، وأن مكة بوصفها مركزا عاما للتجارة، كانت شوارعها وأسواقها تعج بناس من قوميات مختلفة، يتكلمون بلغات مختلفة، فكانت على حد التعبير الحديث مدينة دولية، وأنها كانت غاصة بالمصارف التي كانت تقرض الناس بالربا الذي كان وباء المجتمع المكي. ومن أجل ذلك حطمه الإسلام. وكان من كبار أصحاب المصارف العباس بن عبد المطلب الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب". إن هذه القضايا التي صغناها بأسلوب العصر الحديث، والتي تبدو في نظر المثقف المحدث وكأنها مسائل رائعة لا تكاد تصدق إنما هي والمئات من نظائرها مخبوءة بين ثنايا السطور بلغة القرون الأولى الإسلامية في تلك المؤلفات التي دونت بلغة تلك العصور غير المألوفة لدينا الآن، والتي نمر عليها أثناء قراءتها دون أن نقف ونتأمل ونستنبط ونوازن بينهما وبين ما هو معروف لدى العالم المتحضر الآن. ولو أن أمثال الأزرقي أو الفاكهي أو الفاسي كانوا يعيشون في هذا القرن العشرين، ويؤلفون بأسلوبه ومنهجه العلمي ومعهم تلك الذخيرة الرائعة والمنجم الثمين الذي لا ينضب من المعلومات في النواحي المختلفة لظهرت كتبهم في غير ما نألفه من ترتيبها، ولرأيناها تزخر بفصول تحمل عناوين كتلك التي نراها في الكتب الحديثة مثل "أ" الحالة الاقتصادية لبلاد العرب "ب" السياسة المكية: الأحزاب، العلاقة بين قريش والقبائل الأخرى، السياسة الخارجية لمكة "ج" الحالة الاجتماعية والأخلاقية: الفردية والجماعية، المثل العليا الأخلاقية "د" الحالة الدينية والعقلية: انحطاط الدين الوثني، تدهور الوثنية، التهيؤ لقبول عقيدة الوحدانية إلى آخره، إلى آخره. إن ما يمكن أن يكتب تحت هذه العناوين في كتاب محدث تجده وأكثر منه مفصلا في تلك الآثار القديمة ولكن مبعثرا تحت عناوين قد لا تمت إليه بصلة نتيجة الاستطراد وأسلوب التأليف منذ نحو نيف وعشرة قرون.

إن أخطر ما يخشى على العلم هو تلك الملخصات والكتب المختصرة التي ترسم الحدود ولا تجري الحياة في جسوم الأشخاص والأحداث. وقد يقرأ قارئ ملخصا لسيرة الرسول عليه السلام فيحيط بتاريخ حياته، ولكنه إن قرأ تاريخا مفصلا أحس كأنه يعيش في جو الرسول عليه السلام يتنفسه كأنما هو قائم معه من صحابته يدرك لم فعل الرسول كيت وكيت ولم لم يفعل كذا وكذا. إن المختصرات التي تكتب الآن بحجة أنا في عصر السرعة إنما هي سمة من سمات الإفلاس الروحي، وإيغال في المادية، وتقرب من الانهيار الحضاري، كما تدل على ذلك تواريخ الأمم البائدة. حيا الله أولئك الذين يعملون على نشر تراثنا القديم الذي يعتبر أكبر حافز على الاستمرار في نهضتنا العربية الجديدة، وحياهم وبياهم لو أنهم -لصالح النشء من أبناء العروبة المحدثين- صاغوه بأسلوب ونهج العصر الحديث، وأحسب إنهم لفاعلون إن لم يكن اليوم فبعد قليل. وفقنا الله -جلت قدرته- إلى ما فيه صالح هذا الشعب العربي المجيد، وأمدنا بروح من عنده، إنه سميع مجيب. محمد مبروك نافع.

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: الحمد لله الذي جعل مكة المشرفة أعظم البلاد شأنا، وصيرها محلا مباركا، وأجزل للمتقربين فيها العطية، وكم لها في الفضل مزية، لأن فيها البيت الحرام، الذي هو للناس مثابة وقوام، المغفور لمن حجه أو طاف به في البرية ما اقترفه من الخطية. أحمده على ما منحنا من جوار بيته المطهر، وأسأله استمرار ذلك إلى حين أقبر. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبه نستعين، رب يسر وأعن يا كريم. [بجاه عروس القيامة والدين القويم] 1. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الذي جعل مكة وما حولها حرما، وأغنى بماء زمزم عن الطعام، وشفا به سقما. وأشهد أن سيدنا محمدا أفضل من الحجر الأسود قبل، وفي الطواف بالكعبة رمل، وصلى خلف المقام الذي للخليل فيه أثر، ووقف بعرفات والمشعر صلى الله عليه وسلم ما رميت الجمار، وما تضرع داع في الملتزم والمستجار2، وما سعى بين الصفا والمروة محرم، ورضي الله عن آله وأصحابه الذين توقيرهم واجب على كل مسلم. أما بعد: فإنه لما وفقني الله تعالى للاشتغال بالعلم الشريف تشوَّقَتْ نفسي كثيرا إلى معرفة ما كان بعد الإمام أبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن

_ 1 ومعنى قول المؤلف "بجاه عروس القيامة والدين القويم" أنه يطلب من الله أن يشفع فيه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. 2 المراد بالملتزم والمستجار: البيت كله.

عقبة بن الأزرق ابن أبي شمر الغساني الأزرقي المكي1 مؤلف كتاب "أخبار مكة" -رحمه الله- وفي أخبار عمارة الكعبة المعظمة، وخبر حليتها ومعاليقها، وما أهدي لها في معنى الحلية، وكسوتها، وخبر الحجر الأسود، وخبر عمارة المسجد الحرام، وما فيه من عمارة موضع مقام إبراهيم -عليه السلام- وحجر النبي إسماعيل -عليه السلام- وموضع زمزم، وسقاية العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- ومنابر المسجد الحرام، والمطاف، ومقامات الأئمة، وابتداء وقت ترتيبهم للصلاة فيها، وعمارة أماكن مباركة بمكة المشرفة، وهي مساجد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد سيدنا على بن أبي طالب- رضي الله عنه- وغير ذلك من المواضع المعروفة بمكة بالمواليد، والدور المباركة بمكة، كدار سيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ودار خديجة بنت خويلد أم المؤمنين -رضي الله عنها- ودار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وهي الدار المعروفة بدار الخيزران، وعمارة مساجد مباركة بظاهر مكة، وهي: مسجد البيعة -بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار- بقرب عقبة منى، ومسجد الخيف بمنى، وغير ذلك من المساجد بمنى، ومسجد أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- التي أحرمت منه لما اعتمرت بعد حجها بالتنعيم، وعمارة أنصاب2 حدود الحرم، ومشاعر الحج والعمرة، وهي: الصفا، والمروة، والمشعر الحرام، وغير ذلك. ما كان بعد أبي الوليد الأزرقي من الأوقاف على طلبة العلم والفقهاء، وغير ذلك من المدارس والربط وغيرها، وتاريخ وقف ذلك، وما كان بعد الأزرقي من الأمطار والسيول بمكة، فعرفت طرفا جيدا من ذلك كله؛ بعضه من كتب التاريخ، وبعضه علمته من رخام، وأحجار، وأخشاب مكتوب فيها ذلك، ثابتة في الأماكن المشار إليها. وبعضه علمته من أخبار الثقات. وبعضه شاهدته، وعلق ذلك كله بذهني، وقيدته في أوراق مفردة من غير ترتيب، خيفة ذهاب ذلك بالنسيان، لما روي عن أبي حمزة أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: يا بني قيدوا العلم بالكتابة، ثم بدا لي أن أجمع ذلك مرتبا، وأضم إليه من تاريخ أبي الوليد الأزرقي ما يلائمه من الأمور التي أشرنا إليها لما في ذلك من كمال الفائدة. ففعلت ذلك، وأضفت إلى ذلك أحاديث وآثارا في فضائل الكعبة، والأعمال المتعلقة بها، وفي فضل الحجر الأسود والركن اليماني، والحجْر بسكون الجيم- والمقام والمسجد الحرام، ومكة، والحرم، وزمزم، وغير ذلك من المواضع المباركة بمكة وحرمها مما ذكره أبو الوليد الأزرقي- وأضفت إلى ذلك أمورا كثيرة مفيدة لم يذكرها الأزرقي، في بعضها مما عني بجمعه الأزرقي، وبعضها لم يعن به،

_ 1 توفي نحو سنة "250هـ" راجع مقدمة كتاب "أخبار مكة" تحقيق: رشدي صالح ملحس 1/ 12. 2 الأنصاب: جمع "نصب" بضم النون والصاد، وهو العلامة.

فمن الأول: أحاديث نبوية، وآثار عن الصحابة والسلف وأخبار جاهلية لها تعلق بمكة وأهلها وملوكها، وغير ذلك. ومن الثاني: مسائل فقهية وحديثية، وما علمته من المآثر بمكة وحرمها، كالمدارس والربط1 وغير ذلك، وما علمته من أخبار ولاة مكة في الإسلام على سبيل الإجمال، وأخبار إسلامية تتعلق بمكة وأهلها وولاتها، والحجاج. وكثير من هذه الأخبار، ذكره الأزرقي، وذكر أيضا بعض المآثر، وبعض المسائل الفقهية، وهذا القسم مما يكثر الاغتباط به، لأن غالبه لم يحوه كتاب2، وإليه يتشوق ذوو الألباب، وأضفت إلى ذلك -أيضا- ما حررناه في ذرع الكعبة3 والمسجد الحرام، وأماكن فيه، والأماكن المباركة بمكة وحرمها من المساجد والمواليد، والدور المباركة وحدود الحرم من جهاته المعروفة الآن بما فيها من العلامات المبينة لكون الذراع الذي حررناه به هو ذراع الحديد المستعمل في القماش بديار مصر والحجاز، والذراع الذي حرر به الأزرقي هو ذراع اليد، فيستفاد مما ذكرته ذرع ذلك بالوجهين، وبعض ما حررناه ليس في كتاب الأزرقي تحرير له، فلا يعرف تحريره إلا مما ذكرناه، فجاء -بحمد الله تعالى- تأليفا لأشتات الفوائد جامعا، وفي معناه إن -شاء الله تعالى- مفيدا نافعا. ويستغنى به عن كتاب الأزرقي والفاكهي4 ولا يغنيان عنه. وللإمام الأزرقي، والفاكهي فضل السق والتحصيل والتحرير، فإن ما ذكراه هو الأصل الذي انبنى عليه هذا الكتاب، وفي كتاب الفاكهي وهو: محمد بن إسحق بن العباس المكي أمور كثيرة مفيدة جدا ليست من معنى تأليف الأزرقي، ولا من المعنى

_ 1 الربط: جمع رباط. 2 بعد كتاب الأزرقي ظهر هذا الكتاب، ثم ألف ابن ظهيرة القرشي كتاب "الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف" عام "950م"، كما ألف القطبي الحنفي المتوفي سنة "988هـ" كتابه "تاريخ القطبي" المسمى: "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام"، وبعد ذلك ألفت كتب كثيرة من العصر الحديث عن مكة والبيت الحرام منها: كتاب "تاريخ عمارة المسجد الحرام"، و"تاريخ الكعبة المعظمة" وكلاهما للشيخ عبد الله باسلامه -رحمه الله- وألف كذلك الأستاذ أحمد السباعي كتاب "تاريخ مكة" الذي نشر سنة "1327هـ". وهذه الكتب مراجع قيمة في تاريخ البلد الحرام. وكل هؤلاء المؤلفين من أبناء مكة المكرمة. 3 ذرع الكعبة والمسجد الحرام: قياس مساحتها. 4 لا يعرف تاريخ ميلاد الفاكهي، وقد توفى نحو سنة "280هـ" أي بعد الأزرقي بثلاثين سنة، وتوجد نسخة من كتاب الفاكهي مطبوعة مكونة من ستة أجزاء بتحقيق عبد الملك بن دهيش، ولم يسبق أحد في التأليف عن أخبار مكة إلا الوافدي المتوفي سنة "207هـ"، والمدائني "153-225هـ". والزبير بن بكار "172-256هـ" وعمرو بن شبة "172-262هـ"، والأزرقي المتوفي نحو سنة "250هـ".

الذي ألفناه، وكانا في المائة الثالثة، والفاكهي تأخر عن الأزرقي قليلا في غالب الظن، ومن عصرهما إلى تاريخ خمسمائة سنة1 ونحو أربعين سنة وأزيد، ولم يصنف بعدهما في المعنى الذي صنفا فيه أحد، وقد حدث بعدهما في هذه المدة من المعنى الذي ذكرناه عنهما أمور مستكثرة، فلذلك صارت الإحاطة لجمعها متعذرة، وقد بذلنا الجهد في تحصيل ذلك، فظفرنا منه بطرف، وفي النفس على ما لم نظفر به أسف. وإني لأعجب من إهمال فضلاء مكة بعد الأزرقي للتأليف على منوال تاريخه، ومن تركهم تأليف تاريخ لمكة يحتوي على معرفة أعيانها من أهلها وغيرهم، من ولاتها، وأئمتها، وقضاتها، وخطبائها وعلمائها، ورواتها، كما صنع فضلاء غيرها من البلاد لبلادهم، "كتاريخ بغداد" للخطيب البغدادي2، ومن بعده "تاريخ دمشق" لابن عساكر3 و"تاريخ مصر" للقطب الحلبي، وغير ذلك من تواريخ البلاد. وقد وفقني الله تعالى لجمع شيء من هذا المعنى حداني، إلى جمعه أني تشوقت كثيرا لمعرفة ذلك، وتتبعت ما ألفه الناس من التواريخ والطبقات والمعاجم4 والمشيخات وغير ذلك من تعاليق العلماء، فظفرت في ذلك ببعض المطلوب، ثم رتبته على ما أدركته من الأمور المناسبة له على ترتيب حروف المعجم خلا المحمدين والأحمدين، فإنهم مقدمون على غيرهم، لكون ذلك من أسماء نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم مذكور في أول التراجم مع شيء من سيرته الشريفة على وجه الاختصار للتبرك بذلك. وجعلت في أول هذا الكتاب مقدمة لطيفة تحتوي على مقاصد هذا التأليف، لخصتها منه ليكون التأليف -الذي هذه المقدمة أوله- جامعا لشيء من أخبار مكة وما فيها، وشيء من أخبار أهلها ومن أشرنا إليهم معهم، هذا التأليف "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين"، ثم إني استطلته بعد تسويدي لأكثره، وترتيب ما بقي منه بذهني، فاختصرته في مقدار نصف الحجم، وسميت هذا المختصر "عجالة القرى للراغب في تاريخ أم القرى".

_ 1 ولد الفاسي عام 775هـ، وتوفى سنة 832هـ. 2 توفى الخطيب البغدادي عام "463هـ". 3 هو: علي بن أبي محمد الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين، الحافظ ثقة الدين أبو القاسم الدمشقي الشافعي، المعروف بابن عساكر، ولد "499- 571هـ" وله تصانيف كثيرة من أهمها: "التاريخ الكبير لدمشق"، و"هداية العارفين في أسماء المؤلفين"، وغيرها. 4 المعاجم: الكتب المصنفة على حروف المعجم والمشيخات في معنى المعاجم، إلا أن المعاجم ترتب المشايخ فيها على حروف المعجم بعينها، بخلاف المشيخات. قاله: الحافظ ابن حجر - وتستعمل المشيخة علما على الكراريس التي يجمع الإنسان فيها شيوخه. وهو اصطلاح قديم.

وأنا أسال الله تعالى أن ييسر لي تبييضهما وتحريرهما، وأن ينفع بذلك وينفعني به، ويثيبني عليه الثواب الجزيل. وهذا التأليف المحتوي على التراجم لا يخلو من تقصير، سببه ما ذكرته من كوني لم أر مؤلفا في معناه، ورأيت ما يدل على أن بعض الناس ألف تاريخا لمكة، وهو الشريف زيد بن هاشم بن علي بن المرتضى العلوي الحسني، هكذا نسبه الشيخ أبو العباس أحمد بن علي الميورقي1، وترجمه بوزير مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك في رسالة كتبها زيد- المذكور- للشيخ أبي العباس- المذكور- رأيتها في كتاب "الجواهر الثمينة على مذهب عالم المدينة" لابن شاش المالكي بخط الميورقي، ووقفه بوج الطائف، وفيها مكتوب بعد البسملة: زيد بن هاشم بن علي، ثم قال: وبعد.... فقد خدم بها العبد الضعيف في الثلاثاء منتصف شعبان، وبخط الميورقي فوق شعبان: سنة ست وسبعين وستمائة، وذكر أشياء، ثم قال: وقد خطر للضعيف مع المتاعب التي يعاني من كل وجه إثبات تاريخ لمكة المعظمة، وقد أثبت منه إلى الآن نحو خمس كراريس ... انتهى. ولم أقف على هذا التاريخ، وما عرفت على أي نمط هو، هل هو تراجم فقط أو هو حوادث فيها ذكر شيء من أخبار مكة والكعبة المعظمة مما يدخل في هذا التاريخ؟ وسميت هذا التأليف: "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام". ورتبته على أربعين بابا: الباب الأول: في ذكر مكة المشرفة وحكم بيع دورها وإجارتها. الباب الثاني: في أسماء مكة المشرفة. الباب الثالث: في ذكر حرم مكة، وسبب تحريمه، وعلاماته، وحدوده، وما يتعلق بذلك من ضبط ألفاظ في حدوده، ومعاني بعض أسمائها. الباب الرابع: في ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها، وشيء في الأحكام المختصة بذلك، وشيء مما ورد من تعظيم الناس لمكة وحرمها، وفي تعظيم الذنب في ذلك، وفي فضل الحرم.

_ 1 ميورقة: بالفتح ثم الضم وسكون الواو والراء يلتقي فيه ساكنان، وقاف: جزيرة في شرق الأندلس، وقد نسب إلى هذه المدينة الشيخ أبو العباس أحمد بن علي الميورقي المالكي المتوفي سنة "678هـ" المذكور عاليه، وصاحب رسالة "بهجة المهج في بعض فضائل الطائف ووج" وطبعت في الطائف.

الباب الخامس: في ذكر الأحاديث الدالة على أن مكة أفضل من غيرها من البلاد، وأن الصلاة فيها أفضل من غيرها، وغير ذلك من فضلها. الباب السادس: في المجاورة بمكة والموت فيها، وشيء من فضل أهلها، وفضل جدة- ساحل مكة- وشيء من خبرها، وشيء من فضل الطائف وشيء من خبره. الباب السابع: في أخبار عمارة الكعبة المعظمة. الباب الثامن: في صفة الكعبة وذرعها وشاذروانها وشيء من حليتها، ومعاليقها، وكسوتها، وطيبها، وخدامها، وأسمائهم، وهدم الحبشي لها، ووقت فتحها في الجاهلية والإسلام، وبيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق، ومعرفة أدلة القبلة بالآراق المشار إليها. الباب التاسع: في بيان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وبيان قدر صلاته هذه، ووقتها، ومن رواها من الصحابة، ومن نفاها منهم -رضي الله عنهم- وترجيح رواية من أثبتها على رواية من نفاها، وما قيل من الجمع بين ذلك، وعدد دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد هجرته إلى المدينة، وأول وقت دخلها بعد هجرته. الباب العاشر: في ثواب دخول الكعبة المعظمة، وفيما جاء من الأخبار الموهمة لعدم استحباب دخولها، وفيما يطلب فيها من الأمور التي صنعها صلى الله عليه وسلم فيها، وحكم الصلاة فيها، وفي آداب دخولها. الباب الحادي عشر: في فضائل الكعبة، وفضائل الحجر الأسود والركن اليماني. الباب الثاني عشر: في فضائل الأعمال المتعلقة بالكعبة كالطواف بها، والنظر إليها، والحج، والعمرة، وغير ذلك. الباب الثالث عشر: في الآيات المتعلقة بالكعبة المعظمة. الباب الرابع عشر: في شيء من أخبار الحجر الأسود. الباب الخامس عشر: في الملتزم، والمستجار، والحطيم، وما جاء في استجابة الدعاء في ذلك وغيره من الأماكن الشريفة بمكة وحرمها. الباب السادس عشر: في شيء من أخبار مقام إبراهيم الخليل عليه السلام. الباب السابع عشر: في شيء من خبر حجر إسماعيل -عليه السلام- وفيه بيان المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة. الباب الثامن عشر: في شيء من أخبار توسعة المسجد الحرام، وعمارته، وذرعه.

الباب التاسع عشر: في عدد أساطينه1، وصفتها، وعدد عقوده2، وشرفاته3، وقناديله، وأبوابه وأسمائها، ومنايره4،وفيما صنع فيه لمصلحة أو لنفع الناس به، وفيما فيه الآن من المقامات، وكيفية صلاة الأئمة بها وحكمها. الباب العشرون: في أخبار زمزم، وسقاية العباس -رضي الله عنه. الباب الثاني والعشرون: في الأماكن التي لها تعلق بالمناسك. الباب الثالث والعشرون: فيما بمكة من المدارس، والربط5، والسقايات6، والبرك المسبلة7، والآبار، والعيون، والمطاهر8، وغير ذلك من المآثر، وما في حرمها من ذلك. الباب الرابع والعشرون: في ذكر شيء من خبر بني المحصن بن جندل ملوك مكة، ونسبهم، وذكر شيء من أخبار العماليق ملوك مكة، ونسبهم، وذكر ولاية طسم للبيت الحرام. الباب الخامس والعشرون: في ذكر شيء من خبر جرهم ولاة مكة ونسبهم، وذكر من ملك مكة من جرهم ومدة ملكهم لها، وما وقع في نسبهم من الخلاف، وفوائد تتعلق بذلك، وذكر من أخرج جرهما من مكة، وكيفية خروجهم منها، وغير ذلك من خبرهم. الباب السادس والعشرون: في ذكر شيء من خبر النبي إسماعيل - عليه السلام- وذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام. الباب السابع والعشرون: في ذكر شيء من خبر "هاجر" أم إسماعيل -عليه السلام- وذكر أسماء أولاد إسماعيل وفوائد تتعلق بهم، وذكر شيء من خبر بني إسماعيل، وذكر ولاية ثابت بن إسماعيل للبيت الحرام.

_ 1 الأساطين: جمع أسطونة، وهي العمود المستدير. 2 العقود: جمع عقدة، وهو القطعة من البناء مقوسة السقف. 3 الشرفات: جمع شرفة، وهي القطعة الخارجة من البناء. 4 المنائر: جمع منارة، والصحيح مناور، وهي المئذنة. 5 الربط: سيأتي الحديث عنها بتوسع في الباب الخاص بها. 6 جمع سقاية، وهي الأماكن التي يسقى فيها الماء. 7 المسبلة: المجعولة وقفا يردها كل من يشاء. 8 جمع مطهرة: وهي المكان المعدة لقضاء الحاجات والوضوء والاستحمام وغيرها من أنواع الطهارة.

الباب الثامن والعشرون: في ذكر ولاية إياد بن نزار بن معد بن عدنان للكعبة وشيء من خبره، وذكر ولاية بني إياد بن نزار للكعبة، وشيء من خبرهم، وخبر مضر، ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش. البات التاسع والعشرون: في ذكر من ولي الإجازة بالناس من منى من العرب في ولاية جرهم، وفي ولاية خزاعة وقريش على مكة. الباب الثلاثون: في ذكر من ولي إنساء1 الشهور من العرب بمكة، وذكر صفة الإنساء، وذكر الحمس، والحلة، والقلمس2. الباب الحادي والثلاثون: في ذكر شيء من خبر خزاعة ولاة مكة في الجاهلية ونسبهم، ومدة ولايتهم لمكة، وأول ملوكهم بها، وغير ذلك من خبرهم، وشيء من خبر عمرو بن عامر ماء السماء الذي تنسب إليه خزاعة -على ما قيل- وشيء من خبر بنيه وغير ذلك. الباب الثاني والثلاثون: في ذكر شيء من أخبار قريش بمكة في الجاهلية، وشيء من فضلهم، وما وصفوا به، وبيان نسبهم، وسبب تسميتهم بقريش، وابتداء ولايتهم للكعبة، وأمر مكة. الباب الثالث والثلاثون: في ذكر شيء من خبر بني قصي بن كلاب وتوليتهم لما كان بيده من الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والقيادة وتفسير ذلك. الباب الرابع والثلاثون: في ذكر شيء من خبر الفجار والأحابيش. الباب الخامس والثلاثون: في حلف الفصول وخبر ابن جدعان الذي كان هذا الحلف في داره، وذكر أجواد قريش وحكامهم في الجاهلية، وتملك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي عليهم، وشيء من خبره. الباب السادس والثلاثون: في ذكر فتح مكة المشرفة، وفوائد تتعلق بخبر فتحها. الباب السابع والثلاثون: في ذكر ولاة مكة المشرفة في الإسلام. الباب الثامن والثلاثون: في ذكر حوادث تتعلق بمكة في الإسلام.

_ 1 إنساء الشهور: هو تأخير الأشهر الحرم إلى ما بعدها، استحلالا للقتال كما ذكره المؤلف في الباب الثلاثين. 2 القلمس: هو أول من نسأ الشهور على العرب، واسمه: حذيفة بن عبد فقيم بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. قال شاعرهم: وفينا ناسئ الشهر القلمسي والقلمس: هو السيد العظيم المعطاء.

الباب التاسع والثلاثون: في ذكر شيء من أمطار مكة وسيولها في الجاهلية والإسلام، وشيء من أخبار الصواعق بمكة، وذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء. الباب الأربعون: في ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها، وشيء من خبرها، وذكر شيء من خبر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام، وذكر شيء مما قيل من الشعر في الشوق إلى مكة المشرفة، وذكر معالمها المنيفة. وأنا أسأل من كل واقف على هذا المختصر وأصله1 المسامحة عما فيهما من التقصير، وإصلاح ما فيهما من الغلط بعد التحرير، فسبب الغلط في الغالب النسيان، وقد جبل عليه كل إنسان، وسبب التقصير ما ذكرته من أني لم أر مؤلفا في المعنى الذي قصدت جمعه مما كان بعد الأزرقي والفاكهي فأستغني به. وأسأل الله أن يمنحني على ما قصدت الثواب الجزيل بمحمد 2 سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين. وقد رأيت أن أذكر إسنادي في تاريخ الأزرقي لكثرة المنقول منه في هذا الكتاب، وإذا كان ذلك متصلا إليه بالإسناد فهو مما يستجاد، وأخبرني به أبو المعالي عبد الله بن عمر الصوفي بقراءتي عليه في القاهرة عن أبي زكريا يحيى بن يوسف القرشي إجازة إن لم يكن سماعا: أن أبا الحسن علي بن هبة الله الخطيب، وعبد الوهاب بن ظافر الأزدي، أنبآه عن أبي طاهر أحمد بن محمد الحافظ، قال: أخبرنا به المبارك بن عبد الجبار المعروف بابن الطيوري، قال: أخبرنا به أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري، قال: أنبأنا به أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي موسى الهاشمي، قال: أنبأنا به أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، قال: أنبأنا به أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي. فذكره.

_ 1 يقصد بالأصل: كتابه "العقد الثمين". 2 أي بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما أفتى بذلك الإمام ابن تيمية.

الباب الأول

الباب الأول أولا: ذكر مكة المشرفة ... الباب الأول: في ذكر مكة المشرفة وحكم بيع دورها وإجارتها أولًا: ذكر مكة المشرفة مكة المشرفة بلدة مستطيلة كبيرة تسع من الخلائق ما لا يحصيهم إلا الله -عز وجل- في بطن واد مقدس، والجبال محدقة بها كالسور لها، ولها مع ذلك ثلاثة أسوار: سور في أعلاها ويعرف بسور باب المعلاة1، وفيه بابان أحدهما لا باب له ويكون في الغالب مسدودا، وسوران في أسفلها، أحدهما: يعرف بسور باب الشبيكة2 وفيه باب كبير وخوخة3 صغيرة لا باب لها، والسور الآخر يعرف بسور باب الماجن4، ويعرف أيضا بسور باب اليمن لأنه على طريق البر إلى اليمن. وكان أحصن هذه الأسوار- على ما رأينا- سور باب الشبيكة، لكماله بالبناء فيما بين الجبلين اللذين بينهما السور المذكور، وليس كذلك سور باب المعلاة وسور باب الماجن، والخلل في سور باب الماجن أكثر، ولقصر جدر هذين السورين في مواضع، وليس كذلك سور باب الشبيكة، وقد عمر سور باب المعلاة وسور باب الماجن حتى كمل بناؤهما من الجبل إلى الجبل إلا أن في سور باب المعلاة موضعا متخللا من البناء

_ 1 المعلاة مرتفع بأعلى مكة على سفح جبل الحجون، وبه مقبرة مكة المشهورة بقبور المعلاة، وينطقها أهل مكة بالتخفيف فيقولون: "المعلى". 2 الشبيكة: هي الآن حي من أحياء مكة: واقعة بأسفل مكة، ومنحرفة إلى الجهة الغربية منها. 3 الخوخة: هي الفتحة أو الباب الصغير. 4 الماجن، أو الماجل: بأسفل مكة، وبه الآن بركة يقال لها: بركة ماجل، وبها مزرعة، وهي أحد المتنزهات التي يخرج إليها أهل مكة كل مساء في زمن الصيف، وهي من ناحية الجنوب، ويحرفها المكيون فيقولون: "بركة ماجد"، ويقال: إن هذا المكان كان سوقا من أسواق العرب في الجاهلية، وقد انتشر العمران الآن حتى تعداها، وقد وجدت بعض الآثار التي تدل على أن هذا الموضع كان معمورا قديما.

مما يلي البركة المعروفة ببركة الصارم1، وارتفع جدر السورين عما كانا عليه، ويذكر أنهما يرفعان أكثر ويعمل لهما شرفات، ويكمل الخلل الذي في سور باب المعلاة وهذه العمارة في النصف الثاني من سنة ست عشرة وثمانمائة من جهة الشريف بدر الدين حسن بن عجلان الحسني2 نائب السلطنة ببلاد الحجاز أدام الله له الرفعة والإعزاز3. وسبب ذلك أن ابن أخيه السيد رميثة بن محمد بن عجلان هجم على مكة ودخلها في طائفة من أصحابه في ضحوة يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، ومال إليه جماعة من المولدين الذين كانوا بمكة وخرجوا جميعا منها، ولم يحدثوا بها كثير حدث لتخوفهم من وصول السيد حسن بن عجلان إليهم فيستأصلهم، لكثرة من معه وقلتهم. وكان مدة مكثهم بمكة ساعة فلكية أو أزيد. ولما توجه "رميثة" لمكة لم يكن لعمه علم به، ولما علم بذلك أتى مكة مسرعا ودخلها من درب المعلاة، ورأى أوائل عسكره أصحاب "رميثة" خارجين من مكة، فتبعهم السيد حسن في عسكره قليلا، ثم أعرض عنهم رحمة لهم. وكان بين الفريقين بعد ذلك منازلات وأمور كثيرة. ثم إن بعض عسكر السيد حسن هدم عدة مواضع من سور باب المعلاة من جانبيه، منها: موضع كبير يلي الجبل الشامي عند البرج الذي هناك سعته نحو عشرة أذرع حتى اتصل الهدم بالأرض، ومنها: موضع نحوه من الجانب الآخر يتصل ببركة الصارم، وذلك في يوم الثلاثاء خامس وعشرين شوال سنة تسع عشرة وثمانمائة، ثم أعيد بناء جميع ما تهدم من هذا السور كما كان، في بقية شوال4.

_ 1 لا توجد بركة جهة المعلاة بهذا الاسم الآن، وإنما توجد بركة باسم الشامي: فلعلها هي، ولعل تحريفا وقع من الناسخ، ويقول السباعي في كتابه "تاريخ مكة": كانت بركتا المعلاة تقعان خلف السور مباشرة، فلعل هذه إحداهما. 2 كان الحسن بن عجلان نشيطا في تعمير مكة، وقد جدد بيمارستان المستنصر العباسي، وأعده لإيواء الفقراء والمرضى والمجانين، وذلك في التاريخ الذي ذكره الفارسي في 24 ربيع الآخرة سنة 798هـ وقد تنازل الشريف حسن عن إمارة مكة وكتب إلى صاحب مصر يطلب الموافقة على تنازله لولديه: بركات، وإبراهيم، فوافاه المرسوم سنة 824هـ بتأييد بركات دون إبراهيم، وقد دامت ولاية الشريف حسن وولده بركات إلى أوائل سنة 827هـ حيث انتقلت في هذا التاريخ إلى مناوئيهما من بني عمومتهما من أولاد "رميثة" ولكن الشريف حسن وابنه بركات استطاعا العودة إلى الإمارة بتأييد الملك برسباي، وقد مات الشريف حسن في 16 جمادي الآخرة سنة 829هـ، "انظر ترجمته في: الضوء اللامع 3/ 103 رقم 417". 3 إتحاف الورى 3/ 505، والعقد الثمين 4/ 117. 4 إتحاف الورى 3/ 533، 534، العقد الثمين 4/ 124، والسلوك للمقريزي 4/ 1: 371، وإنباء الغمر 3/ 910.

وفي أول ذي القعدة من السنة المذكورة، وفي يوم هدم ذلك أحرق باب المعلاة بالنار حتى سقط إلى الأرض، وكان عمل "بكلكته" من بلاد الهند في سنة ستة وثمانين وسبعمائة، وأهدي للسيد أحمد بن عجلان، وركبه على باب المعلاة: عنان بن مغامس بن رميثة في سنة تسع وثمانين لما ولي إمرة مكة بعد قتل محمد بن أحمد بن عجلان، وسبب إحراقه وهدم ذلك: أن عسكر السيد رميثة بن محمد بن عجلان منعوا عسكر عمه السيد حسن من دخول مكة لما ولي إمرة مكة عوض رميثة في ثامن عشر من رمضان هذه السنة، وبأمره كان بناء ما هدم، وبأمره عوض عن الباب المحترق بباب جيد وركب في محله في يوم الجمعة ثاني عشر القعدة من السنة المذكورة، وهذا الباب كان لبعض دور السيد حسن بمكة، وكان ينقص عن مقدار باب المعلاة، فزيد فيه ما كمله وأحكمت الزيادة فيه1. وكان لمكة سور من أعلاها دون سورها اليوم قريبا من المسجد المعروف بمسجد الراية2، وموضع باب هذا السور على ما ذكر لي غير واحد فيما بين الدارين المتقابلتين. المنسوبتين لمسعود بن أحمد المعروف بالأزرقي المكي التي بإحداهما الآن ذيب مشروعة لا سقف عليها في محاذاة ركني الدارين مما يلي الردم، وإذا كان محل باب السور في محاذاة هذين الركنين فالظاهر -والله أعلم- أن محل بقية السور يحاذي بابه من جانبي الباب، وأنه من الجبل الذي إلى جهة القرارة3 ويقال له: لعلع إلى الجبل المقابل له الذي إلى جهة سوق الليل، لأن التحصن بهذا السور لا يتم إلا بأن يكون هكذا. وفي الجبلين المشار إليهما آثار بناء تدل على اتصال السور بهما، وبعض هذا السور الآن -على ما بلغني- في بعض البيوت المحاذية له، لأن بعض الناس أراني في بعض الدور المنسوبة للرالكيين جدارا عريضا ذكر أنه من السور الذي كان هناك، ونقل ذلك عن بعض أقاربه، ويقال الآن لموضع باب السور المشار إليه: الدرب الدارس، ويقال لهذا السور فيما مضى: السور الجديد، لأني وجدت بخط مسند مكة وموثقها عبد الرحمن بن أبي حرمي الكاتب العطار ما يقتضي ذلك. ومن موضع باب السور المشار إليه بالأرض عند ركني الدارين المشار إليهما مما يلي الردم إلى الجدار القبلي من المسجد المعروف بمسجد الراية: مائة ذراع وثلاثة

_ 1 إتحاف الورى 3/ 532. 2 مسجد الراية: ما زال معروفا إلى الآن بهذا الاسم، وهو المسجد الواقع بالجودرية على يمين الصاعد من المدعا إلى المعلاة، وقد جدد عام 1361هـ، وعند حفر أساسه عثر على حجرين مكتوبين يدلان على أن هذا المسجد هو مسجد الراية أحدهما تاريخه عام 898هـ، والثاني عام 1000هـ. 3 القرارة: "هو حي من أحياء مكة".

وعشرون ذراعا وربع ذراع بالذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد الآتي تحريره إن شاء الله تعالى مائة ذراع وأربعين ذراعا وستة أسباع ذراع. ومن موضع باب السور الذي أشرنا إلى جدار باب المسجد الحرام المعروف بباب بني شيبة: تسعمائة ذراع -بتقديم التاء- وعشرون ذراعا ونصف ذراع بالحديد. ويكون ذلك بذراع اليد ألف ذراع واثنين وخمسين ذراعا. وما عرفت متى أنشئت هذه الأسوار لمكة، ولا من أنشأها، ولا من عمرها، غير أنه بلغني أن الشريف أبا عزيز قتادة1 بن إدريس الحسني أحد أجداد الشريف حسين المذكور عمرها -والله أعلم- بصحة ذلك، وأظن أن في دولته عمر السور الذي كان بأعلى مكة، وفي دولته سهلت العقبة التي بني عليها سور باب الشبيكة وأصلحت، وذلك من جهة المظفر صاحب إبل في سنة سبع وستمائة2، ولعله الذي بني السور الجديد الذي كان بأعلى مكة، والله أعلم. ورأيت في بعض التواريخ ما يقتضي أنه كان لمكة سور في زمن المقتدر بالله العباسي، وما عرفت هل هو هذا السور من أعلى مكة وأسفلها أو إحدى الجهتين، والله أعلم. وطول مكة، من باب المعلاة إلى باب الماجن على خط الردم والمسعى والسوق المعروف بسوق العلافة3، ومسيل وادي إبراهيم: أربعة آلاف ذراع وأربعمائة ذراع واثنان وسبعون ذراعا- بتقديم السين- وذلك بذراع اليد الآتي ذكره -إن شاء الله تعالى- في حدود الحرم، وهو ينقص عن ذراع الحديد ثمن ذراع الحديد. وطول مكة من باب المعلاة إلى باب الشبيكة على خط الردم، والمسعى، ومسيل وادي إبراهيم -إلا أنه ينحرف عنه- إلى باب الشبيكة في الزفاق الذي يخرج منه على البيت المعروف ببيت ابن عرفة بالشبيكة: أربعة آلاف ذراع وستمائة ذراع واثنان وتسعون ذراعا -بتقديم التاء- وذلك بذراع اليد المشار إليه. ومن باب المعلاة إلى باب الشبيكة -أيضا- على خط الردم ويعدل منه من سوق الليل والحشيش إلى السويقة، ثم إلى الشبيكة: أربعة آلاف ذراع ومائة ذراع واثنان.

_ 1 هو أول من ولي مكة من الأشراف الحسنيين، وكانت ولايته سنة سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع وتسعين وخمسمائة، وتوفي بمكة في جمادي الآخرة سنة 618هـ "انظر: الكامل لابن الأثير 12/ 165، وفي الذيل على الروضتين "ص: 123"، والنجوم الزاهرة 6/ 251"، والبداية والنهاية 13/ 92 أنه توفى في سنة 617هـ. 2 إتحاف الورى 513، والعقد الثمين 7/ 101. 3 واسم هذا السوق الآن: السوق الصغير.

وسبعون ذراعا- بتقديم السين- وذلك بذراع اليد المشار إليه، وما عرفت أن أحدا قبلي اعتبر ذلك، وذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك بالأميال على قول من قال إن الميل ألف ذراع، وهو قول ابن حبيب المالكي ويقع في بعض نسخ ابن الحاجب لتشهيره1. وقول من قال إنه: ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، وهو أصح ما قيل في الميل على ما ذكره ابن عبد البر فيما نقله عنه صاحب "التوضيح" الشيخ خليل المالكي. وقول من قال: إنه أربعة آلاف ذراع، وهو الذي يعتمده أهل الحساب، وعليه أكثر الناس على ما قال القاضي أبو الوليد الباجي فيما نقله عنه صاحب "التوضيح" أيضا. وقول من قال: إنه ستة آلاف ذراع، وهو قول الأصمعي ومتابعيه من الشافعية وغيرهم. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن الناس فيما مضى كانوا لا يتجاوزون في السكنى البئر التي عند المسجد الذي عند الردم، بأعلى مكة، لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ذكر المواضع التي تستحب فيها الصلاة بمكة وآثار النبي صلى الله عليه وسلم فيها وتفسير ذلك:".... ومنها: مسجد بأعلى مكة عند الردم [الأعلى] ، عند بئر جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، ويقال لها: البئر العليا، يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، ثم قال: سمعت بعض أهل مكة من الفقهاء يقول: كان الناس لا يجاوزون في السكنى في قديم الدهر هذا البئر، إنما كان الناس فيما دونها إلى المسجد، وما فوق ذلك خال من الناس، وقال عمر بن أبي ربيعة- أو غيره- يذكر هذا البئر: نزلت بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت خلف البئر أبعدَ منزل حذرا عليها من مقالة كاشح ... ذَرِبِ اللسان يقول ما لم يفعل2 وسمعت أبا يحيى بن أبي ميسرة يقول: كان آخر البيوت عند الردم نحوا من هذا الموضع، واحتج في ذلك بقول عطاء: إذا جاوز الردم -يعني الحاج- صنع ما شاء ... انتهى. والمسجد المشار إليه هو المسجد المعروف بمسجد الراية، والبئر المشار إليها لعلها البئر التي بقرب هذا المسجد، وهي معروفة عند الناس ويستقون منها، ويحتمل أن تكون البئر التي كانت تعرف ببئر أبي المرة بقرب هذا المسجد من أعلاه، وهي الآن خافية لأنها.

_ 1 أي عده مشهورا. 2 أخبار مكة للفاكهي 4/ 19، وقد جاء ذكر هذا الموضع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، في مسند الإمام أحمد 3/ 417، وسنن ابن ماجة 1/ 334، ومسند ابن أبي شيبة 1/ 313، وذكره ابن حجر في الإصابة 3/ 391 وعزاه لابن أبي خيثمة والبغوي.

طمست من نحو اثني عشر عاما، وهي منه أبعد من البئر الموجودة الآن، والأول أقرب، والله أعلم. وللناس اليوم منازل كثيرة مسكونة فوق هذا المسجد، والبئر المشار إليها من جانبي الوادي، وهي من الجانب الذي يكون على يمين الصاعد من مكة المشرفة1. ومن الجبال المحدقة بمكة: أخشباها وهما: أبو قبيس، والجبل الأحمر على ما ذكر الأزرقي؛ لأنه قال: أخشبا مكة: أبو قبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا إلى السويداء إلى الخندمة، ثم قال بعد ذكر شيء من خبر أبي قبيس: والأخشب الآخر الجبل الذي يقال له الأحمر، وكان يسمى في الجاهلية "الأعرف"، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان وعلى دور عبد الله بن الزبير2 ... انتهى. وذكر ابن الأثير والمحب الطبري في أخشبي مكة مثل ما ذكره الأزرقي، وذكر القاضي عياض في "المشارق" وياقوت في مختصره لمعجم البلدان3، ما يقتضي خلاف ذلك في الأحمر. أما القاضي فلأنه قال: الأخشبان جبلان يضافان مرة إلى مكة ومرة إلى المدينة، أحدهما أبو قبيس والآخر قعيقعان، ويقال: بل الجبل الأحمر المشرف هنالك ويسميان الجبجبان، وقال ابن وهب: الأخشبان الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد ... انتهى. وقوله: ومرة إلى المدينة لعله ومرة إلى منى، بدليل ما حكاه عن ابن وهب، والله أعلم. وأما ياقوت فقال: "باب: الأخشب": موضعان: الأخشب الشرقي، والأخشب الغربي، وهما الأخشبان، فالشرقي، هو أبو قبيس، والغربي: قعيقعان، وقيل: بل هما أبو قبيس: والجبل الأحمر المشرف هنالك، وفد بسطا في المعجم4 ... انتهى. وأبو قبيس: بقاف مضمومة وباء موحدة مفتوحة وياء مثناة من تحت ساكنة وسين مهملة، واختلف في سبب تسميته بذلك فقيل: سمي برجل من إياد على ما قيل يقال له: أبو قبيس كان أول من بنى فيه، فلما صعد فيه البناء سمي جبل أبي قبيس، ذكر هذا القول الإمام الأزرقي5 بمعنى ما ذكرناه، وقال: ويقال اقْتُبِسَ منه الركن فسمي أبا قبيس،

_ 1 أي من طريق المدعا 2 أخبار مكة للأزرقي "2/ 166". 3 هو كتاب المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 16". 4 معجم البلدان 1/ 122. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202، 203.

والأول أشهرهما عند أهل مكة، ولم يذكر الأزرقي في سبب تسميته أبا قبيس غير هذين القولين. وقيل: إن أبا قبيس الذي سمي به هذا الجبل المشار إليه من مذحج، ذكر ذلك النووي نقلا عن ابن الجوزي، لأنه قال في "التهذيب" حكى ابن الجوزي في سبب تسميته بذلك قولين، الصحيح منهما: أن أول من نهض يبني فيه رجل من مذحج يقال له أبو قبيس، فلما صعد بالبناء فيه سمي أبا قبيس، والثاني ضعيف أو غلط فتركناه ... انتهى. والقول الذي ترك النووي ذكره هو القول الذي أشار إليه الأزرقي بقوله: ويقال: اقتبس منه الركن فسمي أبا قبيس، لأن المحب الطبري قال في "القرى" في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في فضل مكة وحرمها وأنها خير أرض الله" في الباب الأربعين: واختلف في سبب تسمية أبي قبيس بذلك، فقيل: إن أول من نهض يبني فيه رجل من مذحج يقال له: أبو قبيس فسمي به، وقيل: لأنه اقتبس منه الركن فسمي بذلك، والأول أصح، ذكره في "مثير العزم"1 ... انتهى. ومثير العزم هو "مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن"2 تأليف الحافظ أبي الفرج بن الجوزي على ما هو مشهور في هذا الكتاب إلى ابن الجوزي، ويتأيد ذلك بأن المحب الطبري قال في القرى بعد أن أخرج حديثا في الباب الأول منه: خرجه ابن الجوزي مسندا في كتاب "مثير العزم الساكن" ... انتهى. وإذا كان ما ذكره المحب الطبري في تسمية أبي قبيس مذكورا في "مثير العزم الساكن" صح ما ذكرناه في بيان القول الذي ترك النووي ذكره، والله أعلم. وذكر الفاكهي القولين في الرجل الذي بنى في أبي قبيس أولا، هل هو من إياد أو من مذحج؟ وسماه قبيسا، وهذا يخالف ما ذكره الأزرقي من أنه أبو قبيس، ولعله سقط لفظ أبي في كتاب الفاكهي3، والله أعلم. فيتحصل في نسبه قولان وفي اسمه قولان. وقيل في سبب تسمية هذا الجبل بأبي قبيس غير ما سبق، لأن أبا القاسم السهيلي قال في روضه: وثور جبل من جبال مكة، وثبير -أيضا- جبل من جبالها، ذكروا أن ثبيرا

_ 1 القرى "ص: 665"، ومثير الغرام "ص: 345". 2 طبع الكتاب بتحقيقي في دار الحديث بالقاهرة، والأرجح في تسميته: مثير الغرام. 3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 47.

كان رجلا من هذيل مات في ذلك الجبل فعرف به الجبل، كما عرف أبو قبيس بقبيس بن شالح، رجل من جرهم كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه مية، فنذرت ألا تكلمه، وكان شديد الكلف بها، فحلف ليقتلن قبيسا، فهرب منه إلى الجبل المعروف به وانقطع خبره، فإما مات، وإما تردى منه، فسمي الجبل أبا قبيس1. وذكر السهيلي: أن ابن هشام ذكره في خبر طويل في غير السيرة لابن إسحاق2. وقيل في سبب تسميته: أن النار التي بأيدي الناس اقتبست منه، وذلك أن سرحتين نزلتا من السماء فوقدتا نارا فاقتبس منهما آدم النار التي بأيدي الناس، ذكر ذلك محمد بن إبراهيم الوراق في كتاب "مباهج الفكر ومناهج العبر" وهذا معنى ما ذكره، وذكر الوراق: أنه يقال له: أبو قابوس، وشيخ الجبل، ولم أقف على هذا الكتاب الذي ذكر الوراق فيه ما حكيناه عنه في أبي قبيس، وإنما وجدته بخط بعض أصحابنا نقلا عنه. وأبو قبيس: اسم لموضعين أحدهما هذا الجبل، والآخر حصن بحلب قبالة شيزر، وذكره ياقوت في مختصره لمعجم البلدان3. وسنذكر من الأخبار المتعلقة بأبي قبيس غير ما ذكرناه هنا عند ذكره في الباب الحادي والعشرين من هذا الكتاب. والأحمر الذي قيل فيه إنه أحد أخشبي مكة -بحاء وراء مهملتين بينهما ميم- ومنه على ما قيل بنى الخليل إبراهيم عليه السلام الكعبة على ما رويناه عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وروينا ذلك عن أبي قلابة في تاريخ الأزرقي4. والأحمر اسم لثلاثة مواضع على ما ذكر ياقوت في معجم البلدان5 لأنه قال: باب الأحمر: ثلاثة مواضع، الأول: الأحمر، جبل مشرف على قعيقعان، كان يسمى في الجاهلة الأعرف. الثاني: الأحمر، حصن بسواحل الشام، كان يعرف بعَثليث. الثالث: الأحمر، ناحية بالأندلس من ناحية سرقسطه يقال له: البرج الأحمر ... انتهى. وقعيقعان الذي قيل إنه أحد أخشبي مكة، قال ياقوت في تعريفه لما ذكر المواضع التي سميت قعيقعان: جبل مشرف على مكة، وجهه إلى أبي قبيس.

_ 1 الروض الأنف 1/ 175. 2 الروض الأنف 1/ 221. 3 المشترك وضعا "ص: 11". 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 267. 5 معجم البلدان 1/ 117.

وذكر أن قعيقعان بضم القاف وفتح العين1 ... انتهى. وذكر النووي ما يوافق ذلك، لأنه قال بعد أن ذكر محله من "الروضة" وهو بضم القاف الأولى وفتح العين وبعدها ياء مثناة من تحت ساكنة وكسر القاف الثانية، وهو جبل مكة المعروفة ومقابل لأبي قبيس2 ... انتهى. وقوله: وقول ياقوت في تعريف قعيقعان هذا: إنه مقابل أبي قبيس يفهم أنه أخشب مكة الآخر، والله أعلم. والأخشب في اللغة: كل جبل خشن غليظ. ذكر ذلك ابن الأثير، وهو في صحاح الجوهري بمعنى ذلك. وسمي قعيقعان: لقعقعة سلاح مضاض بن عمرو الجرهمي وقومه فيه لما خرجوا لقتال قطورا على ما سنذكر في خبرهم في الباب الخامس والعشرين إن شاء الله تعالى، وقيل: لقعقعة سلاح تُبَّع لما قدم مكة لتعظيم حرمة البيت بعد أن كان له فيه رأي غير ذلك. وقعيقعان اسم لخمسة مواضع، ذكر ياقوت في مختصره لمعجم البلدان3 منها ثلاثا: هذا، ومنه موضع على اثني عشر ميلا من مكة على طريق الجرف إلى اليمن -ونقل ذلك عن عرام- وعندها قرية بها ماء وزروع ونخيل، ومنها: جبل بالأهواز، منه نحتت أساطين جامع البصرة ... انتهى ما ذكره ياقوت بالمعنى. والموضعان اللذان لم يذكرهما ياقوت هما موضع مشهور يليه واد مشهور قرب الطائف، وحصن باليمن بين ذمار وإرياب4 أفادَنيه من يُعتمد عليه من الأصحاب، وبقية الجبال بمكة، والخارجة عنها لا يعرف منها بما ذكره الأزرقي من أسمائها إلا القليل، ولذلك أعرضنا عنه. وبمكة أبنية كثيرة، ولم يذكر منها إلا الأماكن المباركة والمآثر، وإنما أعرضنا عن ذكر ما سوى ذلك من الأبنية، لأنها إنما تعرف بمن هي في أيديهم، وتعريفها بهم لا يجدي إلا في الوقت الحاضر، لأجل نقلها من أيديهم بالبيع وغيره، وتشتهر بمن صارت إليه وتنسى معرفتها بمن كانت به معروفة من قبل في الغالب، كما جرى للأزرقي في تعريفه رباع مكة، فإنها لا يعرف الآن منها بما ذكره الأزرقي إلا النادر كما سيأتي بيانه.

_ 1 المشترك وضعا "ص: 355". 2 تهذيب الأسماء واللغاء 2 ق 2 110. 3 المشترك وضعا "ص: 355". 4 "ذمار وإرياب" مدينتان كبيرتان باليمن أحدهما لواء من ألوية اليمن الآن.

ووقع فيما ذكرناه من أمر مكة ذكر المعلاة فنذكر حدها وحد ما يعرف من مكة بالمسفلة. وقد ذكره الأزرقي في تاريخه لأنه قال: "المعلاة وما يليها من ذلك"1. حد المعلاة من شق مكة الأيمن: ما جاوز دار الأرقم بن أبي الأرقم، والزقاق الذي على الصفا يصعد منه إلى جبل أبي قبيس مصعدا في الوادي، فذلك كله من المعلاة، ووجه الكعبة والمقام وزمزم وأعلى المسجد. وحد المعلاة من الشق الأيسر: من زقاق البقر الذي عند الطاحونة، ودار عبد الصمد بن علي اللبان، مقابل دار يزيد بن منصور الحميري خال المهدي، يقال لها: دار العروس مصعدا إلى قعيقعان، ودار جعفر بن محمد، ودار العجلة، وما جاز سيل قعيقعان إلى السويقة، وقعيقعان مصعدا، فذلك كله من المعلاة. وحد المسفلة من الشق الأيمن: من الصفا، إلى أجيادين فما أسفل منه فذلك كله من المسفلة. وحد المسفلة من الشق الأيسر: من زقاق البقر منحدرا إلى دار عمرو بن العاص، ودار ابن عبد الرزاق الجمحي، ودار زبيدة، فذلك كله من المسفلة، فهذه حدود المعلاة والمسفلة ... انتهى. وهذه الدور التي ذكرها الأزرقي لا يعرف منها الآن غير دار الأرقم، ودار العجلة. وأما دار عمرو -المشار إليها- فلعلها من الموضع المعروف بخزانة قريش، لأنها بقرب باب المسجد الحرام الذي يقال له: باب عمرو بن العاص -على ما ذكر الأزرقي- وهو الباب المعروف بباب السدة2، وتولى بيع ذلك في عصرنا أناس كثيرون من ذرية عمرو بن العاص -رضي الله عنه- غالبهم يسكن الموضع المعروف بالوهط من بلاد الطائف، ومنهم صارت للشهاب بركوت3 المكين، وعمر فيها عمارة حسنة جدا، لا يوجد مثلها بمكة، وأدار عليها حائطا مرتفعا من جميع جوانبها، وكان ابتداء عمارته لذلك في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة4. ولعل زقاق البقر المذكور في حد المعلاة والمسفلة هو الزقاق الذي يصعد منه إلى الموضع المعروف بمعبد الجنيد، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 266. 2 سمي بالسدة لأنه سد ثم فتح. 3 ذكره الحافظ السخاوي في الضوء اللامع 3/ 15 رقم 61. 4 إتحاف الورى 3/ 482.

وأظن أن دار العجلة ينقص مقدارها عما كان في زمن ابن الزبير -رضي الله عنه- لكونها ذكرت في حد المسفلة والمعلاة، ولا يكون كذلك إلا أن يكون منها الموضع المعروف بدار أبي سعيد، والله أعلم. وإذا خفي غالب الدور التي ذكرها الأزرقي في حد المعلاة والمسفلة، فكيف بما ذكره من تعريف رباع مكة كلها بمن تنسب إليه، وهذا يؤيد ما ذكرناه من أن تعريف رباع مكة بمن هي في أيديهم لا يجدي في الوقت الحاضر، والله أعلم. وحوز أهل المسفلة في عصرنا من جهة الصفا يمتد إلى الميل الذي بمنارة المسجد الحرام المعروفة بمنارة باب علي، وكان يمتد حوزهم إلى المطهرة الناصرية بالمسعى على ما قيل، وحوزهم من جهة دار العجلة إلى الدار المعروفة بدار أبي سعيد، وهي ملاصقة لدار العجلة. وذكر الفاكهي ما يقتضي تفضيل المعلاة على المسفلة لأنه قال: "ذكر فضل المعلاة على المسفلة" حدثنا الزبير بن أبي بكر، حدثنا حمزة بن عتبة اللهبي قال: سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حد المشاعر بالمعلاة، والمسفلة، والجمار، والصفا، والمروة، والسعي، والركن، والمقام، والحجر، برز إلى أسفل مكة فنظر يمينا وشمالا فقال: "ليس لله تبارك وتعالى فيما ههنا حاجة" يعني من المشاعر1 ... انتهى. وهذا خبر غريب، ولذلك أوردناه والله أعلم بصحته. وأول دار بنيت بمكة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة: دار الندوة، بناها قصي بن كلاب لما ملك مكة ليحكم فيها، يجتمع فيها هو وقومه للمشورة، واقتدت به قريش من بعده في الاجتماع بها للمشورة بها تبركا برأيه، ودخلت كلها في المسجد الحرام دفعات. وذكر الزبير بن بكر، عن أبي سفيان بن أبي وداعة السهمي أن سعيد بن عمرو بن هصيص السهمي أول من بنى بمكة بيتا وأنشد لأبي سفيان في ذلك شعرا يدل عليه وهو قوله: وأول من بوا بمكة بيته ... وسور فيها ساكنا بأثاف2 ولم يذكر أنه جعل بابها إلى مسجد الكعبة، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 99، والحديث إسناده ضعيف، فيه "حمزة بن عتبة اللهبي" ذكره ابن حجر في اللسان 2/ 360، وقال: لا يعرف، وحديثه منكر، وانظر ترجمته في العقد الثمين 4/ 228. 2 تاريخ القطبي "ص: 23"، وفي الجامع اللطيف لابن ظهيرة "ص: 26" أن حميد بن زهير أول من بنى بيتا مربعا بمكة.

وينبغي لمن بنى بمكة بيتا أن لا يرفع بناءه على الكعبة، فإن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كان يأمر بهدمه، وهذا في تاريخ الأزرقي1، لأن فيه: ما جاء في أسماء الكعبة، ولم سميت الكعبة، وأن لا يُبنى بناء يشرف عليها، ثم قال: حدثني جدي، عن ابن عيينة، عن ابن نبيه الحجبي، عن شيبة بن عثمان أنه كان يشرف فلا يرى بيتا مشرفا على الكعبة إلا أمر بهدمه. ثم قال: قال جدي: لما أن بنى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس- رضوان الله عليهم - داره التي بمكة على الصيارفة حيال المسجد الحرام أمر قوامه أن لا يرفعوها فيشرفوا بها على الكعبة، وأن يجعلوا أعلاها دون الكعبة فتكون دونها، إعظاما للكعبة أن يشرف عليها، قال جدي2: فلم يبق بمكة دار لسلطان ولا لغيره حول المسجد الحرام تشرف على الكعبة إلا هدمت أو خربت إلا هذه الدار فإنها على حالها إلى اليوم3. وبمكة عين جارية من أعلاها إلى أسفلها، ويختلف جريانها إذا كثر فيها الماء وصل إلى البركة المعروفة ببركة الماجن، وإذا قل بلغ سوق الليل، وهذه العين معروفة عند الناس بعين بازان4 -بباء موحدة وزاي معجمة بينهما ألف. وبمكة آبار كثيرة غالبها مسبلة، وسقايات وبرك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك كله بأوضح من هذا. وبها حمامان، أحدهما: لأبي العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري بأجياد، وقفه على رباطه بالمروة، والآخر: لا أعرف من ينسب إليه، ولعله الحمام الذي بناه الجواد وزير صاحب الموصل. وكان بمكة على ما ذكره الفاكهي ستة عشر حماما، وبين الفاكهي مواضعها من البلد، وليس منها الآن شيء معروف. وذكر أن بأجياد منها ثلاثة، وأن بشعب ابن عامر اثنين، وشعب ابن عامر هو الشعب المعروف عند الناس بشعب عامر بأعلى مكة. وذكر الفاكهي بعد عده لهذه الحمامات حماما آخر قال: يقال إنه بالصفا. فتصير به الحمامات التي كانت بمكة -إن صح أمره- سبعة عشر حماما5، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 279. 2 أي جد الأزرقي. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 282، 283. 4 لا تزال هذه العين باسم بازان سوق الليل" موجودة إلى الآن، ومعروفة بالسبع آبار. 5 أخبار مكة للفاكهي 3/ 101.

وبمكة مخاليف1 كثيرة معروفة إلى الآن، منها: وادي الطائف ويشتمل على قرى كثيرة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- شيء من خبره، ووادي ليه، ويشتمل على قرى كثيرة، ووادي مر، ويقال له: مر الظهران، والهدة 2 هدة لبني جابر، ووادي نخلة، وهذه الثلاثة الأودية تشتمل على قرى كثيرة فيها نخل وأشجار وعيون جارية، وفيها مواضع كثيرة متخربة تدل على أنها كانت معمورة بالعيون وغير ذلك، وما عرفت أول من أنشأ هذه العيون. وأقدم قرى وادي مر ذكرا "سروعة"3؛ لأنها مذكورة في كتاب الفاكهي في ذكر فضل جدة4. ورأيت لأرض حسان ذكرا في مكتوب مبيع منها في عشر السبعين- بتقديم السين - وخمسمائة، وإلا ففي عشر الثمانين، الشك مني. وذكر السهيلي خلافا في تسميته بمر قال: وسمي مرا، لأن في عرق من الوادي من غير لون الأرض شبه الميم الممدودة بعدها راء، خلقت كذلك، قال: ويذكر عن كثير: سميت من المرار لها5، ولا أدري ما صحة ذلك6 ... انتهى. ونقل الحازمي عن الكندي أن مرا اسم للقرية، والظهران اسم للوادي ... انتهى. ومن مر إلى مكة فيما قال البكري: ستة عشر ميلا7. وقيل: ثمانية عشر، وقيل: إحدى وعشرون، حكاه ابن وضاح، والله أعلم.

_ 1 المخاليف جمع مخلاف وهو مجموعة من القرى والبلاد. 2 قال ياقوت في معجم البلدان: الهدة بتخفيف الدال من الهدي، أو الهدي بزيادة هاء، بأعلى مر الظهران. ممدرة أهل مكة. والمدر طين أبيض يحمل منها إلى مكة "معجم البلدان 5/ 395، 396"، والهدة، بالفتح ثم التشديد وهو الخفة في الأرض، والهد: الهدم، وهو موضع بين مكة والطائف. والنسبة إليه هدوي وهو موضع القرود. وقد خفف بعضهم داله "5/ 395"، وقال أيضا: والهدى بالفتح موضع في نواحي الطائف، وقال أيضا: والهدأة: موضع بين عسفان ومكة، قلت: والمراد هنا الأول وهو المعروف في زماننا هذا بهدي الشام. 3 قال ياقوت: سروعة- بفتح أوله وسكون ثانية وفتح الواو وعين مهملة-، وقال: قال الأصمعي: سروعة: جبل بعينه بتهامة لبني الدول بن بكر، وخبرني من أثق به من أهل الحجاز أن سروعة بسكون الراء، قرية من قرى وادي مر الظهران، فيها نخل وعين ماء جارية، إلا أن البلادي قد أفاد أن هذه العين انقطعت منذ عهد قريب "معجم البلدان 3/ 218، ومعجم معالم الحجاز "4/ 196- 197". 4- أخبار مكة للفاكهي 3/ 54. 5 كذا بالأصل 6 الروض الأنف 1/ 114. 7 معجم ما استعجم 4/ 1212.

وبعض وادي نخلة يعرف بنخلة الشامية، وبعضه يعرف بنخلة اليمانية، فمن الشامية: البردان، والتنضب1 وبشراك، وخيف بني عمير، وما يلي ذلك. ومن اليمانية: سولة2 والزيمة3. ويقال لنخلة: بستان ابن عامر: ذكر ذلك ابن سيد الناس في سيرته4 لما ذكر سرية عبد الله بن جحش -رضي الله عنه- إلى نخلة، ويقال لنخلة: بستان بني عامر، كذا في كتب الحنفية، ولعله تصحيف، والله أعلم. ووادي نخلة من مكة على ليلة، وقد ذكر ابن خرداذبه في كتابه "المسالك والممالك"5 في مخاليف مكة بما لم يذكر غيره فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، لأنه قال: ومخاليف مكة: نجد، والطائف، ونجران، قال الشاعر: وكعبة نجران حتم عليك ... حتى تُناخي بأبوابها وقرن المنازل الذي يقول فيه الشاعر: ألم تسأل الربع أن ينطقا ... بقرن المنازل إن6 أخلقا وبالغيل7، وعكاظ8، ولية9، وتربة 10 وبيشة11، وتبالة12، والهجيرة13،

_ 1 البردان، والتنضب: قريتان أو عينان عليهما زروع ونخيل بأعلى نخلة الشمالية، قال الشاعر: ظلت بروض البردان تغتسل ... تشرب منها نهلات وتعل 2 سولة: قلعة على رابية بوادي نخلة تحتها عين جارية ونخل، وهي لبني مسعود -بطن من هذيل- قال محمد بن إبراهيم بن قرية: مرتعي من بلاد نخلة بالصيف بأكناف "سولة". "معجم البلدان 3/ 285". 3 الزيمة: قرية قريبة من سولة وبها عين وبساتين وجميع المصطافين بالطائف يمرون بها في حالتي الذهاب والإياب. وبها أشجار الموز والليمون وكثير من الفواكه والخضار وهي أخصب من سولة في ذلك، وأكبر منها وأعمر لوقوعها في الطريق، ولانحراف سولة عن الطريق. "وانظر: معجم البلدان 3/ 165". 4 عيون الأثر 1/ 228. 5 المسالك والممالك "ص: 133. 6 في "المسالك والممالك": "قد" بدل "إن". 7 الغيل: موضع في صدر يلملم. ويلملم وادٍ في جنوب مكة على ليلتين منها، وهو ميقات أهل اليمن، وبه مسجد معاذ بن جبل رضي الله عنه. "معجم البلدان 4/ 222". 8 عكاظ: نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال. "معجم البلدان 4/ 142". وهو ما يسمى الآن بالسيل، على أكثر الأقوال، في طريق الطائف، وبه عين وقليل من النخل، وبه مقاه ومساكن. 9 لية: وادي لية مشهور من جهة الشرق بالطائف. "معجم البلدان 5/ 30". 10 تربة: بالضم ثم الفتح. وادٍ بالقرب من مكة على مسافة يومين منها. "معجم البلدان 2/ 21". 11 بيشة: أيضا واد من أودية الحجاز المشهورة، من عمل مكة مما يلي اليمن. "معجم البلدان 529" 12 تبالة: موضع في جنوب بيشة على مسيرة ليلة منها. "انظر عنها: معجم البلدان 2/ 9، 10". 13 الهجيرة: موضع بتلك النواحي.

ولنية1، وجرش2، والسراة3، ومخاليفها بتهامة ملكان4، وعشم5، ويسر6، وعك7 ... انتهى. وبعض ما ذكره ابن خرداذبه من هذه المخاليف لا يعرف، ولا يبعد أن كون تصحيفا. وقد ذكر جماعة من الفقهاء الشافعية أن الطائف ووجا وما ينضاف إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من أعمالها، نقل ذلك النووي في "الروضة" ونص كلامه في كتاب عقد الجزية والهدنة: قال الإمام -يعني إمام الحرمين أبا المعالي الجويني-: قال الأصحاب: الطائف ووج- وهو وادي الطائف- وما ينضاف إليهما منسوبة إلى مكة، معدودة من أعمالها، وخيبر8 من مخالف المدينة ... انتهى. ونجران ليست من الحجاز وإن كانت من مخاليف مكة فيما قيل، وممن ذكر أنها ليست من الحجاز: الجوهري في "صحاحه" لأنه قال: نجران بلد باليمن ... انتهى. وفي "التهذيب" للشيخ أبي إسحق الشيرازي: وأما نجران فليست من الحجاز ... انتهى. ونجران فيما قال النووي بين مكة واليمن على نحو سبع مراحل من مكة، وكانت منزلا للنصارى ... انتهى. وذكر النووي ما يقتضي أن فيما ذكره ابن خرداذبه من أن نجران من مخاليف مكة نظر، لأنه قال: وأما قول الإمام الحافظ أبي بكر الحازمي في كتابه "المؤتلف والمختلف" في الأماكن: إن نجران من مخاليف مكة من صوب اليمن، فيه تساهل9.

_ 1 لنية: لعلها رنية قرب بيشة وتثليث. وبمبم. وكلها لبني تميم "معجم البلدان 3/ 74". 2 جرش: واقعة في المنطقة المسماة بعسير اليوم. وهي بالضم ثم الفتح. 3 السراة: يطلق على جبال الحجاز الفاصلة بين تهامة ونجد وبها سمي الحجاز. "معجم البلدان 3/ 205". 4 ملكان: بالتثنية وفتح اللام جبل بالطائف. وبكسر اللام: واد لهذيل وكلاهما بالحجاز. "معجم البلدان 5/ 194" وقد صحف في "المسالك 133" إلى: "ضنكان". 5 عشم: قرية متيامنة من قرى تهامة "معجم البلدان 4/ 156". 6 يسر بضم الياء والسين: نقب تحت الأرض به ماء، وموقعه بالدهناء. "معجم البلدان 5/ 436". 7 عك: اسم قبيلة وربما كانت من قبائل عسير، يضاف إليها مخلاف باليمن. "معجم البلدان 4/ 142. 8 لعله يريد خيبر الشمالية فهي لا شك من أعمال المدينة المنورة، أما خيبر الجنوبية فهي من أعمال مكة. 9 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 176.

والتساهل الذي في كلام الحازمي يلزم مثله في كلام ابن خرداذبه على مقتضى قول النووي، وقد يقال: لا تساهل في كلام الحازمي؛ لأنه لا يلزم من قولهم إن نجران من مخاليف مكة من صوب اليمن أن يكون نجران من الحجاز، لجواز أن تكون مخاليف مكة في الحجاز واليمن، وأن سبب عد نجران وما دونها إلى مكة في مخاليف مكة كون ولاية والي مكة فيما مضى كانت تمتد إلى ذلك، وهذا لا مانع منه، لأن المأمون العباس ولَّى داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي مكة والمدينة، وأضاف إليهما بلاد عك، ولعل ذلك اتفق لغيره من ولاة مكة العباسيين، ويتأيد ما ذكرناه بما ذكره ابن خرداذبة في مخاليف مكة، والله أعلم. وكأن النووي - رحمه الله- توهم أن بعد نجران من مكة لكونها باليمن يخرجها عن أن تكون من أعمال مكة وليس كذلك، لأن مجرد القرب من مكة لا يقتضي أن يعد في أعمال مكة ما هو أقرب إليها من نجران، كخُلَّيْصٍ مثلا لأن خُلَّيْصًا1 لم تعد في أعمال مكة، وهي منها على يومين، وذكروا أن منتهى عمل مكة من جهتها: جنابذ بن صيفي، بين عسفان ومر الظهران كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام الفاكهي، وليست جنابذ بن صيفي معروفة الآن. وإذا كان مجرد القرب من مكة ليس موجبا لعد ما قرب منها من أعمالها، فالظاهر أن المراعَى في عد ما ذكره العلماء في أعمال مكة، وإن كان بعيدا عنها كثيرا، كون ولاية والي مكة -فيما مضى- شملت ذلك: فيقبل من الفاكهي، وابن خرداذبه، وغيرهم، ما ذكروه في أعمال مكة، وإن كان بعيدا جدا عنها لكونه في أطراف الحجاز وبلاد اليمن، كنجران، وعك، وغير ذلك، والله أعلم. وذكر الفاكهي شيئا مفيدا في مخاليف ونص ما ذكره: ذكر حدود مخاليف مكة ومنتهاها، وتفسير ذلك: وأعمال مكة ومخاليفها كثيرة، ولها أسماء نقصر عن ذكرها لاختصار الكتاب، ولكنا نذكر منتهى حدودها التي تنتهي إليه، فآخر أعمالها مما يلي طريق المدينة موضع يقال له: جنابذ بن صيفي فيما بين عسفان ومر، وذلك على يوم وبعض يوم، وآخر أعمالها مما يلي طريق الجادة في طريق العراق: الغمير2، وهو قريب

_ 1 "خليص" قرية في طريق المدينة المنورة بعد عسفان، وهي مشهورة بهذا الاسم إلى الآن. وقال ياقوت في معجم البلدان 2/ 387: "هو حصن بين مكة والمدينة". 2 المراد بالجادة: طريق الحاج العراقي المعروفة "بالمتقى" الذي هو "درب زبيدة". وذات عرق تبعد عن مكة حوالي "100كم" وتسمى اليوم "الضريبة" وهي مهجورة، وأما "الغمير" فهو أحد الأودية التي تصب في نخلة الشامية، وقد ذكره الحربي في المناسك "ص: 351- 352 فذكر أن من ذات عرق إلى الغمير: سبعة أميال. ومن الغمير إلى قبر أبي رغال: ميلان. ثم قال: وبالغمير عين جارية وبركة يجتمع فها ماء العين. وحوانيت كثيرة خراب، وأما "البلادي" في معجم معالم الحجاز 1/ 171 فرجح أن اسم الغمير حول اليوم إلى اسم "الباثة".

من ذات عرق، وذلك على يوم وبعض يوم، وآخر أعمالها مما يلي طريق اليمن في طريق تهامة اليوم موضع يقال له: ضنكان1، وذلك على عشرة أيام من مكة، وقد كان آخر أعمالها فيما مضى بلاد عك داخلا في اليمن إلى قريب من عدن، وآخر أعمالها مما يلي اليمن في طريق النخل، وطريق صنعاء موضع يقال له: نجران، وهو آخر مخاليفها. وأبعده من مكة: نجران على عشرين يوما من مكة، وهي أرض طيبة عذبة2 ... انتهى باختصار، والله أعلم. وأما قول الفاكهي: إن نجران على عشرين يوما من مكة فهو مخالف لما سبق من قول النووي: إن نجران من مكة على سبع مراحل2 ... انتهى. والسبع مراحل لا تكون عشرين يوما، والله أعلم. وكلام الفاكهي يوهم أن نجران من مكة أبعد مما بين بلاد عك ومكة، ولم يرد ذلك الفاكهي، لأن قوله: وقد كان آخر أعمالها فيما مضى بلاد عك داخلا في اليمن إلى قريب من عدن3، يقتضي أن بلاد عك قريبة من عدن، ونجران ليست بهذه الصفة. وأما قول الفاكهي: إن نجران أبعد مخاليف مكة فمراده به: بعد بلاد عك، لأنها كانت أبعد أعمال مكة، ثم صار أبعدها نجران، وأدرك ذلك الفاكهي فقال: إن نجران أبعد مخاليف مكة. وبذلك يعلم أن لا تناقض في كلام الفاكهي، وليس كل ما ذكره الفاكهي، وابن خرداذبه في مخاليف مكة معدود اليوم في أعمال مكة، لأن كثيرا من ذلك ليس لأمير مكة الآن فيه كلام. وأبعد مكان عن مكة لأميرها الآن فيه كلام: الحسبة- بحاء وسين مهملتين وباء موحدة -وهي بلدة في صوب اليمن على طريق تهامة4، وبينها وبن قنونا5 يوم، وبين خلى6 يومان.

_ 1 ضنكان: واد في جنوب تهامة على سفوح جبال السراة، وينتهي بالبحر الأحمر ويصب فيه، وقد ذكره ابن خرداذبه بين مخاليف مكة "المسالك والممالك ص: 133، معجم البلدان 3/ 464". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 106. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 107، ومعجم البلدان 4/ 142. 4 معجم البلدان 2/ 258. 5 قنونا: هي بلدة القنفذة، وهي ميناء من موانيء الحجاز الجنوبية "جغرافية شبه جزيرة العرب لعمر رضا كحالة ص: 28" وفي معجم البلدان 4/ 409: قنوني: بالفتح ونونين، بوزن فعوعل. 6 صفة جزيرة العرب اللهمذاني "ص: 120.

وكلامه فيها: باعتبار أن له على مزارعها كل سنة مائة غرارة مكية، وله مثل ذلك على بلدة يقال لها: دوقة1 على يوم من الحسبة، وله مائتا غرارة على الواديين، وله مثل ذلك على الليث2، ويبعث أمير مكة إلى كل من هذه الأماكن من يقبض ذلك من أهلها. وأبعد مكان عن حد هذه الأماكن عن مكة لأميرها فيه كلام الآن: وادي الطائف، ووادي ليه، ولأمير مكة فيهما من الكلمة والعادة على أهلها أكثر مما له على الأماكن السابق ذكرها، ووادي الطائف، ووادي ليه داخلان في ولاية قاضي مكة، وله بهما نواب. وأبعد مكان عن مكة في صوب المدينة لأمير مكة الآن فيه كلام: وادي الهدة - هدة بني جابر وهو على مرحلة من مر الظهران. وولاة مكة الآن يأخذون ما يغرق في البحر فيما بين جدة ورابغ3 ويرون أن ذلك يدخل في عملهم، وجدة من أعمال مكة في تاريخه وفيما قبله، وهي على مرحلتين من مكة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر شيء من خبرها. ومما يناسب ذكره في هذا الكتاب بيان الحجاز لتكرر ذكره فيه، وهو: مكة، والمدينة، واليمامة، ومخاليفها. وبهذا فسر الإمام الشافعي في "الأم" الحجاز فيما نقله عنه البندنيجي، وفي دخول اليمن في الحجاز وجهان. وقيل: إن تبوك، وفلسطين، من الحجاز، وقيل: إن حدود الحجاز مما بين جبلي طييء إلى طريق العراق. وسمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، قاله ابن الكلبي والأصمعي وغيرهما. واليمامة المشار إليها من اليمن على مرحلتين من الطائف وعلى أربع من مكة، قاله النووي في "تهذيب الأسماء واللغات4". فعلى هذا لا تكون البلاد المعروفة ببجيلة من الحجاز لأنها على الطائف أبعد مما بين الطائف واليمامة. وبلاد بجيلة واليمامة في جهة واحدة وهي جهة نجد اليمن، ولكن بلاد بجيلة أكثر دخولا في اليمن من اليمامة فلا يستقيم عد بلاد بجيلة في الحجاز، والله أعلم. وأهل مكة إلى الآن لا يطلقون الحجاز إلا على الطائف وما قرب منه كلية ولا يطلقون ذلك على بلاد بجيلة، ولعل ذلك لكونها داخلة في اليمن، والله أعلم. والمخاليف المذكورة في حد الحجاز هي مخاليف مكة والمدينة واليمامة. والمخاليف قرى مجتمعة، والمخاليف -بفتح الميم والخاء- جمع مخلاف -بكسر الميم- ومكة من تهامة، قاله النووي5.

_ 1 دوقة: واد على طريق الحاج من صنعاء إذا سلكوا، بينه وبين يلملم ثلاثة أيام. "معجم البلدان 2/ 485". 2 الليث: بكسر اللام ثم الباء ساكنة. وينطقها أهل الحجاز الليث، بالكسر المشدد في أوله وإبدال الثاء تاء، وهو واد بأسفل السراة يدفع في البحر "معجم البلدان" 5/ 28". 3 رابغ: هو واد يقطعه الحاج بين البزواء والجحفة دون عزوز "معجم البلدان 3/ 11". 4 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 201. 5 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 1/ 44.

ثانيا: ذكر حكم بيع دور مكة وإجارتها

ثانيًا: ذكر حكم بيع دور مكة وإجارتها: اختلف العلماء -رحمهم الله- في ذلك؛ فحكى الشيخ أبو جعفر الأبهري عن الإمام مالك -رحمة الله عليه: أنه كره بيعها وكراها؛ فإن بيعت أو أكريت لم يفسخ. وقال اللخمي: اختلف قول مالك في كراء دور مكة وبيعها، فمنع من ذلك مرة، نقل ذلك عن الأبهري واللخمي: ابن رشد في "مقدماته"، وذكر أنه لم يختلف قول مالك وأصحابه في أن مكة افتتحت عنوة، وأنهم اختلفوا هل من بها على أهلها فلم تقسم لما عظم الله من حرمتها، أو أقرت للمسلمين، قال: وعلى هذا جاء الاختلاف في كراء بيوتها ... انتهى. وجواز البيع والكراء في دور مكة ينبني على القول بالمن بها على أهلها، ومنع ذلك ينبني على القول بأنها أقرت للمسلمين، وفي هذا القول نظر؛ لأن غير واحد من علماء الصحابة وخلفائهم -رضي الله عنهم- اشترى دورا بمكة ووسع بها المسجد الحرام، وكذلك أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه، وأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- واشترى أمير المؤمنين معاوية -رضي الله عنه- دار الندوة، ودار أم المؤمنين خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- بمكة، وغير ذلك من دورها، وكل ذلك منقول من تاريخ الأزرقي1، وبعضه في غيره، واشترى لعمر -رضي الله عنه- عامله على مكة دارا للسجن بها على ما رويناه في صحيح البخاري؛ لأنه قال: باب الربط والحبس في الحرم، واشترى نافع بن عبد الحارث دارا للسجن بمكة من صفوان بن أمية على أن عمر -رضي الله عنه- إن رفض. وروى الأصيلي وأبو ذر: على أن عمر رضي الله عنه. وروى القابسي: على إن رضي عمر فالبيع بيعه، وأن عمر -رضي الله عنه- لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 164.

وعند أبي ذر في روايته: أربعمائة دينار، وروي في بعض النسخ: المسجد بدل الحرام، وفي بعض النسخ: دار السجن بالإضافة وفتح السين، وروي أيضا: بالبيع، فالبيع بيعه ... انتهى. نقلت هذه الروايات من خط بعض مشايخنا، وروينا ذلك متصلا في تاريخ الأزرقي، وأفاد فيه غير ما في البخاري، لأن الأزرقي قال فيما رويناه عنه: حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن فروخ، قال: إن نافع بن عبد الحارث ابتاع من صفوان بن أمية دار السجن -وهي دار أم وائل- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر -رضي الله عنه- فالبيع له، وإن لم يرض عمر فلصفوان أربعمائة1 ... انتهى. ونافع بن عبد الحارث -هذا- هو الخزاعي عامل عمر بن الخطاب على مكة، كان من كبار الصحابة وفضلائهم على ما ذكر ابن عبد البر2، ولا يمتري في أنه لم يقدم على ما فعل إلا برضى أمير المؤمنين عمر بذلك وإذنه فيه، ومن المعلوم ضرورة أن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- كان في العلم والورع بالمحل الأعلى، ولا ريب في أنه ومن ذكرنا من علماء الصحابة -رضي الله عنهم- أعلم ممن بعدهم بما يصلح في أرض مكة، وأنه لو كان عندهم علم عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أقرت للمسلمين لما أقدموا على ما فعلوا، ويبعد جدا أن يصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويخفى عليهم وعلى غيرهم من علماء الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنه لم يحفظ عن غيرهم أنه أنكر على أحد منهم ما فعل، ولو كان عندهم علم بخلاف ما فعل المشار إليهم لما سكتوا عن الإنكار عليهم. وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- "من أكل من أجر بيوت مكة فإنما يأكل نارا" فقد اختلف في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه على عبد الله، والصحيح أنه موقوف عليه على ما ذكر الدارقطني3، وعلى وقفه فلا حجة فيه على تحريم كرائها، وبتقدير رفعه فليس ذلك لعدم الملك، وإنما هو بحسب المكتسب، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام. وإنما كان الكراء فيها خبيثا، لما فيه من ترك مواساة المحتاجين من الحجاج بالسكنى، وقد قال السهيلي بوجوب السكنى بمكة للحجاج كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما حديث علقمة بن نضلة الكناني -ويقال الكندي-: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما- وما تدعى رباع مكة إلا السوائب" هكذا عند ابن

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 165. 2 الاستيعاب 3/ 539. 3 سنن الدارقطني 1/ 57 رقم "226".

ماجه1، ولفظه عند الأزرقي "كانت الدور والمساكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم- ما تكرى ولا تباع، ولا تدعى إلا السوائب، ومن احتاج سكن، ومن استغنى أسكن"2 ... انتهى. فإنه لا دلالة فيه على نهي النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر -رضي الله عنهما- عن بيع دور مكة وكرائها، وإنما فيه دلالة على عدم وقوع ذلك في زمن المشار إليهم، ولا يلزم من عدم وقوع ذلك في زمنهم منعه، إذ الإنسان يترك ما يجوز له فعله دهرا طويلا، على أن دلالة حديث علقمة على عدم وقوع بيع دور مكة وكرائها في زمن المشار إليهم، معارضة بما وقع من شراء عمر وعثمان -رضي الله عنهما -لدور مكة، ووقع ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الفاكهي قال في كتابه "أخبار مكة": حدثنا حسين بن حسن قال: كتبت إلى عبد الرحمن بن مهدي أسأله عن كراء دور مكة وشرائها، قال: فكتب إلي إنك كتبت إلي تسألني عن أشرية دور مكة وكرائها، فأما الشراء فقد اشترى الناس وباعوها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم3 ... انتهى. وحسين بن حسن هو المروزي صاحب ابن المبارك، قال فيه أبو حاتم صدوق4. وقد روى عنه الترمذي، والنسائي، وإذا تعارض ذلك مع حديث علقمة فهو مقدم على حديث علقمة؛ لأن حديث علقمة حاصله شهادة على نفي، وفي مثل هذا يقدم المثبت، ويتعين حمل حديث علقمة على أن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم- كان الغالب من فعل الناس بمكة تركهم بيع دورهم بمكة وكرائها لعدم الحاجة إلى ذلك، وتوسعة على الوافدين والمحتاجين، ولما كان وقوع خلاف ذلك نادرا لم يستحضره علقمة في حال تحديثه بحال دور مكة، ونفاه في حديثه، والله أعلم. وعلقمة لا صحبة له، وإن كان ابن عبد البر قد ذكره في الصحابة في كتابه المسمى بالاستيعاب، وذكره ابن حبان في أتباع التابعين، وذكر ابن منده أنه تابعي، والله أعلم. وفي شراء عمر- رضي الله عنه- ومن ذكر معه دلالة واضحة على أن مكة مملوكة لأهلها، إما لِمَنِّ النبي صلى الله عليه وسلم بها على أهلها، كما هو أحد القولين عند القائلين بأنها فتحت عنوة، أو لأنها فتحت صلحا، والوجه الأول أصوب؛ لأن فتحها صلحا يخالف ظاهر

_ 1 سنن ابن ماجه "3107"، وسنن الدارقطني "228"، وفيهما زيادة هي: "من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 163. 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 256. 4 الجرح والتعديل 3/ 49رقم 219.

الأحاديث الواردة في صفة فتح مكة، ويخالف قول جمهور العلماء- رحمهم الله- في أنها فتحت عنوة1، والله أعلم بالصواب. وذكر السهيلي ما يقتضي ترجيح ما قيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ بمكة على أهلها مع كونه دخلها عنوة، وسيأتي ذلك قريبا -إن شاء الله تعالى. وقد نقل الإمامان: ابن الحاج، وابن عطية المفسران المالكيان عن الإمام مالك -رحمه الله- ما يقتضي أنها مملوكة لأهلها، وذكرا بعض الحجة على ذلك، فأما ابن الحاج: فإنه قال: وأباحت طائفة من أهل العلم بيع رباع مكة وكراء منازلها، منهم: طاوس، وعمرو بن دينار، وهو قول مالك، والشافعي، ثم قال: والدليل على صحة قول مالك، ومن قال بقوله.... فذكر دلائل على ذلك، ثم قال: وقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: "هل ترك لنا عقيل منزلا" مما يدل أنه ملك لأربابه، وأن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ابتاع دار السجن بأربعة آلاف درهم، وأن دور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إلى اليوم بأيدي أعقابهم، منهم: أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاص، وغيرهم -رضي الله عنهم- وقد بيع بعضها وتصدق ببعضها، ولم يكونوا ليفعلوا ذلك إلا في أملاكهم، وهم أعلم بالله ورسوله ممن بعدهم ... انتهى. وأما ابن عطية: فإنه قال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} [الحج: 25] : أجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام، واختلفوا في مكة، فذهب عمر، وابن عباس، ومجاهد، وسفيان الثوري، وجماعة معهم، إلى أن الأمر كذلك في دور مكة، وأن القادم له النزول حيث وجّه، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وكان كذلك الأمر في الصدر الأول، ثم قال: وقال جمهور من الأئمة منهم مالك: ليست الدور كالمسجد، ولأهلها الامتناع بها والاستبداد، وهذا هو العمل اليوم، ثم قال بعد أن ذكر الخلاف في فتحها: هل هو عنوة أو صلح، فمن رآها صلحا: فإن الاستواء في المنازل عنده بعيد، ومن رآها عنوة: أمكنه أن يقول: الاستواء فيهما قرره الأئمة الذين لم يُقْطِعُوها أحدًا، وإنما سُكْنَى من أسكن من قبل نفسه، قال: وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ " يقتضي أن لا استواء بها، وإن كانت متملكة ممنوعة على النازلين، ثم قال: ومن الحجة لتملك أهلها: أن عمر -رضي الله عنه- اشترى من صفوان بن أمية دار السجن بأربعة آلاف درهم، ويصح مع ذلك أن يكون

_ 1 الروض الأنف 3/ 102.

الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة، فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة أو بالصلح ... انتهى. وذكر السهيلي -وهو من أئمة المالكية المعتبرين- ما يقتضي أن مكة مملوكة لأهلها، ونذكر كلامه لما فيه من الفائدة، ونصه: فصل: "ونذكر ههنا طرفا من أحكام أرض مكة" وقد اختلف هل افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة أو صلحا؟ لنبني على ذلك الحكم هل أرضها ملك لأهلها أم لا؟ وذلك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يأمر بنزع أبواب دور مكة إذا قدم الحاج، وكتب عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- إلى عامله بمكة أن ينهى أهلها عن كراء دورها إذا جاء الحاج، فإن ذلك لا يحل لهم. وقال مالك رحمه الله: إن كان الناس ليضربون فساططيهم بدور مكة لا ينهاهم أحد. وروي أن دور مكة كانت تدعى السوائب، وهذا كله منتزع من أصلين: أحدهما قول الله تبارك وتعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} [الحج: 25] . وقال ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم: الحرم كله مسجد. والأصل الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلها عنوة، غير أنه مَنَّ على أهلها بأنفسهم وأموالهم، ولا يقاس عليها غيرها من البلاد كما ظن بعض الفقهاء، فإنها مخالفة لغيرها من وجهين، أحدهما: ما خص الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] . والثاني: ما خص به الله مكة المشرفة، فإنه جاء أن لا تحل غنائمها، ولا يلتقط لقطتها، وهي حرم الله وأمنه، فكيف تكون أرضها أرض خراج، فليس لأحد افتتح بلدا أن يسلك به سبيل مكة، فأرضها -إذا- ودورها لأهلها، ولكن أوجب الله عليهم التوسعة على الحجيج إذا قدموا، وأن لا يأخذوا منهم كراء في مساكنها، فهذا حكمها، فلا عليك بعد هذا فتحت عنوة أو صلحا، وإن كانت ظواهر الحديث أنها فتحت عنوة ... انتهى. وإيجاب السكنى بمكة للحجيج وترك أخذ الأجرة منهم على ما ذكره السهيلي لا ينافي كون مكة مملوكة لأهلها؛ لأن الإنسان يجب عليه بذل ماله لحاجة غيره إليه في مسائل كثيرة، منها: بذل الخيط لخياطة جرح، وبذل فضل الطعام والماء لمن اضطر إلى ذلك لسقي زرع أو غيره، وبذل العمد والخشب لحفظ جدار الغير إذا خشي سقوطه، ويجب الضمان في ذلك على من منع منهم، وفي أخذهم الثمن عن ذلك خلاف، وإيجاب ذلك حق للمواساة، فينزل عليه ما قيل في دور مكة، والله أعلم. على أن كلام السهيلي -رحمه الله- لا يفهم أن ما ذكره من الحكم في دور مكة يكون في حق غير الحاج.

وقد وافق السهيلي على الاستدلال باشتراء عمر، وعثمان -رضي الله عنهما- الدور بمكة لتوسعة المسجد على أن دور مكة مملوكة لأهلها، لأنه قال: وفي اشتراء عمر، وعثمان، رضي الله عنهما- الدور التي زاداها دليل على أن رباع مكة مملوكة لأهلها يتصرفون فيها بالبيع، والشراء، والكراء، إن شاءوا، وفي ذلك اختلاف ... انتهى. وحكى ابن رشد في كراء دور مكة أربع روايات، وهي: إجازة ذلك، وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم في "المدونة". ومنع ذلك، وهو ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم منه في كتاب الحج. والكراهة مطلقا. والكراهة في أيام الموسم خاصة، حكاه الداوودي عن مالك ... انتهى بالمعنى من كتاب "المقدمات" لابن رشد. ونقل عنه ابن جماعة في "منسكه" ما يقتضي أنه حكاه في كتاب "البيان" الخلاف في بيع دور مكة وإجارتها لأنه قال: وذكر ابن رشد في "البيان والتحصيل" عن مالك ثلاث روايات: منع بيع دور مكة وكرائها، والإباحة، وكراهة كرائها في أيام الموسم خاصة1 ... انتهى. وليس في كلام ابن رشد في "البيان" ما يشعر بذكر خلاف في البيع كما فهم ابن جماعة، وليس في كلام ابن رشد -أيضا- ما يشعر ببيان القول الأرجح في الكراء. ونقل القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" عن القاضي أبي علي سند بن عنان المالكي الأزدي المالكي صاحب "الطراز" ما يقتضي ترجيحا في ذلك؛ لأنه قال عقب ما نقله ابن رشد: ونقل "سند" في "الطراز" أن مذهب مالك المنع، وفيه إن قصد بالكراء الآلات والأخشاب جاز، وإن قصد البقعة فلا خير فيه2 ... انتهى. وكلام ابن الحاج في "منسكه" يشعر بترجيح القول بجواز بيع دور مكة وإجارتها على المذهب، لاقتصاره على ذلك في النقل عن الإمام مالك، ولاستدلاله على صحة ما نسبوه لمالك، وكذلك ابن عطية لاقتصاره في النقل عن مالك، على أن لأهل دور مكة الامتناع بها والاستبداد، ولا يبعد ترجيح جواز ذلك على القول بأن مكة فتحت عنوة كما ذكرناه من فعل خيار السلف له، وفعل الخيار من الخلف له في كل عصر، وحيث جاز بيع دور مكة فيجوز فيها الكراء، والهبة، والوقف، والشفعة، والقسمة، وغير ذلك من

_ 1 هداية السالك 2/ 958، والبيان والتحصيل لابن رشد 3/ 405، 406. 2 هداية السالك 2/ 958، 959.

الأحكام التي تجوز في الأملاك، فإن قيل: يعارض ذلك بالنسبة إلى الشفعة قول مالك رحمه الله في المدونة ولا شفعة في أرض العنوة ولا يجوز بيعها ... انتهى. لأن هذا يقتضي أن يكون هو الحكم في مكة، لأنها عنده فتحت عنوة، فالجواب، أن مكة وإن كانت فتحت عنوة فقد منَّ النبي صلى الله عليه وسلم بها على أهلها، كما هو الراجح في ذلك، ففارقت بذلك غيرها من البلاد التي افتتحت عنوة، والله أعلم. ويفارق مكة -أيضا- غيرها من البلاد في كراء دورها، فإنه مع القول بجوازه لا يخلو من كراهته، خصوصا في أيام الموسم، لأجل التوسعة بذلك على الحجيج، وورد عن كثير من السلف كراهة كراء بيوت مكة، وعن بعضهم التخفيف في ذلك في حق المضطر إليه، والله أعلم. واختلف مذهب الإمام أبي حنيفة في أرض مكة، فروي عنه كراهة بيعها، فقيل: لا يجوز البيع، وذكر قاضيخان أنه ظاهر الرواية، وقيل: يجوز مع الكراهة، وأجاز ذلك صاحباه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وعليه الفتوى على ما قال الصدر الشهيد الحنفي، وبه جزم حافظ الدين النسفي في كتابه "الكنز". واختلف مذهب أبي حنيفة -أيضا- في إجازة أرضها، فروي عنه، وعن محمد بن الحسن عدم جواز ذلك. وروي عنهما جواز ذلك مع الكراهة. واختلف في ذلك -أيضا- مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فروي عنه جواز ذلك ومنعه، وذكر الموفق بن قدامة الحنبلي أن رواية الجواز أظهر في الحجة. وذكر ابن المُنْجا -من الحنابلة- أن رواية المنع هي المذهب. ولم يختلف مذهب الشافعي في جواز بيع دور مكة وإجارتها، لأنها عنده فتحت صلحا، وقال بعضهم عنه: فتحت بأمان، والأمان في معنى الصلح. وقال صاحب "الحاوي الكبير" القاضي أبو الحسن المعروف بالماوردي الشافعي: عندي أن أسفلها دخلها خالد بن الوليد -رضي الله عنه- عنوة، وأعلاها فتح صلحا ... انتهى. قال النووي: والصحيح الأول ... انتهى. وفي صحته نظر، لأن الفتح صلحا إنما يكون بالتزام أهل البلد المفتتحة ترك القتال، ولم يلتزم ذلك أهل مكة عند فتحها، بل أعدوا جمعا لقتال المسلمين عند فتحها، ولم يقبلوا تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لهم، والدليل على ذلك ما رويناه في صحيح مسلم1 من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه؛ فذكر حديثا في فتح

_ 1 صحيح مسلم "الجهاد: 1780".

مكة قال فيه: ووبشت قريش أوباشا1 لها. وأتباعا، فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سألنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم" ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى، ثم قال: "حتى توافوني بالصفا" قال: فانطلقا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، قال فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيحت2 خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثم قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" 3 ... انتهى. باختصار. وفي هذا دلالة صريحة على ما ذكرناه من عدم التزام قريش ترك قتال المسلمين يوم فتح مكة، وفي ذلك -أيضا- دلالة على أن ذلك وقع منهم يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وما كان ذلك منهما بعد تأمين النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمر الظهران لأنا روينا في مغازي موسى بن عقبة أن أبا سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام قالا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلما بمر الظهران: يا رسول الله ادع الناس إلى الأمان، أرأيت إن اعتركت قريش وكفت أيديها آمنون هم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "من كف يده وأغلق داره فهو آمن" قالوا: فابعثنا نؤذن فيهم بذلك، قال صلى الله عليه وسلم "انطلقوا فمن دخل دارك يا أبا سفيان، ودارك يا حكيم، وكف يده فهو آمن" قال: ودار أبي سفيان بأعلا مكة ودار حكيم بأسفل مكة. وروينا في سيرة ابن إسحق "تهذيب ابن هشام"، ورواته عن البكائي عنه أن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلام أبي سفيان بمر الظهران: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا، قال صلى الله عليه وسلم "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن" 4 ... انتهى. وروينا في هذين الكتابين ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى في تأمينه رجالا ونساء من أهل مكة أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، لجرائم لهم اقتضت ذلك. ومن الأحاديث الدالة على عدم التزام قريش بمكة ترك قتال المسلمين يوم فتحها، وعلى عدم قبولهم تأمين النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغهم تأمينه لهم، ما ذكره الفاكهي، لأنه قال: حدثنا محمد بن إدريس بن عمر من كتابه قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، فذكر خبرا طويلا في قصة الفتح، وفيه قال: فقال أبو سفيان: واصباح قريش، فقال العباس -رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أذنت لي

_ 1 وبشت أوباشا: الأوباش: الجموع من قبائل شتى، والتوبيش: الجمع، أي جمعت لها جموعا من أقوام متفرقين في الأنساب والأماكن. 2 في الصحيح "أبيدت" أي استؤصلت وأهلكت. وخضراؤها: سوادها ومعظمها. 3 صحيح مسلم "الجهاد: 1780". 4 أخرجه أبو داود "3021، 3022".

فأتيت أهل مكة فدعوتهم وأمنتهم، وجعلت لأبي سفيان شيئا يذكر به، قال: فانطلق العباس -رضي الله عنه- حتى ركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، فانطلق فقال صلى الله عليه وسلم: "ردوا على عمي فإن عم الرجل صنو أبيه" قال: فانطلق العباس حتى قدم على أهل مكة فقال: يا أهل مكة أسلموا تسلموا، قد استبطنتم بأشهب بازل، قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبير من قبل أعلا مكة، وبعث خالد بن الولد من قبل أسفل مكة، فقال لهم العباس: هذا الزبير من قبل أعلى مكة وخالد بن الوليد من قبل أسفل مكة، وخالد وما خالد، وخزاعة المخزعة الأنواف، قال: ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قال ثم جاء ر سول الله صلى الله عليه وسلم فتراموا بشيء من النبل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر عليهم فأمن الناس إلا خزاعة عن بني بكر، قال وذكر أربعة: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وابن خطل، وسارة مولاة بني هاشم، قال حماد: وسارة لا أدري في حديث أيوب أو في حديث غيره. قال: فقاتلتهم خزاعة إلى نصف النهار، فأنزل الله عز وجل: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا} [التوبة: 13] الآية والتي بعدها، ثم قال بعد قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين} [التوبة: 14] قال خزاعة: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِم} [التوبة: 15] ، قال خزاعة: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15] ، قال خزاعة 1 ... انتهى. وفي هذا الخبر مخالفة لما ذكره ابن عقبة، وابن إسحاق، من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال من لم يقاتل يوم فتح مكة إلا من استثناهم، وسيأتي- إن شاء الله تعالى- ما يدل للخبر الذي ذكره الفاكهي، والله أعلم. ومن الأخبار الدالة على جمع قريش بمكة لقتال المسلمين يوم فتح مكة ما ذكره موسى بن عقبة في "مغازيه" لأنه قال في خبر الفتح: وبأسفل مكة: بنو بكر، وبنو الحارث بن عبد مناة، وهذيل، ومن كان معهم من الأحابيش استنصرت قريش بهم، فأمروهم أن يكونوا بأسفل مكة ثم قال: واندفع خالد بن الوليد رضي الله عنه -حتى دخل مكة من أسفلها، فلقيته بنو بكر بن وائل، فقاتلوا فهزموا، وقتل من بني بكر قريبا من عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا. وذكر ابن إسحاق في سيرته "تهذيب ابن هشام" ما يقتضي ترك التزام قريش لقتال المسلمين يوم فتح مكة؛ لأنه قال في خبر فتحها: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو،

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 213، 214.

كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا، ثم قال ابن إسحق بعد ذكره خبر الحماس بن قيس: فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بني منقذ، وكانا في خيل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فشذا عنه، فسلكا طريقا غير طريقه، فقتلا، ثم قال ابن إسحق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر قالا: وأصيب من جهينة سلمة بن الميلا من خيل خالد، وأصيب ناس من المشركين قريبا من اثني عشر أو ثلاثة عشر ثم انهزموا ... انتهى. فإن قيل: ما ذكره ابن إسحاق من جمع سهيل وصفوان وعكرمة أناسا لقتال المسلمين بمكة يوم فتحها لا يقتضي نسبة ذلك لغيرهم من قريش، ويكون ذلك مبينا لما وقع مجملا في حديث أبي هريرة من جمع قريش أوباشا لقتال المسلمين يومئذ كما سبق ذكره. فالجواب أنه يبعد جدا أن يكون سهيل، وصفوان، وعكرمة، انفردوا بذلك عن قومهم مع كراهة قومهم لذلك، ولعل سبب نسبة ذلك إليهم دون من لم يذكر من قومهم كونهم الداعين إلى ذلك، ولو سلم كراهة غيرهم لذلك فلا يكفي ممن كره ذلك سكوته، بل لا بد من إنكاره بالقول والفعل بأن ينحاز عمن فعل ذلك ويعلم به الإمام، ولم يرد خبر تقوم به حجة تدل على أن أحدا من أهل مكة أنكر على سهيل، وصفوان، وعكرمة فعلهم هذا، ولا على التزام من كان بمكة من المشركين، ترك قتال المسلمين عند فتح مكة، ولو وقع ذلك لحفظ كما حفظ ما كان يشبه ذلك مما جرى في عام الحديبية، والله أعلم. وإذا لم يقم دليل على التزام أهل مكة ترك قتال المسلمين يوم فتحها، وقام الدليل على فعلهم بخلاف ذلك من جمعهم لقتال المسلمين: تعين أن يكون فتح مكة عنوة، كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق: "ترون أوباش قريش وأتباعهم" ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى، ثم قال: "حتى توافوني بالصفا" قال: فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، قال فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" 1. وقال مسلم في بعض طرق هذا الحديث: حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا بهز، حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد، وزاد في الحديث، ثم قال بيديه بإحداهما على الأخرى: "احصدوهم حصدا".

_ 1 أخرجه مسلم "الجهاد: 1780".

ومن ذلك ما رواه مسلم1 بنسده إلى عبد الله بن رباح أنه قال: يا أبا هريرة لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رضي الله عنه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير- رضي الله عنه- على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة- رضي الله عنه - على البياذقة وبطن الوادي، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ادع لي بالأنصار" 2. فدعوتهم فجاءوا يهرولون، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش؟ " قالوا: نعم، قال: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" وأحفى بيده، ووضع يمينه على شماله وقال: "موعدكم الصفا" قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، قال: وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن"، وذكر بقية الخبر. ومن ذلك ما ذكره أبو داود في سننه على ما رويناه عنه، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا سلام بن مسكين قال: حدثنا ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة سرح الزبير بن العوام، وأبا عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد -رضي الله عنهم- على الخيل وقال: "يا أبا هريرة اهتف بالأنصار" قال: "اسلكوا هذا الطريق، فلا يشرفن لكم أحد إلا أنمتموه"، فنادى مناد: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان3 فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن" 4. وعمد صناديد قريش فدخلوا الكعبة فغصّ بهم، وطاف النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى خلف المقام، ثم أخذ بجنبتي الباب، فخرجوا فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام. ونشير إلى بيان موضع الدلالة على أن فتح مكة عنوة من حديث أبي هريرة هذا، فمن ذلك قوله فيه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم- بيديه بإحداهما على الأخرى: "احصدوهم حصدا" كذا في رواية مسلم عن عبد الله بن هاشم، عن بهز، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه". ومن ذلك قوله فيه قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" وأحفى بيديه ووضع يمينه على شماله، كذا في رواية مسلم عن الدارمي، عن يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت بسنده.

_ 1 صحيح مسلم "الجهاد: 1780". 2 في صحيح مسلم: "الأنصار". 3 في سنن أبي داود "3024": من دخل دارا". 4 أخرجه أبو داود "3024".

ووجه الدلالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا وإشارته بيده أن ذلك ليتضمن الحث على قتال المشركين بمكة عند إرادته فتحها. ومن ذلك قوله فيه: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه؛ لأن معنى ذلك ما ظهر لهم أحد إلا قتلوه، فوقع إلى الأرض، أو يكون المعنى: أسكتوه بالقتل كالنائم، قال: نامت الريح إذا سكنت، وضربه حتى سكت أي مات، ونامت الشاة وغيرها: ماتت، قال الفراء: النائمة الميتة، وقيل في معنى أناموه معنى يخالف ما ذكرناه، سنذكره فيما بعد مع بيان ما فيه من النظر. ومن ذلك قول أبي سفيان بن حرب: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم وفي رواية: أبيدت ومعناها كمعنى أبيحت، والمعنى في ذلك أي استؤصلت قريش بالقتل وأفنيت، وخضراؤهم بمعنى جماعتهم، ويعبر عن الجماعة المجتمعة بالسواد والخضرة، ومنه السواد الأعظم، والإبادة على الوجه المشار إليه دليل على أن فتح مكة عنوة، لأن فتحها صلحا ينافي ذلك، والله أعلم. ومن ذلك سؤال أبي سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم لمن دخل دار أبي سفيان، ولمن ألقى سلاحه ولمن أغلق بابه، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم له إلى ما سأله. وجه الدلالة من هذا على أن فتح مكة عنوة أنه لو كان فتحها صلحا لم يسأل أبو سفيان أمانا مخصوصا مع الاستغناء عنه بالأمان العام الذي هو مقتضى الصلح، كيف وفي الحديث ما يدل على أن الموجب لسؤال أبي سفيان الأمان المخصوص هو ما رأى من إبادة المسلمين لجماعة قريش بالقتل يوم فتح مكة، ولا يفعل المسلمون ذلك بالمشركين إلا حيث لم يكن لهم ذمة، أو كانت لهم فنقضوها، وهذا أظهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمن أهل مكة نحو التأمين الذي سأله فيه أبو سفيان حين سأله في ذلك العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- بمر الظهران، تكرمة لأبي سفيان، وقد سبق ذكرنا لذلك. وكان سؤال أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم في الأمان، وذكره له حال قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم على الصفا بعد فتح الله عليه مكة، لأن في حديث أبي هريرة قال: وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا: وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: يا رسول الله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن؟ وذكر بقية الخبر، وقوله في الحديث الذي فيه هذا الكلام قبل ذكره: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه، يرد على من قال إن قوله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" أن ذلك كان قبل الفتح بيوم، ثم حصل الصلح في غده، لما تقدم من أن معنى قوله فما أشرف يومئذ أحد إلا أناموه، أي قتلوه، ولم يكن ذلك إلا في يوم فتح مكة.

وقد أشار الإمام المازري إلى الرد بذلك على قائل المقالة المشار إليها، وأيضا فلا يلزم من قوله: "إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" أن يكون ذلك وقع قبل الفتح بيوم، لإمكان أن يكون ذلك وقع في آخر الليلة التي وقع الفتح فيها صبيحتها، وأيضا فما ادعاه قائل هذه المقالة من حصول صلح في يوم فتح مكة قبل حصول القتال في هذا اليوم لا يقوم عليه دليل، والله أعلم. ونشير إلى ضبط بعض الألفاظ في حديث أبي هريرة وهي: المجنبة، والبياذقة، فأما المجنبة: فبميم مضمومة وجيم مفتوحة ونون مكسورة. وأما البياذقة: فبباء موحدة ثم ياء مثناة تحتية وألف وذال معجمة وقاف، ووقع في بعض الطرق: الساقة بدل البياذقة، وقال بعض الرواة: الشارفة بشين معجمة وألف وراء مهملة وفاء، وفسره بالذين يشرفون على مكة، قال القاضي عياض: وليس هذا بشيء لأنهم أخذوا في بطن الوادي. والساقة: بسين مهملة بعدها ألف وقاف- وهم الذين يكونون آخر العسكر على ما قاله القاضي، والبياذقة هم الحسر، كما في رواية مسلم، عن شيبان، عن سليمان بن المغيرة؛ لأن المعنى فيهما واحد، لأنهم الرجال الذين لا دروع لهم، والبياذقة فارسي معرب -على ما قيل- وهم أصحاب ركاب الملك ومن يتصرف في أموره، سموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم على ما قيل، والحسر: بحاء مهملة مضمومة وسين مشددة مهملة. ومن الدلائل على أن فتح مكة عنوة، ما رويناه عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه، فقال: "من هذه؟ " قلت: أم هانئ بنت أبي طالب، قال: "مرحبا بأم هانئ" فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلا أجرته: فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"، قالت أم هانيء: وذلك ضحى. أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ مسلم في صحيحه1 وهو مما اتفق على صحته، ووجه الدلالة منه على أن مكة فتحت عنوة، وأنه لو كان فتحها صلحا لم يخف ذلك على علي بن أبي طالب- رضي الله عنه" لمكانه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أقدم على قتل من دخل من الأمان الذي هو مقتضى الصلح، فإن ذلك يغني عن جيرة أم هانيء، ولما سألت أم هانئ النبي صلى الله عليه وسلم إنفاذ جيرتها. وقد أشار الإمام المازري إلى نحو ما ذكرناه من الاستدلال بهذا الحديث علي أن فتح مكة عنوة.

_ 1 السيرة لابن هشام 2/ 273، 274.

والرجل الذي أجارته أم هانئ كما في هذا الحديث قيل: إنه ابنها جعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم المخزومي لأن الحافظ أبا القاسم السهيلي لما ذكر أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها- قال: ولها ابن من هبيرة آخر اسمه يوسف، وثالث وهو الأكبر اسمه جعدة، وقيل: إياه عنت في حديث مالك: زعم ابن أم علي أنه قاتل رجلا أجرته فلان ابن هبيرة1 ... انتهى. ونقل ذلك الحافظ أبو الحجاج المزي في "تهذيبه"2 عن الحافظ بن عبد البر، لأنه قال في ترجمة جعدة بن هبيرة هذا، وقال ابن عبد البر أيضا: يقال إنه الذي أجارته أم هانئ يوم الفتح فلان ابن هبيرة ... انتهى. ولم أر كلام ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب" بعد تتبعي لذلك في ترجمة جعدة بن هبيرة، وفي ترجمة أمة أم هانئ في تراجمها الثلاث، ولعله ذكر ذلك في غير الاستيعاب، والله أعلم. وجاء حديث عنها أنها أجارت رجلين من بني مخزوم يوم الفتح، فتفلت علي رضي الله عنه- ليقتلهما، وهذان الرجلان هما الحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة المخزوميان، قال الخطيب البغدادي، وقيل: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، ذكره ابن أبي إسحق فيما حكاه ابن بشكوال، والله أعلم. ومما يدل لذلك أيضا: قوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة في خطبته بها، لما ذكره حرمة مكة: "وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار"، وذكر بقية الحديث، وهو مخرج في الصحيحين3 من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال الخطابي: إنما أحل له في تلك الساعة إراقة الدماء لا دم صيد وغيره مما حرم بالحرم من قطع شجر وتنفير صيد. قال المحب الطبري: ويحتمل العموم، فإن انتشار العسكر لا يخلو من تنفير صيد، ودوس خلا، وقطعه، وغير ذلك، والعمد والخطأ فيه سواء، وقد استدل بهذا من قال إن فتح مكة عنوة4 ... انتهى. ومما يدل على أن مكة فتحت عنوة قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته بمكة يوم فتحها: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ " قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: "اذهبوا

_ 1 الروض الآنف 3/ 103 2 تهذيب الكمال 4/ 566 رقم 930، وليس فيه العبارة الواردة في المتن. 3 صحيح البخاري "1587" صحيح مسلم "الحج: 445"، والبيهقي في الشعب "4007" وأبو داود "2018"، والترمذي "1590" والنسائي "2874". 4 القرى "ص: 641".

فأنتم الطلقاء" وهذه الخطبة في "السيرة" لابن إسحاق تهذيب ابن هشام" وتظهر الدلالة من ذلك على أن فتح مكة عنوة ببيان معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "أنتم الطلقاء" ومعنى ذلك المطلوقون من الاسترقاق، أشار إلى ذلك ابن الأثير، في "نهاية الغريب" له لأن فيها قال في حديث حنين حين خرج إليها ومعه الطلقاء الذين خلا عنهم يوم الفتح - فتح مكة: أطلقهم ولم يسترقهم، وأحدهم طليق - فعيل، بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله، ومنه الحديث: "الطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف" كأنه ميز قريشا بهذا الاسم حيث هو أحسن من العتقاء ... انتهى. وإذا كان هذا معنى الطلقاء، فخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بهذا الخطاب يقتضي أنهم كانوا حين خوطبوا بذلك في الأسر المقتضي للاسترقاق لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم تفضل عليهم بالإطلاق، ولولا ذلك لم يكن لاستعلامه صلى الله عليه وسلم قريشا عن ما توقعونه منه محل لخطاب قريش بذلك بعد تأمينهم، وهذا من أظهر الدلائل على فتح مكة عنوة، ويبعد الانفصال عنه بجواب شاف إلا أن يقال إن ذلك مرسل، والمرسل لا يحتج به، ولو سلم ذلك، فالدلالة على فتح مكة عنوة ناهضة من غيره من الدلائل التي ذكرناها، والله أعلم. وقد ذكر الأزرقي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم فتحها بلفظ يقرب من لفظها السابق في المعنى وزيادة فيها، ونص ما ذكره الأزرقي فيما رويناه عنه بالسند المتقدم، حدثني جدي أحمد بن محمد وإبراهيم بن محمد الشافعي قالا: أنبأنا مسلم بن خالد، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن عطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وطاوس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة البيت فصلى فيه ركعتين، ثم خرج وقد لبط1 الناس حول الكعبة فأخذ بعضادتي الباب، فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون وماذا تظنون؟ " قالوا: نقول خيرا، ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت فاسمح، قال: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} " [يوسف: 92] ... انتهى. باختصار2. ومما يدل على أن فتح مكة عنوة ما رويناه في مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأنه قال: حدثنا يحيى، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر"، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: "كفوا السلاح"، الحديث بطوله3.

_ 1 لبط: أي اجتمع، وتأتي أيضا بمعنى سعى، والمعنى الأول هو الأرجح. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 121. 3 مسند أحمد 2/ 212.

وذكره الفاكهي لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين، أنبأنا ابن أبي عدي، حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة عنوة قال: "كفوا السلا ح إلا خزاعة عن بني بكر، فأذن لهم حتى صلوا العصر، ثم أمرهم أن يكفوا السلاح، حتى إذا كان من الغد لقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر بالمزدلفة فقتله، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قام فينا خطيبا وظهره إلى الكعبة فقال: "إن أعتى الناس على الله -عز وجل- من عدا في الحرم، ومن قتل غير قاتله، ومن قتل بذحول 1 الجاهلية" 2 ... انتهى باختصار. ويحيى شيخ الإمام أحمد بن حنبل هو يحيى بن سعيد القطان، الإمام المشهور أحد الأعلام، وحسين: شيخه هو المعلم، وثقه غير واحد، وأخرج له الجماعة، وعمرو بن شعيب وإن لم يخرج له من الجماعة البخاري ومسلم فقد وثقه يحيى بن معين3، وإسحاق بن راهويه، وصالح حرره وغيرهم من الأئمة، وقد احتج به غير واحد من الأئمة؛ لأني وجدت بخط الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام4: قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، وإسحاق بن راهويه، يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، قال البخاري من الناس بعدهم، وقال الشيخ محيي الدين النووي: الصحيح المختار الاحتجاج به، وقال الدارقطني وغيره: قد ثبت سماع شعيب عن جده عبد الله بن عمرو ... انتهى ما وجدته بخط الحافظ الذهبي. وإذا تقرر ذلك فيكون الحديث المشار إليه صحيح الإسناد. ووجه دلالته على أن فتح مكة عنوة أنه يقتضي إباحة القتال فيها يوم فتحها غالب هذا اليوم، وذلك ينافي أن يكون صلحا أو بأمان، والله أعلم. ومما يدل على أن فتح مكة عنوة، ولو لم يقع فيه قتال، أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه إليها من المسلمين كان على وجه القهر لأهلها لأنهم عدوا دخلوا صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عنوة على ما ذكره ابن إسحاق في السيرة، لأنه ذكر أن قريشا قالوا لبديل بن ورقاء الخزاعي ومن معه من خزاعة حين أبلغوهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا للبيت معظما لحرمته، ولا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا يحدث، وبذلك عنا العرب.

_ 1 الذحل: الوتر وطلب المكافأة والذحل تأتي بمعنى العداوة أيضا. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 219. 3 التاريخ، لابن معين 2/ 445، 446. 4 تاريخ الإسلام 4/ 285.

وذكر ابن إسحاق أيضا أن عروة بن مسعود الثقفي قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما بعثته إليه قريش بالحديبية: إنها قريش خرجت معها العوذ1 المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا2 ... انتهى. وإذا كان دخول النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل مكة، مع كونه لم يقصد فيه قتالا، وإنما قصد أداء نسك العمرة التي أحرم بها، وعورض في هذا فكيف بدخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وقت فتحها الله عليه؟ والقصد بدخوله يومئذ إظهار الإسلام بها، وإنقاذها من المشركين، ومعه من المسلمين في دخول مكة يوم الفتح أضعاف من كان معه من المسلمين يوم الحديبية؛ لأن عدد أصحاب الحديبية ألف وأربعمائة على ما في مسلم وغيره، وقيل: ألف وثلاثمائة، وعدد المسلمين يوم الفتح عشرة آلاف، وقيل: اثنا عشر ألفا، والله أعلم. وقد حاول النووي -رحمه الله- الجواب عما في حديث أبي هريرة، وحديث أم هانئ من الألفاظ التي تدل على أن فتح مكة عنوة، وفيما حاوله من الجواب نظر نشير إليه بعد ذكر كلامه، لأنه قال في الجواب عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحصد المشركين وقتل خالد رضي الله عنه لهم: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "احصدوهم"، وقتل خالد رضي الله عنه- من قتل فهو محمول على من أظهر من كفار مكة قتالا" ... انتهى. وتأويل النووي لقوله صلى الله عليه وسلم: "احصدوهم" إما أن يقتضي أن المأمور بحصدهم لإظهار القتال معروفون بأسمائهم أو غير معروفين بأسمائهم، والأول لا يقوم عليه دليل، والثاني مسلم، وهو يقتضي أن المأمور بحصدهم غير محصورين، فيكون الأمر بالحصد عاما في جميع المشار إليهم، وهو دليل على الفتح عنوة، لأن الصلح لو وقع منع من ذلك، ولا يعارض كون الأمر بحصد المشار إليهم عاما في جميعهم الأمر الوارد بعدم مبادأة المشار إليهم بالقتال، كما هو مقتضى الخبر الذي رويناه في "مغازي موسى بن عقبة"، "وسيرة ابن إسحق"، ولفظ ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ... انتهى؛ لأن المنع في مبادأة المشار إليهم بالقتال لا يقتضي تخصيص أحد منهم بترك قتاله، وإنما عدم مبادأتهم بالقتال رفقا بهم أجمعين، رجاء إسلامهم، فيكثر بهم عدد المسلمين، ويحتمل أن يكون الأمر بعدم مبادأتهم بالقتال كان قبل أن يبلغ

_ 1 العوذ: بالذال المعجمة: جمع عائذ: وهي الحديثة النتاج من الإبل، والمطافيل التي معها أولادها. يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا ألبانها، ولا يرجعوا حتى يناجزوا محمدا. 2 تهذيب سيرة ابن إسحق "ص: 221".

النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش أنهم لم يقبلوا تأمينه، وجمعوا الأوباش لقتاله، كما هو مقتضي حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق في فتح مكة، لأن فيه: ووبشت قرش أوباشا لها وأتباعا فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، فإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا ... انتهى. وأنه لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن قريش أمر بحصدهم، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، ويتأيد ذلك بأن القتال المأذون فيه في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه أبلغ من القتال المأذون فيه في الخبر الذي ذكر ابن إسحاق، لقوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه: "احصدوهم حصدا" وذلك يقتضي الإبلاغ في القتل، وإذا حمل الخبران على ما ذكرناه لم يبق بينهما تعارض، والله أعلم. وقال النووي في الجواب عن تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لمن دخل دار أبي سفيان، ومن ألقى سلاحه، وتأمين أم هانيء: وأما أمان من دخل دار أبي سفيان، ومن ألقى سلاحه، وأما أم هانيء، فكله محمول على زيادة الاحتياط لهم بالأمان ... انتهى. وهذا الكلام يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمن أهل مكة أمانا عاما، وخص منهم بالتأمين من دخل دار أبي سفيان، ومن ألقي سلاحه، ومن أجارته أم هانيء، فإن زيادة الاحتياط لهؤلاء بالأمان لا يكون إلا بأن يكون تأمين النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة وفي ذلك نظر، لأنه لم يرد خبر يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمن أهل مكة أمانا عاما، وإنما أمن من دخل دار أبي سفيان، ودار حكيم، ومن دخل المسجد، ومن أغلق بابه عليه، ومن ألقى سلاحه، على ما يتحصل من مجموع الأخبار التي سبق ذكرها، واستثنى من ذلك جماعة من الرجال والنساء بجرائم اقتضت ذلك. وقال النووي في الجواب عن هَمِّ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بقتل الرجلين اللذين أجارتهما أم هانيء: وأما هَمِّ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بقتل الرجلين اللذين أجارتهما أم هانيء، فلعله تأول فيهما شيئا، أو جرى منهما قتال أو نحو ذلك ... انتهى. وهذا الكلام يقتضي أن عليًّا أراد قتل الرجلين؛ لتأوله فيهما ما يوجب ذلك، أو لأنه جرى منهما قتال، وغاية ما يتأول علي -رضي الله عنه- فيهما أنهما مستحقان القتل لفعلهما ما يوجب ذلك من قبل، والأصل خلاف ذلك، ولو سلم فمستحق القتل لا يقتل بغير مؤامرة الإمام، والأصل -أيضا- أنه لم يجر منهما قتال في يوم فتح مكة، وإذا دار الأمر بين التأويل لسيدنا "علي" بشيء على خلاف الأصل، وبين التأويل له بما يوافق الواقع، فالتأويل له بالموافق أولى، وهو كون الفتح عنوة، ولا لوم في القتل فيهما، والله أعلم.

وقال النووي في الجواب عن قوله في حديث فتح مكة: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه، ومن قال: فتحت صلحا -يعني مكة- يقول: أناموه أي ألقوه على الأرض من غير قتل إلا من قاتل، والله أعلم ... انتهى. وفي هذا التأويل نظر من أوجه، منها: أن القصد بالإلقاء إلى الأرض من غير قتل هو الإرهاب، وهو يحصل بدون ذلك، مثل الإشارة بالسيف وشبهه، فيجتزي بذلك إذا كان الفتح صلحا. ومنها: أن الإلقاء إلى الأرض يبعد وقوعه من غير زيادة عليه في حق كل من عارض المسلمين يوم فتح مكة بقتال، وإنما يتأتى ذلك من الراكب للراكب، ومن الماشي للراكب، ومن الماشي للماشي، وأما من الراكب للماشي فيبعد تأتيه في حق كل من عارض، إلا أن ينزل الراكب عن فرسه، وفي وقوع ذلك من كل راكب لكل ماش عارض بقتال بُعْدٌ، والله أعلم. ومنها: أن ما ذكره أبو سفيان من إثارة قريش واستباحتها يقتضي أن المفعول فيهم يومئذ أعظم من إلقائهم إلى الأرض من غير قتال، لأن ذلك لا يعبر عنه بما ذكره أبو سفيان، والله أعلم. وقد ذكر النووي -رحمه الله- حجة الشافعي -رضي الله عنه- على أن مكة فتحت صلحا، قال: واحتج الشافعي -رضي الله عنه- بالأحاديث المشهورة أنه صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخوله مكة ... انتهى. وهذا الصلح المشار إليه لا يخلو من أمرين، أحدهما، أن يكون المراد به تأمين النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة على الصفة التي سبق ذكرها، والآخر أن يكون عقد منهم عقد هدنة كما وقع في عام الحديبية، فإن كان الأول فإطلاق الصلح إنما يكون إذا انضم إليه التزام أهل مكة لموجب التأمين، وهو الكف عن قتال المسلمين يوم فتح مكة، ولا يقوم دليل على التزام أهل مكة لذلك، ويقوم الدليل على خلافه، لأن في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- السابق في خبر فتح مكة: أن قريشا جمعوا أوباشا وقالوا نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وأن أصيبوا أعطينا الدي سئلنا ... انتهى. والذي سئلوا هو الكف عن القتل، فدل ذلك على أنهم لم يلتزموه، ولم يرد خبر يشعر بأن أحدا من قريش أنكر على سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، جمعهم لقتال المسلمين يومئذ، ولا أن أحدا من قريش تبرأ ممن جمع لذلك، مشعر برضا الجميع بذلك، والله أعلم. وإن كان المراد الثاني، فهو غير معروف، فضلا عن أن يكون فيه أحاديث مشهورة، ويبعد جدا أن يكون في ذلك حديث مشهور، ويخفى ذلك حتى لا يعرف له

محل في كتب العلماء، وأيضا فعقد الهدنة إنما يكون بسؤال من اضطر إليها، والاضطرار إليها في الفتح للمشركين، لوفور قوة المسلمين يومئذ، ولم يسأل المشركون ذلك مشافهة ولا مراسلة، لأنه لم يحضر عند النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران- ممن كان على الشرك- غير أبي سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وكان معهما بديل بن ورقاء الخزاعي، ولم يكن حضورهم إليه لأداء رسالة عن قريش، وإنما قريش بعثتهم ليتحسسوا لهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما ذكره ابن إسحق، فإنها غيبت عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل- عند توجهه من المدينة أن تعمى الأخبار عن قريش حتى يبغتها في دارها، فاستجاب الله -عز وجل- دعوته، ولم يشعر بهم أحد من أهل مكة، إلا وهم بمر الظهران، وكانوا في وجل من النبي صلى الله عليه وسلم لنقضهم عهد الحديبية، لأن بعضهم قاتل ليلا مع كنانة خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ورفد بعضهم كنانة بالسلاح1. وذكر موسى بن عقبة ما يقتضي أن بعض المسلمين أخذوا أبا سفيان ومن معه قهرا، وأحضروهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، وأن أبا سفيان وحكيما سألا النبي صلى الله عليه وسلم الأمان لمن كف من قريش عن قتاله، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، والذي حملهم على ذلك الرغبة فيما يصلح لقومهما، ولم يكن لمن خرج مخرجهما أن يعقد على من وراءه، عقد هدنة إلا بعد إعلام من وراءه بما رأى، وأن يثق منهم في ذلك الرضا، وقد أنكر بعض العلماء أن يكون أهل مكة عقدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلحا عند فتحها، لأنه ذكر أن حال أهل مكة جرى في أرضها، وفي أنفسهم، وفي أموالهم، مجرى حال أهل الصلح، لا أنهم عقدوا معه صلحا، إذا لم يأت أثر في شيء من هذا بمصالحتهم إياه، وبالله التوفيق ... انتهى بلفظه إلا قليلا فبالمعنى، وهذا في شرح مسلم للإمام المازري، أو للقاضي عياض، على الشك مني لبعد العهد بذلك، والله أعلم. وقد ذكر النووي -رحمه الله- حجة الشافعي -رضي الله عنه- على جواز بيع دور مكة وإجارتها، فقال: قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". استدل به الشافعي وموافقوه على أن دور مكة مملوكة يصح بيعها وإجارتها، لأن أصل الإضافة إلى الآدميين يقتضي الملك وما سوى ذلك مجاز ... انتهى. وفي هذا الاستدلال نظر لأنه ليس في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان" إشعار بإضافة غيرها من دور مكة لأهلها من مسلمة الفتح، حتى تكون دورهم مملوكة لهم، كملك أبي سفيان، وإذا كان كذلك لم ينهض من قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان" دلالة على ملك غير أبي سفيان من مسلمة الفتح لدورهم بمكة، لكون ذلك لا

_ 1 الروض الأنف 2/ 263.

يدل لملك غيره، وهذا يخالف رأي من استدل به على أن دور مكة مملوكة لأهلها، ويبعد أن يقاس على دار أبي سفيان غيرها من دور مكة التي كانت لغيره من مسلمة الفتح، لأن ملك أبي سفيان لداره لا ينبغي أن يختلف فيه، لكونه أسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة بمر الظهران، وبإسلامه أحرز نفسه وماله، ومثله في ذلك حكيم بن خزام، وبديل بن ورقاء الخزاعي، لأنهما أسلما معه بمر الظهران على خلاف في بديل، فإنه قيل: أسلم قبل الفتح، وغيره من مسلمة الفتح في ملكهم لدورهم بمكة خلاف بين أهل العلم سببه الخلاف في فتح مكة، هل هو عنوة أو صلح، وفي كونه صلحا نظر سبق بيانه، وأقرب ما يستدل به على ملك دور مكة، كون النبي صلى الله عليه وسلم منَّ بها على أهلها فلم يقسمها، والله أعلم. ورأيت في شرح مسلم المشار إليه ذكر السبب الذي لأجله قيل إن مكة فتحت صلحا، لأن فيه: وإنما شُبِّهَ على القوم لأجل أنه صلى الله عليه وسلم لم يستبح أموالها، ولا قسمها بين الغانمين، فلما رأى الشافعي رضي الله عنه- هذا، وخروجه عن الأصل اعتقد أنه صلح، وهذا لا تعلق له فيه، لأن الغنيمة لا يملكها الغانمون بنفس القتال على قول كثير من أصحابنا، وللإمام أن يخرجها عن الغانمين، ويمُنُّ على الأسرى بأنفسهم وحريمهم وأموالهم، وكأنه صلى الله عليه وسلم رأى من المصلحة بعد الفتح والاستيلاء عليهم أن يبقيهم لحرمة العشيرة وحرمة البلد، وما رجي من إسلامهم وتكثير عدد المسلمين بهم، فلا يرد ما قدمناه من الأدلة الواضحة بمثل هذا المحتمل، وفي شرح مسلم المشار إليه. وقال بعض أصحاب الشافعي بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صلحا، أي فعل فيها فِعْلَه في مَن صالحه، فمَلَّكَه نفسَه وماله وأرضه، لأنه لم يدخلها إلا بعد أن أمَّن أهلها كلهم، وهذا من قول أصحابه اعتذار من قوله الذي انفرد به، وميل إلى قول الجماعة من افتتاحها عنوة، وإنما من عليهم وعفا عنهم وملكهم أموالهم ... انتهى. وقد رأيت ما يدل على أن الإمام الشافعي لم ينفرد بقوله: إن مكة فتحت صلحا، لأني رأيت في نسخة من "المهذب" للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، بخط سليمان بن خليل، حاشية بخطه أولها: ومذهب الشافعي -رحمه الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة صلحا بأمان قومه لهم قبل دخوله، وروي ذلك عن أبي بن عبد الرحمن، ومجاهد، وذكر بقية الحاشية، وفوقها مكتوب بخط ابن خليل أيضا، صورته من "الشامل" ... انتهى. وأظن أن "الشامل" المشار إليه هو الشامل للشيخ أبي نصر بن الصباغ1 الشافعي،

_ 1 هو الإمام أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ، توفى سنة 477هـ "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 5/ 122- 134"، وكتابه "الشامل" في فروع الشافعية مخطوط في دار الكتب المصرية برقم "139-141 فقه شافعي" ومعهد المخطوطات برقم 185-194 فقه شافعي".

وقد بيض ابن خليل بين أبي، وبين ابن عبد الرحمن، وما عرفت من المشار إليه بذلك، هل هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أو غيره؟ والله أعلم. وقد طال الكلام فيما يتعلق بتحقيق فتح مكة، ولكن يحصل بذلك من الفوائد ما لا يوجد مجتمعا في غير هذا المحل، وظهر بذلك رجحان كونها فتحت عنوة، والله أعلم.

الباب الثاني

الباب الثاني: في أسماء مكة المشرفة: لمكة المشرفة أسماء كثيرة، وقد عني الناس بجمعها، ولم أر لأحد في ذلك مثل ما رأيت لشيخنا العلامة اللغوي قاضي اليمن، مجد الدين الشيرازي، ولكنه أغرب فيما ذكره، وفاته مع ذلك أسماء أخرى. أنبأني شيخنا الماضي مجد الدين الشيرازي -أحسن الله إليه- قال في كتابه "تحبير الموشين في التعبير بالسين والشين" في باب النون: الناسة والناشة من أسماء مكة شرفها الله تعالى، فيما ذكره كراع النمل، في المنتخب من تأليفه، وهو من جهابذة اللغويين، ثم قال بعد شرح معنى هذين الاسمين: ومن أسماء مكة شرفها الله تعالى وعظمها: العروض، والسيل- مثال خيل ونيل- ومخرج صدق، والبنية، وهذه عن ياقوت. والمعاد، وأم رحم بالراء المهملة، وأم راحم، وأم زحم وهذه بالزاي، وأم صبح، وأم القرى، والبلد، والبلدة، والبلد الأمين، والبلد الحرام، والرتاج، والناسة، والناشة، وحرم الله تعالى، وبلد الله تعالى، وفاران، وهذه عن ياقوت الحموي. والباسة، والناسة والبساسة، والنساسة وطيبة، والقادس، والمقدسة، وقرية النمل، ونقرة الغراب، وقرية الحمس، وصلاح -كقطام منونة- والحاطمة، وكوشي، وسبوحة، والسلام، والعذراء، ونادرة، والوادي، والحرم، والنجز، والقرية، وبكة، ومكة، والعَرش، والعُرش، والعريش، والعروش، والحرمة -بالضم وبالكسر، وهذه النسبة عن ابن عديس، ذكره في كتابه "الباهر". قال شيخنا القاضي مجد الدين: وقد ذكرت في شرح صحيح الإمام البخاري -رحمه الله- ما يتعلق باشتقاق كل اسم منها، مقرونة بشواهد وفوائد، فَلْيُنْظَرْ إن شاء الله تعالى.

قلت: قرية النمل، ونقرة الغراب، علامتان لموضع زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، وعدهما بعضهم اسمين لزمزم مجازا، فإن كان شيخنا القاضي مجد الدين لحظ كونهما اسمين لزمزم، وسمى بهما مكة من باب تسمية الكل باسم البعض- وهو مجاز شائع- فيصح على هذا أن يذكر في أسماء مكة: الصفا، والمروة، والحزورة، وغير ذلك من المواضع المشهورة بمكة. وقوله: وقرية الحمس: إن كان لحظ في تسمية مكة بذلك أن الحمس كانوا سكان مكة قبل، فيصح على هذا أن يذكر في أسماء مكة: قرية العمالقة، وقرية جرهم لكونهما كانوا سكان مكة قبل الحمس، اللهم إلا أن يقال إن تسمية مكة بقرية النمل، ونقرة الغراب، وقرية الحمس، منقول عن أهل اللغة، فلا يقاس عليه غيره، والله أعلم. ومن أسماء مكة التي لم يذكرها شيخنا القاضي مجد الدين: بره، ومنها: بساق، ومنها: البيت العتيق، ومنها: الرأس، ومنها: القادسية، ومنها: المسجد الحرام، ومنها المعطشة، ومنها: المكتان، ومنها: النابية، ومنها: أم روح، ومنها: أم الرحمن، ومنها: أم كوثى، وسنذكر من ذكر هذه الأسماء من العلماء. ذكر معاني بعض أسماء مكة وعزو بعضها لأهل العلم: اختلف في مكة بالميم، وبكة بالباء، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ والأول قول الضحاك فيما حكاه عنه المحب الطبري1، وقول مجاهد فيما حكاه عنه الماوردي2، واحتج ابن قتيبة لتصحيحه بأن الباء تبدل من الميم، كضرب لازم ولازب. واختلف القائلون بالثاني، فقيل: بكة بالباء، موضع البيت، ومكة بالميم: القرية، وهذا يروى عن إبراهيم النخعي. وقيل: بكة بالباء، موضع البيت، ومكة بالميم الحرم كله، وهذا يروى عن يحيى بن أبي أنيسة. وقيل: بكة بالباء ما بين الجبلين، ومكة، بالميم الحرم كله. وقيل: بكة بالباء الكعبة والمسجد الحرام، ومكة بالميم ذو طوى، وهذا يروى عن زيد بن أسلم، وقيل: بكة بالباء البيت، وما حواليه مكة بالميم، وهذا يروى عن مجاهد،

_ 1 القرى "ص: 650". 2 الأحكام السلطانية "ص: 157 وما بعدها".

وهذه الأقوال رويناها في تاريخ الأزرقي، ولم يبين فيه قائل القول الثالث من هذه الأقوال، والله أعلم بالصواب1. واختلف في معنى تسميتها مكة بالميم، فقيل: لأنها تمكُّ الجبارين: أي تذهب نخوتهم. وقيل: لأنها تملك الفاجر عنها أي تخرجه. وقيل: لأنها تجهد أهلها، من قولهم: تمككت العظم إذا أخرجت مخه. وقيل: لأنها تجذب الناس إليها، من قولهم: أمتك الفصيل ما في ضرع أمه إذا لم يبق فيه شيئا. وقيل: لقلة مائها. واختلف في معنى تسميتها بكة بالباء، فقيل: لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها، أي تدقها، والبك الدق، وقيل: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما. وقيل: لأنها تضع من نخوة المتكبرين، قاله الترمذي. وهذان الاسمان لمكة مأخوذان من القرآن العظيم، وأخذ منه عدة أسماء، منها: أم القرى، قاله الضحاك في تفسير قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الأنعام: 92] . واختلف في سبب تسميتها بذلك، فقيل: لأن الأرض دحيت من تحتها، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: لأنها أعظم القرى شأنا. وقيل: لأن فيها بيت الله تعالى، ولما جرت العادة بأن الملك وبلده مقدمان على جميع الأماكن سميت أُما؛ لأن الأم متقدمة. وقيل: لأنها قبلة تؤمها جميع الأمة. ومنها: القرية، قاله مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَان} [النخل: 112] . والقرية اسم لما تجمع جماعة كثيرة من الناس، من قولهم: قريت الماء في الحوض، إذا جمعته فيه، ويقال للحوض: مقراة.

_ 1 القرى "ص: 650، 651".

ومنها: البلد، قال الله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد} [البلد: 1] قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي مكة، وقال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي مكة"، ذكر ذلك عنه الفاكهي1، ونقل عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: إنها مكة ... انتهى. والبلد في اللغة الصدر أي صدر القرى. ومنها: البلد الأمين، قال الله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين} [التين: 3] . قال الفاكهي فيما رواه بسنده إلى ابن عباس في قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين} قال: يعني مكة، وروى ذلك بسنده عن زيد بن أسلم2. ومنها: البلدة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَة} [النحل: 91] . قال الواحدي في "الوسيط": هي مكة، وقاله ابن برجان في تفسيره. وقال ياقوت في "معجم البلدان": باب البلدة: ثلاثة مواضع، الأول في قوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور} [سبأ: 15] أراد بها مكة3. انتهى. وذكر الفاكهي ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا أبو يحيى بن ميسرة قالك حدثنا خالد بن يحيى قال: حدثنا سفيان، قال: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، قال: هي منى، قال أبو يحيى: وكذلك العرب تسميها البلدة إلى اليوم ... انتهى، والله أعلم. ومنها: معاد بفتح الميم، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] . كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رض الله عنهما، لأنه قال: حدثنا محمد بن مقاتل قال: أخبرنا يعلى، قال: حدثنا سفيان العصفري، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما: لرادك إلى معاد، قال: إلى مكة4 ... انتهى. فهذه ثمانية أسماء لمكة مأخوذة من القرآن العظيم، ولم يذكر المحب الطبري من أسمائها المأخوذة من القرآن إلا خمسة، لأنه قال: سمى الله تعالى مكة بخمسة أسماء: مكة، وبكة، والبلد، والقرية، وأم القرى ... انتهى5. وأما تسمية مكة: الباسة بالباء الموحدة والسين المهملة، فقال مجاهد، لأنها تبس من ألحد فيها، أي تهلكه، أي تحطه، من قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5] ذكره ابن جماعة.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 280. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 281. 3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 251، وقال عنه محقق الكتاب: إسناده حسن، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 119 من قول أبي العالية الرياحي، وعزاه لابن أبي حاتم. 4 هداية السالك 2/ 738. 5 القرى "ص: 650".

وأما تسميتها الناسة، بالنون والسين المهملة، فذكره الماوردي قال: ومعناه أي تنس من ألحد فيها، أي تطرده وتنفيه. وحكاه صاحب "المطالع" والنووي، وذكره ابن جماعة، قال: والناسة قيل: لأنها تنس الملحد، أي تطرده، وقيل: لقلة مائها، والنس اليبس1. وأما تسميتها النساسة، بالنون وتشديد السين الأولى، فهو مقتضى كلام "المطالع" والمعنى في ذلك- والله أعلم - كالمعنى في الناسة بالنون. وأما تسميتها الحاطمة، فذكره الأزرقي عن إبراهيم بن أبي يحيى، وصاحب "المطالع"، وابن خليل، والنووي، قالوا: لحطمها الملحدين. وأما تسميتها صلاح، بصاد مهملة مفتوحة وحاء مهملة، فحكاه مصعب الزبيري وقال: سميت بذلك لأمنها، وأنشد له قول أبي سفيان بن حرب بن أمية لابن الحضرمي: أبا مطر هلم إلى صلاح ... فيكفيك الندامى من قريش2 وتنزل بلدة عزت قديما ... وتأمن أن يزورك رب جيش وصلاح مبني على الكسر، كحزام وقطام ونظائرهما، وقد يصرف، واستدل على صرفه بقول أبي سفيان السابق. وأما تسميتها العرش، بعين مهملة مفتوحة وراء مهملة ساكنة، فذكره كراع كما حكاه عنه ابن جماعة، وأشار إلى ذلك صاحب "المطالع". وأما تسميتها العريش، بزيادة ياء مثناة من تحت، فذكره ابن سيده فيما حكاه عن ابن جماعة. وأم تسميتها القادس فذكره صاحب "المطالع"، قال: "والقادس من التقديس، لأنها تطهر من الذنوب. وأما تسميتها المقدسة فذكره صاحب "المطالع" والنووي3، والمعنى فيه كالذي قبله. وأما تسميتها كوثى فذكره الأزرقي4 عن مجاهد، والسهيلي ولم يعزه، وصاحب "المطالع" إلا أنه قال: باسم بقعة منها: منزل بني عبد الدار ... انتهى. وأفاد الفاكهي أن كوثى في ناحية قعيقعان قال: وقيل: كوثى، جبل بمنى5 ... انتهى.

_ 1 هداية المسالك 2/ 738. 2 الأحكام السلطانية "ص: 158". 3 تهذيب الأسماء 290ق 2/ 156. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 281. 5 أخبار مكة للفاكهي 2/ 274.

وكوثى بكاف مضمومة وثاء مثلثة. وأما تسميتها الحرم بحاء وراء مهملتين، فذكره سليمان بن خليل في "منسكه". وأما تسميتها الرتاج، براء مهملة وتاء مثناة من فوق وألف وجيم، فذكره المحب الطبري في "شرح التنبيه" فيما نقله عنه ابن جماعة. وأما تسميتها أم رحم براء مهملة مضمومة، فذكره مجاهد فيما حكاه عن الماوردي، لأن الناس يتراحمون فيها ويتوازون. وأما زحم بزاي معجمة، من الازدحام فذكره الرشاطي1. وأما تسميتها أم صبح، فذكره ابن الأثير في كتابه "المرضع"2 على ما وجدت بخط قاضي طرابلس شمس الدين محمد بن أحمد النويري3. وأما تسميتها برة: فذكره سليمان بن خليل في منسكه ولم يعزه، ولم يذكر له معنى. وأما تسميتها بساق4، فذكره ابن رشيق في "العمدة" في تفسير قول أمية بن حرثان: سأستعدي على الفاروق ربا ... له عمد الحجيج إلى بساق ثم قال ابن رشيق: وقد قيل: إن بساق بلد بالحجاز ... انتهى. وبساق بباء موحدة وسين مهملة وألف وقاف. وأما تسميتها البيت العتيق، فذكره الأزرقي5 عن إبراهيم بن أبي يحيى، وصاحب "المطالع"، وابن خليل، ولعل ذلك من تسمية مكة بأسماء الكعبة كلها إذا لحظ هذا المعنى. وأما تسميتها الرأس، فذكره السهيلي6 وصاحب "المطالع" والنووي7، وقال: لأنها أشرف الأرض كرأس الإنسان. وأما تسميتها القادسة، فذكره ابن جماعة ولم يعزه.

_ 1 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 4/ 99. 2 المرصع "ص: 220". 3 انظر ترجمته في الضوء اللامع 6/ 135، إنباء الغمر 3/ 538، قضاة دمشق "ص: 214" نزهة النفوس والأبدان للصيرفي 3/ 301. 4 العمدة لابن رشيق 1/ 31، ومعجم البلدان 2/ 413، وفيه: "بساق" بالضم. 5 أخبار مكة للأزرقي 1/ 280. 6 الروض الأنف 1/ 139. 7 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 156.

وأما تسميتها المسجد الحرام، فذكره ابن خليل في "منسكه" وفي القرآن الكريم ما يشهد له، وحكاه عبد الله بن عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد المرجاني عن ابن مسدي. وأما تسميتها المعطشة فذكره ابن خليل ولم يعزه، ولم يذكر له معنى. وأما تسميتها المكتان، فذكره شيخنا بالإجازة، أديب الديار المصرية برهان الدين القيراطي في ديوان شعره البديع، ولعله أخذ ذلك من قول ورقة بن نوفل الأسدي: ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا وللسهيلي على ذلك كلام أحسن، لأنه قال بعد أن ذكر هذا البيت: ثنى مكة وهي واحدة، لأن لها بطاحًا وظواهر، ثم قال: وإنما مقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو الإشارة إلى أعلى البلد وأسفلها، فيجعلونها اثنتين على هذا المعنى ... انتهى. وقال السهيلي في موضع آخر، بعد أن ذكر شيئا من حال عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، وهو الذي يقول في حصار عثمان بن عفان -رضي الله عنه: أرى الأمر لا يزداد إلا تفاقما ... وأنصارنا بالمكتين قليل وأسلمنا أهل المدينة والهوى ... إلى أهل مصر والذليل ذليل وأما تسميتها النابية، فذكره الشيخ عماد الدين بن كثير في "تفسيره" على ما وجدت بخط بعض أصحابنا في حاشية كتاب "تحبير الموشين "لشيخنا قاضي القضاة مجد الدين عند كلامه على أسماء مكة، ونص الحاشية "وذكر ابن كثير في تفسيره أن من أسماء مكة النابية بالنون والباء"1. وأما تسميتها أم رَوْح فذكره ابن الأثير في كتابه "المرصّع"2 على ما وجدت بخط شمس الدين النويري المقدم ذكره. وأما تسميتها أم الرحمن فذكره عبد الله بن عبد الملك المرجاني وعزاه لابن العربي. وأما تسميتها أم كوثى فذكره ابن المرجاني ولم يعزه، ولم يذكر له معنى.

_ 1 ليس في تفسير ابن كثير هذا الاسم ولعله خطأ من الناسخ، حيث قال ابن كثير لما ذكر أسماء مكة: فأبلغها إلى إحدى وعشرين اسمًا. قال: والناسة: بالنون وبالباء أيضا، ثم قال: والباسة، والثالثة: النساسة، حيث ذكر قبلها الناسة، والله أعلم. 2 المرصع "ص 186".

وقد بان لما ذكرناه في هذا التفصيل معرفة من ذكر الاثني عشر اسما التي ذكرناها في أسماء مكة ولم يذكرها شيخنا القاضي مجد الدين، مع معنى بعضها، وبأن به أيضا معرفة من ذكر بعض أسماء مكة التي ذكرها شيخنا القاضي مجد الدين مع بعض معانيها أيضا، وبعض الأسماء الغريبة التي لم أرها إلا في كلامه، المعنى فيها واضح، وهي أم راحم، وأم الرحم، فإن ذلك في معنى أم رحم بالراء المهملة، والبلد الحرام لحرمة مكة، وبلد الله لاختياره لها على غيرها، وطيبة لطيبها، وذكر هذا الاسم في أسماء مكة الحافظ علاء الدين مغلطاي في سيرته. وصلاحٍ منونة، لأنها من معنى صلاح بلا تنوين. والسلام من هذا المعنى. والوادي، من قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لنافع بن عبد الحارث الخزاعي عامله على مكة لما لقيه بعسفان، حين استخلف على أهل مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزي: من استخلفت على أهل الوادي؟ ولم يذكر النووي من أسماء مكة إلا ستة عشر اسما، قال: ولا يعرف في البلاد بلدة أكثر أسماء من مكة والمدينة، لكونهما أشرف الأرض ... انتهى. وقال عبد الله المرجاني في تاريخه للمدينة المسمى "بهجة الأسرار في تاريخ دار هجرة النبي المختار" بعد ذكره لأسماء مكة: ومن الخواص قيل: إذا كتبت بالدم على الجبين "مكة وسط الدنيا، والله رؤوف بالعباد" انقطع الدم ... انتهى.

الباب الثالث

الباب الثالث: ذكر الحرم وسبب تحريمه: أما حرم مكة فهو ما أحاط بها، وأطاف بها من جوانبها، جعل الله حُكمَه حُكمَها في الحرمة تشريفًا لها، أشار إلى ذلك الماوردي1، وابن خليل، والنووي2. واختلف في سبب تحريمه، فقيل: إن آدم -عليه السلام- لما أهبط إلى الأرض خاف على نفسه من الشيطان، فاستعاذ بالله منه، فأرسل الله ملائكة حفوا بمكة من كل جانب، ووقفوا في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم عليه الصلاة والسلام، فصار ما بينه وبين موقف الملائكة حرما3. وقيل: لأن الخليل -عليه السلام- لما وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بناها، أضاء الحجر يمينا وشمالا، وشرقا وغربا؛ فحرم الله الحرم من حيث انتهى نور الحجر الأسود. وقيل: لأن الله -سبحانه وتعالى- حين قال للسموات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] لم يجبه بهذه المقالة من الأرض إلا أرض الحرم، ولذلك حرمها. ذكر هذا القول السهيلي4، وذكر الأزرقي5 فيما يشهد للقولين الأولين، وقيل غير ذلك.

_ 1 الأحكام السلطانية "ص: 157". 2 تهذيب الأسماء واللغات ج2 ق 2/ 156. 3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 15. 4 الروض الأنف 1/ 222. 5 أخبار مكة للأزرقي "2/ 127.

ذكر علامات الحرم

ذكر علامات الحرم: للحرم علامات بينة، وهي أنصاب مبنية في جميع جوانبه خلا حده1 من جهة جدة، وجهة الجعرانة2 فإنه ليس فيهما أنصاب. وأول من نصب ذلك الخليل -عليه السلام- بدلالة جبريل عليه السلام له، ثم قصي بن كلاب. وقيل: نصبها إسماعيل -عليه السلام- بعد أبيه الخليل، ثم قصي، وهذا يروي عن ابن عباس، ذكره عنه الفاكهي، وغيره3. وقيل: إن عدنان بن أدّ أول من وضع أنصاب الحرم حين خاف أن يدرس الحرم، ذكره الزبير بن بكار. ونصبتها قريش بعد أن نزعوها، والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرته، ونصبها النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان ثم معاوية- رضي الله عنهم- ثم عبد الملك بن مروان، ثم المهدي العباسي، ثم أمر الراضي العباسي بعمارة العلمين الكبيرين اللذين بالتنعيم في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة4، واسمه عليها مكتوب، ثم أمر المظفر صاحب إربل بعمارة العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة في سنة ست وعشرين وستمائة، ثم الملك المظفر صاحب اليمن في سنة ثلاث وثمانين وستمائة5. ولم يذكر الأزرقي القول بتنصيب إسماعيل -عليه السلام- لأنصاب الحرم، ولا نصب عدنان، ولا نصب المهدي لها، ولا تاريخ السنة التي أمر فيها عمر وعثمان -رضي الله عنهما- بنصب ذلك، وكان أمر عمر عثمان بنصب ذلك في سنة سبع عشرة من الهجرة، وأمر عثمان -رضي الله عنه- بذلك في سنة ست وعشرين، على ما ذكره ابن الأثير فيهما6. وقال الأزرقي فيما رويناه بالسند المتقدم: أنصاب الحرم على رأس الثنية: ما كان في وجهها من هذا الشق، فهو حرم، وما كان في ظهرها فهو حل.

_ 1 حده: منزل بين جدة ومكة من أرض تهامة في وسط الطريق، وهو واد فيه حصن نخل، وماء جار من عين، وهو موضع تنزه طيب، والقدماء يسمونه حداد، بالمد. "معجم البلدان 2/ 229". 2 الجعرانة: بكسر أوله، وهي ماء الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم هوازن عند مرجعه من غزوة حنين، وأحرم منها، وله فيها مسجد ... "معجم البلدان 2/ 142، 143". 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 273، بإسناد ضعيف، وانظر الإصابة 1/ 44، والقرى "ص: 652"، والاستيعاب 1/ 80. 4 أخبار مكة للفاكهي 2/ 275. 5 إتحاف الورى 3/ 117. 6 الكامل لابن الأثير 2/ 537، 3/ 87.

وذكر الأزرقي للحرم علامة أخرى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: وكل واد في الحرم فهو يسيل في الحل، ولا يسيل وادي الحل في الحرم إلا في موضع واحد عند التنعيم1، عند بيوت نفار2 ... انتهى. ذكر ذلك الأزرقي في آخر الترجمة التي ترجم بقوله: "ذكر الحرم وكيف حُرِّمَ". وذكر الفاكهي ما يقتضي أن سيل الحل3 يدخل إلى الحرم من عدة مواضع، لأنه قال: "ذكر ما يسكب من أودية الحل في الحرم"، وبين هذه المواضع، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب.

_ 1 يقع وادي التنعيم في الشمال الغربي لمكة، وقد كاد عمران مكة يصل إليه. 2 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 130: "غفار"، وضبطه العيني في "عمدة القاري": "تِعار" 9/ 222. 3 الحل: مكان خارج هذه الأنصاب من جميع الجهات.

ذكر حدود الحرم وضبط ألفاظ فيها

ذكر حدود الحرم وضبط ألفاظ فيها: ذكر الأزرقي رحمه الله تعالى حدود الحرم من جهاته الست1، وذكرها غيره إلا أنه خالف الأزرقي في مقدار بعضها، وأخل بذكر بعضها، وقد تلخص لي مما رأيت للناس في حدود الحرم أن جميع حدوده مختلف فيها على ما سنبينه. فأما حده من جهة الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة2 ففيه أربعة أقوال: نحو ثمانية عشر ميلا على ما ذكره القاضي أبو الوليد الباجي، وأحد عشر ميلا على ما ذكره الأزرقي3، والفاكهي4، وأبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة الخراساني في كتاب "المسالك والممالك"5، والمحب الطبري6 نقلا عن الأزرقي، وسليمان بن خليل، إلا أنه ذكره بصيغة التمريض. وتسعة أميال -بتقديم التاء، على ما ذكر شيخ المذهب أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني في كتاب "النوادر"، وسليمان بن خليل، وصدر به كلامه، والمحب الطبري بعد أن حكى ما ذكره الأزرقي. وسبعة أميال بتقديم -السين على الباء- على ما ذكره الماوردي في كتاب "الأحكام السلطانية"7 له، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "مهذبه"، والنووي في "إيضاحه"،

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 130، 131. 2 نَمِرة: بفتح أوله، وكسر ثانيه. ناحية بعرفة نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: الحرم من طريق الطائف على طريق عرفة من نمرة على أحد عشر ميلا، وقيل غير ذلك. "معجم البلدان 5/ 304، 305". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131. 4 أخبار مكة للفاكهي 2/ 86 وما بعدها. 5 المسالك والممالك "ص: 132". 6 القرى "ص: 651، 652". 7 الأحكام السلطانية "ص: 164، 165".

و"تهذيب الأسماء واللغات1 له. وفيما قالوه نظر قوي يقتضي بُعْدَ استقامةِ قولهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وذكر النووي في "التهذيب" أن الأزرقي انفرد بما قاله في حد الحرم من طريق "الطائف"، وقال: إن الجمهور قالوا ستة2 ... انتهى بالمعنى. ولم ينفرد الأزرقي بقوله بموافقة ابن خرداذبه له على قوله، بل لا يعرف له فيما قاله مخالف قبله، ولا معاصر له، ولا بعده، غير الماوردي، وصاحب "المهذب"، ولو خالف الأزرقي غيرهما لنقل ذلك كما نقلت مخالفتهما للأزرقي، وقد تبعهما على ذلك النووي وغيره من المتأخرين، ولم يذكر ذلك سليمان بن خليل، ولا المحب الطبري، وذلك يشعر بعدم رضاهما لهذا القول، لأنهما ذكرا في حدود الحرم ما قاله ابن أبي زيد وغيره، وكان ذكرهما لذلك أولى، لكون قائله من الشافعية، ولا يقال لعل ذلك خفي عليهما، فإن ذلك مشتهر جدا، والله أعلم. وأما حده من جهة العراق: ففيه أربعة أقوال: أحدها: سبعة أميال -بتقديم السين- على ما ذكره الأزرقي. وثمانية أميال على ما ذكره ابن أبي زيد المالكي في "النوادر". وعشرة أميال على ما ذكره سليمان بن خليل. وستة أميال على ما ذكره أبو القاسم بن خرداذبه3. وذكر الأزرقي رحمه الله أن الحد في هذه الجهة على ثنية خل بالمقطع. فأما خل: فبخاء معجمة مفتوحة. وأما المقطع: فبضم الميم وفتح الطاء المشددة، على ما وجدت بخط سليمان بن خليل فيهما. ووجدت بخط المحب الطبري في "القرى" على الخاء من خل نقطة من فوق وعلى اللام شدة، ووجدت بخطه ضبط المقطع بفتح الميم وإسكان القاف4. ووجدت في غير موضع من تاريخ الأزرقي على الخاء من خل نقطة من فوقها، ورأيت في "الإيضاح" للنووي و"تهذيب الأسماء واللغات" له، عوض "خل": "جبل" بجيم وباء موحدة، ولا يبعد أن يكون ذلك تصحيفا، والله أعلم.

_ 1 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 82. 2 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 83. 3 المسالك والممالك "ص: 132". 4 القرى "ص: 652".

وذكر الأزرقي أن سبب تسمية اسم المقطع بذلك: أنهم قطعوا منه أحجار الكعبة في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما. وقيل: لأنهم كانوا في الجاهلية إذا خرجوا من الحرم علقوا في رقاب إبلهم من قشور شجر الحرم، وإن كان رجل علق في رقبته، فأمنوا حيث توجهوا. ويقال: هؤلاء وفد الله تعظيما للحرم، فإذا رجعوا فدخلوا الحرم قطعوا ذلك، فسمي ذلك هناك المقطَّع1. وأما حده من جهة الجعرانة: ففيه قولان: تسعة أميال -بتقديم التاء- كما ذكره الأزرقي2، وبريد، وهو اثنا عشر ميلا على ما ذكر ابن خليل، وحكايته لهذا القول بصيغة التمريض بعد ذكره للقول السابق. والجِعرانة: بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء على ما هو الصواب في ضبطها وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى. وذكر الأزرقي أن حد الحرم من جهة الجعرانة: في شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد3 ... انتهى. وعبد الله بن خالد بن أسيد المنسوب إليه هذه الشعب هو فيما أحسب ابن أخي عتاب بن أسيد بن العاص القرشي الأموي أمير مكة، لأنه كان لعبد الله المذكور بمكة شهرة لولايته لأمر مكة وغير ذلك، ونسب إليه بها مقبرة بأعلى مكة، وهي التي دفن فيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والله أعلم. وذكر سليمان بن خليل أن عبد الله بن خالد المنسوب إليه هذا الشعب هو: عبد الله بن خالد بن أسيد الخزاعي. وذكر ابن جماعة ما يخالف ذلك أيضا، لأنه قال لما ذكر حد الحرم من هذه الجهة: ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله القسري ... انتهى4. وما أشرنا إليه من نسبة هذا الشعب لعبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص أشبه بالصواب من نسبته لغيره، لأن التعريف إنما يكون في الغالب بأشهر الأحوال، وليس لمن نسب إليه ابن الخليل هذا الشعب، ولا لمن نسبه إليه ابن جماعة من الشهرة، مثل ما لمن نسبناه إليه، والله أعلم بالصواب

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 382، 383. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131. 3 هو: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص، أخو عتاب بن أسيد، "انظر ترجمته في: أسد الغابة 3/ 221". 4 هداية السالك 2/ 708.

وحد الحرم من هذه الجهة لا يعرف موضعه الآن، إلا أن بعض أعراب مكة زعم أنه في مقدار نصف طريق الجعرانة، وسئل عن سبب معرفته لذلك فقال: إن الموضع الذي أشار إليه في محاذاة أعلام الحرم من جهة نخلة، وهي جهة العراق، والله أعلم بصحة ذلك. وأما حده من جهة التنعيم ففيه أربعة أقوال: ثلاثة أميال، على ما ذكره الأزرقي1، وابن خرداذبه2، والماوردي3، وصاحب "المهذب" وغيرهم. ونحو أربعة أميال، على ما ذكره ابن أبي زيد في "النوادر" عن غير واحد من المالكية. وأربعة أميال، على ما قال الفاكهي4. وخمسة أميال، على ما ذكره أبو الوليد الباجي، ونص كلامه: وأما التنعيم فإني أقمت بمكة، وسمعت أكثر الناس يذكرون أنها خمسة أميال، ولم أسمع في ذلك اختلافا مدة مقامي بها، ولو كان بين مكة والتنعيم أربعة أميال لوجب أن يكون بين مكة والحديبية -على هذا التعدي: قريب من خمسة عشر ميل، لأنها أزيد من ثلاثة أمثالها ... انتهى. وفي هذا القول نظر، وكذا في القول الذي ذكره الفاكهي، والقول الذي ذكره ابن أبي زيد على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. ووقع فيما ذكره ابن أبي زيد في حد الحرم من هذه الجهة ما يقتضي أنه إلى منتهى التنعيم، لأنه قال: ومن غير الموازنة لغير واحد من أصحابنا أن حد الحرم مما يلي المدينة نحو أربعة أميال إلى منتهى التنعيم. انتهى. وذكر الأزرقي ما يخالف ذلك، لأنه قال: ذكر حدود الحرم: من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار3 على ثلاثة أميال5. انتهى. وذكر المحب الطبري في "شرحه للتنبيه" ما يرجح ما ذكره الأزرقي، لأنه ذكر أن التنعيم أمام الحل قليلا، وأن من فسره بطرف الحل أطلق اسم الشيء على ما قرب منه. انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 130، 131. 2 المسالك والممالك "ص: 132. 3 الأحكام السلطانية "ص: 164". 4 أخبار مكة للفاكهي "5/ 61، وقد نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3/ 607، والمحب الطبري في القرى "ص: 623". 5 معجم البلدان 1/ 214.

وإذا كان من فسر التنعيم بطرف الحل متجوزا في تفسيره، فكيف بمن جعل منتهى التنعيم أول الحل من جهة المدينة كما هو مقتضى ما ذكره ابن أبي زيد؟! والله أعلم. "ونفار" المذكور في حد الحرم من هذه الجهة في كلام الأزرقي، بنون مكسورة وفاء وألف وراء مهملة، على ما ذكر غير واحد. وأما حده من جهة "جدة" ففيه قولان: عشرة أميال، على ما ذكر الأزرقي1، وابن أبي زيد. ونحو ثمانية عشر ميلا، على ما ذكر الباجي في مقدار ما بين مكة والحديبية، بتخفيف الياء الثانية على الصواب فيها، ومنتهاها حد الحرم من جهة جدة، كما نقل ابن أبي زيد في "النوادر". وذكر الأزرقي أن منتهى الحد في هذه الجهة منقطع الأعشاش2، والأعشاش جمع عش وبعضها في الحل، وبعضها في الحرم، وكذلك الحديبية على ما قال الشافعي وابن القصار. وقال الماوردي3: إنها في طرف الحل، وقال مالك: إنها في الحرم. وهي والأعشاش لا يعرفان اليوم، ويقال: إن الحديبية هي البئر التي تعرف ببئر شميس4 في طريق جدة، والله أعلم. وأما حده من جهة اليمن ففيه قولان: سبعة أميال بتقديم السين، على ما ذكره الأزرقي2 وابن أبي زيد، وسليمان بن خليل. وستة أميال، على ما وجدت بخط المحب الطبري في "القرى"5. ورأيت ذلك في ثلاث نسخ من "القرى"، وأخشى أن يكون وهما ولا يقال سَبْق قَلَم، لأنه في "القرى" بعد ذكره لذلك القول الذي ذكره الأزرقي وابن أبي زيد، والله أعلم. وموضع الحد في هذه الجهة طرف "أضاة لبن" في ثنية لبن، على ما ذكره الإمام الأزرقي6، وهذه الأضاة تعرف اليوم بأضاة ابن عقش، وفيها علامة مبنية لمعرفة حد الحرم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 20/ 130. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131. 3 الأحكام السلطانية "ص: 165". 4 معجم البلدان 3/ 365. 5 القرى "ص: 652". 6 جاء في معجم البلدان 1/ 28: أن أضأة لبن: حد من حدود الحرم على طريق اليمن.

والأضاة: مستنقع الماء، وهي بهمزة مفتوحة وضاد معجمة على وزن فتاة. ولبن، بكسر اللام وسكون الباء الموحدة، قال الحازمي، وضبطها سليمان بن خليل بتفح اللام والباء على ما وجدت بخطه في غير موضع من "منسكه" والله أعلم. هذا ما رأيته للناس في حدود الحرم بالأميال، ورأيت في ذلك لبعض الحنفية ما يستغرب جدا، لأن القاضي شمس الدين السروجي الحنفي حكى في "مناسكه"، عن أبي جعفر الهنداوي أنه قال: مقدار حد الحرم من جهة المشرق، ستة أميال، ومن الجانب الثاني: اثنا عشر ميلا. قال صاحب "المحيط": وفيه نظر، فإن ذلك هو التنعيم، قريب من ثلاثة أميال من مكة. ومن الجانب الثالث: ثلاثة عشر ميلا. ومن الرابع: أربعة وعشرون ميلا ... انتهى. والظاهر والله أعلم أن قائل هذا الكلام أراد بحده من جهة المشرق جهة العراق، وبالحد الثاني: جهة التنعيم، وبالحد الثالث: جهة اليمن، وبالحد الرابع: جهة جدة، وإنما كان ما ذكره هذا القائل مستغربا لنقصه من حده من جهة المشرق، وكثرة الزيادة في حده من الجهات الثلاث، وإنما لم أذكر ذلك مع ما ذكره غيره في حدود الحرم، لعدم تصريح قائل ذلك بجوانب الحرم التي حددها، وقد اعتبرت بما قاله الناس في تحديد الحرم من جميع جهاته المعروفة الآن، وهي جهة الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة، "عرنة"، وطريق العراق، وطريق التنعيم، وطريق اليمن، وكان اعتبارنا لذلك بجبل مقدر على الذراع المعتبر في أميال مسافة القصر، وهو ذراع اليد على ما ذكره المحب الطبري في "شرحه للتنبيه"، وذكر أن مقداره أربعة وعشرون أصبعا، كل أصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض ... انتهى. كذا وجدت بخطه. وأشار إلى ذلك النووي في "تحرير التنبيه"، وغلط النووي "القلعي" في قوله: "إن الأصبع ثلاث شعيرات. ومقدار الذراع المشار إليه من ذراع الحديد المستعمل في القماش بمصر ومكة الآن: ذراع إلا ثمن ذراع، هكذا اعتبره جماعة من أصحابنا بذراع أيديهم، ثم اعتبروا ذلك بشعير معتدل مرصوص. فجاء كما قال المحب الطبري ومن وافقه، وكان اعتبارهم لذلك بحضوري.

ذكر تحديد حد الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة من طريق نمرة

ذكر تحديد حد الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة من طريق نمرة: من حد باب بني شيبة إلى العلمين اللذين هما علامة لحد الحرم من جهة عرفة سبعة -بتقديم السين- وثلاثون ألف ذراع ومائة ذراع وعشرة أذرع وسبعا ذراع، بذراع اليد، يكون ذلك أميالا، عشرة أميال وثلاثة أخماس ميل وخُمس سُبع عشر ميل يزيد سُبعي ذراع، هذا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، وهو الذي ينبغي أن يعتبر في حدود الحرم، لكون غالبا أقرب إلى موافقة ما هو المشهور في قدرها، فإنها إذا اعتبرت على القول بأن مقدار الميل ألفا ذراع، يزيد مقدارها نحو مثل ما هو مشهور فيها، وإذا اعتبرت على القول بأن الميل ستة آلاف ذراع، ينقص مقدارها عما هو مشهور فيها نحو نصف ذلك، واعتبار ذلك على هذين القولين مشكل جدا لكثرة الزيادة وكثرة النقص، على أن اعتبار ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع لا يخلو من إشكال، إلا أن الأمر فيه قريب، لتأتي الجواب عنه، ويتأيد كون اعتبار ذلك على هذا القول أولى، لكونه أصح الأقاويل في مقدار الميل، على ما ذكره ابن عبد البر، والله أعلم. ولا يعكر على ما أشرنا إليه من ترجيح اعتبار هذا القول في حدود الحرم ما يقع في الاعتبار عليه من الزيادة والنقص المقتضيين مخالفة ما هو مشهور في حدود الحرم، لأن الزيادة والنقص يكونان في الغالب شيئا يسيرا، وربما كان ذلك لشدة المد في الحبل المقيس به وإرخائه، أو لأجل ارتفاع الأرض وانخفاضها، أو لأجل اعتبار غيرنا لذلك من موضع غير الموضع الذي اعتبرنا منه، مثل أن يكون اعتبارنا وقع من باب بني شيبة، والأزرقي اعتبر من موضع بينه وبين المعلاة في غير اعتباره لحد الحرم من جهة عرفة، ومن عتبة باب المعلاة إلى العلمين اللذين هما حد الحرم من هذه الجهة: خمسة وثلاثون ألف ذراع وثلاثة وثمانون ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: عشرة أميال وسبع سبع ميل وخمس سبع عشر ميل وخمس خمس سبع عشر ميل. ولم يعتبر الأزرقي حد الحرم في هذه الجهة من باب المعلاة، وإنما اعتبره من باب بني شيبة، ووقع له ما يوهم أن حد الحرم من هذه الجهة ينتهي إلى دون قبلة مسجد عرفة بخمسة وعشرين ذراعا؛ لأنه ذكر أن حد الحرم من هذه الجهة على أحد عشر ميلا، وذكر مواضع هذه الأميال إلى عرفة، فقال في موضع الميل الحادي عشر: وموضع الميل الحادي عشر في حد المكان الذي يدور حول قبلة مسجد عرفة مسجد إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وبينه وبين جُدُر المسجد: خمس وعشرون ذراعا ... انتهى. وذلك يقتضي أن يكون العلمان المشار إليهما في غير الحد. وذكر الأزرقي ما يوهم أن حد الحرم من هذه الجهة ينتهي إلى دون العلمين اللذين هما علامة حد الحرم من هذه الجهة، بمقدار ستمائة ذراع وواحد وستين ذراعا، لأنه قال: ومن حد الحرم إلى مسجد عرفة: ألف ألف ذراع وستمائة ذراع وخمس أذراع ... انتهى.

وإنما كان حد الحرم من هذه الجهة ينتهي إلى دون العلمين المشار إليهما بالقدر الذي ذكرناه، لأنا اعتبرنا مقدار ما بين العلمين المشار إليهما والجدار القبلي من مسجد عرفة، فكان ذلك ألف ذراع وسبعمائة ذراع بتقديم السين وثلاثة أذرع بذراع الحديد، ويكون ذلك بذراع اليد ألف ذراع وتسعمائة ذراع بتقديم التاء وستة وأربعين ذراعا، وذلك يقتضي أن يكون العلمان المشار إليهما في غير الحد، والعلمان المشار إليهما: هما اللذان إلى مكة أقرب من العلمين اللذين إلى عرفة أقرب، وكون العلمين المشار إليهما علامة لحد الحرم من هذه الجهة، أشبه بالصواب من كون حد الحرم دونهما إلى مكة، أو أمامها إلى جهة عرفة قريبا من المسجد المنسوب إليهما، كما يوهم كلام الأزرقي في الموطنين، لأن في العلمين المشار إليهما حجرين، مكتوب في كل منهما: اللهم أيد بالنصر والظفر، عبدك لأنعمك، يوسف بن عمر، فهو الآمر بتجديد هذا العلم الفاصل بين الحل والحرم. وفيه مكتوب أيضا أن ذلك في سنة ثلاث وثمانين وستمائة. ويوسف بن عمر المشار إليه: هو الملك المظفر صاحب اليمن، والعادة جرت بأن بناء مثل ذلك لا يكون إلا عن أخبار مستفيضة، أو علامة قديمة كانت قبل ذلك، فخرجت، وجدد عوضها في محلها1، والله أعلم. وأما النظر الذي أشرنا إليه في قول من قال إن قدر الحرم من هذه الجهة على سبعة أميال بتقديم السين فبيانه أن قدر الحرم من هذه الجهة على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع تزيد على عشرة أميال، سواء اعتبرت المسافة من باب بني شيبة أو من باب المعلاة، ومجرى هذه الزيادة يظهر مما سبق قريبا، وأن قدر الحرم من هذه الجهة على القول بأن الميل أربعة آلاف ذراع يكون تسعة أميال بتقديم التاء وخمس ميل وعشر وربع عشر عشر ميل، يزيد سبعي ذراع، هذا إن اعتبرنا المسافة من باب بني شيبة. وإن اعتبرنا المسافة على هذا القول من باب المعلاة، يكون قدر الحرم من هذه الجهة: ثمانية أميال وثلاثة أرباع ميل وخمس عشر ميل وسبعة أسباع عشر عشر عشر ميل، يزيد سبعي ذراع. وأن قدر الحرم من هذه الجهة على القول بأن الميل ألفا ذراع، يكون ثمانية عشر ميلا وثلاثة أخماس ميل ونصف عشر عشر ميل، يزيد سبعي ذراع، هذا على اعتبار

_ 1 ذكر في إتحاف الورى 3/ 17 أخبار تلك العمارة التي قام بها يوسف بن عمر، وذلك في أخبار سنة 683 هـ.

المسافة من باب بني شيبة، ويكون ذلك على هذا القول باعتبار المسافة من باب المعلاة: سبعة عشر ميلا ونصف ميل وخمس خمس وستة أسباع خمس عشر عشر ميل. وأن قدر الحرم من هذه الجهة على القول بأن الميل ستة آلاف ذراع يكون ستة أميال وخمس ميل وسدس عشر عشر ميل يزيد سبعي ذراع، هذا باعتبار المسافة من باب بني شيبة، ويكون ذلك باعتبارها من باب المعلاة على هذا القول: خمسة أميال ونصف ميل وثلث ميل وثلث خمس خمس ميل وخمسي سبع عشر عشر ميل. وإذا تقرر أن مقدار الحرم من هذه الجهة ما ذكرناه على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل، ظهر بذلك بُعْدُ استقامة قول من قال: إن مقدار الحرم من هذه الجهة سبعة أميال بتقديم السين، لكون ذلك يخالف مقتضى هذه الأقوال باعتبار كثرة الزيادة على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل غير القول بأنه ستة آلاف ذراع، وباعتبار كثرة النقص على مقتضى القول بأن الميل ستة آلاف ذراع، فإن النقص يكون على مقتضاه أربعة أخماس ميل إلا عشرة أذرع باليد تقريبا، في اعتبار المسافة من باب بني شيبة، ويكون النقص على مقتضى هذا القول أيضا في اعتبار المسافة من عتبة باب المعلاة ميلا وقريبا من سدس ميل، والله أعلم. واعلم أنه وقع للنووي رحمه الله ما يقتضي أن حد الحرم من هذه الجهة على خلاف قوله إنه سبعة أميال بتقديم السين لأنه قال في "الإيضاح": واعلم أن بين مكة ومنى فرسخا. وذكر معنى ذلك في غيره من كتبه. وتظهر المخالفة بين ذلك وبين قوله: إن حد الحرم من هذه الجهة على سبعة أميال، بتقديم السين ببيان مقدار ما بين مكة ومنى، ومقدار ما بين منى والعلمين اللذين هما علامة حد الحرم من جهة عرفة. فأما مقدار ما بين مكة ومنى: فهو ثلاثة عشر ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وثمانية وستون ذراعا، وذلك من جدار باب بني شيبة إلى طرف العقبة التي هي حد منى من أعلاها مما يلي جمرة العقبة. وأما مقدار ما بين منى والعلمين -المشار إليهما: فذلك ثلاثة وعشرون ألف ذراع وثمانمائة ذراع واثنان وأربعون ذراعا وسبعا ذراع، وذلك من طرف العقبة1 المشار إليها إلى العلمين المشار إليهما. وإذا تقرر ذلك، فالذي من عقبة منى إلى العلمين المشار إليهما، قدر ما بين مكة ومنى، باعتبار المسافة من باب بني شيبة مرتين ينقص ألفي ذراع وثمانمائة ذراع وثلاثة

_ 1 كان في الأصل: "العقبة التي مشار".

وتسعين ذراعا بتقديم التاء ويلزم على مقتضى قول النووي: "أن بين مكة ومنى فرسخا" أن يكون ما بين طرف العقبة المشار إليه والعلمين المشار إليهما: خمسة أميال وثلث ميل يزيد سبعة وسبعين ذراعا باليد، ويضم مقدار ما بين عقبة منى والعلمين المشار إليهما إلى مقدار ما بين مكة وعقبة منى، فيصير جملة ذلك: ثمانية أميال وثلث ميل وسبعة وسبعين ذراعا، ويكون ذلك مقدار الحرم من هذه الجهة على مقتضى قول النووي: أن بين مكة ومنى فرسخا، ويتعارض ذلك مع قول للنووي: إن حد الحرم من جهة عرفة سبعة أميال بتقديم السين ويقوى به النظر الذي أشرنا إليه فيما ذكره في حد الحرم من جهة عرفة، والله أعلم. وربما كان مقدار حد الحرم من هذه الجهة على مقتضى قول النووي: أن بين مكة ومنى فرسخا أكثر من هذا المقدار، إذا كان الاعتبار لما بين مكة ومنى من باب المعلاة، لأن من عتبة باب المعلاة إلى طرف العقبة المشار إليه: أحد عشر ألف ذراع ومائتي ذراع وواحدا وأربعين ذراعا وسبع ذراع، ومقدار ما بين منى والعلمين بالنسبة إلى مقدار ما بين مكة ومنى مرتان، بزيادة ألف ذراع وثلاثمائة وستين ذراعا، يزيد، فيكون مقدار ما بين منى والعلمين المشار إليهما: ستة أميال وثلث ميل، بزيادة مائة ذراع وأربعة عشر ذراعا، إذا كان مقدار ما بين مكة ومنى فرسخا، وكان الاعتبار لذلك من باب المعلاة، ويضم مقدار ما بين منى والعلمين إلى مقدار ما بين مكة ومنى، فيصير جملة ذلك تسعة أميال وثلث ميل بزيادة مائة ذراع وأربعة عشر ذراعا، ويكون ذلك مقدار الحرم من هذه الجهة على مقتضى قول النووي: "إن بين مكة ومنى فرسخا"، والله أعلم. واعلم أن قول النووي أن بين مكة ومنى فرسخا، فيه إشارة إلى أنه لم يعتبر في ذلك قول من قال: إن الميل ستة آلاف ذراع، لأنه لو اعتبر ذلك لزم أن يكون ما ذكره في مقدار ما بين مكة ومنى غير مستقيم، لأن المسافة تنقص عن الثلاثة الأميال، وهي مقدار الفرسخ ميلا وثمن ميل وثمانية أذرع وستة أسباع ذراع، في اعتبار المسافة من باب المعلاة، وينقص في اعتبارها من باب بني شيبة، ثلاثة أرباع ميل وسدس ثمن ميل وستة أذرع وأربعة أسباع ذراع، وإذا كان الأمر بين حمل كلام النووي على وجه مستقيم، وحمله على وجه لا يستقيم، فحمله على الأول أولى، والله أعلم.

ذكر تحديد حد الحرم من جهة العراق

ذكر تحديد حد الحرم من جهة العراق: من جدار باب بني شيبة إلى العلمين اللذين هما علامة حد الحرم في طريق العراق، وهما العلمان اللذان بحارة وادى نخلة: سبعة وعشرون ألف ذراع ومائة ذراع واثنان وخمسون ذراعا باليد، يكون ذلك أميالا، على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع: سبعة أميال بتقديم السين وخمسة أسباع ميل وثلاثة أسباع عشر ميل يزيد ذراعين. ومن عتبة باب المعلاة إلى العلمين المشار إليهما: خمسة وعشرون ألف ذراع وخمسة وعشرون ذراعا باليد، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع: سبعة أميال بتقديم السين وسبع ميل ونصف سبع عشر ميل. وما ذكره الأزرقي في مقدار الحرم من هذه الجهة يمكن أن يتمشى على اعتبار المسافة من باب المعلاة ليسارة الزيادة على السبعة الأميال في اعتبار المسافة من باب المعلاة. وما ذكره ابن أبي زيد في كون مقدار الحرم من هذه الجهة ثمانية أميال يمكن أن يتخرج على اعتبار المسافة من باب بني شيبة ليسارة النقص عن الثمانية الأميال في اعتبار المسافة من باب بني شيبة. ويبعد تخريج ما ذكره ابن خرداذبه في أن مقدار الحرم من هذه الجهة ستة أميال، وأبعد من ذلك ما ذكره سليمان بن خليل في أن مقدار الحرم من هذه الجهة عشرة أميال، والله أعلم.

ذكر تحديد حد الحرم من جهة التنعيم وهي طريق المدينة وما يليها

ذكر تحديد حد الحرم من جهة التنعيم وهي طريق المدينة وما يليها ... ذكر تحديد حد الحرم من جهة التنعيم وهي طريقة المدينة وما يليها: من جدار باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة إلى أعلام الحرم في هذه الجهة التي في الأرض لا التي على الجبل: اثنا عشر ألف ذراع وأربعمائة ذراع وعشرون ذراعا بذراع اليد، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وخُمْسَين ميل وسبع ميل وخمس خمس سبع ميل. ومن عتبة باب الشبيكة إلى الأعلام المشار إليها: عشرة آلاف ذراع وثمانمائة ذراع واثنا عشر ذراعا، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وثلاثة أخماس سبع ميل وخمس عشر عشر ميل وسبع عشر عشر ميل. وما ذكره الأزرقي في مقدار حد الحرم من جهة التنعيم، لعله اعتبره من موضع باب الشبيكة أو ما قرب منه، فإن الزيادة يسيرة في اعتبار المسافة من هذا الموضع على مقدار ما ذكره في حد الحرم من هذه الجهة. وأما قول من قال: إن مقدار الحرم من هذه الجهة أربعة أميال فيبعد تخريجه على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، لأنا إن اعتبرنا المسافة من باب الشبيكة، كان النقص عن الأربعة أميال: أربعة أخماس ميل وعشر ميل وعشر ميل.

وثلاثة أذرع، وإن اعتبرناها من باب العمرة: نقصت المسافة نصف ميل إلا مائة وسبعين ذراعا. ويبعد أيضا تخريج ذلك على القول بأن الميل أربعة ألاف ذراع، لأن المسافة تنقص عن ذلك ميلا إلا عشر ميل ونصف عشر عشر ميل، على اعتبار المسافة من باب العمرة. وأما على اعتبارها من باب الشبيكة، فتنقص ميلا وأزيد من ربع ميل. وكذلك يبعد تخريج قول من قال: إن قدر الحرم من هذه الجهة نحو أربعة أميال، لأنه في معنى القول بالأربعة. وأبعد من هذا كله ما ذكره الباجي من أن مقدار الحرم من هذه الجهة على خمسة أميال، لأنه لا يتخرج إلا على القول بأن الميل ألفا ذراع، وفي التخريج عليه نظر، وعلى أن الاعتبار في ذلك من باب الشبيكة، ومع ذلك فتزيد المسافة على الخمسة أميال مقدار خمسي ميل. وأما على اعتبار المسافة من باب العمرة، فتزيد المسافة ميلا ونحو ربع ميل، وهذا هو النظر الذي أشرنا إليه في هذه الأقوال، والله أعلم.

ذكر تحديد حد الحرم من جهة اليمن

ذكر تحديد حد الحرم من جهة اليمن: من جدار باب المسجد الحرم المعروف بباب إبراهيم إلى علامة الحرم في هذه الجهة: أربعة وعشرون ألف ذراع وخمسمائة ذراع وتسعة أذرع -بتقديم التاء- وأربعة أسباع ذراع، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: سبعة أميال تزيد سبعة أذرع وأربعة أسباع ذراع. ومن عتبة باب مكة المعروف بباب الماجن إلى حد الحرم في هذه الجهة: اثنان وعشرون ألف ذراع وثمانمائة ذراع وستة وسبعون ذراعا بتقديم السين وأربعة أسباع ذراع. ومقدار ذلك من الأميال على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: ستة أميال ونصف ميل وربع سبع ميل يزيد ذراعا وأربعة أسباع ذراع. وقد حررنا مقدار الحرم من جميع جهاته الأربع المعروفة على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب. واقتصرنا في هذا الكتاب على ذكر ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، لرجحانه، وطلبا للاختصار، وقد نظم بعضهم في حدود الحرم أبياتا، وهي: وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانَهْ

وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشرٌ، ثم تسع جعرانهْ ومن يمن سبع بتقديم سينها ... فسل ربك الوهاب يرزقك غفرانهْ وقد زد في حد لطائف أربع ... ولم يرض جمهور لذا القول رجحانهْ والبيتان الأولان لا أعرف ناظمهما، والبيتان الآخران لجدي لأبي قاضي القضاة كمال الدين أبي الفضل محمد بن أحمد النويري الشافعي، قاضي مكة وخطيبها، وعالم الحجاز في عصره، تغمده الله برحمته، على ما وجدت في تأليف له بخط بعض مشايخنا يسمى "المعلم بدية الحر المسلم". وبعض الناس ينشد بيت جدي الأول على غير ما ذكرناه، فيقول: من يمن سبع بتقديم سينها ... وقد كملت فاشكر لربك إحسانهْ وهذا هو المشهور عند الناس. ويجمع بين هذا الاختلاف بأن يكون جدي قال ذلك على الوجهين، وكأن جدي رضي الله تعالى عنه قصد بالبيت الأول في نظمه إفادة حد الحرم من جهة اليمن، لكون ناظم البيتين الأولين لم يتعرض فيهما لحد الحرم من جهة اليمن، كما وقع للماوردي في "الأحكام السلطانية"1، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي في "مهذبه"، وكأن جدي رحمة الله عليه قصد بالبيت الثاني من نظمه أن يفيد في حد الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة، ما قيل من أنه أحد عشر ميلا، كما ذكره الأزرقي في تاريخه2، وأن الراجح في حد الحرم من هذه الجهة قول من قال إنه سبعة أميال بتقديم السين على الباب كما قال الماوردي3، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والنووي4، وقلدهم جدي في رجحان ذلك. وفي كون ذلك راجحا نظر لما سبق بيانه من بُعْدِ استقامة قولهم، خصوصا النووي رحمه الله لاضطراب كلامه في ذلك وسبب ذلك والله أعلم: تقليدهم في ذلك مع بعدهم عن المكان، وعدم اعتبارهم لذلك، ولو اعتبر كل من هؤلاء الأئمة هذا الأمر كما اعتبرناه لظهر له صحة ما قلناه، وإنما قلدوا في ذلك، فلم يستقم، وقد طال الكلام في هذا الأمر، ولكن الموجات اقتضت ذلك. وكان شيخنا العلامة المغني المصنف المفتي كمال الدين محمد بن موسى بن عيسى الدميري المصري المكي الشافعي رحمه الله ينشد عن جدي رحمة الله تعالى عليه قوله: ومن يمن سبع، البيت، ثم يقول: الأولى أن يقال: ومن يَمَنٍ سبع بتقديم سينها ... لذلك سيل الحل لم يَعْدُ بنيانه

_ 1 الأحكام السلطانية "ص: 173". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131. 3 الأحكام السلطانية "ص: 165". 4 تهذيب الأسماء واللغات 1 ق واللغات 1 ق 2/ 82.

وهذا الصنف الأخير له على ما ذكره لي صاحبنا الإمام صلاح الدين خليل بن محمد الأقفهسي1 أبقاه الله، وذكر لي أن شيخنا كمال الدين كان يعلل ذلك بما فيه من الفائدة في كون سيل الحل لا يدخل الحرم، بخلاف شطر بيت جدي فليس فيه إلا الدعاء. وهذه الفائدة ذكرها غير واحد من العلماء، إلا أنها معترضة بما ذكره الأزرقي من أن سيل الحل يدخل الحرم من جهة التنعيم فقط، وقد سبق كلام الأزرقي في هذا المعنى، ويعارضها أيضا ما ذكره الفاكهي، وقد سبق ذكره. وسمعت بعض أصحابنا ينشد بيت الشيخ كمال الدين هذا بتغيير في لفظه، لأنه نقل عن شيخنا الدميري أنه قال: ومن يمن سبع وكرز لها اهتدى ... لذلك سيل الحل لم يَعْدُ بنيانه وكرز المشار إليه: هو كرز بن علقمة الخزاعي2. وليس هو أول من نصبها في الإسلام، لأن جماعة من الصحابة سبقوه إلى ذلك، منهم: تميم بن أسد، عام الفتح، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم3. ومنهم في زمن عمر رضي الله عنه: حويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع، ومخرمة بن نوفل وأزهر بن عبد عوف الزهريان، كذا في الأزرقي4. والفاكهي5. وفي الفاكهي أيضا عن الزبير بن بكار: أن صبيحة بن الحارث بن جبلة بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، أحد القرشيين اللذين بعثهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يجددون أنصاب الحرم. ومنهم في زمن عثمان رضي الله عنه حويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع وعبد الرحمن بن أزهر ونفر من قريش، وكان هؤلاء يجددونها في كل سنة، كذا في الأزرقي والفاكهي، وليس فيهما ذكر نصب كرز لأنصاب الحرم، وإنما ذكر ذلك ابن عبد البر6، وذكر أن ذلك وقع في زمن معاوية رضي الله عنه في ولاية مروان على مكة.

_ 1 ترجمته في الضوء اللامع 3/ 202 - 204 رقم 165. 2 الجرح والتعديل 7/ 170. 3 مثير الغرام الساكن "ص: 142. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 129. 5 أخبار مكة للفاكهي 2/ 273 ومناسك الحربي "ص: 472 ومثير الغرام "ص: 142". 6 الاستيعاب 3/ 311.

وما عرفت لأي معنى ذكر شيخنا الدميري نصب كرز دون غيره ممن هو أشهر منه، وكان الأولى أن يقول: ومن يمن سبع تميم لها اهتدى ... لذلك سيل الحل لم يعد بنيانه لكونه فعل ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما أثر للجاهلية، فإن للتجديد بعدها أثر، والله أعلم. ولم أر أحدا تعرض لمقدار الحرم إلا أبا القاسم بن خرداذبه الخراساني في كتابه "المسالك والممالك"1، لأنه قال: وطول الحرم حل مكة: سبعة وثلاثون ميلا، وهي التي تدور بأنصاب الحرم ... انتهى. وهي فائدة حسنة، إن صحت، والله أعلم بحقيقة ذلك.

_ 1 المسالك والممالك "ص: 132"، وذكر ابن سراقة في كتاب "الأعداد" أن مساحته ستة عشر ميلا في مثلها. "إعلام الساجد ص: 64".

الباب الرابع

الباب الرابع ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها ... الباب الرابع: في ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها: وشيء من الأحكام المختصة بذلك، وذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك، وفي فضل الحرم. روينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: إن هذا الحرم حرم حذاؤه من السماوات السبع والأرضين السبع، وروينا فيه عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حرم حياله إلى العرش1. وروينا في مسند الشافعي عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سبحانه وتعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس، ولا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا، فإن ارتخص أحد فقال: أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله سبحانه أحلها لي ولم يحلها الناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام كحرمتها بالأمس" ... انتهى باختصار، وأخرجه البخاري ومسلم بالمعنى2. وروينا في مسند أحمد بن حنبل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ما أحل لأحد فيه القتل غيري، ولا تحل لأحد بعدي فيه حتى تقوم الساعة، ما أحل لي منه إلا ساعة من نهار، فهو حرمة الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة، لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا لمعرف" 3، قال: فقال العباس وكان من أهل البلد، قد علم الذي لا بد لهم منه: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 124، 125. 2 أخرجه البخاري 6/ 176، 177، ومسلم "الحج: 1354". 3 المعرف: هو الذي يعرف اللقطة ويحتفظ بها إلى أن يحضر صاحبها.

لهم منه، فإنه للقبور والبيوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر"، أخرجاه بالمعنى1. وروينا في مسند أحمد بن حنبل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال: "لا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد"، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنما نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" أخرجاه أيضا2. وفي لفظ لهما ولأحمد: "لا يعضد شجرها" بدل قول: "لا يختلى شوكها" وفي ألفاظ الأحاديث الواردة في هذا المعنى اختلاف. وقد اقتضت هذه الأحاديث أمورا، منها: منع اختلاء خلا مكة، والخلا مقصور: الكلأ الرطب، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم، ما خلا الإذخر، فإنه يجوز كما في الحديث للحاجة إليه في سقف البيوت والقبور والصباغة وما في معناه، وهو نبت مشهور طيب الرائحة، وفي معنى الإذخر: السنا للحاجة إليه في الدواء، كما في "المدونة" و"الموازية" من كتب أصحابنا المالكية، والصحيح من مذهب الشافعي حل أخذ نبات الحرم لعلف الدابة وللدواء. ومنها: منع عضد شجرة مكة أي قطعها وأرخص مالك في قطع العصا والعصاتين من شجر الحرم. ومنها: منع تنفير صيد مكة، أي لا يصاح عليه فينفر، قاله المحب الطبري، ونقل عن عكرمة أنه قال لرجل: أتدري ما تنفير صيدها؟ هو أن تنحيه من الظل وتنزل مكانه، ونقل معنى ذلك عن سفيان بن عيينة، قال: ولا خلاف أنه لو نفره وسلم فلا جزاء عليه، لكنه أثم بارتكابه النهي. ومنها: منع اصطياد صيد مكة. ومنها: أن لقطتها لا تملك كما هو الأصح من مذهب الشافعي، وهو رأي بعض المالكية، وعند الأئمة الثلاثة أن حكم مكة في لقطتها كغيرها من البلاد، وقد جاءت

_ 1 أخرجه: البخاري "1587"، ومسلم "الحج: 445"، والبيهقي في الشعب "4007"، وأبو يعلى "5928"، وأبو داود "2018"، والنسائي "2874"، والترمذي "1590". 2 أخرجه: البخاري "الحج، فضل الحرم: 2/ 147 مختصرا، وأواخر الحج، "لا ينفر حين لحرم" "3/ 14" وآخر الجهاد إثم الغادر للبر والفاجر "4/ 104- 105"، ومسلم "الحج: تحريم مكة وصيدها". لا يعضد شوكه: لا يقطع شوكه، لا ينفر صيده: لا يتعرض له بالإزعاج، لا يختلى خلاها: الخلى بالقصر: الرطب من النبات أي لا يجز أي لا يحصد.

أحاديث تقتضي امتناع هذه الأمور بالمدينة النبوية، لكن لمكة في ذلك على المدينة مزية من ثلاثة أوجه: الأول: وجوب الجزاء في صيد مكة بالإجماع بخلاف المدينة ففيه خلاف. الثاني: وجوب الجزاء في شجر مكة عند الشافعي وابن حنبل رحمهما الله. الثالث: أنه لم يقل أحد من علماء الأمة فيما علمت بعدم تملك لقطة المدينة. ولمكة أيضا أحكام تخصها، وأحكام تشاركها المدينة فيها. فمن الأحكام التي تخص مكة: أن الصلاة فيها تضاعف على الصلاة في غيرها، لأحاديث صحيحة وردت في ذلك يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. ومنها: تضاعف ثواب القربات بها، الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: تضاعف السيئة بها، كما قال مجاهد، وأحمد بن حنبل فيما حكاه عنهما المحب الطبري في "القرى"1، ومثل ذلك نقل عن غيرهما، والصحيح من مذهب العلماء أن السيئة بمكة كغيرها، والله أعلم. ومنها: أن الإنسان يؤاخذ بهمه بالسيئة بمكة وإن كان نائيا عنها، كما هو مقتضي الحديث الذي رويناه في مسند الإمام أحمد بن حنبل من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولفطه في المسند حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا شعبة، عن السدي أنه سمع عبد الله رضي الله عنه قال شعبة: ورفعه لي ولا أرفعه للمنقول في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] قال: لو أن رجلا هم فيه بإلحاد، وهو بعدن أبين2 لأذاقه الله عذابا أليما ... انتهى. ووجه اختصاص مكة بهذا الحكم: أن غيرها من البلاد إذا هم الإنسان فيها بسيئة لا يؤاخذ بها إلا إذا عملها، كما هو مقتضى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في كتابه الحسنات والسيئات: "وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة" وهذا الحديث في الصحيحين، وهو بظهره يقتضي عموم البلاد في هذا الحكم، فيدخل في ذلك مكة، ولكن حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- المشار إليه يخصها، والله أعلم. وكنت غفلت عن ذكر هذه الخصوصية، فكتب إلى بعض علماء عصرنا ممن وقف على بعض هذ الكتاب يذكرها لي، ونص ما كتبه إلي: رأيت مختصر مولانا لأخبار

_ 1 القرى "ص: 659". 2 عدن أبين: هي جزيرة باليمن أقام بها "أبين" رجل من حمير.

مكة، وذكرتم خصائص الحرم بأشياء، ولم تتعرضوا لمن همَّ فيه بسيئة، فإنهم ذكروا من خصائصه العقوبة على مريد السيئة ومن همَّ بها، وروينا في ذلك حديثا مرفوعا، وهو من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره1، وهو حديث إسناده صحيح، ثم قال: وهذه المسألة ذكرها ابن أبي حاتم في تفسيره، وبسط فيها القول ... انتهى باختصار. وذكر ذلك -أيضا- أبو اليمن ابن عساكر في "فضل منى" عند الكلام على ما اختصت به مكة من الأحكام، ونص كلامه: وأن من أراد فيها الإلحاد ولم يعمل به أذاقه الله من أليم العذاب، وزاد أيضا من خصائصها عدم استباحة غنائمها. ومنها: أن صلاة النافلة التي لا سبب لها لا تكره بمكة في وقت الكراهة، كما هو مذهب الشافعي رحمه الله لحديث من رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولفظه عند الدارقطني: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا يصلي عند هذا البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار" 2. وأخرجه ابن حبان بمعناه، ولفظه عند أصحاب السنن الأربعة، وابن حنبل، وابن حبان أيضا: "يا بني عبد مناف، إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء ليل أو نهار" 3. وجوز البيهقي في المراد بالصلاة احتمالين. أحدهما: أن يكون المراد بالصلاة صلاة الطواف خاصة، وقال: إنه هو الأشبه بالآثار. والاحتمال الآخر: أن يكون المراد جميع الصلوات4. ولفظ حديث الدارقطني يرد الاحتمال الأول الذي ذكره البيهقي أنه أشبه بالآثار، قال القاضي عز الدين بن جماعة: وتأول بعضهم الصلاة على الدعاء، وفيه بُعْدٌ، ومنع

_ 1 مسند أحمد 1/ 227، 310، 361، 2/ 234، 242. 2 أخرجه: الدارقطني 1/ 424، وهو في موارد الظمآن "ص: 165" لكن هذا الجواب لا يتمشى مع أصول الشافعية في حمل المطلق على المقيد، لأنهم لا يشترطون أن يكون المطلق والمقيد واردين في موضوع واحد لكي يحمل المطلق على المقيد. 3 أخرجه أحمد في مسنده 4/ 80، والترمذي في "الحج: الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف 3/ 22" النسائي "إباحة الطواف 5/ 223"، وابن ماجه 1/ 398، وموارد الظمآن "ص: 164- 165". 4 السنن الكبرى للبيهقي 5/ 292، أخرج الحديث، وليس فيه التأويل الذي ذكره المصنف، فلعله في كتاب آخر للبيهقي.

بعضهم الاستدلال بهذا الحديث لعموم النهي، كما هو مذهب المالكية والحنفية1، والله أعلم. ومنها: أن صلاة العيد تصلى بالمسجد الحرام لا في الصحراء كما في سائر البلاد. ومنها: وجوب قصدها في كل سنة على طائفة من الناس لإقامة شعائر الحج. ومنها: أنها لا تدخل إلا بإحرام على تفصيل في ذلك مقرر في كتب الفقه. ومنها: أنه لا يجوز إحرام المقيم في الحرم بالحج خارجه، كما هو مذهب الشافعي، على ما نقل النووي في "الإيضاح"، وهذا لفظه. ومنها: اختصاصها بنحر هدايا الحج. ومنها: لزوم النحر بمكة لنادرة فيها. ومنها: اختصاص حكام مكة في الجزاء بشاة من غير حكم إذا أصيب في الحرم، كما هو مذهب مالك والشافعي. ومنها: أن الخارج يتبع الصيد، فإذا دخل الحرم تركه، ذكر ذلك ابن الحاج عن بعض المفسرين. ومنها: ائتلاف الظباء والسباع فيه، ذكره المحب الطبري2. ومنها: أمن الظباء والوحوش والسباع بها، حتى إن الطيور لتجوز الحد فيعرض لها من السباع ما لا يعرض لها إذا جاز شيء منها الحدود ... انتهى. ذكر ذلك الحافظ، وقال: قالوا: ومنها: كون أهل مكة لا دم عليهم في التمتع والقران عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، لكونهم من حاضري المسجد الحرام، خلافا لأبي حنيفة. ومنها: أن أهلها لا يقاتلون إذا بغوا فيها عند بعض العلماء لكن يضيق عليهم حتي يرجعوا عن ذلك، بل قال: "القفال المروزي"، وهو من كبار الشافعية: أنه يمتنع قتال الكفار بمكة إذا تحصنوا فيها، وهو مقتضى مذهب مالك على ما ذكره ابن شاس وابن الحاجب. ففي "الجواهر" لابن شاس: ولا يجوز قتال الحاضر مسلما كان أو كافرا، وكذا في "مختصر ابن الحاجب".

_ 1 هداية السالك 2/ 738. 2 القرى "ص: 661".

ومذهب أكثر العلماء: جواز قتال الكفار والبغاة بمكة تقديما لحق الله تعالى، لأن قتال الكفار من الحقوق التي لا يجوز إضاعتها، وصحح ذلك النووي، وأجاب عن الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم القتال بمكة بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم، بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصن كفار في بلد آخر، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه بكل شيء، وقال: إن الشافعي نص على هذا التأويل. ومنها عند أبي حنيفة: أن القاتل عمدا إذا لجأ إلى الحرم لا يقتل ما دام فيه، لكن يضيق عليه حتى يخرج منه ليقتل خارج الحرم. ومنها عنده: أن الزاني المحصن إذا لجأ إلى الحرم لا يقام عليه الحد ما دام فيه، بل يضيق عليه حتى يخرج منه ليقتل خارج الحرم. ومنها عنده: أن الحربي إذا لجأ إلى الحرم بغير أمان لا يقتل فيه، بل يضيق عليه حتى يخرج منه. ومذهب أبي حنيفة في هذه الثلاثة المسائل هو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، ومذهب مالك والشافعي: أن الحرم لا يمنع من استيفاء القصاص والحدود. ومنها: أن القاتل في الحرم يغلظ عليه الدية بزيادة ثلثها، سواء كان القتل عمدا، أو خطأ، عند الشافعية والحنابلة، على ما نقل عنهم ابن جماعة في "منسكه" وفيما نقله عن الشافعية1، لأن الصحيح عندهم: أن القاتل في الحرم يغلظ عليه الدية باعتبار التثليث، وهي أن تكون ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وذلك لا يفهمه نقل ابن جماعة، والله أعلم. ومنها: أنه يمنع من خالف دين الإسلام من دخول الحرم مقيما كان أو مارا كما هو مذهب الشافعي، وأكثر الفقهاء على ما نقل الماوردي2، وجوز ذلك أبو حنيفة إذا لم يستوطنوه، ويجوز عند مالك للكافر دخول الحرم مجتازا لتجارة وشبهها لا مستوطنا، والأصل في ذلك، ما رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" 3. ووجه الدليل أن الحجاز هو نفس الجزيرة في قول طائفة من العلماء، وقال طائفة منهم: إن الحجاز بعض الجزيرة، وقالوا: إن المراد بما أطلقه من الجزيرة

_ 1 هداية السالك 2/ 730. 2 الأحكام السلطانية "ص: 167". 3 أخرجه: مسلم "الحج: النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة 4/ 111.

الحجاز بقوله: "أخرجوا المشركين واليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب" 1. ومنها على ما قال ابن الصلاح من الشافعية: لا يجوز أخذ شيء من مساويك الحرم. وذكر ابن الحاج -من أصحابنا أنه لا بأس بأخذ السواك من الحرم. ومنها: أن المستنجي بحجارة الحرم مسيء على ما قال الماوردي، ويجزئه ذلك ومنها: أنه لا يحل حمل السلاح بمكة لغير ضرورة، عند مالك والشافعي، لحديث جابر -رضي الله عنه: "لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة" والحديث في الصحيحين2. ومنها: أنه لا يجوز استقبال الكعبة ولا استدبارها عند قضاء الحاجة في الصحراء إذا لم يكن ثَم ساتر، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في الصحيحين، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم وغيره. ومنها: أن الله تعالى أوجب على أهلها التوسعة على الحجيج إذا قدموا مكة، وأن لا يأخذوا منهم أجرًا على نزولهم في مساكنها، كما هو مفهوم من كلام أبي اليمن ابن عساكر في فضل منى، وتقدم من كلام السهيلي في الباب الأول ما يؤيد ذلك. ومنها: أنه يمتنع على المهاجر منها الإقامة بها إلا ثلاثة أيام بعد الصدر، كما روى العلاء بن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. ومن الأحكام التي تشارك المدينة فيها مكة: تحريم قطع الرطب من شجرها وحشيشها، وتنفير صيدها واصطياده، وإن كان لا جزاء في صيد المدينة كما سبق بيانه لأحاديث صحيحة في ذلك. ومنها: أنه يحرم دفن المشرك فيها، فإن دفن، نبش ما لم يتقطع، نقل ذلك عن النووي الشيخ خليل الجندي المالكي في "منسكه". ومنها: أنه يحرم إخراج ترابها وحجرها، على ما نقل الشيخ خليل الجندي عن ابن الصلاح، ونص كلامه لما ذكر خصائص الحرمين، قال ابن الصلاح: ويختصان بتحريم إخراج الحجر والتراب، ويكره إدخال ذلك من الحل، وخلط ذلك بمثله، ولا

_ 1 أخرجه: أحمد في مسنده 1/ 195، والدارمي 2/ 233، والبيهقي في سننه 9/ 208، كلهم من طريق: إبراهيم بن ميمون، وذكره البخاري في التاريخ الكبير 4/ 57، والهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 28 وعزاه للبزار، وقال: رجاله ثقات. 2 أخرجه البخاري "2/ 19"، مسلم "كتاب الحج: النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة 4/ 111".

يجوز اتخاذ المساويك من إراك الحرم، زاد النووي: ويختصان بتحريم دفن المشرك، ولو دفن نبش ما لم يتقطع ... انتهى. وما ذكره ابن الصلاح من تحريم إخراج تراب الحرم وحجارته إلى خارجه نص عليه الشافعي في "الجامع الكبير"، وفي "الأم" وصححه النووي في "الروضة"، وإن كان نقل في "شرح المهذب" عن الأكثرين من الشافعية أن ذلك مكروه. وقال المحب الطبري: إن كراهية إخراج تراب الحرم إلى الحل كراهية تحريم عندنا1 ... انتهى. والواجب على من أخرج ذلك من الحرم رده إليه، ولا ضمان عليه في ترك الرد، وأما كراهية إدخال تراب الحل وأحجاره إلى الحرم فلئلا تحدث لها حرمة لم تكن لها. وما ذكره ابن الصلاح من كراهية إدخال الحل وأحجاره إلى الحرم نص عليه النووي في "روضته" و"مناسكه"، وذكر في "المجموع": أن الأصحاب متفقون على أن ذلك من باب الأولى، وفيه نظر، لأن صاحب "البيان" نقل عن الشيخ أبي حامد أنه قال: لا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم ... انتهى. والعلة في كراهية ذلك: لئلا يحدث لها حرمة لم تكن. ومذهب الحنابلة: كراهة إخراج تراب الحرم وحصاه إلى الحل، وإدخال ذلك من الحل إلى الحرم، والإخراج أشد على ما قال أحمد. وحكم حرم مكة في ذلك حكم مكة من غير خلاف. وقد اختلف العلماء في مكة وحرمها: هل صار ذلك حرما آمنا من الجبابرة، والخسوف، والزلازل بسؤال الخليل عليه السلام؟ أم لم يزل حرما آمنا منذ خلق الله السماوات والأرض؟ وهو الصحيح على ما ذكره النووي وغيره، لحديث ابن عباس، وأبي هريرة، وابن شريح الخزاعي رضي الله عنهم وإنما سأل الخليل عليه السلام ربه تبارك وتعالى أن يجعل ذلك آمنا من الجدب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، واحتج القائلون بالأول: بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة" 2.... الحديث كما في الصحيحين. وأجاب القائلون بالثاني عن هذا الحديث، بأن إبراهيم عليه السلام أظهر التحريم بعد أن كان مهجورا. والله أعلم بالصواب

_ 1 القرى "ص: 637". 2 أخرجه: البخاري 3/ 88 "البيوع: باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده"، ومسلم "الحج: 1360". وأحمد 4/ 40، والمنتخب من مسند عبد بن حميد "518".

ذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك

ذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك: روينا في تاريخ الأزرقي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: حج الحواريون، فلما بلغوا الحرم مشوا تعظيما للحرم1. وروينا فيه عن ابن جريج قال: كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو ابنه في الكعبة، أو في الحرم، أو في الشهر الحرام فلا يعرض له2. وروى أبو علي بن السَّكَن في سننه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المُغَمْس3. ويروى أن الشيخ أبا عمرو الزجاجي أحد كبار مشايخ الصوفية في مكة أقام بمكة أربعين سنة لم يبل ولم يتغوط في الحرم. ويروى أن الإمام أبا محمد عبيد الله بن سعيد الشنتجالي جاور بمكة دهرا، وكان إذا أراد قضاء الحاجة خرج من الحرم. ومن الأخبار الواردة في تعظيم الذنب في الحرم: ما رويناه في تاريخ الأزرقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه كان يقول: إن من الإلحاد في الحرم أن يقول: كلا والله، وبلى والله4. وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يا أهل مكة لا تحتكروا الطعام، فإن احتكار الطعام بها للبيع إلحاد، وروينا مثل ذلك عن ابنه عبد الله بن عمر. وروينا عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: لأن أخطئ سبعين خطيئة بركبة أحب إلى من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة5 ... انتهى. "وركبة" محاذية لذات عرق ميقات أهل العراق.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 137. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 140. 3 المغمس: هو السهل الفسيح الواسع الذي يبدأ من أرض الصفاح والشرائع العليا "حنين" إلى سهل عرفات، بل إن سهل عرفات كله ما هو إلا امتداد لأرض المغمس، ويقع في وسط أرض المغمس واد عرنة، وشق حديثا طريق ممهد يصل بين عرفات وبين طريق الطائف طوله "15" كم إذا سلكه تكون قد توسطت أرض المغمس. 4 أخبار مكة للأزرقي "2/ 132. 5 أخبار مكة للفاكهي 2/ 256، ورواه عبد الرزاق في مصنفه 5/ 28 من طريق ابن جريج به، وذكره في معجم البلدان 3/ 63 ونسبه لأبي سعيد المفضل الجندي في فضائل مكة.

وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما: الإلحاد في الحرم ظلم الخادم. وقد جاء في هلاك من ظلم بمكة من الأمم أو استخف بحرمتها أخبار كثيرة سنذكر منها شيئا فيما بعد إن شاء الله تعالى. وجاء في النجاة من الذنب بالالتجاء إلى الحرم حديث رويناه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه قال: "لما عقرت ثمود الناقة وأخذتهم الصيحة، لم يبق تحت أديم السماء منهم أحد إلا أهلكته إلا رجلا واحدا كان في حرم الله عز وجل فمنعه الحرم". فقالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال: "أبو رغال أبو ثقيف، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه"، أخرجه أحمد في مسنده ومسلم، وأبو حاتم بن حبان في صحيحهما1.

_ 1 أخرجه أحمد في مسنده 3/ 296، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 122-133.

الباب الخامس

الباب الخامس ذكر الأحاديث الدالة على أن مكة المشرفة أفضل من غيرها من البلاد ... الباب الخامس: في ذكر الأحاديث الدالة على أن مكة المشرفة أفضل من غيرها من البلاد: وأن الصلاة فيه أفضل من غيرها وغير ذلك من فضلها أخبرني إبراهيم بن محمد الصوفي سماعا بالمسجد الحرام، قال: أخبرنا أحمد بن أبي طالب الصالحي، عن أبي المنجا عبد الله بن عمر البغدادي وأبي بكر محمد بن مسعود بن بهروز الطيب، قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السنجري، قال: أخبرنا الفقيه أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن مظفر الداودي، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد السرخسي، قال: أخبرنا إبراهيم بن حزيم، قال: أخبرنا عبد بن حميد الحافظ، قال: أخبرني يعقوب بن إبراهيم الزهري، قال: حدثني أبي عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه أخبره، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته بالحزورة بمكة يقول لمكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت" 1. وأخبرتني الأصيلة أم أحمد فاطمة بنت العز محمد بن أحمد الجبلي قراءة عليها وأنا أسمع بدمشق في الرحلة الثانية، أن القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي أنبأها وتفردت عنه، قالت: أخبرنا الحافظ ضياء الدين المقدسي، قال: أخبرنا زاهر بن أحمد الثقفي، قال: أخبرنا غانم بن خالد، قال: حدثنا الليث بن عقيل، عن محمد بن مسلم أن أبا مسلمة أخبره عن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته واقفا بالحزورة يقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت" 2.

_ 1 أخرجه: الترمذي "3925"، وابن ماجه "3108"، وأحمد 4/ 305. 2 أخرجه ابن ماجه 3108"، والترمذي "3925"، وأحمد 4/ 305، وابن حبان "3708" والحاكم 3/ 431، والأزرقي 2/ 154، وعبد الرزاق "8868".

وأخبرتني عاليا أم محمد بنت المنجا سماعا عن القاضي أبي الفضل المقدسي، قال: أخبرنا الحافظ الضياء، قال: أخبرنا أبو جعفر الصيدلاني وفاطمة بنت سعد الخير قالا: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله قالت: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله، قال: أخبرنا أبو القاسم الطبراني، قال: حدثنا أبو زرعة الدمشقي، قال: حدثنا أبو اليماني، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة. وبه قال الطبراني: وحدثنا عبد الرحمن بن جابر البحتري، قال: حدثنا بشر بن شعيب قال: حدثني أبي، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الحمراء أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بالحزورة في شرقي مكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت"، أخرجه الترمذي والنسائي عن قتيبة بن سعيد عن الليث، وأخرجه ابن ماجه عن زغبة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن زغبة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن زغبة عن الليث، فوقع لنا به بدلا للترمذي والنسائي، وموافقته لابن ماجه وابن حبان1، مع العلو في ذلك، ولله الحمد. وأخرجه النسائي، عن إسحاق بن مسعود الكوسج، عن يعقوب بن أبي إبراهيم الزهري، فوقع لنا بدلا له عاليا، وقال الترمذي: إن حديث ابن الحمراء حديث حسن صحيح على ما نقله عن المحب الطبري في "القرى"2، ومن خطه نقلت ذلك، ولما ذكر هذا الحديث قال: وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء، ثم رأيت فوق الحمراء حفر باب، وفوق الضرب ما صورته الخيار وهذا عجب منه، فإن الحديث مشهور عن ابن الحمراء، والله أعلم، وقال الترمذي عقب حديث ابن الحمراء رواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وحديث الزهري عندي أصح3 ... انتهى. ورويناه في "المعجم الكبير" للطبراني من حديث محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري ابن أخي الزهري، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، عن محمد بن جبير، عن عبد الله بن عدي، وشذ ابن أخي الزهري في ذلك على ما قال صاحبنا الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني أمتع الله بفوائده وما ذكره الترمذي من أن محمد بن عمرو رواه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، لم أره هكذا، وإنما رأيته عنه، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، هكذا رويناه في الجزء الثاني من حديث علي بن حجر

_ 1 أخرجه: الترمذي "3925"، وابن ماجه "3108"، وابن حبان "3708". 2 القرى "ص: 647". 3 الترمذي "3925".

السعدي، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرويه، وفي تارخ الأزرقي عن جده عن سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن عمرويه، ولعل محمد بن عمرويه في الرواية التي ذكرها عنه الترمذي سلك فيها جادة إسناده المتكرر في غير ما حدثت له عن أبي سلمة عن أبي هريرة، والله أعلم. وفي رواية محمد بن عمر المرسلة التي في تاريخ الأزرقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك عام الفتح على الحجون، ولا تضاد بين هذه الرواية على تقدير ثبوتها، وبين الرواية التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو واقف بالحزورة، لإمكان الجمع بين الروايتين، بأن يكون قاله على الحجون في الفتح وبالحزورة حين خرج من مكة في عمرة القضية، لأنه أراد الإقامة بمكة ليبني فيها بزوجته ميمونة بنت الحارث الهلالية، فأبت عليه قريش ذلك، وظن بعض طرق الحديث التي أخرجناها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو على راحلته بالحزورة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة حين هاجر إلى المدينة، لأن الأخبار الواردة في هجرته صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة مستخفيا، ولو ركب بالموضع المشار إليه لأشعر ذلك بسفره، والقصد خلاف ذلك، والله أعلم. والحزورة بحاء مهملة مفتوحة وزاي معجمة، وعوام مكة يصحفون الحزورة ويقولون: عزورة بعين مهملة، وهذا التصحيف من قديم، لأني رأيت ذلك مكتوبا في حجر رباط رامشت بمكة، وتاريخه سنة تسع وعشرين وخمسمائة، والحزورة الرابية الصغيرة والجمع الحزاور، وكان عندها سوق الحناطين بمكة، وهي في أسفلها عند منارة المسجد الحرام التي تلي أجياد، وما وقع مصرحا به في مسند أحمد بن حنبل من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، وما ذكرناه في موضع الحزورة وهو المشهور المعروف على ما ذكره الأزرقي، وذكر عن بعض المكيين أن الحزورة بفناء دار الأرقم، يعني دار الخيزران التي عند الصفا، ونقل عن بعضهم أنها بحذاء الردم في الوادي، والله أعلم. والحزورة مخففة على وزن قسورة، وذكر الدارقطني أن تخفيف الحزورة هو الصواب، وأن المحدثين يفتحون الزاي ويشددون الواو وهو تصحيف، نقل ذلك عنه صاحب "المطالع"، قال: وقد ضبطناه بالوجهين عن ابن سراج ... انتهى. وأفاد الفاكهي سبب تسمية الحزورة، لأنه قال: لما ذكر ولاية ابن نزار للكعبة وبيته: فكان أمر البيت إلى رجل منهم يقال له وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد، فبنى صرحا بأسفل مكة عند سوق الحناطين اليوم وجعل فيه أمة له يقال لها الحزورة، فبها سميت حزورة مكة1 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 145، والقرى "ص: 647".

وقد روينا نحو حديث ابن الحمراء من رواية أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم وعبد الله بن عمرو بن العاص فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخبرني به الحافظان أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين وأبو الحسن علي بن أبي بكر المصريان سماعا بالقاهرة قالا: أخبرنا عبد الله بن محمد المقدسي، قال: أخبرنا علي بن أحمد الحنبلي، عن محمد بن معمر القرشي وأخته عائشة، قالا: أخبرنا سعيد بن أبي الرجاء، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن النعمان، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم المقري الحافظ، قال: أخبرنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، قال: أخبرنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة فقال: "قد علمت أنك خير أرض الله وأحب الأرض إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت" أخرجه النسائي عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق بن همام، فوقع لنا بدلا له عاليا، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده، عن عبد الرزاق به. وعن إبراهيم بن خالد الصنعاني، عن رباح بن زيد عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن بعض الصحابة1. ولم يذكر صاحبنا الحافظ أبو الفضل العسقلاني أبقاه الله أن رواية معمر شاذة، يعني روايته لهذا الحديث، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال: والظاهر أن الوهم فيه من عبد الرزاق، لأن معمرا كان لا يحفظ اسم صحابيه كما جاءت رواية رباح عنه، وعبد الرزاق سلك الجادة فقال: عن أبي سلمة عن أبي هريرة. ثم قال: وإذا تقرر ذلك علم أن لا أصل له من حديث أبي هريرة، والله أعلم ... انتهى. وروينا نحوه في الثالث من حديث المخلص السقاء بن أبي الفوارس، وفي "المنتقى" من سبعة أجزاء من حديث المخلص أيضا من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أخبرني به القاضي المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي سماعا بطيبة عن أحمد بن أبي طالب إذنا وكتابة، وأنبأني به محمد بن عبد الرحمن القضاعي في كتابه أن أحمد بن أبي طالب أخبره سمعا، قال: أخبرنا أحمد بن يعقوب المارستاني إذنا، قال: أخبرنا أبو المعالي بن النحاس، عن أبي القاسم بن البشرين قال: أخبرني أبو طاهر المخلص، قال: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سنان، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا ثابت، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، قال: خرجت في

_ 1 أخرجه ابن حبان في موارد الظمآن "ص: 253"،وابن ماجه "3108"، وأحمد 4/ 305. ولم نجده في سنن النسائي ولا عزاه له جامع الأصول 9/ 292".

وفد فيه أبو هريرة ... فذكر عن أبي هريرة في حديث ذكره أنه قال: لما قدمنا مكة أتته الأنصار وهو قائم على الصفا فجلسوا حوله، فجعل يقلب بصره في نواحي مكة وينظر إليها ويقول: "والله لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى الله وأكرمها على الله، ولولا أن قومي أخرجوني ما خرجت" 1. وبه إلى المخلص قال: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن سنان بالرملة، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا ثابت، قال: حدثنا عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة رضي لله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وبه قال ابن صاعد. هذان الخبران لم يأت بهما في هذا الحديث إلا مؤمل بن إسماعيل ... انتهى. وإسناد هذا الحديث فيه نظر، لأن مؤمل بن إسماعيل الذي تفرد به كثير الخطأ على ما قال أبو حاتم2، وفيه نظر أيضا لمكان غيره فيه، وإنما أوردناه لغرابته، والله أعلم. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فأخبرني به المسندان الإمام المفتي أبو أحمد إبراهيم بن محمد اللخمي ومحمد بن حسن بن علي القرشي المصريان سماعا على الثاني وأجازه ومشافهة من الأول: أن الحافظ أبا الفتح اليعمري أخبرهما سماعا قال: قرأت على أبي حفص عمر بن عبد المنعم القواس من غوطة دمشق: أخبركم أبو لقاسم عبد الصمد بن محمد الأنصاري، قال: أخبرنا أبو الحسين بن المسلم، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب، قال: أخبرنا ابن جميع، قال: حدثنا إبراهيم بن معاوية، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا نصر بن عاصم، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا نصر بن عاصر، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثنا طلحة، عن عطاء بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله وأكرمها على الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" 3. وعاليا عمر بن حسن المزي في إذنه العام، قال: أخبرنا عمر بن عبد المنعم المذكور بسنده السابق، أخرجه الترمذي في المناقب، عن محمد بن موسى البصري، عن فضيل بن سليمان4. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن الحسن بن سفيان، عن

_ 1 أخرجه الدارمي 2/ 239، وأبو يعلي "5928". 2 الجرح والتعديل 8/ 374 رقم 1709. 3 رواه ابن جميع الصيداوي في معجم الشيوخ مخطوطة ليدن ص 88، 89. 4 الترمذي "3921".

فضيل بن الحسين الجحدري، عن فضيل بن سليمان، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير وابن الطفيل كلاهما عن ابن عباس1، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب في هذا الوجه. وأما حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- فذكره الفاكهي في كتابه "أخبار مكة" ولفظه: وحدثنا ميمون بن الحكم الصنعائي، قال: حدثنا محمد بن جعشم، عن ياسين بن معاذ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على أهل مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري أين بعثتك؟ بعثتك على أهل الله، ليس بلد أحب إلى الله عز وجل ولا إلي منها ولكن قومي أخرجوني فخرجت، ولو لم يخرجوني لم أخرج". وحدثنا عبد الله بن عمران، قال: حدثنا سعيد بن سالم، قال: حدثنا عثمان بن ساج، قال أخبرني يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن شهاب الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من حديث ميمون2 ... انتهى. وحديث عبد الله بن عدي بن الحمراء السابق هو حجة القائلين بأفضلية مكة على غيرها من البلاد والأماكن، ما خلا المكان الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل بقاع الأرض بالإجماع، على ما نقل القاضي عياض في شرح مسلم، حتى قيل إنه أفضل من موضع الكعبة على ما صرح به أبو اليمن ابن عساكر في إتحافه، وممن قال بأفضلية مكة على غيرها من البلاد الإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه، وابن وهب وابن حبيب من المالكية، وقال العبدي: إنه مذهب أكثر الفقهاء، وقال ابن عبد البر: إن ذلك يروى عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وغيرهم من الصحابة، قال: وهم أولى أن يقلدوا ممن جاء بعدهم، قال: وحسبك بفضل مكة أن فيها بيت الله الذي رضي بحط الأوزار للعباد بقصده في العمر مرة، ولم يقبل من أحد منهم صلاة إلا باستقبال جهته إن قدر على التوجه إليها، وهي قبلة المسلمين أحياء وأمواتا ... انتهى. قلت: الفضل الثابت لمكة ثابت لجميع حرمها كما ذكره المحب الطبري في "القرى لقاصد أم القرى"، وضعف ابن عبد البر بعض الأحاديث المستدل بها على أن المدينة

_ 1 صحيح ابن حبان "3708"، والترمذي في المناقب 5/ 722 وقال حديث غريب. 2 أخبار مكة للفاكهي 3/ 67 وقال عنه: إسناده ضعيف جدا، وذكره السيوطي في الكبير 1/ 890، وعزاه الطبراني في الكبير، وقد رواه البيهقي في سننه 5/ 339- 340، من طريق العباس بن الوليد، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب.

أفضل من مكة، من ذلك الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين خرج من مكة إلى المدينة: "اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليَّ فأسكني أحب البلاد إليك" 1. الحديث، قال فيه ابن عبد البر: إنه لا يصح ولا يختلف أهل العلم في نكارته ووضعه ... انتهى. وعلى تقدير صحته فلا دلالة فيه لمن استدل به على ما ذكره المحب الطبري، لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في تفضيل المدينة على مكة في الفصل الذي عقده لفضل مسجد المدينة والصلاة فيه، قال: وما احتجوا به من قوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجتني من أحب البلاد أو البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك" محمول على أنه أراد أحب البقاع إليك بعد مكة، بدليل حديث النسائي وابن حبان المتقدم في فضل مكة، يعني حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، فإنه دل على أنها أحب أرض الله إلى الله، على أن هذا الحديث نفسه لا دلالة فيه، لأن قوله: وأسكني في أحب البقاع إليك، هذا السياق يدل في العرف على أن المراد بعد مكة، فإن الإنسان لا يسأل عما خرج منه، فإن قال: أخرجتني فأسكني، يدل على إرادة غير الخروج منه، فيكون مكة مسكوتا عنها في الحديث ... انتهى. وحديث رافع بن خديج رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المدينة خير من مكة" كما في معجم الطبراني2، قال فيه ابن عبد البر ضعيف الإسناد ولا يحتج به، وقيل: إنه موضوع، وذكره الذهبي في "فضل البلدان" وقال: حديث واه منكر، وهذان الحديثان أشهر الأحاديث المستدل بها على أن المدينة أفضل من مكة، وممن قال بذلك: الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- وأصحابه، خلا من ذكرنا، ونقل القاضي عياض ذلك عن عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر أهل المدينة3، والله أعلم. ولا ريب في أن مكة والمدينة أفضل من سائر البلاد، لإجماع الناس على ذلك، كما ذكره القاضي عياض، كما أن بيت المقدس أفضل من سائرها بعد مكة والمدينة للإجماع، ومستند الإجماع في ذلك: أحاديث مشهورة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، والله أعلم.

_ 1 مستدرك الحاكم 3/ 3. 2 أخرجه الطبراني بلفظ "المدينة خير من مكة" وفيه "محمد بن عبد الرحمن بن داود" وهو مجمع على ضعفه. ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 299. 3 إعلام المجد "ص: 186"، المحلى 7/ 284.

ذكر الأحاديث الدالة على أن الصلاة بمسجد مكة أفضل من الصلاة في غيره من المساجد

ذكر الأحاديث الدالة على أن الصلاة بمسجد مكة أفضل من الصلاة في غيره من المساجد: روينا في ذلك أحاديث من حديث أنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاريين وعبد الله بن الزبير بن العوام وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأبي الدرداء وأم الدرداء وعائشة -رضي الله عنهم، وقد أخرجنا هذه الأحاديث في أصل هذا الكتاب بأسانيدها، ونقتصر هنا على عَزْوِها لكتب أهل العلم. فأما حديث أنس وجابر رضي الله عنهما ففي سنن ابن ماجه1، وإسناده في حديث جابر صحيح، على ما قال ابن جماعة في منسكه، وحديث ابن الزبير في مواضع يأتي ذكرها. وحديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما- في مسند ابن حنبل2، وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه في "المعجم الكبير" للطبراني بسند حسن على ما قال بعض مشايخنا3، وحديث أم الدرداء رضي الله عنها في الإتحاف لابن عساكر، وحديث عائشة رضي الله عنها في "المعجم الأوسط" للطبراني، وحديث ابن الزبير رضي الله عنهما عندي أعلاها، وقد أخبرني به إبراهيم بن محمد الصوفي سماعا بمكة، أن أحمد بن أبي طالب الصالحي أخبره عن ابن اللتي وابن بهروز قالا: أخبرنا أبو الوقت، قال: أخبرنا الداودي، قال: أخبرنا الحموي، قال: أخبرنا إبراهيم بن حزيم، قال: حدثنا عبد بن حميد الحافظ، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد عن حبيب المعلم عن عطاء عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة" 4. وأخبرنيه أعلى من هذا علي بن محمد الخطيب عن أبي بكر الوشتي، قال: أخبرنا الحافظ ابن خليل، قال: أخبرنا الرازي، قال: أخبرنا الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: أخبرنا عبد الله بن فارس، قال: أخبرنا يونس بن حبيب، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا الربيع بن صبيح، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة صلاة" 5.

_ 1 سنن ابن ماجه "1406". 2 مسند أحمد 2/ 528. 3 الطبراني في الكبير "2/ 151 رقم 1605- 1607. 4 أخرجه: مسلم "3/ 416"، أحمد 2/ 29، 4/ 5، أبو يعلي "5760"، أخبار أصفهان 1/ 353. 5 أخرجه مسلم، "الصلاة: 451"، ورواه ابن خزيمة بنحوه وإسناده صحيح أيضا، الترغيب والترهيب 2/ 214.

قال عطاء: فكانت مائة ألف، قال قلت: يا أبا محمد هذا الفضل الذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم، فإن الحرم كله مسجد، ورأيناه في "إتحاف الزائر" لأبي اليمن ابن عساكر من حديث شبابة بن سواد، عن الربيع بن صبيح به، إلا أن فيه: "وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف". ورأيناه في مسند ابن حنبل والبزار ومعجم الطبراني الكبير بألفاظ مختلفة. ويتحصل من طرق حديث ابن الزبير ثلاث روايات، أحدها: أن الصلاة بالمسجد الحرام تفضل على الصلاة بمسجد المدينة بمائة صلاة كما في مسند عبد بن حميد وابن حنبل والبزار، وإحدى روايتي الطبراني في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح. والرواية الأخرى: أن الصلاة في المسجد الحرام تفضل على الصلاة بمسجد المدينة بألف صلاة كما في مسند الطيالسي وإتحاف ابن عساكر، وحديث ابن الزبير من رواة حماد بن زيد أخرجه ابن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن محمد بن عبد الله بن حسان عن حماد بن زيد1، فوقع لنا عاليا، وقد روي موقوفا على ابن الزبير، ومن رفعه فهو أحفظ وأثبت من جهة النقل على ما قاله ابن عبد البر، وصحح هذا الحديث وقال: إنه الحجة عند التنازع، وإنه نص في موضع الخلاف، قاطع عند من ألهم رشده ولم تمل به عصبيته...... انتهى. وحديث كل من أنس وجابر وأبي الدرداء -رضي الله عنهم- في الصلاة في المسجد الحرام يقتضي تفضيل الصلاة بالمسجد الحرام على الصلاة بمسجد المدينة كحديث ابن الزبير الذي في "مسند الطيالسي" وإتحاف ابن عساكر، وحديث ابن عمر ليس في بيان ما تفضل الصلاة به في المسجد الحرام على الصلاة في غيره، وإنما يقتضي أن الصلاة فيه أفضل من غيره، وحديث أبي هريرة يقتضي أن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجد المدينة بمائة صلاة، هذا مقتضى حديث ابن عمر وأبي هريرة في كتاب الفاكهي2. وقد ورد في فضل الصلاة بالمسجد الحرام ثواب أكثر من هذا، لأن الفاكهي قال: حدثني عبد الله بن منصور عن عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: من صلى في المسجد الحرام حول بيت الله الحرام في جماعة خمسة وعشرين مرة، كتب الله له مائة ألف صلاة، ومن صلى في المسجد الحرام أو في بيته أو في الحرم، كتب الله له مائة ألف صلاة، قيل له، أو قال

_ 1 صحيح ابن حبان "1625". 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 96.

رجل من التابعين: أَعَنْ رأيك هذا يا ابن عباس، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1....... انتهى، وعبد الرحيم ضعيف. وقال الفاكهي أيضا: وحدثني محمد بن صالح البلخي، قال: حدثنا أبو مطيع الحكم بن عبد الله القرشي، قال: حدثنا المسيب، عن المبارك بن حسان، عن الحسن ومعاوية بن قرة قالا: الصلاة في المسجد الحرام بألف ألف صلاة وخمسمائة صلاة، والصلاة في الحرم كله بمائة ألف صلاة2 ... انتهى. وروينا عن الجندي في كتاب "فضائل مكة" له، قال: حدثنا إسحق بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن مغفل، عن وهب بن منبه، قال: وجدت مكتوبا في التوراة: من شهد الصلوات الخمس في المسجد الحرام كتب الله له بها اثنا عشر ألف ألف وخمسمائة ألف صلاة. وروى الجندي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106] حديثا يقتضي أن المراد بذلك الصلوات الخمس جماعة في المسجد الحرام، ولفظه: حدثنا عبد الله بن أبي غسان، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِين} . ثم قال: "هي الصلوات الخمس في الجماعة في المسجد الحرام". ولنذكر فوائد تتعلق بحديث ابن الزبير -رضي الله عنهما، وما شابهه. منها: أن ابن كنانة المالكي وغيره من المالكية قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". كما في الصحيحين3: أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة خلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون الألف ليستقيم لهم بذلك ما رووا من تفضيل الصلاة بالمدينة على الصلاة بمكة، وحديث ابن الزبير وما شابهه من الأحاديث التي ذكرناها يدفع هذا التأويل، لأنها تقتضي تفضيل الصلاة بمكة على الصلاة بالمدينة، والله أعلم. ومنها: أن النقاش المفسر حسب الصلاة بالمسجد الحرام على مقتضى حديث: "إن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة"، فبلغت صلاة واحدة

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 92، وقال فيه: إسناده حسن، وفيه "عبد الرحيم بن زيد العمي". 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 106، والحديث إسناده ضعيف، ذكره المحب الطبري في القرى "ص: 657" وعزاه لسعيد بن منصور. 3 أخرجه البخاري 3/ 54، ومسلم "الحج رقم 1394".

بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، وصلاة يوم وليلة وهي خمس صلوات في المسجد الحرام عمر مائتي سنة وسبعة وتسعين سنة وتسعة أشهر وعشر ليال ... انتهى. قلت: رأيت لشيخنا بالإجازة الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب المصري الإشاري1 كلاما حسنا في هذا المعنى، لأنه قال فيما أنبأنا به: إن كل صلاة بالمسجد الحرام فرادى بمائة ألف صلاة كما ورد في الحديث، وكل صلاة فيه جماعة بألفي ألف صلاة وسبعمائة ألف صلاة، والصلوات الخمس فيه بثلاثة عشر ألف ألف وخمسمائة صلاة، وصلاة الرجل منفردا في وطنه غير المسجدين المعظمين، كل مائة سنة شمسية بمائة وثمانين ألف صلاة، وكل ألف سنة بألف ألف صلاة وثمانمائة ألف صلاة، فتلخص من هذا: إن صلاة واحدة في المسجد الحرام جماعة يفضل ثوابها على ثواب من صلى في بلده فرادى، حتى بلغ عمر نوح عليه السلام نحو الضعف، وسلام على نوح في العالمين. وهذه فائدة تساوي رحلة. ثم قال: هذا إذا لم تضف إلى ذلك شيئا من أنواع البر، فإن صام يوما، وصلى الصلوات الخمس جماعة، وجعل فيه أنواعا من البر قلنا بالمضاعفة، فهذا مما يعجز الحساب عن حصر ثوابه2 ... انتهى. ومنها: أن للعلماء المالكية وغيرهم خلافا في هذا الفضل: هل يعم الفرض والنفل، أو يختص بالفرض؟ وهو مقتضى مشهور مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، والقول بالتعميم مذهب الشافعي على ما صرح به النووي. ومنها: أن للعلماء خلافا في المراد بالمسجد الحرام، فقيل: مسجد الجماعة الذي يحرم على الجنب الإقامة فيه، حكاه المحب الطبري، وذكر أنه يتأيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"، والإشارة بمسجده إلى مسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك ... انتهى. وقيل: المراد بالمسجد الحرام الحرم كله، قال المحب الطبري3: ويتأيد بقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} [الحج: 25] . أو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] . وكان ذلك من بيت أم هانئ ... انتهى.

_ 1 هو العلامة المفسر شيخ القراء أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي النقاس، صاحب "شفاء الصدور" في التفسير، و"الإشارة في غريب القرآن"، توفي سنة 351هـ "انظر ترجمته في أعلام النبلاء 15/ 537 والمنتظم 14/ 148. 2 مثير الغرام الساكن "ص: 254". 3 القرى "ص: 657".

وقيل: المراد بالمسجد الحرام الكعبة خاصة، ذكره المحب الطبري1 عن بعضهم وأُبْهِم له، قال: واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا، وذكر أنه يتأيد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا الكعبة". أخرجه النسائي2 ... انتهى باختصار. وذكر بعض الحفاظ من أصحابنا أن في بعض طرق هذا الحديث إلا "مسجد الكعبة"، وعلى هذا فلا تستقيم الدلالة بالحديث الذي ذكره المحب الطبري1 على أن المراد بالمسجد الحرام الكعبة خاصة، والله أعلم. ومنها: هذا التضاعف بالنسبة إلى الثواب لا بالنسبة إلى إسقاط الفوائت كما يتخيله كثير من الجهال، ولذلك نبهنا عليه. وممن صرح بذلك النووي في شرح مسلم، وقد ظهر بما ذكرناه من الأحاديث وكلام العلماء تفضيل مكة على سائر البلاد، وأن ثواب الصلاة فيها أفضل من ثوابها في غيرها، وجاء أحاديث تدل على تفضيل ثواب الصوم وغيره من القربات بمكة على ثواب ذلك في غيرها، إلا أنها في الثبوت ليست كأحاديث فضل مكة والصلاة فيها، وحديث تفضيل الصوم بمكة على غيرها. رويناه في مسند ابن ماجة3، وفي تاريخ الأزرقي، وفي "المجالس المكية" للميانشي4، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وعنه ورد تضاعف حسنات الحرم على غيرها، لأنا روينا عن زاذان عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إليها كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. فقال بعضهم لابن عباس: وما حسنات الحرم؟ قال: كل حسنة بمائة ألف حسنة". انتهى. رواه البيهقي بسنده إلى عيسى بن سوادة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زاذان، وقال: تفرد به عيسى بن سوادة، وهو مجهول5 ... انتهى. قلت: لم ينفرد به عيسى بن سوادة كما ذكر البيهقي، لأنا رويناه في الأربعين المختارة لخطيب مكة: الحافظ ابن مسدي، وغيرها من حديث سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد الذي رواه عنه ابن سوادة. وقال ابن مسدي: هذا حديث حسن غريب ... انتهى.

_ 1 القرى "ص: 657". 2 سنن النسائي 2/ 33 كتاب المساجد باب فضل الصلاة في المسجد الحرام. 3 سنن ابن ماجه 2/ 1041 رقم "3117". 4 الميانشي هو: عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي، الميانشي، من قرى المهدية بإفريقية، وله مؤلفات منها: "تعليقات على الفردوس" وغيره "انظر ترجمته في: الأعلام 5/ 53". 5 أخرجه: البيهقي في الشعب "3981"، وقال: فيه عيسى بن سوادة مجهول.

ورواه الحاكم1 من الوجه الذي رواه البيهقي وصحح إسناده، وقال المحب الطبري بعد أن أخرج هذا الحديث: وهذا الحديث يدل على أن المراد بالمسجد الحرام في فضل تضعيف الصلاة الحرم جميعه، لأنه عم التضعيف في جميع الحرم، وكذلك حديث تضعيف الصلاة عمن في جميع مكة، وحكم الحرم ومكة في ذلك سواء باتفاق، إلا أن يخص المسجد بتضعيف زائد على ذلك، فيقدر كل صلاة بمائة ألف صلاة فيما سواه والصلاة فيما سواه بعشر حسنات فتكون الصلاة فيه بألف ألف حسنة، والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة ألف حسنة، ويشهد لذلك ظاهر اللفظ2، والله أعلم. قال: وعلى هذا تكون حسنة الحرم بمائة ألف حسنة وحسنة مسجده، إما مسجد الجماعة، وإما الكعبة على اختلاف القولين بألف ألف، ويقاس بعض الحسنات على بعض أو يكون ذلك خصيصا للصلاة، والله أعلم ... انتهى. وروينا عن الحسن البصري ما يقتضي تضاعف الحسنة بمكة إلى مائة ألف حسنة، لأنه قال: صوم يوم بمكة بمائة ألف، وصدقة درهم بمائة ألف، وكل حسنة بمائة ألف ... انتهى. وذكر المحب الطبري أن فيما تقدم من أحاديث مضاعفة الصلاة والصوم بمكة دليلا على إطراد التضعيف في جميع الحسنات إلحاقا بهما. قال: ويؤيد ذلك قول الحسن2 ... انتهى.

_ 1 مستدرك الحاكم 1/ 461، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. 2 القرى "ص: 658".

الباب السادس

الباب السادس: ذكر المجاورة بمكة: المجاورة بمكة مستحبة عند أكثر العلماء، منهم: الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، وابن القاسم صاحب مالك، لأنه قال: إن جوار مكة مما يتقرب به إلى الله، كالرباط، والصلاة، نقل ذلك عنه ابن الحاج المالكي في "منسكه". واستحبها أيضا أحمد بن حنبل، لأنه روي عنه أنه قال: ليت أني الآن مجاور بمكة. وممن كره المجاورة بمكة: أبو حنيفة، وفهم ذلك ابن رشد المالكي من كلام وقع لمالك. وسبب الكراهة عند من رآها من العلماء على ما قال المحب الطبري في "القرى": خوف الملل وقلة الاحترام لمداومة الأنس بالمكان، وخوف ارتكاب ذنب هنالك، فإن المعصية ليست كغيرها، وتهيج الشوق بسب الفراق1. وقال أبو عمرو الزجاجي: من جاور بالحرم وقلبه متعلق بشيء سوى الله تعالى فقد ظهر خسرانه. وقال المحب أيضا: ولم يكره المجاورة أحمد بن حنبل في خلق كثير، وقالوا إنها فضيلة، وما يُخاف من ذنب فيقابل بما يُرجى لمن أحسن من تضعيف الثواب.

_ 1 القرى "ص: 661".

وقد نزل بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أربعة وخمسون رجلا سردهم المحب في "القرى"1. وذكر النووى في "الإيضاح": أن المختار استحباب المجاورة بمكة، وعلل كراهة من كرهها من العلماء بنحو مما قال المحب، ثم قال: وأما من استحبها، فلما فيها من تضاعف الحسنات والطاعات، وقد جاور بها مما يقتدى به من سلف الأمة وخلفها خلائق لا يحصون ... انتهى. قلت: يدل لاستحباب المجاورة بمكة: رغبة النبي صلى الله عليه في سكناها، كما في حديث عبد الله بن الحمراء، وابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم. وتمنى بلال رضي الله عنه العود إلى أماكن بعضها بمكة وبعضها حولها، حيث يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل تبدون2 لي شامة وطفيل هكذا رويناه في تاريخ الأزرقي3. وفي البخاري: بوادٍ، عوض قوله بفخ. وقد سبق أن الإذخر نبت معروف طيب الرائحة، والجليل: النمام، وقيل: النمام إذا جل، وفخ: هو وادي الزاهر، لأن ياقوتا في "معجم البلدان"4 قال لما ذكر فخ: قال السيد على بن وهاس العلوي: فخ وادي الزاهر، فيه قبور جماعة من العلويين قتلوا فيه في وقعة كانت لهم مع أصحاب موسى الهادي بن المهدي بن المنصور في ذي الحجة سنة تسع وستين ومائة، وللشعراء فيها مراثٍ كثيرة ... انتهى5. وعلي بن وهاس هذا من فضلاء مكة ممن أخذ عن الزمخشري، ولأجله صنف "الكشاف" على ما قيل، ومدحه الزمخشري في "الكشاف". وسيأتي في الباب الأربعين إن شاء الله تعالى ذكر مجنة، وشامة، وطفيل، ويدل لذلك قول عائشة رضي الله عنها لولا الهجرة لسكنت مكة، إني لم أر السماء بمكان

_ 1 القرى "ص: 661"، وانظر مثير الغرام الساكن. 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 191: "يتدون" وكذلك في معجم البلدان 3/ 315. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 191. 4 معجم البلدان 4/ 237. 5 تاريخ الطبري 10/ 28، والكامل لابن الأثير 6/ 33، والعقد الثمين 4/ 196، وإتحاف الورى 2/ 22، 221.

أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة، ولم أر القمر بمكان قط أحسن منه بمكة. وروينا ذلك في تاريخ الأزرقي1. ويدل لذلك ما رويناه عن الجندي في "فضائل مكة" له، قال: حدثنا أبو صالح محمد بن زنبور قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن مطر، عن أبي الطفيل قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما أقم بمكة وأن أكلت بها العضاة، يعني الشجر. ويدل لذلك أمور أخر ذكرناها في أصل هذا الكتاب مع أشياء أخر تتعلق بحكم المجاورة بمكة، وفيما ذكرناه هنا من ذلك كفاية.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 153.

ذكر شيء مما جاء في الموت بمكة

ذكر شيء مما جاء في الموت بمكة: روينا عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث ثم قال: "ومن مات بمكة فإنما مات في سماء الدنيا"1 إسناده ضعيف. وروينا عن الحسن البصري في رسالته المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات بمكة فكأنما مات في سماء الدنيا" 2. وروينا في "فضائل مكة" للجندي، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات بمكة بعثه الله في الآمنين يوم القيامة" 3. وروينا فيه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا من جملة حديث يتعلق بالكعبة قال فيه: "إن آدم عليه السلام سأل ربه عز وجل فقال: يا رب، أسألك من حج هذا البيت من ذريتي لا يشرك بك شيئا أن تلحقه بي في الجنة، فقال الله تعالى: يا آدم من مات في الحرم لا يشرك بي بعثته آمنا يوم القيامة". وروينا فيه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة في الآمنيين" 4.

_ 1 أخرجه: البيهقي في الشعب "4151، 4152" وعزاه إلى البخاري في تاريخه. 2 أخرجه: البيهقي في شعب الإيمان "4158". 3 أخرجه: الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أحمد وغيره وإسناده حسن، مجمع الزوائد 2/ 319. 4 أخرجه: الدارقطني عن حاطب 2/ 278.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات بمكة أو في طريق مكة بعث من الآمنين" 1 ذكره ابن جماعة في "منسكه". قال: ويروي أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى عن ما لأهل بقيع الغرقد؟ فقال: لهم الجنة. فقال: يا رب ما لأهل المعلاة؟ قال: يا محمد سألتني عن جوارك فلا تسألني عن جواري ... انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر شيء من فضل مقبرة المعلاة في الباب الحادي والعشرين. وروينا في مسند الطيالسي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زارني كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله تعالى من الآمنيين يوم القيامة" 2. وروى خاطب بن أبي بلتعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات في أحد الحرمين بعث في الآمنين يوم القيامة" 3. أخرجه هكذا ابن الحاج المالكي في "منسكه". وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي، وكان يوم القيامة من الآمنين" أخرجه ابن جماعة4.

_ 1 مجمع الزوائد 2/ 319، وعزاه للطبراني في الصغير. 2 أخرجه الترمذي في المناقب "فضل المدينة" 5/ 719 وقال: حسن غريب. وابن ماجه 2/ 1039، وموارد الظمآن "ص: 55". 3 أخرجه الدارقطني عن حاطب 2/ 278. 4 هداية السالك 1/ 116، ومجمع الزوائد 2/ 319، وعزاه للطبراني في الكبير وقال: وفيه عبد الغفور بن سعيد وهو متروك.

ذكر شيء مما جاء في فضل أهل مكة

ذكر شيء مما جاء في فضل أهل مكة: روينا في كتاب "النسب" للزبير بن بكار قاضي مكة، وفي غيره من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة فقال له: "هل تدري إلى من أبعثك؟ أبعثك إلى أهل الله" 1. وروينا في تاريخ الأزرقي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن أبي مليكة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعتاب: "أتدري على ما استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيرا" يقولها ثلاثا.

_ 1 أخرجه: الأزرقي في تاريخ مكة 2/ 151، 153 من طريقين مرسلين.

وروينا في تاريخ الأزرقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزل عامله نافع بن عبد الحارث الخزاعي لاستعماله على أهل مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزي واشتد عليه غضبه لذلك، ولم يسكن غضبه عنه إلا عندما أخبره أن ابن أبزي قارئ لكتاب الله تعالى1. ووجدت بخط بعض أصحابنا فيما نقله من خط الشيخ أبي العباس الميورقي ورد أن: "سفهاء مكة حشو الجنة". واتفق يبن عالمين في الحرم منازعة في تأويل الحديث وسنده، فأصبح الذي طعن في الحديث ومعناه، قد طعن أنفه واعوج، وقيل له: إي والله وسفهاء مكة من أهل الجنة، سفهاء مكة من أهل الجنة، سفهاء مكة من أهل الجنة فأدركه روع وخرج إلى الذي كان يكابره في الحديث من علماء عصره، وأقر على نفسه بالكلام فيما لا يعنيه، وفيما لا يحيط به خبرا ... انتهى باختصار. وبلغني أن الرجل المنكر للحديث هو: الإمام تقي الدين محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني الشافعي نزيل مكة ومفتيها، وبلغني أنه كان يقول: إنما الحديث: أَسْفَى -مكة أي المحزونون فيها على تقصيرهم- والله أعلم. ومن الأخبار الواردة في فضل أشراف مكة. ما ذكره الشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الغفار ابن القاضي معين الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحميد الشهير بابن نوح الأنصاري الخزرجي الأقصري المولد، القوصي الدار، في كتابه "المنتقى من كتاب الوحيد في سلوك طريق أهل التوحيد والتصديق والإيمان بأولياء الله تعالى في كل زمان"، لأنه قال: وأخبرتني الحاجة أم نجم الدين بنت مطروح -وكانت من الصالحات، وكانت زوجة القاضي سراج الدين- قالت: حصل لنا غلاء بمكة شرفها الله تعالى وأكل الناس الجلود، وكنا ثمانية عشر نفرا، فكنا نعمل ما مقداره نصف قدح حسوة، فبينما نحن كذلك إذ جاءنا أربعة عشر قطعة دقيق، وجاء خلفها أهل مكة شرفها الله تعالى فاقتطعت منها أربع قطع وقلت له: أنت تريد تقتلنا بالجوع، وفرق العشر القطع على أهل مكة، فلما كان الليل قام من منامه مرعوبا وربما قالت: فبكى فقلت له ما بالك؟ قال: رأيت الساعة أو رأيت في منامي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وهي تقول: يا سراج تأكل البر وأولادي جياع! فقام وفرق الأربع قطع على الأشراف، وبقينا بلا شيء، وما كنا نقدر على القيام من الجوع ... انتهى. وروينا في أصل هذا الكتاب من تاريخ الأزرقي وغيره أخبارا أخر تدل على فضل أهل مكة، تركنا ذكرها هنا اختصارا.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 151.

ذكر شيء من فضل جدة ساحل مكة وشيء من خبرها

ذكر شيء من فضل جدة ساحل مكة وشيء من خبرها: قال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن منصور، عن سليم بن مسلم، عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة رباط، وجدة جهاد" 1. حدثنا إبراهيم بن أبي يوسف، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: إنما جدة خزانة مكة، وإنما يؤتى به إلى مكة ولا يخرج به منها2. حدثنا ابن أبي يوسف قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن جريج قال: مكة رباط: وجدة جهاد3. قال ابن جريج: إني لأرجو أن يكون فضل مرابط جدة على سائر المرابط، كفضل مكة على سائر البلدان. حدثنا محمد بن علي الصايغ، حدثنا خليل بن رجاء قال: حدثنا مسلم أبو يونس قال: حدثني محمد بن عمر، عن ضوء بن فجر قال: كنت جالسا مع عباد بن كثير في المسجد الحرام فقلت: الحمد لله الذي جعلنا في أفضل المجالس وأشرفها، قال: وأين أنت عن جدة؟ الصلاة فيها بسبعة عشر ألف ألف صلاة، والدرهم فيها بمائة ألف. وأعمالها بقدر ذلك، يغفر للناظر فيها مد بصره. قال: قلت: رحمك الله، مما يلي البحر؟ قال: مما يلي البحر. ثم قال الفاكهي: حدثنا إبراهيم بن أبي يوسف: قال: حدثنا يحيى بن سليم قال: سمعت عبد الله بن سعيد بن قنديل قال: جاءنا فرقد السنجي بجدة فقال: إني رجل أقرأ هذه الكتب، وإني لأجد فيما أنزل لله عز وجل من كتبه: جدة أو جديد يكون بها قتلى وشهداء، لا شهيد يومئذ على ظهر الأرض أفضل منهم. وقال بعض أهل مكة: إن الحبشة جاءت في سنة ثلاث وثمانين في مصدرها، فوقعوا بأهل مكة، فخرج الناس من مكة إلى جدة وأميرهم عبد الله بن محمد بن إبراهيم، فخرج الناس غزاة في البحر، واستعمل عليهم عبد الله بن

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 312، 313، والحديث إسناده ضعيف جدا، وفيه سليم بن مسلم المكي، هو المعروف بالخشاب، قال أحمد: ليس يسوي حديثه شيئا، وقال ابن معين: ليس بثقة، وفيه أيضا: المثنى بن الصباح ضعيف "ينظر: الجرح والتعديل 4/ 315" والتقريب "2/ 228". 2 أخبار مكة للفاكهي 3/ 53. 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 52.

محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. وجدت هذا في كتاب أعطانيه بعض المكيين عن أشياخه يذكر هذا1 ... انتهى. وإبراهيم جد عبد الله بن محمد أمير مكة هذا هو إبراهيم المعروف بالإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أخو السفاح. والمنصور، حفيده عبد الله هذا، ولى مكة للرشيد بن المهدي بن المنصور العباسي، وعلى هذا فسنة ثلاث وثمانين المشار إليها في هذا الخبر سنة ثلاث وثمانين ومائة2. وفي بعض الكتب أن اسم عبد الله هذا: عبيد الله، والله أعلم بالصواب. وجدة هي الآن ساحل مكة الأعظم. وعثمان بن عفان رضي الله عنه أول من جعلها ساحلا، بعد أن شاور الناس في ذلك، لما سئل فيه في سنة ست وعشرين من الهجرة، وكانت الشعيبة ساحل مكة قبل ذلك3. وذكر ابن جبير أنه رأى بجدة أثر سور محدق بها، وذكر أن بها مسجدين ينسبان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن أحدهما يقال له: مسجد الأبنوس، لساريتين فيه من خشب الأبنوس، وهذا المسجد معروف إلى الآن، والمسجد الآخر غير معروف، ولعله والله أعلم المسجد الذي تقام الجمعة فيه بجدة، وهو من عمارة الملك المظفر صاحب اليمن على ما بلغني. وذكر ابن جبير أيضا أنه كان بجدة موضع فيه قبة مشيدة عتيقة يذكر أنها منزل حواء أم البشر زوج آدم عليهما السلام4 ... انتهى. ولعل هذا الموضع هو الموضع الذي يقال له: قبر حواء، وهو مكان مشهور بجدة، إذ لا مانع من أن تكون نزلت فيه ودفنت فيه، والله أعلم. وأستبعد أن يكون قبر حواء بالموضع المشار إليه لكون ابن جبير لم يذكره، وما ذاك إلا لخفائه عليه، فهو فيما عليه، وهو من الزمن أخفى، والله أعلم. وروى الفاكهي بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن قبر حواء بجدة ... انتهى باختصار. وبها دور كثيرة.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 52، 53. 2 إتحاف الورى 2/ 232. 3 إتحاف الورى 2/ 20. 4 رحلة ابن جبير "ص: 55".

ذكر شيء من فضل الطائف وخبره

ذكر شيء من فضل الطائف وخبره: أخبرني أبو هريرة ابن الحافظ الذهبي بقراءتي عليه في الرحلة الأولى بغوطة دمشق، أن يحيى بن محمد بن سعد الأنصاري أخبره سماعا وتفرد بالسماع منه قال: أنبأنا أبو المنجا بن اللتي وغيره قال: أنبأنا أبو حفص عمر بن عبد الله الحربي، قال: أنبأنا أبو غالب محمد بن عبيد لله العطار قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد البزار قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال: أنبأنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي1 قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي القرشي، ثم الأسدي قال: حدثنا عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي قال: حدثني محمد بن عبد الله بن إنسان، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من "لية" قال الحميدي: مكان بالطائف حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند طرف القرن الأسود حذوها، فاستقبل "نَخِبا" قال الحميدي: مكان بالطائف يقال له نخب- ببصره، ثم وقف حتى اتفق الناس، ثم قال: "إن صيد وَجّ وعضاهه حرم محرم الله عز وجل"، وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا. روينا هذا الحديث هكذا في الأول من مشيخة الفسو عن الحميدي، وهو في سنن أبي داود، ومسند ابن حنبل2، وإسناده ضعيف على ما قال النووي، وقال: قال البخاري: لا يصح. وقال في "الإيضاح": ويحرم صيد وج3، وهو واد بالطائف، لكن لا ضمان فيه ... انتهى. وذكر المحب الطبري في تحريم صيد وَجّ احتمالين، لأنه قال: وتحريمه يحتمل أن يكون على وجه الحمى له وعليه العمل عندنا. ويحتمل أن يكون حرمه في وقت ثم نسخ. قال: ونخب بفتح النون وكسر الخاء المعجمة، واد بالطائف، وقيل: هو واد بأرض هذيل.. قال: والقرن جبل صغير، ورأسه مشرف على وهدة. قال: ووَجّ بفتح الواو وتشديد الجيم، قيل: هو أرض الطائف نفسه، يسمى بوج بن عبد الحق من العمالقة 4.... انتهى.

_ 1 هو صاحب كتاب المعرفة والتاريخ". 2 سنن أبي داود 2/ 290، مسند أحمد 1/ 165، وأخبار مكة للفاكهي 5/ 99، والحديث إسناده حسن. 3 وج: واد من أودية الطائف المشهورة، يسمى أعلاه: المخاصكة، ووسطه المثناة، وأسفله، العرج، ومن مشهور قراه القديمة: الوهط. "انظر تفاصيل هذا الوادي في معجم معالم الحجاز للبلادي 9/ 121". 4 القرى "ص: 666".

ووح بالحاء: ناحية نعمان. ذكره الحازمي من الأماكن فيما حكى عنه النووي1، وذكر أن وجا بالجيم ربما اشتبه بوح بالحاء. قال: وقال الحازمي: وج اسم لحصون الطائف، وقيل: لواحد منها، قال: وقال في "التهذيب": هو واد بالطائف ... انتهى. وقال صاحب المطالع: هو وادي وج على يومين من مكة ... انتهى. قال المحب الطبري: وقد جاء في الحديث أن وجًّا مقدس2 ... انتهى. وروى الفاكهي: حديثا من رواية خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن آخر وطأة وطئها الله تعالى بوج" 3. وقال الفاكهي: قال سفيان يعني ابن عيينة في تفسيره: آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: غزوة الطائف، لقتاله أهل الطائف وحصاره ثقيف ... انتهى. وذكر الشيخ أبو العباس الميورقي ما يوافق هذا التفسير ويزيده، إيضاحا، لأنه قال: وروي في "الصحاح" للجوهري: آخر وطأة وطئها الله بوج. وأحسن ما قيل في ذلك ما كان شيخنا أبو محمد محمد بن الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذر يقول: آخر غزوة وطأ الله بها أهل الشرك: غزوة الطائف بإثر فتح مكة شرفها الله تعالى. ذكر ذلك الميورقي في جزء ألفه سماه: "بهجة المهج في بعض فضائل الطائف ووج"، وفيه أسئلة غريبة. ومما ذكره في فضل الطائف: وروي في قوله عز وجل: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك} أي بفتح مكة والطائف أهم البلاد عليه وأحبها إليه. وقال المفسرون في قوله تعالى: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} 4 [الزخرف: 31] قالوا: هما مكة والطائف، فقرن الله جل جلاله الطائف ببيته، وفي ذلك غاية الفخر الذي تعجز العبارة عن كنهه وقدره وماهيته ... انتهى.

_ 1 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 198. 2 القرى "ص: 666". 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 193، والحديث رواه أحمد 6/ 409، والبيهقي في سننه 10/ 202. والترمذي 8/ 101. والطبري في الكبير 24م 239، 240، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 54، وقال: رجاله ثقات، وذكره السيوطي في الكبير 1/ 862 وزاد نسبته للبخاري في الأدب، وكذلك في 2/ 721، وعزاه للعسكري في الأمثال. 4 وقال الخازن: اختلفوا في هذا الرجل العظيم، قيل: الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف، وقيل: عتبة بن ربيعة من مكة، وكنانة بن عبد ياليل من الطائف، وقال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكة، ومن الطائف: حبيب بن عمير الثقفي، وفي عبارة الفاكهي ارتباك مرجعه إلى سقوط تتمة القولين.

وقال الفاكهي في الآية الآخيرة: إنها نزلت في مكة والطائف فيما يقال، وحكى في الرجل قولين1: أحدهما: أنه عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والآخر: أنه مسعود بن معتب الثقفي. قال: وأما الطائف فهي من مخاليف مكة، وهي بلد طيب الهواء بارد الماء، كان له خطر عند الخلفاء فيما مضى، وكان الخليفة يوليها رجلا من عنده، ولا يجعل ولايتها إلى صاحب مكة ... انتهى. وبالطائف آثار تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: السدرة التي انفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين، وذلك لما اعترضته في طريقه، وهو سائر وسنان ليلا في غزوة الطائف، على ما ذكره ابن فورك2، فيما حكاه عنه القاضي عياض في "الشفا"، وبعض هذه السدرة باق إلى الآن، والناس يتبركون به. ومنها: مسجد ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد الذي فيه قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لأن في جداره القبلي من خارجه حجرا مكتوبا فيه: أمرت السيدة أم جعفر بنت أبي الفضل3 أم ولاة عهد المسلمين أطال الله بقاءها بعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف، وفيه أن ذلك سنة اثنتين وتسعين ومائة4. والمسجد الذي فيه قبر ابن عباس رضي الله عنهما أظن أن المستعين العباسي عمره مع ضريح ابن عباس رضي الله عنهما واسمه مكتوب في المنبر الذي في هذا المسجد، واسم الملك المظفر صاحب اليمن مكتوب في القبة التي فيها ضريح ابن عباس رضي الله عنهما بسبب عمارته لها. وبالطائف مواضع أخر تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم معروفة عند أهل الطائف. وذكر الحافظ أبو محمد القاسم ابن الحافظ أبي القاسم على ابن عساكر خبرا في فضل أهل الطائف، نقله عن المحب الطبري في "القرى"، ونص ذلك على ما في

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 191، وإهداء اللطائف للعجيمي "ص: 54"، وتفسير الطبري 25/ 65، وتفسير ابن كثير 6/ 224. 2 هو أبو بكر محمد بن الحسن الأصبهاني المنوفي سنة 406هـ "ترجمته في الوافي بالوفيات 2/ 334، ووفيات الأعيان 4/ 272، إنباه الرواة 3/ 110، سير أعلام النبلاء 17/ 214- 216، ومرآة الجنان 3/ 17، 18، النجوم الزاهرة 4/ 240، شذرات الذهب 3/ 181. 3 يقصد بها السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد وأم ولي عهده الأمين، ونسب المأمون والمعتصم إليها تجوزا، وكانت قد زارت الحجاز، وأدخلت فيه بعض الإصلاحات، وبنت العمائر وأجلها عين زبيدة التي بمكة. 4 إتحاف الورى 2/ 248، 249، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 231، 432، وفيهما أن ذلك كان سنة 194هـ وهو الصحيح.

"القرى" عن عبد الملك بن عباد بن جعفر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول من أشفع له يوم القيامة من أمتي: أهل المدينة وأهل الطائف" 1 ... انتهى. واختلف في سبب تسمية الطائف بالطائف، فقال السهيلي: ذكر بعض أهل النسب أن الدمون بن الصدف واسم الصدف: مالك بن مالك بن مربع بن كندة- من حضرموت، أصاب دما من قومه، فلحق ثقيفا فأقام بها وقال لهم: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدكم، فبناه فسمي به الطائف2، ذكره البكري3، واعترض عليه السهيلي فيما ذكره في نسب الدمون. وأفاد شيئا من خبره وخبر ولده، وذكر ابن الكلبي ما يوافق هذا القول. وقيل في تسمية الطائف: أن جبريل عليه السلام طاف به حول الكعبة على ما ذكر بعض المفسرين لأنه قال في تفسير قوله تعالى في سورة "ن": {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] : أن جبريل عليه السلام اقتلعها من موضعها. فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها الله تعالى حيث الطائف اليوم، فسميت باسم الطائف الذي طاف عليها وطاف بها ... انتهى باختصار من كتاب السهيلي4. ونقل الميورقي عن الأزرقي: أن الطائف سمي الطائف لطواف جبريل عليه السلام به سبعا حول البيت لما اقتلعه من الشام، لدعوة الخليل إبراهيم -عليه السلام- حيث يقول: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] الآية، والله أعلم بالصواب. وقد أتينا على جملة من فضل الطائف وخبره. ومن غريب خبره: ذكر الميورقي، عن الفقيه أبي محمد عبد الله بن حموا النجاري، عن شيخ الخدام بالحرم النبوي بدر الشهابي: أنه بلغه أن ميضاه وقعت في عين الأزرق في الطائف، فخرجت بعين الأزرق بالمدينة على ساكنها السلام.

_ 1 أخرجه: البخاري في التاريخ الكبير 5/ 404، 415، من طريق عبد الملك بن أبي زهير، وابن الأثير في أسد الغابة 3/ 510، وعزاه لابن منده، وأبي نعيم وابن عبد البر في كتبهم عن الصحابة وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 318، وعزاه للبزار والطبراني، وذكره ابن حجر في الإصابة 2/ 23 وقال: رواه البزار في مسنده، وابن شاهين. والقرى "ص: 666". 2 الروض الأنف: 4/ 161. 3 معجم ما استعجم 2/ 557. 4 الروض الأنف 4/ 162.

الباب السابع

الباب السابع في أخبار عمارة الكعبة المعظمة ... البابع السابع: في أخبار عمارة الكعبة المعظمة: لا شك أن الكعبة المعظمة بنيت مرات، وقد اختلف في عدد بنائها، وتحصل من مجموع ما قيل في ذلك أنها بنيت عشر مرات منها: بناء الملائكة عليهم السلام. ومنها: بناء آدم عليه السلام. ومنها: بناء أولاده. ومنها: بناء العمالقة. ومنها: بناء جرهم. ومنها: بناء قصي بن كلاب. ومنها: بناء قريش. ومنها: بناء الخليل إبراهيم عليه السلام. ومنها: بناء عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي رضي الله عنه. ومنها بناء الحجاج بن يوسف الثقفي وإطلاق العبارة بأنه بنى الكعبة تجوز؛ لأنه لم يبن إلا بعضها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم أذكر ذلك إلا لكون السهيلي والنووي ذكرا ذلك في عدد بناء الكعبة1. ووجدت بخط عبد الله بن عبد الملك المرجاني أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم بنى الكعبة بعد قصي وقبل بناء قريش، ولم أر ذلك لغيره، وأخشى أن يكون وهما، والله أعلم.

_ 1 الروض الأنف 1/ 221، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 2/:124.

فأما بناء الملائكة للكعبة: فذكره الأزرقي في تاريخه1 وذكر أن ذلك قبل خلق آدم عليه السلام واستدل على ذلك بخبر رواه عن زين العابدين، وذكر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا ما يدل لبناء الملائكة للكعبة. وذكر النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"2 بناء الملائكة للكعبة، وعد ذلك أول بنائها، ولم يذكر بناء آدم للكعبة، وذلك عجيب منه، لأن بناء آدم في الشهرة كبناء الملائكة أو أشهر، وإن كانا غير ثابتين، وكلا البنائين على تقدير صحتهما تأسيس، والله أعلم. فأما بناء آدم عليه السلام فروينا فيه خبرا مرفوعا في كتاب "دلائل النبوة" للبيهقي، ولفظه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي قال: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال: حدثنا أبو صالح الجهني قال: حدثني ابن لهيعة، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى أجابه الماء فنودي من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنياه أوصى الله إليه أن طوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت" ثم تناسخت القرون حتى حجة نوح عليه السلام، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا. وذكر الأزرقي بناء آدم للكعبة واستدل له بخبرين رواهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في أحدهما أنه بناه من خمسة أجبل: لبنان، وطور زيتا، وطور سيناء، والجودي، وحراء، حتى استوى على الأرض، وفي الآخر: كان آدم عليه السلام أول من أسس البيت وصلى فيه3. وفي "مصنف" عبد الرزاق": أن آدم عليه السلام بنى البيت من هذه الخمسة الجبال، وأن ربضه كان من حراء. قال المحب الطبري: والمربض هنا هو الأساس المستدير بالبيت. وذكر الأزرقي بسنده إلى ابن إسحاق ما يدل لبناء آدم الكعبة في أثناء خبر بناء الخليل عليه السلام للكعبة4. واختلف هل بناء الملائكة قبل بناء آدم أو بناء آدم قبل الملائكة؟ وذكر الأزرقي رحمه الله ما يشهد للقولين. وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 32، 33. 2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 124. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 37. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 64.

ذكر البيت المعمور الذي أنزله الله على آدم وشيء من خبره

ذكر البيت المعمور الذي أنزله الله على آدم وشيء من خبره: روينا في "تاريخ الأزرقي" عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حدث به: آن آدم عليه السلام قال: أي رب إني أعرف شقوتي، إني لا أرى شيئا من نورك يتعبد فيه، فأنزل الله عز وجل عليه البيت المعمور على عرض البيت وموضعه، من ياقوتة حمراء، ولكن طولها كما بين السماء والأرض وأمره أن يطوف بها، فأذهب الله عنه الغم الذي كان يجد قبل ذلك، ثم رفع على عهد نوح1. وأما بناء بني آدم للكعبة: فذكره الأزرقي، لأنه روى بسنده إلى وهب بن منبه قال: لما رفعت الخيمة التى عرى الله عز وجل بها آدم عليه السلام من حلية الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت ومات آدم عليه السلام فبنى بنو آدم من بعده مكانها بيتا بالطين والحجارة، فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم، حتى كان زمن نوح عليه السلام فنسفه الغرق وغير مكانه حتى بُوِّئَ لإبراهيم -عليه السلام ... انتهى. وقال الحافظ أبو القاسم السهيلي في الفصل الذي عقده لبنيان الكعبة: وكان بناؤها في الدهر خمس مرات، الأولى حين بناها شيث بن آدم عليه السلام ... انتهى. قلت: هذا يخالف ما تقدم في من بنى الكعبة أولا هل هو الملائكة أو آدم؟ ولعل السبب عند من قال إن شِيثًا أول من بنى الكعبة: كون بنائه كان بيتا بالطين والحجارة، بخلاف بناء آدم عليه السلام فإنه كان بناء لأساس البيت كما في خبر بنيانه، وأنزل الله عز وجل عليه من الجنة البيت الذي كان يطوف به، وهو البيت المعمور كما سبق، ولعله الخيمة المشار إليها في خبر وهب بن منبه، والله أعلم. ولعل سبب نسبة هذا البناء لشيث بن آدم كونه: كان وصي ابنه، كما يروى عن وهب بن منبه، والله أعلم. وأما بناء الخليل عليه السلام فهو ثابت كما في القرآن العظيم والسنة الشريفة، وهو أول من بنى البيت على ما ذكر الفاكهي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجزم به الشيخ عماد الدين بن كثير في تفسيره، وقال: لم يجئ خبر عن معصوم، أن البيت كان مبنيا قبل الخليل2...... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 51. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 225، وتاريخ القطبي "ص: 35" ومناهج الكرم "ورقة 410أ".

وروينا في تاريخ الأزرقي عن ابن إسحاق: أن الخليل عليه السلام لما بنى البيت جعل طوله في السماء تسعة أذرع، وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعا من الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عنده الحجر من وجهه، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي اثنين وعشرين ذراعا، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحدا وثلاثين ذراعا، وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا، وجعل بابها بالأرض غير مبوب، وحفر جبا في بطن البيت على يمين من دخله يكون خزانة للبيت، وكان يبني وإسماعيل ينقل له الحجارة على رقبته1. وذكر ابن الحاج المالكي في "منسكه" شيئا من خبر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة فقال: وكان صفة بناء إبراهيم عليه السلام للبيت أنه كان مدورا من ورائه، وكان له ركنان وهما اليمانيان فجعلت قريش حين بنوه أربعة أركان ... انتهى. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أما والله ما بنياه يقصب ولا مدر2، ولا كان معهما من الأعوان والأموال ما يسقفانه، ولكنهما أعلياه وطافا به. وروينا عن عثمان بن ساج أنه بلغه: أن الخليل عليه السلام بنى الكعبة من سبعة أجبل. وروينا عن أبي قلابة: أنه بناه من خمسة أجبل: حراء، وثبير، ولبنان، والطور، والجبل الأحمر. وروينا عن قتادة قال: ذكر لنا أنه يعني الخليل عليه السلام بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا3، ولبنان، والجودي4، وحراء. قال: وذكر لنا أن قواعده من حراء ... انتهى. ويروى أنه أسس البيت من ستة أجبل: من أبي قبيس، ومن الطور، ومن القدس، ومن ورقان، ومن رضوى، ومن أحد ... انتهى. قلت: هذا يعكر على الحكمة التي ذكرها السهيلي في كون الخليل بنى الكعبة من خمسة أجبل، على ما قيل، لأنه قال بعد أن ذكر أن الخليل عليه السلام بنى الكعبة من خمسة أجبل هي: طور زيتا، وطور سيناء، والجودي، ولبنان، وحراء: وانتبه الحكمة.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 150. 2 القصب: الغاب، والمدر: الحجارة. 3 طور زيتا" جبل في القدس مشرف على المسجد الأقصى 4 الجودي: جبل يطل على دجلة وعلى جزيرة ابن عمر، وهي قرية من أعمال الموصل، وعلى هذا الجبل استوت سفينة نوح عليه السلام- لما نضب ماء الطوفان.

الله تعالى كيف جعل بناءها من خمسة أجبل: فشاكل ذلك معناها، إذ هثي قبلة الصلوات الخمس وعمود الإسلام، وقد بني على خمس1 ... انتهى. وأما بناء العمالقة وجزهم للكعبة: فذكره الأزرقي، لأنه روى بسنده عن علي بن أبي طالب رضي لله عنه قال في خبر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم، ثم انهدم فبنته قريش2 ... انتهى. وذكره الفاكهي، لأنه روى بسنده عن علي رضي الله عنه قال: أول من بنى البيت إبراهيم، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم هدم البيت فبنته العمالقة، ثم هدم فبنته قريش3. قلت: هذا يقتضي أن جرهما بنت البيت قبل العمالقة، والخبر الأول يقتضي أن العمالقة بنته قبل جرهم، وبه جزم المحب الطبري في "القرى"، والله أعلم. وذكر المسعودي ما يقتضي أن الذي بنى الكعبة من جرهم هو الحارث بن مضاض الأصغر، لأنه لما ذكر خبرهم قال فيه: إن الحارث هذا زاد في بناء البيت ورفعه كما كان عليه من بناء إبراهيم4 ... انتهى. والله أعلم بحقيقة ذلك. وأما بناء قصي بن كلاب: فذكره الزبير بن بكار قاضي مكة في كتاب "النسب"، لأنه قال: وقال غير أبي عبيدة من قريش ابن عبد العزى بن عمران العنبسي: أخذ قصي في بنيان البيت وجمع نفقته، ثم هدمها فبناها بنيانا لم يبن أحد ممن بناها مثله، وجعل، وهو يبنيها يقول: ابني وبيتي الله يرفعها ... وليبن أهل وراثها بعدي بيتا بها وتمامها وحجابها ... بيد الإله وليس بالعبد فبناها وسقفها بخشب الدوم الجيد وبجريد النخل، وبناها على خمسة وعشرين ذراعا، فلذلك يقول أعشى بكر بن وائل: فإني وثوبي راهب اللج والذي ... بناها قصي وحده وابن جرهم لئن شب نيران العداوة بيننا ... لتركلن مني على ظهر شيهم وذكر الزبير بن بكار في مواضع أخر ما يشهد له، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في خبر قصي. ونقل ذلك كله عن الزبير: الفاكهي في كتاب "أخبار مكة" وقال بعد ذكره لخبر عبد العزيز بن عمران: يعني بالشيهم: القنفذ.

_ 1 الروض الأنف 1/ 223. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 62. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 138. 4 مروج الذهب 2/ 47.

وذكر الفاكهي بناء قصي عن غير الزبير، لأنه قال في خبر قصي: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا عبد الله بن يزيد، عن ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود قال: بلغني أن قصي بن كلاب بنى البيت بعد بناء إبراهيم، ثم بنته قريش1 ... انتهى. وذكر أبو عبد الله محمد بن عائذ الدمشقي في "مغازيه": أن قصي بن كلاب بنى البيت. وجزم به الماوردي في "الأحكام السلطانية"، لأنه قال: فكان أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم عليه السلام قصي بن كلاب، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل2 ... انتهى. ولم يذكر ذلك الأزرقي رحمه الله والله أعلم بحقيقة ذلك. وأما قول عبد العزيز بن عمران في الخبر الذي ذكره الزبير بن بكار: وبناها على خمسة وعشرين ذراعا، ففيه نظر، لأنه إن أراد به أن قصيا جعل ارتفاع الكعبة خمسة وعشرين ذراعا كان مخالفا لما اشتهر في الأخبار من أن الخليل عليه السلام جعل طولها تسعة أذرع، وأن قريشا زادت في طولها تسعة أذرع، وإن أراد أن قصيا جعل عرضها خمسة وعشرين ذراعا: فالمعروف أن عرضها من الجهة الشرقية والغربية لا ينقص عن ثلاثين ذراعا في بناء الخليل لها، بل يزيد على خلاف في مقدار الزيادة، وإذا أراد عرضها من الجهة الشامية واليمانية: فعرضها في هاتين الجهتين ينقص عن خمسة وعشرين ذراعا ثلاثة أذرع أو أزيد. وكل من بنى الكعبة بعد إبراهيم عليه السلام لم يبنه إلا على قواعد، غير أن قريشا استقصرت من عرضها في الجهة الشرقية والغربية أذرعا عن أساس إبراهيم- عليه السلام لأمر اقتضاه الحال، وصنع ذلك الحجاج بعد ابن الزبير عنادا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما بناء قريش الكعبة: فهو ثابت كما في السنة الشريفة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحضره صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، كما جزم به ابن إسحق وغير واحد من العلماء، وقيل: ابن خمس وعشرين سنة كما جزم به موسى بن عقبة في "مغازيه" وابن جماعة في "منسكه"3، ونقله مغلطاي عن تاريخ يعقوب بن سفيان، وقيل: ابن ثلاثين سنة حكاه ابن خليل في "منسكه" وجزم به، وهذا القول غير معروف، وأظنه سقط من كتابه لفظة: "خمس" بين "ابن" وبين "ثلاثين"، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 256. 2 الأحكام السلطانية "ص: 160". 3 هداية السالك 3/ 1327، 1328.

وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان حين بناء قريش للكعبة غلاما، ذكر هذا القول الأزرقي، لأنه قال في ترجمة ترجم عليها بقول: "ذكر ما كان عليه ذرع الكعبة حين صار إلى ما هو عليه إلى اليوم من خارج وداخل": ثم بنتها قريش في الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام1 ... انتهى. وذكر الفاكهي ما يوافق ذلك، وفيما ذكره بيان لسن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان غلاما، لأن الغلام يقع على الصبي من حين يولد إلى حين يبلغ، وما ذكره الفاكهي في ذلك مذكور في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ذكر ما كانت عليه الكعبة في عهد إبراهيم عليه السلام من الطوال والعرض إلى يومنا هذا" لأنه قال: ثم بنتها قريش في الجاهلية، وقد كتبنا بناءها في موضع بناء قريش الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ قد ناهز الحلم2...... انتهى. وهذا القول، والقول الذي ذكره ابن خليل غريبان، لمخالفتهما المشهور في سنه صلى الله عليه وسلم حين بنت قريش الكعبة، وهو ما ذكره ابن إسحاق أو ما ذكره ابن عقبة، ولم أر من ذكر ذلك القول الذي ذكره ابن خليل، والله أعلم. وهو صلى الله عليه وسلم الذي وضع الحجر الأسود موضعه من الكعبة حين اختلفت قريش في ذلك، وكان سبب بنائهم لها توهنها من الحريق الذي أصابها حين جمرت، والسيل العظيم الذي دخلها وصدع جدرانها بعد توهنها بالحريق، وجعلوا ارتفاعها من خارجها من أعلاها إلى الأرض ثمانية عشر ذراعا، منها: تسعة أذرع زائدة على طولها حين عمرها الخليل عليه السلام واقتصروا من عرضها أذرعا جعلوها في الحجر، لقصر النفقة الحلال التي أعدوها لعمارة الكعبة عن إدخال ذلك فيها، ورفعوا بابها ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، وكبسوها بالحجارة، وجعلوا في داخلها ست دعائم في صفين، ثلاث في كل صف من الشق الذي يلي الحجر إلى الشق اليماني، وجعلوا في ركنها الشامي من داخلها درجة يصعد منها إلى سطحها، وجعلوها سطحا، وجعلوا فيها ميزابا يصب في الحجر، هذا ملخص بالمعنى مختصر مما ذكره الأزرقي في خبر بناء قريش، وقد ذكرناه بكماله في أصل هذا الكتاب، مع ما ذكره الأزرقي في خبر بناء قريش، وقد ذكرناه بكماله في أصل هذا الكتاب، مع ما ذكره ابن إسحق في ذلك بفوائد3 أخر تتعلق بذلك. وذكر الأزرقي والفاكهي في القدر الذي زادته قريش في طول الكعبة على بناء الخليل عليه السلام أمرا يستغرب أما الأزرقي فإنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية": حدثني جدي عن داود بن

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 78- 80، والسير والمغازي لابن إسحاق 2/ 108. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 226. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 157 وما بعدها.

عبد الرحمن العطار قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم القاري، عن أبي الطفيل..... فذكر خبرا في بنيان قريش للكعبة، وفيه: ثم هدموها وبنوها عشرين ذراعا طولها1 ... انتهى. وأما الفاكهي فإنه قال: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة بن أزهر قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان عالما بأمر الجاهلية وبنيان البيت قال: إن قريشا لما هدمت الكعبة فجعلوا يبنونها بأحجار الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، وكانوا ينقلون الحجارة من أجياد2 ... انتهى باختصار. ووجه الغرابة في ذلك مخالفته لما ذكره الأزرقي والفاكهي وغيرهما، من أن قريشا جعلوا طول الكعبة لما بنوها ثمانية عشر ذراعا. وذكر الفاكهي أيضا في من وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بنتها قريش أمرا يستغرب أيضا لأنه قال في أثناء خبر ذكره: وزعم عباد بن عبد الرحمن الأعرج مولى ربيعة بن الحارث قال: حدثني من لا أتهم عن حسان بن ثابت وكان قد شهد بناءها قال: رأيت عبد المطلب بن هاشم جالسا على سور الكعبة، وهو شيخ كبير قد ربط لها حاجباه، وهم يختصمون في الركن ليرفعوه إليه، فلما قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قضى، ورفعته قريش في الثوب حتى وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فرفعه إلى عبد المطلب، وكان هو الذي وضعه بيده، فقال له محمد بن علي حين حدثه: والله ما سمعت بهذا من أحد من أهل بيتي، وما سمعت أحدا يذكر إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه بيده3. قال عثمان: قال محمد: وحدثت عن بعض أهل العلم أن عبد المطلب أخذه بيده، وجعلت قريش أيديها تحت يده، ثم رفعوا حتى انتهوا به إلى موضعه، فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، كل ذلك قد سمعناه في الركن3 ... انتهى. ووجه الغرابة في كون عبد المطلب وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بنتها قريش، فمخالفته لما اشتهر من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع الحجر الأسود بيده في الكعبة حين بنتها قريش على ما هو مشهور في خبر بنائهم، ويتأيد ذلك بأن عبد المطلب مات وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وقيل: ثماني سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل: تسع سنين،

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 288، 189. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 227. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 228.

وقيل: عشر سنين، وقيل: ست سنين، وقيل: ثلاث سنين، والكعبة بنيت وللنبي صلى الله عليه وسلم خمس وثلاثون سنة وقيل: خمس وعشرون سنة على ما هو المشهور في سنه حين بنتها قريش1 وإذا كان كذلك فلا يكون عبد المطلب وضع الحجر الأسود بيده حين بنتها قريش، ولا حضر بناءهم لها، على أن الفاكهي ذكر في موضع آخر ما يقتضي أن عبد المطلب حضر بناء قريش، ذكر ذلك في خبر تبع. وأما بناء ابن الزبير رضي لله عنهما للكعبة فإنه ثابت مشهور، وسبب ذلك توهن الكعبة من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير رضي الله عنهما بمكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة، لمعاندته يزيد بن معاوية، وما أصابها مع ذلك من الحريق، بسبب النار التي أوقدها بعض أصحاب ابن الزبير رضي الله عنهما في خيمة له، فطارت الرياح بلهب تلك النار، فأحرقت كسوة الكعبة والساج الذي بني في الكعبة حين عمرتها قريش، فضعفت جدران الكعبة، حتى أنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها. ولما زال الحصار عن ابن الزبير رضي الله عنهما لإدبار الحصين بن نمير من مكة بعد أن بلغه موت يزيد بن معاوية، رأي ابن الزبير رضي الله عنهما أن يهدم الكعبة ويبنيها، فوافقه على ذلك نفر قليل، وكره ذلك نفر كثير، منهم ابن عباس رضي الله عنهما. ولما أجمع على هدمها خرج كثير من أهل مكة إلى منى مخافة أن يصيبهم عذاب وأمر ابن الزبير رضي الله عنهما لها يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها ما أخرجته منها قريش في الحجر، وزاد في طولها على بناء قريش نظير ما زادته قريش في طول على بناء الخليل عليه السلام وذلك تسعة أذرع، فصار طولها سبعة وعشرين ذراعا بتقديم السين وهي سبعة وعشرون مدماكا2، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض، أحدهما بابها الموجود اليوم، والآخر المقابل له المسدود، واعتمد في ذلك وفي إدخاله في الكعبة ما أخرجته قريش منها في الحجر حين أخبرته به خالته عائشة رضي الله عنها يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

_ 1 الروض الأنف 1/ 221، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت سنه عندئذ خمسا وثلاثين سنة، كما روى ابن إسحاق وغيره. 2 المدماك: مقياس قديم لأهل مكة.

وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وجعل لها درجة في ركنها الشامي يصعد منها إلى سطحها، وجعل فيها ميزابا يصب في الحجر، وجعل فيها روازن للضوء، هذا ملحق بالمعنى مختصر مما ذكره الأزرقي في خبر بناء ابن الزبير رضي الله عنهما للكعبة1 وما ذكره من أن زيادة ابن الزبير تسعة أذرع في طول الكعبة هو المشهور. وروينا في صحيح مسلم من حديث عطاء بن أبي رباح قال: إن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في طول الكعبة عشرة أذرع، وفيه ما يقتضي أنه لم يهدم الكعبة في الوقت الذي ذكره الأزرقي. وصرح ابن الأثير في "كامله" بأن عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما للكعبة كانت سنة خمس وستين، ثم قال: وقيل: كانت عمارتها في سنة أربع وستين2. وهذا يوافق ما ذكره الأزرقي، والقول الأول موافق لما في مسلم، لأن فيه من حديث عطاء بن أبي رباح قال: لما احترق البيت زمان يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس في الموسم، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة: أنقضها ثم أبنيها، أو أصلح ما وَهَى منها؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إني أرى أن تصلح ما وَهَى منها، وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وحجارة أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو أن أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف ببيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عزم على أمر، فلما مضت الثلاثة أجمع رأيه أن ينقضها، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد عليه أمر من السماء، حتى صعد رجل فألقى منه حجارة، فلما لم ير الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغ به الأرض ... انتهى باختصار. ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي: أنه يقتضي أن ابن الزبير رضي الله عنهما لم يهدم البيت حتى صدر الناس من الموسم، وصدورهم منه كان بعد حجهم، وزمن الحج غير الزمن الذي ذكر الأزرقي أن ابن الزبير رضي لله عنهما هدم فيه البيت، وقد سبق ذلك قريبا، والله أعلم بالصواب. وتكون عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما للبيت على مقتضى حديث عطاء في آخر ذي الحجة من سنة أربع وستين، وفي سنة خمس وستين، وذلك يوافق ما جزم به ابن الأثير في عمارة الكعبة، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 201 وما بعدها. 2 الكامل لابن الأثير 4/ 207.

ولم أر في تاريخ الأزرقي ذكر الوقت الذي فرغ فيه ابن الزبير من بناء الكعبة، وهو سنة خمس وستين، على ما ذكره المسبحي في "تاريخه" على ما وجدت بخط الحافظ رشيد الدين ابن الحافظ زكي الدين المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي، والله أعلم. وذكر المحب الطبري ما يقتضي أن فراغ ابن الزبير رضي الله عنهما من عمارة الكعبة كان في ليلة سابع عشر من رجب من سنة أربع وستين لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في عمرة التنعيم" في الباب الثامن والثلاثين من "القرى" بعد أن ذكر اعتمار ابن الزبير رضي الله عنهما من التنعيم لما فرغ من بناء الكعبة1: وذكر أبو الوليد أن هدم الكعبة كان يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، والظاهر أن ابتداء البناء عقيبه، بعد الفراغ منه، وأهل مكة يعتمرون في ليلة سبع وعشرين من رجب في كل سنة، وينسبون هذه العمرة إلى ابن الزبير رضي الله عنهما ولا يبعد أن يكون بناء الكعبة امتد إلى هذا التاريخ، فإن تطابق الناس على ذلك يأثره الخلف عن السلف، وفعله كل سنة بأسبابه تدل على صحة النسبة إليه، وأنه اعتمر في ذلك الوقت، وأن الفراغ من بناء الكعبة كان في هذا التاريخ، والله أعلم. وقد اختلفت الأخبار فيمن وضع الحجر الأسود في موضعه من الكعبة حين بناها ابن الزبير رضي الله عنهما فقيل: وضعه عبد الله بن الزبير بنفسه، ذكر ذلك الأزرقي في خبر رواه عن الواقدي بسنده؛ لأن فيه: فلما بلغ البناء موضع الركن جاء ابن الزبير رضي الله عنهما حتى وضعه بنفسه، وشده بالقصبة2 ... انتهى. وقيل: وضعه عباد بن عبد الله بن الزبير، وهذا في خبر رواه الأزرقي2 ذكر فيه أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أمر ابنه عبادا وجبير بن شيبة أن يجعلا الركن في ثوب ويخرجاه، وهو يصلي بالناس في صلاة الظهر في يوم شديد الحر، لئلا يعلم الناس بذلك فيتنافسوا في وضعه، وفيه: ففعلا ذلك، وفيه: فكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه عليه جبير بن شيبة. وقيل: وضعه حمزة بن عبد الله بن الزبير بأمر أبيه، نقل ذلك السهيلي3 عن الزبير بن بكار. ورأيت في تاريخ الأزرقي وكتاب الفاكهي ما يقتضي أن الحَجَبة وضعوه في موضعه ومعهم حمزة بن عبد الله بن الزبير، والله أعلم بالصواب.

_ 1 القرى "ص: 622". 2 أخبار مكة للأزرقي "1/ 208. 3 الروض الأنف 1/ 228.

فيتلخص من ذلك أربعة أقوال فيمن وضع الحجر الأسود حين بنى ابن الزبير رضي الله عنهما. وأما بناء الحجاج للكعبة فهو أيضا ثابت مشهور، ذكره الأزرقي وغيره، وملخص ذلك أن الحجاج بعد محاصرته ابن الزبير وقتله كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس منها، وأحدث فيها بابا آخر، واستأذنه في رد ذلك على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب إليه عبد الملك أن يسد بها الغرب، ويهدم ما زاد فيها ابن الزبير رضي الله عنهما في الحجر، ويكبسها به على ما كانت عليه ففعل ذلك الحجاج. وبناؤه في الكعبة، الجدار الذي من جهة الحجر بسكون الجيم والباب الغربي المسدود في ظهر الكعبة عند الركن اليماني وما تحت عتبة الباب الشرقي، وهو أربعة أذرع وشبر، على ما ذكر الأزرقي، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير رضي الله عنهما وهذا ملخص مما ذكره الأزرقي في ذلك بالمعنى1. وكان ذلك في سنة أربع وسبعين من الهجرة على ما ذكره ابن الأثير2، وقيل: سنة ثلاث وسبعين على ما ذكر الذهبي في العبر. ثم إن عبد الملك بن مروان ندم على ما وقع منه في أمر الكعبة، وقال: وددت والله أنى كنت تركت ابن الزبير وما تحمل حين أخبره الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أنه سمع من عائشة رضي الله عنها حديثها عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي اعتمده ابن الزبير رضي الله عنهما فيما فعله في الكعبة. أخبرني بحديث عائشة رضي الله عنها الزاهد عبد الرحمن بن أحمد المصري سماعا بالقاهرة في الرحلة الأولى: أن يونس بن إبراهيم العسقلاني أخبره سماعا، عن أبي الحسن علي بن الحسين البغدادي، عن أبي بكر بن الزاغوني ونصر بن نصر العكبري، قال الزاعوني: أنبأنا ابن نصر الزينبي. وقال العكبري: أنبأنا أبو القاسم بن البسري، قالا: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا بكار بن قتيبة قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سليمان بن حبان قال: حدثنا سعيد بن مينا، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، ولزدت ستة أذرع من الحجر في البيت فإن قريشا استقصرت ذلك لما بنت البيت" 3. وقد اختلفت الروايات فيما تركته قريش من الكعبة في الحجر، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار الحجر.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 210. 2 الكامل لابن الأثير 4/ 365. 3 أخرجه مسلم كما سبق.

ذكر شيء من حال الكعبة بعد بناء ابن الزبير والحجاج وما صنع فيها من العمارة

ذكر شيء من حال الكعبة بعد بناء ابن الزبير والحجاج وما صنع فيها من العمارة: اعلم أنه لم يغير أحد من الخلفاء والملوك فيما مضى من الزمان وإلى الآن1 ما بناه ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج فيما علمناه، ولو وقع ذلك لنُقِلَ، فإن ذلك مما لا يخفى لعظم أمره، والذي غُيِّرَ فيها بعدهما: ميزابها غير مرة، وبابها غير مرة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وبعض أساطينها، وما دعت الضرورة إلى عمارته في جدرها وسقفها، ودرجتها التي يصعد منها إلى سطحها، وعتبتها، ورخامها، وهو مما حدث في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج. وذكر الأزرقي أن الوليد بن عبد الملك أول من فرش الكعبة بالرخام وأزر به جدرانها، ونقل ذلك عن ابن جريج، لأنه قال: قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها، فوزر به، أيضا جدرانها، وفرشها بالرخام، وأرسل به من الشام، ثم قال الأزرقي: فجميع ما في الكعبة من الرخام، فهو من عمل الوليد بن عبد الملك2 ... انتهى. وكان الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان يحب أن يردها على ما بناها ابن الزبير، حين أخبره بذلك خليفته الإمام العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان لما سأله عن ذلك ولم يمنع سليمان من ذلك إلا كون الحجاج صنع ذلك بأمر أبيه عبد الملك بن مروان، ذكر هذا الخبر الأزرقي3. ويروى أن الخليفة الرشيد وقيل: أبوه المهدي أراد أن يغير ما صنعه الحجاج في الكعبة، وأن يردها إلى ما صنع ابن الزبير، فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، لا يشأ أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس ... انتهى بالمعنى. وكأن مالك لحظ في ذلك كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهي قاعدة مشهورة معتمدة.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 213. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 220. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 221.

ونشير إلى ما علمناه من العمارات التي وقعت في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج: فمن ذلك انفتاح الجدار الذي بناه الحجاج من وجه الكعبة ودبرها وترميمه ذكر ذلك إسحق بن أحمد الخزاعي أحد من روى عن الأزرقي في تاريخه، ونص كلامه: وأنا رأيتها، وقد عمر الجدار الذي بناه الحجاج مما يلي الحجر، فانفتح من البناء الأول الذي بناه ابن الزبير مقدار نصف أصبع من وجهها ومن دبرها، وقد رمم بالجص الأبيض ... انتهى. وذكر ذلك في موطن آخر بمعناه. وكلام الخزاعي هذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون ما ذكره من انفتاح الجدار وترميمه وقع في عصره، والآخر: أن يكون وقع ذلك قبله ورآه كما ذكره، والله أعلم. ووقع فيما ذكره الأزرقي: ما يقرب من هذا. ومن ذلك: ما وقع في سطح الكعبة على ما ذكر الأزرقي، لأنه قال: وكانت أرض سطح الكعبة بالفسيفساء، ثم كانت تكفّ عليهم إذا جاء المطر، فقلعته الحَجَبة بعد سنة مائتين، وشدوه بالمرمر المطبوخ والجص شيد به تشييدا. ومن ذلك: عتبة باب الكعبة السفلى، على ما ذكره الأزرقي، لأنه قال لما ذكر العمارة المتعلقة بالكعبة في زمن المتوكل العباسي، وهي في سنة إحدى وأربعين ومائتين: وكانت عتبة باب الكعبة السفلى قطعتين من خشب الساج فدثرتا ونخرتا من طول الزمان عليهما، فأخرجهما يعني المندوب للعمارة إسحق بن سلمة الصائغ وصير مكانهما قطعة من خشب الساج، وألبسهما صفائح فضة1 ... انتهى. ومن ذلك: رخامتان أو ثلاث في جدران الكعبة، قلع ذلك إسحاق بن سلمة، وأعاد نصبه بجص صنع في التاريخ المشار إليه ذكر ذلك الأزرقي2 أيضا ومن ذلك ما وقع بعد الأزرقي، وهو عمارة سقف الكعبة والدرجة التي بباطنها، وكلاهما في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة3. ومن ذلك: عمارة رخامها في عشر الخمسين وخمسمائة في غالب ظني وهذه العمارة من جهة الوزير جمال الدين المعروف بالجواد، وزير صاحب الموصل. ومن ذلك: مع وقع في سنة تسع وعشرين وستمائة، وما عرفت المعمور في تلك السنة من الكعبة: هل هو في سقفها؟ أو أرضها وجدرها؟ كإصلاح رخامه في ذلك وغيره، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 301، وإتحاف الورى 2/ 314. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 306، 307. 3 إتحاف الورى 2/ 322.

وهذه العمارة من جهة المستنصر العباسي، لأن في جدر الكعبة اليماني من داخلها رخامة مكتوبا فيها بعد البسملة: أمر بعمارة البيت المعظم الإمام الأعظم أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، وفيها بعد الدعاء له: في شهور سنة تسع وعشرين وستمائة. ومن ذلك رخام الكعبة بأمر الملك المظفر صاحب اليمن، واسمه مكتوب بسبب ذلك في الكعبة في رخامة في وسط الجدار الغربي، ونص المكتوب: أمر بتجديد رخام هذا البيت المعظم: العبد الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن عمر بن علي ابن رسول، وفيها بعد الدعاء له: بتاريخ شوال سنة ثمانين وستمائة1. ومن ذلك: إلصاق رخام خُشِيَ سقوطه في بعض جدرانها من داخلها في آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في أول سنة اثنتين وثمانمائة2. ومن ذلك: مواضع في سطحها كان يكثر وكف المطر منها إلى سفلها، منها: موضع عند الطابق الذي على الدرجة التي يصعد منها إلى سطحها، ومنها: موضع عند الميزاب، وكان الفتح الذي في هذا الموضع متسعا مضرا، يصل الماء منه إلى الجدار الشامي من الكعبة، لقربه منها، وينزل الماء منه في وسط الجدار، ومواضع بقرب بعض الروازن التي للضوء. وكان إصلاح المواضع المذكورة بالجبس بعد قلع الرخام الذي هناك، وأعيد في موضعه، وأبدل بعضه بغيره، وأصلحت الروازن كلها بالجبس، وكانت الأخشاب المطبقة بأعلى الروازن التي عليها البناء المرتفع في سطح البيت قد تخربت، فعوضت بخشب سوى ذلك، وأعيد البناء الذي كان عليها كما كان، إلا أن الروزن الذي يلي باب الكعبة فإن خشبه لم يغير، وكان الروزن الذي يلي الركن الغربي قد تخرب بعض الخشب الذي في جوفه مما يلي السقف والكسوة التي في جوف الكعبة، وكانت الكسوة التي تليه قد زال تشبكها فشمرت، وكان الروزن الذي يلي الركن اليماني منكسرا فقلع وعوض بروزن جيد وجد في أسفل الكعبة، وأصلح في الدرجة أخشاب متكسرة، وشاهدت إصلاح كثير من هذه الأمور وأنا بسطح الكعبة مع من صعد لعمل ذلك، وذلك في أيام متفرقة في العُشْر الأوسط من شهر رمضان سنة أربع وعشر وثمانمائة عقب مطر عظيم حصل بمكة في أوائل هذا العُشْر، وصار يخرج بسببه من باب الكعبة إلى الطواف كأفواه القرب3. ومن ذلك: أن في النصف الأخير من ذي الحجة سنة خمس وعشرين وثمانمائة، أصلحت الروازن التي بسطح الكعبة ورخامة تل ميزابها، لأن الماء كان ينتفع عليها.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 113. 2 إتحاف الورى 3/ 416. 3 إتحاف الورى 3/ 488، والعقد الثمين 1/ 50.

لخراب ما تحتها، فقلعت وأزيل ما تحتها من الخراب، وأعيد إلصاقها بعد إحكام هذا الإصلاح1. ومن ذلك في هذا التاريخ: أن الأخشاب التي بسطح الكعبة المعدة لربط كسوتها تخربت فقلعت وعوض عنها بأخشاب جديدة محكمة، وركبت فيها الحلق الحديد التي يشد بها كسوة الكعبة، ووضعت الأخشاب بسطح الكعبة في مواضعها قبل ذلك. ومن ذلك: أن في صفر سنة ست وعشرين وثمانمائة قلع الرخام الذي بين جدار الكعبة الغربي والأساطين التي بالكعبة لتخربه، وأعيد نصبه محكما كما كان بالجص، وأصلح رخام آخر في بعض جدران الكعبة لتخربه، وأعيد نصبه محكما كما كان بالجص، وأصلح رخام آخر في بعض جدران الكعبة لتخربه، وكتب بسبب ذلك في لوح رخام يقابل باب الكعبة، ومعنى المكتوب فيه، تقرب إلى الله تعالى برخام هذا البيت الشريف المطهر العبد الفقير إلى الله تعالى الملك الأشرف برسباي في سنة ست وعشرين وثمانمائة2 ... انتهى. والملك الأشرف المشار إليه هو صاحب الديار المصرية والشامية والحرمين في هذا التاريخ، زاده الله نصرا وتوفيقا. ومن ذلك: أن الأسطوانة التي تلي باب الكعبة ظهر بها ميل فخيف من أمرها، فاجتمعنا بالكعبة الشريفة مع جماعة من قضاة مكة، والأمير المندوب من مصر في السنة الماضية لعمارة المسجد الحرام أحسن الله إليه وغيره من الأعيان بمكة والعارفين بالعمارة، وكشف من فوق السارية المذكورة فوجدت صحيحة، فحمدنا الله تعالى كثيرا على ذلك، وردت حتى استقامت وأحكم ذلك كما كانت أولا، فلله الحمد، والأمير المشار إليه هو الجناب السيفي مقبل القديدي الملكي الأشرفي صاحبنا، أحسن الله إليه. وكان إصلاح هذه الاسطوانة في يوم السبت سادس عشر صفر سنة ست وعشرين وثمانمائة، وإصلاح الرخام في أيام الشهر المذكور3. ومما غير في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج: عتبة الباب السفلى، لأن الأزرقي ذكر أنها جعلت قطعة واحدة من خشب الساج، كما سبق ذكره وعتبة الكعبة الآن السفلى حجر منحوت، وما عرفت متى كان ذلك. وقد خفي علينا من المعنى الذي ذكرناه من أمر عمارة الكعبة كثير لعدم تدوين من قبلنا لذلك. ويدخل في المعنى الذي ذكرناه من عمارة الكعبة العمارة الواقعة في شاذورانها، وقد بينا ما علمناه من ذلك في الباب الذي بعد هذا في الترجمة المتعلقة بالشاذروان.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 587، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 207"، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 233". 2 إتحاف الورى 3/ 597، والعقد الثمين 1/ 50. 3 إتحاف الورى 3/ 597.

ذكر الأساطين

ذكر الأساطين: وأما الأساطين: فواحدة فيما علمت، على ما ذكر الفاكهي، لأنه قال: حدثني أبو علي الحسن بن مكرم قال: حدثنا عبد الله بن بكر قال: حدثني أبي بكر بن حبيب قال: جاورت بمكة فعابت أسطوانة من أساطين البيت، فأُخْرِجَت، وجيء بأخرى ليُدْخِلوها مكانها، فطالت عن الموضع، وأدركهم الليل، والكعبة لا تفتح ليلا، فتركوها مائلة ليعودوا من غد فيصلحوها، فجاءوا من غد فأصابوها أقوم من القدح ... انتهى. ولم يذكر ذلك الأزرقي ولم أر من ذكر ذلك غير الفاكهي، وهو غريب جدا. والله أعلم. وفيه كرامة للبيت زاده الله شرفا.

ذكر الميازيب

ذكر الميازيب: وأما الميازيب: فميزاب عمله الشيخ أبو القاسم رامشت صاحب الرباط المشهور بمكة، وصل به خادمه "مثقال" بعد موته مع تابوته في سنة سبع وثلاثين وخمسمائة1. وميزاب أنقذه الخليفة المقتفي العباسي2 في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، أو في التي بعدها، وجعل عوض ميزاب رامشت3. ومنها: ميزاب عمله الناصر العباسي4 وهو الآن في الكعبة لأن اسمه مكتوب فيه، وهو خشب مبطن برصاص في الموضع الذي يجري فيه الماء، وظاهره مما يبدو للناس مطلي بفضة، وأصلح الموضع الذي يجري فيه الماء منه في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة أربع عشرة وثمانمائة5، بعد قلع اللوح الذي فوقه يستر مجرى الماء، وأعيد اللوح كما كان وطول هذا الميزاب بما منه في جدار الكعبة يزيد على أربعة أذرع. بالحديد، مقدار ثمن الذراع أو أكثر -الشك مني في مقدار الزيادة بعد تحريري لذلك في التاريخ الذي ذكرنا فيه إصلاحه- وأحدث عهد حلي فيه هذا الميزاب سنة إحدى وثمانين وسبعمائة6.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 507، والعقد الثمين 3/ 385، 386. 2 هو: أبو عبد الله الحسين لأمر الله ابن المستظهر، بويع بالخلافة سنة 540هـ واستمر إلى أن توفي سنة 555هـ. 3 إتحاف الورى 2/ 510، وفيه أن ذلك كان في سنة 542هـ. 4 هو أبو العباس أحمد الناصر لدين الله ابن المستضيء، بويع بالخلافة سنة 575هـ، وظل بها إلى أن توفي سنة 622هـ. 5 إتحاف الورى 3/ 487. 6 إتحاف الورى 3/ 334، والسلوك للمقريزي 3/ 1: 357، 372، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 174، 192، 999". وقد وقع تغيير وتبديل في ميزاب الكعبة على مر العصور، وكان آخره هو ما عمله السلطان العثماني عبد المجيد خان، والذي صنع في إسلامبول عام "1276هـ" وركب في نفس السنة، وهو مصفح بالذهب نحو "50" رطلا، وهو آخر ميزاب، وهو الموجود الآن بالكعبة المشرفة.

ذكر الأبواب

ذكر الأبواب: وأما الأبواب: فباب عمله الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور المعروف بالجواد، سنة خمسين وخمسمائة، وركب عليها في سنة إحدى وخمسين، وكتب عليه اسم الخليفة المقتفي العباسي، وحلاه الجواد حلية حسنة بحيث إنه كان يستوقف الأبصار لحسن حليته على ما ذكر ابن جبير في أخبار رحلته1، وذكر فيها صفة حليته. وكلام ابن الأثير يوهم أن الذي صنع للكعبة الباب في هذا التاريخ الخليفة المقتفي، لأنه قال في أخبار سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فيها قلع الخليفة المقتفي لأمر الله باب الكعبة وعمل عوضه بابا مصفحا بالنقرة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا يدفن فيه إذا مات2 ... انتهى. وليس ما ذكره ابن الأثير من نسبة الباب للمقتفي معارضا لما ذكره ابن جبير من نسبته للجواد، لأن الجواد إنما صنعه بأمر المقتفي، وأضاف إليه هذا الباب بكتابة اسمه عليه، وإنما نبهنا على ذلك لئلا يتوهم أن كلا منهما صنع للكعبة بابا، لأنه يبعد أن يعمل كل منهما للكعبة بابا في تاريخ واحد بسبب واحد، وهو اتخاذ الباب الأول تابوتا للدفن، فإن الجواد عمل تابوتا على ما قيل من الباب الذي كان قبل بابه، حمل فيه إلى المدينة الشريفة، ودفن بها، ولم يكن يتمكن من ذلك إلا بموافقة المقتفي عليه، وإظهاره أن للمقتفي رغبة في عمل الباب الذي قبل بابه تابوتا، ولأجل ذلك نسب هذا الأمر للمقتفي كما ذكر ابن الأثير، والله أعلم.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 102"، وإتحاف الورى 51512ن والعقد الثمين 7/ 33، ودرر الفرائد "ص: 261. 2 الكامل لابن الأثير 11/ 228، والعقد الثمين 7/ 33، ودرر الفرائد "ص: 261"، وإتحاف الورى 2/ 515، 516".

ومنها: باب عمله المالك المظفر صاحب اليمن وكان عليه صفائح فضة زنتها ستون رطلا، وصارت لبني شيبة. ومنها: باب عمله الملك الناصر محمد بن قلاوون1 صاحب مصر، وركب على الكعبة بعد قلع باب الملك المظفر في ثامن عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وكان عليه من الفضة خمسة وثلاثون ألف درهم، وثلاثمائة درهم على ما ذكره البرزالي، وذكر أن هذا الباب من السنط الأحمر2. ومنها: باب عمل في سلطنة ولده الملك الناصر حسن3، وذلك في سنة إحدى وستين وسبعمائة، وهو من خشب الساج، عمل بمكة، واستمر في الكعبة إلى تاريخه4، إلا أنه في سنة ست وسبعين وسبعمائة قلع مها لعمل الحلية التي هي فيه الآن، وعوض عنه بباب قديم كان للكعبة5، وهو الآن في حاصل زيت الحرم، ولعله باب الكعبة الذي عمله الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم أعيد إليها الباب الذي عمل بمكة في دولة الناصر حسن بعد تحليته في التاريخ الذي ذكرناه على ما أخبرني به والدي أعزه الله، وذكر أن مقدار هذه الحلية اثنان وثلاثون ألف درهم، أو ثلاثة وثلاثون لا يزيد عن ذلك، وأنه شاهد تحرير هذه الحلية لما كان مشارفا على عملها، وأظن أنه حلي في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة6، والله أعلم. واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون مكتوب في هذا الباب بأسفله، واسم حفيده الملك الأشرف شعبان بن حسين7 في بعض فيارين الباب، وفي بعض فيارين الباب، وهو الجانب الذي يكون على يمين الداخل إلى الكعبة، مكتوب اسم الملك المؤيد أبي النصر شيخ8، صاحب مصر، نصره الله، لأن بعض خواصه قدم إلى مكه في أول يوم

_ 1 هو سلطان المماليك في مصر والشام، تولى السلطنة عدة مرات أولها سنة 693هـ وعمره تسع سنين، فلبث فيها سنة إلا ثلاثة أيام، ثم تسلطن سنة 698هـ، ثم عاد إلى السلطنة سنة 708هـ، ثم عاد مرة أخرى سنة 709هـ، وبقي بها حتى مات سنة 741هـ "الدرر الكامنة 4/ 144-148". 2 البداية والنهاية 14/ 162، والسلوك 2/2: 362، وإتحاف الورى 3/ 203. 3 تولى السلطنة عام 748هـ حتى عام 752هـ ثم أعيد عام 755هـ حتى عام 762هـ "الدرر الكامنة 2/ 38-40". 4 النجوم الزاهرة 10/ 316، والعقد الثمين 4/ 181. 5 إتحاف الورى 3/ 321، والعقد الثمين 5/ 10، 1/ 52. 6 إتحاف الورى 4/ 334، والسلوك 3/ 1: 357، 372. 7 تولى السلطنة سنة 764هـ إلى أن قتل سنة 778هـ "بدائع الزهور 1 ق/ 111". 8 هو السلطان شيخ المحمودي، تسلطن من سنة 815هـ حتى مات أوائل سنة 827هـ "بدائع الزهور 2/ 60".

من ذي الحجة سنة ستة عشرة وثمانمائة، فرأى جانب الباب المشار إليه محتاجا إلى الحلية، فحلاه بفضة وطلاها بالذهب وكتب في ذلك اسم الملك المؤيد نصره الله، ومقدار الفضة التي حلي بها الموضع المشار إليه مائة درهم ونيف وتسعون درهما، على ما أخبرني به بعض من صاغ ذلك، وكان عمل ذلك والفراغ منه قبل الطلوع إلى عرفة في أيام من العشر الأول من ذي الحجة من سنة ست عشرة وثمانمائة1، واستحسن ذلك ممن صنعه، فالله يزيده رفعة، واسم الملك المظفر صاحب اليمن على مفتاح قفل باب الكعبة الآن، وفي القفل أيضا فيما أظن لأن فيه كتابة ممحوة، والله أعلم.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 510، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 199".

أول من بوب الكعبة

أوَّل من بوب الكعبة: ولنختم هذا الفصل بفائدة في بيان أول من بوب الكعبة: أول من بوبها أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام على ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وقال محمد بن حسن: حدثني عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: أنوش بن شيث بن آدم أول من غرس النخلة، وبوب الكعبة، وزرع الحبة ... انتهى. وذكر ذلك السهيلي رحمه الله، لأنه قال: أنوش، وتفسيره الصادق، وهو بالعربية أنش، وهو أول من غرس النخلة، وبوب الكعبة، وبذر الحبة1 ... انتهى. وروينا في تاريخ الأزرقي ما يقتضي أن تبعا الحميري أول من بوب الكعبة، لأنه قال في أثناء خبر نقله عن ابن إسحاق في بناء إبراهيم الكعبة: وجعل بابها في الأرض غير مبوب حتى كان تبع ابن أسعد الحميري هو الذي جعل لها بابا وغلقا فارسيا، وذكر معنى ذلك في موضع آخر2. وذكر الفاكهي ما يخالف ذلك، لأنه قال: وحدثنا أحمد بن صالح عن الواقدي قال: كان البيت قد دخله السيل من أعلى مكة، فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم عليه السلام وجعلوا له مصراعين وقفلا، فاستخفت جرهم بأمر البيت، وعملوا أمورا وأحدثوا أحداثا لم تكن3 ... انتهى. ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي أنه يقتضي أن جرهما جعلوا للكعبة بابا، وهو المصراعان المشار إليهما في هذا الخبر، والزمن الذي صنعوا فيه ذلك هو زمن ولايتهم للكعبة، وولايتهم لها قبل ولاية خزاعة، وولاية خزاعة لها قبل ولاية قريش، والباب

_ 1 الروض الأنف 1/ 14. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 134، 250. 3أخبار مكة للفاكهي 5/ 225.

الذي عمله تبع هو في زمن ولاة قريش، على ما أشار إليه الفاكهي وغيره في خبر تبع الذي صنع باب الكعبة الذي ذكره الأزرقي، والله أعلم. وذكر بعضهم ما يخالف ما ذكره الزبير والسهيلي في كون أنوش أول من بذر الحبة، لأن القطب الحلبي ذكر أنه بخط أبي علي الحسن بن الأشرف أحمد ابن القاضي عبد الرحيم بن علي البيسان: أول من زرع الحبة آدم عليه السلام فإنه كان يحرث ويزرع. روي أن الشعير من زرع حواء، والحنطة من زرع آدم عليه السلام وإنها تألمت في ذلك، وقال: ذكروه في كتب التاريخ1 ... انتهى2.

_ 1 تاريخ الطبري 1/ 128. 2 وقد تم تركيب بابين للكعبة الأول في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله وذلك عام 1363هـ 1944م وكان مصنوعا من الألمونيوم بسمك "2.5" وارتفاعه "3.10" أمتار. ومدعم بقضبان من الحديد. وتمت تغطية الوجه الخارجي للباب بألواح من الفضة المطلية بالذهب وزين الباب بأسماء الله الحسنى. أما الباب الثاني: فقد أمر بصنعه الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله عام 1397هـ = 1977م بعد ملاحظته قدم الباب وحدوث آثار خدوش في الباب فأصدر توجيهاته بصنع باب جديد، وباب التوبة من الذهب الخالص. وكان لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز "كان وليا للعهد آنذاك" أثر بالغ في أن يظهر العمل الجليل بالصورة التي تتمناها نفس كل مسلم. حيث قام جلالته حين ذاك بزيارة مقر العمل. وكان لهذه الزيارة الكريمة أثرها البالغ في دفع طاقة العمل والانتهاء من العمل قبل الموعد المحدد وقد تم الانتهاء منه في 22 من ذي القعدة سنة 1399هـ وقام بافتتاحه جلالة الملك خالد رحمه الله. وقد تكلفت صناعة البابين باب الكعبة، وباب التوبة "13,42.000" من الريالات عدا كمية الذهب التي تم تأمينها بواسطة مؤسسة النقد العربي السعودي. وكمتها مائتين وثمانين كيلو جراما. وكان الذهب عيار 999.9%. واستغرق العمل منذ بدء العمل التنفيذي فيه في غرة ذي الحجة عام 1398هـ اثني عشر شهرا. وقد أقيمت ورشة خاصة لصناعته. وقد وضعت أفكار مبدئية للباب تتلخص فيما يلي: 1- تحقيق الانسجام بين التصميم الجديد للباب وستارة الباب باستخدام خط الثلث كعنصر عام مميز مع الزخرفة. 2- اختيار نسبة وحجم بروز الزخرفة في التصميم الجديد ومطابقة ذلك على الموقع. 3- تحقيق طريقة تنفيذ الزخرفة بالحفر والنقش على الذهب مع استخدام قليل من الفضة بالإمكانات المحلية وبواسطة شيخ الصاغة في مكة المكرمة. 4- إمكانية الربط بين طريقة التنفيذ والزخرفة الإسلامية الأصيلة التي تمتد إلى التراث العريق في التزيين المعماري الهندسي. 5- استخدام أحدث الطرق التقنية في الهيكل الإنشائي للتوصل إلى درجة عالية من المتانة والجودة بحيث يقوم الباب بوظيفته بدون الاحتياج إلى الصيانة. وفي ضوء هذه المبادئ تم بالنسبة للزخرفة اختيار طريقة التزيين التي تغطي المساحة وهي من صميم التراث الفني الإسلامي نظرا لإمكانية تنفيذه بالحفر على الذهب. أما المساحات الباقية التي =

.................................................................................

_ = في الوسط فقد أخذت نفس روح فن الزخرف الإسلامي حيث وضعت في وسطها دوائر لكتابة الآيات الكريمة بالطريقة المعتادة مع إضافة زخرفات في الزوايا العلوية ليكون شكل الباب العام مقوسا دائريا يحيط بالآيات القرآنية المكتوبة حسب الترتيب الموضوع لها. وتمت التجارب المركزة في شكل إخراج الزخرفة، من أنواع متجانسة أهم عناصرها هي زخرفة الإطار البارز، وهي الزخرفة التي تستمر في مستوى مكان "القفل" حيث تعطي له الأهمية اللازمة، لأن قفل الكعبة المشرفة له شخصية خاصة في الشكل التراثي والوظيفي. وأضيفت في الزاويتين العلويتين زخارف متميزة لإبراز شكل قوس يحيط بلفظ الجلالة "الله جل جلاله" واسم رسول الله "محمد صلى الله عليه وسلم" والآيات القرآنية الكريمة: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] ، {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97] ، {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] ، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} [الأنعام: 54] ، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر: 60] . ويلي ذلك حشوتان على شكل شمسين مشرقتين في وسطها: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" على شكل برواز دائري وقد ثبتت على أرضية الحشوتين العلويتين حلقتا الباب اللتان تشكلان مع القفل وحدة متجانسة شكلا والمتباينة نسبة، ليكون الشكل العام مريحا للنظر. وكتب تحت الحشوتين العلويتين الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] . والحشوتان اللتان تحت القفل في وسطيهما كتبت سورة الفاتحة على شكل قرصين بارزين، وتحت هاتين الحشوتين عبارات تاريخية صغيرة هي: صنع الباب السابق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود سنة 1363هـ وتحتها: صنع هذا الباب في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود سنة 1399هـ. وضمن زخرفة خفيفة كتب في الدرفة اليمنى عبارة: "تشرف بافتتاحه بعون الله تعالى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود في الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1399هـ. وفي الدرفة اليسرى. عبارة: صنعه أحمد إبراهيم بدر بمكة المكرمة صممه منير الجندي. واضع الخط: عبد الرحمن أمين، كما وضعت زخرفة دقيقة خاصة لأنف الباب المثبت على الدرفة اليسرى. أما الجوانب: فقد صممت بطريقة فنية ومثبتة حسب التصميم الزخرفي بعد مراعاة اللوحات الدائرية البارزة التي تحمل أسماء الله الحسنى وعددها خمسة عشر: فوق الباب: يا واسع يا مانع يا نافع الجانب الأيمن: يا عالم يا عليم يا حليم يا عظيم يا حكيم يا رحيم الجانب الأيسر: يا غني يا مغني يا حميد يا مجيد يا سبحان يا مستعان وعلى القاعدة الخشبية تثبت لوحات الذهب الخالص المزخرفة بطريقة النقش والحفر. وهذه القاعدة الخشبية مؤلفة من ثلاثة مستويات في البرواز، الزخرفة الإطارية المستمرة، والثانية تحمل الآيات الكريمة. =

....................................................................................

_ = مقاسات الباب: ويزيد ارتفاع باب الكعبة المشرفة عن ثلاثة أمتار. ويقارب عرضه المترين. بعمق قرب من النصف متر، وهو مكون من درفتين ويتألف الهيكل الإنشائي من قاعدة خشبية بسماكة عشرة سنتيمترات من خشب التيك واسمه الخاص "ما كامونغ" ووزنه النوعي 40.8 سم2. وقد جرى تفصيل الهيكل الإنشائي وتجهيزه بواسطة فنيين إخصائيين في ضوء مطابقة التصميم الزخرفي من جهة. ومراعاة عوامل الطقس والموقع في تحمل الحرارة الشديدة والأمطار من جهة أخرى. واتخذت أحدث الاحتياطات الفنية لمعالجة كافة النقاط التفصيلية. والارتباطات بين الباب والحلق من جهة. والجوانب من جهة أخرى. وزودت نهاية الباب بعارضة من الأسفل لمنع دخول المطر إلى داخل الكعبة المشرفة، وتحتوي على قضيب خاص يضغط حرف الباب على العتبة عند الإغلاق. ولكي يتم تركيب الباب بسهولة أعد إطار من الصلب صنع خصيصا وثبتت عليه المفصلات بحيث تتحمل كل درفة ما يزيد على "500" كيلو جرام. وجهزت المفصلات على عجلات دائرة لسهولة الحركة. وبالنسبة لتثبيت صفائح الذهب على القاعدة الخشبية. فقد تم تركيب مادة لاصقة خاصة تضمن استمرار التصاق الذهب بالخشب إلى فترة غير محدودة. قفل الباب: أما بالنسبة لقفل باب الكعبة المشرفة الجديد فقد صرف النظر عن استخدام القفل الخاص بالباب القديم، والذي يعود إلى عهد السلطان عبد الحميد، وتمت صناعة قفل جديد بنفس مواصفات القفل القديم بما يناسب التصميم الخاص بالباب الجديد، ومع زيادة ضمانة الاغلاق دون الحاجة إلى صيانة. باب التوبة: يقع هذا الباب في الناحية الشمالية حيث يصعد من خلاله إلى سطح الكعبة، وقد تم تصميمه على أساس أن يأتي مطابقا للباب الرئيسي من حيث الزخرفة وطريقة الكتابة بحيث يظهر التجانس بين البابين، ويبلغ عرضه 70سم وارتفاعه 230سم، وصنع من نفس نوع الخشب المصنوع منه باب الكعبة "ماكامونغ" ولكن بسماكة أقل. هامش رقم 6 لصفحة 201 حتى صفحة 204 عن عمارة وتجديد باب الكعبة مصدره: "قصة التوسعة الكبرى" للأستاذ حامد عباس.

الباب الثامن

الباب الثامن: ذكر صفة الكعبة وما أحدث فيها من البدعة: أما أرض الكعبة وجدرانها من داخلها: فمرخمة برخام ملون، وقد ذكر الأزرقي رحمه الله عدد الرخام الذي في أرض الكعبة وجدرانها وألوانه ونقل عن ابن جريج أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أول من رخم أرض الكعبة وجدرانها برخام بعث به من الشام1. وفي الكعبة الآن ثلاث دعائم من ساج على ثلاثة كراسي، وفوقها ثلاثة كراسي، وعلى هذه الكراسي ثلاث جوائز من ساج، ولها سقفان بينهما فرجة، وفي السقف أربعة روازن نافذة من السقف الأعلى إلى السقف الأسفل للضوء، وفي ركنها الشامي درجة من خشب يصعد منها إلى سطحها، وعدد الدرج التي فيها ثمان وثلاثون مرقاة، وسقفها الأعلى مما يلي السماء مرخم برخام أبيض، وطلي بنورة2 في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة بأمر أمير يقال له باشه من أمراء مصر، لما ندبه لعمارة المسجد وغيره بمكة الأمير بركة مدبر المملكة بالديار المصرية مع الملك الظاهر قبل سلطنته. ثم كشطت النورة في سنة إحدى وثمانمائة بأمر الأمير بيسق3.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 297و 304. 2 النورة عند الحجازيين يسميها المصريون الجير الأسود. 3 قال: ابن إياس في حوادث سنة 801 هـ "1/2: 520"ك "وبرز الأمير بيسق الشيخي بالريدانية ليكون أمير حجاج الرجبية، ورسم له بعمارة ما تهدم من المسجد الحرام، وخرج معه المعلم شهاب الدين أحمد بن الطولوني المهندس، إتحاف الورى 3/ 410، السلوك للمقريزي 3/ 2: 923، نزهة النفوس 1/ 491، 492.

ويطيف بسطحها إفريز مبني بالحجارة على جدرها من جميع جوانبها يأتي تحرير ذرعه فيما بعد إن شاء الله تعالى ويتصل بهذا الإفريز أخشاب فيها حلق من حديد، مربوط بها كسوة الكعبة، وبابها من ظاهره مصفح بصفائح فضة مموهة بالذهب، وكذلك فياريز الباب وعتبته العليا مطلية بفضة، زنتها على ما بلغني ألف درهم وثمانمائة درهم، وفيها مكتوب اسم مولانا السلطان الملك الناصر فرج1 بن الملك الظاهر صاحب الديار المصرية، واسم أبيه الملك الظاهر، وأضيف إلى كل منهما الأمر بعمل هذه الحلية، وفيها مكتوب أيضا اسم الأمير أيتمش3 الذي جعله الملك الظاهر أتابكا4 لوالده واسم الأمير يشبك5 الذي كان خازندار6 الملك الظاهر ثم لابنه الملك الناصر، ثم صار داودارا7 للملك الناصر وأتابكا له واسم الأمير بيسق الآمر بهذه الحلية. وأما ما أحدث فيها من البدعة: فهو البدعة التي يقال لها "العروة الوثقى"، والبدعة التي يقال لها "سرة الدنيا"،وقد ذكرهما الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله لأنه قال: وقد ابتدع من قريب بعض الفجرة والمحتالين في الكعبة المكرمة أمرين باطلين عظم ضررهما على العامة. أحدهما: ما يذكرونه من العورة الوثقى، عمدوا إلى موضع عال من جدار البيت المقابل لباب البيت فسموه بالعروة الوثقى، وأوقعوا في قلوب العامة أن من ناله بيده فقد استمسك بالعروة الوثقى، فأحوجهم إلى أن يقاسوا في الوصول إليه شدة وعناء، فركب بعضهم فوق بعض، وربما صعدت الأنثى فوق الذكر ولامست الرجال ولامسوها، فلحقهم بذلك أنواع من الضرر دنيا ودينا.

_ 1 تسلطن سنة 801 حتى سنة 808هـ. "بدائع الزهور 1/ 2: 834، وانظر السلوك 3/ 1178". 2 تسلطن من سنة 784 حتى سنة 791 ثم عاد للسلطنة سنة 792 حتى سنة 801هـ. "السلوك 3/ 938، بدائع الزهور ج 1/ 2: 526" وهو السلطان برقوق. 3 انظر: بدائع الزهور: 1/ 2: 321. 4 "أتابك" أصله أطابك ومعناه الولد الأمير. وأول من لقب بذلك نظام الدولة وزير ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي حين فوض إليه ملكشاه تدبير المملكة سنة 465 بألقاب منها هذا، وقيل: أطابك معناه أمير أب، والمراد: أبو الأمراء وهو أكبر الأمراء المقدمين بعد النائب الكافل، وليس له وظيفة ترجع إلى حكم وأمر ونهي، وغايته رفعة المحل وعلو المقام.. "صبح الأعشى 4/ 18". 5 بدائع الزهور 1/ 2: 525. 6 "الخازندار": وظيفته التحدث في خزائن الأموال السلطانية من نقد وقماش وغير ذلك. "صبح الأعشى 4/ 21". 7 الداودار: صاحب الدواة وحاملها للسلطان أو الأمير، وهو يقوم بإبلاغ الرسائل عنه وتقديم القصص والشكاوى إليه. "صبح الأعشى 5/ 492".

الثاني: مسمار في وسط البيت سموه سرة الدنيا، وحملوا العامة على أن يكشف أحدهم عن سرته، وينبطح بها على ذلك الموضع حتى يكون واضعا سرته على سرة الدنيا، قاتل الله واضع ذلك ومختلقه وهو المستعان ... انتهى بنصه من منسك ابن الصلاح، ونقل ذلك عنه النووي في "الإيضاح" بما يخالف بعض ذلك في اللفظ ويوافقه في المعنى. قلت: وهذان الأمران لا أثر لهما الآن في الكعبة، وكان زوال البدعة التي يقال لها العروة الوثقى في سنة إحدى وسبعمائة، لأن الإمام جمال الدين المطري فيما أخبرني عنه القاضي برهان الدين بن فرحون ذكر أن الصاحب زين الدين أحمد بن محمد بن علي بن محمد المعروف بابن حناء توجه إلى مكة في أثناء سنة إحدى وسبعمائة، فرأى فيها ما يقع من الفتنة عند دخول البيت الحرام، وتعلق الناس بعضهم على بعض، وحمل النساء على أعناق الرجال للاستمساك بالعروة الوثقى في زعمهم فأمر بقلع ذلك المثال، وزالت تلك البدعة، والمنة لله تعالى1 ... انتهى.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 132، 133، السلوك المقريزي 2/1: 12، الدرر الكامنة 1/ 302 برقم 727، النجوم الزاهرة 8/ 215.

ذكر النوع الكعبة من داخلها وخارجها

ذكر النوع الكعبة من داخلها وخارجها ... ذكر ذرع الكعبة من داخلها وخارجها: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي1 قال: ذرع البيت خارج طولها في السماء: سبعة وعشرون ذراعا، وذرع طول وجه الكعبة من الركن الأسود إلى الركن الشامي: خمس وعشرون ذراعا، وذرع ظهرها من الركن اليماني إلى الركن الغربي: خمس وعشرون ذراعا، وذرع شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني: عشرون ذراعا، وذرع شقها الذي فيه الحجر من الركن الشامي إلى الركن الغربي: أحد وعشرون ذراعا، وذرع جميع الكعبة مكسرا: أربعمائة ذراع وثمانية عشر ذراعا، وذرع نقد جدار الكعبة: ذراعان، والذراع أربع وعشرون أصبعا. ثم قال الأزرقي: ذرع طول الكعبة في السماء من داخلها إلى السقف الأسفل مما يلي باب الكعبة: ثماني عشرة ذراعا ونصف، وطول الكعبة في السماء إلى السقف الأعلى: عشرون ذراعا، وذرع داخل الكعبة من وجهها من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن الشامي إلى الركن الغربي وهو الشق الذي يلي الحجر: خمسة عشر ذراعا وثماني عشر إصبعا، وذرع ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي وهو الشق الذي يلي الحجر: خمسة عشر ذراعا وثماني عشرة أصبعا، وذرع ما بين الركن الغربي إلى الركن

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 289، 290.

اليماني- وهو ظهر الكعبة: عشرون ذراعا وستة أصابع، وذرع ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود ستة عشر ذراعا وستة أصابع1. وذكر الأزرقي رحمه الله: ذرع ما بين الأساطين التي في الكعبة، فقال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ذرع ما بين الجدار الذي بين الركن الأسود والركن اليماني إلى الأسطوانة الأولى: أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة الأولى إلى الأسطوانة الثانية: أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة الثانية إلى الأسطوانة الثالثة: أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة الثالثة إلى الجدار الذي يلي الحجر: ذراعان وثمان أصابع2 ... انتهى. وقد حرر ذرع الكعبة الفقيه أبو عبد الله محمد بن سراقة العامري في كتابه "دلائل القبلة"، لأنه قال: اعلم أن الكعبة البيت الحرام مربعة البنيان في وسط المسجد، ارتفاعها من الأرض سبعة وعشرين ذراعا، وعرض الجدار وجهها قرابة أربعة وعشرين ذراعا، وهو بناء الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حين ولي مكة جعل عرضه ثلاثين ذراعا يزيد على ذلك أقل من ذراع، وبعد أن كشف عن قواعد إبراهيم الخليل عليه السلام وبنى عليها. ثم قال: وعرض وجهها وهو الذي فيه بابها: أربعة وعشرون ذراعا، وعرض مؤخرها مثل ذلك، وعرض جدارها الذي يلي اليمن، وهو فيما بين الركن اليماني والركن العراقي، وهو الذي فيه الحجر الأسود: عشرون ذراعا. ثم قال: وعرض جدارها الذي يلي الشام، وهو الذي بين الركن الشامي والركن العراقي: أحد وعشرون ذراعا ... انتهى. وإنما ذكرنا ما ذكره ابن سراقة العامري من ذرع الكعبة، لأن فيه مخالفة لما ذكره الأزرقي في ذرع شقها الشرقي وشقها الغربي، وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في ذرع ذلك ذراعا. وفي النسخة التي رأيتها من كتاب ابن سراقة لحن في التعبير عن ذرع بعض ما نقلته عنه، فكتبته هنا على ما وجدته في النسخة، وذلك واضح لمن تأمله، والله أعلم. وذكر ابن جبير في أخبار رحلته ما يستغرب في طول الكعبة، لأنه ذكر محمد بن إسماعيل بن عبد الرحمن الشيبي زعيم الشيبيين الذين لهم سدانة البيت أخبره أن ارتفاعه في الهواء من الصفح الذي يقابل باب الصفا وهو بين الحجر الأسود واليماني تسع وعشرون ذراعا، وسائر الجوانب ثمان وعشرون، بسبب انصباب السطح إلى الميزاب3 ... انتهى بنصه.

_ 1 أخبار مكة 1/ 290. 2 أخبار مكة 1/ 292. 3 رحلة ابن جبير ص 59.

وما عرفت كيف يستقيم هذا الذرع، وذكر ذرع جهات الكعبة، وأمورا تتعلق بها بالأقدام والخطا، وقد ذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب. وذكر ابن خرداذبه في عرض الكعبة ما يخالف ما ذكره الأزرقي، لأنه قال عند ذكر الكعبة: طول البيت: أربعة وعشرون ذراعا وشبر في ثلاثة وعشرين ذراعا وشبر، ثم قال: وسمكه في السماء سبعة وعشرون ذراعا1 ... انتهى. وهذا الكلام يقتضي أن قوله أولا: طول البيت، المراد به عرضه، لقوله فيما بعد: وسمكه في السماء؛ فإن هذا الذراع طوله، وإذا تقرر ذلك فإن أراد ابن خرداذبه بقوله: طول البيت بيان ذرع شقه الشرقي والغربي فقد خالف الأزرقي في ذلك، لأن الأزرقي ذكر أن ذرع كل من هذين الشقين خمس وعشرون ذراعا، وإن أراد بذلك بيان ذرع شقها الشامي واليماني، فقد خالف في ذلك ما ذكره الأزرقي، لأنه ذكر أن ذرع الشق الشامي واحد وعشرون، واليماني عشرون. والوجه الأول أقرب إلى مراد ابن خرداذبه، وإنما ذكرناه لغرابته، والله أعلم. وقد حرر طول الكعبة من داخلها وخارجها: القاضي عز الدين بن جماعة بذراع القماش المستعمل بمصر في زمنه، وهو المستعمل في زمننا، وذلك في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، فقال فيما أخبرني به عنه خالي رحمهما الله ارتفاعهما من أعلى الملتزم إلى أرض الشاذروان ثلاث وعشرون ذراعا ونصف ذراع وثلث ذراع، وبين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين الركن الشامي وقال له: العراقي من داخل الكعبة: ثمانية عشر ذراعا وثلث وربع وثمن، ومن خارجها: ثلاثة وعشرون ذراعا وربع ذراع، وارتفاع باب الكعبة الشريفة من داخلها ستة أذرع وقيراطان، ومن خارجها خمسة أذرع وثلث، وعرضه من داخلها ثلاث أذرع وربع وثمن، ومن خارجها ثلاث أذرع وربع، وعرض العتبة نصف ذراع وربع. وارتفاع الباب الشريف عن أرض الشاذروان ثلاثة أذرع وثلث وثمن ومن الركن الشامي والغربي من داخل الكعبة خمسة عشر ذراعا وقيراطان. ومن خارجها تسعة عشر بتقديم التاء على السين وربع2.

_ 1 المسالك والممالك 132، 133. 2 في مناسك ابن جماعة: "وربع وثمن" 3/ 1334.

ووقع فيما ذكره ابن جماعة تسمية الركن الشامي الذي يلي وجه الكعبة بالعراقي، وذلك يخالف ما ذكره ابن سراقة في الركن العراقي، ورأيت ما يدل لما ذكره ابن جماعة كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الباب الخامس عشر من هذا الكتاب. وذكر ابن جبير في غير موضع من رحلته ما يوافق ما ذكره ابن جماعة في ذلك1، والله أعلم. وقد حررت ما حرره الأزرقي وابن جماعة من ذرع الكعبة، مع أمور أخر تتعلق بها، وفيما حررناه مخالفة لبعض ما حرراه. ونذكر ما حررناه لبيان معرفة الاختلاف، ومعرفة أمور أخر تتعلق بالكعبة حررناها، ولم يحررها الأزرقي ولا ابن جماعة، وكان تحريرنا لذلك بذراع الحديد الذي حرر به ابن جماعة، ومنه يظهر معرفة ما حرره الأزرقي، لأن تحريره كان بذراع اليد، وهو ينقص عن ذراع الحديد ثمن ذراع بالحديد كما تقدم بيانه في باب حدود الحرم، واتفق تحريرنا لذلك في صحوة يوم الجمعة ثاني شهر ربيع.

_ 1 رحلة ابن جبير: ص 59، 61، 63، 67.

ذكر ذرع الكعبة من داخلها بذراع الحديد

ذكر ذرع الكعبة من داخلها بذراع الحديد: طول جدارها الشرقي من السقف الأسفل إلى أرضها سبعة عشر ذراعا بتقديم السين ونصف ذراع إلا قيراطا وعرضه من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى جدار الدرجة الذي فيه بابها خمسة عشر ذراعا وثمن ذراع. وذرع بقية هذا الجدار، يعرف تقريبا من جدار الدرجة الغربي، لكونه في محاذاة بقية هذا الجدار، وذرع جدار الدرجة الغربي المشار إليه ثلاثة أذرع وقيراط، فيكون ذرع الجدار الشرقي على التقريب ثماني عشر ذراعا وسدس ذراع. وطول الجدار الشامي من سقفها الأسفل إلى أرضها سبعة عشر ذراعا بتقديم السين أيضا وعرض هذا الجدار من جدار الدرجة الغربي إلى ركن الكعبة الغربي أحد عشر ذراعا وقيراط، وذرع بقية هذا الجدار يعرف تقريبا من جدار الدرجة اليماني، لكونه في محاذاة بقية هذا الجدار، وذرع جدار الدرجة المشار إليه ثلاثة أذرع إلا ثمنا، فيكون ذرع الجدار الشامي على التقريب أربعة عشر ذراعا إلا قيراطين. وطول جدارها الغربي من سقفها الأسفل إلى أرضها سبعة عشر ذراعا بتقديم السين أيضا وربع ذراع وثمن ذراع، وعرض هذا الجدار من الركن الغربي إلى الركن اليماني ثمانية عشر ذراعا وثلث ذراع.

وطول جدار الكعبة اليماني من سقفها الأسفل إلى أرضها سبعة عشر ذراعا بتقديم السين ونصف ذراع وقيراطين، وعرض هذا الجدار من الركن اليماني إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود أربعة عشر ذراعا وثلثا ذراع. ومن وسط جدار الكعبة الشامي إلى وسط جدارها اليماني ثمانية عشر ذراعا وثلث. ومن وسط جدار الكعبة الشرقي إلى وسط جدارها الغربي أربعة عشر ذراعا ونصف ذراع وثمن ذراع، وما بين الجدار الشرقي، وبين كرسي الأسطوانة التي تلي الحجر سبعة أذرع بتقديم السين على الباء وثمن، وكذلك ما بينه وبين كرسي الأسطوانة، وما بينه وبين كرسي الأسطوانة التي تلي الحجر سبعة أذرع بتقديم السين أيضا وقيراط، وبن كل من كرسي هذه الأساطين وما يقابله من الجدار الغربي سبعة أذرع بتقديم السين أيضا إلا أنه ينقص في ذرع ما بين كرسي الأسطوانة الوسطى، وما يحاذيها من الجدار الغربي المذكور قيراطين، وبين كرسي الأسطوانة الأولى التي تلي باب الكعبة، وبين جدار الكعبة اليماني أربعة أذرع وثلث، وما بين كرسيها وكرسى الأسطوانة الوسطى أربعة أذرع وربع وثمن، وما بين كرسي الوسطى وكرسي الأسطوانة الثالثة التي تلي الحجر بسكون الجيم أربعة أذرع ونصف، وما بين كرسي هذه الأسطوانة الثالثة والجدار الشمالي الذي يليها ذراعان وربع. وذرع تدوير الأسطوانة الأولى التي تلي الباب ذراعا وربع وثمن، وذرع تدوير الوسطى ذراعان ونصف وربع ذراع، وذرع تدوير الأسطوانة التي تلي الحجر ذراعان ونصف وقيراطان، وهي مثمنة، وطول فتحة الباب من داخله مع الفياريز1 ستة أذرع، وطوله من خارجه بغير الفياريز ستة أذرع إلا ربع. وذرع فتحة الباب من داخل الكعبة مع الفياريز ثلاثة أذرع وثلث إلا قيراط، وطول كل من فردتي الباب ستة أذرع إلا ثمن، وعرض كل منهما ذراعان إلا ثلث، وذرع عرض العتبة ذراع إلا ربع، وسعة فتحة باب الدرجة الذي يصعد منه إلا أعلا الكعبة من أسفله ذراع وقيراطان، ومن أعلاه ذراع وثمن، وارتفاع الباب عن الأرض ذراعان ونصف ذراع وسدس ذراع وثمن ذراع.

_ 1 الفياريز: مفردها إفريز.

ذكر ذرع الكعبة من خارجها بذراع الحديد

ذكر ذرع الكعبة من خارجها بذراع الحديد: طول جدارها الشرقي من أعلا الشاخص على سطحها إلى أرض المطاف ثلاثة وعشرون ذراعا وثمن ذراع، وعرض هذا الجدار من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن الشامي الذي يقال له العراقي أحد وعشرون ذراعا وثلث ذراع، ومن عتبة باب الكعبة إلى أرض الشاذروان تحتها ثلاثة أذرع ونصف، وارتفاع الشاذروان تحتها ربع ذراع وقيراط، وطول جدارها الشامي من أعلا الشاخص في سطحها إلى أرض الحجر ثلاثة وعشرون ذراعا إلا ثمن ذراع، وعرض هذا الجدار من الركن الشامي إلى الركن الغربي سبعة عشر ذراعا بتقديم السين ونصف ذراع وربع ذراع وطول جدارها الغربي من أعلا الشاخص في سطحها إلى الأرض ثلاثة وعشرون ذراعا، وعرض هذا الجدار من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحد وعشرون ذراعا وثلثا ذراع، وطول جدارها اليماني من أعلا الشاخص في سطحها إلى الأرض كالجهة الشرقية ثلاثة وعشرون وثمن ذراع، وعرض هذا الجدار من الركن اليماني إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود ثمانية عشر ذراعا وسدس ذراع.

ذكر ذرع سطح الكعبة

ذكر ذرع سطح الكعبة: من وسط جدارها الشرقي إلى وسط جدارها الغربي أربعة عشر ذراعا وربع ذراع وثمن ذراع، ومن وسط جدارها الشامي إلى وسط جدارها اليماني ثمانية عشر ذراعا إلا ثمن ذراع، وارتفاع الشاخص في الجهة الشرقية ذراع إلا ثمن، وعرضه ذراعان إلا سدس، وارتفاع الشاخص في الجهة الشامية ذراع وثمن، وعرضه ذراعان إلا ثمن، وارتفاع الشاخص في الجهة الغربية ذراع، وعرضه ذراع ونصف وثمن، وارتفاع الشاخص في الجهة اليمانية ثلثا ذراع، وعرضه ذراع ونصف قيراط. وما ذكرناه من ذرع عرض الكعبة من داخلها وخارجها ينقص عما ذكره ابن جماعة في ذلك، وما ذكرناه في طولها من خارجها ينقص عما ذكره ابن جماعة في ذلك، لأن ما ذكرناه ينقص في طولها من خارجها ثلثي ذراع وقيراطا، وينقص في ذرع كل من جدارها الشرقي من خارجها ذراعين إلا قيراطين، وينقص في عرضه من داخلها نصفا وقيراطا، وينقص في ذرع عرض جدارها الشامي من خارجها ذراعا، وينقص في عرضه من داخلها ذراعا وسدسا، وينقص في ذرع عرض جدارها الغربي من خارجها ذراعا وثلث ذراع، وينقص في عرضه من داخلها ثلث ذراع وثمن ذراع، وينقص في ذرع عرض جدارها اليماني من خارجها ذراعا وقيراطين وينقص في عرضه من داخلها ثلثي ذراع، وكل ذلك بذراع الحديد.

ذكر شاذروان الكعبة وحكمه وشيء من خبر عمارته

ذكر شاذروان الكعبة وحكمه وشيء من خبر عمارته: أما شاذروان الكعبة: فهو الأحجار اللاصقة بالكعبة التي عليها البناء المسنم المرخم في جوانبها الثلاثة: الشرقي، والغربي، واليماني. وبعض حجارة الجانب الشرقي لا بناء عليه، وهو شاذروان أيضا. وأما الحجارة اللاصقة بجدار الكعبة الذي يلي الحجر فليست شاذروانا، لأن موضعها من الكعبة بلا ريب كما سبق بيانه. والشاذروان هو ما نقصته قريش من عرض جدار أساس الكعبة حين ظهر على الأرض كما هو عادة الناس في الأبنية، أشار إلى ذلك الشيخ أبو حامد الأسفراييني وابن الصلاح، والنووي، ونقل ذلك عن جماعة من الشافعية وغيرهم، والمحب الطبري1، وذكر أن الشافعي أشار إلى ذلك في "الأم"2، ونقل عنه أنه قال: إن طاف عليه أعاد الطواف ... انتهى. وقد اختلف العلماء في حكم الشاذروان، فذهب الشافعي وأصحابه إلى وجوب الاحتراز منه وعدم إجزاء طواف من لم يحترز منه، وهو مقتضى مذهب مالك على ما ذكر ابن شاش، وابن الحاجب، وشارحه الشيخ خليل، وتلميذه صاحب "الشامل" وغيرهم من متأخري المالكية، وأنكر ذلك بعض متأخري المالكية، ولم يثبته في المذهب. ومذهب الحنابلة: أن الاحتراز منه مطلوب، إلا أن عدم الاحتراز يفسد الطواف. ومذهب أبي حنيفة: أنه ليس من البيت على مقتضى ما نقل القاضي شمس الدين السروجي من الحنفية عنهم. وهو اختيار جماعة من محققي العلماء على ما ذكر القاضي عز الدين بن جماعة. قلت: ينبغي الاحتراز منه، لأنه إن كان من البيت- كما قيل فالاحتراز منه واجب، وإلا فلا محذور في ذلك، كيف والخروج من الخلاف مطلوب، وهو هنا قوي، والله أعلم. وبعض الناس يعارض القول بأن الشاذروان من البيت، بكون ابن الزبير رضي الله عنهما بنى البيت على أساس إبراهيم عليه السلام كما جاء في خبر بنيانه، وهذا المعارض لا يخلو من حالتين: أحدهما: أن يدعي أن ابن الزبير، رضي الله عنهما استوفى البناء على جميع أساس جدران البيت بعد ارتفاعها عن الأرض، والآخر: أن يدعي أن البناء إذا نقص من عرض أساسه بعد ارتفاعه عن الأرض لا يكون مبنيا على أساسه، والأول لا يقوم عليه دليل، لأن ما ذكر من صفة بناء ابن الزبير رضي الله عنهما البيت لا يقتضي أن يكون بناء البيت مستوفيا على جميع أساس جدرانه بعد ارتفاعها عن الأرض، ولا ناقصا عن أساسها، ووقوع هذا في بيانه أقرب من الأول، لأن العادة جرت بتقصير عرض أساس الجدار بعد ارتفاعه لما في ذلك من مصلحة البناء، وإذا كان هذا مصلحة فلا مانع من فعله، في البيت لما بني في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما، والله أعلم.

_ 1 القرى: ص 349. 2 الأم: 2/ 170.

نعم في بناء ابن الزبير رضي الله عنهما له على أساس إبراهيم دليل واضح على أنه أدخل في البيت ما أخرجته منه قريش في الحجر، فإنه بنى ذلك على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا أساس قريش. والثاني: غير مسلم، لأن الجدار إذا اقتصر من عرضه بعد ارتفاعه عن الأرض لا يخرجه ذلك عن كونه مبنيا على أساسه. وهذا مما لا ريب فيه، وإنكاره مكابرة، والله أعلم. ولم أدر متى كان ابتداء البناء في الشاذروان، ولم يبن مرة واحدة وإنما بنى دفعات، منها: في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة1، ولم أدر ما بني منه في هذه السنة، ومنها في سنة ست وثلاثين وستمائة، وعلى ما ذكر ابن خليل في "منسكه"، وينص2 لما بين ستة وثلاثين. وذكر أن في هذه السنة ختم الشاذروان عند الحجر الأسود، ومنها: في آخر عشر الستين وستمائة، أو في أوائل عشر السبعين وستمائة، لأن القاضي بدر الدين بن جماعة ذكر أنه رأى الشاذروان في سنة ست وخمسين وستمائة، وهي مصطبة يطوف عليها بعض العوام، ورآه في سنة إحدى وستين. وقد بني عليه ما يمنع من الطواف عليه على هيئة اليوم. هكذا نقل عنه ولده القاضي عز الدين، فيما أخبرني به عنه خالي، رحمهم الله تعالى. وذكر القاضي عز الدين بن جماعة فيما أخبرني عنه خالي أيضا، أن ارتفاع الشاذروان عن أرض المطاف في جهة باب الكعبة: ربع ذراع وثمن ذراع، وعرضه في هذه الجهة نصف وربع. وذكر الأزرقي أن طول الشاذروان في السماء ستة عشر أصبعا، وعرضه ذراع ... انتهى3. وقد نقص عرضه كما ذكر الأزرقي في بعض الجهات، وأفتى المحب الطبري عالم الحجاز في وقت بوجوب إعادة مقداره على ما ذكره الأزرقي، وله في ذلك تأليف نحو نصف كراس سماه "استقصاء البيان في مسألة الشاذروان".

_ 1 إتحاف الورى 2/ 510. 2 هكذا بالأصل ولا معنى لها. 3 أخبار مكة 1/ 309.

ذكر حلية الكعبة المعظمة ومعاليقها

ذكر حلية الكعبة المعظمة ومعاليقها: أول من حلاها في الجاهلية على ما قيل عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم بالغزالين الذهب اللذين وجدهما في زمزم حين حفرها. ذكر ذلك الأزرقي واضطرب كلامه في أول من حلاها في الإسلام، فنقل عن جده أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أول من ذهب البيت في الإسلام، وذكر في موضع آخر ما يخالف ذلك، لأنه قال: وبعث عبد الملك بن مروان بالشمسيتين، وقدحين من قوارير، وضرب على الأسطوانة الوسطى الذهب من أسفلها إلى أعلاها صفائح ... انتهى1. وذكر المسبحي ما يقتضي خلاف ما ذكره الأزرقي في أول من حلى الكعبة في الإسلام، لأنه قال في أخبار سنة خمس وستين من الهجرة: وفيها استتم ابن الزبير رضي الله عنهما بناء الكعبة، ويقال: إنه بناها بالرصاص المذوب المخلوط بالورس، وجعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب ومفاتحها ذهب2 ... انتهى. نقلت ذلك هكذا من خط الحافظ رشيد الدين ابن الحافظ ركن الدين المنذري في اختصاره لتاريخ المسبح، وإنما ذكر ذلك بنصه لما فيه من إفادة تاريخ عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما للكعبة، ولما فيه من أنه بناها بالرصاص مع الورس، وذلك مما لم يذكره الأزرقي في خبر عمارته، والله أعلم. وقال الفاكهي في الأوليات بمكة: وأول من عمل الذهب على باب الكعبة في الإسلام: عبد الملك بن مروان ... انتهى3. وذكر الفاكهي أن الوليد بن عبد الملك أول من جعل الذهب على ميزاب الكعبة4 ... انتهى. وذكر الأزرقي صفة الحلية التي عملت بأمر الوليد ومقدارها، لأنه قال: فلما كان في خلافة الوليد بن عبد الملك بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القسري بستة وثلاثين ألف دينار فضرب منها على بابي الكعبة صفائح الذهب، وعلى ميزاب الكعبة، وعلى الأساطين التي في باطنها، وعلى الأركان في جوفها5. وذكر الأزرقي أن الأمين محمد بن هارون الرشيد الخليفة العباسي أرسل إلى سالم بن الجراح عامل له على موانئ مكة بثمانية عشر ألف دينار؛ ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقلع ما كان على الباب من الصفائح، وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار، فضرب عليها الصفائح التي هي عليه اليوم يعني في زمنه والمسامير، وحلقتي باب الكعبة، وعلى الفياريز، والعتب6.

_ 1 أخبار مكة 1/ 2104، 224. 2 إتحاف الورى 2/ 77، وفيه أن ذلك كان سنة "74هـ"، الكامل لابن الأثير 4/ 87، ودرر الفرائد "ص: 198". 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 237. 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 237. 4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 242، العقد الثمين 3/ 390. 5 أخبار مكة 1/ 212، 213. 6 أخبار مكة 1/ 212.

وذكر الأزرقي أن الحجبة كتبوا إلى الخليفة المتوكل العباسي رقعة ذكروا فيها أن زاويتين من زوايا الكعبة من داخلها ملبستين1 ذهبا وزاويتين فضة، وأن ذلك لو كان ذهبا كله كان أحسن وأزين، وأن قطعة مركبة على بعض جدران الكعبة شبه المنطقة فوق الإزار الثاني من الرخام، وذكروا أنه لو كان بدل تلك القطعة فضة في أعلا إزار الكعبة في تربيعها كان أبهي وأحسن. وذكر الأزرقي أن المتوكل أنفذ لعمل ذلك، ولعل ما كتب به إليه إسحاق بن سلمة الصائغ. قال: وعمل إسحاق الذهب على زاويتي الكعبة من داخلها، فكان ما كان هنالك من الفضة ملبسا، وكسر الذهب الذي كان على الزاويتين الباقيتين وأعاد عمله، فصار ذلك أجمع على مثال واحد منقوشة مؤلفة ثابتة، وعمل منطقة من فضة، وركبها فوق إزار الكعبة في تربيعها كلها منقوشة متصلا بهذه المنطقة. ثم قال: وفي أعلا2 هذه المنطقة رخام منقوش، فألبس ذلك الرخام ذهبا رقيقا، من الذهب الذي يتخذ للسقوف. قال: وكان في الجدار الذي في ظهر الباب يمنة من داخل الكعبة: رزة كلاب من صفر يشد به الباب إذا فتح بذلك الكلاب، لئلا يتحرك عن موضعه، فقلع ذلك الصقر، وصير مكانه فضة، وألبس ما حول باب الدرجة فضة مضروبة. قال: وكانت عتبة الباب السفلي قطعتين من خشب الساج قد رثتا ونخرتا من طول الزمان عليها، فأخرجهما وصير مكانهما قطعة واحدة من خشب الساج، وألبسها صفائح فضة. قال الأزرقي: وأخبرني إسحاق بن سلمة الصائغ أن مبلغ ما كان في الزوايا من الذهب والطوق الذي حول الجزعة: نحوا من ثمانية آلاف مثقال، وأن ما في منطقة الفضة، وما كان على عتبة الباب السفلى من الصفائح، وعلى كرسي المقام من الفضة نحوا من سبعين ألف درهم، وما ركب من الذهب الرقيق على جدران الكعبة وسقفها نحوا من مائة حق يكون في كل حق خمسة مثاقيل، هذا ما ذكره الأزرقي من خبر حلية الكعبة3. وأفاد السهيلي في تحلية الوليد بن عبد الملك للكعبة أمرا لم يفده الأزرقي، وفي كلامه ما يقتضي أنه ليس أول من حلاها في الإسلام، ولنذكر كلامه لإفادة ذلك، ونصه: ثم كان الوليد بن عبد الملك، فزاد في حليتها، وصرف في ميزابها وسقها ما كان في مائدة سليمان عليه السلام من ذهب وفضة، وكانت قد احتملت على بغل قوي فتفسخ.

_ 1 كذا في لأصل، والصحيح "ملبستان". 2 كذا في الأصل. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 301.

تحتها، فضرب منها الوليد حلية الكعبة، وكانت قد احتملت إليه من طليطلة من جزيرة الأندلس، وكانت لها أطواق من ياقوت وزبرجد1.... انتهى. ولنذكر ما علمناه من خبر حليتها بعد الأزرقي على الترتيب، فمن ذلك: أن وفد الحجبة كتبوا إلى الخليفة المعتضد العباسي يذكرون أن بعض عمال مكة كان قد قلع ما على عضادتي باب الكعبة من الذهب فضربه دنانير، واستعان به على حرب وأمور كانت بمكة بعد العلوي الخارجي بها في سنة إحدى وخمسين ومائتين2 فكانوا يسترون العضادتين بالديباج، وأن بعض العمال بعده قلع مقدار الربع من أسفل ذهب بابي الكعبة في سنة اثنتين وستين ومائتين3، وجعل ذلك فضة مضروبة مموهة بالذهب، على مثال ما كان عليها، فإذا تمسح به في أيام الحج بدت الفضة، حتى تجدد تمويهها في كل سنة وأن المعتضد أمر بعمل ذلك وعمل ما رفع إليه، فعمل ذلك. ومن ذلك: أن أم المقتدر الخليفة العباسي أمرت غلامها لؤلؤ بأن يلبس جميع الأسطوانة الأولى التي تلي باب الكعبة الذهب، لأن التي تليها كانت ملبسة بصفائح الذهب، وبقيتها مموهة، وذلك في سنة عشر وثلاثمائة4. ومن ذلك: أن الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور المعروف بالجواد وزير صاحب مصر أنفذ في سنة تسع وأربعين وخمسمائة رجلا من جهته يقال له الحاجب، ومعه خمسة آلاف دينار لعمل صفائح الذهب والفضة في داخل الكعبة وفي أركانها5. وممن حلاها: الملك المظفر صاحب اليمن، وحليته لبابها، وقد تقدم مقدار الحلية التي كانت على الباب الذي صنعه لها. وحلاها حفيده الملك المجاهد صاحب اليمن، وأخبرت عمن رأى: اسم الملك المجاهد مكتوب6 بقلم غليظ في أعلى الحائط الذي فوق باب الكعبة من داخلها. وقد تقدم أن الملك الناصر محمد بن قلاون الصالحي صاحب مصر حلى باب الكعبة الذي عمله لها بخمسة وثلاثين ألف درهم وثلاثمائة درهم، وأن حفيده الملك الأشرف شعبان بن حسين حلى باب الكعبة في سنة ست وسبعين وسبعمائة7، فهذا ما علمته من حلية الكعبة بعد الأزرقي.

_ 1 الروض الأنف 1/ 224. 2 إتحاف الورى 2/ 329. 3 إتحاف الورى 2/ 338. 4 إتحاف الورى 2/ 368، أخبار مكة للأزرقي 1/ 291. 5 إتحاف الورى 2/ 514، العقد الثمين 2/ 212. 6 كذا بالأصل والصحيح "مكتوبا". 7 إتحاف الورى 3/ 2321، العقد الثمين 1/ 52، 5/ 10.

ذكر معاليق الكعبة وما أهدي إليها في معنى الحلية: قال المسعودي في أخبار الفرس: وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالا في صدر الزمان وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك أهدى غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا وذهبا كثيرا، فدفن في زمزم، وقد ذهب قوم من مصنفي الكتب في التواريخ وغيرها من السير أن ذلك كان لجرهم حين كانت بمكة، وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها، ويحتمل أن يكون لغيرها1، والله أعلم ... انتهى. ويقال: إن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة، ذكر ذلك صاحب "المورد العذب الهني". وذكر الأزرقي رحمه الله أشياء أهديت للكعبة، لأنه قال: حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي، عن أشياخه قال: لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدائن كسرى كان مما بُعث إليه هلالان، فبعث بهما من يعلقهما في الكعبة، وبعث عبد الملك بن مروان بالشمسيتين وقدحين من قوارير، ثم قال: وبعث الوليد بن عبد الملك بقدحين، وبعث الوليد بن يزيد بالسرير الزينبي وبهلالين، ثم قال: بعث أبو العباس يعني السفاح بالصفحة الخضراء، وبعث أبو جعفر يعني أخاه المنصور بالقرورة الفرعونية وبعث المأمون بالياقوتة التي تعلق كل سنة في وجه الكعبة في الموسم بسلسلة من ذهب، وبعث أمير المؤمنين جعفر المتوكل بشمسية عملها من ذهب، مكللة بالدر الفاخر، والياقوت الرفيع، والزبرجد، وسلسلة تعلق في وجه الكعبة في كل موسم. وقال الأزرقي: حدثني سعيد بن يحيى البلخي قال: أسلم ملك من ملوك التبت2 وكان له صنم من ذهب يعبده في صورة إنسان، وكان على رأس الصنم تاج من ذهب مكلل بخرز الجوهر، والياقوت الأحمر والأخضر، والزبرجد، وكان على سرير مربع مرتفع على الأرض على قوائم، والسرير من فضة، وعلى السرير فرشة الديباج، وعلى أطراف الفرش أزرار من ذهب وفضة مرخاة، والأزرار3 على قدر الكرسي في وجه

_ 1 مروج الذهب 1/ 242. 2 في أخبار مكة 1/ 225: "التبت". 3 في أخبار مكة 1/ 225: "أزرار".

السرير، فلما أسلم ذلك الملك، أهدى السرير والصنم إلى الكعبة، هذا ما ذكره الأزرقي في معاليق الكعبة، وما أُهدي إليها في معنى الحلية. ومما أُهدي لها من هذا القبيل في عهد الأزرقي، ولم يذكره: قفل فيه ألف دينار، أهداه إليها المعتصم العباسي، ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: ذكر قفل الكعبة، وقال بعض المكيين: إن أمير المؤمنين المعتصم بالله بعث إلى الكعبة بقفل فيه ألف دينار في سنة تسع عشرة ومائتين، وعلى مكة يؤمئذ صالح بن العباس، فأرس صالح إلى الحجبة فدعاهم ليقبضهم القفل فأبى الحجبة أن يأخذوه، فأجبرهم على ذلك، وأراد أن يأخذ قفلها الأول ويرسل به إلى الخليفة، فكلموه فتركه عليهم، وأذن لهم في الخروج إليه، فخرجوا إليه فكلموه فيها فترك قفلها هذا الذي عليها، وأعطاهم القفل الذي كان بعث إليها، فقسموه بينهم1 ... انتهى. وذكر المسبحي هذا القفل، وفيما ذكره ما يفهم منه غير ما ذكره الفاكهي، لأنه قال في أخبار سنة تسع عشرة ومائتين وفيها وصل طاهر بن عبد الله بن طاهر حاجا في عدد كثير من الجن بقفل فيه ألف مثقال من ذهب، فقفل به البيت ونزع قفله الذي كان عليه، وكان مطليا، ويقال إن الحجاج عمله ... انتهى. نقلت ذلك من خط الرشيد بن المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي. ومما أُهدي لها من هذا القبيل في عهد الأزرقي أو بعده بقليل: طوق من ذهب مكلل بالزمرد والياقوت وغير ذلك، مع ياقوتة خضراء كبيرة ذكره الفاكهي، لأنه قال: وأسلم ملك من ملوك السند في سنة تسع وخمسين ومائتين فبعث إلى الكعبة بطوق من ذهب فيه مائة مثقال مكلل بالزمرد والياقوت والماس، وياقوته خضراء وزنها أربعة وعشرون مثقالا فدفعها إلى الحجبة، فكتبوا في أمرها إلى أمير المؤمنين المعتمد على الله، وأخذوا الدرة فأخرجوها وجعلوها في سلسلة من ذهب، وجعلوا في وسط الطوق مقابله الياقوت والزمرد، فجاء كتاب أمير المؤمنين بتعليقها، فعلقت مع معاليق الكعبة في سنة تسع وخمسين ومائتين ... انتهى. ومما علق في الكعبة في عهد الأزرق أو بعده بقليل، قصبة من فضة فيها كتاب، فيه بيعة جعفر بن المعتمد وبيعة أبي أحمد الموفق، ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: ثم قدم الفضل بن عباس الهاشمي مكة في موسم سنة إحدى وستين، ومعه كتاب فيه بيعة جعفر ابن أمير المؤمنين المعتمد، وبيعة أبي أحمد الموفق بالله أخي أمير المؤمنين، وما عقد له أمير المؤمنين المعتمد، وبيعة أبي أحمد الموفق بالله أخي أمير المؤمنين، وما عقد له أمير المؤمنين المعتمد على الله، فعمل لذلك قصبة من فضة، فيها ثلاثمائة وخمسون.

_ أخبار مكة للفاكهي 5/ 236.

درهما فضة ثم أدخل الكتاب فيه، وجعل على رأس القصبة ثلاث رزات، وجعل للرزات ثلاث سلاسل من فضة، ثم دخل الكعبة يوم الاثنين لأربع ليال خلون من صفر، ومعه محمد بن يحيى صاحب شرطته، وهو يومئذ على الخراج والبريد والصوافي، فأقاما فيها حين علقت هذه القصبة مع معاليق الكعبة، وذلك في صفر سنة اثنين وستين ومائتين1.... انتهى. وأفاد الفاكهي في صفة الياقوتة التي بعثها المأمون ما لم يفده الأزرقي، وهي أنها أكبر من الدرة اليتيمة، لأنه قال: وبعث أمير المؤمنين المأمون بالياقوتة التي كانت تعلق كل سنة في وجه الكعبة بسلسلة من ذهب، وهي أكبر من الدرة اليتيمة. حدثني حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا إسماعيل بن مجمع قال: وزنت الدرة اليتيمة، فإذا وزنها مثالان ونصف وربع وعشر ... انتهى. ومما أُهدي لها من هذا القبيل بعد الأزرقي: قناديل بعث بها المطيع العباسي2، كلها فضة، خلا قنديلا منها كان ذهبا، زنته ستمائة مثقال، ذلك في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة3. ومن ذلك قناديل ومحاريب أهداها إلى الكعبة صاحب عمان، على ما ذكر أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك" ونص كلامه: وقد أهدى صاحب عمان إلى الكعبة بعد العشرين وأربعمائة محاريب مبنية زنة المحراب أزيد من قنطار، وقناديل في نهاية الإحكام، وسمرت المحاريب في الكعبة مما يل بابها.... انتهى. ومن ذلك: قناديل ذهب وفضة، أهداها للكعبة الملك المنصور عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن في سنة اثنين وثلاثين وستمائة. ومن ذلك: قفل ومفتاح أهداه إليها الملك الظاهر بيبرس4 صاحب مصر، وركب عليها القفل المذكور. ومن ذلك: حلقتان من ذهب مرصعتان باللؤلؤ والبلخش، كل حلقة وزنها ألف مثقال، وفي كل حلقة ست لؤلؤات فاخرات، وبينها ست قطع بلخش فاخر، بعث بذلك الوزير علي شاه وزير السلطان أبي سعيد بن خرابنده ملك التتر على يد الحاجي مولا واخ، في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، ولما أراد تعليق ذلك بباب الكعبة منعه منه أمير

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 236، 237. 2 تولى الخلافة سنة 334 وبقي إلى سنة 363هـ. 3 إتحاف الورى 2/ 407، المنتظم 7/ 53، الجامع اللطيف "ص 112، درر الفرائد "ص: 245". 4 ولي السلطنة في مصر سنة 658هـ" وظل بها حتى توفي "676هـ" شذرات الذهب 5/ 350.

الركب المصري في هذه السنة، وقال: هذا لا يمكن إلا بإذن السلطان يعني صاحب مصر إذا ذاك وهو الناصر محمد بن قلاون فقال الحاجي مولا واخ: إن الوزير علي شاه كان نذر متى ظفر بخواجه رشيد الدولة وقتله أن يعلق على باب الكعبة حلقتين، فيقال إنه أذن له في تعليقهما زمنا قليلا، ثم رفعتا، وأخذهما إذ ذاك رميثة بن أبي نُمَى من آل قتادة1. ومن ذلك: ما أخبرني به بعض فقهاء مكة: أربعة قناديل كبار، كل قنديل منها على ما ذكر في مقدار الدورق: اثنان منها ذهب واثنان فضة، والمهدي لذلك هو السلطان شيخ أويس صاحب بغداد، وذلك في أثناء عشر السبعين وسبعمائة على ما ذكر، وذكر أن ذلك علق في الكعبة زمنا قليلا، ثم أزيل، وأخذه أمير مكة عجلان بن رميثة ... انتهى بالمعنى. وأهدى الناس بعد ذلك للكعبة قناديل كثيرة، والذي في الكعبة الآن من المعاليق ستة عشر قنديلا، منها ثلاثة فضة، وواحد ذهب، وواحد بلور، واثنان نحاس، والباق زجاج حلبي، وهو تسعة بتقديم التاء. وليس في الكعبة الآن شيء من المعاليق التي ذكرها الأزرقي ولا مما لم يذكره مما ذكرنا سوى الستة عشر قنديلا، ولس فيها شيء من حلية الذهب والفضة التي كانت في أساطينها وجدرانها، وسبب ذلك توالي الأيدي عليه من الولاة وغيرهم على ما ذكر الأزرقي في تاريخه، ووقع ذلك أيضا بعده، فمن ذلك ما وقع لأبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي2 حين خرج عن طاعة الحاكم بأمر الله، ودعا لنفسه بالإمامة وتلقب بالراشد، لأنه أخذ من حليتها وضربه دنانير ودراهم. وهي التي تسمى الفتحية، وأخذ بعد ذلك المحاريب التي أهداها للكعبة صاحب عمان. ومن ذلك: ما وقع لمحمد بن جعفر المعروف بابن أبي هاشم الحسيني3، لأنه في سنة اثنتين وستين وأربعمائة أخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب لما لم يصله شيء من جهة المستنصر4 العبيدي صاحب مصر لاشتغاله عنه بما هو فيه من القحط الذي كاد بسببه أن يستولي الخراب على إقليم مصر5.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 160و 161، السلوك للمقريزي 2/ 1: 190، درر الفرائد "ص: 296". 2 هو أمير مكة، تولاها مرتين، الأولى سنة 384- 401، والثانية سنة 403- 420هـ "انظر عنه الكامل في التاريخ 9/ 331- 332، وفيات الأعيان 2/ 174، 175، العقد الثمين 4/ 69". 3 ولي مكة سنة 461 إلى سنة 487هـ "إتعاظ الحنفاء- 2/ 269". 4 تولى خلافة مصر من سنة 427 إلى سنة 487هـ "إتعاظ الحنفاء 2/ 184، 185". 5 إتحاف الورى 2/ 472، العقد الثمين1/ 440- 443، الكامل لابن الأثير 10/ 22، البداية والنهاية 12/ 99، النجوم الزاهرة 5/ 84، تاريخ الخلفاء "ص: 421"، درر الفرائد "ص: 256".

وقد ذكر الأزرقي في عقوبة من اجترأ على ذلك، وفي التحذير منه أخبارا، منها: ما نقله عن جده أحمد بن محمد الأزرقي، عن عبد الله بن زرارة: أنه كان مال الكعبة يدعى الأبرق، ولم يخالط مالا قط بحقه، ولم يزرأ منه أحد إلا بأن النقص في ماله، وأدنى ما يصيب صاحبه أن يشدد عليه الموت. ومنها أن فتى من الحجبة حضرته الوفاة فاشتد عليه النزع جدا، حتى مكث أياما ينتزع نزعا شديدا، فقال له أبوه لعلك أصبت من الأبرق شيئا يعني مال الكعبة فقال: أربعمائة دينار، فأشهد أن عليه للكعبة أربعمائة دينار فسري عن الفتى، ثم لم يلبث أن مات1. هذا معنى الخبرين باختصار، وبالجملة فلا يجوز أخذ شيء من حلية الكعبة لا للحاجة ولا للتبرك، لأن ما جعل للكعبة وسُبِّلَ لها يجري مجرى الأوقاف، ولا يجوز تغييرها عن وجوهها، أشار إلى ذلك المحب الطبري في "القرى"، قال: وفيه تعظيم للإسلام وترهيب على العدو2 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة 1/ 247. 2 القرى "ص: 638".

ذكر كسوة الكعبة المعظمة

ذكر كسوة الكعبة المعظمة: كسيت الكعبة في الجاهلية والإسلام أنواعا من الكسى، منها: الخصف، والمعافر، والملاء، والوصائل، والعصب1، كساها ذلك تبع الحميري، على ما ذكر ابن إسحاق2. وذكر ابن جريج أنه كساها العصب، وأنه أول من كسى الكعبة كسوة كاملة. وذكر السهيلي أنه كساها المسوح والأنطاع3.

_ 1 العصب: برود يمانية، والوصائل: جميع وصيلة وهي ثوب أحمر مخطط يماني، والملاء، جمع ملاءة وهي ثوب لين رقيق، والمعافر: اسم بلد سميت به الثياب المعافرة التي تصنع فيه، والخصف: جمع خصفة وهي الثوب الغليظ. 2 روى ابن هشام نقلا عن ابن إسحاق أن تبعا أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره. وجعل له بابا ومفتاحا. 3 المسوح: جمع مسح، وهو ثوب من الشعر غليظ، والأنطاع: جمع نطع، وهو بساط من الجلد. وقد ذكر الفاسي رواية السهيلي مقتضبة وتكملتها: أنه كساها بالخصف ثم كساها بالمسوح والأنطاع، ثم كساها بالملاء والوصائل، ومن قوله حين كسى البيت: وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضدا وبرودا فأقمنا به من الشهر عشرا ... وجعلنا لبابه إقليدا ونحرنا بالشعب ستة ألف ... فترى الناس نحوهن ورودا ثم سرنا عنه نؤم سهيلا ... فرفعنا لواءنا معقودا والقصيدة طويلة. "الروض الأنف 1/ 40، 41".

ومنها على ما ذكرت أم زيد بن ثابت الأنصاري: مطارف خز خضر وصفر، وكرار، وأكسية من أكسية الأعراب، وسقاف شعر. ومنها على ما ذكر عمر بن الحكم السلمي: وصائل، وأنطاع، وكرار خز، ونمارق عراقية. ومنها: حبرات يمانية، كساها ذلك: أبو ربيعة المخزومي، وكساها ذلك: قريش حين بنوا الكعبة كما في خبر أبي نجيح وفي رواية أنهم كسوها حينئذ الوصائل. ومنها أنماط فهذه كسوتها في الجاهلية على ما ذكره الأزرقي1. وأما كسوتها في الإسلام على ما ذكر الأزرقي: فثياب يمانية كساها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقباطي من مصر كساها ذلك عمر، وعثمان رضي الله عنهما وكساها عثمان أيضا برودا يمانية، وهو أول من ظاهر لها بين كسوتين. وكساها عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما كان يحلي به بدنه من القباطي، والحبرات والأنماط. وكساها معاوية رضي الله عنه الديباج، والقباطي، والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في آخر رمضان للفطر2. وكساها يزيد بن معاوية: الديباج الخسرواني، وكساها الديباج أيضا ابن الزبير رضي الله عنهما وعبد الملك بن مروان، ويقال في كل من هؤلاء الثلاث إنه أول من كسى الكعبة الديباج. وكساها ابن الزبير رضي الله عنهما حين فرغ من بنائها القباطي. وكساها المأمون ثلاث كسى: الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض الذي أحدثه يوم سبع وعشرين من رمضان للفطر. وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل العباسي. وكساها حسين الأفطس العلوى كسوتين: من قز رقيق، إحداهما صفراء، والأخرى بيضاء أمر بعملهما أبو السريا، هذا ملخص بالمعنى مما ذكره الأزرقي في كسوة الكعبة في الجاهلية والإسلام.

_ 1 أخبار مكة 1/ 249 وما بعدها. 2 ذكر ابن هشام أن أول من كسى الكعبة بالديباج: الحجاج بن يوسف، وأنها كانت تكسى قبل ذلك بالقباطي والبرود 1/ 132، وانظر: أخبار مكة 1/ 253، و254.

وممن ذكر الأزرقي في أنه كسى الكعبة: أبو بكر الصديق: رضي الله عنه ولم يذكر صفة كسوته، ولا وقت كسوة عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كسى الكعبة1 ولم أر من صرح بأنه كساها. ولعله اشتغل عن ذلك بحروبه في تمهيد أمر الدين مع الخوارج، والله أعلم. ووقع فيما ذكره الأزرقي من كسوة الكعبة ذكره القباطي، والوصائل، والحبرات، والعصب، والأنماط. فأما القباطي: فهي جمع قبطية بالضم، وهو ثوب من ثياب مصر رقيق أبيض، كأنه منسوب إلى القبط وهم أهل مصر، والضم فيها من تغيير النسب، وهذا في الثياب، وأما في الناس فقبطي بالكسر لا غير. وأما الوصائل: فثياب حمر مخططة يمانية. وأما الحبرات: فجمع حبرة، وهو ما كان من البرود مخططا يقال له برد حبرة، وبرد حبر على الوصف وعلى الإضافة، وهو ثياب اليمن. وأما العصب فهو برود يمانية يعصب غزلها: أي: يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج، بنأي: موشى ببقايا عصب، منه أبيض، ثم يأخذه صبغ يقال له برد عصب وبرود عصب بالتنوين والإضافة. وأما الأنماط: فضرب من البسط، وإحداها نمط، ذكر تفسير ذلك كله على ما ذكرنا من يعتمد من العلماء رحمهم الله تعالى. وممن كسى الكعبة على ما قيل ولم يذكره الأزرقي: إسماعيل النبي عليه الصلاة والسلام أخبرني خالي عن ابن جماعة قال: وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: وزعم بعض علمائنا أن أول من كسى الكعبة إسماعيل النبي عليه الصلاة والسلام والله أعلم بذلك ... انتهى باختصار. ومنهم: عدنان بن أد: وهو أول من كساها على ما قيل لأن الزبير بن بكار قال في كتابه "النسب": ويقال: إن عدنان بن أد خاف أن يدرس البيت، فوضع أنصابه، فكان أول من وضعها، وأول من كسى الكعبة أو كسيت في زمانه ... انتهى. ومنهم: خالد بن جعفر بن كلاب على ما ذكر السهيلي2 نقلا عن الماوردي، ونص كلام السهيلي بعد أن ذكر شيئا في كسوة الكعبة، ويزيد هنا ما ذكره الماوردي3.

_ 1 راجع أخبار مكة 1/ 253. 2 الروض الأنف 1/ 224. 3 الأحكام السلطانية "ص: 162".

قال: أول من كسى الكعبة الديباج: خالد بن جعفر بن كلاب وجد لطيمة تحمل البر1، ووجد فيها أنماطا فعلقها على الكعبة 2 ... انتهى. وسبقهما إلى ذلك الفاكهي، لأنه قال: وحدثنا محمد بن أبي عمر وعبد الجبار بن العلاء، يزيد أحدهما على صاحبه، قالا: حدثنا سفيان، عن مسعر، عن خشرم، قال: أصاب خالد بن جعفر لطيمة في الجاهلية فيها نمط من ديباج، فأرسل به إلى الكعبة وبسط عليها3 ... انتهى. ومنهم: أم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنها كستها الحرير والديباج، على ما ذكر أبو عبيدة فيما نقله عنه ابن الحاج في منسكه، ونقل عن أبي عبيدة أن سبب كسوتها للكعبة أنها أضلت العباس رضي الله عنه صغيرًا، فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة، فلما وجدته كستها ذلك، وهي أو عربية كست الكعبة الديباج على ما ذكر السهيلي وغيره، وذكر الزبير بن بكار أن الذي أضلته أم العباس رضي الله عنها ونذرت أن تكسو البيت إن رده الله عليها: ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس رضي الله عنه وذكر أنها كانت تنشده بأبيات، ثم قال: فأتاها به رجل من جذام، فكست البيت ثيابا بيضا، والله أعلم. وكسيت الكعبة بعد الأزرقي أنواعا من الكساء، فمن ذلك: الديباج الأبيض الخراساني، والديباج الأحمر الخراساني، على ما ذكر ابن عبد ربه في "العقد"، ولنذكر كلامه بنصه لإفادته ذلك وغيره من أمر كسوة الكعبة، قال بعد أن ذكر شيئا من خبرها: والبيت كله مستوف إلا الركن الأسود فإن الأستار تفرج عنه مثل القامة ونصف، وإذا دنا وقت الموسم كسي القباطي، وهو ديباج أبيض خراساني، فيكون في تلك الكسوة ما دام الناس محرمين، فإذا أحل الناس وذلك يوم النحر حل البيت فكسي الديباج الأحمر الخراساني، وفيه دارات مكتوب فيها حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فيكون كذلك إلى العام القابل، ثم يكسى أيضا على حال ما وصفت، فإذا كثرت الكسوة فخشي على البيت من ثقلها خفف منها، فأخذ ذلك سدنة البيت وهم بنو شيبة ... انتهى كلام صاحب العقد بنصه4. وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة على ما ذكره الذهبي في "العبر"5 وغيرها. ورأيت في كتابه "العقد" ما يقتضي أنه عاش بعد ذلك سنين كما بيناه في أصل هذا الكتاب، والله أعلم.

_ 1 وفي الأحكام السلطانية: "أصاب لطمة في الجاهلية، وفيها نمط ديباج فناطه بالكعبة". 2 الأحكام السلطانية "ص: 162". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 231، فتح الباري 3/ 459، وفيه: من "جرة" بدلا من "حشرم". 4 العقد الفريد 6/ 257، 258. 5 العبر في خبر من غير 2/ 211، 212.

ومن ذلك الديباج الأبيض في زمن الحاكم العبيدي، وفي زمن حفيده المستنصر العبيدي، كساها ذلك الصليحي صاحب اليمن ومكة، وكساها أبو النصر الأستراباذي كسوة بيضاء من عمل الهند في سنة ست وستين وأربعمائة1، وكسيت في هذه السنة الديباج الأصفر، وهذه الكسوة عملها السلطان محمود بن سبكتكين، ثم ظفر بها نظام الملك وزير السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، فأرسل بها إلى مكة، وجعلت فوق كسوة أبي النصر2. وكسيت أيضا كسوة خضراء، وذلك في مبدأ خلافة الناصر العباسي، ولعلها كنت تكسى ذلك من قبل، والله أعلم. وكسيت في زمنه أيضا كسوة سوداء، وفيها طراز أصفر، وكان قبل ذلك أبيض واستمرت فيما أحسب تكسى الديباج الأسود إلى الآن، إلا أن في سنة ثلاث وأربعين وستمائة كسيت ثيابا من القطن مصبوغة بالسواد، كساها ذلك: العفيف منصور بن منعة البغدادي شيخ الحرم بمكة، لما تمزقت كسوتها من الريح الشديدة التي وقعت بمكة في هذه السنة، ووجدت بخط الميورقي ما يقتضي أن هذه الريح كانت في سنة أربع وأربعين وستمائة3، والله أعلم. ولما عريت الكعبة من هذا التاريخ أراد صاحب اليمن الملك المنصور أن يكسوها، فقال له ابن منعة: لا يكون هذا إلا من جهة الديوان يعني الخليفة العباسي ولم يكن عند ابن منعة شيء لأجل ذلك، فاقترض ثلاثمائة مثقال، واشترى بها الثياب المشار إليها، وصبغها بالسواد، وركب فيها الطرز القديمة التي كانت في كسوة الكعبة، وكساها بذلك. وفي سنة عشر وثمانمائة أحدث في كسوة الجانب الشرقي من الكعبة جامات منقوشة بالحرير الأبيض4 وصنع ذلك في سنة إحدى عشر، وفي سنة اثنتي عشرة وفي سنة ثلاث عشرة، وفي سنة أربع عشرة، وترك ذلك في سنة خمس عشرة وثمانمائة وجعلت كسوة هذا الجانب كلها سوداء من غير جامات كما كانت أولا، وكذلك في سنة ست عشرة وثمانمائة، وفي سنة سبع عشرة وثمانمائة، وفي سنة ثماني عشرة وثمانمائة، ثم جعلت في كسوة الجانب الشرقي جامات منقوشة بالحرير الأبيض فيما تحت الطراز إلى أسفل الكسوة في كل شقة من هذا الجانب، وذلك في سنة تسع عشرة وثمانمائة.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 475، العقد الثمين 3/ 261. 2 إتحاف الورى 2/ 476، النجوم الزاهرة 5/ 95. 3 إتحاف الورى 3/ 62، 63، البداية والنهاية 3/ 171، 172، درر الفرائد "ص: 277". 4 إتحاف الورى 3/ 459، درر الفرائد "ص: 318".

وعمل في هذه السنة لباب الكعبة ستارة عظيمة الحسن أحسن من الستائر الأولى التي شاهدناها1. والجامات المشار إليها مكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، بالبياض، وكان ذلك مكتوبا في الشقاق التي أحدثت سنة عشرة وثمانمائة وذلك دوائر. واستمرت الجامات اليض المشار إليها خمس سنين متوالية بعد سنة تسع عشرة وثمانمائة، ثم أزيلت وعوض عنها بجامات سود في سنة خمس وعشرين وثمانمائة2. وفي كسوة الكعبة طراز من حرير أصفر، وكان قبل ذلك أبيض على ما أدركناه، وأول ما عمل أصفر قبل سنة ثمانمائة بسنة أو سنتين، وفي الطراز مكتوب آيات من القرآن العظيم في الجانب الشرقي قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97] وفي الجانب الغربي: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127، 128] وفي الجانب اليماني: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [المائدة: 79] وفي الجانب الشامي اسم صاحب مصر وأمره بعمل هذه الكسوة، وهذا الطراز المذكور في نحو الربع الأعلى من البيت. وذكر بعض العلماء حكمة حسنة في سواد الكعبة؛ لأنا روينا عن ابن أبي الصيف مفتي مكة أن بعض شيوخه قال له: يا محمد تدري لم كسي البيت السواد؟ فقال: لا، قال: كأنه يشير إلى أنه فقد أناسا كانوا حوله فلبس السواد حزنا عليهم، وهذا معنى كلام ابن أبي الصيف. ولمهلهل الدمياطي الشاعر في سواد كسوة الكعبة والقفل: يروق لي منظر البيت العتيق إذا بدت ... لطرفي في الإصباح والطفل كأن حليتها السواد قد نسجت ... من حبة القلب أو من أسود المقل3 وكسوتها في هذه السنة، وفيما قبلها من سبعين سنة من الوقف الذي وقفه السلطان الملك الصالح4 إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر أيام

_ 1 إتحاف الورى 3/ 536. 2 إتحاف الورى 2/ 587، تاريخ الكعبة المعظمة "ص: 261". 3 كذا ورد في الأصل. 4 هو أبو الفداء عماد الدين. تولى السلطنة من سنة 743- 746هـ "انظر عنه كتاب النور اللائح والدر الصادح في اصطفاء مولانا السلطان الملك الصالح، تأليف إبراهيم بن القيسراني، طبعة دار الإنشاء بطرابلس 1982.

سلطنته- على كسوة الكعبة في كل سنة، وعلى كسوة الحجرة النبوية والمنبر النبوي في كل خمس سنين مرة، وهذا الوقف قرية بضواحي القاهرة في طريق القليوبية مما يلي القاهرة اشتراها الملك الصالح من بيت المال ووقفها على ما ذكر فيها، ولم يكسها أحد من الملوك بعد ذلك إلا أخوه الملك الناصر حسن، إلا أن كسوته لم تكن لظاهر الكعبة، وإنما هي لباطنها، وهي الكسوة التي في جوفها الآن. وبلغني أنها كانت أطول من هذا بحيث تصل إلى الأرض، وهي الآن سائرة لمقدار النصف الأعلى وسقفها، وهي حرير أسود، وفيها جامات مزركشة بالذهب وهي الآن ساترة لمقدار النصف الأعلى وسقفها، وهي حرير أسود، وفيها جامات مزركشة بالذهب، ما خلا شقة من السقف بين الأسطوانتين اللتين تليان الباب، فإنها كمخة حرير حمراء، وفي وسطها جامة كبيرة مزركشة بالذهب، وكان إرسال السلطان حسن بهذه الكسوة في سنة إحدى وستين وسبعمائة1. وبلغني أنه كان في جوف الكعبة قبلها كسوة للملك المظفر صاحب اليمن، والملك المظفر أول من كسا الكعبة من الملوك بعد انقضاء دولة بني العباس من بغداد وذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة2 واستمر يكسوها عدة سنين مع ملوك مصر وانفرد بكسوتها في بعض السنين، وكان المتولي لذلك غالبا. وأول من كساها من ملوك مصر بعد بني العباس الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي. وأول سنة كسى فيها الكعبة سنة إحدى وستين وستمائة3. وممن كسا الكعبة من غير الملوك: الشيخ أبو القاسم رامشت صاحب الرباط بمكة، كساها من الحبرات، وغيرها، فكانت كسوته بثمانية عشر ألف دينار مغربية: على ما قال ابن الأثير4:، وقيل بأربعة آلاف دينارن وذلك في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة5. والكعبة تكسى في عصرنا هذا يوم النحر من كل سنة، إلا أن الكسوة في هذا اليوم تسدل عليها من أعلاها، ولا تسبل حتى تصل إلى منتهاها على العادة، وهي شاذوران الكعبة إلا بعد أيام من يوم النحر، ويأخذ سدنتها بنو شيبة يوم النحر ما بقي على الكعبة.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 280، العقد الثمين 1/ 59. 2 العقد الثمين 7/ 489، العقود اللؤلؤية 1/ 133- 135 إتحاف الورى 3/ 84، غاية الأماني 1/ 450. 3 إتحاف الورى 3/ 87، درر الفرائد "ص: 280 العقد الثمين 1/ 59. 4 الكامل في التاريخ 11/ 615. 5 الكامل لابن الأثير 11/ 27، البداية والنهاية 12/ 212، إتحاف الورى 2/ 505، العقد الثمين 4/ 386 درر الفرائد "ص: 259".

من كسوتها القديمة، وهو مقدار نصفها الأعلى، وأخذهم للنصف الأسفل في سابع عشرين ذي القعدة من كل سنة. وذكر ابن جبير في أخبار رحلته ما يفهم أن كسوة الكعبة تشمر في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة، ولا تقطع، لأنه قال بعد أن ذكر فتح الكعبة في هذا اليوم فتحا عاما للسرور: "في هذا اليوم المذكور الذي هو السابع والعشرون من ذي القعدة شمرت أستار الكعبة المقدسة إلى نحو قامة ونصف من الجدار من الجوانب على العادة دائما في الوقت المذكور من الشهر1 ... انتهى. وفي هذا مخالفة لما يفعله الحجبة اليوم من وجهين، أحدهما: أنهم يشمرون كسوة الكعبة في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة في كل سنة من جوانبها الأربعة، إلى عتبة الباب السفلي، وكانوا يصنعون ذلك بعد العصر في هذا اليوم، ثم صاروا يصنعونه في أول نهار. والوجه الثاني: أنهم في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة في كل سنة يقطعون كسوة الكعبة من فوق الباب مع ما شمروه من قبل. وكلام ابن جبير لا يقتضي قطع ذلك في السابع والعشرين، وإنما يقتضي تشميره فيه، ولعل ذلك لكون الحجاج الذين تكثر رغبتهم في تحصيل كسوة الكعبة بالشراء وغيره، وهم الحجاج العراقيون لا يصلون للحج غالبا، إلا موافين ليوم عرفة، ويقصدونها قبل مكة، خيفة فوات الوقوف، وإذا كان كذلك فلا فوت على الحجبة في ذلك الزمان في تأخيرهم قطع كسوة الكعبة في السابع والعشرين، وتأخير قطعها إلى أيام منى، أو أخذ الكسوة فيها جملة عند وصول الكسوة الجديدة. ولعل سبب قطع الحجبة لكسوة الكعبة في السابع والعشرين من ذي القعدة، كون الحجاج من مصر والشام صاروا يقدمون إلى مكة في أوائل العشر الأول من ذي الحجة، فإذا أخر الحجبة قطع ذلك، أو أخذ الكسوة جملة إلى أيام منى فاتت الحجبة بعض مقصودهم من بيع الكسوة في العشر الأول من ذي الحجة، والله أعلم. وذكر ابن جبير ما يقتضي أن الكعبة لا تكسى في يوم النحر، وإنما تكسى في يوم النقر الثاني، لأنه قال: وفي يوم النحر -المذكور- سيقت كسوة الكعبة المقدسة من محلة الأمير إلى مكة على أربعة جمال تقدمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة السوادية والرايات على رأسه والطبول تهز2 وراءه، ثم قال: فوضعت الكسوة في السطح المكرم أعلى

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 143". 2 بمعنى: تصخب.

الكعبة، فلما كان يوم الثلاثاء: الثالث عشر من الشهر المبارك المذكور اشتغل الشيبيون بإسبالها خضراء يانعة تقيد الأبصار حسنا، ثم قال بعد وصفه للكسوة: فحملت كسوتها، وشمرت أذيالها الكريمة صونا لها من أيدي الأعاجم وشدة اجتذابها وقوة تهافتهم عليها وانصبابها1 ... انتهى. وهذا يخالف ما يفعل اليوم من إسدال الكسوة على الكعبة وتشميرها في يوم النحر، وما يفعل اليوم من كسوة الكعبة في يوم النحر يوافق ما ذكره ابن عبد ربه2، وفي هذا العصر من نحو أربع سنين لا يؤتى بكسوة الكعبة من منى في يوم النحر، وإنما يأتي أمير الحاج المصري ومعه أعلامه والدباب، والبوقات تضرب معه حتى يدخل المسجد ويخرج إليه كسوة الكعبة من جوفها، فتنتشر في المسجد في صحنه مما يلي الشق اليماني، فتبرز كسوة كل شق، ويرفعها أعوان الأمير مع الحجبة إلى أعلا الكعبة، حتى تكمل، وتسدل على الكعبة على الصفة السابقة، وموجب وضعها في الكعبة قبل الحج: صونها من السرقة، لأنه قبل ذلك سرق بعضها من محل الأمير بمنى، ثم عادت إليه بشيء بذله، وصار الأمراء بعده يصونونها في الكعبة عند توجههم من مكة إلى الموقف. وفي سنة ثماني عشر وثمانمائة كُسيت الكعبة في رابع ذي الحجة إسبالا على نصفها الأعلى3 ولم تُكس في سنة تسع عشر إلا في يوم النحر، على العادة القديمة التي أدركناها، وعشرين وثمانمائة وكسيت في ثلاث سنين متوالية بعد ذلك في هذا التاريخ، أو بعده قبل اليوم السادس من ذي الحجة، ثم كسيت في سنة خمس وعشرين وثمانمائة في يوم النحر ضحى4، 5.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 157، 158". 2 العقد الفريد "6/ 257". 3 إتحاف الورى 3/ 528، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 268". 4 إتحاف الورى 3/ 587، تاريخ الكعبة المعظمة "ص: 261". 5 واستمرت الكسوة من مصر حتى بعد دخولها سنة 923 تحت حكم العثمانيين، الذين أخذوا على أنفسهم كسوة الحجرة النبوية وكسوة الكعبة من الداخل والطيب والعطور وزيت القناديل. وبقي الأمر كذلك حتى تولى محمد على باشا حكم مصر، وحل الوقف الخاص بالكسوة، وأنشأ إدارة حكومية لصنع الكسوة وتعهدت الحكومة المصرية آنذاك بالإنفاق على صناعة الكسوة. وفي اليوم الرابع من شهر المحرم سنة 1218م دخل الإمام سعود الكبير ابن الإمام عبد العزيز مكة المكرمة حرمها الله في عهد أبيه، ولم يدرك الحج ولا حفل كسوة الكعبة، ولكنه علم ما يصحب الكسوة من بدع فأراد منع تكراره فيما يأتي من أعوام. وانقطعت الكسوة سبع سنوات، كان الإمام سعود يتولى كسوة الكعبة، كساها سنة 1221هـ من القز الأحمر، ثم كساها فيما تلاها من أعوام بالديباج الأسود والقيلان الأسود، وجعل أزرار الكسوة وستارة الكعبة من الحرير الطبيعي الأحمر المطرز بالذهب والفضة. ثم عاد وصول الكسوة من مصر خلال الفترة من سنة 1333هـ إلى سنة 1341هـ حين عادت الكسوة التى أرسلتها مصر، واستعين بالكسوة التي صنعت بالأستانة، حتى دخل الملك عبد العزيز آل سعود مكة المكرمة في 8 جمادى الأولى عام 1343هـ وصار هو المسؤول عن المسجد الحرام، والكعبة المعظمة، والكسوة الشريفة.

ونختم هذه الترجمة بمسألة تتعلق بكسوة الكعبة، وهي أن العلماء اختلفوا في جواز بيع كسوة الكعبة، فنقل جواز ذلك عن عائشة، وابن عباس، وجماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم، ومنع من ذلك ابن القاضي وابن عبدان، من الشافعية. وذكر الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي1 الشافعي في قواعده: أنه لا يتردد في جواز ذلك الآن، لأجل وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة، والوقف بعد استقرار هذه العادة، والعلم بها، فينزل لفظ الواقف عليها. قال: وهذا ظاهر لا يعارضه المنقول المتقدم ... انتهى باختصار. وكان أمراء مكة يأخذون من السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة، وجانبا كبيرا من كسوتها، أو ستة آلاف درهم كاملية عوضا عن ذلك، فسمح لهم بذلك الشريف عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي لما ولى إمرة مكة في آخر سنة ثمان وثمانين وسبعمائة2، وجرى على ذلك الأمراء من بعده في الغالب، ثم إن السيد حسن بن عجلان بعد سنين من ولايته لمكة صار يأخذ منهم ستارة باب الكعبة وكسوة مقام إبراهم ويهدي لمن يرجوه من الملوك وغيرهم، والله الموفق.

_ 1 راجع ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 90- 92 رقم 1666. 2 إتحاف الورى 3/ 357، العقد الثمين 6/ 441.

ذكر طيب الكعبة وأخدامها

ذكر طيب الكعبة وأخدامها: روينا من تاريخ الأزرقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبوا البيت، فإن ذلك من تطهيره. وروينا فيه عنها رضي الله عنها قالت: لأن أطيب الكعبة أحب إلي من أن أهدِي ذهبا وفضة. وروينا فيه عن أبي نجيح قال: إن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أجرى للكعبة وظيفة الطيب بكل صلاة، وكان يبعث لهما المجمر والخلوق في الموسم وفي رجب، وأخدمها عبيدا، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده1. وروينا في تاريخ الأزرقي أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر، ويجمر الكعبة كل جمعة برطلين من مجمر2.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 254. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 257.

وقال المحب الطبري: المجمر ما يتجمر به وهو العود الرطب، وبالضم ما يتجمر به، والخلوق طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، ويغلب عليه الصفرة والحمرة. وقال: قال الإمام أبو عبد الله الحليمي: روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به، وقال: قال عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر، ثم أخذه، ذكره ابن الصلاح في منسكه ... انتهى. وذكر النووي أنه لا يجوز أخذ شيء من طيب الكعبة لا للتبرك ولا لغيره، ومن أخذ شيئا من ذلك لزمه رده، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده، فمسحها به ثم أخذه ... انتهى.

ذكر أسماء الكعبة المعظمة

ذكر أسماء الكعبة المعظمة: للكعبة المعظمة أسماء شريفة منها: الكعبة، ومنها بكة: بالباء الموحدة ومنها: البيت الحرام، ومنها: البيت العتيق، ومنها: قادس، ومنها: نادر1، ومنها: القرية القديمة، وهذه الأسماء الثلاثة الأخيرة مذكورة في تاريخ الأزرقي. وسميت الكعبة بالكعبة: لتكعيبها وهو تدويرها. قال القاضي عياض في "المشارق" لما ذكر الكعبة قال: الكعبة هو البيت نفسه لا غير، سمي بذلك لتكعيبها وهو تربيعها، وكل بناء مرتفع مربع كعبة. وقال النووي: سميت بذلك لاستدارتها وعلوها، وقيل: لتربيعها في الأصل2 ... انتهى. وممن قال إنها سميت بالكعبة لكونها على حلقة الكعب: ابن أبي نجيح، وابن جريج. وسميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة، وقيل غير ذلك. واختلف في معنى البيت العتيق، فقيل: لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة فلم ينله جبار قط، أو لم يقدر عليه جبار وقيل: غير ذلك، والصحيح الأول على ما ذكر ابن جماعة. ومن أسمائها: البنية بباء موحدة ونون وياء مثناة من تحت مشددة، ذكر هذا الاسم لها القاضي عياض في "المشارق" لأنه قال في حرف الباء لما ذكر البيت العتيق: والبنية اسم للكعبة ... انتهى.

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي "ناذر" بالذال المعجمة "1/ 280". 2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 124.

وذكر ابن الأثير في "النهاية" ما يدل لذلك، لأنه قال: وفي حديث البراء بن معرور رضي الله عنه رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر يريد الكعبة وكانت تدعى بنية إبراهيم عليه السلام لأنه بناها وقد كثر قسمهم برب هذه البنية ... انتهى. وذكر الأزرقي ما يشهد لذلك، لأنه روى خبرا عن الواقدي فيه أذان بلال رضي الله عنه للظهر يوم فتح مكة على ظهر الكعبة، وسماع قريش لذلك، وإنكارهم له. وفيه: وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجلل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بنية أبي طلحة1 ... انتهى. وأبو طلحة هو عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب حاجب الكعبة، ولذلك أضافها الحكم إليه، والله أعلم. ومن أسمائها: الدوار بضم الدال المهملة وفتحها وتشديد الواو وبعدها ألف وراء مهملة، ذكر ذلك ياقوت في مختصره لمعجم البلدان2، وذكر أن ابن القطان حكى الوجهين اللذين ذكرهما في ضبطه، وذكر أن دوار أيضا: شجر باليمامة، وضبطه بالوجهين أيضا، وذكر هذا الاسم شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى". ومن أسمائها: المسجد الحرام لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144] والمراد به الكعبة بلا خلاف. وقد ورد إطلاق المسجد الحرام على غير الكعبة، وبينا ذلك في الباب الخامس.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 275. 2 المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 183".

ذكر هدم الحبشي الكعبة في آخر الزمان

ذكر هدم الحبشي الكعبة في آخر الزمان: روينا في مسند أحمد بن حنبل1، وفي "المعجم الكبير" للطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصلع 2 أقرع يضرب عليها بمساحته ومعوله". وروينا في تاريخ الأزرقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه كان يقول: كأني به أصيلع أقيرع3 قائما عليها يهدمها بمسحاته.

_ 1 مسند أحمد 2/ 220. 2 في الأصل أبدع. 3 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 276: "أفيدع".

وروينا في تاريخ الأزرقي أيضا أنه قال: والذي نفس عبد الله بيده إن لأنظر إلى صفته في كتاب الله عز وجل أفيحج1 أصيلع، قائما يهدمها بمساحته2. وروينا في تاريخ الأزرقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني أنظر إليه حبشيا أصيلع أصيمع2 قائما عليها يهدمها بمساحته. وروينا فيه وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" 3. وروينا في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كأني به أسود أفحج يقلعها حجرًا حجرًا" 4. وجزم السهيلي بأن تخريب الحبشي للكعبة يكون بعد رفع القرآن، وذلك بعد موت عيسى عليه السلام على ما ذكر ابن جماعة قال: وصححه بعض العلماء المتأخرين، ونقل عن الحليمي أن ذلك في زمن عيسى عليه السلام، والله أعلم.

_ 1 أفيحج: تصغير أفحج، يقال: فحج في مشيته إذا تدانى صدور قدميه وتباعد عقباه فهو أفحج. 2 خبار مكة للأزرقي 1/ 276. 3 رواه البخاري 3/ 368 "الحج، باب هدم الكعبة"، "وباب قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] ومسلم "2909" في "الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء". 4 أخرجه البخاري 3/ 368: "باب هدم الكعبة".

ذكر وقت فتح الكعبة في الجاهلية والإسلام

ذكر وقت فتح الكعبة في الجاهلية والإسلام: روينا في تاريخ الأزرقي عن سعيد بن عمرو الهذلي عن أبيه قال: رأيت قريشا في الجاهلية يفتحون الكعبة يوم الاثنين والخميس1، وذكر ذلك الفاكهي، وذكر أيضا أنها كانت تفتح في الجاهلية يوم الجمعة لأنه قال: حدثنا أحمد بن صالح بن سعيد عن محمد بن عمرو السلمي، حدثني عبد الله بن يزيد عن سعيد بن عمرو عن أبيه قال: رأيت قريشا في الجاهلية يفتحون البيت يوم الاثنين ويوم الجمعة2 ... انتهى. وروينا فتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس: عن عثمان بن طلحة الحجبي من طريق ابن سعد. وذكر ابن جبير في أخبار رحلته وكانت سنة تسع وسبعين وخمسمائة أن الكعبة تفتح كل يوم اثنين ويوم جمعة إلا في رجب فتفتح كل يوم3 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 174. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 233. 3 رحلة ابن جبير: "ص: 113.

قلت: وفتحها يوم الجمعة مستمر إلى الآن، وفتحها يوم الاثنين متروك، إلا أنه وقع في شهر رمضان، وشوال، وذي القعدة، من سنة إحدى وثمانمائة1، واختص النساء بدخولها في هذا اليوم لأمر أوجب ذلك. وتفتح الكعبة غير يوم الجمعة أيضا، وذلك في أوقات متعددة من كل سنة، منها: في بكرة اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل سنة، ومنها: في بكرة اليوم التاسع والعشرين من رجب من كل سنة، ويختص النساء بدخولها في هذا اليوم أكثر من الرجال، وذلك قبل غسلها. ومنها: في بكرة يوم عيد الفطر. ومنها: في بكرة السادس والعشرين من ذي القعدة، ولا يدخلها في هذا اليوم إلا الأعيان من الناس، وفتحها في هذا اليوم لأجل غسلها. ومنها: في زمن الموسم وذلك في بعض ليالي الثماني الأول من ذي الحجة من كل سنة، وفي بعض هذه الأيام. وفتحها في هذه الأوقات: لأجل البر الذي تأخذه الحجبة ممن يرغب في دخولها، ثم لا تفتح فتحا عاما إلا بعد انقضاء ذي الحجة في أول جمعة من السنة التي تلي ذلك، إلا أنهم في سنة أربع عشرة وثمانمائة فتحت الكعبة بعد سفر الحجاج من مكة، وقبل دخول سنة خمس عشرة وصنع مثل ذلك الحجبة في سنة خمس عشرة، وذلك للرغبة في أخذ البر من الداخلين إليها. وذكر ابن جبير من أوقات فتح الكعبة التي أشرنا إليها فتحها في اليوم التاسع والعشرين من رجب، وذكر أنها تغسل في ثاني هذا اليوم لأجل ما لعله أن يكون وقع من حدث الصغار الذين يدخلون مع أمهاتهم في اليوم التاسع والعشرين من رجب، وذكر أن للنساء احتفالا كثيرا في دخول الكعبة في هذا اليوم2. وذكر ابن جبير فتح الكعبة أيضا في يوم عيد الفطر بكرة3 ولم يذكر فتحها في السادس والعشرين من ذي القعدة، وذكر أنها تفتح في السابع والعشرين من ذي القعدة فتحا عاما، وأن في هذا اليوم شمرت كسوته من جوانبها الأربعة التشمير الذي يسمونه إحرام الكعبة، ثم قال: ولا تفتح من حين إحرامها إلا بعد الوقفة، ثم قال بعد أن ذكر أن كسوة الكعبة وضعت على سطحها في يوم النحر وأسبلت عليها في يوم الثلاثاء الثالث عشر من الشهر المذكور: وشمرت أذيالها صونا لها من أيدي الأعاجم، وفي هذه الأيام

_ 1 إتحاف الورى 3/ 412. 2 رحلة ابن جبير "ص: 113، 115". 3 رحلة ابن جبير "ص: 134".

يفتح البيت الكريم كل يوم للأعاجم العراقيين والخراسانيين، وسواهم من الواصلين مع الأمير العراقي1 ... انتهى. وفي هذا دلالة على أن الكعبة تفتح في أيام الموسم وهو في زمن ابن جبير بعد الحج، لأن الحجاج العراقيين ما يصلون غالبا إلا موافين ليوم عرفة. ولنختم هذه الترجمة بحكم سدانة الكعبة وبحكم ما يأخذه سدنتها ممن يدخلها، وللمحب الطبري في ذلك كلام شاف فنذكره: ونص كلامه: الحجابة منصب بني شيبة، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، كما ولى السقاية للعباس رضي الله عنهم ثم قال: "وسدانة البيت خدمتهم"، وتولي أمره وفتح بابه وإغلاقه، يقال: سدن يسدن سدانة فهو سادن، والجمع سدنة، ثم قال: قال العلماء: لا يجوز لأحد أن ينزعها منهم. قالوا: وهي ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم "مالك" رحمه الله تعالى أن يشرك معهم غيرهم2. قلت: ولا يبعد أن يقال هذا إذا حافظوا على حرمته ولازموا في خدمته الأدب، أما إذا لم يحفظوا حرمته فلا يبعد أن يجعل عليهم مشرف يمنعهم من هتك حرمته، وربما تعلق الجاهل الغبي الرأي المعكوس الفهم بقوله: "وكلوا بالمعروف" فاستباح أخذ الأجرة على دخول البيت، ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك، وأنه من أشنع البدع وأقبح الفواحش، وهذه اللفظة إن صحت رواية فيستدل بها على إقامة الحرمة، لأن أخذ الأجرة ليس من المعروف، وإنما الإشارة والله أعلم إلى ما يقصدون به من البر والصلة من بيت المال على ما يقومون به من خدمته، والقيام بمصالحه، فلا يحل لهم منه إلا قدر ما يستحقونه، والله أعلم. ثم قال بعد أن ذكر أحاديث تتعلق بالحجر بسكون الجيم: وفيها ما يقتضي أن سبب رفع قريش لباب الكعبة ليمنعوا من شاءوا ويدخلوا من شاءوا، وفي قوله: "فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا"، وقوله: "وألصق بابها بالأرض"، دلالة على أن الناس غير محجوبين عن البيت، وأنه لا يحل منعهم، وما يأخذه السدنة على ذلك لا يطيب لهم إلا بطيب نفس من الدافعين، وإنما تجب أجرتهم على ما يتولونه من القيام بمصالحه من بيت المال. قال أبو العالية الرياحي رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} [الأنفال: 41] قال: السهم المضاف إلى الله تعالى إنما هو لبيت الله تعالى، وأكثر أهل العلم على أنه أضاف الخمس إلى نفسه لشرفه، وسهم الله تعالى، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 144". 2 القرى "ص: 506".

واحد ... انتهى. ذكر ذلك مفرقا في موطنين من الباب الثامن والعشرين من كتابه القرى1 وعزا المحب الطبري الخبر الذي فيه، "وكلوا بالمعروف" إلى سنن سعيد بن منصور، وهو في طبقات محمد بن سعد كاتب الواقدي من حديث عثمان بن طلحة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في الباب السابع والثلاثين من هذا الكتاب إن شاء الله. والأصل في غسل الكعبة لتطهيرها في الجملة، ذكر الفاكهي ما يدل له، لأنه قال في ترجمة ترجم عليها بقوله: ذكر أذان بلال بن رباح على الكعبة ورقيه فوقها يوم الفتح للأذان حدثني محمد بن علي المروزي، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فرقي على ظهر الكعبة، فأذن الصلاة، وقام المسلمون فتجرروا في الأزر وأخذوا الدلاء، وارتجزوا على زمزم، فغسلوا الكعبة ظهرها وبطنها، فلم يدعوا أثرا من آثار المشركين إلا محوه وغسلوه2 ... انتهى. وإنما ذكرنا هذا الخبر في هذه الترجمة لما وقع فيها من غسل الحجبة للكعبة، ويكون هذا الخبر كالشاهد بذلك، والله أعلم.

_ 1 القرى "ص: 508". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 221.

ذكر بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها

ذكر بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها: أخبرني بذلك خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري سماعا عن القاضي عز الدين بن جماعة سماعا، أنه نقل من خط والده في الدائرة التي ذكر فيها صفة الكعبة، وما يحتاج إلى معرفة تصويره، وأن والده قال: إنه كتبها في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وستمائة، قال: جهة القبلة لأهل البصرة، والأهواز، وفارس وكرمان، وأصبهان، وسجستان، وشمالي بلاد الصين، وما على سمت ذلك وهو من باب الكعبة إلى الحجر الأسود، فمن جعل القطب على أذنه اليمنى والشولة إذا تدلت للغروب بين عينيه، ومشرق الصيف خلف كتفه الأيمن والدبور1 على خده الأيمن، والجنوب على خده الأيسر، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل الكوفة، وبغداد، وحلوان والقادسية، وهمدان، والري، ونيسابور، وخراسان، ومرو، وخوارزم، وبخارى، وفرغانة، والشاش، وماهان، وما كان على سمت ذلك: ما بين مصلى آدم إلى قرب باب الكعبة، فمن جعل بنات نعش2

_ 1 الدبور: هي الريح الغربية. 2 سبعة كواكب: أربعة منها نعش، لأنها مربعة وثلاث بنات نعش "تاج العروس 4/ 357".

الكبرى إذا طلعت خلف أذنه اليمنى، والهقعة1 إذا طلعت بين كتفيه إلى خلف أذنه اليسري، والقطب على كتفه الأيمن، وريح الصبا على الأيسر، والشمال على عاتقه الأيمن، والجنوب على خده الأيسر، استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل الرها، والموصل، وملطية، وشميساط، وسيحان، والجزيرة، وديار بكر، وما كان على سمت ذلك: إلى القبلة يستقبلون من الركن الشامي إلى مصلى آدم، فمن جعل فيها القطب على أذنه اليمنى ومشرق الشتاء خلف أذنه اليسرى، وريح الصبا على كتفه الأيسر، والشمال على خده الأيمن، والجنوب على عينه اليسرى: استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل الشام كلهم إلا ما ذكر عن اليمين، ودمشق في هذا القسم، وهي: حمص، وحماه، وحلب، ومنبج، وحران، وميافارقين، وما والاها من البلاد، وسواحل الروم: ما بين الميزاب والركن الشامي، موقفهم موقف أهل المدينة ودمشق كما تقدم، لكنهم يتياسرون شيئا كثيرا، والجهة شاملة للجميع إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل جانب الشام الغربي، ووسط غزة، والرملة، وبيت المقدس، والمدينة الشريفة، ودمشق، وفلسطين وعكا، وصيدا، وما ولى ذلك من السواحل على سمتهم، وهي من قبيل ميزاب الكعبة إلى دون الركن الغربي، فمن جعل بها سهيلا إذا طلع بين عينيه، وبنات نعش إذا غربت خلفه، والنسر الواقع إذا طلع على أذنه اليسرى، فقد استقبل هذا في الجانب من الشام، أما المدينة، ودمشق وما والاها من أواسط الشام. فمن جعل بنات نعش الكبرى إذا طلعت خلف أذنه اليسرى، والجدي على قفا ظهره مائلا إلى عينه قليلا، والهقعة إذا طلعت عن شماله، والصبا على خده الأيسر، والجنوب تلقاء وجهه: فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل مصر والصعيد الأعلى، وسواحلهما السفلى أسواق، وإسنا، وقوص، والفسطاط، والإسكندرية، والمحلة، ودمياط، وتنيس، وبرقة، وطرابلس، وصفد، وساحل المغرب، والأندلس، وما كان على سمته، وهو ما بين الركن الغربي والميزاب، فمن جعل بنات نعش إذا غربت خلف كتفه الأيسر، وإذا طلعت على خده الأيسر، والقطب على أذنه اليسرى، ومشرق الشتاء تلقاء وجهه، والدبور خلف كتفه الأيمن، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى.

_ 1 الهقعة: بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين، ثلاثة كواكب منيرة قريب بعضها من بعض. فوق منكس الجوزاء كأنها الأثافي، وهي من منازل القمر. إذا طلعت مع الفجر اشتد حر الصيف "تاج العروس 5/ 588".

وجهة القبلة لأهل الشمال من بلاد البُحاة، والنوبة، وأواسط المغرب من جنوب الواحات إلى بلاد إفريقية، وأواسط بلاد البربر، وبلاد الجريد إلى البحر المحيط وهي جهة جدة، وعيذاب، وجنوب أسوان، وهي من دون الركن الغربي بثلث الجدار إلى الركن الغربي، فمن جعل بها الثريا إذا طلعت على عينه اليسرى، والصبا على عينه اليمنى فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل بلاد البجاة، وبلاد دهلك وسواكن، وبلاد البلين والنوبة إلى بلاد التكرور وما وراء ذلك، وما على سمته من بلاد السودان وغيرهم إلى البحر المحيط، وهي من دون الباب المسدود إلى ثلثي الجدار، فمن جعل بها الثريان إذا طلعت بين عينيه، والقطب على عينه اليسرى وخده الأيسر، والصبا على عينه اليمنى، والدبور خلف أذنه اليسرى، ومغرب الشولة خلف كتفه الأيمن ومشرق الشتاء على خده الأيمن، ومشرق الصيف على الأيسر، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل الحبشة، والزنج، والزيلع، وأكثر بلاد السودان، وجزائر فرسان وما والاها من البلاد وكان على سمتها، وهي الركن اليماني إلى ثلثي الجدار وهو آخر الباب المسدود، فمن جعل بها الثريا إذا طلعت على جنبه الأيمن، والقطب على الأيسر، والصبا على خده الأيمن، والدبور على كتفه الأيسر، والجنوب على الأيمن، ومغرب الشولة خلف كتفه الأيسر، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل اليمن بأسره: ظفار، وحضرموت، وصنعاء، وعمان، وصعدة، والشحر، وسبأ وما والاها وما كان على سمتها، وهي من دون الركن اليماني بسبعة أذرع إلى الركن اليماني، فمن جعل فيها القطب بين عينيه، وسهيلا إذا طلع خلف أذنه اليمنى، وإذا غرب خلف اليسرى، ومشرق الشتاء على أذنه اليمنى، ومغرب الشتاء على اليسرى، والشمال تلقاء وجهه، والجنوب خلف ظهره، والصبا على خده الأيمن، والدبور على الأيسر، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل بلاد السند، وجنوب بلاد الهند، وجنوب بلاد الصين، وأهل التهائم، والسندين، والبحرين، وما والاها وكان على سمتها، وهي من دون مصلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلثي هذا الجدار، فمن جعل بنات نعش إذا طلعت على خده الأيمن، ومطلع النسر الواقع على أذنه اليمنى، ومغرب بنات نعش بين عينيه، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل بلاد الصين، وأهل واسط، والهند والمرجان، وكابل، والهدبان والتتار، والمسفر، والقندهار، وما والاها وكان على سمتها، وهو من الركن الأسود إلى دون مصلى النبي صلى الله عليه وسلم فمن جعل بها بنات نعش الكبرى إذا طلعت على خده الأيمن

والقطب على عاتقه الأيمن، والصبا خلف أذنه اليمنى، فقد استقبل القبلة إن شاء تعالى ... انتهى ما ذكره القاضي عز الدين بن جماعة عن أبيه من بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق، ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها. ووجدت في الكتاب الذي ألفه الفقيه أبو عبد الله محمد بن سرقة العامري لمعرفة دلائل القبلة في جميع البلدان بابا في هذا المعنى وعرضته على ما ذكره ابن جماعة، فإن بين ما ذكره ابن سراقة وابن جماعة اختلاف كثير من اللفظ والمعنى والزيادة والنقص وغير ذلك، فرأيت أن ذكر ما ذكره ابن سراقة ليحيط بذلك علماء النظر في هذا الكتاب. أنبأني بكتاب ابن سراقة المسندان محمد بن محمد بن عبد الله، وإبراهيم بن أبي بكر بن عمر الصالحيان إذنا، ومكاتبة عن أبي القاسم شهاب بن علي المحسبي أن أبا محمد عبد الوهاب بن ظافر الأزدي أخبره سماعا قال: أنبأنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي قال: أنبأنا أبو صالح محمد بن أبي عيسى بن الفضل السمرقندي بمصر قال: أنبأنا الفقيه محمد بن سراقة العامري قال: باب ذكر البلدان ومواقعها من جهات الكعبة، وما يستدل به هل كل بلد عليها: اعلم أن أهل القادسية، والكوفة، وبغداد وحلوان، وهمدان، والري، ونيسابور، ومرو، وخوارزم، وبخارى، والشاش، وفرغانة، وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون الكعبة من مصلى آدم إلى بابها، فمن كان في إحدى هذه البلاد أو على خطها وأراد التوجه إليها جعل بنات نعش الكبرى إذا طلعت على أذنه اليمنى، والهقعة إذا طلعت بين كتفيه إلى خلف أذنه اليسرى، والقطب على كتفه الأيمن، وريح الصبا على كتفه الأيسر، والشمال على عاتقه الأيمن إلى قفاه، والدبور على صفحة خده الأيمن، والجنوب على خده الأيسر، فمن استدل ببعض هذه الدلائل في إحدى هذه البلدان أو فيما كان على سمتها من البلاد، من بر، أو بحر، أو سهل، أو جبل، فقد استقبل جهة الكعبة التي أمر باستقبالها. واعلم أن أهل البصرة، والأهواز، وفارس، وأصبهان، وكرمان، وسجستان، وبست إلى بلاد الصين، وما كان من البلاد على سمت ذلك، يستقبلون في صلاتهم من باب الكعبة إلى الركن العراقي، فمن كان في إحدى هذه البلاد وفيما كان على سمتها وأراد التوجه إلى الكعبة جعل القطب على أذنه اليمنى، والنسر الواقع خلفه والشولة إن نزلت للغروب بين عينيه، أو مشرق الصيف خلف كتفه الأيمن، ومهب الصبا على كتفه الأيسر، والشمال على أذنه اليمنى، والدبور على خده الأيمن، والجنوب على عينه اليسرى، فمتى فعل ذلك استقبل جهة الكعبة.

واعلم أن أهل السند، والمهرجان، وكابل، والقندهار، والنسان، وما كان على سمت ذلك من البلاد فهم يستقبلون في صلاتهم من الركن العراقي إلى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن جعل في إحدى هذه البلاد ومن كان من البلاد على سمتها بنات نعش إذا طلعت على خده الأيمن والقطب على عينه اليمنى، وربح الصبا خلف أذنه اليسرى والشمال على خده الأيمن، والدبور على خده الأيسر، والجنوب على كتفه الأيسر، فقد استقبل جهة الكعبة. وأعلم أن أهل اليمن، والسدير، والتهائم إلى عدن، والبحرين إلى عمان، وحضرموت، والشحر، وصنعاء، وهي نجدية، وصعدة وما كان على سمت ذلك من البلاد يستقبلون في صلاتهم من موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الركن اليماني، فمن كان في إحدى هذه البلاد فجعل القطب بين عينيه، وسهيلا إذا طلع على أذنه اليمنى، وإذا غرب خلف أذنه اليسرى، ومشرق الشتاء على أذنه اليمنى، والصبا على كتفه الأيمن، والشمال تلقاء وجهه، والدبور على جنبه الأيسر، والجنوب على كتفه الأيسر، فقد استقبل جهة الكعبة. واعلم أن أهل بلاد الحبشة، وجزائر، وفرسان، وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من الركن إلى الباب المسدود، فمن كان في إحدى هذه البلاد أو فيما كان من البلاد على سمتها فجعل الثريا إذا طعلت بين عينيه، والشعرى والعيون إذا طلعت على جنبه الأيمن، أو القطب على أذنه اليسرى، أو ريح الصبا على عينيه، أو الشمال تلقاء وجهه والدبور عن شماله، أو الجنوب خلفه، كان مستقبلا لجهة الكعبة. وإن أهل بلاد النوبة والبجة إلى البحر المحيط، وما وراء ذلك من خلال بلاد السودان وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من الباب المسدود إلى دون الركن الغربي بسبعة أذرع، فمن جعل في إحدى هذه البلاد أو فيما كان على سمتها من البلاد العيون إذا طلع بين عينيه، أو الثريا على عينه اليمنى، أو الشولة إذا غربت بين كتفيه، أو القطب على صفحة خده الأيسر، أو مشرق الصيف قبالته، أو مغرب الشتاء خلفه أو ريح الصبا على عينه اليمنى، أو الشمال على حاجبه الأيسر، أو الدبور على أذنه اليسرى، أو الجنوب على كتفه الأيمن، فقد استقبل جهة الكعبة. وأعلم أن أهل الأندلس والمغرب من أهل إفريقية وطرابلس وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من دون الركن الغربي بسبعة أذرع إلى الركن الغربي، فمن جعل في إحدى هذه البلاد وما كان على سمتها الثريا إذا طلعت بين عينيه، والشعرى خلف ظهره، أو الشمال على كتفه الأيسر. أو الجنوب على كتفه الأيمن فقد استقبل جهة الكعبة.

واعلم أن أهل الإسكندرية ومصر إلى القيروان إلى تاهرت والسوس، والمغرب الأقصى إلى البحر الأسود، وما كان من البلاد على سمت ذلك، يستقبلون في صلاتهم من الركن الغربي إلى ميزاب الكعبة، فمن جعل إحدى هذه البلاد الأحمرة إذا طلعت بين عينيه، أو بنات نعش إذا غربت على كتفه الأيسر، وإذا طلعت على أذنه اليسرى، أو الشمال خلف أذنه اليسرى، أو ريح الصبا على جبينه الأيمن أو الشمال خلف أذنه اليسرى، أو الدبور خلفه، أو الجنوب على عينه اليمنى، فقد استقبل جهة الكعبة. واعلم أن أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الحجاز والرملة، وبيت المقدس، وفلسطين، وما كان على سمت ذلك من البلاد يستقبلون في صلاتهم ميزاب الكعبة، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلتين بالغائط أو بالبول لأن من كان بالمدينة واستقبل الكعبة فقد استدبر صخرة بيت المقدس، وقد كانت قبلته، ومن استدبر الكعبة فقد استقبل الصخرة، وكأن في نهيه عن استدبار القبلتين نهيا عن استقبال الكعبة واستدبارها، ثم قال: ولكن شرقوا أو غربوا لتكون الكعبة عن يمينه وبيت المقدس عن شماله أو الكعبة عن شماله وبيت المقدس عن يمينه فهذا خاص لأهل المدينة وما كان على سمتهم، فمن كان في إحدى هذه البلاد فجعل بنات نعش إذا غربت خلفه، أو سهيلا إذا طلع بين عينيه، أو النسر الواقع إذا طلع على أذنه اليسرى، وإذا غرب خلف أذنه اليمنى، أو ريح الصبا على عينه اليسرى، أو الشمال خلف أذنه اليسرى، أو الدبور خلف أذنه اليمنى، أو الجنوب على حاجبه الأيمن، فقد استقبل جهة الكعبة. واعلم أن الشمال كلها خلا الرملة، وبيت المقدس، وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من ميزاب الكعبة إلى الركن الشامي، فمن جعل في إحدى هذه البلاد بنات نعش الكبرى إذا طلعت خلف أذنه اليسرى، أو الجدي إذا علا على منكبه الأيسر، أو الهقعة إذا طلعت عن شماله، أو الصبا على صفحة خده الأيسر، أو الشمال على مرجع الكتف الأيمن، أو الدبور على أذنه اليمنى إلى ما يلي قفاه، أو الجنوب تلقاء وجهه، كان مستقبلا لجهة الكعبة. واعلم أن أهل ملطية، وسمياط، والمرس، وأرمينيا إلى باب الأبواب، وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من الركن الشامي إلى مصلى آدم عليه السلام، فمن جعل في إحدى هذه البلاد، وما كان من البلاد، وعلى سمتها العيوق إذا طلع خلف أذنه اليسرى إلى قفاه، وإذا غرب على جنبه الأيمن، أو القطب على أذنه اليمنى إلى خلف قفاه، أو مشرق الشتاء على العظم الذي خلف أذنه اليسرى، أو ريح الصبا على كتفه الأيسر، أو الشمال على صفحة خده الأيمن. أو الدبور على عاتقه الأيمن أو الجنوب على عينه اليسرى، فقد استقبل جهة الكعبة.

ولا بد لمن أراد استعمال ما ذكرته في كتابي هذا أو العمل به من معرفة ما ذكرته من الكواكب، وهي يسيرة فيعرفها بأعيانها، وكذلك الرياح ومهابها فإنه يصل إلى بغيته ومراده إن شاء الله تعالى ... انتهى. ووقع فيما ذكره ابن جماعة وابن سراقة ما يقتضي أن مصلى آدم عليه السلام في جهة الكعبة الشرقية فيما بين بابها والركن الشامي الذي يلي الحجر، بسكون الجيم، وأن مصلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود، وذلك يحتاج إلى زيادة بيان رجاء معرفته، ليحصل الفوز بالصلاة فيه، وليس في كلام ابن جماعة ما يقتضي ذلك، وفي كلام ابن سراقة ما يقتضي زيادة بيان في ذلك، لأنه قال في أوائل كتابه المذكور: ومن الباب يعني باب الكعبة إلى مصلى آدم عليه السلام حين فرغ من طوافه، وأنزل الله عز وجل عليه التوبة وهي موضع الخلوق من أرز الكعبة: أرجح من تسعة أذرع، وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام وصلى النبي صلى الله عليه وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين، ثم قال ابن سراقة: وبين موضع الخلوق وهي مصلى آدم عليه السلام وبين الركن الشامي ثمانية أذرع ... انتهى. وقال ابن سراقة في بيان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بين الركن اليماني والحجر الأسود: وعرض جدارها -يعني الكعبة- الذي يلي اليمن، وهو فيما بين الركن اليماني والركن العراقي الذي فيه الحجر الأسود: عشرون ذراعا، وإلى وسط هذا الجدار كان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى المدينة ... انتهى. والذراع الذي أشار إليه ابن سراقة في هو ذراع اليد، وهو ينقص عن ذراع الحديد ثمن ذراع كما سبق ذكره في حدود الحرام، وقد تحرر لي مما ذكره ابن سراقة في ذرع ما بين الركن الشامي ومصلى آدم عليه السلام أن يكون مصلى آدم ظنا بقرب الحفرة المرخمة التي في وجه الكعبة، بحيث يكون من المصلى إلى الحفرة ثلاثة أذرع إلا ثلث ذراع بالحديد. ويعرف أيضا مصلى آدم عليه السلام بأن بينه وبين الحفرة المشار إليها ست رخامات من الرخام الذي هو الآن في شاذروان الكعبة إلا أربع أصابع، وتحت الرخام ثلاثة أحجار صفر إلا أن الحجر الثالث يزيد على الست الرخامات فوقه قليلا، وكان تحريري لذلك مع من يعتمد عليه من أصحابنا في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة وثمانمائة، بعد أن اعتبرنا ما ذكره ابن سراقة في ذلك، فوافق لأنا ذرعنا مقدار ثمانية أذرع بالبلد، ووضعنا عند طرف ركن الكعبة الشامي، ومددناه إلى حيث انتهى من جدار الكعبة، ثم ذرعنا ذلك بذراع الحديد فجاء سبعة أذرع بتقديم السين وثمن ذراع بالحديد، فعرفنا بذلك أن موضع منتهى الثمانية أذرع باليد أو السبعة بتقديم السين والثمن

بالحديد موضع مصلى آدم عليه السلام ظنا، وهو الموضع الذي أشرنا إليه، والله أعلم. وحررنا في التاريخ المذكور موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بين الركن اليماني والحجر الأسود، وعلى مقتضى ما ذكره ابن سراقة من أنه في وسط هذا الجدار، فإذا هو موضع الرخامة البيضاء المكتوب فيها: أمر بتجديد المطاف الشريف العبد الفقير الراجي عفو ربه الغفور الملك المنصور لاجين1 وبعد ذلك سطر مكشوط، وإنما كان هذا الموضع موضع مصلي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الجهة على ما ذكر ابن سراقة في تحريره، لأنا ذرعنا ما بين الحجر الأسود وهذه الرخامة فوجدناه ثمانية أذرع وثمن بالحديد، وكذلك ما بين هذه الرخامة وبين الركن اليماني، فعرفنا بذلك أن هذه الرخامة وسط هذا الجدار، وأنها على مقتضى ما ذكر ابن سراقة موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الجهة، والله أعلم. على أنى رأيت ما يدل بخلاف ما ذكره ابن سراقة في تحرير موضع مصلى آدم عليه السلام في الجهة الشرقية، وهو أيضا يخالف ما ذكره ابن جمعة في ذلك، لأن الأزرقي قال فيما رويناه عنه: حدثني محمد بن يحيى قال: حدثني هشام بن سليمان المخزومي عن عبد الله بن أبي سليمان المخزومي أنه قال: طاف آدم عليه السلام سبعا بالبيت حين نزل، ثم صلى وجاه باب الكعبة ركعتين، ثم أتى الملتزم فقال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنوبي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، والرضا بما قضيت علي، قال: فأوحى الله عز وجل إليه: يا آدم قد دعوتني بدعوات فاستجبت لك، ولن يدعوني بها أحد من ولدك إلا كشفت غمومه وهمومه، وكففت عليه صنعته ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، وتجرت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة، وإن كان لا يريدها2. وروينا في "دلائل اليقين" لابن أبي الدنيا بسنده، عن عوف بن خالد قال: وجدت في بعض الكتب آن آدم عليه السلام ركع إلى جانب الركن اليماني ركعتين ثم قال: اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي رضيت بما قسمت لي، فأوحى الله عز وجل إليه: يا آدم إنه حق علي أن لا يلزم أحد من ذريتك هذا الدعاء إلا أعطيته ما يحب، ونجيته مما يكره، ونزعت أمل الدنيا والفقر من بين عينيه وملأت جوفه حكمة.

_ 1 هو السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين سلطان الديار المصرية، تسلطن في عاشر صفر سنة 696هـ، وقتل في عاشر ربيع الآخر سنة 698هـ. 2أخبار مكة للأزرقي 1/ 44.

وهذا الخبران يقتضيان أن موضع مصلى آدم عليه السلام موضع الشقة الثالثة من كسوة الكعبة في وجهة الباب الذي يلي الركن الشامي عند باب الحجر. وقال بعض الناس إن الموضع الذي تاب الله فيه على آدم عليه السلام دبر الكعبة عند الباب الذي فتحه ابن الزبير رضي الله عنهما من دبرها عند الركن اليماني، والقول الأول أحب إليهم وأعجب من أجل الحديث ... انتهى. وفيه دلالة لما ذكر ابن سراقة في موضع مصلى آدم عليه السلام في الجهة الشرقية والله أعلم. وللنبي مصليات أُخَر عند الكعبة في جهتها الشرقية وغيرها، يأتي التنبيه عليها في الباب السابع عشر إن شاء الله تعالى.

الباب التاسع

الباب التاسع: ذكر بيان مصلى النبي في الكعبة: أخبرني إبراهيم بن محمد المؤذن سماعا بالمسجد أن أحمد بن أبي طالب الحجار الصالحي، أخبره عن ابن اللتي وابن بهروز قالا: أنبأنا أبو الوقت السجزي قال: أنبأنا أبو الحسن الداودي قال: أنبأنا أبو محمد بن حمدويه قال: أنبأنا إبراهيم بن خزيم قال: أنبأنا عبد بن حميد قال: حدثني سليمان بن حرب قال: حدثنا ابن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة، إلى عثمان بن طلحة وأسامة وبلال- رضي الله عنهم، فلما خرجوا ابتدرهم الناس، فقلت لبلال: أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت؟ قال: نعم. قلت: أين؟ قال: بين العمودين المقدمين تلقاء وجهه. أخرجه مسلم في صحيحه1 عن قتيبة بن سعيد وأبي الربيع والزهري وأبي كامل الجحدري عن حماد. فوقع لنا بدلا له عاليا بدرجة. ووقع لنا أعلى من هذا بدرجة، من حديث إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي، عن نافع، عن ابن عمر، أخبرني به أبو هريرة ابن الحافظ الذهبي بقراءتي عليه بغوطة دمشق في الرحلة الأولى: أن عيسى بن عبد الرحمن بن المطعم أخبرهم سماعا في الثالثة وأجازه، والقاضي تقي الدين سليمان بن حمزة الحنبلي أجازه قالا: أنبأنا ابن اللتي قال: أنبأنا أبو الوقت قال: أخبرتنا لُبنَى بنت عبد الصمد الهرثمية قالت: أنبأنا

_ 1 ورواه بروايات مختلفة "1329" في "الحج: باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها".

عبد الرحمن بن أبي شريح قال: أنبأنا أبو القاسم البغوي قال: حدثنا مصعب قال: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقها عليهم ومكث فيها، قال عبد الله بن عمر: فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره وثلاث أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى. هذا حديث متفق عليه على صحته وثبوته من حديث مالك رضي الله عنه ووقع لنا عاليا جدا من حديثه، وقد أوضح ابن عمر رضي الله عنه موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة إيضاحا أكثر مما في هذا الحديث، لأن البخاري قال فيما روينا عنه: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل الوجه حتى يدخل ويجعل الباب قبل الظهر، يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع، فيصلي بنواحي المكان الذي أخبره بلال رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وليس على أحد بأس أن يصلي في أي نواحي البيت شاء1. وروينا في تاريخ الأزرقي أن معاوية رضي الله عنه استدعى ابن عمر رضي الله عنه وهو في الكعبة فقال: يا أبا عبد الرحمن أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام دخلها؟ فقال: بين العمودين المقدمين، اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة2 ... انتهى باختصار. ولشيخنا الحافظ الحجة أبي الفضل العراقي كلام حسن في تعيين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، لأنه قال فيما أنبأنا بعد ذكر الأحاديث الواردة في هذا المعنى فتلخص من هذه الطرق: أن مصلى النبي صلى الله عليه وسلم من البيت: أن الداخل من الباب يسير تلقاء وجهه حتى يدخل إلى أن يجعل بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع أو ذراعين أو ما بينهما لاختلاف الطرق فيه، قال: وينبغي أن لا يجعل بينه وبين الجدار أقل من ثلاثة أذرع، فإن كان الواقع أنهم ثلاثة فقد مصلاه، وإن كان ذراعين فقد وقع وجه المصلي وذراعاه في مكان قدمي النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أولى من التقدم عنه، والله أعلم.

_ 1 ذكر ابن هشام ذلك في سيرته 2/ 275. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 271.

ذكر قدر صلاة النبي في الكعبة في دخوله هذا

ذكر قدر صلاة النبي في الكعبة في دخوله هذا ... ذكر قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا: أما قدر هذه الصلاة: فركعتان على ما رويناه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعن بلال من رواية ابن عمر رضي الله عنهما وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، كما روينا في "شرح معاني الآثار" للطحاوي1، وعن عمر رضي الله عنه أيضا كما روينا فيه عن عبد الرحمن بن صفوان رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه وجماعة ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وعن عثمان بن طلحة رضي الله عنه أيضا، كما رويناه فيه، وهو مقتضى حديث شيبة بن عثمان الحجبي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما ولا يثبت عنه، وعبد الرحمن بن صفوان القرشي، وعثمان بن طلحة الحجبي، وعمر بن الخطاب أمير المؤمنين كما سيأتي مبينا في الترجمة التي بعد هذه الترجمة، ونشير هنا لحديث ابن عمر، وبلال رضي الله عنهما لموجب اقتضى ذلك. فأما الحديث المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما في ذلك من غير ذكر بلال فيه، فإنا رويناه في مسند أحمد بن حنبل؛ لأن عبد الله بن أحمد بن حنبل2 قال في مسند أبيه وجدت في كتاب أبي: حدثنا يزيد قال: أنبأنا شعبة عن سماك يعني الحنفي قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ركعتين. وأما الحديث الذي رويناه عن بلال رضي الله عنه في ذلك من رواية ابن عمر رضي الله عنهما ففي صحيح البخاري، لأنه قال في كتاب الصلاة: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن سيف قال: سمعت مجاهدا قال: أتى ابن عمر رضي الله عنهما فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فقال ابن عمر: فأقبلت والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، فوجدت بلالا قائما بين الناس فسألت بلالا فقلت: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ فقال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين. وأخرجه النسائي أيضا فقال: أخبرنا سليمان قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سيف بن سليمان ... فذكره. وروينا ذلك في سنن النسائي أيضا من رواية السائب بن عمر، عن ابن مليكة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سأل بلالا رضي الله عنه: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ فقال: نعم، ركعتين بين الساريتين. وروينا ذلك في "سنن الدارقطني" من رواية زهير بن معاوية عن ابن الزبير عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث ابن الزبير، فسألت بلالا -رضي الله عنه- فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين.

_ 1 شرح معاني الآثار 1/ 391. 2 مسند أحمد 6/ 15.

وروينا في الصحيحين ما يقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما نسي أن يسأل بلالا عن قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وذلك من جملة حديث أخرجه البخاري عن شريح بن النعمان، عن فليج عن نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد وأبي الربيع والزهري وأبي كامل الجحدري كلهم، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهما. وروينا ذلك أيضا في سنن ابن ماجه، وفي رواية ابن ماجة: ثم لمت نفسي أن لا أكون سألته يعني بلالا كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكون هذه الأحاديث معارضة للأحاديث التي تقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما سأل بلالا رضي الله عنه عن قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هذه. وقد سبق ذكر هذه الأحاديث. وذكر شيخنا العراقي في الجمع بين هذه الأحاديث ثلاثة احتمالات، واستبعد منها اثنين وسكت عن الثالث وهو على ما قال فما أنبأني به، ويحتمل أن ابن عمر وإن كان سمع من بلال أنه صلى ركعتين لم يكتف بذلك في أنه لم يصل غيرهما، لأن من صلى أربعا أو أكثر يصدق عليه أنه صلى ركعتين، على القول بأن مفهوم العدد ليس بحجة كم هو المرجح في الأصول فلعل الذي نسي أن يسأل عنه بلالا رضي الله عنه في أنه هل زاد على الركعتين شيئا أم لا؟ والله أعلم.

ذكر من روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة من الصحابة ومن نقلها منهم رضي الله عنهم

ذكر من روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة من الصحابة ومن نقلها منهم، رضي الله عنهم: روى هذه الصلاة بلال، وجابر بن عبد الله، وشيبة بن عثمان الحجبي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس على ما قيل وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن صفوان القرشي، وعثمان بن طلحة الحجبي، وعمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعائشة. ونفاها أسامة على المعروف عنه والفضل بن عباس وأخوه عبد الله بن عباس على ما صح عنه وليس في حديث أكثر الصحابة المثبتين لهذه الصلاة والنافين لها في أن ذلك وقع في يوم فتح مكة، وإنما ذلك مبين في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق، وحديث جابر رضي الله عنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى وغيره، فيحمل على ذلك حديث من لم يقع في حديثه بيان زمن الصلاة المشار إليه، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، والمجمل منها يرد إلى المبين، وقد أشار إلى ذلك النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم، ولما تكلم على قوله في حديث ابن عمر رضي

الله عنهما: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ونزل بفناء الكعبة. هذا دليل على أن المذكور في أحاديث الباب من دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيه كان يوم الفتح، وهذا لا خلاف فيه، ولم يكن يوم حجة الوداع ... انتهى. ويتأيد ذلك بما رويناه في تاريخ الأزرقي قال: حدثني جدي قال: سمعت سفيان يعني ابن عيينة يقول: سمعت غير واحد من أهل العلم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج ولم يدخلها1 ... انتهى. وإذا تقرر ذلك فنشير إلى شيء من أحاديث الصحابة المشار إليهم رضي الله عنهم. فأما حديث بلال رضي الله عنه: فرويناه في شرح معاني الآثار" للطحاوي قال: حدثنا فهد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، عن مغيرة بن مسلم، عن ابن الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: دخل النبي البيت يوم الفتح فصلى فيه ركعتين. وأما حديث شيبة: فرويناه في "معجم ابن قانع" ولفظه: حدثنا خليد بن محمد، حدثنا القواريري: حدثنا محمد بن حمدان، وحدثنا أبو بشر، عن مسافع بن شيبة، عن أبيه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فصلى فيها ركعتين ورأى فيها تصاوير فقال: "يا شيبة اكفني هذا"، فاشتد ذلك على شيبة فقال له رجل: اطله بزعفران، ففعل. وسيأتي إن شاء الله تعالى لشيبة في الباب الذي بعده حديث آخر في المعنى. ورويناه أيضا في "شرح الآثار" للطحاوي2 ونصه: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عبد الله بن مسلم، عن هرمز، عن عبد الرحمن بن الزجاج، قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان إن ابن عباس يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصل، قال: بلى، صلى ركعتين عند العمودين المقدمين، ألزق بهما ظهره. وحدثنا فهد قال: حدثنا محمد بن سعيد، أخبرنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الله بن مسلم، فذكره. وأما حديث ابن الزبير رضي الله عنه فرويناه في مسند أحمد بن حنبل، ولفظه: حدثنا عثمان قال: حدثنا حماد عن عبد الله بن أبي مليكة قال: إن معاوية قدم إلى مكة فدخل الكعبة، فبعث إلى ابن عمر يسأله أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: صلى بين

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 273. 2 شرح معاني الآثار 1/ 392 "باب الصلاة في الكعبة".

الساريتين بحيال الباب، فجاء ابن الزبير فرج الباب رجا شديدا ففتح له، فقال لمعاوية: أما أنك قد علمت أني كنت أعلم مثل الذي تعلم ولكنك حسدتني. وأما حدث ابن عباس: فرويناه في "سنن الدارقطني" ولفظه: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا عيسى بن أبي حرب الصفار قال: حدثني يحيى بن أبي بكير، عن عبد الغفار بن القاسم قال: حدثني حبيب بن أبي ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم دخل مرة أخرى، وقام فيه يدعو، ثم خرج ولم يصل. وكتب الدارقطني على حاشية هذا الحديث: عبد الغفار ضعيف ... انتهى. وروينا هذا الحديث في "معجم الطبراني الكبير" وفي إسناد أبو مريم، روي عن صغار التابعين، وبقية رجاله وثقوا، وفي بعضهم كلام. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل لذلك أيضا في مسند بلال للحسن بن محمد الصباح الزغفراني، ولفظه: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا عبد الله المؤمل قال: سمعت ابن أبي مليكة يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وكان بلال والفضل على الباب، فقال بلال: سجد، وقال الفضل: إنما كان يركع. وأما حديث عبد الله بن عمر: من غير ذكر بلال رضي الله عنهم: فأخبرني به الحافظ أبو أحمد بن الحسين الحاكم إجازة- إن لم يكن سماعا- قال: أخبرنا به محمد بن أزبك البدري بقراءتي عليه بظاهر دمشق في الرحلة الثالثة قال: أنبأنا محمد بن عبد المؤمن الصوري قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن قدامة، قال أنبأنا أحمد بن المقرب الكرخي، ونفيسة بنت أبي غلب البزار قالا: أنبأها طراد بن محمد القرشي قال: أنبأنا أحد بن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي قال: حدثنا محمد بن عمرو بن البحتري قال: حدثنا أحمد بن عبيد الجشمي قال: حدثنا غارم أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد بن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف البيت. هكذا رواه، عن غارم، عن حماد، وخالفه قتيبة، لأنه رواه عن حماد فزاد في إسناده بلالا، ورواية قتيبة أخرجها الترمذي عنه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار"1: حدثنا أبو مرزوق قال: حدثنا وهب هو ابن جرير قال: حدثنا شعيب، عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، وسيأتي من ينهاك فلا تسمع قوله يعني ابن عباس....

_ 1 شرح معاني الآثار 1/ 391 "باب الصلاة في الكعبة".

وقال أيضا: حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: لا تجعل سائر البيت خلفك وائتم به جميعا. وسمعت ابن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. وأما حديث عبد الرحمن بن صفوان: فرويناه في "معجم الطبراني الكبير" ولفظه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت قال: صلى ركعتين بين الأسطوانتين عن يمين البيت. ورجال الطبراني رجال الصحيح على ما ذكر شيخنا أبو الحسن الحافظ. ورويناه في "مسند البزار"، ولفظه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قلت: لألبسن ثيابي- وكانت داري على الطريق، فذكر الحديث إلى أن قال: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت من كان معه: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ركعتين عند السارية الوسطى عن يمينها. ورويناه في "سنن أبي داود السجستاني". ورويناه عن شيوخه عن جماعة لم يسموه في "شرح معاني الآثار للطحاوي قال: حدثنا ربيع الحبري قال: حدثنا عبد الله بن الحميدي قال: حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن يزيد بن أبي الزناد، عن مجاهد، عن ابن صفوان أو عبد الله بن صفوان قال: سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح قد قدم، فجمعت علي ثيابي، فوجدته قد خرج من البيت، فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ قالوا: تجاهك، قلت: كم صلى؟ قالوا: ركعتين. وأما حديث عثمان بن طلخة: فهو في "صحيح مسلم" على الشك، لأنه روى بسنده إلى ابن عمر قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، ثم قال: فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة. ووقع في بعض نسخ مسلم على ما قال النووي بلال وعثمان بن طلحة، ويعضد ذلك رواية في مسلم يأتي ذكرها ولكن فيها علة، وهي أن بعض رواتها نسب فيها إلى الوهم. وروينا حديث عثمان بن طلحة في المعنى من غير شك في مسند أحمد بن حنبل، ولفظ حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت وجاهك حين تدخل بين الساريتين. ورجال أحمد رجال الصحيح. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" أيضا. ورويناه أيضا في "معجم ابن قانع" ولفظه: حدثنا محمد بن يونس قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عثمان بن طلحة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في البيت بين الساريتين.

ورويناه أيضا في "شرح معاني الآثار للطحاوي، ونصه: حدثنا علي بن عبد الرحمن، حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا هشام بن عروة، عن عروة، عن عثمان بن طلحة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى فيه ركعتين وجاهك بين الساريتين. وحسن شيخنا أبو الفضل الحافظ الحديث الذي من رواية ابن قانع. وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فرويناه في "سنن أبي داود السجستاني" ولفظه: حدثنا زهير بن حرب قال: حدثني عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب، كيف صنع رسول الله حين دخل الكعبة قال: صلى ركعتين1. ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" فقال: حدثنا معلى بن شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: أنبأنا جرير فذكره بلفظه، إلا أنه قال: قال ابن أبي الزناد ولم يقل الخطاب، وقال أيضا: حدثنا ابن أبي داود، حدثنا أبو الوليد، حدثنا جرير بن عبد الحميد، فذكره بإسناده مثله، غير أنه قال: عبد الله بن صفوان2. وأما حديث أبي هريرة: فرويناه في "مسند البزار" ولفظه قال: لما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم عثمان بن طلحة أن ابعثي بالمفتاح أي مفتاح الكعبة فقالت: لا، والله والعزى لا أبعث به إليك، فقال قائل: ابعث إليها قسرًا، فقال ابنها عثمان: يا رسول الله إنها حديثة عهد بكفر فابعثني إليها حتى آتيك به، قال: فذهب، فقال: يا أمتاه إنه قد جاء أمر غير الذي كان، وإنه إن لم تعط المفتاح قتلت، قال: فأخرجته فدفعته إليه، فجاء به يسعى، فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فابتدر المفتاح بين يديه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فجئنا عليه بثوبه فأخذه، ثم جاء إلى الباب -أحسبه قال: ففتحه ثم قام عند أركان البيت وأرجائه يدعو، ثم صلى ركعتين بين الأسطوانتين. في إسناد هذا الحديث في "مسند البزار" زيد بن عوف وهو ضعيف. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فرويناه في "سنن البيهقي" ولفظه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد بن الجبار بن مالك اللخمي بتنيس قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي: حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، أن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها.

_ 1 ج1/ 391 "باب الصلاة في الكعبة". 2 شرح معاني الآثار 1/ 393.

وأخرج هذا الحديث الحاكم في "المستدرك" بهذا الإسناد، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه1. وأما حديث أسامة: الموافق لهم في إثبات الصلاة فرويناه في "شرح معاني الآثار" للطحاوي أيضا قال: حدثنا حسين بن نصر قال: حدثنا ابن شريح قال: أخبرني محمد بن جعفر قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن قال: كنت مع أبي فلقيت عبد الله بن عمر فسأله أبي وأنا أسمع: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت؟ فقال ابن عمر: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بين أسامة وبلال، فلما خرجا سألتهما أين صلى؟ يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: على جهته. حدثنا ابن خزيمة، حدثنا أحمد بن أشكاب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن أبي الشعثاء، عن ابن عمر، قال: رأيته دخل البيت حتى إذا كان بن الساريتين مضى حتى لزق بالحائط، فقام فصلى، فجئت فقمت إلى جنبه، فصلى أربعا فقلت: أخبرني أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ فقال: ههنا، أخبرني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى2. فهذه أحاديث الصحابة المثبتين لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وأما أحاديث الذين نفوها: حديث أسامة منها رويناه في "سنن النسائي" ولفظه: أخبرنا حاجب بن سليمان المنبجي، عن عبد المجيد بن أبي رواد، حدثنا ابن جريج، عن عطاء3، عن أسامة بن زيد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فسبح في نواحيها وكبر ولم يصل، ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: هذه القبلة. ورويناه في "صحيح" من رواية عطاء عن عبد الله بن عباس عن أسامة. وأما حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما في نفي الصلاة: فرويناه في كتاب "الطبقات" لمحمد بن سعد كاتب الواقدي ولفظه: حدثنا موسى بن داود، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن الفضل قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت فكان يسبح ويكبر ويدعو ولا يركع. قال شيخنا أبو الفضل الحافظ بعد إخراجه لهذا الحديث من هذا الطريق: ورجاله رجال مسلم، إلا أن موسى بن داود الصيتي قاضي طرطوش تكلم فيه، وقد قيل: إنه تفرد عن حماد بن سلمة. وأخرجه أيضا شيخنا أبو الفضل الحافظ من معجم ابن قانع ثم قال بعد إخراجه له من طريقه: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

_ 1 المستدرك على الصحيحين 1/ 479. 2 شرح معاني الآثار 1/ 391. 3 هو عطاء بن أبي رباح.

ورويناه في "مسند أحمد بن حنبل" ولفظه" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الفضل بن عباس أخبر أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة ولكنه لما خرج نزل فركع ركعتين عند باب البيت. ورواه الطبراني بمعناه في "الكبير"، ورجاله رجال أحمد، ورجال الصحيح. وأما حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في نفي الصلاة من غير إسناده ذلك إلى أسامة وأخيه الفضل: فرويناه في صحيحي البخاري ومسلم، أما البخاري: فأخرجه عن إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها. والمشهور عن عبد الرزاق بهذا الإسناد عن ابن عباس عن أسامة، وكذا رواه النسائي وغيره. وأما مسلم: فقال: أخبرنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا همام قال: حدثنا عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل.

ذكر ترجيح رواية من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على رواية من نفاها وما قيل في الجمع بين ذلك

ذكر ترجيح رواية من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على رواية من نفاها، وما قيل في الجمع بين ذلك: قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: رواية ابن عمر عن بلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة أولى من رواية ابن عباس عن أسامة أنه لم يصل، لأنها زيادة مقبولة، وليس قول من قال من لم يفعل بشهادة إلى آخر كلامه. وقال السهيلي في "الروض الأنف" وأما دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيها فحديث بلال أنه صلى فيها، وحديث ابن عباس أنه لم يصل فيها وأخذ الناس بحديث بلال، لأنه أثبت الصلاة، وابن عباس نفاها، وإنما يؤخذ بشهادة المثبت لا بشهادة النافي، ومن تأول قول بلال رضي الله عنه أنه صلى أي دعا فليس بشيء، لأن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى فيها ركعتين، ولكن رواية ابن عباس، ورواية بلال، صحيحتان، لأنه عليه الصلاة والسلام دخلها يوم النحر فلم يصل، ودخلها من الغد فصلى فيها، وذلك في حجة الوداع، وهو حديث مروي عن ابن عمر بإسناد حسن أخرجه الدارقطني وهو من فوائده1 ... انتهى. وقال الشيخ محيي الدين النووي: أجمع أهل الحديث علي الأخذ برواية بلال رضي الله عنه لأنه مثبت، فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه قال: وأما نفي أسامة

_ 1 الروض الأنف 4/ 4.

رضي الله عنه فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى: أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال رضي الله عنه لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، وكانت صلاته خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب، مع بعده واشتغاله بالدعاء وجائز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها، والله أعلم ... انتهى من شرح مسلم. وقال في "المجموع" وهو "شرح المهذب": قال العلماء: الأخذ برواية بلال رضي الله عنه في إثبات الصلاة أولى لأنه مثبت وقدم على النافي، فإن بلالا رضي الله عنه كان قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى معه، وراقبه في ذلك فرآه يصلي، وكان أسامة رضي الله عنه متباعدا مشتغلا بالدعاء والباب مغلق ولم ير الصلاة، فوجب الأخذ برواية بلال رضي الله عنه، لأنه معه زيادة علم ... انتهى. وقال المحب الطبري: وقد اختلف بلال وأسامة رضي الله عنهما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت، وحكم العلماء بترجيح حديث بلال، لأنه أثبت، وضبط ما لم يضبطه أسامة رضي الله عنه والمثبت مقدم على النافي، ثم قال: ويحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته. وقد روى ابن المنذر عن أسامة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأي صورا في الكعبة، فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به الصور. فأخبر أنه كان خرج لنقل الماء، وكان ذلك في يوم الفتح، وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة إنما كانت يوم الفتح لا في حجة الوداع. وقال أبو حاتم بن حبان: والأشبه عندي أن يحتمل الخبران على دخولين متغايرين أحدهما: يوم الفتح وصلى فيه. والآخر: في حجة الوداع ولم يصل فيه من غير أن يكون بينهما تضاد ... انتهى. وقال القاضي عز الدين بن جماعة في هذا المعنى فيما أخبرني به خالي عنه: قال يعني أحمد بن حنبل حدثنا هشيم، قال: أنبأنا عبد الملك، عن عطاء، قال: قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه، وكبر، وهلل، وخرج ولم يصل، ثم دخلت معه في اليوم الثاني، فقام ودعا، ثم صلى ركعتين، ثم خرج فصلى ركعتين خارجا من البيت مستقبل وجه الكعبة، ثم انصرف وقال: هذه القبلة. وكذلك رواه أحمد بن منيع في مسنده، والدارقطني وغيرهم، وهو كلام شاف كاف في الجمع بين الأحاديث، فنحمد الله على التوفيق للجمع به، فإن ذلك من أجلّ الفوائد.

فإن بعض كبار العلماء قال: يحتمل أن يكون أسامة رضي الله عنه غاب عنه صلى الله عليه وسلم بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته. ثم قال ابن جماعة بعد أن ذكر كلاما للنووي في "المجموع" في الجمع بين حديث بلال وأسامة سبق ذكرنا له: وهذا يحتاج إلى نقل ولم أقف عليه، ولا ضرورة تعدو إليه، والله أعلم. ثم قال بعد أن ذكر كلام ابن حبان السابق في الجمع بين اختلاف بلال وأسامة رضي الله عنها وكلامه وكلام الشيخ محيي الدين يعني النووي ومن نقل عنهم يدل على أنهم لم يطلعوا على ما جمعنا به ... انتهى. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" فإن كان هذا الباب يؤخذ من طريق تصحيح تواتر الأخبار فإن الأخبار قد تواترت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى في الكعبة ما لم يتواتر بمثله أنه لم يصل، وإن كان يؤخذ بأن أسامة بن زيد الذي حكى عنه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة خرج منها ولم يصل، فقد روى عنه ابن عمر، عن أسامة، فذلك أولى مما تفرد به ابن عباس عن أسامة، وقال الطحاوي أيضا: فكان ينبغي لما تضادت الروايات عن أسامة وتكافأت أن يرفع، ويثبت ما روي عن بلال إذا كان لم يختلف عنه في ذلك. هذا ما رأيته للناس من ترجيح حديث بلال رضي الله عنه في إثبات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على حديث من خالفه في ذلك، وما قيل في الجمع بين هذا الاختلاف وما ذكروه من الترجيح يتجه، ومما لعله أن يكون مرجحا لذلك أيضا من حيث المعنى على ما ظهر لي: أن الكعبة المعظمة كالمسجد الحرام في استحباب التحية لمن دخلها، والتحية للمسجد الحرام كالطواف لمريده والصلاة فيه، والطواف بالكعبة من داخلها غير مشروع، فلم يتبق لنا تحية إلا الصلاة فيها، كتحية سائر المساجد، فكيف يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصلي فيها مع بعد عهده من دخولها، فإنه من حين هاجر إلى المدينة لم يدخلها، وبين هجرته ودخوله هذا ثماني سنين، ومع طول مكثه صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا، فإن في مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه في قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أنهم لبثوا في البيت مليا قال النووي: أي طويلا. وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما من رواية نافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث نهارا طويل في الكعبة حين دخلها يوم الفتح، وطول المكث بمكان يستدعي الجلوس فيه غالبا، ويبعد كل البعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس في الكعبة في دخوله هذا، أو أن يجلس فيها بغير صلاة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه الداخل إلى المسجد عن الجلوس فيه.

من غير صلاة، وما يؤيد كونه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة في دخوله هذا: إغلاق الباب عليه فيها كما في الصحيحين1 وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما للحكمة التي ذكرها العلماء في إغلاق الباب في دخوله هذا، وهي لئلا يكثر الناس عليه، فلا يتمكن من الصلاة في الكعبة على ما يريد صلى الله عليه وسلم وقيل: الحكمة في ذلك ليصلي صلى الله عليه وسلم إلى كل جهة من الكعبة، فإن الباب إذا كان مفتوحا وليس أمامه قدر مؤخرة الرحل لم تصح الصلاة إليه لعدم استقبال شيء من الكعبة، وذكر هذين القولين المحب الطبري في "القرى" واستظهر القول الأول، وذكر أنه يتأيد بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة أكثر من ركعتين على ما صح عنه. وأما الأوجه التي نقلناها عن العلماء في الجمع بين اختلاف خبر بلال، وأسامه، وابن عباس رضي الله عنهم في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فإن أقربها إلى الصواب ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة ليأتيه بماء يمحو به الصور التي رآها في الكعبة، فرأى ذلك بلال رضي الله عنه فأثبت الصلاة، ولم يره أسامة فنفاها، وإنما كان هذا الوجه أقرب إلى الصواب من الوجوه الأخر لقيام الدليل على ما يؤيده، وهو الحديث الذي رويناه في "مسند أبي داود الطيالسي" ولفظه: حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال: حدثني عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورا، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". قلت: رجال هذا الحديث ثقات، فإن ابن أبي ذئب: هو محمد بن عبد الرحمن الإمام المشهور، وشيخه عبد الرحمن بن مهران وثقه النسائي، وابن سعد، وابن حبان، وشيخه عمير روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ويتأيد هذا الحديث بالحديث الذي رواه ابن المنذر في هذا المعنى ولم أر سنده فيه، والله أعلم. وأما الوجه الذي ذكره النووي في الجمع بين الاختلاف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فإنه وإن جاز وقوعه، ففيه بعد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة هو وأسامة، وبلال رضي الله عنهما ومن دخل معه، إما أن يكون اشتغل بعد دخوله بالصلاة فيه

_ 1 راجع البخاري 3/ 371, 372 في "الحج، باب إغلاق البيت وباب الصلاة في الكعبة"، وفي "القبلة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} ، وفي "المساجد، باب الأبواب والغلق. للكعبة والمساجد"، وفي "سترة المصلي، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة" وفي "التطوع: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى"، في "الجهاد: باب الردف على الحمار"، وفي المغازي: باب حجة الوداع"، ومسلم "1329" في "الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره".

قبل اشتغاله بغيرها مما صنعه في الكعبة، أو بدأ قبل الصلاة بالذكر والدعاء ونحو ذلك مما صنعه في الكعبة، فإن كان الأول: فكيف يخفى على أسامة رضي الله عنه؟ وإن كان الثاني وهو مقتضى كلام النووي فالحال يقتضي أن أسامة رضي الله عنه يلزم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتدي به فيما يسمعه من دعواته الخيرية الجامعة النافعة، وحسن ثنائه على الله تعالى، وأن لا ينفرد عنه بمكان في الكعبة يدعو فيه ويذكر حتى لا يعلم ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وأما الوجه الذي ذكره ابن حبان في الجمع بين الاختلاف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فإن فيه نظرا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم فتح مكة، ودخل معه يومئذ أسامة، وبلال، وعثمان بن طلحة والفضل بن عباس رضي الله عنهم، على خلاف في الفضل، وحديث دخول الفضل معهم في مسند أحمد بن حنبل وسنن النسائي. ولفظ أحمد: حدثنا هشيم قال: أنبأنا غير واحد، وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ومعه الفضل بن العباس وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال.... الحديث. وإسناد هذا الحديث صحيح، ولكن في صحيح مسلم ما يخالفه، على ما سيأتي بيانه. وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالا رضي الله عنه أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لما دخلها يوم فتح مكة، وثبت من حديث أسامة والفضل رضي الله عنهما نفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وليس في حديثهما التصريح بالزمن الذي نفيا فيه الصلاة، في حجة الوداع، لما قال ابن حبان، والأول أشبه بالصواب، لأنه إذا دار الأمر بين حمل حديثهما من نفي الصلاة على زمن ثبت دخولهما فيه إلى الكعبة، وبين حمل ذلك على زمن لم يثبت لهما فيه دخوله، فحمله على الزمن الذي ثبت دخولهما فيه أولى، وفي حمله على الوجه الذي ذكره ابن حبان إشكال، لأن ذلك يستلزم دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، ودخول أسامة رضي الله عنه ومن نفى معه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ولم يرد خبر يشعر بذلك، فكيف يحمل على ذلك حديث من نفى الصلاة في الكعبة كما قال ابن حبان. ولا يعارض ذلك حديث عائشة رضي الله عنها لدخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع. ولفظه: قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس فرجع إلى وهو حزين، فقلت له: فقال: "إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن دخلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي". لأن في إسناد هذه الحديث من نسب إلى

الضعف، وهو إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير1 المكي راوه عن ابن أبي مليكة عن عائشة قال: فيه ابن معين وأبو حاتم ليس بالقوي. ورواه ابن مهدي. وقال يحيى القطان: تركته ثم كتبت عن سفيان عنه، نقل هذا كله الذهبي في "الميزان" وذكر له هذا الحديث. وحديث آخر له عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أيضا: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه حتى يبدو ضبعاه إلا لعثمان بن عفان إذا دعى له". وذكره لهذين الحديثين مشعر بأن في صحتهما نظر، وذلك والله أعلم لكون الترمذي صحح هذا الحديث وحسنه وكذا الحاكم لأنه أخرجه في "مستدركه على الصحيحين، ومما يقوي النظر في صحة هذا الحديث: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في حجته نقلت بأسانيد صحيحة لا وهن فيها، ولم يذكر فيما نقل من أفعاله صلى الله عليه وسلم في حجته بمثل ذكر دخوله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في حجته، ولو وقع ذلك لذكر كما ذكر بالإسناد الصحيح مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى زمزم وإرادته النزع منها وشربه من السقاة، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجته لو وقع أولى بالذكر من هذه الأمور، ولا يعارض ما أشرنا إليه ما ذكره البخاري في صحيحه في باب الزيارة يوم النحر، لأنه قال: ويذكر عن أبي حسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى، لأن زيارة البيت لا تستلزم دخوله، ويصدق على الطواف به، وأيضا فإن هذا تعليق بصيغة التمريض، والاحتجاج به يتوقف على ثبوته، والله أعلم. ومما يقوي النظر في حديث عائشة رضي الله عنها المشار إليه، إنكار غير واحد من أهل العلم دخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجته على ما ذكر منهم سفيان بن عيينة، والله أعلم. وبتقدير صحته فليس فيه ما يشعر بأن من نفى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، حتى يكون من نفى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة محمولا على هذا الزمن كما قال ابن حبان، ولا ينبغ التعارض بين حديث من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وحديث من نفاها، بالتوفيق الذي ذكره ابن حبان لفقد دليل يدل على ما ذكره من أن الزمن الذي أثبت فيه بلال رضي الله عنه ومن وافقه الصلاة في الكعبة غير الزمن الذي نفى فيه أسامة رضي الله عنه ومن وافقه الصلاة، وقيام الدليل على أن الزمن الذي أثبت فيه بلال ومن وافقه الصلاة والزمن الذي نفى فيه أسامة ومن وافقه الصلاة به متجه، وهو يوم فتح مكة، كما سبق بيانه، ويتعارض حينئذ خبر

_ 1 كذا في الأصل، انظر: التاريخ لابن معين 2/ 35، الجرح والتعديل 1/ 186، التاريخ الكبير 2/ 317، المعرفة والتاريخ 3/ 108، المجروحين 1/ 121، ميزان الاعتدال 1/ 237، الإكمال 5/ 187، الكاشف 1/ 75، تهذيب الكمال 3/ 141، المغني في الضعفاء 1/ 85، تهذيب التهذيب 1/ 396، تقريب التهذيب 1/ 72، العقد الثمين للتقي الفاسي 3/ 301.

بلال رضي الله عنه ومن وافقه وخبر أسامة رضي لله عنه ومن وافقه في ذلك ويضاف إلى الترجيح أو التوفيق بما هو متجه كما سبق بيانه. وبالجملة فقد خولف ابن حبان فيما نحا إليه من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، كما ذكر سفيان بن عيينة، وفي كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة لما دخلها في حجة الوداع، كما ذكر البيهقي، والله أعلم بالصواب. وأما الوجه الذي ذكره السهيلي1 في الجمع بن اختلاف حديث بلال وابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ففيه نظر من أوجه. الأول: أن كلامه يقتضي حمل حديث بلال رضي الله عنه في إثبات الصلاة على زمن، وحمل حديث ابن عباس رضي الله عنهما في نفيها على زمن غيره، وفي ذلك من النظر مثل النظر الذي فيما ذكره ابن حبان، وهو حمل حديث من أثبت الصلاة على زمن، وحديث من نفاها على زمن، لاتحاد الزمان الذي وقع فيه ذلك. والوجه الثاني: أن كلام السهيلي يقتضي أن إثبات الصلاة ونفيها في زمنين في حجة الوداع، ووجه النظر في ذلك أنه لا ريب في أن إثبات بلال رضي الله عنه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة كان يوم الفتح كما روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما وابن عباس رضي الله عنهما إن كان المراد به الفصل فنفيه للصلاة محمول على الزمن الذي ثبت فيه دخوله، وهو زمن الفتح. وإن كان المراد به عبد الله بن عباس رضي الله عنهم: فلم يثبت له دخول في الفتح ولا في حجة الوداع فيكون نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة مستندا إلى قول أخيه الفضل، وأسامة رضي الله عنهما؛ فإنه روى عنهما ذلك، وقد سبق أن نفيهما على الزمن الذي ثبت فيه دخولهما إلى الكعبة، وهو زمن الفتح، فيكون كذلك نفي عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وإذا تقرر ذلك لم يستقم ما ذكره السهيلي من أن إثبات بلال رضي الله عنه للصلاة في الكعبة، ونفي ابن عباس رضي لله عنهما لها في حجة الوداع، وأنى يستقيم ما ذكره وهو يقتضي إثبات دخولين للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلى الكعبة، وفي إثبات دخوله إليها مرة واحدة في حجة الوداع نظر سبق بيانه فكيف بدخوله فيها مرتين وليس في الحديث الذي أشار إليه السهيلي في الجمع لما ذكر ما يقتضي أن ذلك في الزمن الذي ذكر ويظهر ذلك بلفظ الحديث، ولفظه في كتاب الدارقطني: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا وهب بن منبه، عن خالد، عن ابن أبي ليلى، عن عكرمة بن خالد، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن

_ 1 الروض الأنف 4/ 104.

عمر رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج وبلال خلفه، فقلت لبلال: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، فلما كان الغد دخل، فسألت بلالا: هل صلى؟ قال: نعم ركعتين، استقبل الجذعة وجعل السارية الثانية عن يمينه. وكتب الدارقطني على حاشية هذا الحديث: ابن أبي ليلى ليس بالحافظ ... انتهى. فهذا الحديث كما ترى لس فيه بيان من دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فإن حملنا الحديث علي أن ما فيه من الدخولين والصلاة في أحدهما جرى في حجة الوداع في يوم النحر، ومن الغد كما فهم السهيلي، لم ينهض من الحديث دلالة على ذلك، لاحتمال أن يكون اليومان اللذان دخل فيهما النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى فيهما ما ذكر في الحديث هما: يوم النحر، ويوم النفر الأول، أو يوم النفر الأول، ويوم النفر الثاني، أو هما فيما بين قدومه مكة، وخروجه منها للوقوف بعرفة، وكان قدومه بمكة صبيحة الرابع من ذي الحجة، وليس في الحديث الذي ذكره الدارقطني على تقدير حمله على حجة الوداع ما يمنع من هذه الاحتمالات: إلا أن في البخاري ما يمنع الاحتمال الأخير، وإن احتمله الحديث الذي ذكره الدارقطني، لأنه في صحيحه: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل، حدثنا موسى بن عقبة قال: أخبرني كريب، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة. وروى البخاري ذلك أيضا في موضع آخر في صحيحه بهذا الإسناد مع أمور أخر تتعلق بحجة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا امتنع الاحتمال الأخير نفي ما عداه، مع احتمال آخر، وهو ما ذكره السهيلي، وكون ما ذكره هو الواقع، مع تجويزه غيره يحتاج إلى دليل ترجيح ما ذكره وهو متعدد. والله أعلم. وإن حملنا الحديث الذي ذكره الدارقطني على أن ما فيه من الدخولين، والصلاة في إحداهما جرى في زمن الفتح لم يستقم ما ذكره السهيلي من أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في يوم النحر وصلى بها فيه، لكون ذلك يخالف مقتضى ما يحمل عليه الحديث، من أن ما فيه جرى في زمن الفتح، ويخالف أيضا ما صح عن بلال رضي الله عنه من كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما دخلها يوم فتح مكة كما سبق. الوجه الثالث: أن كلام السهيلي يقتضي أن إسناد الحديث الذي أشار إليه حسن، وذلك لا يستقيم لضعف في إسناد الحديث، وفيه علة أخرى وهي النكارة في متنه، لأنا إذا حملناه على زمن الفتح فإنه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة حين دخلها يوم فتح مكة، وإنما صلى فيها حين دخلها في اليوم الثاني، وذلك يخالف ما صح عن ابن عمر رضي لله عنهما من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في يوم فتح مكة وصلاته بها في هذا

اليوم- من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في يوم فتح مكة وصلاته بها في هذا اليوم على ما أخبر به بلال رضي لله عنه كما هو مقتضى الحديث السابق، وهو في صحيح مسلم". وروينا مثل ذلك من حديث أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما في مسند الحميدي"1 وعن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب في "سنن البيهقي" وإذا كان كذلك فالحديث الذي أخرجه الدارقطني منكر، لمخالفته ما رواه الأئمة الثقات عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما. أما الضعف الذي في إسناد الحديث الذي أخرجه الدارقطني فلأجل محمد بن أبي ليلى2 بسبب سوء حفظه، واضطراب حديثه، وكثرة أخطائه فيه، وإن كان صدوقا، قال عنه شعبة: ما رأيت أحدأ أسوأ حفظا من ابن أبي ليلى. وقال أحمد بن حنبل: كان سيئ الحفظ، مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم3 كان سيئ الحفظ، شغل بالقضاء فساء حفظه، ولا يتهم بشيء من الكذب، وإنما ينكر عليه كثرة الخطأ، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان4: كان رديء الحفظ فاحش الخطأ، فكثر الوهم. وقال أبو أحمد الحاكم: غالب أحاديثه مقلوبة ... انتهى. ومن كان في الحفظ بهذه الصفة فالحجة به غير ناهضة، فيما يرويه من الحديث، فكيف إذا عارض ما يرويه حديثا صحيحا كما في هذه المسألة، وحينئذ إنما يحتج بالحديث الصحيح، لأن له مزية توجب الترجيح، على أني لم أر ما يدل لرواية ابن أبي ليلى عن عكرمة بن خالد، ولا لرواية عكرمة عن يحيى بن جعدة، ولا لرواية يحيى عن ابن عمر رضي الله عنهما، والله أعلم بصحة ذلك. ومن أوجه النظر فيما ذكره السهيلي من الجمع، ما أشار إليه من حمله حديث ابن عباس رضي الله عنهما في النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، على أنه نفى ذلك في يوم النحر من حجة الوداع، لكونه لم يرد عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشعر بدخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بل ورد عن ابن عباس ما يقتضي خلاف ذلك على ما رويناه في "معجم الطبراني" ولفظ الحديث الوارد عنه في ذلك: حدثنا محمد بن حاجهان.

_ 1 مسند الحميدي1/ 82 رقم 149. 2 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولي القضاء لبني أمية ثم لبني العباس مات سنة 148هـ. 3 الجرح والتعديل 7/ 322. 4 كتاب المجروحين 2/ 243.

الجنديسابوري، قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا زهير عن جابر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت في الحج ودخل عام الفتح فلما نزل صلى أربع ركعات -أو قال: ركعتين- بين الحجر والباب مستقبل الكعبة، وقال: "هذه القبلة". وجابر هو الجعفي1 ضعفه جماعة ووثقه شعبة. وأما الوجه الذي ذكره ابن جماعة في الجمع بين اختلاف حديث بلال وأسامة رضي لله عنهما فإن في استقامته نظرا، لأن الحديث الذي جمع به يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة مرتين، فصلى في الثانية، ولم يصل في الأولى، ومحمول على أن ذلك كان في زمن الفتح، لما سبق من كلام النووي رحمه الله، وإذا كان كذلك فالصلاة التي نفاها أسامة رضي الله عنه في اليوم الأول إن كانت هي الصلاة التي أثبتها بلال رضي الله عنه في يوم فتح مكة، على ما ذكر ابن عمر رضي الله عنهم: فأسامة وبلال رضي الله عنهما مختلفان في هذه الصلاة، وينتفي اختلافهما فيها بإثبات أسامة رضي الله عنه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غير اليوم الأول لا في اليوم الثاني، وإنما كان يتجه الجمع بالحديث الذي جمع به ابن جماعة، لو ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الصلاة التي أثبتها بلال رضي لله عنه كانت في زمن الفتح، من غير تعرض لبيان اليوم الذي وقعت فيه، وأما مع تبيين ابن عمر رضي الله عنه لليوم الذي أثبت بلال رضي الله عنه فإن الجمع بالحديث المشار إليه لا يستقيم والله أعلم. وقد روي عن أسامة رضي الله عنه خبر يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة في دخوله إليها يوم الفتح، ورويناه في مسند بلال رضي الله عنه للحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وفي صحيح مسلم، ولفظ مسلم: وحدثني حميد بن مسعدة قال: حدثنا خالد يعني ابن الحرث قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إنه انتهى إلى الكعبة، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي. مات سنة 28هـ. وكان شيعيا. انظر عنه: الطبقات الكبرى 6/ 345، التاريخ لابن معين 2/ 76، تاريخ خليفة "ص: 378"، طبقات خليفة "ص: 263"، التاريخ الكبير 2/ 210، الضعفاء للبخاري "ص: 255"، المعرفة والتاريخ 1/ 297، 539، تاريخ أبي زرعة 1/ 296، الضعفاء للنسائي "ص: 287"، الجرح والتعديل 2/ 497، الكاشف 1/ 177، المغني في الضعفاء 1/ 126، تاريخ الإسلام 5/ 52، تهذيب الكمال 4/ 465، تهذيب التهذيب2/ 46.

وبلال وأسامة، وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب، قال: فمكثوا فيه مليا، ثم فتح الباب، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فرقيت الدرجة ودخلت البيت فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ههنا: وأنسيت أن أسألهم كم صلى؟ وهذا الحديث يقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما سأل بلالا وأسامة وعثمان رضي الله عنهم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا، وأنهم جميعا أخبروا ابن عمر بها، وذلك وهم من بعض رواة هذا الحديث، لأن القاضي عياض نقل عن الدارقطني أنه قال: وهم ابن عوان هنا، وخالفه غيره، فأسندوا عن بلال وحده، قال القاضي: وهذا هو الذي ذكر مسلم في باقي الطرق، فسألت بلال، فقال: إلا أنه وقع في رواية حرملة عن ابن وهب، فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة، هكذا هو عند عامة شيوخنا. وفي بعض النسخ: وعثمان بن أبي طلحة. قال: وهذا يعضد رواية ابن عون. والمشهور انفراد بلال رضي الله عنه برواية ذلك. والله أعلم..... انتهى. وقد طال الكلام في ترجيح خبر بلال على خبر أسامة رضي الله عنهما، وما قيل من الجمع بين ذلك، ولكن لموجبات اقتضاها الحال، واشتمل ذلك على فوائد يغتبط بها من له على تحصيل العلم إقبال. وأما ترجيح خبر بلال على خبر الفضل بن عباس رضي الله عنهم المعارض بخبر بلال رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة، فصحة حديث بلال رضي لله عنه في ذلك عند أهل الحديث من غير اختلاف بينهم في ذلك، واختلافهم في صحة حديث الفضل، لاختلاف حديث ابن عمر رضي الله عنهم في دخول الفضل الكعبة يوم فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة رضي لله عنهم فإنا رويناه في صحيح مسلم من حديث ابن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، ولم يدخله معهم أحد، ثم أغلقت عليهم. وذكر بقية الحديث. وهذا يقتضي أن الفضل لم يدخل مع المذكورين الكعبة. وفي مسند أحمد بن حنبل ما يعارض ذلك، لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا هشيم، أخبرنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، ولم يدخله معهم أحد، ثم أغلقت عليهم. وذكر بقية الحديث. وهذا يقتضي أن الفضل لم يدخل مع المذكورين الكعبة. وفي مسند أحمد بن حنبل ما يعارض ذلك، لأنه قال فيما رويناه عنه حدثنا هشيم، أخبرنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ومعه الفضل بن عباس وأسامة بن زيد.... وذكر الحديث. وروى ذلك النسائي، لأنه قال فيما رويناه عنه: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا هشيم، عن ابن عون: فذكره.

وهذا الإسناد وإن صح ففيه نظر، لأن رواية هشيم له شهادة على ما ذكر شيخنا الحافظ العراقي عن بعض مشايخه، ونقل عنه تضعيف حديث الفضل، وأيضا، فإن للحديث الذي يرويه مسلم مزية في الصحة على ما يرويه غيره من الأحاديث الصحيحة غير ما في صحيح البخاري، فإنه أميز في الصحة مما في مسلم عند محققي أهل الحديث، وعلى تقدير ثبوت دخول الفضل رضي الله عنه الكعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر معه، وثبوت حديثه في نفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله إليها يوم الفتح، فلا معارضة بين حديث الفضل وبلال في الصلاة المشار إليها، لأن نفي الفضل رضي الله عنه له إنما هو باعتبار كونه لم يرها لا باعتبار كونها لم تقع، لأنا روينا في تاريخ الأزرقي، عن عبد المجيد بن أبي داود: أن الفضل رضي الله عنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بذنوب من ماء زمزم ليطمس به الصور التي في الكعبة1. قال عبد المجيد: فصلى خلافه ولذلك لم يره صلى. وروينا فيه أيضا ما يؤيد ذلك، لأن فيه من حديث الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، وأرسل الفضل بن عباس فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبل الماء، فأمر بطمس تلك الصور1 ... انتهى. فتكون صلاته صلى الله عليه وسلم كانت في الكعبة يوم الفتح حين غاب الفضل رضي الله عنه- للأمر الذي ندبه إليه، ويتفق بذلك خبره مع خبر بلال، والله أعلم. وأما ترجيح خبر بلال رضي الله عنه على خبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما- في نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فلأن بلالا رضي الله عنه حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى، وشاهد صلاته، وأخبر بها، وابن عباس رضي الله عنهما- لم يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم واعتمد في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة على خبر أسامة رضي الله عنه- له بذلك كما ثبت في صحيح مسلم، ورواية من حضر القصة مقدمة على من غاب عنها، وقد أشار إلى ترجيح خبر بلال على خبر الفضل بن عباس وأخيه عبد الله رضي الله عنهم بما ذكره شيخنا الحافظ العراقي رحمة الله عليه.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي1/ 165.

ذكر عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة الشريفة بعد هجرته من المدينة وأول وقت دخل الكعبة فيه بعد هجرته

ذكر عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة الشريفة بعد هجرته من المدينة وأول وقت دخل الكعبة فيه بعد هجرته ... ذكر عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة الشريفة بعد هجرته إلى المدينة وأول وقت دخل الكعبة فيه بعد هجرته: أما عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد هجرته: فروينا في ذلك أخبارا يتحصل من مجموعها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة بعد هجرته أربع مرات، وهو يوم فتح مكة، وفي ثاني يوم الفتح، وفي حجة الوداع، وفي عمرة القضية، وفي كل من هذه الدخلات خلاف، إلا الدخول الذي في يوم الفتح، ونشير إلى الأخبار الواردة في هذه الدخلات. فأما دخوله يوم الفتح فرويناه في صحيح مسلم وغيره، كما سبق في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظ حديثه عن مسلم: قدم رسول الله صلى عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة وأرسل إلى عثمان بن طلحة فجاء بالمفتاح ففتح الباب، قال: ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة، وذكر الحديث. ولا تضاد بين حديث ابن عمر رضي لله عنهما هذا، وحديثه في صحيح مسلم الذي قال فيه: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: "ائتني بالمفتاح"..... الحديث في قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيها لأن المراد بعام الفتح في هذا الحديث يوم الفتح كما في الحديث السابق، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضان والمجمل منها يرد إلى المبين. وقد أشار الإمام النووي رحمه الله إلى اتفاق الخبرين، لأنه قال في شرح مسلم قوله: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة. هذا دليل على أن هذا المذكور في أحاديث الباب من دخوله صلى الله عليه وسلم، وصلاته فيها كان يوم الفتح، وهذا لا خلاف فيه، ولم يكن يوم حجة الوداع ... انتهى. وفي هذا الدخول وقع الاختلاف في كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في ثاني يوم الفتح: ففي مسند أحمد بن حنبل ما يدل له، لأنه قال: حدثنا هشيم قال: أنبأنا عبد الملك عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد رضي لله عنهما: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، وخرج ولم يصل، ثم دخلت معه في اليوم الثاني، فقام ودعا...... الحديث، وقد سبق في هذا الباب بكماله. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: فرويناه في سنن أبي داود وابن ماجه، وجامع الترمذي، والمستدرك للحاكم، من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها وسبق ذلك في الترجمة التي قبل هذه الترجمة مع بيان ما في الحديث من الوهن، والله أعلم بالصواب. وأما دخول النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فذكر المحب الطبري في "القرى" عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب ما يقتضي ذلك، لأنه قال في باب العمرة، وهو الثامن والثلاثون في ترجمة ترجم عليها بما جاء في عمرة الحديبية وعمرة القضية: وعن هشام، وعن أبيه قال: إن خراش بن أمية حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة ثم دخل البيت.

وعن سعيد بن المسيب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى نسكه دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بالظهر على ظهر الكعبة، وأقام رسول لله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا، فلما كان ظهر اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو بن حويطب بن عبد العزى، ورسول الله جالس في مجلس من الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فقال: يا محمد قد انقضى أجلك فاخرج عنا، وكان صلى الله عليه وسلم قد تزوج بميمونة الهلالية في طريقه، وذكر مناشدة سهيل النبي صلى الله عليه وسلم إلى "سرف" وتعريسه فيه بميمونة، ولم يذكر المحب الطبري من خرج هذا الخبر ولا الخبر الأول، وهما يقتضيان دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرة القضية، وخبر سعيد بن المسيب أصرح، لما فيه من القضايا التي وقعت في عمرة القضية على ما جاء في غير هذا الخبر، وهو تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وسؤال سهيل بن عمرو النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم له على نحو ما في هذا الخبر، ولست واثقا بصحة ما فيه من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وأذان بلال رضي لله عنه الظهر عليها، وعلى تقدير صحتها فإنهما يخالفان ما رويناه في الصحيحين، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرته؟ فقال: لا انتهى. والمراد بهذه العمرة عمرة القضية على ما قال العلماء، كما قال النووي عنهم في شرح مسلم وغيره. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرة القضية، كما هو مقتضى هذين الخبرين، وإنا ذكرناهما لغرابتهما. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح وحجة الوداع: فهو رأي أبي حاتم بن حبان، لأنه جمع بذلك بين اختلاف بلال وأسامة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ونص كلامه والأشبه عندي أن يحمل الخبران على دخولين متغايرين، أحدهما يوم الفتح وصلى فيه، والآخر في حجة الوداع ولم يصل فيه ... انتهى. وقد وافق ابن حبان على ما ذكره من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: البيهقي، لأنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في داخل الكعبة في حجة الوداع، حكى ذلك عن البيهقي: ابن جماعة في منسكه. وأما دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في ثاني يوم فتح مكة: كما هو مقتضى حديث أسامة رضي الله عنه الذي جمع به ابن جماعة: فلم أر أحدا من أهل العلم قال به إلا ابن جماعة في منسكه، والله أعلم.

وأما أول وقت دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد هجرته: فيوم فتح مكة، لأنه لم يدخلها في عمرة القضية على مقتضى حديث ابن أبي أوفى السابق ذكره في الصحيحين، ولا يعارض ذلك الخبران المقتضيان لدخول النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، لأنهما لو صحا لكان ما في الصحيحين مقدما عليهما، فكيف وفى صحتهما نظر والله أعلم. وأما السبب الذي لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم لأجله الكعبة في عمرة القضية: فذكر النووي فيه كلاما لغيره لا يخلو من نظر، لأنه قال لما تكلم على حديث ابن أبي أوفى: قال العلماء: وسبب عدم دخوله صلى الله عليه وسلم: ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولم يكن المشركون يتركونه لتغييرها، فلما فتح الله تعالى عليهم مكة دخل البيت وصلى فيه، وأزال الصور قبل دخوله، والله أعلم ... انتهى. قلت: في هذا الكلام ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة يوم فتح مكة حتى أخرج منها ما كان ينبغي إخراجه من الصور وغير ذلك، ووقع في مسند أبي داود السجستاني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل لذلك. وقد روينا ما يخالف ذلك؛ لأن أبا داود الطيالسي قال في مسنده: حدثنا ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران قال: حدثني عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت مع رسول لله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورا فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". ورجال هذا الحديث يحتج بهم، وهو يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في الفتح والصور فيها، وأنه أزالها بعد دخوله، ويدل لذلك أيضا ما رويناه في تاريخ الأزرقي عن عبد العزيز1 بن أبي داود، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الفضل بن عباس رضي لله عنهما- بعد دخوله معه الكعبة ليأتيه بماء ليطمس به الصور في الكعبة2. ويدل لذلك أيضا: قول ابن إسحاق في السيرة في قصة الفتح: فلما قضى- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له. فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها ... انتهى. وهذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها الصور، وأنه دخل الكعبة حين فتحت له في هذا التاريخ، ولم يشتغل صلى الله عليه وسلم بشيء سوى ذلك، والله أعلم.

_ 1 هكذا وردت بالأصل، وهو يشير إلى الرواية التي وردت وهي عن عبد المجيد بن أبي رواد لا عن عبد العزيز. 2 أخبار مكة 1/ 165.

الباب العاشر

الباب العاشر: في ثواب دخول الكعبة المعظمة: أخبرني أحمد بن عمر البغدادي بقراءتي عليه بالقاهرة، والقاضي المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي بقراءتي عليه بطيبة، كلاهما عن الحافظ أبي الحجاج المزي، قال: أخبرنا الدرجي، قال: أنبأنا الصيدلاني، قال: أخبرتنا فاطمة الجوزدانية قالت: أخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي عن عبد الله بن المؤمل، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت فصلى فيه دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له" 1. وفي لفظ: "من دخل البيت خرج مغفورا له" 2. وروى الفاكهي أخبارا في فضائل دخول الكعبة والصلاة فيها، لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عمر، في دخول البيت دخول في حسنة وخروج من سيئة مغفورا له. حدثنا محمد بن أبي عمر حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، وحدثنا أبو بشر، حدثنا ابن أبي الصيف، حدثنا إسماعيل بن كثير أبو هاشم جميعا عن مجاهد، قال: دخول البيت حسنة وخروجه خروج من سيئة مغفورا له3.

_ 1 أخرجه: البيهقي في سننه 5/ 158. 2 رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، وفي سنده "عبيد الله بن المؤمل" منفرد به "وثقه ابن سعد وغيره، وفيه ضعف" ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد3/ 293، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في الفيض 6/ 124. 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 292، وذكره السيوطي في الجامع الكبير عن ابن عباس، وعزاه للطبراني والبيهقي في السنن.

وقال الفاكهي أيضا: حدثني أحمد بن محمد القرشي، عن يوسف بن خالد، قال: حدثنا غالب القطان، عن هند بن أوس قال: حججت فلقيت ابن عمر، فقلت: إني أقبلت من الفج العميق أردت البيت العتيق، وأنه ذكر لي أن من أتى بيت المقدس يصلى فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال ابن عمر: رأيت البيت من دخله فصلى فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه1. وقال الفاكهي: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا الغازيان، قال: حدثنا سفيان عن ابن جريج، عن عطاء قال: لأن أصلي ركعتين في البيت أحب إلي من أن أصلي أربعا في المسجد الحرام2. وقال الفاكهي: حدثنا أحمد بن حميد، عن الحسين بن الوليد، قال: حدثنا عباد بن راشد، عن الحسن قال: الصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة ... انتهى. وروينا عن الحسن البصري في رسالته المشهورة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل الكعبة، دخل في رحمة الله عز وجل، وفي حمي الله تعالى، وفي أمن الله عز وجل، ومن خرج خرج مغفورًا له" ... انتهى. وما أحسن ما أنشده الحافظ أبو طاهر السلفي لنفسه بعد دخول الكعبة: أبعد دخول البيت والله ضامن ... بنفي قبيح، والخطايا الكوامن فحاشاه، كلا، بل تسامح كلها ... ويرجع كل، وهو جذلان آمن وقد اتفق الأئمة الأربعة على استحباب دخول البيت، واستحسن مالك كثرة دخولها، لأن في مناسك ابن الحاج قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف، عن مالك: أنه سئل عن الصلاة في البيت وعن دخوله كلما قدر عليه الداخل، فقال له: ذلك واسع حسن ... انتهى. وروينا ذلك في "تاريخ الأزرقي" عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- أحد الفقهاء السبعة بالمدينة على ما قيل وصدقة بن يسار، ووردت أخبار استدل بها بعض العلماء على عدم استحباب دخول الكعبة، وقد ذكرها المحب الطبري مع الجواب عنها في كتاب "القرى"3، وذكرنا ذلك بنصه في أصل هذا الكتاب، ونشير هنا لشيء من ذلك: أنبأنا عمن أنبأه المحب الطبري قال: "باب دخول الكعبة" وهو الباب الثامن والعشرون من كتابه "القرى"، حجة من قال: لا يستحب، عن عائشة قالت: خرج رسول

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 90. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 292. 3 القرى "ص: 494".

الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، ثم رجع إلى وهو حزين، فقلت له: فقال: "إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي". أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، وأبو داود1. وقد استدل بهذا الحديث من كره دخول البيت، ولا دلالة فيه، بل نقول دخوله صلى الله عليه وسلم دليل على الاستحباب، وتمنيه عدم الدخول فقد علله بالمشقة والشفقة على أمته، وذلك لا يرفع حكم الاستحباب. ثم قال المحب: وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس، قال له رجل: أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: لا. أخرجاه وبوب عليه البخاري، "باب من قال: لم يدخل الكعبة"، وأجاب المحب الطبري عن هذا الحديث بأن عدم دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرته هذه يجوز أن يكون لعذر، قال: ولعله تركه شفقة على أمته، كما دل عليه الحديث المتقدم2 ... انتهى. قلت: هذا الاحتمال بعيد، والاحتمال الأول هو الصواب، لموافقته ما ذكره العلماء في سبب كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة في عمرته المشار إليها، وهو عدم تمكنه صلى الله عليه وسلم من أن يزيل من الكعبة ما كان فيها من الأوثان والصور، لكون مكة في أيدي المشركين وحكمهم إذا ذاكروا، والله أعلم. وأما ما يطلب في الكعبة من الأمور التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم فهو: التكبير والتسبيح والتهليل والتحميد والثناء على الله عز وجل، والدعاء والاستغفار، لأحاديث وردت في ذلك، منها: ما رويناه عن أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قِبَل البيت ركعتين وقال: "هذه القبلة"، أخرجه البخاري ومسلم3. وفي مسلم عن ابن جريج قلت لعطاء: ما نواحيه؟ أفي زواياه؟ قال: بل في كل قبلة من البيت. وعند النسائي في هذا الحديث: سبح في نواحيه وكبر4.

_ 1 أخرجه: أحمد في مسنده 6/ 153، والترمذي "3/ 223"، وابن ماجه "306"، المستدرك 1/ 479، والبيهقي في السنن 5/ 159. 2 القرى "ص: 495، 496". 3 أخرجه: البخاري "2/ 50"، ومسلم "استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره: 4/ 96". 4 سنن النسائي " "، مسند أحمد 1/ 210، 4/ 2.

وقوله: قِبل البيت، وهو بضم القاف والباء الموحدة، ويجوز إسكان الباء كما في نظائره، ومعناه على ما قيل: ما استقبلك فيها، وقيل: مقابلها. وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "هذه القبلة" ثلاثة احتمالات: أولها: أن معنى ذلك أن أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم وصلوا إليه أبدا. والاحتمال الثاني: أن معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم سنة موقف الإمام، وأنه يقف في وجه الكعبة دون أركانها وجوانبها، وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزية، وهذان الاحتمالان أبداهما الإمام أبو سليمان الخطابي ... الخ. والاحتمال الثالث: أبداه الإمام النووي في "شرح مسلم" بعد ذكره لهذين الاحتمالين، وهو أن معناه هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لا كل الحرم ولا مكة، ولا كل المسجد الذي حول الكعبة بل هي الكعبة نفسها فقط، والله أعلم ... انتهى. ومعنى قول عطاء: بل في كل قبلة من البيت: أي في كل قبلة من البيت قبلة، أو كل موضع من البيت قبلة، ذكر ذلك المحب الطبري، قال: ويكون قد دار النبي صلى الله عليه وسلم في البيت جميعه داعيا ذاكرًا1. ومن الأحاديث الواردة في المعنى الذي أشرنا إليه: ما رويناه في "سنن النسائي" أيضا من حديث أسامة بن زيد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم البيت، فمضى يعني النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بين الأسطوانتين اللتين يليان باب الكعبة جلس فحمد الله وأثنى عليه وسأله واستغفره، ثم قام حتى أتى ما استقبل من دبر البيت فوضع وجهه وخده عليه، فحمد الله وأثنى عليه وسأله واستغفره، ثم انصرف إلى كل ركن من أركان الكعبة فاستقبله بالتكبير والتهليل والتسبيح والثناء على الله والمسألة والاستغفار ثم خرج، انتهى باختصار. وروينا من حديثه أيضا في "سنن النسائي" قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه، ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج ... انتهى باختصار، وأخرجه أحمد أيضا. وروينا عن ابن عباس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وفيها ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. أخرجه البخاري ومسلم2 وأحمد بن حنبل.

_ 1 القرى "ص 499، 500". 2 صحيح البخاري 1/ 375 كتاب الحج، مسلم "الحج: 1330".

وروينا في مسنده1 عن الفضل بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الكعبة وسبح وكبر ودعا الله عز وجل واستغفر ولم يركع ولم يسجد. وروينا عن الفضل أيضا: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة، قال: فلم يصل فيها ولكنه لما دخلها وقع ساجدًا بين العمودين ثم جلس يدعو ... انتهى. ولا تضاد بين قوله في هذا الحديث: "وقع ساجدا"، وبين قوله في الحديث الذي قبله: "ولم يسجد" لاحتمال أن يكون أراد بقوله: ولم يسجد، أي: في صلاة، ويؤيده قوله: "ولم يركع" والركوع إنما يكون في صلاة، ويكون سجود النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على تقدير ثبوت الحديث المتضمن لذلك شكرا لله تعالى، وقد أشار المحب الطبري، إلى التوفيق بين هذين الحديثين بما ذكرناه2، والله أعلم. ومن الأمور التي قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم صنعها في الكعبة، صبه الماء على جسده صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: حدثنا سلمة بن شبيب أبو عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: سمعت أبا قدامة عامر الأحول يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدلو من ماء فصبه عليه في الكعبة ... انتهى. وهذا غريب جدا، ولذا ذكرناه، والله أعلم بصحته، ولا أعلم أحدا من أهل العلم قال باستحبابه3، والله أعلم. ومن الأمور التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على ما قيل: إنه ألصق بها بطنه وظهره كما رويناه في معجم ابن قانع، لأنه قال: أخبرنا حسين بن اليماني، قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن سليمان عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عبد الرحمن الزجاج قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان، زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصل، فقال: كذبوا لقد صلى بين العمودين ركعتين ثم ألصق بها بطنه وظهره ... انتهى. وقد أشار شيخنا الحافظ العراقي إلى استحباب هذا الفعل في الكعبة، وبدل لذلك ما رويناه في "مسند الشافعي" عن عروة بن الزبير أنه كان إذا طاف بالبيت استلم الأركان كلها وألصق بطنه وظهره وجنبه بالبيت ... الخ. ورأيت لغير واحد من العلماء ما يقتضي عدم استحباب ذلك، لأن المحب الطبري قال في "القرى": ما جاء في كراهية أن يلصق ظهره إلى الكعبة:" عن عطاء، وقد سئل

_ 1 مسند أحمد 1/ 210. 2 القرى "ص: 501". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 234.

عن ذلك فكرهه، وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يسند ظهره، أخرجهما سعيد بن منصور ... انتهى. ورأيت أيضا لإمامنا ما يقتضي أن ذلك غير مطلوب، لأنه قال: لا يعتنق شيئا من أساطينه، يعني البيت، وقد دخله صلى الله عليه وسلم ولم أسمع أنه اعتنق شيئا من أساطينه1 ... انتهى. والدلالة من كلام مالك على كراهيته ذلك ظاهرة، لأن اعتناق أساطين الكعبة كإلصاق البطن والظهر بها، والله أعلم. وأما ما سوى ذلك من الأمور التي صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة هو مذكور في هذه الأحاديث، فلا أعلم بين أهل العلم اختلافا في استحبابه، إلا سجدة الشكر في الكعبة، كما هو مقتضى حديث الفضل، ففيها خلافا بين أهل العلم، فإن مشهور مذهب مالك أن سجود الشكر مكروه من حيث الجملة، ومقتضى ذلك أن لا يفعل في الكعبة، على أن حديث الفضل الذي في هذه السجدة مختلف في ثبوته، والله أعلم.

_ 1 القرى "ص: 318".

ذكر حكم الصلاة في الكعبة

ذكر حكم الصلاة في الكعبة: استحب جمهور العلماء الصلاة في الكعبة، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، ومنع طائفة من العلماء منهم ابن عباس كما حكاه عنه القاضي عياض ونقله النووي عن جماعة من العلماء في شرح مسلم" لأنه قال: وقال محمد بن جرير، وأصبغ المالكي وبعض أهل الظاهر: لا تصح فيها صلاة أبدا لا فريضة ولا نافلة، قال: ودليل الجمهور حديث بلال ... انتهى. واختلف المستحبون للصلاة في الكعبة، فبعضهم قال بذلك في الفريضة والنافلة بشرط يأتي ذكره في الفريضة، وبعضهم قصر ذلك على النفل غير المؤكد، وهذا مذهب الإمام مالك، ولم أر فيما وقفت عليه من كتب المالكية ما يشهد لصحة ما نقله النووي عن أصبغ بن الفرج أحد أئمة المالكية، والذي رأيته منقولا عنه في كتب المذهب: أن من صلى الفريضة في الكعبة أعاد أبدا من غير نظر إلى كون المصلي فيها عامدا أو ناسيا، وقد اختلف المذهب، وصحح صلاة الفريضة في الكعبة ابن عبد الحكم، واستحب أشهب ألا تصلى الفريضة في الكعبة، فإن صليت فيها صحت، وصوب هذا القول اللخمي، لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة النافلة وجب مساواة الفريضة لها، فإن أمرهما في الحضر واحد من جهة الاستقبال، ومشهور المذهب أن صلاة الفريضة لا

تصح في الكعبة، وإن صلاها فيها أعاد الصلاة، واختلف شيوخ المذهب في الإعادة هل تكون في الوقت أو أبدا؟ وهو مقتضى قول أصبغ، واخُتلف في الإعادة في الوقت هل هي في حق الناسي، وهو قول ابن حبيب ورأي ابن يونس وجماعة وقيل: إن ذلك في حق العامد والناسي وهو رأي القاضي عبد الوهاب واللخمي وابن عتاب، ويلحق بالفريضة النوافل في كونها لا تصلى في الكعبة، وهي السنن كالعيدين والوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف الواجب، فإن صليت هذه النوافل في الكعبة فلا تجزئ على المذهب المشهور، وتجزئ على رأي أشهب وابن عبد الحكم. واختلف الحنابلة في صحة صلاة الفريضة في الكعبة، والأصح عندهم أنها لا تصح فيها، وكذلك عندهم النذر المطلق قالوا: فإن نذر الصلاة في الكعبة صحت فيها، وعندهم خلاف في صحة النافلة في الكعبة، والأصح عندهم فيها الصحة، وعندهم في كونها في الكعبة مستحبة أو جائزة روايتان. ولم يخالف مذهب الشافعي في جواز الصلاة في الكعبة، سواء كانت فريضة أو نافلة، ومقتضى مذهبه إن فعل النافلة في الكعبة أفضل من فعلها في المسجد خارج الكعبة، وكذلك الفريضة بشرط أن لا يرجو المصلي مجيء جماعة خارج الكعبة. قال الشافعي: ما فريضة تفوتني في جماعة فأصليها في موضع أحب إليه منه -يعني البيت الحرام- لأن البقاع إذا فضلت بقربها منه فبطنه أفضل منها. ومذهب أبي حنيفة: جواز صلاة النافلة والفريضة في الكعبة، وأن النافلة في الكعبة مستحبة، وحيث صحت الصلاة في الكعبة فللإنسان أن يصلي في جوفها إلى أي جوانبها شاء، هكذا في "النوادر" من كتب أصحابنا المالكية، وفيه أحب إلى أن يجعل الباب خلف ظهره، ثم يصلي إلى أي موضع شاء بعد أن يستدبر الباب، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم ... انتهى، وهذا مذهب الشافعي. وعند الحنابلة أن الصلاة إلى الباب صحيحة إذا كانت له عتبة شاخصة، وعندهم وجهان فيما إذا صلى إلى سترة في لبن منظوم أو شبهه غير متصل اتصال البناء، وصحح أبو البركان الصحة في هذه الصور. وإذا أقيمت الجماعة في الكعبة فلمن ائتم بالإمام فيها خمسة أقوال في الوقت: الأول: أن يكون وجه المأموم إلى ظهر الإمام. الثاني: أن يكون ظهره إلى ظهره. الثالث: أن يكون وجه المأموم إلى ظهر الإمام. الرابع: أن يكون بجنبه غير متقدم عليه. الخامس: أن يكون ظهر المأموم إلى وجه الإمام. فيصح في جميع الأحوال غير الحالة الخامسة فلا يصح فيها على الأصح من مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة كمذهب الشافعي.

وعند الحنابلة وجهان في صحة صلاة المأموم إذا تقابل هو والإمام، وقاس أبو البركات -من الحنابلة- المنع على ما إذا كان قفاء المأموم في وجه الإمام. وإذا حفرت في الكعبة حفرة وصلى فيها إنسان صحت صلاته فيها كما قال بعض الشافعية فيما نقل "مجلي" في "ذخائره"، قال مجلي: وذلك إذا لم تجاوز الحفرة قواعد البيت، فإن جاوزتها بحيث لا تحاذي ببدنه شيئا منها لم يصح، وإلا فهو كالصلاة على ظهرها إلى السترة القصيرة، وذكر ابن الرفعة أن فيما قاله "مجلي" نظر، وذكر أنه لا فرق بين أن يتجاوز القواعد إلى سترة أو لا كما أطلقه الأصحاب. قال ابن جماعة: وعندي ينبغي أن يفصل فيقال: إن صلى في الحفرة ولم يحاذ ببدنه شيئا من الكعبة أو قواعدها وكان قادرا على إصابة عين البناء لم تصح الصلاة، وإلا صحت1، والله أعلم ... انتهى. واختلف العلماء أيضا في الصلاة على سطح الكعبة، والمشهور من مذهب مالك منع الصلاة على ظهرها، وأنه أشد من منعها في بطنها، وذلك لأن المصلي في بطنها يعيد في الوقت والمصلي على سطحها يعيد أبدا. وقيل: إن الصلاة على سطحها كالصلاة في بطنها فتعاد في الوقت، وهذا القول حكاه ابن محرز عن أشهب. وقيل: إن الصلاة على سطحها تصح ولا إعادة على من فعل ذلك، وهذا القول حكاه اللخمي عن أشهب، وهو قول ابن عبد الحكم. وقيل: إن الصلاة على سطحها تصح إن أقام المصلي شيئا يقصده، وهذا تأويل القاضي عبد الوهاب على المذهب. وقيل: تصح الصلاة على سطحها إذا كان بين يدي المصلي قطعة من السطح. وهذا الاختلاف في الفريضة، وأما النافلة على سطح الكعبة فلا تصح على مقتضى مشهور المذهب إذا كانت الصلاة متأكدة كالسنن والوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف الواجب، لمساواة هذه النوافل للفريضة في حكم الصلاة في جوف الكعبة، وفي صحة النفل غير المؤكد على سطح الكعبة نظر على مقتضى رأي أكثر أهل المذهب في حملهم النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على سطح الكعبة. وأما على رأي ابن عبد الحكم ومن وافقه فيصح النفل مطلقا على سطح الكعبة، وحديث النهي الوارد عن الصلاة فيها رويناه في مسند عبد بن حميد بالسند المتقدم إليه في

_ 1 هداية السالك 2/ 938، 939.

الباب التاسع، ولفظه: حدثنا عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله عز وجل" أخرجه الترمذي1 عن محمود بن غيلان، وابن ماجه عن محمد بن إبراهيم الدمشقي، كلاهما عن المقري. فوقع لنا بدلا لهما عاليا بدرجة بالنسبة إلى روايتنا العالية لكتابيهما بدرجتين بالنسبة إلى روايتنا لهما المتصلة بالسماع، وزيد بن جبيرة2 متروك الحديث. وروينا هذا الحديث من غير طريقه في سنن ابن ماجه بإسناد يقوم بمثله الحجة، ولفظه: حدثنا علي بن داود ومحمد بن أبي الحسن قالا: أخبرنا أبو صالح، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا نافع عن ابن عمر بن الخطاب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبع مواطن لا يجوز فيها الصلاة ظاهر بيت الله والمقبرة والمزبلة والمجزرة والحمام ومعاطن الإبل ومحجة الطريق" ... انتهى. ومذهب الشافعي صحة صلاة الفريضة والنافلة على سطح الكعبة بشرط أن يكون بين يدي المصلي شاخص قدر ثلثي ذراع تقريبا من نفس الكعبة، هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي، وفي مذهبه وجه أيضا: يصح في السطح وإن لم يكن الشاخص قدر ثلثي ذراع، وقيل: إنما تصح فيه بشرط أن يكون الشاخص قدر قامة المصلي طولا وعرضا. ومذهب الحنفية: أن الصلاة على السطح جائزة وإن لم يكن بين يدي المصلي سترة، فإن الصلاة في السطح مكروهة لما فيه من ترك التعظيم، وعندهم أن الصلاة على جدار الكعبة صحيحة إذا كان المصلي متوجها إلى سطحها، ولا تصح إذا جعل السطح وراءه. ومذهب الحنابلة: أن صلاة الفريضة لا تصح في سطح الكعبة، وأن النافلة فيه تصح، وأن حكم النافلة على سطحها حكم الفريضة في بطنها إذا كان الباب مفتوحا ومقتضى ذلك أنها لا تصح في السطح إلا إذا كان هناك شاخص. وقد حررنا ارتفاع الشاخص في سطح الكعبة وهو ذراع إلا ثمن ذراع في الجهة الشرقية وفي جهة الحجر بسكون الجيم ذراع وثمن، وفي جهة المغرب ذراع، وفي جهة اليمن ثلثا ذراع، وقد سبق تحريرنا لذلك طولا وعرضا في الباب الثامن، وقد أثبتنا فيما يتعلق بالصلاة في وجه الكعبة وعلى سطحها بما فيه كفاية في ذلك، ويوجد به من الفوائد ما لا يوجد مجتمعا في تأليف، ونسأل الله التوفيق لكل خير.

_ 1 أخرجه الترمذي "346". 2 انظر عنه: التاريخ الكبير 3/ 390 رقم 1299، الجرح والتعديل 3/ 559، رقم 2528، المعرفة والتاريخ 3/ 138، المغني في الضعفاء 1/ 245 رقم 2264، الكاشف 1/ 264 رقم 744 ميزان الاعتدال 2/ 99 رقم 299.

آداب دخول الكعبة

آداب دخول الكعبة: وأما آداب دخول الكعبة فكثيرة منها: الاغتسال لما رويناه عن عبد الكريم بن أبي المخارق. ومنها: نزع الخف والنعل، لما روينا في سنن سعيد بن منصور عن عطاء وطاوس ومجاهد، وكره مالك دخولها بالخفين والنعلين، وهو قول الحنابلة. ومنها: أنه لا يرفع بصره إلى السقف، لحديث في ذلك رويناه عن عائشة أخرجه الحاكم في "المستدرك"1 وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقد تقدم هذا الحديث في الباب التاسع، وإنما كره رفع البصر في الكعبة، لأنه يولد الغفلة واللهو عن القصد، أشار بذلك المحب الطبري في "القرى". ومنها: أن لا يزاحم زحمة شديدة يتأذى بها أو يؤذي بها أحدا، أشار إلى ذلك النووي وغيره. ومنها أن لا يكلم أحدا إلا لضرورة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر. ومنها: أن يلزم قلبه الخشوع والخضوع وعينيه الدموع إن استطاع ذلك وإلا حاول صورتها، ذَكَرَ هذين الأمرين المحب الطبري، وهذا لفظه2. ومنها: أن لا يسأل مخلوقا، لما رويناه عن سفيان بن عيينة قال: دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: سلني حاجتك. قال: أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره3. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن التارك لسؤال هشام في الكعبة غير سالم بن عبد الله، لأنه قال: حدثنا محمد بن أبي عمر قال: قال سفيان بن عيينة سمعت بعض من يذكر أن هشام بن عبد الملك أو غيره دخل الكعبة عام حج فلم يدع في الكعبة غير منصور الحجبي، فقال له هشام: سل حاجتك، قال منصور: ما كنت لأسأل غير الله في بيته، فلم يسأله شيئا ... انتهى. وحكم النساء في دخولهن الكعبة حكم الرجال من غير خلاف أعلمه في ذلك.

_ 1 مستدرك الحاكم 1/ 479. 2 القرى "ص: 501". 3 القرى "ص: 501، 502".

الباب الحادي عشر

الباب الحادي عشر: ذكر شيء من فضائل الكعبة: لا شك أن فضل الكعبة مشهور لوروده في القرآن العظيم في غير ما آية، ووروده في السنة الشريفة الصحيحة، وإنما أردنا بذكره ههنا للتبرك، فمن الآيات الواردة في ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 و97] . واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس على قولين: أحدهما: أنه أول بيت وضع للعبادة، وكان قبله بيوت لغيرها، وهذا يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والآخر: أنه أول بيت كان في الأرض. قال المحب الطبري: وقوله {مُبَارَكًا} أي كثير الخير لما يحصل لمن حجه، أو اعتمره، أو عكف عنده وطاف حوله من الثواب، وقوله: {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} أي متعبدهم وقبلتهم وقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} مقام عطف بيان على آيات، وبَيَّنَ الجمع بالواحد لاشتماله على آيات أثر قدميه في الصخرة، وبقاؤه وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين. واختلف في أمن الداخل، فقيل: من دخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك، وقيل: من دخله لقضاء النسك، معظما لحرمته عارفا بحقه، متقربا إلى الله عز وجل كان آمنا يوم القيامة، كما جاء: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"1، يعني نهار يوم القيامة، وقيل معناه: أمن من دخله، أي لا

_ 1 انظر: كشف الخفا ومزيل الإلباس 2587.

يقتص منه، كما هو مذهب أبي حنيفة، ويُلجأ إلى الخروج منه. وقيل: معناه غير ذلك. ومن الآيات: قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] قال المحب الطبري: أي قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم، فلا يزال في الأرض دين ما حجت، وعندها المعاش والمكاسب، قال: والمراد بتحريم البيت، سائر الحرم، ونقل عن الضحاك أنه قال: قياما للناس: قياما لدينهم ومعالم حجهم، قال: ويروى نحوه عن السدي، وقال: قال عكرمة: قياما للناس: مكانا لهم. ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما رويناه عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن الزنجي، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا البيت دعامة الإسلام، ومن خرج يؤم هذا البيت من حاج، أو معتمر كان مضمونا على الله عز وجل إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده أن يرده بأجر وغنيمة" 1. ومنها: ما ورد في تنزيل الرحمات على الكعبة كما في "المعجم الكبير" للطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: "إن الله ينزل في كل ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة، ينزل على هذا البيت ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين" 2، ورواه في "الأوسط" إلا أنه قال: "تنزل على هذا المسجد مسجد مكة" 3، وفي رواية: "وأربعون للعاكفين" بدل "المصلين". وأخرجه الأزرقي في تاريخه4، بمعنى رواية الطبراني في الكبير. ووقع لنا عاليا جدا أخبرني به ابن الذهبي بقراءتي عليه، قال: أنبأنا عيسى المعلم حضورا وإجازة قال: أنبأنا ابن اللتي، قال: أنبأنا أبو الوقت قال: أخبرتنا لبنى قالت: أنبأنا ابن شريج، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا عبد الله بن عمران العابدي المخزومي بمكة قال: حدثنا يوسف بن الفيض قال ابن صاعد: هكذا كان يسميه وإنما هو يوسف بن السفر أبو الفيض عن الأوزاعي، عن

_ 1 أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وهو متروك "مجمع الزوائد 3/ 209" ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن داود بن المحبر، وهو متروك. "المطالب 2/ 325". 2 أخرجه: الطبراني في الكبير "11/ 124، 125" رقم "1248". 3 ذكره الزركشي في إعلام الساجد "ص: 111" وعزاه الطبراني في الأوسط، وذكره الهندي في كنز العمال 5/ 53، 54، وعزاه للبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في تاريخ بغداد. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 8.

عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على أهل هذا البيت، فستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين" 1. وذكر الشيخ محب الدين الطبري أنه لا تضاد بين الرواية التي فيها أن الرحمات تنزل على هذا البيت، وبين الرواية التي فيها أنها تنزل على مسجد مكة، لأنه يجوز أن يريد بمسجد مكة البيت، ويطلق عليه مسجد بدليل قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144] ، ويجوز أن يريد مسجد الجماعة وهو الأظهر، ويكون المراد بالتنزيل على البيت التنزل على أهل المسجد، وكذلك قسمت الرحمات على أنواع العبادات الكائنة في المسجد. قال: وقوله: "فستون للطائفين ... " إلى آخره، تحتمل في من تأول القسم بين كل فريقين وجهين: الأول: قسمة الرحمات بينهم على المسمى بالتسوية لا على العمل بالنظر إلى قلته وكثرته وضعفه، وما زاد على المسمى فله ثواب من غير هذا الوجه، ونظير هذا الكلام: أعطي الداخلين بيتي مائة دينار، فدخل واحد مرة وآخر مرارا، فلا خلاف في تساويهما في القسم. الوجه الثاني: وهو الأظهر قسمها بينهم على قدر العمل، لأن الحديث ورد في سياق الحث والتخصيص، وما هذا سبيله لا يستوي فيه الآتي بالأقل والأكثر، واستدل المحب الطبري على ذلك بأمور معنوية ظاهرة2 ... انتهى. ومنها: ما رويناه في "معجم الطبراني الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نَظَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فقال: لا إله إلا الله ما أطيبك وأطيب ريحك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك، إن الله جعلك حراما، وحرَّم من المؤمن ماله ودمه وعرضه، وأن يظن به ظنا سيئا ".

_ 1 أخرجه: ابن عدي في الكامل 7/ 2620، والخطيب في تاريخ بغداد 2/ 472، والفاكهي في أخبار مكة 1/ 89، 99، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان 3/ 116 وابن أبي حاتم في العلل 1/ 287، وابن حبان في المجروحين، وابن الجوزي في العلل، والزركشي في إعلام الساجد "ص: 111" وعزاه للطبراني في الأوسط. 2 القرى "ص: 657".

ذكر شيء من فضائل الحجر الأسود وما جاء في كونه من الجنة

ذكر شيء من فضائل الحجر الأسود وما جاء في كونه من الجنة: روينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن طُمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب" 1 أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والترمذي في جامعه، وقال: حديث غريب. ونقل السهيلي عن الترمذي هذا الحديث إلا أنه قال فيه: "إن الركن الأسود والركن اليماني ياقوتتان" وذكر بقية الحديث بالمعنى، وما نقله السهيلي من أن في هذا الحديث والركن اليماني غير معروف، والمعروف فيه: الحجر الأسود والمقام، ولعل ذلك من السهيلي سَبَقُ قَلم، وقد رأيت ما نقلناه عنه في غير نسخة من تأليفه، قال بعد ذكره لهذا الحديث: وفي رواية غيره ولإبراء من استلمهما من الخرس والجذام والبرص ... انتهى. وروينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم" أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح2. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر الأسود من الجنة" أخرجه النسائي3. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا ما طبع الله من الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها لاشتفي به من كل عاهة، ولألفاه كهيئته يوم خلقه الله تعالى، وإنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، وإنها لياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة" 4. قلت: ذكر شيخنا بالإجازة الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب المقرئ في كون الحجر الأسود من ياقوت الجنة دون غيره من جواهرها حكمة حسنة، لأنه قال فيما أنبأنا به: فإن قلت ما الحكمة في كونه من ياقوتها ولم يكن من غيره من جواهرها؟ قلت: له سر غريب نبهت عليه في كتاب "الرموز" في كشف أغطية الكئوس" وأنا ضنين بذلك، ولكن ألوح بشيء هنا من قشوره، وذلك أن الشمس في الفلك الرابع المتوسط. لو لم يكن وسط الأشياء أحسنها ... ما اختارت الشمس من أفلاكها الوسطى وهي الممتدة لما فوقها وما تحتها من الأفلاك والمعدة في الفلك الرابع من الأنفس، وهي الممتدة لما فوقها وتحتها ويقصرها على النار، ولهذا قال: رسول

_ 1 أخرجه: ابن حبان "3710"، الحاكم "1679". 2 أخرجه الترمذي "877"، وأحمد "1/ 307، 329، والبيهقي في الشعب "4034". 3 أخرجه النسائي 5/ 226، وابن خزيمة 4/ 220، والحديث إسناده حسن. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 323، القرى "ص: 293".

الله صلى الله عليه وسلم: "المعدة بيت الداء" 1، وما خلق الله فيها عينا نباعة تحض معينة على الهضم والتبريد. ومكة في الفلك المتوسط من الدنيا، وهي محل النار، وهي الممتدة للدنيا، قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] أي قواما لدينهم ودنياهم، وجعل الحجر من ياقوت الجنة الذي لا يبالي بالنار ويحصل منه التبريد المعنوي والحسي. وطالما أصلي الياقوت جمر غضا ... ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت ثم سر آخر وهو: أنه نقطة الدائرة الياقوتية، وهذه نكتة من كشف أغطية الكونين، من أراد كشفهما فليصغ أسمعه من ذلك من الميراث النبوي ما لا يسمعه من غيري في هذا الزمان، والله الموفق ... انتهى!! ذكر ما قيل من الحكمة في اسوداد الحجر الأسود بعد بياضه: قال السهيلي بعد أن ذكر شيئا مما يتعلق بالحجر الأسود، وأشار هنا إلى الحكمة في أنه سودته خطايا بني آدم دون غيره من حجارة الكعبة وأستارها، وذلك أن العهد الذي فيه بمعنى الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله، فكل مولود يولد على الفطرة، وعلى ذلك فلولا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى ليسود قلبه بالشرك لما حاد من العهد، فقد صار قلب ابن آدم محلا لذلك العهد والميثاق، وصار الحجر محلا لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق قياسا، فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما حاد عما كان ولد عليه من ذلك العهد، واسود الحجر بعد ابيضاضه، وكانت الخطايا سببا في ذلك، حكمة من الله سبحانه ... انتهى. وقال المحب الطبري: وقد اعترض بعض الملاحدة، فقال: كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك ولا يبيضه توحيد أهل الأيمان؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأول: ما تضمنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم آنفا: أن الله عز وجل إنما طمس نوره ليستر زينته عن الظلمة، وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد كان ذلك السواد له كالحجاب المانع من الرؤية وإن رؤي جرمه، إذا يجوز أن يطلق عليه أنه غير مرئي، كما يطلق على المرأة المستترة بثوب أنها غير مرئية. الثاني: أجاب به ابن حبيب، فقال: لو شاء الله لكان ذلك، وكما علمت أيها المعترض من أن الله تعالى أجرى العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ. والثالث: وهو منقاس: أن يقال إن بقاءه أسود والله أعلم إنما كان للاعتبار ليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر فتأثيرها بالقلوب أعظم2 ... انتهى.

_ 1 لا يصح نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه صحيحا، وينسب للحارث بن كلدة. 2 القرى "ص: 295": وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة "ص: 289".

ذكر ما رؤي من البياض في الحجر الأسود بعد اسوداده: ذكر ابن جبير في خبر رحلته: أن في الحجر الأسود نقطة بيضاء صغيرة مشرقة1 ولم يذكر سواها، وكانت رحلته في سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وقال الفقيه سليمان بن خليل العسقلاني في "منسكه" بعد ذكر الشيء يتعلق بالحجر الأسود: قلت أنا: ولقد أدركت في الحجر الأسود ثلاث مواضع2 بيض في الناحية التي تلي باب الكعبة المعظمة، إحداها: وهي أكبرهن، في قدر حبة الذرة الكبيرة. والأخرى: إلى جنبها، وهي أصغر منها. والثالثة: إلى جنب الثانية، وهي أصغر من الثانية فإنها في قدر حبة الدخن. ثم إني أتلمح تلك النقطة، فإذا هي كل وقت في نقص ... انتهى. ونقل القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" كلام ابن خليل هذا، وذكر أنه رأى الحجر الأسود في سنة ثمان وسبعمائة وفيه نقطة بيضاء ظاهرة، وأنه لم يرها في سنة ست وثلاثين إلا بعد جهد3 ... انتهى. وكنت ذاكرت بهذا الأمر من نحو خمس عشرة سنة بعض مشايخنا فذكر لي أن في الحجر الأسود نقطة بيضاء خفية جدا ... انتهى. ولم يذكر لي موضعها من الحجر، ولعلها النقطة الموجودة فيه الآن، فإن في جانبه مما يلي باب الكعبة من أعلاه نقطة بيضاء قدر حبة سمسمة على ما أخبرني به ثلاثة نفر يعتمد عليهم من أصحابنا الفقهاء المكيين في يوم الجمعة خامس عشر جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة، إلا أن بعضهم لم يخبرني بذلك إلا في يوم السبت ثاني تاريخه، وأخبرني الثلاثة أنهم رأوا ذلك في يوم الجمعة المذكور، وشكرت لهم، فالله يثيبهم.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 67". 2 هكذا وردت بالأصل، والصواب "ثلاثة مواضع". 3 هداية السالك 1/ 59.

ما جاء في شهادة الحجر الأسود يوم القيامة لمن استلمه بحق: روينا في مسند الدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليبعثن الله الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق" 1. وفي رواية "على من استلمه بحق" 2. أخرجه الترمذي وابن حبان وقال: "له لسان وشفتان". وروينا ما يدل لذلك من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وروينا ذلك من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه موقوفا عليه. ما جاء في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم للحجر الأسود واستلامه له: وروينا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن استلام الحجر، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، أخرجه البخاري3 ومسلم4. ما جاء في السجود عليه: وروينا في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر من حديث عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وغيرهما ما جاء في السجود - عليه. وروينا في الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر5. وروينا في سنن البيهقي عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا6. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما في "مسند الإمام الشافعي" أنه قبل الركن وسجد عليه ثلاث مرات7. وروينا ذلك أيضا عن طاوس في تاريخ الأزرقي والبيهقي وغيرهما.

_ 1 أخرجه الدارمي "1839"، أحمد 1/ 247، والبيهقي في السنن 5/ 75، والأزرقي في أخبار مكة 1/ 23. 2 أخرجه الترمذي "961" وأحمد 1/ 26،وابن حبان "37" وابن ماجه "2944" وأبو يعلى "2711". 3 أخرجه البخاري 3/ 379. 4 أخرجه مسلم "الحج: 1267. 5 أخرجه: الترمذي "862" وأحمد 1/ 257، 309، والنسائي "3918، 3119". 6 أخرجه البيهقي في سننه "5/ 74"، وابن حبان "3821". 7 مسند الإمام الشافعي "ص: 126".

ولم ير الإمام مالك السجود على الحجر وقال: هو بدعة، وخالفه الجمهور في ذلك، والله أعلم. ما جاء في الإكثار من استلامه: روينا في "تاريخ الأزرقي" بالسند المتقدم إليه: قال حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني زهير بن محمد، عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا استلام هذا الحجر فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله تعالى لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة" 1. ما جاء في مفاوضة الحجر الأسود: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن" أخرجه ابن ماجه. قال المحب الطبري: وقوله: فاوض أي لامس وخالط، من مفاوضة الشريكين وتفويض كل منهما إلى صاحبه2 ... انتهى. ما جاء في أن الحجر الأسود يمين الله يصافح بها عباده واستجابة الدعاء عنده: روينا في تاريخ الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن أبي إسماعيل، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي حسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الركن يمين الله عز وجل- يصافح بها خلقه، والذي نفس ابن عباس بيده ما من امريء مسلم يسأل الله تعالى عنده شيئا إلا أعطاه إياه3 ... انتهى. وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبي 4 عبد القاسم بن سلام روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". ورواه أبو طاهر المخلص في "فوائده" في الجزء الثاني من التاسع وزاد: "فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح الحجر الأسود بيده فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم".

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 342، 343. 2 سنن ابن ماجه "2/ 985" القرى "ص: 279، 280"، وابن عدي في الكامل 2/ 690 والحديث إسناده ضعيف. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 326. 4 هكذا بالأصل، والصواب: "لأنه أبا عبيد".

قال المحب الطبري: ومعنى الحديث والله أعلم أن كل ملك إذا قُدِمَ عليه قُبِلَت يمينه، ولما كان الحاج والمعتمر أول ما يقدمان يسن لهما تقبيله نزل منزلة يمين الملك ويده، ولله المثل الأعلى، وكذلك من صافحه كان له عند الله عهد، كما أن الملوك تعطي العهد بالمصافحة، والله أعلم1. أنشدني العلامة بدر الدين أحمد بن محمد بن الصاحب المصري إجازة لنفسه قوله: للحجر الأسود كم لاثم ... وساجد مرغ فيه الجباه تزدحم الأفواه في ورده ... كأنه ينبوغ ماء الحياة وقوله فيما أنبأنا به: في الحجر الأسود كم أودعت ... أسرار أنس من علوم الغيوب تزدحم الأفواه في لثمه ... كأنه يلفظ قوت القلوب وقوله فيما أنبأنا به: للحجر الأسود سر خفي ... وقد بدا للعين منه شهود قد ضمت قلوب الورى ... كأنه قلب سواد الوجود وقوله فيما أنبأنا به: أقول وقد زوحمت عن لثم أسود ... من البيت إن تحجب فما السر يحجب فإنك مني بالمحل الذي به ... محل سواد العين، أو أنت أقرب

_ 1 القرى "ص: 280" عزاء المحب الطبري لأبي عبد القاسم بن سلام، وأبي طاهر المخلص في فوائده وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن.

ذكر فضل الركن اليماني وما جاء في تقبيله ووضع الخد عليه

ذكر فضل الركن اليماني وما جاء في تقبيله ووضع الخد عليه روينا في "سنن الدارقطني" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه1. وروينا في تاريخ البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله2.

_ 1 سنن الدارقطني 2/ 290 والبيهقي في سننه 5/ 76، والحاكم في المستدرك "1675" وصححه ووافقه الذهبي، وعبد الله بن هرمز: قال عنه أبو زرعة الرازي: ليس بالقوي، وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ليس بالقوي "جامع الجرح والتعديل: 2325". 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 122، وأحمد في المسند 1/ 54.

وروينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن ويضع خده عليه1. قلت: تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم الركن اليماني ووضع خده عليه، لا يثبت، وأما استلامه له فثابت. ما جاء في استلام النبي للركن اليماني: روينا في مسند أحمد بن حنبل وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوافه، وكان هو يفعله، أخرجه أبو داود2 والنسائي. وقال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث: وفيه دلالة على استحباب التقبيل والاستلام في كل طواف، واستحبه بعضهم في كل وتر، وروي ذلك عن الشافعي وطاوس3 ... انتهى. وقوله: وفيه دلالة على استحباب التقبيل، يعني في الحجر الأسود لا في الركن اليماني والاستلام فيها، والله أعلم. ما جاء في المزاحمة على استلام الركن اليمان والحجر الأسود وأن مسحهما كفارة للخطايا: وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يزاحم على الركنين، فقيل له في ذلك، فقال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مسحهما كفارة للخطايا" أخرجه الترمذي4. وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحط الخطايا حطا" أخرجه أحمد بن حنبل وابن حبان في صحيحه5.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 2 أخرجه أبو داود "1874"، النسائي "5/ 231". 3 القرى "ص: 281". 4 أخرجه الترمذي 4/ 181، "كتاب الحج: باب ما جاء في استلام الركنين"، وعبد الرزاق في مصنفه 5/ 29، والأزرقي في أخبار مكة 1/ 331، والطبراني في الكبير 12/ 390. 5 مسند أحمد بن حنبل 3/ 89، 95، ابن حبان في موارد الظمآن "ص: 247" وابن خزيمة 4/ 227، وأخبار مكة للفاكهي 1/ 127.

ما جاء في عدم استحباب ذلك للنساء بحضره الرجال: روينا عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لامرأة: "لا تزاحمي على الحجر، إن رأيت خلوة فاستلمي، وإن رأيت زحاما فكبرى وهللي إذا حاذيتِ، ولا تؤذي أحدًا" أخرجه سعيد بن منصور. وروينا عن عائشة بنت سعد أنها قالت: كان أبي يقول: إذا وجدتن فرجة من الناس فاستلمن وإلا فكبرن وامضين. أخرجه الإمام الشافعي. وفي البخاري: عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها ما يقتضي ترك استلام الحجر للنساء، وهو محمول على ما إذا حضر الرجال كما هو مقتضى الخبر الذي رواه سعيد بن منصور في "سننه" والله أعلم. ما جاء في إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من استلامه واستغفار الملائكة لمن استلمه: روينا في تاريخ الأزرقي عن عطاء قال: قيل: يا رسول الله: تكثر من استلام الركن اليماني؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ما أتيت عليه قط إلا وجبريل عليه الصلاة والسلام قائم عنده يستغفر لمن استلمه" 1. ما جاء في تأمين الملائكة على الدعاء عنده واستجابة الدعاء عنده: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وُكِّلَ به سبعون ملكا -يعني: الركن اليماني- فمن قال: اللهم إن أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قالوا: آمين" أخرجه ابن ماجه وغيره2. وروينا في تاريخ الأزرقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: على الركن اليماني ملكان يؤمنان على دعاء من مر بهما، وإن على الحجر الأسود من الملائكة ما لا يحصى3. وروينا فيه عن مجاهد قال: من وضع يده على الركن اليماني ثم دعا استجيب له4.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 2 سنن ابن ماجه "2958" بلفظ "سبعون ملكا" والديلمي في الفردوس "7332"، وابن عدي في الكامل 4/ 275، والفاكهي في أخبار مكة 1/ 183. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 4 سنن ابن ماجة "2957".

وسيأتي في خبر المستجار وهو عند الركن اليماني شيء من هذا المعنى. ما جاء في أن الركن اليماني باب من أبواب الجنة: روينا في تاريخ الأزرقي عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: يا بنيّ أَدْنِنِي من الركن اليماني، فإنه كان يقال: إنه باب من أبواب الجنة1. وروينا نحوه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وذكر السهيلي شيئا من سبب تسمية الركن اليماني بالركن اليماني، لأنه قال: وأما الركن اليماني فسمي باليماني فيما ذكر القتبي، لأن رجلا من اليمن بناه اسمه أبي بن سالم وأنشد: لنا الركن اليماني2 من البيت الحرام ... وراثة بقية ما أبقى أُبَيّ بن سالم3 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338، وسنن ابن ماجه "2887". 2 "اليماني" ليست في الروض الأنف 1/ 224. 3 الروض الأنف 1/ 224.

الباب الثاني عشر

الباب الثاني عشر: ذكر ما ورد في ثواب الطواف عموما من غير تقييد بزمن: أخبرني ابن أبي المجد الخطيب، عن الدشتي قال: أخبرنا ابن خليل الحافظ قال: أنبأنا الداراني قال: أنبأنا الحداد، قال: أنبأنا أبو نعيم الحافظ قال: أنبأنا ابن فارس قال: أنبأنا يونس بن حبيب قال: أخبرنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا همام، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من طاف بهذا البيت سبعا يحصيه كتب له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة، وكان له عدل رقبة" أخرجه الترمذي وحسنه1. وأخرج النسائي بعضه، ولفظه: "من طاف بالبيت سبعا فهو كعدل رقبة" 2 وكذلك أخرجه ابن ماجه، إلا أنه قال: "من طاف بالبيت وصلى ركعتين" 3 وفي بعض طرق الحديث: "خلف المقام". ومعنى يحصيه: أي يتحفظ فيه لئلا يغلط، قاله ابن وضاح وغيره. وروينا في صحيح ابن حبان وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما عليه، ودعوا له دعاء حسنا، ثم قالا: جئناك يا رسول الله نسألك ... الحديث بطوله، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصاري: "وأما طوافك بالبيت: فإنك لا تضع قدما ولا

_ 1 أخرجه الترمذي "2/ 292 استلام الركنين، والبيهقي في الشعب "4041". 2 أخرجه النسائي "5/ 21". 3 أخرجه ابن ماجه "2956".

ترفعها إلا كتب الله تعالى لك بها حسنة، ومحا بها عنك خطيئة، ورفعك بها درجة، وأما ركعتيك 1 بعد الطواف فكعتق رقبة. وأما طوافك بالبيت بعد ذلك يعني الحج: فإنك تطوف ولا ذنب عليك" 2. وأنبأني أبو بكر بن محمد بن عبد الرحمن المزي ابن أخي الحافظ أبي الحجاج المزي، أن أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجار أخبره سماعا، وأخبرني المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي سماعا بطيبة، عن أحمد بن أبي طالب إذنا قال: أنبأنا أحمد بن يعقوب المارستاني قال: قال أنبأنا ابن النحاس، عن أبي القاسم بن التسري قال: أنبأنا ابن النحاس، عن أبي القاسم بن التسري قال: أنبأنا أبو طاهر قال: حدثنا يحيى هو ابن صاعد قال: حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا ابن يحيى بن يمان، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" أخرجه الترمذي عن سفيان بن وكيع فوقع لنا موافقة له عليه، وقال: حسن غريب3 ... انتهى. والمراد بالخمسين مرة: خمسون أسبوعا، لأنا روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طاف بالبيت خمسين أسبوعا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وهذه الرواية في معجم الطبراني، وساقها عنه المحب الطبري بسنده، وعزا ذلك أيضا لمصنف عبد الرزاق وقال: قال أهل العلم: وليس المراد أن يأتي بها متوالية في آن واحد، وإنما المراد أن يوجد في صحيفة حسناته ولو في عمره كله4 ... انتهى. وذكر المحب الطبري أن بعض أهل العلم ذكر أن لعدد الطواف سبع مراتب: الأول: خمسون أسبوعا في اليوم والليلة، للحديث المتقدم. الثاني: إحدى وعشرون، فقد قيل: سبعة أسابيع بعمرة، ورود ثلاث عمر بحجة. الثالث: أربعة عشر، فقد ورد عمرتان بحجة، وهذا في غير عمرة رمضان، لأن العمرة فيه كحجة. الرابع: اثنا عشر أسبوعا، خمسة بالنهار، وسبعة بالليل كما تقدم من فعل آدم عليه السلام، وفعل ابن عمر رضي الله عنهما. الخامس: سبعة أسابيع.

_ 1 كذا في الأصل، والصحيح: "ركعتاك". 2 وأخرجه الأزرقي 2/ 5، والأصبهاني في الترغيب "1060، 1036"، وسنده قوي. 3 سنن الترمذي 3/ 219، ورسالة الحسن البصري. 4 القرى "ص: 324".

السادس: ثلاثة أسابيع. السابع: أسبوع واحد، والله أعلم. نقل هذا عن المحب الطبري: القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه"، وهذا لفظه بحروفه1. والأحاديث الواردة في فضل الطواف أكثر من هذا، وإنما اقتصرنا على هذه الأحاديث الثلاثة، لأنها أجود إسنادا من غيرها، وفي "أخبار مكة " للأزرقي، وأخبارها للفاكهي، وفضائلها للجندي، ورسالة الحسن البصري، جمل كثيرة من فضائل الطواف، وقد ذكرنا بعض ذلك في أصل هذا الكتاب وفيما ذكرناه هنا كفاية. ما جاء في فضل الطواف في الحر: روينا في "أخبار مكة" للجندي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من طاف حول البيت سبعا في يوم صائف شديد حره، وحسر على رأسه، وقارب بين خطاه، وقل التفاته، وغض بصره، وقل كلامه إلا بذكر الله تعالى، واستلم الحجر في كل طواف من غير أن يؤذي أحدا، كتب الله له بكل قدم يرفعها ويضعها سبعين ألف حسنة، ويعتق عنه سبعين رقبة، ثمن كل رقبة عشرة آلاف، ويعطيه الله سبعين ألف شفاعة إن شاء في أهل بيته من المسلمين، وإن شاء في العامة، وإن شاء عجلت له في الدنيا، وإن شاء أخرت له في الآخرة" هذا حديث ضعيف الإسناد جدًّا2. ما جاء في الطواف في المطر: أخبرني ابن الذهبي قال: أنبأني المطعم حضورا وإجازة، قال: أنبأنا ابن اللَّتِّي قال: أنبأنا أبو الوقت قال: أخبرتنا لُبنى قالت: أنبأنا ابن أبي شريح قال: حدثنا يحيى هو ابن صاعد قال حدثنا عبد الله بن عمر أن العايدي قال: حدثنا داود بن عجلان، عن أبي عقل قال: طفت مع أنس بن مالك رضي الله عنه في يوم مطير، فقال أنس رضي الله عنه: طفت مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مطير، فقال: "ائتنفوا3 للعمل فقد كُفِيتُم ما مضى" أخرجه ابن ماجه، وأخرجه الأزرقي عن جده، وابن أبي عمر عن داود. فوقع لنا بدلا له عاليا بدرجتين، وهو حديث ضعيف الإسناد جدا، لمكان أبي عقال وهو هلال بن يزيد4.

_ 1 هداية المسالك 1/ 56، القرى "ص: 323". 2 أخرجه الأصبهاني في الترغيب "1041" وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بتحقيقنا "ص: 284"، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 4. 3 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 21، "استأنفوا". 4 سنن ابن ماجه 2/ 1041، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 21.

ما جاء في الطواف إذا وقع بعد صلاة الصبح أو العصر وانقضى مع طلوع الشمس أو غروبها: روينا في تاريخ الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن عبد الرحمن بن زيد العمي عن أبيه، عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فيغفر له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت: طواف بعد صلاة الصبح وفراغه مع طلوع الشمس، وطواف بعد صلاة العصر وفراغه مع غروب الشمس"1. قال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث: ويحتمل أن يريد بالبعدية ما بعد الطلوع والغروب ولو بلحطة لتسع أسبوعا، ويحتمل أن يريد استيعاب الزمنين بالعبادة ولعله الأظهر، وإلا لقال طواف قبل الطلوع وقبل الغروب، وعلى هذا فيكون حجة، على من كرهه في الوقتين2 ... انتهى. وقال المحب الطبري لما ترجم على هذا الحديث: "ما جاء في فضل الطواف عند طلوع الشمس وغروبها"، وهكذا ترجم عليه الأزرقي: "ما جاء في تفضيل الطواف على الصلاة". قال الفاكهي: حدثنا محمد بن نصر المصري قال: حدثنا أيوب بن سويد الرملي قال: حدثنا محمد بن جابر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان أحب الأعمال إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم مكة الطواف بالبيت3 ... انتهى. وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يدل على تفضيل الطواف على الصلاة ولكن الحديث لا تقوم به حجة لضعف إسناده، فإن فيه يوسف بن السفر وهو متروك4. وقد تقدم هذا الحديث في الباب الحادي عشر، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على أهل البيت، فستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين" 5.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 253، والأزرقي 2/ 22، والحديث إسناده ضعيف جدا، وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو متروك الحديث، والقرى "ص: 33" والجامع الأزهر للمناوي 2/ 11 وعزاه للطبراني في الكبير. 2 القرى "ص: 330". 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 238، والحديث ذكره المحب الطبري في القرى "ص: 323" وعزاه لأبي ذر، وكذلك في هداية المسالك 1/ 55. 4 الجرح والتعديل 9/ 223. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 8.

وقد استدل به على تفضيل الطواف على الصلاة: الماوردي، وسليمان بن خليل. وقال المحب الطبري لما تكلم على هذا الحديث بعد أن ذكر كيفية قسمة الرحمات بين كل فريق: إذا تقرر ذلك، فالتفضيل في الرحمات بين المتعبدين بأنواع العبادات الثلاث أدل دليل على أفضلية الطواف على الصلاة، والصلاة على النظر إذا تساووا في الوصف، هذا هو المتبادر إلى الفهم عند سماع ذلك فيختص به1. ومما ورد من الأحاديث المتقدمة في ذكر فضل الطواف عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، "الصلاة خير موضوع". أو يقول: الطواف نوع من الصلاة بشهادة ما تقدم من الأحاديث في أركان الشروط، فيكون داخلا في عموم حديث تفضيل الضلاة على سائر أعمال البدن، ولا ينكر أن بعض الصلاة أفضل من بعض، وأورد على ذلك سؤالا وأجاب عنه، ثم قال: ووجه تفضيل هذا النوع من الصلاة وهو الطواف على غيره من الأنواع: ثبوت الأخصية له بمتعلق الثلاثة، وهو البيت الحرام ولا خفاء بذلك، ولذلك بدأ في الذكر هنا وفي قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} في الآيتين، ولما كانت الصلاة على تنويعها لم تشرع إلا عبادة، والنظر قد يكون عبادة إذا قصد التعبد به، وقد لا يكون، وذلك إذا لم يقترن به قصد التعبد به تأخر في المرتبة. وقولنا: إذا تساووا في الوصف يحترز مما إذا اختلف وصف المتعبدين، فكان الطائف ساهيا غافلا، والمصلي والناظر خاشعا يعبد الله كأنه يراه، أو كأن الله يراه، كان المتصف بذلك أفضل من غير المتصف به، إذ ذلك الوصف لا يعد له عمل جارحة خاليا منه وهو المشار إليه -والله أعلم- في قوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الأعراف: 170] . وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وكثير من العلماء يذهب في توجيه اختلاف القسم بين الطائفين، والمصلين، والناظرين: بأن الرحمات المائة والعشرين قسمت ستة أجزاء، فجعل جزء للناظرين، وجزآن للمصلين، لأن المصلي ناظر في الغالب، فجزء للنظر، وجزء للصلاة، والطائف لما اشتمل على المعاني الثلاثة، كان له ثلاثة أجزاء: جزء للنظر، وجزء الصلاة وجزء للطواف، وهذا القائل لا يثبت للطواف أفضلية على الصلاة وإنما يثبت بقوله: "كثرة الرحمات له"! بسبب اشتماله على الصلاة وما ذكرناه أولى، وفيما ذكره نظر، فإن الطائف الأعمى، وكذلك المصلي ينالهما ما يثبت للطائف والمصلي، وإن لم ينظرا، وكذا المتعمد ترك النظر فيها لا ينتقص قسمه بسبب ذلك، فدل ذلك على أن المراد صلاة غير ركعتي الطواف. فإن كثرة الطواف منسوبة إليه إما وجوبا أو ندبا، فهي منه. وأما النظر فيه: فإن لم يقترن بقصد التعبد فلا أثر له، وإن قصد به التعبد، فالظاهر أنه

_ 1 القرى "ص: 326".

ينال به أجر الناظر زائدا على أجر الطواف، والله أعلم ... انتهى كلام المحب الطبري1 وهو كلام نفيس متجه شاف في هذه المسألة. وفرق فيها بعض العلماء بين الغرباء وأهل مكة فقال: إن الطواف للغرباء أفضل، لعدم تأتيه لهم كل وقت، والصلاة لأهل مكة أفضل لتمكنهم من الأمرين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغير واحد من العلماء والله أعلم. ما جاء في تفضيل الطواف على العمرة: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا الزنجي، عن ابن جريج قال: أخبرني قدامة بن موسى بن قدامة بن مظعون قال: إن أنس بن مالك رضي الله عنه قدم المدينة، فركب إليه عمر بن عبد العزيز، فسأله عن الطواف للغرباء أفضل أم العمرة؟ فقال: بل الطواف2. قال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث ومراد أنس والله أعلم أن تكرار الطواف أفضل من العمرة، ولا يريد به طواف أسبوع واحد، فإنه موجود في العمرة. وقد ذهب قوم من أهل عصرنا إلى تفضيل العمرة عليه، ويرون الاشتغال بها أفضل من تكراره والاشتغال به، ويستفرغون وسعهم فيها بحيث لا يبقى في أحدهم من يستعين بها على الطواف، وذلك خطأ ظاهر، وأول دليل على خطئه: مخالفة السلف الصالح في ذلك قولا وفعلا، إذ لم ينقل تكرارها والإكثار منها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، واستدل على ذلك المحب الطبري ثم قال: وقد أفردنا الكلام في هذه المسألة تأليفا، وبسطنا القول فيه على أن لا يدعى كراهة تكرارها بل يقول: إنها عبادة كثيرة الفضل، عظيمة الخطر، لكن الاشتغال بتكرار الطواف في مثل مدتها أفضل من الاشتغال بها3، والله أعلم ... انتهى كلام المحب الطبري. وتأليفه المشار إليه هو المسمى: "عواطف النصرة في تفضيل الطواف على العمرة". وقال القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" بعد أن ذكر كلام المحب الطبري هذا: وهو حسن، ثم قال: وكيف يكون حال من يجعل نفسه قصيا متعبدا لينال فضيلة القصد والزيارة، أفضل من حال من هو بالحضرة مشاهد مقيم يتردد حول المقصود والمزار بخطوات ترفع الدرجات، وتكسب الحسنات، وتمحو الأوزار؟ ولهذا كان رأي السلف الصالح تعهد العمرة دون الإشتغال بها عن الطواف بحيث لا تصير مهجورة، والله أعلم. والخير في اتباعهم ... انتهى كلام ابن جماعة4.

_ 1 القرى "ص: 327: 328". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 3. 3 القرى "ص: 334-336". 4 هداية السالك "2/ 927.

وقد أخبرني عنه خالي سماعا، وقد جنح إلى ذلك أيضا على ما بلغني بعض العلماء المعاصرين لابن جماعة وهو العلامة شمس الدين أبو أمامة محمد بن علي المعروف بابن النقاش الشافعي، وألفيت بخط بعض أصحابنا أن لأبي أمامة بن النقاش هذا تأليفا جليلا في المنع في العمرة من مكة لمن هو مقيم بها ... انتهى. وأستبعد أن يكون لأبي أمامة تأليف في منع المقيم بمكة من العمرة، فإنه لا وجه لذلك، ولعل تأليفه في عدم استحباب تكرار العمرة، والله أعلم. وللإمام الكبير تقي الدين ابن تيمية كلام يقتضي عدم استحباب تكرار العمرة من مكة وإنكاره؛ لأنه قال: ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان، ولا في غير رمضان والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج إلا عائشة رضي الله عنها ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين ... انتهى. وخالف في ذلك من أهل عصره على ما بلغني خطيب دمشق: جمال الدين محمود بن جملة الشافعي، والشيخ العلامة الولي العارف عبد الله اليافعي، وصنف في ذلك كتابا سماه: الدرة المستحسنة في تكرار العمرة في السنة". وسئل شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني عن العمرة والطواف أيهما أفضل؟ وما الذي يفتي به في ذلك؟ فقال: والمفتى به في ذلك: أن تكرار العمرة أفضل ولا سيما في رمضان انتهى. وكذلك قال تلميذه العلامة زين الدين الفارسكوري، وصنف في ذلك كتابا سماه "الإنصاف في تفضيل العمرة على الطواف". وسمعت بعض مشايخنا يحكي عن بعض العلماء أن المعتمر يمتاز عن الطائف بأمرين: أحدهما: الدخول في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين والمقصرين. والآخر: دعوته صلى الله عليه وسلم للحاج والمعتمر بزيادة التشريف والتكريم والتعظيم والبر. هذا معنى ما سمعته من مشايخنا، وهو كلام متجه، لأنه كلما اعتمر فاز بذلك، ويعظم الفوز بذلك بتكراره، والله أعلم. ولعل محل الخلاف فيما إذا اشتغل إنسان بالعمرة حتى فرغ منها، وآخر بالطواف مدة اشتغال المعتمر بالعمرة، وليس في محل الخلاف الاشتغال عن الطواف بالعمرة في جميع الزمن أو أكثره بأن يكرر الخروج للتنعيم للعمرة في اليوم الواحد أو الليلة فلا يبقى فيه بعد ترويح بدنه للطواف إلا نشاط قليل، ولا سيما إن كرر ذلك في الأيام والليالي كما يصنع كثير من الناس في شهر رمضان، حتى أن بعضهم يخرج إلى التنعيم للعمرة في اليوم الواحد ثلاث مرات، ويحكى عن بعضهم أكثر من ذلك، وكل هذا لا

يعرف مثله عن السلف المقتدى بهم فهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أقاموا بمكة بعد أن فتح الله عليهم، بضع عشرة ليلة، أولها العشر الأخير من رمضان، فما نقل أخباري عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه خرج في هذه المدة إلى التنعيم للاعتمار، ولو وقع ذلك لنقل كما نقل غيره من أفعالهم، ولم ينقل عمن كان بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين تكرار الخروج في اليوم الواحد إلى التنعيم، ولا الخروج إليه للعمرة في كل يوم إلا ما يروى عن علي وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يعتمران في كل يوم، وهذا عنهما في بعض كتب الفقه فيما ذكره القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه الكبير" قال: وليس لذلك أصل في كتب الحديث1 ... انتهى. والذي صح عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: الخروج إلى التنعيم للعمرة من غير تكرار، فالاقتصار على فعل مثل ما نقل عنهم أولى، لأنهم أعرف الناس بأفضل العبادات، وأشدهم حرصا على فعل أفضلها، والله أعلم بالصواب. ما جاء في فضل الطائفين: أخبرني ابن الذهبي بقراءتي عليه قال: أنبأنا الأمين بن النحاس حضورا إجازة قال: أنبأنا الساوي قال: أنبأنا السلفي قال: أنبأنا العلاف قال: أنبأنا ابن بشر قال: أنبأنا الأجري قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن يحيى الحلواني قال: حدثنا يحيى بن أيوب العابد قال: حدثنا محمد بن صبيح بن السماك، عن عائذ بن بشير، عن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يباهي بالطائفين" 2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكرم سكان السماء على الله تعالى: الذين يطوفون حول عرشه، وأكرم سكان الأرض الذين يطوفون حول بيته" ذكر هذا الحديث هكذا سليمان بن خليل في "منسكه"، ورويناه في "رسالة الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروينا فيها من قول الحسن: وإن الله عز وجل ليباهي بالطائفين ملائكته، ولو أن الملائكة صافحت أحدا لصافحت الطائفين حول بيت الله3 ... انتهى باختصار.

_ 1 هداية السالك 2/ 927. 2 أخرجه: أبو يعلى "4589"، والبيهقي في الشعب "4097" وابن عدي في الكامل "2/ 2992"، والأصبهاني في الترغيب "1062"، وأخبار مكة للفاكهي 1/ 194، وذكره السيوطي في الجامع الكبير 1/ 182، وعزاه لأبي نعيم في الحلية. 3 هداية السالك 1/ 53.

قلت: إذا كان الطائف بهذه المزية، فينبغي له إخلاص النية، وحفظ اللسان عما يؤدي إلى النقصان، وما أحسن قول الشيخ محب الدين الطبري: واعلم أن التحدث في الطواف على غير النحو المتقدم في الفصل قبله خطأ كبير وغفلة عظيمة، ومن لابس ذلك فقد لابس ما يمقت عليه، خصوصا أنه صدر ممن ينسب إلى العلم والدين فإنه إذا أنكر على من دونه واحتج به فصار فتنة لكل مفتون، ومن أمر محادثة المخلوق في أمر الدنيا، والإقبال عليه، والإصغاء لحديثه على ذكر خالقه، والإقبال عليه وعلى ما هو متلبس به عبادته، فهو عين الرأي، لأن طوافه بجسده، وقلبه لاه ساه، وقد غلب الخوض فيما لا يعنيه حتى استرسل في عبادته، كذلك فهو إلى الخسران أقرب منه إلى الربح، ومثل هذا خليق بأن يشكوه إلى الله عز وجل وإلى جبريل عليه السلام ولعل الملائكة تتأذى به، وكثير من الطائفين يتبرءون منه، فعلى الطائف أن يبذل جهده في مجانبة ذلك1 ... انتهى. وقال سليمان بن خليل: وليحذر أن يكون ممن وصفه بعض العلماء العاملين فقال: يا من يطوف ببيت الله بالجسد ... والجسم في بلد والروح في بلد! ماذا فعلت وماذا أنت فاعله؟ ... بهرج في اللقا للواحد الصمد إن الطواف بلا قلب ولا بصر ... على الحقيقة لا يشفي من الكمد

_ 1 القرى "ص: 324، 325".

ذكر بدء الطواف بهذا البيت المعظم وما ورد من طواف الملائكة

ذكر بدء الطواف بهذا البيت المعظم وما ورد من طواف الملائكة ... ذكر بدء الطواف بهذا البيت العظيم وما ورد من طواف الملائكة: روينا في تاريخ الأزرقي أن بعض أهل الشام سأل بمكة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن بدء الطواف بهذا البيت، فقال له علي بن الحسين: أما بدء الطواف بهذا البيت: فإن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . قالت الملائكة: يا رب، أخليفة من غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون ويتنازعون؟ أي رب اجعل ذلك الخليفة منا، فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتحاسد ولا نتباغض1 ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ونطيعك ولا نعصيك. قال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] قال: فظنت الملائكة إنما قالوا ردًّا على ربهم عز وجل وأنه قد غضب من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا رءوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون إشفاقا لغضبه، وطافوا بالعرش ثلاث ساعات، فنظر

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي قدم "تباغض" على تحاسد وزاد "ولا نتباغى".

الله إليهم، فنزلت الرحمة عليهم، فوضع الله تعالى تحت العرش بيتا على أربع أساطين من زبرجد، وكساهن بياقوتة حمراء، وسمى البيت الضراح، ثم قال الله عز وجل للملائكة: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش. قال: فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش، وصار أهون عليهم. وهو البيت المعمور الذي ذكره الله عز وجل يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا، ثم إن الله عز وجل بعث ملائكة فقال: ابنوا لي بيتًا في الأرض بمثاله وقدره، وأمر الله من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، فقال الرجل: صدقت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم1 ... انتهى. وروينا نحوه بالمعنى مختصرا في كتاب "النسب" للزبير بن بكار قاضي مكة. وروينا في "تاريخ الأزرقي" وغيره أخبارا أُخر تدل على طواف الملائكة بالبيت منها: ما رواه الأزرقي بسنده إلى وهب بن منبه قال: وقرأت في كتاب من الكتب الأولى ذكر فيه الكعبة، فوجد فيه، أنه ليس من ملك بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت فينقضّ من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر، ثم يطوف سبعًا، ويركع في جوفه ركعتين ثم يصعد2. ومنها: ما رواه بسنده عن محمد بن المنكدر قال: كان أول شيء عمله آدم عليه السلام حين أهبط من السماء طاف بالبيت الحرام، فلقيته الملائكة فقالوا: بر نسكك يا آدم فإنا قد طفنا بهذا البيت قبلك بألفي سنة.

_ 1 الروض الأنف 1/ 22، 222، أخبار مكة للأزرقي 1/ 33، 34. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 39.

ذكر طواف بعض الجن والدواب والطير بالكعبة

ذكر طواف بعض الجن والدواب والطير بالكعبة: روينا في تاريخ الأزراقي خبرا فيه أن الجن طاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام، ثم انقلب إلى أهله فقتله شاب من بني سهم، فثارت بمكة غيرة وفتنة بين الجن وبين بني سهم1. وروينا في تاريخ الأزرقي أيضا خبرًا فيه: أن أنمار وهي الحية الذكر طاف بالبيت سبعا وصلى ركعتين وراء المقام، ثم كوم برأسه كومة بطحاء فوضع ذنبه عليها، فسما إلى السماء فما رُئي. وروين في تاريخ الأزرقي: أن طيرا طاف على منكب بعض الحجاج أسابيع والناس ينظرون إليه وهو مستأنس منهم، ثم طار وخرج من المسجد الحرام، وذلك في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائتين2.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 15، 19. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 17، 18، وإتحاف الورى 2/ 294، 295.

ما جاء من أن شرعية الطواف لإقامة ذكر الله

ما جاء من أن شرعية الطواف لإقامة ذكر الله: روينا في مسند الدارمي بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما جعل الطواف بالبيت، ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، لإقامة ذكر الله، وروينا فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه1، وأخرج المحب الطبري في "القرى" عنها مرفوعا، وزاد بعد قوله: "ذكر الله تعالى": وإن لم يقترن بها ذكر بالقول، ثم قال: وينبغي للذاكر في الطواف والتالي أن لا يزيد في رفع صوته على إسماع نفسه لئلا يشوش على غيره، واستدل على ذلك بما يقوم به الحجبة، ثم قال: وفي معنى الطائف من كان في المسجد قريبا من الطواف، ينبغي له أن لا يرفع صوته بتلاوة ولا ذكر؛ لئلا يشوش على الطائفين2 ... انتهى باختصار، وهو كلام متجه، والله أعلم.

_ 1 أخرجه أبو داود "باب في الرمل 2/ 179 بلفظه"، والترمذي "ما جاء كيف يرمي الجمار" 3/ 246، ولفظه "إنما جعل رمي الجمار والحصى بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله" وقال الترمذي: "حسن صحيح". 2 القرى "ص: 312".

ذكر ثواب النظر إلى الكعبة

ذكر ثواب النظر إلى الكعبة: تقدم في هذا المعنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في تنزل الرحمات، وفيه: "عشرون للناظرين". وروينا في تاريخ الأزرقي عن عطاء قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: النظر إلى الكعبة محض الإيمان1. وروينا فيه عن إبراهيم النخعي: أن حماد بن أبي سلمة قال: الناظر إلى الكعبة كالمجتهد في العبادة في غيرها. وروينا فيه عن يونس بن حبان قال: النظر إلى الكعبة عبادة فيما سواها من الأرض، عبادة الصائم القائم الدائم القانت2. وروينا فيه عن مجاهد قال: النظر إلى الكعبة عبادة3. وروينا عن سعيد بن المسيب قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه4. وروينا عن أبي السائب المديني، قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا تحاتت عنه الذنوب كما يتحات الورق من الشجر5. وروينا فيه عن زهير بن محمد قال: الجالس في المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف به ولا يصلي أفضل من المصلي في بيته لا ينظر إلى البيت6. وروينا فيه عن عطاء قال: النظر إلى البيت عبادة، والنظر إلى البيت كمنزلة الصائم القائم الدائم المخبت المجاهد في سبيل الله عز وجل7.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 8. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 6 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 7 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9.

ذكر ثواب الحج والعمرة

ذكر ثواب الحج والعمرة: وروينا في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغيرهم أخبارا كثيرة مشهورة ثابتة، منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج لله عز وجل فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه، واللفظ للبخاري1. وفي رواية لمسلم: "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه" 2. ورواه النسائي3 فقال: "من حج أو اعتمر" ... الحديث. والرفث: الجماع، قاله ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم. وقيل: اسم لكل لهو وخِنا وزُور وفجور بغير حق. والفسوق: المعاصي، قاله ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. ومنها: ما روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" متفق عليه4، ومعنى ليس له جزاء إلا الجنة: أنه لا يقتصر فيه على تكفير الذنوب بل لا بد أن يبلغ به الجنة. ومنها: ما رويناه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجة المبرورة تكفر خطايا سنة" أخرجه ابن حبان في صحيحه5. ومنها: ما رويناه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحج يهدم ما قبله". رواه مسلم. ومنها: ما رويناه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب،

_ 1 أخرجه البخاري "1521"، ومسلم "1350"، وأحمد 2/ 484، والدارقطني "2519"، والبغوي في شرح السنة "1814"، والبيهقي 5/ 262، والطيالسي "2519"، وابن حبان "3694"، وابن ماجه "2889"، النسائي "2626". 2 أخرجه مسلم "الحج: 1349". 3 أخرجه النسائي 5/ 112، 115 في الحج باب "فضل الحج المبرور، وباب فضل العمرة". 4 أخرجه البخاري "باب العمرة" 3/ 2، مسلم 4/ 107. 5 أخرجه أحمد 2/ 258.

والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة" رواه الترمذي، وصححه النسائي، وابن ماجه، في سننهما1. وفي رواية لابن أبي خيثمة والطبراني: "تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة ما بينهما يزيد في العمر والرزق"2. ومنها: ما رويناه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفد الله تعالى ثلاثة: الغازي، والحاجّ، والمعتمر" أخرجه النسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه على شرط مسلم، وزاد ابن حبان في بعض طرقه: "دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم" 3. وفي رواية لابن ماجه: "الحاج والمعتمر وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم" 4. ومنها: ما رويناه في سنن البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج" صححه الحاكم5 رضي الله عنهما. ومنها: ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" كذا رويناه عن الطبراني6، وقال الحاكم: إن هذه الرواية صحيحة على شرط البخاري ومسلم، والحديث في الصحيحين بغير لفظة: "معي" إلا أنه في طريق لمسلم: "عمرة في رمضان تقضي حجة. أو حجة معي"، والأخبار الواردة في فضل العمرة والحج كثيرة جدا فلا نطوّل عليها، وفيما ذكرناه من ذلك كفاية إذ القصد الاختصار، والله الموفق.

_ 1 أخرجه: الترمذي "807"، أحمد 1/ 387، والنسائي "2630"، والطبراني في الكبير "10406"، وابن خزيمة "2512"، وأبو نعيم في الحلية 4/ 110، وابن ماجه "2886"، وابن حبان "3693". 2 أخرجه: الطبراني في الكبير 10/ 230، وابن ماجه "2887"، وأبو يعلى "4955"، والبيهقي في الشعب "4095"، وأخبار مكة للفاكهي "1/ 404، وأحمد 1/ 25، وابن عدي في الكامل 5/ 186، وذكره السيوطي في الكبير 1/ 463، وعزاه لأبي يعلى، والضياء المقدسي، وابن أبي عمر في مسنده. 3 أخرجه ابن حبان "3693". 4 أخرجه: ابن ماجه "2892"، وموارد الظمآن "ص: 240"، الحاكم في مستدركه 1/ 441، ووافقه الذهبي. 5 أخرجه: البيهقي في مسنده 5/ 261 من طريق الحاكم، والمستدرك 1/ 441. 6 أخرجه: الطبراني في الكبير "11299"، والبخاري "1782"، ومسلم 3/ 200، وابن ماجه "2992"، وأبو داود "1990"، وابن خزيمة "3077"، وابن حبان "3700".

الباب الثالث عشر

الباب الثالث عشر: في الآيات المتعلقة بالكعبة: للكعبة المعظمة آيات بينات، منها: بقاء بنائها الموجود الآن، وهو لا يقتضي أن يبقى هذه المدة على ما بلغني عن بعض مهندسي عصرنا، قال: وإنما بقاؤها آية من آيات الله تعالى ... انتهى. ولعمري إنه لصادق، فإن من المعلوم ضرورة أن الريح والمطر إذا تواليا أياما على بناء تخرب، ومن المعلوم ضرورة أن الكعبة المعظمة ما زالت الرياح العاصفة، والأمطار الكثيرة المهولة، تتوالى عليها منذ بنيت وإلى تاريخه، وذلك سبعمائة سنة وخمسون سنة، ولم يحدث فيها بحمد الله تغير أدى إلى خللها، وغاية ما يحدث فيها انكسار فلقة من الركن اليماني، وتحرك البيت مرارا، لأن الشيخ شهاب الدين أبا شامة المقدسي قال في "ذيل الروضتين" له في أخبار سنة اثنين وخمسمائة: وفيها وقع من الركن اليماني قطعة، وتحرك البيت مرارا، وهذا شيء لم يعهد1 ... انتهى. وقال ابن الأثير في أخبار سنة خمس عشر وخمسمائة: فيها تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام زاده الله شرفا من زلزلة وانهدم بعضه2. وذكر مثل ذلك المؤيد صاحب حماه في أخبار سنة خمس عشرة وخمسمائة3. وذكر صاحب "مرآة الزمان": أنه في سنة سبع عشرة وأربعمائة تشعث البيت الحرام4.

_ 1 شذرات الذهب 4/ 308، والنجوم الزاهرة 6/ 139، وإتحاف الورى 2/ 562، والذيل على الروضتين "ص: 8" وفي الأخيرين: "وتجرد البيت مرارا". 2 الكامل لابن الأثير 10/ 226، والبداية والنهاية 12/ 188، وإتحاف الورى 2/ 498. 3 المختصر في أخبار البشر 2/ 235. 4 إتحاف الورى 2/ 454.

وقال أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك": وحدث جماعة: أن في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة انكسرت من الركن اليماني فلقة قدر أصبع، وغفل الناس عن شدها فصارت عند قوم من أهل مكة من الحسنيين، فوقع بمكة وباء عظيم عام، وموت، وكان لا يلبث المريض فوق ثلاثة أيام، وهلك من أهل الدار الذي اتهم أن الفلقة فيها ثمانية عشر إنسانا، فرأي بعض الصالحين المجاورين من أهل خراسان في نومه أن يتفقد ما ذهب من الكعبة ويرد فيرفع الله عنهم الوباء، فردت إلى موضعها فارتفع الوباء1. هذا ما علمته من التوهن الذي أصاب الكعبة، ولا تزال إن شاء الله باقية إلى أن ينفذ فيها أمر الله من تخريب الحبشي لها في آخر الزمان كما سبق بيانه في "الباب الثامن". ومن الآيات المتعلقة بالكعبة المعظمة على ما قال الحافظ: أنه لا يرى البيت الحرام أحد ممن لم يكن يره إلا ضحك أو بكى. ومنها: أن الفرقة من الطير من الحمام وغيره ليقبل حتى إذا كادت تبلغ الكعبة انفرقت فرقتين فلم يعْلُ ظهرها شيءٌ منها. ذكر ذلك الجاحظ، وقال: قالوا. وذكر ذلك أبو عبيد البكري جزما، لأنه قال: ومن عجائب مكة: أن الحمام وجميع الطير تمر في طيرانها، فإذا قارب أن تحاذي الكعبة أخذت يمينا وشمالا. ومنها: على ما قال الجاحظ: أنه لا يسقط على ظهر الكعبة من الحمام الذي قد أمن إلا وهو عليل أو مريض ... انتهى. وذكر ابن الحاج معنى هذا، لأنه قال لما ذكر الآيات المتعلقة بالبيت: ومنها: أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا، ويعلوه مريضا للشفاء. وذكر ذلك أبو عبيد البكري، لأنه قال: ومن عجائب مكة أن الحمام وجميع الطير لا يعلوها البتة ولا ينزل على جدرها إلا أن يكون مريضا، فيفعل ذلك مستشفيا، والطير ينزل على سائر جدر المسجد، وقبة زمزم وغيرها. وذكر بعضهم أن الطير إذا نزل على الكعبة إما يشفى أو يموت لحينه، وذكر هذه الآية المحب الطبري قال: ولولا ذلك لكانت ستارته يعني البيت الحرام مملوءة من قذرهن كنجوها، مما يتعذر الجلوس عليه. ومنها: على ما ذكر ابن الحاج عن بعض المفسرين: أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان ناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان الخصب بجميع البلدان. وذكر ذلك أيضا المحب الطبري بمعناه.

_ 1 إتحاف الورى 4/ 460، ودرر الفراقد "ص: 54".

وذكر ذلك الجاحظ، إلا أنه خالف في بعض ذلك لأنه قال: وإذا أصاب في أول السنة المطر باب الكعبة من شق العراق كان الخصب تلك السنة بالعراق، وإذا أصاب شق الشام كان الخصب في تلك السنة في الشام، وإذا عم جوانب البيت عم الخصب الجميع. ومنها: أن مفتاح الكعبة إذا وضع في فم الصغير الذي ثقل لسانه عن الكلام يتكلم سريعا ذكر ذلك الفاكهي في "أخبار مكة"، لأنه قال: وكان من سنة المكيين وهم على ذلك إلى اليوم إذا ثقل لسان الصبي المولود وأبطأ كلامه عن وقته جاءوا به إلى حجبة الكعبة، فسألوهم أن يدخلوا مفتاح الكعبة في فمه، فيأخذونه1 الحجبة فيدخلونه خزانة الكعبة، ثم يغطون وجهه، ثم يدخل مفتاح الكعبة في فمه، فيتكلم وينطلق لسانه، ويتكلم سريعا بإذن الله تعالى وذلك مجرب بمكة إلى يومنا هذا ... انتهى. وأهل مكة يفعلون ذلك إلى الآن. ومنها: أنها تفتح بحضرة خلق كثير إلى الغاية ويدخلها الجميع متزاحمين، ويصلون فيها أجمع، وتسعهم بقدرة الله تعالى، وما علمت أن أحدا مات من الزحام إلا خمسة وثلاثين نفرا ماتوا دفعة واحدة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة على ما ذكره أبو شامة في "الروضتين"2 نقلا عن ابن القادسي، عن الحجاج في هذه السنة، وذكر ذلك أيضا ابن البزوري في "ذيل المنتظم" وعزاه للحجاج. ومنها على ما قيل: إنها منذ خلقها الله تعالى لم تخل من طائف من الإنس أو الجن أو الملائكة، ذكر ذلك المحب الطبري وابن جماعة. وسبقهما إلى مثل ذلك السهيلي، وأفاد في ذلك خبرا غريبا، لأنه قال لما ذكر بناء ابن الزبير للكعبة، وفي الخبر أنه سترها حين وصل إلى القواعد، فطاف الناس بتلك الأستار، فلم تخل قط من طائف، حتى لقد ذكر أن يوم قتل ابن الزبير اشتدت الحرب، واشتغل الناس، فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها3 ... انتهى. ومنها: ما قال ابن الحاج: وذكر ابن أبي خيثمة قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا ثابت بن يزيد قال: حدثنا هلال بن حبان، عن عمرو بن ميمون قال: رأيت دخان البيت لا يشد يمينا ولا شمالا، ولا قدام ولا خلف، يصعد في السماء ... انتهى. ولعل المراد بالدخان: دخان ما يجمر به الكعبة، والله أعلم. ومنها: وقع هيبتها في القلوب. ومنها: حفظها من الجبابرة وتذللهم لها، والانتقام ممن أرادها بسوء، كما جرى لتبع، والهذليين، وأصحاب الفيل، وغيرهم ممن أساء الأدب فيها. ونشير هنا لشيء من ذلك على سبيل الاختصار.

_ 1 كذا في الأصل، وهي لغة أكلوني البراغيث. 2 ينقل الفاسي هنا عن القسم المفقود من كتاب الروضتين، وهذا الخبر موجود في "العقد الثمين" 1/ 189، ودرر الفرائد "ص: 265"، وإتحاف الورى 2/ 554. 3 الروض الأنف 1/ 221.

ذكر خبر تبع والهذليين

ذكر خبر تبع والهذليين: لما أقبل تبع وهو معان أسعد الحميري ملك اليمن من الشرق وجعل المدينة النبوية على طريقه لقضاء وطر له بها، ثم توجه منها إلى مكة، لأنها طريقه لبلده، فلما كان بين أَمَج1 وعُسْفان2 لقيه نفر من هذيل من بني لحيان، فحسنوا له تخريب الكعبة، وأن يبني عنده بيتا يصرف إليه الحج، فعزم على ذلك، فدقت بهم دوابهم، وغشيتهم ظلمة شديدة وريح، فدعى أحبارا كانوا معه من أهل الكتاب فسألهم، فقالوا: هل هممت لهذا البيت بسوء؟ فأخبرهم بما قال له الهذليون، وما أراد أن يفعل، فقالوا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك من معك، هذا بيت الله لم يرده أحد بسوء إلا هلك، قال: فما الحيلة؟ قالوا: تنوي له خيرا أن تعظمه، وتكسوه وتنحر عنده، وتحسن إلى أهله، ففعل، فانجلت عنهم الظلمة، وسكنت عنهم الريح، وانطلقت بهم دوابهم وركابهم، فأمر تبع بالهذليين فضربت أعناقهم وصلبهم، وسار حتى قدم مكة فأقام بها أياما ينحر كل يوم مائة بدنة، وكسا البيت. هذا ملخص بالمعنى مختصر من كتاب الأزرقي. وذكر الفاكهي أخبارا من خبر تبع، منها: أنه قال: حدثني حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، عن هشام بن الكلبي قال: أخبرني جرير بن يزيد البجلي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: لما أقبل تبع يريد هدم البيت وصرف وجوه العرب إلى اليمن، فبات صحيحا، فأقبل وقد سالت عيناه على خديه، فبعث إلى الأحبار والسحرة والكهان والمنجمين فقال: ما لي؟ فوالله لقد بت ليلتي وما أجد شيئا، ثم صرت إلى ما ترون! فقالوا: لعلك حدثت نفسك لهذا البيت بسوء؟ فقال: نعم. قالوا: فحدث نفسك أن تصنع به وبأهله خيرا، ففعل، وقد رجعت عيناه فارتد بصيرا، وكسى البيت الخصف3 ... انتهى.

_ 1 أمج: بفتح الهمزة والميم، بلد من أعراض المدينة، وقيل: واد يأخذ من حرة بني سليم ويفرغ في البحر "معجم البلدان 1/ 250". 2 عسفان: بضم أوله وسكون ثانيه. من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة "معجم البلدان 4/ 121". 3 أخبار مكة للفاكهي 5م 160، 161.

وقال السهيلي: وروى نقلة الأخبار: أن تبعا لما عمد إلى البيت يريد تخريبه رمي بداء تمحص منه رأسه قيحا وصديدا يثج ثجا، وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح، وقيل: بل أرسلت عليه ريح كتعت منه يديه ورجليه وجلده، وأصابتهم ظلمة شديدة، حتى دفت خيلهم، فسمى ذلك المكان الدف1، فدعا بالجزاة2 والأطباء فسألهم عن ذلك3، فهالهم ما رأوا منه، ولم يجد له عندهم فرجا، فعند ذلك قال له الحبران: لعلك هممت بشيء في أمر هذا البيت؟ فقال: نعم، أردت هدمه، فقالا له: تب إلى الله مما نويت، فإنه بيت الله تعالى، وحرمه، وأمراه بتعظيم حرمته، ففعل ذلك فبرئ من دائه، وصح من وجعه. قال السهيلي: وأخلق بهذا الخبر أن يكون صحيحا فإن الله سبحانه عز وجل يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] أي: ومن هم فيه بظلم، ثم قال: وقال العتبي: كانت قصة تبع قبل الإسلام بسبعمائة عام4 ... انتهى. وهذا الذي ذكره العتبي لعله أن يكون موافقا لما ذكره ابن إسحاق في "السيرة"، لأنه قال: فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم ... انتهى. ووجه موافقة ذلك لما ذكره العتبي: أن من ولاية جرهم إلى الإسلام المقدار الذي ذكره العتبي أو نحوه، فإن خزاعة ولوا البيت بعد جرهم خمسمائة سنة، وقيل دون ذلك على ما في خبرهم، وولاية قريش لأمر مكة قبل الإسلام ما يقصر عن مائة سنة، وربما كانت أزيد من ذلك، وأي ذلك كان فهو المقدار الذي ذكره العتبي أو غيره، ويعكر على ما في "السيرة" لابن إسحاق من أن قصة تبع مع الهذليين كانت في زمن جرهم على ما نقله الأزرقي عن إسحاق؛ لأنه قال في خبر تبع: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج: قال أخبرنا ابن إسحاق قال: سار تبع الأول إلى الكعبة وأراد هدمها وتخريبها، وخزاعة يومئذ تلي البيت وأمر مكة، فقامت خزاعة دونه فقاتلت عنه أشد القتال حتى رجع، ثم تبع آخر فكذلك، ثم قال: فأما تبع الثالث الذي أراد هدم البيت فإنما كان في أول زمان قريش، قال: وكان سبب خروجه وسيره أن قوما من هذيل من بني لحيان جاءوه فقالوا: إن بمكة بيتا تعظمه العرب جميعا. فذكر القصة.

_ 1 الدف: موضع في جمدان من نواحي المدينة عسفان. 2 الحزاة: جمع حاز، وهو الذي يزجر الطير ويستدل بأصواتها ومرورها وأسمائها. 3 كذا في الأصل، وفي الروض الأنف 1/ 39: "دائه". 4 الروض الأنف 1/ 39، 40.

ونقل عن ابن جريج، وابن إسحاق عن تبع الثالث ما يوافق ذلك، لأنه قال في باب ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام وأمر مكة بعد خزاعة بعد أن روى بسنده السابق عن ابن جريج وابن إسحاق: وأما تبع الثالث الذي نحر له، وكساه، وجعل له غلقا، وأقام عنده أياما ينحر كل يوم بُدنة، إلى أن قال: إنما كان في عهد قريش1 ... انتهى. فبان بهذا الاختلاف كلام ابن إسحاق في زمن قدوم تبع إلى مكة، هل هو في زمن جرهم، أو في أول زمن قريش. وذكر السهيلي فوائد تتعلق بهذا الخبر يحسن ذكرها هاهنا، منها: أن اسم أحد الحبرين المشار إليهما في خبر تبع: "سحيت" والآخر "منبه"، وعزا ذلك لقاسم بن ثابت، قال: في رواية يونس عن ابن إسحاق قال: واسم الحبر الذي كلم الملك "بليامن". ومنها: أنه قال: ومعنى تبع في لغة اليمن الملك: المتبوع. وقال المسعودي: لا يقال لملك تبع حتى يملك اليمن، والشحر، وحضرموت. وأول التابعة الحارث الرائش ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة 1/ 132.

ذكر خبر أصحاب الفيل

ذكر خبر أصحاب الفيل: ذكر هذا الخبر جماعة من العلماء مطولا ومختصرا، كما ذكرته في أصل هذا الكتاب، واقتصرت هنا من ذلك على ما ذكرته عن الإمام أبي القاسم الزمخشري لحسن اختصاره مع ما فيه من الفوائد، ونص كلامه: روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء، وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا، فأغضبه ذلك، وقيل: أججت رفقة من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقتها، فحلف ليهدمن الكعبة، فخرج من الحبشة ومعه فيل اسمه محمود، وكان فيلا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره، وقيل: ثمانية، وقيل: كان معه ألف فيل، وقيل: كان وحده، فلما بلغ المغمس1خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى، وعبأ جيشه، فقدم الفيل، فكانوا إذا وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل الله إليه طيرا سوداء، وقيل: خضراء، وقيل: بيضاء، مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، ثم قال: فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر

_ 1 المغمس: بفتح الميم الأولى وضمها، واد قريب من مكة من ناحية الشرق "الروض الأنف 1/ 68".

اسم من يقع عليه ففروا فهلكوا في كل طريق وسهل، وأما أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع الحجر عليه فخر ميتا بين يديه، وذكر أن أهل مكة احتووا على أموال الحبشة، وأن عبد المطلب جمع من جواهرهم وذهبهم ما كان سبب يساره1 ... انتهى باختصار. وقال السهيلي: وكانت قصة الفيل في أول المحرم سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين2. وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما الخوارزمي محمد بن موسى فقال: كان قدوم الفيل مكة وأصحابه لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم. قال: وقد قال ذلك غير الخوارزمي، وزاد: يوم الأحد، قال: وكان أول المحرم تلك السنة يوم الجمعة. ونقل الحافظ الدمياطي عن أبي جعفر محمد بن علي: أن قدوم الفيل كان في النصف من المحرم ... انتهى. فيتحصل من هذا أن في تاريخ قدوم الفيل من شهر المحرم ثلاثة أقوال: هل هو أوله، أو نصفه، أو لثلاث عشرة ليلة بقيت منه؟ والله أعلم بالصواب. هلاك من أراد الكعبة بسوء 3: وجاء في هلاك من أراد الكعبة بسوء أخبار أُخر: منها: ما رويناه عن أم المؤمنين أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليخسفن بقوم يؤمون البيت ببيداء من الأرض" 4. ومن الأخبار الواردة في الانتقام ممن أساء الأدب في الكعبة أو حولها: ما رويناه في "السيرة" لابن إسحاق وغير ذلك عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم أحدثا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين5، والله أعلم. ومن ذلك: ما رويناه في المعجم الكبير للطبراني عن حويطب بن عبد العزى قال: كنا جلوسا بفناء الكعبة في الجاهلية فأتت امرأة تعوذ بها من زوجها، فمد يده إليها فيبست، فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل6 ... انتهى.

_ 1 الروض الأنف 1/ 68- 71. 2 الروض الأنف 1/ 71. 3 ما بين القوسين عنوان من وضع المحقق. 4 أخرج نحوه الأزرقي 2/ 23، وانظر مثير الغرام "ص: 291". 5 سيرة ابن هشام 3/ 291. 6 المعجم لكبير للطبراني 1/ 231، وعبد الرزاق "8866" لكن قال إن العائذ أَمَةٌ، وأن الذي جذبه سيدتها، والأزرقي 2/ 25.

ومن ذلك: ما رويناه في تاريخ الأزرقي في خبر ذكره عن ابن جريج فيه شيء من خبر الحمس وغيرهم، لأن فيه قال: وجاءت امرأة أيضا تطوف عريانة، وكان لها جمال، فرآها رجل فأعجبته، فدخل الطواف فطاف إلى جنبها لأن يسمها، فأدنى عضده من عضدها، فخرجا من المسجد من ناحية بنى سهم هاربين على وجوههما، فزعين لما أصابهما من العقوبة، فلقيهما شيخ من قريش خارجا من المسجد فسألهما عن شأنهما، فأخبراه بقصتهما، فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابهما فيه ما أصابهما ليدعوان الله تعالى ويحلفان أن لا يعودا فرجعا إلى مكانهما فدعوا الله سبحانه وتعالى وأخلصا النية في أن لا يعودا، فافترقت أعضادهما، فذهب كل واحد منهما في ناحية1 ... انتهى. وذكر المحب الطبري هذا الخبر مختصرا وعزاه لابن الجوزي، وعزاه ابن الجوزي لغير ابن جريج، فنذكر ذلك كما هو مذكور في "القرى" ولفظه فيه: وعن مسعر، عن علقمة بن مرثد قال: بينما رجل يطوف بالبيت إذ برق له ساعد امرأة، فوضع ساعده على ساعدها متلذذا به، فلصقت ساعداهما، فأتى بعض الشيوخ فقال: ارجع إلى المكان الذي فعلت فيه فعاهد رب البيت ألا تعود، ففعل فخلي عنه2 ... انتهى. وذكر السهيلي هذا الخبر مختصرا، وفيه ما يفهم منه غير ما سبق، فاقتضى ذلك ما قاله، لأنه قال بعد أن ذكر شيئا من خبر الحمس والحلة وطواف الحلة بالبيت عراة، ومما ذكر من تعريهم في الطواف، أن رجلا وامرأة طافا كذلك، فانضم الرجل إلى امرأة تلذذا واستمتاعا، فلصق عضده بعضدها ففزعا عند ذلك، وخرجا من المسجد وهما ملتصقان، فلم يقدر أحد على فك عضده من عضدها حتى قال لهما قائل: توبا مما كان في ضميركما، وأخلصا لله التوبة. ففعلا، فانحل أحدهما عن الآخر3 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 177. 2 القرى "ص: 272"، ومثير الغرام "ص: 291" وأخرجه عبد الرزاق "8867". 3 الروض الأنف 1/ 232.

الباب الرابع عشر

الباب الرابع عشر ذكر شيء من أخبار الحجر الأسود ... الباب الرابع عشر: في ذكر شيء من أخبار الحجر الأسود: روينا في تاريخ الأزرقي" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن الله تعالى أنزل الركن يعني الحجر الأسود والمقام مع آدم عليه السلام ليلة نزل ليستأنس بهما، وأنه كان يأنس بالحجر1. وروينا فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا استلام هذا الحجر فإنه يوشك أن يفقد" وفيه ما يقتضي أنه يرفع إلى الجنة. وروينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يرفع الركن والمقام". وروينا فيه عن ابن إسحاق وغيره: أن الله عز وجل استودع الركن أبا قبيس حين غرق الأرض زمن نوح عليه السلام وقال: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له، فلما بنى الخليل عليه السلام البيت جاءه جبريل عليه السلام بالحجر الأسود، فوضعه الخليل موضعه من البيت ... انتهى. وقيل: إن إلياس بن مضر أول من وضع الحجر للناس بعد الغرق، ذكره الزبير بن بكار، وهذا يخالف ما سبق، والله أعلم. وقال ابن إسحاق بعد أن ذكر إخراج بني بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان بن خزاعة لجرهم من مكة: فخرج عمرو بن الحارث بن مُضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنهما في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن. وذكر الزبير بن بكار معنى ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى:

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 342.

وقال القطب: وقال أبو عبد الله محمد بن عائذ الدمشقي في "مغازيه": عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها حدثت: أن جُرهما كانت أهل البيت، وهم العرب الذين كانوا يتكلمون بالعربية، ونكح إليهم إسماعيل عليه السلام فأحلوا حرم البيت، واقتتلوا، حتى كادوا يتفانون، فسلط الله عليهم العرب، فخرجوا من مكة إلى اليمن. وكان حول البيت غيضة، والسيل يدخله، ولم يُرفع البيت حينئذ، فإذا قدم الحاج وطئوه حتى يذهب الغيضة، فإذا خرجوا بنيت، فقدم قصي فقطع الغيضة، وابتنى حول البيت دارا، ونكح حبى بنت حُليل، فولدت له عبد الدار بن قصي، أول ما ولدت، فسماه عبد الدار، بداره تلك، وجعل الحجابة له، لأنه أكبرهم، وعبد مناف بمناف، وجعل السقاية له، والرفادة، ودار الندوة لعبد العزى، واللواء لعبد قصي، ويقال: عبد بن قصي. فقال قصي لامرأته قولي لجدتك تدل بنيك على الحَجَر، فلم يزل بها حتى قالت: إني أعقل أنهم حين خرجوا إلى اليمن سرقوه، ونزلوا منزلا وهو معهم، فبرك الجمل الذي عليه، فضربوه فقام، ثم سار فبرك فضربوه فقام، فبرك الثالثة، فقالوا: ما برك إلا من أجل الحجر، فدفنوه وذلك في أسفل مكة، وإني أعرف حيث برك. فخرجوا بالحديد، وخرجوا بها معهم، فأرتهم حيث برك أولا: وثانيا، وثالثا، فقالت: احفروا هاهنا، فحفروا حتى يئسوا منه، ثم ضربوا فأصابوه وأخرجوه، فأتي به قصي، فوضعه في الأرض، وكانوا يتمسحون به وهو في الأرض، حتى بنى قصي البيت، ومات قصي ودفن بالحجون ... انتهى. وذكر هذا الخبر الإمام الفاكهي، ويبعد أن يكون صحيحا، لأنه يقتضي أن جرهما دفنوا الحجر في غير زمزم، والمعروف في دفنهم له أنه في زمزم كما سبق قريبا عن ابن إسحاق وغيره. والمعروف أن القصة التي في هذا الخبر في دفن الحجر اتفقت لبني إياد بن نزار حين خرجوا من مكة، وأن الحجر لم يستمر مدفونا إلى عهد قصي، لأن امرأة من خزاعة أبصرته حين دفن، وأخبرت بذلك قومها، فأعلم قومهم بذلك مضر، على أن تكون ولاية البيت لخزاعة، وهذا مذكور في خبر ذكره الفاكهي عن الكلبي، والزبير بن بكار، لأنه قال: فحدثنا الزبير بن بكار قال: لما هلك وكيع الإيادي واتضعت إياد، وهي إذ ذاك تلي أمر بيت الله الحرام، قاتلوهم وأخرجوهم وأجلوهم ثلاثا، يخرجون عنهم، فلما كانت الليلة الثالثة حسدوا مضرا أن تلي الركن الأسود، فحملوه على بعير فبرك، فلم يقم، فغيروه، فلم يحملوه على شيء إلا رزح وسقط، فلما رأوا ذلك بحثوا له تحت شجرة فدفنوه ثم ارتحلوا من ليلتهم، فلما كان بعد يومين افتقدت مضر الركن، فعظم في

أنفسها، وقد كانت شرطت على إياد كل امرأة متزوجة فيهم، فكانت امرأة من خزاعة فيما يقولون يقال لها: قدامه، متزوجة في إياد. ثم قال: فأبصرت إياد حين دفنت الركن -أجمع الزبير، وابن الكلبي في حديثهما كل واحد فيهم بنحو من حديث صاحبه فقالت لقومها حين رأت مشقة ذهاب الركن على مضر: خذوا عليهم أن يولوكم حجابة البيت، وأدلكم على الركن، فأخذوا بذلك عليهم. ثم قال: فدلتهم عليه، فابتحثوه فأعادوه في مكانه وولوهن فلم يبرح في أيدي خزاعة حتى قدم قصي بن كلاب، فكان من أمره الذي كان1 ... انتهى. وهذا الخبر أقرب إلى الصحة من الخبر الذي ذكره ابن عائذ، لما تقدم من أن المعروف في القصة التي ذكرها أنها اتفقت لإياد لا لجرهم، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 146، 147.

ذكر ما أصاب الحجر الأسود في زمن ابن الزبير وما صنع فيه من الفضة في زمنه وزمن هارون الرشيد

ذكر ما أصاب الحجر الأسود في زمن ابن الزبير، وما صنع فيه من الفضة في زمنه وزمن هارون الرشيد: روينا في تاريخ الأزرقي خبر بناء ابن الزبير الكعبة، رواه الأزرقي عن جده، عن سليم بن سالم، عن ابن جريج، عن غير واحد من أهل العلم ممن حضر بناء ابن الزبير للكعبة، قال فيه: وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل بني شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة إلى تلك الشظية من أعلاه بين موضعها في أعلا الركن1.. انتهى. وروينا في تاريخ الأزرقي عن جده قال: كان ابن الزبير ربط الركن الأسود بالفضة لما أصابه من الحريق، وكانت الفضة قد تزلزلت ونزعت وتعلقت حول الحجر حتى خافوا عليه أن ينقض، فلما اعتمر هارون الرشيد وجاور في سنة تسع وثمانين ومائة أمر بالحجارة التي بينها الحجر الأسود، فنقبت بالماس من فوقها ومن تحتها، ثم أفرغ فيها الفضة2

_ 1 الخبر في أخبار مكة للأزرقي 1/ 208، 209. 2أخبار مكة للأزرقي 1/ 210.

ذكر ما أصاب الحجر الأسود في فتنة القرمطي وأخذهم له

ذكر ما أصاب الحجر الأسود في فتنة القرمطي وأخذهم له: ذكر أهل التاريخ: أن عدو الله أبا طاهر القرمطي وافى مكة في سابع ذي الحجة، وقيل: في ثامنه، سنة تسع عشر وثلاثمائة، وفعل فيها هو وأصحابه أمورا منكرة، منها: أن بعضهم ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره، ثم قلعه، وقيل: قلعه جعفر بن فلاح البناء بأمر أبي طاهر يوم الاثنين بعد الصلاة لأربع عشر خلت من ذي الحجة، وذهب به معه إلى بلاده هجر1، وبقي موضعه من الكعبة المعظمة خاليا يضع الناس فيه أيديهم للتبرك إلى حين رد إلى موضعه من الكعبة المعظمة، وذلك في يوم الثلاثاء يوم النحر من سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، على ما ذكره المسبحي، وذكر أن الذي وافى به مكة "سنبر بن الحسن القرمطي"، وأن "سنبرا" لما صار بفناء الكعبة ومعه أمير مكة أظهر الحجر من سفط، وعليه ضباب فضة قد عملت من طوله وعرضه، تضبط شقوقا حدثت عليه بعد انقلاعه، وأحضر معه جصًّا يشد به، فوضع "سنبر" الحجر بيده، وشده الصانع بالجص، وقال "سنبر" لما رده: أخذناه بقدرة الله تعالى ورددناه بمشيئته. ونظر الناس إلى الحجر فتبينوه وقبلوه واستلموه وحمدوا الله تعالى2. وكان رد الحجر الأسود في موضعه قبل حضور الناس لزيارة الكعبة يوم النحر، وكان مدة كينونته عند القرمطي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام. هذا معنى كلام المسبحي. وكان بجكم3 التركي مدبر الخلافة ببغداد بذل للقرامطة على رد الحجر الأسود خمسين ألف دينار فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر، ولا نرده إلا بأمر. وقيل: إن المطيع العباسي اشتراه بثلاثين ألف دينار من القرامطة. وكلام القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" صريح في أن المطيع العباسي اشتراه بهذا القدر من أبي طاهر القرمطي4، وفيه نظر، لأن أبا طاهر مات قبل خلافة المطيع في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة على ما ذكره ابن الأثير وغيره5، والله أعلم.

_ 1 هي الأحساء حاليا. 2 إتحاف الورى 2/ 394، 395، والنجوم الزاهرة 3/ 302، ودرر الفرائد "ص: 242، وتاريخ الخلفاء "ص: 399". 3 انظر ترجمته في: الوافي بالوفيات 1/ 77، 78. 4 هداية السالك 3/ 1358. 5 الكامل لابن الأثير 8/ 147 وما بعدها، والبداية والنهاية 11/ 207، ودرر الفرائد "ص: 242"، وإتحاف الورى 2/ 391.

ذكر ما صنعه الحجبة في الحجر الأسود بإثر رد القرامطة له

ذكر ما صنعه الحجبة في الحجر الأسود بإثر رد القرامطة له: ذكر المسبحي: أن في سنة أربعين وثلاثمائة قلع الحجبة الحجر الأسود الذي نصبه "سنبر" وجعلوه في الكعبة خوفا عليه، وأحبوا أن يجعلوا له طوقا من فضة يشد به1، كما كان قديما حين عمله ابن الزبير، فأخذ في إصلاحه صانعان حاذقان، فعملا له طوقا من فضة وأحكماه. ونقل المسبحي عن محمد بن قانع الخزاعي: أن مبلغا ما على الحجر الأسود من الطوق وغيره: ثلاثة آلاف وسبعة وتسعون درهما ونصف على ما قيل ... انتهى. وهذه الحلية غير حلية الحجر الآن؛ لأن داود بن عيسى بن فليتة الحسني- أمير مكة- أخذ طوق الحجر الأسود قبيل عزله من مكة في سنة خمس وثمانين وخمسمائة على ما ذكر أبو شامة في ذيل الروضتين2، وذكر ذلك غيره. ولم أتحقق أن الحجر الأسود قلع من موضعه بعد رد القرامطة له إلى يومنا هذا، غير أن بعض فقهاء المصريين أخبرني أن الحجر الأسود قلع من موضعه في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة لتحليته في هذه السنة من الحلي التي أبدلها أمير سودون باشا3. ورأيت غير واحد من المكيين ينكر ما ذكره لي هذا الفقيه المصري، وهو يثبت ذلك ويقول: إنه شاهده مقلوعا. وقد سمع ذلك منه قبلي غير واحد من فقهاء مكة، وأخبرني بعضهم بذلك عنه، فسألت المخبر له فأخبرني به وحققه، وكان إخباره لنا بذلك في موسم سنة أربع عشرة وثمانمائة، لما ورد إلى مكة قاضيا للركب المصري هو الفقيه نور الدين المنوفي، وله إلمام بالفقه ويستحضر فيه بعض المختصرات، والله أعلم بصحة ذلك.

_ 1 النجوم الزاهرة 3/ 305، وتاريخ الخلفاء "ص: 399". 2 لم تصلنا حوادث هذه السنة من كتاب أبي شامة، فهي في القسم المفقود. 3 تاريخ الكعبة المعظمة "ص: 158"، وإتحاف الورى 3/ 334.

ذكر ما أصاب الحجر الأسود بعد فتنة القرامطة من بعض الملحدة مثلهم

ذكر ما أصاب الحجر الأسود بعد فتنة القرامطة من بعض الملحدة مثلهم: ذكر أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي: أنه في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة يوم النفر الأول، قام رجل فقصد الحجر الأسود، فضربه ثلاث ضربات بدبوس، وتبخشن وجه الحجر من تلك الضربات، وتساقطت منه شظايا مثل الأظفار، وتشقق، وخرج مكسره أسمر يضرب إلى صفرة محببا مثل الخشخاش، فأقام الحجر على ذلك يومين، ثم إن بني شيبة جمعوا الفتات وعجنوه بالمسك واللمك، وحشوا الشقوق وطلوها بطلاء من ذلك ... انتهى باختصار. وذكر ابن الأثير هذه الحادثة في أخبار سنة أربع عشرة وأربعمائة1، والله أعلم بالصواب.

_ 1 الكامل لابن الأثير 9/ 124، وفيه أن هذه الحادثة كانت في سنة 413هـ، وهي كذلك في النجوم الزاهرة 4/ 251، والمنتظم 918، ودرر الفرائد "ص: 253"، وإتحاف الورى 2/ 450.

ذكر صفته وقدره وقدر ما بينه وبين الأرض

ذكر صفته وقدره وقدر ما بينه وبين الأرض: ذكر المسبحي: أن أبا الحسن محمد بن نافع الخزاعي دخل الكعبة فيمن دخلها للنظر إلى الحجر الأسود لما كان في الكعبة بإثر رد القرامطة له، وأنه تأمل الحجر الأسود، فإذا السواد في رأسه دون سائره أبيض، قال: وكان مقدار طوله فيما حررت مقدار عظم ذراع، أو كالذراع المقبوضة الأصابع، والسواد في وجهه غير ماض في جميعه ... انتهى. وما ذكره العلوي في صفة الحجر يخالف هذا، والله أعلم. وذكر ابن عبد ربه في "العقد" ما يوافق ما ذكره الخزاعي في صفة الحجر الأسود وما يخالفه في مقدار طوله، لأنه قال: وذكر أيضا عن بعض المكيين حديثا يرفعه إلى شيخه: أنه نظر إلى الحجر الأسود بعد هدم ابن الزبير البيت، وزاد فيه، فقدروا طوله ثلاثة أذرع، وهو ناصع البياض فيما ذكروا إلا وجهه الظاهر، واسوداده فيما ذكروا -والله أعلم- لاستلام أهل الجاهلية له، ولطخه بالدم1 ... انتهى بنصه. وذكر الأزرقي: أن ذرع ما بين الحجر الأسود إلى الأرض ذراعان وثلثا ذراع2. وذكر ابن جماعة فيما أخبرني به عنه خالي أن ارتفاع الحجر من أرض المطاف: ذراعان وربع وسدس ذراع، بذراع القماش المستعمل بمصر في زمنه3.

_ 1 العقد الفريد 6/ 258. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 289. 3 هداية السالك 3/ 1334.

ذكر شيء من الآيات المتعلقة بالحجر الأسود

ذكر شيء من الآيات المتعلقة بالحجر الأسود: للحجر الأسود آيات بينات: منها: حفظ الله تعالى له من الضياع منذ أهبط إلى الأرض، مع ما وقع من الأمور المقتضية لذهابه، كالطوفان، ودفن بني إياد. وذكر ابن جماعة: أن الحجر الأسود أزيل من موضعه غير مرة، ثم رده الله إليه، قال: وقع ذلك من جرهم، وإياد، والعماليق، والقرامطة1، ولم أر ما ذكره عن العماليق، والله أعلم. ومنها: أنه على ما قيل هلك تحته لما حمله القرامطة أربعون جملا، فلما أعيد حمل على قعود هزيل فسمن. ذكر هذا القول الذهبي. وقيل: هلك تحته لما حمل إلى هجر ثلاثمائة بعير، وقيل: خمسمائة بعير، والله أعلم. ومنها: أنه يطفو على الماء. ومنها: أنه لا يسخن من النار، ذكر هاتين الآيتين ابن أبي الدم في "الفرق الإسلامية"، فيما حكاه عنه ابن شاكر الكتبي المؤرخ، ونقل ذلك عن بعض المحدثين، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وقد بسطنا ذلك في أصل هذا الكتاب.

_ 1 هداية السالك 3/ 1358.

الباب الخامس عشر

الباب الخامس عشر: ذكر الملتزم: الملتزم: هو ما بين الحجر الأسود والباب، على ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تاريخ الأزرقي ويقال له: المدعا والمتعوَّذ، على ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تاريخ الأزرقي أيضا. وروينا عنه حديثا مرفوعا في استجابة الدعاء فيه1، ورويناه مسندا في "الأربعين المختارة" لابن مسدي، ولفظ الحديث علي ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء، وما دعا عبد الله تعالى فيه إلا استجاب له" 1.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 347.

ذكر المستجار

ذكر المستجار: هو ما بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في دبر الكعبة، هكذا سماه ابن جبير في رحلته1، والمحب الطبري في "القرى" وسبقهما إلى تسميته بالمستجار: الفقيه محمد بن سراقة في كتابه "دلائل القبلة" لأنه قال: وبين الركن اليماني وبين الباب المسدود في ظهر الكعبة أربعة أذرع، ويسمى ذلك الموضع المستجار من الذنوب ... انتهى. ويقال له: المتعوذ، ويقال له: الملتزم، على ما روي عن ابن الزبير رضي الله عنهما ويقال: ملتزم عجائز قريش، على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما روينا ذلك عنهما في "تاريخ الأزرقي". وروينا فيه عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من قام عند ظهر البيت فدعا استجيب له، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه2. قال المحب الطبري: ومثل هذا القول من معاوية رضي الله عنه لا يكون إلا عن تلق من لسان النبوة3 ... انتهى. وروينا في "مجابي الدعوة" لابن أبي الدنيا: عن الشعبي قال: إن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وأخاه مصعبا، وعبد الملك بن مروان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم دعوا في هذا الموضع فلم يذهب الشعبي من الدنيا حتى رأي كلا منهم قد أعطي ما سأل، وبشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بالجنة، ورتب له، وكان دعا بها. وكان يقف للدعاء والتعوذ فيه جماعة من كبار السلف منهم: عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد رحمهما الله.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 65". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 348. 3 القرى "ص: 318".

ذكر الحطيم

ذكر الحطيم: اختلف في الحطيم وفي سبب تسميته بذلك، فقيل: إنه ما بين الحجر الأسود ومقام إبراهيم وزمزم وحجر إسماعيل، وهو مقتضى ما حكاه الأزرقي عن ابن جريج1. وفي كتب الحنفية أن الحطيم الموضع الذي فيه الميزاب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الحطيم الجدار. قال المحب الطبري: يعني جدار حجر الكعبة، قال: وقد قيل: الحطيم هو الشاذروان، سمي بذلك: لأن البيت رفع وترك هو محطوما، فيكون فعيلا بمعنى مفعول، قال: وقد قيل: لأن العرب كانت تطرح فيه ما طافت فيه من الثياب، فيبقى حتى يتحطم من طول الزمان، فيكون فعيلا بمعنى فاعل2 ... انتهى. وقيل في سبب تسميته: إنه سمي بالحطيم لأن الناس كانوا يحطمون هنالك بالإيمان، فقل من دعا هنالك على ظالم إلا هلك، وقل من حلف هنالك آثما إلا عجلت له العقوبة، روينا ذلك عنه في تاريخ الأزرقي3. ومن فضائل الحطيم: ما ذكره الفاكهي، لأنه قال: وحدثني أحمد بن صالح قال: حدثنا محمد بن عبد الله عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنهما

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 23. 2 القرى "ص: 314". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 24.

قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع خير؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قالت: قلت: يا رسول الله كأنك تريد بين الركن والمقام؟ قال صلى الله عليه وسلم "صدقت، إن خير البقاع وأطهرها وأزكاها وأقربها من الله ما بين الركن والمقام، وإن فيها بين الركن والمقام روضة من رياض الجنة، فمن صلى فيه أربع ركعات نودي من بطنان العرش: أيها العبد غفر لك ما قد سلف منك فاستأنف العمل" 1 ... انتهى. ومن فضائل الحطيم: أن فيه قبر تسعة وتسعين نبيا، لأن الأزرقي قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثني جدي قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط، يقول عبد الله بن حمزة السلولي يقول: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، جاءوا حجاجا فقبضوا هنالك". وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محمد بن سابط، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فيتعبد فيها النبي ومن معه حتى يموت، فمات بها نوح، وصالح، وشعيب، وقبورهم بين زمزم، والحجر" 2. وذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن في الحطيم قبر تسعين نبيا، وسمى منهم في هذا الخبر غير من لم يسم في الخبر الذي رواه عن ابن سابط، لأنه قال: وأخبرني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج فذكر أخبارا، ثم قال: قال عثمان: وأخبرني مقاتل قال: في المسجد الحرام بين زمزم والركن قبر تسعين نبيا، منهم هود، وصالح، وإسماعيل، وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق، ويوسف عليهم السلام في بيت المقدس3 ... انتهى. وذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن قبر إسماعيل في الحجر، وسنذكر هذا الخبر وغيره من الأخبار الموافقة له والمخالفة له في أخبار الحجر، وذلك في الباب السابع عشر من هذا الكتاب. وذكر الأزرقي خبرا يوهم أن في الحطيم قبور عذارى بنات إسماعيل عليه السلام لأن الأزرقي قال فيما رويناه عنه: حدثنا جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري أنه سمع ابن الزبير رضي الله عنهما على المنبر يقول: إن هذا المحدودب قبور عذارى بنات إسماعيل عليه السلام، يعني مما يلي الركن الشامي من المسجد

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 468. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 68، ومثير الغرام "ص: 438". 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 68، وأخبار مكة للفاكهي 1/ 468.

الحرام، قال: وذلك الموضع يسوي مع المسجد. فلا ينشب أن يعود محدودبا منذ كان1 ... انتهى. وإنما كان هذا الخبر موهما لما ذكرناه، لأنه يحتمل أن تكون القبور المشار إليها مما يلي الركن الشامي من جهة الحجر الأسود، وأن تكون مما يلي الركن الشامي مما يلي الحِجر بسكون الجيم فعلى الاحتمال الأول تكون القبور المشار إليها في الحطيم وعلى الثاني لا تكون فيه، وذلك على اعتبار بناء الكعبة على أساس إبراهيم من جهة الحجر، وأما على اعتبار بنائها اليوم فقد تكون القبور المشار إليها في الحطيم على كلا الاحتمالين، والله أعلم. وقد ذكر هذا الخبر الفاكهي في "أخبار مكة" بنحوه، وذكر الخبر الذي رواه الأزرقي عن عبد الله بن ضمرة. وفي خبر الفاكهي: أن ابن ضمرة يرويه عن كعب يعني كعب الأحبار وابن سابط راوي الخبر ليس بصاحبي. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن فيما بين دار الندوة وباب بني سهم يعني باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة قبور قوم صالح الذين آمنوا به ورحلوا معه إلى مكة وأقاموا بها حتى ماتوا. قال: وكذلك فعل هود ومن آمن معه، وشعيب ومن آمن معه، عزا هذا الخبر لوهب بن منبه، وهو في تاريخ الأزرقي2، إلا أن في الخبر الذي ذكره الأزرقي: فتلك قبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين دار بني هاشم، كذا رأيته في نسختين من "تاريخ الأزرقي": ودار بني هاشم وصوابه: وباب بني سهم كما في خبر الفاكهي، لأن به يستقيم الكلام، والله أعلم. وهذه القبور وإن لم تكن في الحطيم فذكرها في أخباره لمناسبة، وهي كون الموطنين في المطاف، فيجتمع بذكر ذلك في هذه الترجمة شيء من فضل المطاف.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 66، وأخبار مكة للفاكهي 2/ 123، ومسند عبد الرزاق 5/ 120، ومثير الغرام ص: 439. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 73، وأخبار مكة للفاكهي 2/ 34، ومثير الغرام ص: 438.

ذكر بقية المواضع بمكة وحرمها التي قيل إن الدعاء فيها مستجاب

ذكر بقية المواضع بمكة وحرمها التي قيل إن الدعاء فيها مستجاب: روينا عن الحسن البصري في "رسالته" المشهورة أنه قال: ويقال يستجاب الدعاء بمكة في خمسة عشر موضعا: أولها: عند الملتزم الدعاء فيه يستجاب، وتحت الميزاب يستجاب، وعند الركن اليماني يستجاب، وعلى الصفا يستجاب، وعلى المروة يستجاب، وبين الصفا والمروة يستجاب، وبين الركن والمقام يستجاب، وفي جوف الكعبة يستجاب، وبمنى يستجاب، وبجَمْع يستجاب، وبعرفات يستجاب، وعند الجمرات الثلاث يستجاب. هكذا وجدت في نسختي من هذه "الرسالة"، وهي تقتضي أن المواضع المشار إليها أربعة عشر موضعا، والظاهر أنه سقط منها موضع يحتمل أن يكون خلف المقام، ويحتمل أن يكون في الطواف، لأنه روي عن الحسن البصري عد هذين الموضعين في المواضع التي يستجاب فيها الدعاء بمكة، وليس في الرواية التي ذكر فيها هذين الموضعين ذكر الركن اليماني، وفيها لفظتان مخالفتان للرواية التي ذكرناها في اللفظ. أحدهما: "وعند زمزم" والله أعلم عوض قوله: "بين الركن والمقام". واللفظة الأخرى: "وفي المزدلفة" عوض قوله: "وبجمع". وهذه الرواية ذكرها المحب الطبري في "القرى" وقال فيه: وروي عن الحسن البصري أن الحجر الأسود يستجاب عنده الدعاء. فتصير المواضع ستة عشر، وقال: وسيأتي في فضل التعوذ عند ظهر الكعبة موضع سابع عشر1 ... انتهى. قلت: الموضع الذي أشار إليه المحب هو المستجار الذي تقدم ذكره. وقال المحب: والظاهر من عموم هذا اللفظ تعميم الإجابة في هذه الأماكن، سواء كان متلبسا بنسك أو لم يكن، وهو كذلك إن شاء الله تعالى، وتخصيص بعض دون بعض خلاف الظاهر، وإذا ثبتت الخصوصية لذات المكان عمت جميع الأحوال، والله أعلم. قلت: فيما ذكره الحسن البصري من استجابة الدعاء عند جمرة العقبة نظر، لأن الإنسان مطلوب بأن لا يقف عندها للدعاء في زمن الرمي، فكيف يستجاب للإنسان فيما نهي عن فعله؟ إلا أن يكون مراده بقوله: إن الدعاء يستجاب عندها، أي قربها، ويدعو الداع وهو مارّ فيه والله أعلم. وذكر شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي أحسن الله إليه في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى" مواضع أخر بمكة وحرمها يستجاب فيها الدعاء، لأنه نقل عن النقاش المفسر أنه قال في "منسكه"، ويستجاب الدعاء في ثبير، عني ثيبر الذي يلحقه مغارة الفتح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد فيه قبل النبوة، وأيام ظهور الدعوة، ولهذا جاورت به عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أيام إقامتها بمكة، قال: وفي مسجد الكبش، زاد غيره: وفي مسجد الخيف، زاد آخر: وفي مسجد النحر ببطن منى، زاد ابن الجوزي: وفي مسجد البيعة2 وهو من منى، وغار المرسلات، ومغارة الفتح، لأنها من ثبير

_ 1 القرى "ص: 317". 2 مثير الغرام "ص: 344_ 345"، وأخبار مكة للفاكهي 4/ 26.

يعني الموضع الذي يقال له صخرة عائشة بمنى قال: وقال النقاش: يستجاب الدعاء إذا دخل من باب بني شيبة، وفي دار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ليلة الجمعة، وفي مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين عند الزوال، وفي دار الخيزران عند المجتبى بين العشائين، وتحت السدرة بعرفة وقت الزوال، وفي مسجد الشجرة يوم الأربعاء، وفي المتكأ غداة الأحد، وفي جبل ثور عند الظهر، وفي حراء وثبير مطلقا، قيل: وفي مسجد النحر ... انتهى. قلت: وقع فيما ذكره شيخنا القاضي مجد الدين أن مسجد البيعة من منى وهو غير مُسَلَّم، لأنه من وراء العقبة التي هي حد منى بمقدار غلوة أو أكثر، ولعل من قال إن مسجد البيعة من منى يوهم أنه المسجد الذي عند جمرة العقبة وليس كذلك، لأن المعروف في مسجد البيعة أنه المسجد الذي من وراء العقبة الذي يكون على يسار الذاهب إلى منى، وبينه وبين منى المقدار الذي ذكرناه، وفي جداره القبلي حجران مكتوب فيهما أنه مسجد البيعة، والله أعلم. ولم يبين شيخنا القاضي مجد الدين موضع السدرة بعرفة، ولا مسجد الشجرة، ولا المتكأ، وما عرفت أنا ذلك تحقيقا، وأظن أن المتكأ المشار إليه هو الموضع الذي ذكره الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عند السند المتقدم في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة وما فيها من آثار النبي صلى الله عليه وسلم وما صح من ذلك: ومسجد بأجياد1 وهو موضع فيه يقال له المتكأ، سمعت جدي أحمد بن محمد، ويوسف بن محمد بن إبراهيم يسألان عن المتكأ، وهل صح عندهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكأ فيه، فرأيتهما ينكران ذلك ويقولان: لم نسمع به من ثبت، قال لي جدي: سمعت الزنجي مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم القداح، وغيرهما من أهل العلم أن أمر المتكأ، ليس بالقوي عندهم، بل يضعفونه، غير أنهم يثبتون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأجياد الصغير، لا يثبت ذلك الموضع ولا يقف عليه. قال: ولم أسمع أحدا من أهل مكة يثبت أمر المتكأ2 ... انتهى. وبأجياد الصغير موضع يقال له الآن المتكأ، وهو دكة مرتفعة متسعة منورة ملاصقة لدار تنسب للشيخ يحيى بن علي بن بجير الحجبي شيخ الحجبة كان، ويعرف هذا البيت الآن بسعد الدويدار فتى الشريف أحمد بن عجلان صاحب مكة.

_ 1 أجياد: هي الموضع الذي كانت به الخيل التي سخرها الله لإسماعيل عليه السلام، ويقال: ما سمي أجياد أجيادا إلا لخروج الخيل الجياد، منه مع السميدع "انظر: معجم البلدان 1/ 105، أخبار مكة للأزرقي 1/ 82". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202.

وأخبرني بعض فقهاء مكة أنه رأى الشريف عجلان بن رميثة صاحب مكة ينكر على جماعة رآهم يلعبون في الموضع المشار إليه، وأمر باحترام هذا الموضع، وعلل ذلك بأن هذا الموضع ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم. وأخبرني بعض الحجبة عن بعض أقاربه أن النبي صلى الله عليه وسلم رؤي بهذا الموضع، وهو على يسار الذاهب إلى رباط ربيع قريبا منه. وفي كون المتكأ المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر، لأن الأزرقي ذكر ما يقتضي أن المتكأ في الشعب الذي فيه بئر عكرمة بأجياد الصغير، وإذا كان كذلك فليس المتكأ هذه الدكة، والله أعلم. وذكر الفاكهي المتكأ الذي بأجياد كما يوافق ما ذكره الأزرقي، وذكر فيه شيئا لم يذكره الأزرقي، لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة: ومنه الموضع الذي بأجياد الصغير، وهو الذي يقال له المتكأ1. وبعض الناس يقول: أول ما نزل القرآن في ذلك الموضع، نزل فيه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وهي أول سورة نزلت من القرآن ... انتهى، وهذا غريب جدا2. ولذلك أوردناه، والله أعلم بصحته. وبقرب باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة موضع يقال له المتكأ ملاصق لبيت المرشدي قرب المدرسة الأرسوفية الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى، وفي طريق التنعيم المعتادة موضع يقال له المتكأ، وهذان الموضعان كلاهما غير المراد، ولعلهما سميا بذلك للراحة بالاتكاء عندهما من تعب السير إلى العمرة والله أعلم. وأما مسجد الشجرة المشار إليها فهو بالحديبية والشجرة المنسوب إليها هذا المسجد هي الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان كما في القرآن العظيم، وكانت هذه الشجرة سمرة معروفة عند الناس، ثم غيبت لقطعها، لأن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أمر بقطعها حين بلغه أن الناس يأتون إليها ويصلون عندها ويعظمونها، ورأى أن هذا الفعل حدث، وهذا يروى عن ابن جريج في كتاب الفاكهي. وذكر الفاكهي شيئا من خبر هذا المسجد، لأنه قال لما ذكر مسجد الحديبية، وهذا المسجد عن يمين طريق جدة، وهو المسجد الذي يزعم الناس أنه الموضع الذي كان فيه

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202، وأخبار مكة للفاكهي 4/ 9، القرى "3: 665"، ومثير الغرام "ص: 345". 2 أخبار مكة للفاكهي 4/ 10، والصحيح أن أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه في غار حراء، والمتكأ لا زال معروفا في شعب أجياد الصغير على ما قال البلادي في معجم معالم الحجاز 8/ 18.

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو مسجد الكرز، وثَمَّ مسجدٌ آخر تصلي الناس فيه بناه يقطين بن موسى في الشق الأيسر1 ... انتهى. وهذان المسجدان والحديبية لا يعرفون اليوم، والله أعلم بذلك. ورأيت في جزء مترجم بالثاني من "فضائل مكة" للجندي من رواية أبي القاسم عبد الله بن علي بن عبد الله الطوسي المعروف بكركان: عن أبي منصور طاهر بن العباس بن منصور المروزي، عن المغيرة بن عمرو بن الوليد العدني، عن الجندي.... وفي آخره: سمعت أبا منصور طاهر بن العباس بن منصور يحكي عن أبي سهيل النيسابوري أن المواضع التي يزجى فيها استجابة الدعاء في المسجد الحرام خمسة عشر موضعا، وعد منها أربعة عشر: باب بني شيبة، وباب إبراهيم، وباب النبي صلى الله عليه وسلم، وباب الصفا، وزمزم، والمقام، والركن الأسود، والملتزم، ومجاور المنبر حيث يقف المحمدون، وعند الركن العراقي، وتحت الميزاب، والركن الشامي، وما بين الركن الشامي واليماني وهو المستجار وعند الركن اليماني. وقال غيره: إن المواضع التي يرجى فيها استجابة الدعاء في المسجد الحرام ثلاثون موضعا، ولم يعدها، ولم يذكر مواضعها ... انتهى. وباب النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه هو الباب المعروف الآن بباب الجنائز، سماه بذلك الأزرقي في "تاريخه" لأنه لما ذكر صفته القديمة قال: وهو باب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج منه ويدخل فيه من منزله الذي في زقاق العطارين، يقال له: مسجد خديجة بنت خويلد رحمة الله تعالى ورضوانه عليها2 ... انتهى. وباب إبراهيم هو باب الزيارة الذي بالجانب الغربي من المسجد الحرام.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 34. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78، 87.

الباب السادس عشر

الباب السادس عشر ذكر شيء من أخبار المقام "مقام الخليل عليه السلام" ... الباب السادس عشر: في ذكر شيء من أخبار المقام "مقام الخليل عليه السلام": هذا المقام، هو الحجر الذي وقف عليه الخليل عليه السلام، حين بنى الكعبة، وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما. وقيل: وقف عليه حين أذن للناس بالحج، وقيل: وقف عليه حين غسلت زوجة ابنه إسماعيل عليه السلام رأسه لما جاء يسأل عن ولده إسماعيل، وهو في خبر طويل، ضعفه سعيد بن جبير، ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الخليل عليه السلام وقف على ذلك لهذه الأمور كلها، والله أعلم. وقد ذكر صفته وقدره الأزرقي1 وابن جبير2 وابن جماعة، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب، واختصرنا هنا على ما ذكره ابن جماعة لأنه أبلغ في التحرير. أخبرني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري قال: أخبرنا القاضي عز الدين بن جماعة قال: وقد ذكر الأزرقي أن ذرع المقام ذراع، وأن القدمين داخلان فيه سبعة أصابع. وحررت لما كنت مجاورا بمكة المشرفة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة مقدار ارتفاعه من الأرض، فكان نصف ذراع وربع ذراع وثمن ذراع، بالذراع المستعمل في زماننا بمصر في القماش، وأعلا المقام مربع من كل جهة: نصف ذراع وربع ذراع، وموضع غوص القدمين ملبس بفضة، وعمقه من فوق الفضة: سبعة قراريط ونصف قيراط من ذراع القماش3 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 228. 2 رحلة ابن جبير "ص: 62". 3 هداية السالك 3/ 135.

ذكر حلية المقام

ذكر حلية المقام: أول ما حُلِّيَ المقام في خلافة المهدي1 العباسي، لأنه رفع فانثلم لرخاوة حجره، فكتب الحجبة إلى المهدي يعرفونه بذلك، وأنهم يخشون عليه أن يتفتت، فبعث المهدي بألف دينار أو أكثر، فضببوا بذلك المقام من أعلاه وأسفله، فلما كان في خلافة المتوكل2 زيد في تحليته بالذهب وجعل ذلك فوق حليته الأولى، وذلك في مصدر الحاج سنة ستٍّ وثلاثين ومائتين3. ثم إن جعفر بن الفضل العباسي عامل مكة، ومحمد بن حاتم قلعا حليته في خلافة المتوكل وضرباها دنانير ليستعينا بذلك على ما قيل في حرب إسماعيل بن يوسف العلوي الذي خرج من مكة وأفسد بها وبالحجاز في سنة إحدى وخمسين ومائتين4. ولم تزل حلية المهدي على المقام إلى أن قلعت عنه في سنة ست وخمسين ومائتين في المحرم، لأجل إصلاحه، لأن الحجبة ذكروا لعامل مكة علي بن الحسن العباسي أن المقام وَهَى، وتسللت أحجاره، ويخشى عليه، وسألوه في تجديده عمله وتضبيبه حتى يشتد، فأجابهم لسؤالهم وزادهم ذهبا وفضة على حليته الأولى، فعمل له طوقان من ذهب فيهما ألف مثقال إلا ثمانية مثاقيل، وطوق من فضة. وأحضر المقام إلى دار الإمارة وأذيبت له العقاقير بالزئبق، وشد بها شدا جيدا حتى التصق، وكان قبل ذلك سبق قطع قد زال عنها الإلصاق لما قلعت الحلية عنه في سنة ست وخمسين ومائتين لأجل إصلاحه5، وكان الذي شده بيده في هذه السنة: بشير الخادم مولى أمير المؤمنين المعتمد6 العباسي، وحمل المقام بعد اشتداده بالإلصاق وتركيب الحلية التي عملت له لشده أيضا عليه إلى موضعه، وذلك يوم الاثنين لثماني ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين ومائتين، وكان عمل حليته في المحرم وصفر من هذه السنة7.

_ 1 هو محمد المهدي بن المنصور، وولي الخلافة بعد وفاة أبيه أبي جعفر المنصور صنة 158هـ، وظل في الخلافة حتى توفي سنة 169هـ. 2 هو جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد، تولى الخلافة بعد وفاة الواثق سنة 232هـ ظل في الخلافة حتى قتل سنة 247هـ. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 36، وإتحاف الورى 2/ 302. 4 البداية والنهاية 11/ 29، وإتحاف الورى 2/ 330. 5 العقد الثمين 6/ 152، وإتحاف الورى 2/ 333. 6 من المعروف أن المعتمد تولى الخلافة سنة 256هـ حتى توفي سنة 179هـ، فيكون الخليفة المقصود في التاريخ المذكور هو "المهتدي" وليس "المعتمد". 7 إتحاف الورى 2/ 333، والعقد الثمين 6/ 152.

وفي أوائل شهر ربيع الأول وسع الطوقان الذهب -المشار إليهما- لضيقهما ثم عملا عليه، ووضع في موضعه في التاريخ المتقدم ذكره. هذا ملخص بالمعنى مما ذكره الفاكهي في خبر "حلية المقام" وكلامه أبسط من هذا، ونذكره كما ذكره في أصل هذا الكتاب. وذكر الأزرقي 1 حليته في زمن المهدي والمتوكل، ولم يذكر تاريخ حليته في زمن المهدي وهي سنة إحدى وستين ومائة، على ما ذكره الفاكهي2.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 256 وما بعدها. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 165، وإتحاف الورى 2/ 201- 211.

ذكر صفة الموضع الذي فيه المقام والمصلى خلفه

ذكر صفة الموضع الذي فيه المقام والمصلى خلفه: أما صفة الموضع المشار إليه: فإنه الآن قبة عالية من خشب ثابتة قائمة على أربعة أعمدة دقاق حجارة منحوتة بينها أربعة شبابيك من حديد من الجهات الأربعة، ومن الجهة الشرقية يدخل إلى المقام، والقبة مما يلي المقام منقوشة مزخرفة بالذهب، ومما يلي السماء مبيضة بالنورة. وأما موضع المصلى الآن: فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة، منها: عمودان عليهما القبة وهو متصل بها، وهو مما يلي الأرض منقوش مزخرف بالذهب، ومما يلي السماء مبيضة بالنورة. وأما موضع المصلى الآن: فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة، منها: عمودان عليهما القبة وهو متصل بها، وهو مما يلي الأرض منقوش مزخرف بالذهب، ومما يلي السماء مبيض بنورة. وأحدث وقت صنع فيه ذلك في شهر رجب سنة عشر وثمانمائة1. واسم الملك الناصر فرج صاحب الديار المصرية والشامية مكتوب فيه بسبب هذه العمارة، واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي صاحب مصر مكتوب في الشباك الشرقي في هذا الموضع بسبب عمارته له في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة2. والمقام بين الشبابيك الأربعة الحديد في قبة من حديد ثابت في الأرض، والقبة التي عليها ثابتة أيضا في الأرض برصاص مصبوب، بحيث لا يستطاع قلع القبة الحديد التي فوقه إلا بالمعاول وشبهها، ولعل القبة الحديد التي في جوفها المقام الآن القبة الحديد التي كانت توضع عليها عند قدوم الحاج إلى مكة صونا لها، لكونا أحمل للازدحام والاستلام على ما ذكر ابن جبير3 وذكر ما يقتضي أن المقام كان عند رحلته إلى مكة غير ثابت وأنه يوضع ويرفع، ويجعل حينا في الكعبة في البيت الذي فيه الدرجة التي يصعد منها إلى السطح أي سطح الكعبة ويجعل أيضا في موضعه

_ 1 إتحاف الورى 3/ 457. 2 إتحاف الورى 3/ 187. 3 رحلة ابن جبير "ص 63".

الذي هو به الآن في قبة من خشب، فإذا كان الموسم قلعت قبة الخشب، وجعلت عليه القبة الحديد، ذكر ذلك في موضعين من رحلته، ونص كلامه الدال على أن المقام غير مؤبد موضعه الآن قوله بعد أن ذكر اعتمار مُكْثِر بن عيسى بن فليته أمير مكة في شهر رجب من سنة تسع وسبعين وخمسمائة وهي السنة التي وصل فيها ابن جبير إلى مكة للحج فلما فرغ يعني مكثرا من الطواف صلى عند الملتزم، ثم جاء إلى المقام وصلى خلفه، وقد أخرج له من الكعبة، ووضع في قبته الخشبية التي يصلى خلفها، فلما فرغ من صلاته رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح به، ثم أعيدت القبة عليه1 ... انتهى. وما عرفت متى جعل المقام ثابتا في القبة على صفته التي هو عليها الآن. وأما القبة التي فوق القبة الحديد التي المقام في جوفها: فأظن أن الملك المسعود صاحب اليمن ومكة أول من بناها، والله أعلم.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص:109".

ذكر ذرع ما بين المقام والحجر الأسود

ذكر ذرع ما بين المقام والحجر الأسود: وما بين المقام والركن الشامي الذي يقال له العراقي، وما بين المقام وبين جدار الكعبة وشاذروانها المقابل للمقام، وما بين المقام وحجرة زمزم وحرف بئر زمزم الطيبة المباركة: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم في تاريخه أنه قال: وذرع ما بين الركن الأسود إلى مقام إبراهيم عليه السلام تسعة وعشرون ذراعا وتسعة أصابع، وذرع ما بين جدار1 الكعبة من وسطها إلى المقام: سبع2 وعشرون ذراعا، وذرع ما بين شاذروان الكعبة إلى المقام: ستة3 وعشرون ذراعا ونصف، ومن الركن الشامي إلى المقام: ثمانية وعشرون ذراعا وسبع4 عشرة أصبعا ثم قال: ومن المقام إلى جدار حجرة زمزم: اثنان وعشرون ذراعا. ومن المقام إلى حرف5 بئر زمزم أربع6 وعشرون ذراعا وعشرون إصبعا7 ... انتهى. ثم قال القاضي عز الدين بن جماعة فيما أخبرني عنه خالي: ومن جدار الشباك الذي داخله المقام إلى شاذروان الكعبة: عشرون وثلثا ذراع وثمن ذراع، يعني بذراع الحديد المتقدم ذكره8.

_ 1 في أخبار مكة 2/ 85: "جدر". 2 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة "سبعة". 3 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة "ستة". 4 في أخبار مكة: "تسع". 5 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة: "صرف". 6 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة: "أربعة". 7 أخبار مكة 2/ 85 و68. 8 هداية السالك 3/ 1351.

وقد حررنا بعض ما حرره الأزرقي في هذا المعنى، فكان ما بين ركن الكعبة الذي فيه الحجر الأسود وبين الركن اليماني من أركان الصندوق الذي فيه المقام من داخل الشباك الذي فيه الصندوق، أربعة وعشرون ذراعا إلا سدس ذراع، وكان ذرع ما بين وسط جدار الكعبة الشرقي إلى وسط الصندوق المقابل له: اثنين وعشرين ذراعا إلا ربع ذراع، وكان ما بين ركن الكعبة الشامي الذي يلي الحجر بسكون الجيم وركن الصندوق الشامي: ثلاثة وعشرون ذراعا، وكان مما بين ركن الصندوق الشرقي إلى ركن البيت الذي فيه بئر زمزم المقابل له: خمسة عشر ذراعا إلا ثلث ذراع، وكل ذلك بذراع الحديد المتقدم ذكره.

ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام وما قيل في ذلك

ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام وما قيل في ذلك: ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه له إلى موضعه وهذا حين غيره السيل عنه: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام: هو هذا الذي هو به اليوم، وهو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر، فجُعل في وجه الكعبة، حتى قدم عمر رضي الله عنه فرده بمحضر من الناس، وذكر الأزرقي ما يوافق قول ابن أبي مليكة في موضع المقام عن عمرو بن دينار، وسفيان بن عيينة1. وروى الفاكهي، عن عمرو بن دينار، وسفيان بن عيينة، مثل ما حكاه عنهما الأزرقي بالمعنى2. ونقل المحب الطبري في "القرى" عن مالك ما يخالف ذلك، لأنه قال: وقال: مالك في المدونة: كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه اليوم، وكان أهل الجاهلية ألصقوه بالبيت خيفة السيل، فكان كذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر، فلما ولي عمر رضي الله عنه رده بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قيس بها حين أخروه ... انتهى. ثم قال المحب: وفي هذا مناقضة ظاهرة لما ذكره الأزرقي عن ابن أبي مليكة، وسياق لفظ حديث جابر رضي الله عنه الصحيح الطويل، وما روي نحوه يشهد لترجيح قول ابن أبي مليكة، وذلك قوله: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم وقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ

_ 1 أخبار مكة 2/ 33. 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 454، 455.

مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبين الكعبة، والمتبادر إلى الفهم عند سماع هذا اللفظ أنه لم يكن حينئذ ملصقا بالبيت، لأنه لا يقال في العرف تقدم إلى كذا فجعله بينه وبين كذا إلا فيما يمكن أن يقدمه أمامه وأن يخلفه خلفه، وإن كان ملصقا تعين التقديم لا غير1 ... انتهى باختصار. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب بقية كلام المحب وكلاما لمالك رحمه الله في المعنى وبينا ما في الصواب، والله أعلم. وذكر موسى بن عقبة في "مغازيه"، وأبو عروبة في "الأوائل" له، والفاكهي في كتابه ما يوافق ما ذكره مالك في أن المقام كان في وجه الكعبة لاصقا، في الجاهلية. فأما موسى بن عقبة فإنه قال فيما رويناه عنه: وكان زعموا أن المقام لاصق في الكعبة فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا ... انتهى. ذكر ذلك في خبر فتح مكة. وأما أبو عروبة: فإنه قال فيما رويناه عنه: وكان زعموا أن المقام لاصق في الكعبة فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا ... انتهى. ذكر ذلك في خبر فتح مكة. وأما أبو عروبة: فإنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: كان المقام إلى جنب البيت، وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يصلون خلفه ... انتهى باختصار لقصة رد عمر رضي الله عنه للمقام إلى موضعه الآن، وما كان بينه وبين المطلب بن أبي وداعة السهمي في موضعه الذي حرره المطلب. وقال أبو عروبة أيضا: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا ابن جريج قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر رضي الله عنه أول من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قُبُل الكعبة ... انتهى. وأما الفاكهي فقال: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا عبد الجبار بن سعيد، عن ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن نوفل بن معاوية الدئلي قال: رأيت المقام في عهد عبد المطلب ملصقا بالبيت مثل المهاة. وروى الفاكهي بسنده إلى عبد الله بن سلام خبرا فيه أذان إبراهيم على المقام للناس بالحج، وفيه: فلما فرغ أمر بالمقام فوضعه قبلته فكان يصلي إليه مستقبل الباب. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة من المدينة فكان يصلي إلى المقام وهو ملصق بالكعبة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم2. وقال الفاكهي: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثنا يحيى بن محمد بن ثوبان، عن سليم، عن ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنه قال: كان

_ 1 القرى "ص: 345، 346". 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 442.

المقام في وجه الكعبة، وإنما قام إبراهيم عليه حين ارتفع البنيان فأراد أن يشرف على البناء قال: فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يطئوه بأقدامهم فأخرجه إلى موضعه الذي هو به اليوم حذاء موضعه الذي كان قدام الكعبة. وقال الفاكهي: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال عبد العزيز: أراه عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى سقع البيت. قال الفاكهي: وقال بعض المكيين: كان بين المقام وبين الكعبة ممر العنز1 ... انتهى. وليس فيما ذكره مالك، وابن عقبة وأبو عروبة، والفاكهي من كون المقام كان عند الكعبة بيان موضعه عند الكعبة إلا أن في الخبر الذي رواه الفاكهي عن سعيد بن جبير ما يفهم منه تقريب بيان موضع المقام عند الكعبة، لأن فيه ما يقتضي أن موضعه الآن حذاء موضعه الذي كان به قدام الكعبة2. والمقام الآن في جوف الصندوق الذي في جوف الشبابيك الأربعة المتقدم ذكرها، ويحاذي الصندوق الذي فيه المقام من وجه الكعبة ذراعان بالحديد ونحو خمسة قراريط بذراع الحديد أيضا المتقدم ذكره، والذراعان هما نصف الحفرة المرخمة الملاصقة لشاذروان الكعبة، ونصف الحفرة المشار إليه هنا هو النصف الذي يلي الحجر بسكون الجيم وما زاد على الذراعين من القراريط التي هي كمال ما يحاذي الصندوق الذي فيه المقام وهي إلى طرف الحفرة مما يلي الحجر بسكون الجيم وإذا كان كذلك فيكون موضع المقام عند الكعبة تخمينا، والله أعلم. وفيما بين نصف الحفرة مما يلي الحجر بسكون الجيم والقراريط الزائدة على الذراعين، لأن ذلك يحاذي الصندوق الذي فيه المقام الآن، وإذا كان كذلك فهو يوافق قول من قال إن موضع المقام الآن حذاء موضعه عند الكعبة، والله أعلم. وذكر الفقيه محمد بن سراقة العامري في كتابه "دلائل القبلة" في موضع المقام عند الكعبة ما يخالف قول من قال إن موضعه اليوم بحذاء موضعه عند الكعبة، ونص ما ذكره ابن سراقة: ومن الباب يعني باب البيت إلى مصلى آدم عليه السلام حين فرغ من طوافه وأنزل الله عليه التوبة، وهو موضع الخلوق من إزار الكعبة: أرجح من تسعة أذرع.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 455، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 35 من طريق: ابن أبي عمر، عن سفيان، عن هشام، عن أبيه، ولم يقل عن عائشة. وسقع البيت ناحيته. 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 454.

وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين وأنزل الله عليه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ، ثم نقله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو فيه الآن، وذلك على عشرين ذراعا من الكعبة لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف، حين كثر الناس وليدور الصف حول الكعبة ويرى الإمام من كل وجه، ثم حمله السيل في أيام عمر رضي الله عنه وأخرجه من المسجد، فأمر عمر رضي الله عنه برده إلى موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وبين موضع الخلوق وهو مصلى آدم وبين الركن الشامي: ثمانية أذرع ... انتهى. وقد سبق ما ذكرناه عن ابن سراقة في الباب الثامن من هذا الكتاب عند بيان مصلي آدم عليه السلام وهذا يقتضي اتخاذ موضع مصل آدم عليه السلام، وموضع الخلوق، وموضع المقام عند الكعبة، وهو على مقتضى ما ذكر ابن سراقة في ذرع ما بينه وبين ركن الكعبة الذي يلي الحجر بسكون الجيم ويكون على ذراعين وثلثي ذراع بالحديد طرف الحفرة إلى جهة الحجر بسكون الجيم وعلى هذا فيكون موضع المقام عند الكعبة خارجا عن الحفرة: في مقدار ذراعين وثلثي ذراع، وعلى مقتضى ما قيل من أن موضعه اليوم حذاء موضعه عند الكعبة، يكون موضعه عند الكعبة في مقدار نصف الحفرة التي تلي الحجر بسكون الجيم والله أعلم بالصواب. وأما الموضع الذي ربط فيه المقام في وجه الكعبة: بأستارها إلى أن حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرده، وذلك أن يصد الطائف من الحجر الشامي في حجارة شاذروان الكعبة إلى أن يبلغ الحجر السابع، فإذا بلغ الحجر السابع فهو موضعه، وإلا فهو التاسع من حجارة الشاذروان أيضا1 ... انتهى. وذكر الفاكهي في موضع آخر من كتابه ما يقتضي أن هذا علامة للموضع الذي ذكر عبد الله بن السائب المخزومي أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عنده يوم فتح مكة، وذكر الأزرقي مثل ذلك، والله أعلم. وما ذكره ابن سراقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقام إلى موضعه الآن، يشهد له ما ذكره ابن عقبة، وما ذكره يخالف ما ذكره سعيد بن جبير، وعطاء، وغيرهم من أن عمر رضي الله عنهم أول من رده إلى موضعه الآن.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35.

وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن الولاة حولته إلى مكانه هذا، وهذا يفهم أن الذي رده غير عمر رضي الله عنه فيتحصل فيمن رده إلى موضعه الآن ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه عمر. والثالث: غبر عمر رضي الله عنه، والله أعلم. والمشهور أنه عمر، وردّ الخبر الذي ذكره الفاكهي عن سعيد بن جبير ما يفهم أن رد عمر رضي الله عنه للمقام إلى موضعه الآن لئلا تطؤه الناس، والمعروف أن رد عمر رضي الله عنه له إلى موضعه الآن لكون السيل المعروف بسيل أم نهشل أزاله عن موضعه الأول، والله أعلم. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن رجلا من آل عائذ بن عبد الله بن مخزوم قال لعمر رضي لله عنه إنه يعلم موضع المقام الأول، والمعروف أن الذي قال ذلك لعمر هو المطلب بن أبي وداعة السهمي، كما ذكر الأزرقي1، والفاكهي، وغيرهما والله أعلم. وما ذكره ابن سراقة في ذرع ما بين موضع المقام الآن ووجه الكعبة لا يستقيم، لنقص ما ذكره ابن سراقة في ذلك عما ذكره الأزرقي، لأن فيه نقصا كثيرا، والذراع الذي حرر به ابن سراقة ذراع اليد، وكذلك الأزرقي، وفيما ذكره ابن سراقة نظر من غير هذا الوجه. وذكر ابن جبير في أخبار "رحلته" ما يقتضي أن الحفرة المرخمة التي في وجه الكعبة علامة موضع المقام في عهد الخليل عليه السلام إلى أن رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى2. وفي هذا نظر، لأن موضع المقام الآن هو موضعه في عهد الخليل عليه السلام من غير خلاف عُلِمَ في ذلك، وأما الخلاف ففي موضعه اليوم، هل هو موضعه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن أبي مليكة، أو لا كما قال مالك، والله أعلم. وفي كلام ابن جبير نظر من وجه آخر بيناه في أصل هذا الكتاب، والله أعلم. ولم أر في تاريخ الأزرقي ذكر السَّنة التي رد فيها عمر رضي الله عنه المقام إلى موضعه هذا لما غيره عنه السيل3، وهو سنة سبع عشرة من الهجرة على ما ذكره ابن جرير، وكذا ابن الأثير في "كامله"4، وقيل: ثماني عشرة، ذكره ابن حمدون في "تذكرته"، والله أعلم بالصواب.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 33. 2 رحلة ابن جبير "ص: 62". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35. 4 تاريخ الطبري 4/ 68، وإتحاف الورى 2/ 7، والكامل لابن الأثير 2/ 227، والذهب المسبوك "ص: 14"، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 68، 69.

ذكر شيء من فضل المقام

ذكر شيء من فضل المقام: لا شك أن فضل المقام مشهور ثابت بنص القرآن العزيز والسنة الشريفة الصحيحة، فأما القرآن فقوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] الآية. والمراد بالمقام في هذه الآية هذا المقام على الصحيح المشهور، وقيل: المراد مناسك الحج كلها. وقيل: عرفة، وقيل: المزدلفة، وقيل الحرم كله. وأما السنة: فتقدم لنا في فضل الحجر الأسود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب" 1 وروينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: يأتي الركن والمقام يوم القيامة كل واحد منهما مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالموافاة2.

_ 1 أخرجه: ابن حبان "3710"، والحاكم "1679"، والبيهقي "5/ 75، وابن خزيمة "2732"، والأصبهاني في الترغيب "1157"، وتحرفت فيه "نافع بن شيبة" إلى "مسافح بن شيبة". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35.

ما جاء في هلاك من تعرض له بسوء

ما جاء في هلاك من تعرض له بسوء: قال الفاكهي: وقال بعض الناس: إن رجلا كان بمكة يقال له جريج يهودي أو نصراني، فأسلم بمكة، فقصد المقام ذات ليلة فطلب فوجد عنده، وأراد أن يخرجه إلى ملك الروم، قال: فأخذ منه وضربت عنق جريج1 ... انتهى. وكان أبو طاهر القرمطي يريد أخذه فلم يظفر به، لأن سدنة المسجد غيبوه في بعض شعاب مكة. ولا يزال هذا المقام محروسا بحراسة الله تعالى إلى حين رفعه إلى الجنة، كما هو مقتضى حديث عائشة الذي رويناه في تاريخ الأزرقي، وقد سبق في فضل الحجر الأسود. وحكم المقام مخالف حكم الحجر الأسود في التمسح به، واستلامه، وتقبيله، فإن ذلك غير مطلوب في المقام على ما ذكره العلماء، وفي تاريخ الأزرقي، ومنسك القاضي عز الدين بن جماعة2 ما يدل لذلك، والخير في اتباع قول العلماء رضي الله عنهم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 452. 2 هداية السالك 1/ 58-61.

الباب السابع عشر

الباب السابع عشر: ذكر شيء من أخبار الحِجْر المُكَرَّم حِجْر إسماعيل عليه السلام: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن إسحاق قال: في أثناء خبر بناء الخليل عليه السلام للكعبة: وجعل إبراهيم عليه السلام الحجر إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز، وكان زربا لغنم إسماعيل عليه السلام1 ... انتهى. وقد تقدم في خبر عمارة الكعبة أن قريشا أدخلت في الحجر أذرعا من الكعبة حين بنتها لما قصرت عليهم النفقة الحلال التي أعدوها لعمارة الكعبة عن إدخال ذلك فيها، وأن عبد الله بن الزبير أدخل ذلك في الكعبة حين عمرها، وأن الحجاج أخرج ذلك منها، ورده كما كان عليه في عهد قريش والنبي صلى الله عليه وسلم واستمر الحال على ذلك إلى الآن، وصار بعض الحجر من الكعبة وبعضه ليس منها. ويدل لذلك ما رويناه في الصحيحين، وغيرها من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا استقصرتها حين بنت الكعبة". وفي رواية: "فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه، فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبا من سبعة أذرع". أخرجاه2. وفي مسلم عن الوليد بن عطاء، فذكر شيئا من حريق الكعبة، وعمارة بن الزبير لها، ثم قال: قال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 64، 65. 2 أخرجه البخاري: "1583- 1568"، ومسلم "3/ 371- 372".

الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس حديثو عهد بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع" قال عطاء: وزاد فيه: "خمسة أذرع من الحجر"، حتى أبدى أساسها ونظر إليه الناس، فبنى عليها البناء1 ... انتهى. وذكر الفاكهي حديثا فيه ما يقتضي أن الذي تركته قريش من الكعبة في الحجر أربعة أذرع، لأنه روى حديثا قال فيه: ولقد دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى بنيانه قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لولا حداثة قومك بالكفر لهدمته وبنيته على بناء إبراهيم، ولجعلت له بابين، ولأدخلت أربعة أذرع من الحجر فيه، وذلك أن أربعة أذرع من الحجر من البيت" 2 ... انتهى. وفي إسناد هذا الحديث من لا أعرفه وإنما ذكرناه لغرابته، وسيأتي إن شاء الله في مقدار ما تركته قريش من الكعبة في الحجر وغير ذلك. والأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها تقتضي أن بعض الحجر من البيت لا كله، كما قال بعضهم فيما حكاه المحب الطبري، وتمسك قائل ذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر، أمن البيت؟ قال: "نعم". قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: "إن قومك قصرت بهم النفقة" 3 الحديث ... انتهى. وحديثها هذا لا يعارض أحاديثها التي ذكرناها، لأن حديثها هذا مطلق، وأحاديثها الأخرى مقيدة، والمطلق يحمل على المقيد، وقد أشار إلى ذلك هنا الشيخ محب الدين الطبري، لأنه قال: والأصح أن القدر الذي فيه من البيت سبعة أذرع، وقد جاء مصرحا به في الحديث عن عائشة رضي الله عنها فذكر عنها ما سبق بالمعنى مختصرا. ثم قال: فيحمل المطلق فيما تقدم على هذا، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المطلق فيما تقدم على هذا، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المستحسن، ذكر ذلك في "شرحه للتنبيه"، وقال في "القرى" بعد أن ذكر ما استدل به من يرى أن الحِجر من البيت، ومن يرى أن بعضه من البيت: وفي هذه الأحاديث دلالة على أن بعض الحجر من البيت، ومن يرى حمل المطلق على المقيد يقول: مطلق هذه الأحاديث المتقدمة في الفصل قبله منزلة على هذا، ومن لا يراه عمل بها4 ... انتهى. قلت: يدل لمجمل حديث عائشة رضي الله عنها المطلق على أحاديثها المقيدة: أن العلة في حديثها المطلق، هي العلة في أحاديثها المقيدة، وهي ترك قريش بعض

_ 1 أخرجه: مسلم "الحج: 1333". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 228، والحديث رواه البخاري 3/ 439، وفتح الباري 3/ 443. 3 أخرجه: البخاري "1584"، ومسلم "3/ 273، 4 القرى "ص: 510".

الكعبة في الحجر حين قصرت بهم النفقة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها المطلق: "ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدخِل الحِجرَ في البيت" ... الحديث، فإن حال من قال بأن الحجر كله من البيت لا يخلو من أمرين: إما أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله هذا إلى إدخال بعض الحجر في البيت، أو جميعه. فإن قال بالأول: فقد ناقض قوله: إن الحجر كله من البيت. وإن قال الثاني: ففي صحة ذلك نظر، لأن في رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، وأدخلت فيه ما أخرج منه، وجعلت له بابا شرقيا، وبابا غربيا، وبلغت به أساس إبراهيم" 1. وهذه الرواية تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يختار رد البيت إلى أساس إبراهيم عليه السلام وأساس إبراهيم عليه السلام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: هو الذي أدخلته قريش في الحجر لقصور النفقة عليهم كما سبق بيانه، لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالتاريخ أن البيت كان مبنيا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على أساس إبراهيم عليه السلام من جميع جوانبه، إلا من جهة الحجر كما سبق بيانه فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله هذا إلى أساس إبراهيم عليه السلام الذي أدخلته قريش في الحجر، وهو الأساس الذي بنى عليه ابن الزبير رضي الله عنهما كما تقدم في حديث عطاء في صحيح مسلم، وذكره الأزرقي في خبر بناء ابن الزبير للكعبة، لأن فيه فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام فوجده داخلا في الحجر نحو ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل، آخذ بعضها بعضا كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، فحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم فأشهدهم على ذلك الأساس ... ثم قال: ثم وضع البناء على ذلك الأساس2 ... انتهى. قلت: ويدل لذلك أيضا ما في بعض طرق الأحاديث أي أحاديث عائشة رضي الله عنها المطلقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى عائشة مقدار ما تركته قريش من الكعبة في الحجر ولو كان من البيت لم يكن لإيرائه صلى الله عليه وسلم ذلك لعائشة ... رضي الله عنها فائدة، والله أعلم. واختلاف الروايات عنها في قدر ما في الحجر من الكعبة لا يقتضي ترك العمل بما روي عنها من أن بعض الحجر من البيت، وإنم يقتضي أن يعمل في مقدار ما في الحجر

_ 1 أخرجه البخاري "1584". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 206، 207.

من الكعبة، فأكثر الروايات في ذلك، وهي نحو سبعة أذرع كما في الصحيحين، والله أعلم. وإنما نبهنا على ذلك، لأن كلام الشيخ تقي الدين بن الصلاح يوهم خلاف ذلك على ما نقله عنه النووي في "الإيضاح" ونص كلامه: وأما حديث عائشة: فقد قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمة الله عليه فقد اضطربت فيه الروايات ففي رواية في الصحيحين: "الحجر من البيت" وروي: "ستة أذرع من الحجر من البيت"، وروي: "ستة أذرع أو نحوها"، وروي: "خمسة أذرع"، وروي: "قريبا من سبع". قال: وإذا اضطربت الروايات تعين الأخذ بأكثرها؛ ليسقط الفرض بيقين ... انتهى. وهذا من ابن الصلاح والنووي على أن الطواف لا يصح إلا من وراء الحجر جميعه. وذكر النووي أن هذا المذهب هو الصحيح، وعليه نص الشافعي قال: وبه قطع جماهير العلماء من أصحابنا وهذا هو الصواب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف خارج الحجر، وهكذا الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم من بعدهم ... انتهى. قلت: يمكن الانفصال عن استدلال النووي بطواف النبي صلى الله عليه وسلم خارج الحجر على وجوب الطواف من خارج الحجر، وذلك أن الأفعال الصادرة من النبي صلى الله عليه وسلم في حَجِّهِ لا تخلو من أمرين: أحدهما: أن يكون فعلُها مطلوبا على سبيل الوجوب، والإخلالُ بشيء منها مبطلٌ للحج. والآخر: أن يكون فعلها مطلوبا، ولكن بعضها يطلب وجوبا، وبعضها يطلب ندبا، وتمييز الواجب من المندوب دليل خارج والأول لا سبيل إليه، والثاني حق. وإذا تقرر ذلك فطواف النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لا يكون دليلا على وجوب الطواف هكذا لما وقع من التزام أن بعض أفعاله صلى الله عليه وسلم في الحج واجب، وبعضها ليس بواجب، ولا يمكن أن يقوم دليل على وجوب الطواف خارج الحجر إذا قطع النظر عن الاستدلال بطواف النبي صلى الله عليه وسلم هكذا إلا أن يكون حديث عائشة رضي الله عنه "الحجر من البيت" وفي الاستدلال به نظر، لما تقدم بيانه من أنه مطلق حمل على أحاديثها المقيدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقدار ما في الحجر من البيت كما سبق بيانه، فبان بهذا الانفصال عن استدلال النووي على وجوب الطواف من خارج الحجر بطواف النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا لعدم نهوض الدلالة من فعله صلى الله عليه وسلم.

هذا ويحتمل والله أعلم أن يكون طواف النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لأمرين: أحدهما: أن في ذلك حسما لمادة فساد يقع في طواف كثير من الطائفين، وذلك أن البيت من جهة الحجر لم يكن على قواعد إبراهيم عليه السلام، لترك قريش جانبا من البيت في الحجر، والواجب على الطائف الخروج عنه، فلو طاف النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر خارجا عما فيه من البيت لاقتدى به في ذلك من لا يعرف مقدار ما في البيت من الحجر، فيفسد عليه طوافه لكونه طاف من البيت ولم يطف به. والأمر الثاني: أن لو جوزنا السلامة من هذا المحذور لمعرفة جميع الخلق بمقدار ما في الحجر من البيت، لكان في طوافه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر حكمة حسنة من وجهين: أحدهما: الراحة من تسور الحجر، فإن قريشا أحاطت عليه جدارا كما في خبر بنائهم للكعبة. والآخر: أن في ذلك حسما لمادة فساد، وهو أن النساء يتسورن الحجر في الطواف كالرجال، وفي تسورهن كشف لهن، وهن مأمورات بالصيانة، فرأى صلى الله عليه وسلم أن يطوف من وراء الحجر لما في ذلك من الراحة لأمته دينا ودنيا، ومثل هذا يقال في طواف الخلفاء وغيرهم من وراء الحجر، وإذا تقرر أن طوافه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لهذا المعنى فيكون الطواف هكذا مطلوبا ندبا متأكدا لا وجوبا، لعدم نهوض الدلالة على وجوبه هكذا في طوافه صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه، فإن خالف الإنسان وتسور جدار الحجر، وطاف في الحجر فيما ليس فيه من الكعبة خصوصا على رواية سبعة أذرع أو نحوها، أو ستة أذرع ففي الجزم بفساد طوافه نظر كثير لا ينهض عليه دليل. وقد قال بصحة طواف من طاف في الحجر وجعل بينه وبين الكعبة ستة أذرع جماعة من كبار العلماء منهم: أبو محمد الجويني، وابنه إمام الحرمين، والبغوي، وذكر الرافعي أن هذا المذهب هو الصحيح، وقال به اللخمي من أصحابنا المالكية وجزم به الشيخ خليل الجندي في مختصره الذي صنفه لبيان ما به الفتوى، وتلميذه شيخنا القاضي تاج الدين بهرام المالكي في "شامله" ويدل لذلك رواية عائشة رضي الله عنها التي فيها: أن ستة أذرع من الحجر من البيت، وهي في الصحيحين كما سبق بيانه، والله أعلم.

ذكر موضع الحجر وصفته

ذكر موضع الحجر وصفته: وأما موضع الحجر: فهو ما بين الركن الشامي الذي يقال له العراقي والركن الغربي. وأما صفته: فهو عرضة مرخمة لها جدار مقوس على صورة نصف دائرة. وأما خبر عمارته: فذكر الأزرقي: أن المنصور العباسي لما حج دعا زياد بن عبيد الله الحارثي أمير مكة فقال: إني رأيت الحِجر حجارته بادية، فلا أصبحن حتى يصير جدار الحجر بالرخام. فدعا "زياد" بالعمال، فعملوه على السرج قبل أن يصبح، وكان قبل ذلك مبنيا بحجارة بادية ليس عليه رخام1. قال: ثم كان المهدي بعد ذلك قد جدد رخامه. وذكر الأزرقي أن رخام الحجر الذي عمل في زمن المهدي لم يزل فيه حتى رث في خلافة المتوكل، فقلع وألبس رخاما حسنا، وذكر أن ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائتين2 وأن ترخيمه في زمن المهدي في سنة إحدى وستين ومائة3 ولم يذكر السنة التي أمر المنصور بعمل رخامه فيها. وأرخ ذلك بالسنة التي حج فيها المنصور، وهذا لا يفيد معرفة السنة التي فعل فيها ذلك، لأن المنصور حج وهو خليفة أربع حجات على ما ذكر العتيقي في تسمية "أمراء الموسم" في سنة أربعين ومائة4، ثم في سنة أربع وأربعين ومائة5، ثم في سنة سبع وأربعين ومائة6، وتوجه إلى الحج في سنة ثمان وخمسين، فمات قبل أن يدخل مكة بعد أن أشرف عليها7. وإن كان حج بالناس في الثلاث السنين المتقدمة، لم يكن تعريف عمارته بالسنة التي حج فيها تعريفا تاما، والظاهر والله أعلم أن ذلك وقع في سنة أربعين ومائة، لأن في هذه السنة كان الفراغ من عمارة المسجد التي أمر بعملها المنصور على يدي زياد المذكور كما ذكره الأزرقي في ذلك8. وعمر المعتضد العباسي الحجر أيضا في خلافته في سنة ثلاث وثمانين ومائتين، على ما ذكره إسحق بن أحمد الخزاعي راوي تاريخ الأزرقي وألحقه فيه9.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 177. 2 إتحاف الورى 2 315. 3 إتحاف الورى 2/ 208، وأخبار مكة للأزرقي 1/ 313، 314. 4 إتحاف الورى 2/ 177، والمحبر "ص: 35"، وتاريخ الطبري 9/ 173، والكامل لابن الأثير 5/ 202، والنجوم الزاهرة 1/ 340. 5 إتحاف الورى 2/ 180- 186، وسمط النجوم العوالي 3/ 253، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 91- 95". 6 إتحاف الورى 2/ 188، وتاريخ الطبري 9/ 275، ومروج الذهب 4/ 401، والكامل 5/ 235. 7 يذكر أن المنصور حج أيضا سنة 152هـ. "مروج الذهب 4/ 402، والكامل لابن الأثير 5/ 245، وإتحاف الورى 2/ 191، والمحبر ص: 35". 8 إتحاف الورى 2/ 177، 178. 9 إتحاف الورى 2/ 353، وأخبار مكة للأزرقي 1/ 321.

وعُمِّرَ أيضا في أول خلافة الناصر العباسي، وذلك في سنة ست وسبعين وخمسمائة1. وعمرَّه أيضا المستنصر العباسي. وكذلك الملك المظفر صاحب اليمن. وكذلك الملك الناصر محمد بن قلاوون، واسم هذين الملكين، واسم المستنصر العباسي مكتوب في رخام في أعلى الحجر. وفي الرخامة التي فيها خبر عمارة الملك الناصر أن ذلك سنة عشرين وسبعمائة2. وعمر أيضا في دولة الملك المنصور علي بن الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون بأمر الأميرين: بركة، وبرقوق، مدبري دولته، في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة3. ثم عمر في سنة إحدى وثمانمائة في العمارة التي أمر بعملها الملك الظاهر برقوق، واسمه مكتوب بسبب ذلك، وذلك في رخامة في أعلى الحجر، وفي فتحة الحجر الشرقية، وفي الفتحة الأخرى ذكر بعض ألقابه في تاريخ العمارة وهو مستهل شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة4. وعمر في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة كثير من رخامه عمارة جيدة بالجبس، لتداعي ذلك إلى السقوط، وذلك في رجب وشعبان من هذه السنة، وغالب ذلك في جُدُرِ الحِجر5، ثم عمر كثير من رخامه في جداره في ظاهره، وباطنه، وأعلاه وفي أرض الحجر، وذلك في المحرم سنة ستة وعشرين وثمانمائة عمارة حسنة بالجص، بأمر متولي العمارة صاحبنا الأمير زين الدين مقبل القُدَيْدِي أثابه الله تعالى6. وقد خفي علينا شيء كثير من خبر عمارة الحجر من دولة المعتضد العباسي إلى خلافة الناصر، فإنه لا يبعد أن يخلو في هذا الزمن الطويل من عمارة، والله أعلم. وممن عمره الوزير جمال الدين المعروف بالجواد، وذلك في عشر الخمسين وخمسمائة7 ظنا والله أعلم. وأما ذرعه: فقد ذكره الأزرقي وابن جماعة، فقال الأزرقي فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: عرضه من جدار الكعبة من تحت الميزاب إلى جدار الحجر: سبعة عشر ذراعا.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 544. 2 إتحاف الورى 3/ 172. 3 إتحاف الورى 3/ 334. 4 إتحاف الورى 3/ 412. 5 إتحاف الورى 3/ 566. 6 إتحاف الورى 3/ 598ز 7 إتحاف الورى 2/ 516.

وثمانية أصابع، وذرع ما بين بابي الحجر: عشرون ذراعا، وعرضه: اثنان وعشرون ذراعا، وذرع الجدار من داخله في السماء: ذراع وأربعة عشر إصبعا، وذرعه مما يلي، الباب الذي يلي المقام: ذراع وعشرة أصابع، وذرع جدار الحجر الغربي في السماء: ذراع وعشرون إصبعا، وذرع طول الحجر من خارج مما يلي الركن الشامي، ذراع وستة عشر إصبعا، وطوله من وسطه في السماء: ذراعان وثلاثة أصابع1، وعرض الجدار: ذراعان إلا إصبعين2، وذرع باب الحجر الذي يلي المشرق مما يلي المقام: خمس أذرع وثلاثة أصابع، وذراع باب الحجر الذي يلي المغرب: سبعة أذرع، وذرع تدوير الحجر من داخله، ثمانية وثلاثون ذراعا، وذرع تدوير الحجر من خارج: أربعون ذراعا وستة أصابع3 ... انتهى كلام الأزرقي. وأخبرني خالى عن ابن جماعة قال: ذرع دائر الحجر من داخله من الفتحة إلى الفتحة: واحد وثلاثون وثلث. ومن خارجه من الفتحة إلى الفتحة: سبعة وثلاثون ونصف وربع وثمن، ومن الفتحة إلى الفتحة على الاستواء: سبعة عشر ذراعا.. ومن صدر دائر الحجر من داخله إلى جدار حجر البيت تحت الميزاب: خمسة عشر ذراعا. وعرض جدار الحجر: ذراعان وثلث ذراع وثمن ذراع. وارتفاعه عن أرض المطاف مما يلي الفتحة التي من جهة المقام: ذراع وثلثا ذراع وثمن ذراع. وارتفاعه مما يلي الفتحة الأخرى، ذراع ونصف وثلث وثمن. وارتفاعه من وسطه: ذراع وثلثا ذراع. وسعة ما بين جدار الحجر والشاذروان عند الفتحة التي من جهة المقام: أربعة أذرع وثلث. والخارج من جدار الحجر في هذه الجهة عن مسامته الشاذروان: نصف ذراع وثمن. وسعة الفتحة الأخرى: أربعة أذرع ونصف. والخارج من جدار الحجر في هذه الجهة عن مسامته الشاذروان: نصف ذراع وثلث ذراع. كل ذلك حرر بذراع القماش المستعمل في زماننا بمصر4 ... انتهى. وقد حررنا أمورا تتعلق بالحجر، فكان ما بين وسط جدار الكعبة الذي فيه الميزاب إلى مقابله من جدار الحجر: خمسة عشر ذراعا، وكان عرض جدار الحجر من وسطه: ذراعين وربع. وسعة فتحة الحجر الشرقية: خمسة أذرع. وكذلك سعة الغربية بزيادة قيراط. وسعة ما بين الفتحتين من داخل الحجر، سبعة عشر ذراعا وقيراطان، وارتفاع جدار الحجر من داخله عند الفتحة الشرقية: ذراعان إلا قيراطا. ومن خارجه عندها: ذراعان وقيراطان. وارتفاع جدار الحجر داخله ومن وسطه: ذراعان إلا ثلث. ومن

_ 1 يضيف الأزرقي هنا قوله: "الرخام من ذلك: ذراع وأربعة عشر إصبعا". 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 320، 321، إضافات اختصرها "الفاسي" هنا. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 320ن 321. 4 هداية السالك 3/ 1334، 1335.

خارجه: ذراعان وقيراطان، وارتفاع جدار الحجر من داخله عند الفتحة الغربية: ذرعان إلا قيراطا. ومن خارجه عندها: ذراعان وثمن ذراع، كل ذلك بذراع الحديد. وذكر ابن خرداذبه في ذرع دور الحجر ما يستغرب، لأنه قال: وذرع دور الحجر: خمسون ذراعا1 ... انتهى. وإنما كان هذا مستغربا لمخالفته ما ذكره الأزرقي في ذلك2، فإن ما ذكره ابن خرداذبه يزيد على ما ذكره الأزرقي عشرة أذرع.

_ 1 المسالك والممالك "ص: 133". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 321.

ذكر ما جاء في الحجر والصلاة فيه

ذكر ما جاء في الحجر والصلاة فيه: قال الفاكهي: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثني محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "يا أبا هريرة إن على باب الحجر ملكا يقول لمن دخل فصلى ركعتين: مغفورا لك ما مضى، فاستأنف العمل. وعلى باب الحجر الآخر ملك منذ خلق الله الدنيا إلى يوم يرفع البيت، يقول لمن صلى وخرج: مرحوما لك إن كنت من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقيا" 1 ... انتهى. وروينا في "تاريخ الأزرقي" عن ابن عباس رضي الله عنهما: صلوا في مصلى الأخيار ... وسئل عن ذلك ابن عباس فقال: تحت الميزاب2 ... انتهى. وحكم الصلاة فيما في الحجر من الكعبة حكم الصلاة في الكعبة، في كونه من الكعبة، فلا تصح فيه على المشهور من مذهب مالك الفرض ولا النفل المؤكد، كالسنن، والوتر، وركعتي الطواف، وركعتي الفجر والطواف الواجب، ويصح فيه النفل غير المؤكد، ويستحب ذلك فيه كبقية الحجر، ويصح في بقية الحجر الفرض من غير كراهة. ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة: جواز جميع الصلوات في جميع الحجر.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 137. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 318.

ذكر ما جاء في الدعاء في الحجر تحت الميزاب

ذكر ما جاء في الدعاء في الحجر تحت الميزاب: روينا في "تاريخ الأزرقي" عن عطاء قال: من قام تحت ميزاب الكعبة فدعا استجيب له، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وقد تقدم مثل ذلك عن الحسن البصري في الباب الخامس عشر، وفي رواية عنه: من قام تحت مثغب الكعبة، يعني ميزابها1. وروينا عن الحسن البصري في "رسالته" المشهورة قال: وسمعت أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أقبل ذات يوم، فقال لأصحابه: ألا تسألوني من أين جئت؟ قالوا: من أين جئت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما زلت قائما على باب الجنة، وكان قائما تحت الميزاب يدعو الله عنده ... انتهى. ومن فضائل الحجر: أن فيه قبر إسماعيل عليه السلام روينا عن ابن إسحاق في سيرته تهذيب ابن هشام، وروايته عن زياد البكائي عن ابن إسحاق قال: وكان عمر إسماعيل عليه السلام فيما يذكرون مائة سنة وثلاثين سنة، ثم مات رحمة الله وبركاته عليه فدفن في الحجر مع أمه هاجر، رحمهما الله2 ... انتهى. وقال الأزرقي: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني ابن إسحاق: فذكر شيئا من خبر إسماعيل عليه السلام وذكر أولاده، ثم قال: وكان من حديث جرهم وبني إسماعيل، أن إسماعيل لما توفي دفن في الحجر مع أمه، وزعموا أنها دفنت فيه حين ماتت2. وذكر صاحب "الاكتفاء" أن قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر، وأن قبره مما يلي باب الكعبة. وقد اختلف في قبر إسماعيل عليه السلام فقيل: إنه في الحجر، وهو قول ابن إسحاق، وقيل: إنه في الحطيم، وقد سبق نقل الأزرقي له عن مقاتل في أخبار الحطيم، ونقله الفاكهي عن كعب الأحبار، وعن ابن سابط. وقال الفاكهي في "فضائل مكة": حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا يزيد بن أبي حكيم، عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط أنه قال: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، وإن قبر هود، وشعيب، وصالح، وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة. وقيل: إنه حيال الموضع الذي كان فيه الحجر الأسود. وهذا القول ذكره المسعودي، لأنه قال: وقبض إسماعيل وله من العمر مائة وسبع وثلاثون سنة، فدفن في المسجد الحرام حيال الموضع الذي كان فيه الحجر الأسود3 ... انتهى. كذا وجدت في النسخة التي رأيتها من "تاريخ المسعودي" في الموضع الذي كان فيه الحجر، وأظن أن لفظة "كان" زيادة من الناسخ، لأن إثباتها لا يستقيم به معنى والله أعلم. وما ذكره المسعودي في قدر عمر إسماعيل عليه السلام يخالف ما ذكره فيه ابن إسحاق، والله أعلم بالصواب.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 318. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 313. 3 مروج الذهب 2/ 48.

وينبغي توقي النوم فيه، والاحتراز فيه من بدعتين، أحدثهما الناس لا أصل لهما على ما ذكره ابن جماعة فيما أخبرني به عنه خالي: إحداهما: وقوفهم في فتحتي الحجر للصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم. والأخرى: استقبالهم جهة النبي صلى الله عليه وسلم في فتحتي الحجر للدعاء، واستدبارهم للكعبة، والمعروف في آداب الدعاء استقبالها، هذا معنى كلامه. قال: والله تعالى يوفقنا لاجتناب البدعة، واتباع السنة بمنه وكرمه ... انتهى.

ذكر المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة

ذكر المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة: قد ذكر المحب الطبري هذه الأماكن بدلائلها في كتاب "القرى"1، وذكرنا ذلك بنصه في أصل هذا الكتاب، ونشير هنا لشيء من تلك المواضع: الموضع الأول: خلف مقام إبراهيم عليه السلام. الثاني: تلقاء الحجر الأسود، على حاشية المطاف كما في النسائي، وابن حبان، من حديث المطلب بن أبي وداعة السهمي. الثالث: قريبا من الركن الشامي مما يلي الحجر بسكون الجيم كما في مسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داود من حديث عبد الله بن السائب2. الرابع: عند باب الكعبة كما في تاريخ الأزرقي، وفوائد تمام الرازي3 من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمَّنِي جبريل عليه السلام عند باب الكعبة مرتين" 4. الخامس: تلقاء الركن الذي يلي الحجر من جهة المغرب جانحا إلى جهة المغرب قليلا، بحيث يكون باب المسجد، الذي يقال له اليوم: باب العمرة خلف ظهره، كما في مسند أحمد بن حنبل، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث المطلب بن أبي وداعة: أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه5. وفي إسناده مجهول. وباب بني سهم هو باب العمرة المشار إليه.

_ 1 القرى "ص: 496". 2 مسند أحمد 6/ 399، سنن أبي داود "باب في مكة 2/ 211". 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 268. 4 أخرجه: الترمذي "أول الصلاة" 1/ 278، وأبو داود 1/ 107، والدارقطني 1/ 258، والحاكم 1/ 193. 5 أخرجه: أحمد في مسنده 1/ 237، 311، 5/ 208، سنن أبي داود 2/ 211، ابن ماجه "باب الركعتين بعد الطواف" 2/ 986.

السادس: في وجه الكعبة، كما في الصحيحين، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قِبل البيت ركعتين، وقال: "هذه القبلة"1 أخرجاه. وقال النسائي: سبح في نواحيه كلها وكبر ولم يصل، ثم خرج وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: "هذه القبلة"2. قال المحب الطبري: وجه الكعبة يطلق على بابها، ولهذا قيل للمحاذي له خلفها: دبر الكعبة، ثم قال: ويطلق على جميع الجانب الذي فيه الباب، وهو المتعارف، ثم قال: والظاهر أن هذا الموضع تلقاء المقام في فناء الكعبة، بحيث يكون المقام خلف المصلي فيه، وقال: ويحتمل على بُعد أن يكون هذا الموضع هو الموضع الرابع محل إمامة جبريل، وجوز فيه "المحب" وجها آخر، وهو أن يكون الموضع الأول هو خلف المقام، لأنه يقال فيه: وجه الكعبة، ثم قال: وقد ورد تفضيل وجه الكعبة على غيرها من الجهات. الموضع السابع: بين الركنين اليمانيين، وذكره ابن إسحاق في "سيرته" في قصة طويلة. الموضع الثامن: الحجر واستدل له بحديث خنق عقبة بن أبي معيط النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر، كما في الصحيحين3 وذكر في هذا الفصل: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ثم قال: وورد أن آدم عليه السلام ركع إلى جانب الركن اليماني ركعتين وعزاه "لليقين" لابن أبي الدنيا، وتاريخ الأزرقي4، ثم قال: فصارت المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم يقينا وتخمينا تسعة مواضع. العاشر: مصلى آدم عليه السلام ... انتهى كلام المحب الطبري5 وفيه أمور: منها: أن ذكره في هذا الفصل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لا يلائم الترجمة التي ذكرها، لأنه ترجم على هذا الفصل بقوله: ذكر مواضع حول البيت روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، وهذه الترجمة تقتضي أن يذكر فيها المواضع التي صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها حول البيت، لا صلاته في البيت، والله أعلم. ومنها: أن ذكره في هذه الترجمة مصلى آدم عليه السلام غير ملائم.

_ 1 أخرجه: البخاري 3/ 375 "باب: الحج، من كبر في نواحي الكعبة"، مسلم "الحج: 1330". 2 أخرجه النسائي 5/ 219، 220. 3 البخاري "فضائل الصحابة 5/ 4". 4 أخبار مكة 1/ 44. 5 القرى "ص: 348- 352".

ومنها: أن ذكره في هذه الترجمة مصلى آدم عليه السلام فيه احتمال، لأن آدم عليه السلام يحتمل أن يكون صلى عند الركن اليماني مما يلي الحجر الأسود، ويحتمل أن يكون صلى عند الركن اليماني مما يلي الباب المسدود في المستجار، وهذا أقرب، والله أعلم، لما سبق من قول الفاكهي. وقال بعض الناس: إن الموضع الذي تاب الله تعالى فيه على آدم عليه السلام عند الباب الذي فتحه ابن الزبير من دبرها عند الركن اليماني ... انتهى. ومنها: أن ما ذكره من مصلى آدم عليه السلام عند الركن اليماني يخالف ما ذكره ابن سراقة، وابن جماعة من أنه في جهة الكعبة الشرقية، وقد سبق في "الباب الثامن" من هذا الكتاب أن مصلى آدم عليه السلام في الجهة الشرقية، وأن بينه وبين الحجرة المرخمة في هذه الجهة: ثلاثة أذرع إلا ثلث بالحديد، والله أعلم بالصواب. ومنها: أن "المحب" لم يعين الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين، لأنه يحتمل أن يكون صلى إلى وسط الجدار، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى وسط الجدار، ويحتمل أن يكون مائلا عن الوسط إلى جهة الحجر الأسود، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى وسط هذا الجدار، وتحريره بالوسط من هذا الجدار بأنه الرخامة التي في شاذروان الكعبة المكتوب فيها: "أن الملك المنصور لاجين أمر بعمارة المطاف". ومنها: أن المحب الطبري لم يبين أيضا الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة، وهو يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون صلى وجاه الباب. والثاني: أن يكون صلى في الحفرة المرخمة التي عند باب الكعبة على يمينه. والثالث: أن يكون صلى في الملتزم. وفي هذا الوجه بُعد. والوجه الأول أقرب، لأنه عند الباب حقيقة بخلاف الوجهين الآخرين، فإنه إنما يصدق عليهم عند باب الكعبة لقربهما منه، والله أعلم. وإنما نبهنا على ذلك، لأنه وقع لشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام الشافعي، وشيخ اليمن أحمد بن موسى بن العجيل ما يقتضي أن مصلى جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم هو الحفرة المرخمة، ولم أقف على كلام ابن العجيل، وإنما بلغني أن الرضي الطبري إمام المقام وشيخ شيوخنا سأل الشيخ أحمد بن موسى بن العجيل عن تحقيق ذلك بطريق الكشف، فأخبره أن الحفرة المشار إليها هي مصلى جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وأما كلام ابن عبد السلام فذكره عنه ابن جماعة في "منسكه"، لأنه قال: وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إن الحفرة الملاصقة للكعبة بين الباب والحجر هي المكان الذي صلى فيه جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس حين فرضها الله تعالى على أمته، ولم أر ذلك لغيره، وفيه بعد، لأنه لو كان صحيحا لنبهوا عليه بالكتابة في الحفرة، ولما اقتصروا على من أمر بعمل المطاف، والله أعلم ... انتهى كلام ابن جماعة1، وقد أخبرني بذلك عنه خالي رحمه الله. وفي خبر المقام عن سعيد بن جبير2 رحمه الله أن موضعه اليوم حذاء موضعه في هذا الباب: الصندوق الذي فيه المقام، إلا أن يجاوز الحفرة مما يلي الحِجر بسكون الجيم، فعلى هذا يكون المقام عند الكعبة في نصف الحفرة الملاصق للكعبة المشار إليها، وإذا كان هذا موضع المقام عند الكعبة، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه بعد خروجه من الكعبة، لأن النسائي روى عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت ركع قبل البيت ركعتين، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين خلف المقام3، وهو وقبل البيت واحد، لأن المقام كان عند الكعبة على ما قيل، والله أعلم. ومنها: أن كلام المحب الطبري يقتضي أن المصلى الذي ذكره ابن السائب غير المصلى الذي ذكره أسامة لعَدِّه ذلك مصليين، وفي ذلك نظر، لأن حديث ابن السائب في المصلى الذي ذكره موافق لحديث أسامة رضي الله عنه في المصلى الذي ذكره ويظهر ذلك بذكر حديثهما، فلفظ حديث ابن السائب عند الأزرقي: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن محمد بن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح في وجه الكعبة حذو الطرفة البيضاء، ثم رفع يديه فقال: "هذه القبلة" 4 ... انتهى. ولفظ حديث أسامة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قبل البيت ركعتين وقال: "هذه القبلة" أخرجاه5. وقال النسائي: سبح في نواحيه وكبر ولم يصل، ثم خرج وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: "هذه القبلة" 6.

_ 1 هداية السالك 1/ 74. 2 رحلة ابن جبير "ص: 62". 3 أخرجه: النسائي 5/ 291. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 351. 5 البخاري 3/ 375، 8/ 14، ومسلم الحج: 1330، 1331". 6 أخرجه: النسائي 5/ 219.

ولا منافاة بين قول أسامة رضي الله عنه في الحديث الأول: "ركع قبل البيت"، وبين قوله في الحديث الثاني: "وصلى خلف المقام ركعتين"، لأن المقام كان في وجه الكعبة، على ما ذكر ابن عقبة في "مغازيه" وغيره، ويكون قوله: صلى خلف المقام: مفسرا لقوله: ركع قبل البيت لينتفي التعارض بين حديثيه، وهذا أولى من حمل قوله على أنه صلى خلف المقام في موضعه، لأنه إذا حمل على ذلك يفهم منه التناقض بين الحديثين، والله أعلم. وإذا كان حديث ابن السائب يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عند الكعبة في يوم فتح مكة وقال: "هذه القبلة"، واقتضى ذلك أيضا حديث أسامة رضي الله عنه، ففي ذلك دليل على اتحاد المصلى الذي ذكره أسامة وابن السائب، ويتجه به النظر الذي أشرنا إليه في ما ذكره المحب الطبري، من أن المصلى الذي ذكره أسامة رضي الله عنه غير المصلى الذي ذكره ابن السائب، ولا يقال الحديث الذي استدل به المحب الطبري على المصلى الذي ذكره ابن السائب، غير الحديث الذي ذكره الأزرقي، لأن المحب الطبري قال في "القرى" لما ذكره في المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة: "الثالث: قريبا من الركن الشامي مما يلي الحِجر، عن عبد الله بن السائب أنه كان يقود ابن عباس عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحِجر مما يلي الباب، فيقول له ابن عباس: عند الشقة الثالث: أثبتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ههنا؟ فيقول: نعم، فيقوم فيصلي، أخرجه أحمد، وأبو داود ... انتهى. وقوله في هذا الحديث "أثبتَ" هو بنصب التاء لا برفعها، لأنه يلزم على رفعها أن يكون الحدث من رواية ابن السائب عن ابن عباس، ولا يعرف لابن عباس في هذا المعنى حديث، والله أعلم. وقوله: أثبت بألف، يعني "همزة الاستفهام"، ثم ثاء مثلثة، ثم باء موحدة، ثم تاء مثناة، من الثبات الذي بمعنى التحقيق للشيء، كأنه يقول له: تحققتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الموضع المشار إليه؟ فيقول: نعم. والله أعلم. وإنما لا يقال الحديث الذي استدل به المحب غير الحديث الذي ذكره الأزرقي، لأن الحديث الذي ذكره المحب يقتضي أن ابن عباس رضي الله عنهما سأل ابن السائب عن موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه الكعبة، والحديث الذي ذكره الأزرقي يقتضى إخبار ابن السائب بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة في وجه الكعبة، وأنه رفع يديه، وقال: "هذه القبلة" وبيَّن المصلى بقوله: "عند الطواف"، وذلك لا ينافي إثباته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند الشقة الثالثة مقابلة الركن الشامي، لإمكان أن يكون موضع النظر فيه موضع الشقة الثالثة، فعرفه بالوجهين، واختصر في إخباره ابن عباس رضي الله عنه بعض القصة، والله أعلم.

ووجدت بخط مفتي الحرم رضي الدين محمد بن أبي خليل العسقلاني ما يقتضي أن للنبي صلى الله عليه وسلم مصلى بين هذه الحفرة وبين الحِجر بسكون الجيم، لأني وجدت بخط الرضي المذكور ما نصه: أخبرني الشيخ عثمان بن عبد الواحد العسقلاني المكي، عن بعض مشيخة مكة المتقدمين، أن المقام المحمدي: الحَجَر المشَوْبَر الذي عند الحفرة التي عند الكعبة على جانبها مما يلي حجر إسماعيل، وهو الحَجَر الذي إلى جانب هذه الحفرة المذكورة، والدعاء عنده مستجاب. وأخبرني المفتي عماد الدين بن عبد الرحمن بن محمد المذكور أن من يدعو خلفه بهذا الدعاء: يا واجد، يا واحد، يا ماجد، يا بر، يا رحيم، يا غني، يا كريم، أتمم عليّ نعمتك، وألبسني عافيتك، أُستجيب له ... انتهى. والحفرة المشار إليها هي السابقة، والحَجَر المشَوْبَر: الذي هو علامة هذا المصلى لا يعرف الآن، وهو الموضع الثالث الذي ذكره المحبّ، لأنه ليس بين الحفرة المشار إليها والركن الشامي مصلى للنبي صلى الله عليه وسلم غير المصلى الثالث، والله أعلم. والحفرة المشار إليها جدد رخامها الذي هو بها الآن في سنة إحدى وثمانمائة، وقد حررنا أمورا تتعلق بذرعها، فكان طولها من الجهة الشامية إلى الجهة اليمانية، أربعة أذرع، وعرضها من الجهة الشرقية إلى جدار الكعبة: ذراعان وسدس، وعمقها: نصف ذراع كل ذلك بذراع الحديد والحفرة المشار إليها لم ترخم إلا بعد قدوم ابن جبير إلى مكة، وكان قدومه في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، لأنه ذكر هذا الموضع في أخبار رحلته، وذكر أنه علامة موضع المقام في عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى، وأنه مفروش برملة بيضاء1 ... انتهى بالمعنى. فدل ذلك على أنه لم يكن ترخيما حين رآه ابن جبير، وقد نبهنا فيما سبق على عدم استقامة قوله: إن هذا الموضع موضع المقام في عهد إبراهيم عليه السلام والله أعلم بالصواب.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 62".

الباب الثامن عشر

الباب الثامن عشر ذكر شيء من أخبار توسعة المسجد الحرام وعمارته ... الباب الثامن عشر: في ذكر شيء من أخبار توسعة المسجد الحرام وعمارته: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: أخبرني جدي قال: أنبأنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج قال: كان المسجد الحرام ليس عليه جدارات محاطة به، إنما كانت الدور محدقة به من كل جانب، غير أن بين الدور أبوابا يدخل منها الناس، فاشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دورا فهدمها، وهدم على من قرب من المسجد دورهم، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن، وتمنع من البيع، فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارا قصيرا، وقال لهم عمر رضي الله عنه: إنما نزلت على الكعبة فهو فناؤها ولم تنزل عليكم. ثم كثر الناس في زمن عثمان رضي الله عنه، فوسع المسجد، فاشترى من قوم، وأبى آخرون فهدم عليهم1 ... انتهى باختصار. ولم يذكر الأزرقي السنة التي وسع فيها عمر رضي الله عنه المسجد الحرام، وهي سنة سبع عشرة من الهجرة2، ولا السنة التي وسعه فيها عثمان رضي الله عنه، وهي سنة ست وعشرين من الهجرة3، على ما ذكره ابن جرير وابن الأثير في تاريخ توسعتهما4. وذكر الأزرقي أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وسع المسجد من جانبه الشرقي، وهو أعلاه مما يليه من جانبه الشامي، ومن جانبه اليماني. وكان مما وسع به في الجانب الشرقي نصف دار الأزرقي جد الأزرقي، اشترى ذلك ببضعة عشر ألف دينار.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 68، 69. 2 تاريخ الطبري 4/ 206، والكامل لابن الأثير 2/ 227، الذهب المسبوك "ص: 14". 3 تاريخ الطبري 5/ 47، والكامل لابن الأثير. 3/ 36. 4 تاريخ الطبري 4/ 206، والكامل لابن الأثير 3/ 36.

ثم وسعه أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس من جانبه الشامي ومن جانبه الغربي إلى أن أوصله إلى ما هو عليه اليوم، إلا أنه بلغ فيما وسعه من الجانب الغربي إلى باب بني جمح، الذي هو فيه الآن في محاذاته فيما أحسب الزيادة المعروفة بزيادة باب إبراهيم، ولم يجعل فيما وسعه من الجانبين إلا رواقا واحدا، وكان ابتداء عمل ذلك في المحرم سنة سبع وثلاثين ومائة1، والفراغ منه في ذي الحجة سنة أربعين ومائة. وكان الذي زاد فيه المنصور الضعف مما كان عليه قبل2. ثم وسعه المهدي بن أبي جعفر المنصور، من أعلاه ومن الجانب اليماني، ومن الموضع الذي انتهى إليه أبوه في الجانب الغربي، حتى صار على ما هو عليه الآن، خلا الزيادتين فإنهما أحدثتا بعده، كما سيأتي في خبرهما إن شاء الله تعالى. وكان توسعته له في نوبتين: الأولى في سنة إحدى وستين ومائة3، وفيها زيد فيما زاد أبوه في المسجد رواقان، والثانية في سنة سبع وستين، وكان أمر بها لما حج حجته الثانية في سنة أربع وستين، ولم تكمل هذه الزيادة إلا في خلافة4 ابنه موسى الهادي لمعاجلة المنية للمهدي بالاخترام، وكان مما عمل بعد موته بعض الجانب اليماني وبعض الغربي، وذلك من الأساطين الحجارة في الجانب اليماني إلى الموضع الذي انتهى إليه عمل المنصور في الجانب الغربي. وأنفق المهدي في توسعة المسجد الحرام وعمارته أموالا عظيمة المقدار، لأن ثمن كل ذراع مكسر دخل في المسجد الحرام خمسة وعشرون دينارا، وثمن كل ذراع مكسر دخل في الوادي، خمسة عشر دينارا، ونقل إليه أساطين الرخام من الشام وغيرها، حتى أنزلت بجدة، وحملت منها على العجل إلى مكة، إلى غير ذلك من الأمور التي عظمت فيها نفقته، ولم يكن له في ذلك نظير، عظم الله له الأجر واسمه الآن مكتوب في مواضع من المسجد الحرام، منها: قرب المنارة المعروفة بمنارة باب علي التي فيها الميل، وما ذكرناه من حال المسجد الحرم في ابتدائه وتوسعته حتى صار إلى ما هو عليه الآن، خلا الزيادتين، فهو ملخص بالمعنى، مختصر مما ذكره الأزرقي في هذا الأمر. وذكر في أخبار عمارته من غير توسعة فيه، أن عبد الملك بن مروان رفع جدرانه وسقفه بالساج، وجعل في رأس كل أسطوانة خمسين مثقالا ذهبا، وعمره عمارة حسنة.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 173، وذكر أن ذلك كان في سنة 138هـ، وهو كذلك في أخبار مكة للأزرقي 2/ 72، وفي المنتظم ذكر ذلك في حوادث سنة 139هـ. 2 تاريخ الطبري 9/ 217، ومروج الذهب 4/ 401، والكامل لابن الأثير 5/ 197، ودرر الفرائد "من: 209". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 76، وإتحاف الورى 2/ 208. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 360: "في زمن ابنه موسى".

وأن ابنه الوليد بن عبد الملك نقض عمل أبيه وعمله عملا محكما، وسقفه بالساج المزخرف، وأزر المسجد من داخله بالرخام، وجعل له شرفا، وجعل على رأس الأساطين الذهب على صفائح الشبه1 من الصفر، وجعل في وجوه الطبقات من أعلاه الفسيفساء، وهو أول من عمله في المسجد الحرام، وأول من نقل إليه أساطين الرخام. وذكر أنه عمر في زمن المتوكل العباسي، هذا معنى ما ذكره الأزرقي في عمارة المسجد الحرام من غير توسعة. وذكر السهيلي في عمارة المسجد الحرام شيئا يستغرب، فنذكر ذلك، ثم نبين ما فيه، ونص كلام السهيلي: فلما كان زمن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في إتقانه لا في سعته، وجعل فيه عمدا من الرخام، وزاد في أبوابه وحسنها، فلما كان عبد الملك بن مروان، زاد في ارتفاع حائط المسجد، وحمل إليه السواري في البحر إلى جدة، واحتملت من جدة على العجل إلى مكة2 ... انتهى. وما ذكره السهيلي من أن ابن الزبير رضي الله عنهما لم يوسع المسجد الحرام فيه نظر، لمخالفته ما هو المشهور في ذلك، ومن حفظ حجة على مَن لم يحفظ، وما ذكره من أن ابن الزبير رضي الله عنهما جعل في المسجد عمدا من الرخام، وأن عبد الملك حمل إليه السواري، يخالف أيضا ما ذكره الأزرقي من أن الوليد بن عبد الملك أول من نقل إليه الأساطين الرخام، لكن وقع للأزرقي ما يفهم خلال ذلك؛ لأنه قال: حدثني جدي، قال حدثنا سفيان بن عيينة، عن سعيد بن فروة، عن أبيه قال: كنت على عمل المسجد في زمن عبد الملك بن مروان، قال: فجعلوا في رءوس الأساطين خمسين مثقالا من ذهب، في رأس كل أسطوانة3 ... انتهى. ووجه مخالفة ذلك لما سبق أن عمل الذهب في رءوس الأساطين يقتضي وجودها حين عمل فيها ذلك، وإذا كانت موجودة فهي ما عمله عبد الملك أو ابن الزبير، وأي الأمرين كان فهو يخالف ما ذكره الأزرقي من أن الوليد بن عبد الملك أول من حمل إليه ذلك، والله أعلم بالصواب.

_ 1 كذا بالأصل. 2 الروض الأنف 1/ 224. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 71.

ذكر شيء من خبر توسعة المسجد الحرام بعد الأزرقي ومن خبر عمارته بعده

ذكر شيء من خبر توسعة المسجد الحرام بعد الأزرقي ومن خبر عمارته بعده: اعلم أنه لم يزد في المسجد الحرام بعد الأزرقي، إلا أن الزيادتين المعروفة إحداهما بزيادة دار الندوة بالجانب الشمالي، والثانية الزيادة المعروفة بزيادة باب إبراهيم بالجانب الغربي، ولم يزد فيه بعد المهدي غير هاتين الزيادتين، فأما قول الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه" في أخبار سنة إحدى وسبعين ومائة: أن الخيزران أم الرشيد خرجت إلى مكة فأقامت بها حتى شهدت الحج1، وقد اشترت الدار المشهورة لها بمكة المشرفة المعروفة بدار الخيزران فزادتها في المسجد الحرام2 فهو غير مستقيم لأن الدار المشهورة بالخيزران بمكة إنما هي عند جبل الصفا، وبينها وبين المسجد الحرام طريق مسلوك يزيد على مائة ذراع على مقتضى ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين باب المسجد المعروف بباب الصفا. والصفا هو مبدأ السعي، وهو قرب هذه الدار، فدخولها في المسجد الحرام غير ممكن، وأيضا فإنه لو وقع منها ذلك لاشتهر كما اشتهر توسعة غيرها من المسجد الحرام، ولذكره الأزرقي في "تاريخه" كما ذكر ما وقع من غيرها في هذا الأمر، والله أعلم3. وأيضا النقل، فإن إسحاق بن أحمد الخزاعي قال في خبر زيادة دار الندوة: أن الساعي فيها كتب إلى وزير المعتضد العباسي4 يحسن له جعل ما بقي من دار الندوة مسجدا ويقول له إن هذه تكرمة لم تهيئ لأحد من الخلفاء بعد المهدي، وذكر إسحاق الخزاعي شيئا من خبر هذه الزيادة وملخص ذلك أن الساعي فيها سأل قاضي مكة محمد بن أحمد المقدمي وأميرها "عج بن حاج" مولى أمير المؤمنين يعني المعتضد العباسي أن يكتبا فيها بمثل ما كتب، فكتبا، فعرضت كتبهم على المعتضد، فأمر المعتضد بعمارة دار الندوة مسجدا يوصل بالمسجد الكبير، وأخرج لذلك مالا عظيما، فحمل إلى قاضي بغداد يوسف بن يعقوب، فأنفذ بعضه صفائح، وأنفذ بعضه على يد ابنه عبد الله بن يوسف في وقت الحج، وقدم معه برجل يقال له أبو الهياج الأسدي، فوكله بالعمل، وخلف معه عمالا وأعوانا لذلك، فأخرجت القمائم من دار الندوة، وهدمت، ثم أنشئت مسجدا من أساسها بأساطين وطاقات وأروقة مسقفة بالساج المذهب المزخرف، ثم فتح لها في جدار المسجد الكبير اثنا عشر بابا: ستة كبار سعة كل باب خمسة أذرع، وارتفاعه إلى السماء أحد عشر ذراعا، وجعل بين الستة الأبواب الكبار ستة أبواب صغار، سعة كل باب منها ذراعان ونصف، وارتفاعه في السماء ثمانية أذرع وثلثا ذراع، وجعل سوى ذلك: ثلاثة أبواب شارعة في الطريق التي حولها، منها: بابان طاقان، وباب طاق واحد، وسوى جدرها وسقوفها بالمسجد الحرام، وجعل لها منارة وشرفا، وفرغ منها في ثلاث سنين، ولم يبين إسحاق الخزاعي السنة التي فرغ منها في عمارة هذه

_ 1 البداية والنهاية 10/ 112. 2 هذه المعلومة ليست عند ابن كثير. 3 ذكر هذه المعلومة ابن فهد في إتحاف الورى 2/ 325، وانظر: الإعلام "ص: 112، 113"، ودرر الفرائد "ص: 220". 4 هو: عبيد الله بن سليمان بن وهب، وقد استمر وزيرا للمعتضد العباسي حتى سنة 288هـ.

الزيادة حين أنشئت، ولعل ذلك في سنة أربع وثمانين ومائتين على مقتضى ما ذكره من أنه كتب إلى المعتضد سبب إنشائها في سنة إحدى وثمانين ومائتين1. وذكر أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي ابن أخي إسحاق الخزاعي أن القاضي محمد بن موسى لما كان إليه إمرة البلد، غير الطاقات التي كانت في جدر المسجد الكبير حين عمرت هذه الزيادة وقد تقدم ذكرها وجعل ذلك بأساطين حجارة مدورة، عليها مصعد من ساج بطاقات معقودة بالآجر الأبيض والجص، ووصله بالمسجد الكبير وصولا أحسن من العمل الأول، حتى صار من في دار الندوة من مصل ومستقبل يستقبل القبلة فيراها كلها. عمل ذلك في سنة ست وثلاثمائة2. وأما الزيادة التي بالجانب الغربي المعروفة بزيادة باب إبراهيم، فذكر أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي شيئا من خبرها عند ذكر الأزرقي لباب بني جمح، ونص كلامه: قد كان هذا على ما ذكر الأزرقي، حتى كانت أيام جعفر المقتدر بالله أمير المؤمنين العباس. وكان يتولى الحكم بمكة محمد بن موسى، فغير هذين البابين، المعروف أحدهم بالحناطين، والآخر ببني جمح، وجعل ما بين دار زبيدة مسجدا أوصله بالمسجد الكبير، وعمله بأروقة وطاقات وصحن، وجعله شارعا على الوادي الأعظم بمكة، فانتفع الناس به وصلوا فيه، وذلك كله في سنة ست وسبع وثلاثمائة3 ... انتهى. ذكر صفة هذه الزيادة: أما صفة هذه الزيادة: فإنها تخالف الزيادة السابقة، لأنه ليس لها رواق غربي، وإنما لها رواق شرقي وشمالي وجنوبي، وموضع الغربي أبواب، وبينهما باب الزيادة، وكل رواق منها شقة واحدة، وغالب الجنوبي مما يلي الجهة الشرقية محوط ببيت فيه شبابيك من خشب، وهو السبيل المنسوب لملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاون الصالحي، وكانت عمارته في آخر عشر الستين وسبعمائة على ما بلغني، ولها صحن، هذا ملخص مختصر من خبر ما زيد في المسجد الحرام بعد الأزرقي. وأما ما وقع فيه من العمارات بعده فكثيرة، وقد شرحنا في أصل هذا الكتاب شيئا من خبرها واقتصرنا على أعظم ما وقع فيه من العمارة بعد الأزرقي وسببها، وذلك أن في

_ 1 ذكر هذا ابن فهد في إتحاف الورى 2/ 352، وانظر: أخبار مكة للأزرقي 2/ 110. 2 إتحاف الورى 2/ 366، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 113. 3 إتحاف الورى 2/ 336.

ليلة السبت الثامن والعشرين1 من شوال سنة اثنين وثمانمائة، ظهرت نار من رباط رامشت بالجانب الغربي من المسجد الحرام، ولم يكن غير لحظة حتى تعلقت بسقف المسجد وعمت بالحريق الجانب الغربي منه، وبعض الرواقين المقدمين من الجانب الشامي بما في ذلك من السقوف والأساطين الرخام وصارت قطعا، وانتهى الحريق إلى محاذاة باب دار الصحابة، وسبب ذلك أن النار لم تجد شيئا تتعلق به لخلو باب دار الصحابة، وسبب ذلك: أن النار لم تجد شيئا تتعلق به لخلو ذلك الموضع، وهو عمودان عليهما عقود وسقف بعد سقوطه لتخربه في السيل المهول الذي كان بمكة في هذه السنة أيضا، فصار ما احترق من المسجد الحرام أكواما عظاما تمنع من الصلاة في موضعها ومن رؤية الكعبة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قدر الله تعالى عمارة ذلك في مدة لطيفة على يد الأمير بيسق الظاهري2 أعزه الله تعالى، وكان قدومه لذلك في موسم سنة ثلاث وثمانمائة، فلما رحل الحاج من مكة في هذه السنة شرع في شيل تلك الأكوام العظيمة، حتى فرغت، ثم أخذ في العمارة حتى عاد ذلك كما كان. إلا أن الأساطين التي بالجانب الغربي حجارة منحوتة، وكذلك الأساطين التي في الجانب الشامي خلا أساطين يسيرة في مقدمة الجانب المذكور، فإنها رخام مكسر ملصق بالحديد، وكان الفراغ من عمارة ذلك في العشر الأخير من شعبان سنة أربع وثمانمائة3. وعجب الناس كثيرا من سرعة عمارة ذلك في هذه المدة، لأن من رأى ذلك قبل عمارته كان يقطع بأن هذه العمارة إنما تنهض في مدة سنين، باعتبار العادة في العمارات، فلله الحمد على نعمه التي لا تحصى ولم يبق من ذلك محتاجا إلى العمارة إلا سقف الجانب الغربي، والذي أوجب تركه أنه لم يوجد بمكة خشب ساج يسقف به، ولو وجد بمكة لما جاء الموسم من سنة أربع وثمانمائة إلا وجميع ذلك فارغ بقدرة الله تعالى. ولما كان المحرم مفتتح شهور سنة سبع وثمانمائة، قدم إلى مكة الأمير بيسق المذكور أحسن الله إليه، لعمارة هذا السقف وغيره مما تشقق من المسجد الحرام، ونهض أيضا في مدة لطيفة بقدرة الله لأن الأمير بيسق المشار إليه جرى على عادته في علو الهمة وعني من حين وصوله بتحصيل الأخشاب، ثم بتهيئتها لعمل السقف، ثم بتركيبها في محلها، والخشب الذي سقف به ذلك يقال له خشب العرعر4، جيء به إلى

_ 1 في إتحاف الورى 3/ 420: "ثامن عشر"، وانظر أيضا: السلوك للمقريزي 3/ 3: 1019، ونزهة النفوس 2/ 61، ودرر الفرائد "ص: 316، 317". 2 هو "بيسق الشيخي" مات سنة 821هـ، انظر ترجمته في "الضوء اللامع 3/ 22، 23". 3 إتحاف الورى 3/ 423، والسلوك 3/ 3: 1064. 4 "العرعر": شجر من أشجار الصنوبريات، وأنواعه كثيرة.

مكة من جهة الطائف، وأصلح الأمير المذكور في هذه السنة مواضع أخرى كانت متشققة بالمسجد الحرام وسقوفا فيه، فلله الحمد على ذلك1. ثم عمرت أماكن من المسجد الحرام في سنة خمس عشرة وثمانمائة، فمن ذلك: عقدان على أسطوانة واحدة في الصف الأول من الرواق اليماني، مقابل المدرسة البنجالية، وأماكن في سقف المسجد الحرام كثيرة، وكان المتولي لأمر هذه العمارة شيخنا قاضي مكة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة القرشي المخزومي المكي2 من مال تطوع به بعض أهل الخير أثابهم الله3. ثم كثر الشعث والخراب بالمسجد الحرام بعد ذلك، وسقط كثير من سقوفه، ومن ذلك: أماكن بالجانب الغربي، وموضع بالجانب اليماني يقابل العقدين المشار إليهما. ومن ذلك: سقف بالجنب الشرقي في موضع يقال له باب العباس، قريبا من سقف عقدين. ومن ذلك: ما يقابل باب الجنائز، ورباط المراغي، والسدة: نحو أربعة عقود. ومن ذلك: بالجانب الشامي سقف عقد بقرب باب الدريبة، وموضع آخر بهذا الجانب يقابل رباط أم الخليفة الناصر العباسي المعروف بالعطيفية. ومن ذلك: سقف ستة عقود في محاذاة زيادة دار الندوة في الرواق الذي يليها. ومن ذلك: سقف عقد مقابل باب دار العجلة. ومن ذلك: سقف عقدين بالرواق الغربي من زيادة دار الندوة. ومن ذلك: ما فوق أحد بابي الجنائز الذي يلي رباط المراغي المعروف بالقيلاني إلى آخر جدار المسجد الحرام الذي يلي رباط المراغي، وقد عمر من ذلك باب الجنائز عمارة حسنة، مع جدار المسجد الحرام الذي يلي رباط القيلاني، وكان ما بين بابي الجنائز قائما لم يسقط قبل عمارته، وإنما تخرب4، فهدم ذلك حتى بلغ الأرض، وأزيلت أسطوانتان من رخام كانتا متصلتان5 بالبناء الذي بين البابين، وبين بابي الجنائز تبرة كبيرة بحجر منحوت من ظاهرها فيما يبدو للناس وباطنها بحجر غشيم، حتى ارتفعت عن الأرض نحو أربعة أذرع بالعمل، وبني فوقها عقدان عليها وعلى جدار المسجد الحرام إلى المدرسة الأفضلية، وجدار المسجد الحرام إلى رباط القيلاني.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 430. 2 مات سنة 817هـ، انظر ترجمته في "الضوء اللامع 8/ 92- 95 رقم 194". 3 إتحاف الورى 3/ 485. 4 كذا وردت بالأصل. 5 كذا وردت، والصحيح "متصلتين".

وهذان العقدان مبنيان بحجارة منحوتة مما يلي المسعى، وفيه رخام وشيء فوق أسقفة البابين مما يلي بطن المسجد، وفوق الدرج عقدان من آجر بالنورة، وفي كل عقد عقد لطيف، واستحسنت عمارة ذلك وكتب بسبب هذه العمارة في لوح من رخام: أن ذلك عمر في سنة خمس وعشرين وثمانمائة في ذي القعدة، بأمر صاحب مصر الملك الأشرف برسباي على يد الأمير زين الدين مقبل القديدي صاحبنا1، ونصبت الأخشاب في المواضع الساقطة من هذا الجانب أعني الشرقي وفي الجانب اليماني، وفي الجانب الغربي، وفي الجانب الشامي بقرب باب الدريبة، وقبالة العطيفية، وبقي سقف ذلك الأعلى وإتقانه بالجص والدلك. وكان بالجانب الشامي في محاذاة باب دار العجلة في الرواق الأوسط أسطوانة من رخام مشدودة بالحديد والرصاص، فأزيلت وعوض عنها بأسطوانة صحيحة من رخام، هي إحدى الأسطوانتين اللتين كانتا بظاهر باب الجنائز، وبني في هذا الجانب في الصف الأول الذي يلي بطن المسجد سبعة عقود، وبني في هذا الجانب عدة عقود في مؤخرة عقد فوق الدكة المنسوبة للفقيه أبي السعود بن ظهيرة، وعقود أخر تلي ذلك إلى باب دار العجلة، وزيد بناء يشد العقود المذكورة في عرض ما تحتها وطوله، واستحسن جميع ذلك. ومما بني في هذا الجانب، ثمانية عقود في العقد الثاني، وثلاثة عقود في الصف الذي يليه بعد إحكام الأساطين الذي2 تحت ذلك الحملة المبني من العقود سبعة في الصف الذي يلي بطن المسجد، وثمانية في التي تليه، وثلاثة في المؤخرة، وبني عقدان قبالة باب الجنائز، وبترة بين باب المجاهدية. وجددت أبواب المسجد الحرام، منها: بابان لباب الجنائز، وثلاثة لباب العباس، والباب الأوسط من باب الصفا، وباب الصحابة، وباب الزيادة المفرد، وأصلحت مواضع في أبواب المسجد، وعمرت سقوفه، ونورت أو أكثرها بالنورة، وذلك في سنة ست وعشرين وثمانمائة، إلا قليلا، في سنة خمس وعشرين وذلك على يد الأمير زين الدين مقبل المذكور، أثابه الله تعالى3.

_ 1 الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 207، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 233، وإتحاف الورى 3/ 587. 2 كذا بالأصل. 3 إتحاف الورى 3/ 597، والعقد الثمين 1/ 50.

ذكر ذرع المسجد الحرام غير الزيادتين

ذكر ذرع المسجد الحرام غير الزيادتين: وبالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: ذرع المسجد الحرام مكسرا مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع، وذراع المسجد الحرام طولا من باب بني جمح إلى باب بني هاشم الذي عنده العلم الأخضر بمقابل دار العباس بن عبد المطلب أربعمائة ذراع وأربعة أذرع، مع جدر به تمر في بطن الحجر لاصقة1 بجدر الكعبة، وعرضه من باب دار الندوة إلى الجدار الذي يلي الوادي عند باب الصفا لاصقا بوجه الكعبة: ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وذرع عرض المسجد الحرام من المنارة التي عند المسعى إلى المنارة التي عند باب بني شيبة الكبير: مائتا ذرع وثمان وسبعون ذراعا، وذرع عرض المسجد الحرام من منارة باب أجياد إلى منارة باب بني سهم: مائتا ذراع وسبعون ذراعا2 ... انتهى. قلت: باب بني جمح لا أثر له الآن، وموضعه فيما أظن بعض الأساطين المتقدمة في زيادة باب إبراهيم التي في وزان جدار المسجد من هذا الجانب، والله أعلم. وباب بني سهم: هو باب المسجد المعروف الآن بباب العمرة. وقد حررنا ذرع طول المسجد الحرام وعرضه فكان طوله من جداره الغربي إلى جداره الشرقي المقابل له: ثلاثمائة ذراع وستة وخمسين ذراعا وثمن، بذراع الحديد، ويكون ذلك بذراع اليد: أربعمائة ذراع وسبعة أذرع، وذلك من وسط جداره الغربي الذي هو جدار رباط الخوزي إلى وسط جداره الشرقي عند باب المسجد المعروف بباب الجنائز، يمر به في الحجر ملاصقا لجدار الكعبة الشامي، وكان عرضه من جداره الشامي إلى جداره اليماني: مائتي ذراع وستة وستين ذراعا بذراع الحديد، ويكون ذلك بذراع اليد: ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وذلك من وسط جداره القديم عند العقود التي يدخل منها إلى زيادة دار الندوة إلى وسط جدار المسجد اليماني، فيما بين مقام إبراهيم والكعبة، وهو إلى المقام أقرب، حرر لذلك جماعة معتمد عليهم من أصحابنا أثابهم الله وكان تحرير ذلك في ليلة الخمس السابع عشر من ربيع الأول سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقد طابق ما حررناه في ذرع عرض المسجد الحرام ما ذكره في ذراعه من وسطه. وذكره ابن خرداذبه في ذرع المسجد طولا وعرضا ما يخالف ذلك، لأنه قال: وطول المسجد الحرام ثلاثمائة وسبعون ذراعا، وعرضه ثلاثمائة وخمسة عشر ذراعا3 ... انتهى. وهذا غريب، لذلك ذكرناه. وذكر القاضي عز الدين بن جماعة في مقدار المسجد الحرام وجها آخر، لأنه قال ومساحة المسجد الحرام ستة أفدنة ونصف وربع، والفدان عشرة آلاف ذراع بذراع العمل

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 82: "مع جدرية يمر في بطن الحجر لاصقا". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 81، 82. 3 المسالك والممالك "ص: 132".

المستعمل في البنيان بمصر، وهو ثلاثة أشبار تقريبا1 ... انتهى. أخبرني بذلك عن ابن جماعة خالي، رحمهما الله. وذكر الأزرقي رحمه الله مقدار المسجد الحرام في زمان ابن الزبير رضي الله عنهما لأنه قال حدثني جدي قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن زادان بن فروخ قال: مسجد الكوفة تسعة أجربة، ومسجد مكة سبعة أجربة وشيء. قال أبو الوليد: قال جدي: وذلك في زمن ابن الزبير2 ... انتهى. ونذكر مقدار الجريب لما في ذلك من زيادة الفائدة في بيان مقدار المسجد الحرام في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما، وقد ذكر ذلك الماوردي في الأحكام السلطانية"، والنووي، والقلعي، وصاحب "الوافي" فأما الماوردي فقال: إنه عشر قصبات في عشر قصبات ذرع كل قصبة ستة أذرع3، قال ابن الرفعة بعد ذكره لكلام الماوردي: فإذا ضربت ذلك بالتكسير بلغ ثلاثة آلاف ذراع وستمائة، وأما النووي والقلعي وصاحب "الوافي" فقالوا: إنه أرض مربعة كل قائمة منها ستون ذراعا، قال ابن الرفعة بعد ذكره لذلك: وأنت إذا ضربت ذلك في مثله بلغ ثلاثة آلاف ذراع وستمائة ذراع، وقال ابن يونس: الجريب ستة آلاف ذراع وأربعمائة ذراع ... انتهى. وعلى ما ذكره الماوردي ومن وافقه في مقدار الجريب، يكون المسجد الحرام في زمان ابن الزبير رضي الله عنهما خمسة وعشرين ألف ذراع ومائتي ذراع، لأن ذلك مقدار سبعة أجربة، ويزيد مقداره على ذلك بزيادة على السبعة الأجربة التي قيلت في مقداره. وعلى ما ذكره ابن يونس في مقدار الجريب يكون المسجد الحرام في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما خمسة وأربعين ألف ذراع ينقص مئتي ذراع، لأن ذلك مقدار السبعة الأجربة على هذا القول، ويزيد مقدار المسجد على ذلك بزيادة على السبعة الأجربة، وأظن أن ما قيل من أن مسجد مكة سبعة أجربة وشيء في زمان ابن الزبير رضي الله عنهما، يكون مقدار هذا بعد أن وسَّعه ابن الزبير رضي الله عنهما لا قبل أن يوسعه، والله أعلم. وقد ذكر الأزرقي في حد المسجد الحرام وجها آخر، لأنه قال فيما رُوِّينا عنه: حدثني جدي قال: أخبرنا أبا مسلم بن خالد قال: سمعت محمد بن الحارث بن سفيان يحدث عن علي الأزدي قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إنا لنجد في كتاب الله عز وجل أن حد المسجد الحرام من الحَزْوَرَة إلى المسعى وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا هشام بن سليمان، عن عبد الله بن عكرمة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزورة إلى المسعى إلى مخرج سيل أجياد، وقال: والمهدي وضع المسجد على المسعى4 ... انتهى.

_ 1 هداية السالك 3/ 1334، 1335. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 71. 3 الأحكام السلطانية "ص: 152". 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 62.

ذكر ذرع زيادة دار الندوة

ذكر ذرع زيادة دار الندوة: ذرعها طولا: أربعة وسبعون ذراعا بتقديم السين إلا ربع ذراع، بذراع الحديد المتقدم ذكره، وذلك من جدار المسجد الكبير إلى الجدار المقابل له الشامي، وعنده باب منارتها، وذرعها عرضا من وسط جدارها الشرقي إلى وسط جدارها الغربي: سبعون ذراعا -بتقديم السين- ونصف، وذرع صحنها طولا من الأساطين التي في مقدم الجانب الجنوبي إلى الأساطين التي في مقدم الجانب الشمالي: سبعة وثلاثون ذراعا، وذرع عرض صحنها كذلك بزيادة سدس ذراع، كل ذلك بذراع الحديد.

ذكر ذرع زيادة باب إبراهيم

ذكر ذرع زيادة باب إبراهيم ... ذكر ذراع زيادة باب إبراهيم: أما ذرعها طولا: سبعة وخمسون ذراعا إلا سدس ذراع، وذلك من الأساطين التي في وزان جدار المسجد الكبير، إلى العتبة التي فيها باب هذه الزيادة. وأما ذرعها عرضا: فاثنان وخمسون ذراعا وربع، وذلك من صدر حائط رباط الخوزي إلى جدار رباط رامشت، المقابل له من جدار دار زبيدة إلى جدار رباط رامشت أيضا، إلا أنه ينقص من هنا عن الأول ربع ذراع، وذرع صحنها طولا: ستة وثلاثون ذراعا وربع وثمن وذلك من الأساطين التي تلي صحنها إلى عتبة باب القبة وذرع صحنها عرضا: ثلاثة وثلاثون ذراعا ونصف، كل ذلك بذراع الحديد المشار إليه، وكان تحرير ذرع هاتين الزيادتين بحضوري1.

_ 1 ينبغي أن يعلم القارئ العزيز أن المسجد الحرام لم يطرأ عليه أية زيادة تذكر منذ عهد الخليفة العباس "المقتدر بالله" سنة "306هـ" وحتى عام 1375"هـ حتى قام جلالة الملك "سعود بن عبد العزيز آل سعود" رحمه الله بتوسعة المسجد الحرام وإنما كان كل ما ذكر بعد زيادة الخليفة "المقتدر" عبارة عن بعض التجديدات والترميمات على البناء الذي كان موجودا، وقد أولى العثمانيون الحرم المكي اهتماما كبيرا فقام السلطان سليم بعمل عمارة توازي ما شيده المهدي العباسي، ثم أجرى السلطان سليم عمارة الحرم الشريف في عام "972هـ" جدد خلالها سطح الكعبة المشرفة وفرش والمطاف وأهدى المسجد الحرام منبرا مطعما بالمرمر، وأنشأ منارة عظيمة الارتفاع واختير أحمد بك كتخذا للإشراف على هذه العمارة التي حلت فيها القباب محل السقف الخشبي وأنشئت نتيجة لذلك العديد من الأعمدة الرخامية. واستخدمت الأعمدة التي تبقت من =

..................................................................................

_ = عمارة المهدي وقد أصبح عدد الأعمدة بعد هذه العمارة "589" عمودا موزعة على جميع جهات المسجد والعقود "881" عقدا. وفي المسجد "152" قبة موزعة على جهات المسجد الأربع. و"232" طاجنا بجوار القباب، وعدد الأبواب "26" بابا، وبلغت مساحة المسجد الحرام في العمارة العثمانية التي تمت في سنة "984"هـ "28003". أمتار مربعة. وبذلك تقل عن مساحة المسجد الحرام بعد عهد المهدي العباسي وقد بدأت هذه العمارة في عهد السلطان سليم. وأتمها خليفته السلطان مراد. وهذه العمارة أجريت عدة ترميمات وإصلاحات لها. منها: عمارة السلطان محمد خان سنة "1005هـ" وترميم السلطان عبد العزيز سنة "1278هـ" والسطان عبد الحميد سنة "1314هـ" والسلطان محمود رشاد سنة "1327هـ". حتى جاء عصر الملك "سعود الذي بلغت الزيادة التي قام بها "153000" م2 وأصبحت بذلك مساحة المسجد الحرام "180850"م2 ومن بعده بفترة التجديدات والتوسعات الضخمة التي تمت بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك "فهد بن عبد العزيز آل سعود". والذي بلغت في عهده التوسعات أقصى درجة لها، حيث بلغت المساحة الإجمالية للمسجد الحرام "256850م2" بعد أن كانت "180850م2" وبتلك الزيادت تكون التوسعة السعودية الأولى والثانية قد ضاعفت مساحة المسجد الحرام حوالي 9 أمثال المساحة القديمة للحرم حتى توسعة الخليفة المقتدر. المصدر: خرائط ورسوم واردة بآخر كتاب: الزيادات في الحرم المكي الشريف من العصر النبوي إلى العصر السعودي".

الباب التاسع عشر

الباب التاسع عشر: ذكر عدد أساطين المسجد الحرام غير الزيادتين وصفتها: رُوِّينا عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه أن عدد الأساطين التي بجوانب المسجد الحرام وأبوابه: أربعمائة أسطوانة وأربعة وثمانون أسطوانة1، منها على الأبواب، عشرون أسطوانة. ووصف الأزرقي جميع هذه الأساطين2. والأساطين التي هي الآن في جوانب المسجد الحرام وأبوابه، على غير ما ذكره الأزرقي في العدد أو الصفة الآن، لأن في الجوانب الأربعة من المسجد الحرام غير الزيادتين، أربعمائة أسطوانة وتسعة وستين أسطوانة، وعلى أبواب المسجد من داخله وخارجه سبعة وعشرون أسطوانة، فتصير جملة الأساطين بجوانب المسجد الحرام وما على أبوابه أربعمائة أسطوانة وستة وتسعين أسطوانة بتقديم التاء على السين غير ما في الزيادتين وذلك يزيد على ما ذكره الأزرقي عشرة أساطين. وجملة الأساطين التي بالجانب الشرقي: ثمانية وثمانون أسطوانة، كلها رخام خلا واحدة في الصف الأوسط عند باب علي. فإنها آجُر مجصَّص. وجملة الأساطين التي في هذا الجانب الشمالي ويقال له الشامي، الذي يلي دار الندوة ودار العجلة: مائة أسطوانة وأربعة أساطين، منها الأسطوانة الحمراء، وهي الثانية والعشرون من عدد الصف المقدم من هذا الجانب، وجميع الأساطين التي في هذا

_ 1 1 كان عددها عام 984هـ: 496 أسطوانة "انظر: تاريخ عمارة المسجد الحرام ص: 101". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 88.

الجانب رخام، خلا أربعة عشرة أسطوانة من آخر الصف الأوسط مما يلي دار العجلة وباب السدرة فإنها حجارة منحوتة. وجملة الأساطين التي في الجانب الغربي: سبعة وثمانون أسطوانة، كلها حجارة منحوتة، وهي مما عمل بعد الحريق للمسجد الحرام لتكسر أساطينه الرخام التي كانت فيه قبل الحريق. وجملة الأساطين التي في الجانب الجنوبي وهو اليماني مائة وأربعون أسطوانة، وجميعها رخام خلا خمسة وعشرين أسطوانة فإنها غير رخام، وهي حجارة منحوتة، خلا اثنين فآجر مجصص وجميع ما في جوانب المسجد الحرام وأبوابه الآن من الأساطين الرخام: ثلاثمائة أسطوانة وأربعون أسطوانة، وجميع ما فيه من الأساطين غير الرخام: مائة أسطوانة وسبعة وعشرون أسطوانة كلها حجارة منحوتة، خلا ثلاثة أساطين فإنها أجر مجصص، وقد تقدم بيان موضع هذه الأساطين، والأساطين الحجارة المنحوتة وكذا الأساطين الرخام في جوانب المسجد الحرام وأبوابه.

ذكر عدد الأساطين التي بصحن المسجد الحرام وصفتها

ذكر عدد الأساطين التي بصحن المسجد الحرام وصفتها: فأما عددها: فمائتين وثلاثون أسطوانة، وأما صفتها: فأربعة عشر منها حجارة منحوتة دقيقة، والباقي آجر مجصص، وبين كل من الأساطين خشبة ممدودة راكبة عليها وعلى المقابل لها، لأجل القناديل التي تعلق فيها، وكان في موضع هذه الأساطين قبل ذلك أخشاب على صفة الأساطين، وعمل ذلك للاستضاءة بالقناديل حول الكعبة. وكلام القاضي عز الدين بن جماعة يوهم أن ذلك وقع بعد العشرين وسبعمائة1 وأن الأساطين الحجارة جعلت في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم ثارت ريح عاصفة في سنة إحدى وخمسين فألقتها ثم جددت فيها. وكلام ابن محفوظ المكي يوهم أن إحداث هذا الدائر للقناديل في سنة ست وثلاثين وسبعمائة2، والله أعلم. وجدد بعض هذه الأساطين في عصرنا وفيما قبله غير مرة. ذكر الأزرقي أنه كان حول الطواف عشرة أعمدة من صفر تستصبح بها على أهل الطواف بعث بها الواثق العباسي، وأن أول من استصبح لأهل الطواف: جده عقبة بن الأزرقي. الغساني3.

_ 1 هداية السالك 1/ 1334. 2 إتحاف الورى 3/ 207، ودرر الفرائد "ص: 305". 3 أخبار مكة للأزرقي "1/ 286".

ذكر عدد أساطين زيادة دار الندوة

ذكر عدد أساطين زيادة دار الندوة: عدد أساطين هذه الزيادة: ستة وستون أسطوانة في جميع جوانبها الأربعة، منها في الجهة الشرقية اثنتا عشرة، ومنها في الجهة الشامية عشرون، ومنها في الجهة الغربية إحدى عشرة، ومنها في الجهة الجنوبية ثلاث وعشرون.

ذكر عدد أساطين زيادة إبراهيم

ذكر عدد أساطين زيادة إبراهيم: عدد أساطين هذه الزيادة سبع وعشرون أسطوانة حجارة منحوتة، منها في الرواق الشرقي الذي يلي المسجد الكبير: سبع عشرة في صفين، وأربعة من هذه الأساطين السبعة عشر لاصقة بجدار رباط الخوزي ورباط رامشت، بكل رباط اثنتان، وفي الجانب الشمالي ستة أساطين، واحدة منها لاصقة بجدار الإيوان الغربي، وفي الجانب الجنوبي ستة أساطين، واحدة منها لاصقة بالمنارة التي كانت بهذه الزيادة وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر شيء من خبرها، وليس بالجانب الغربي من هذه الزيادة أساطين كما قدمناه في صفتها1.

_ 1 "كان عدد الأسطوانات الرخام التي وجدت بالمسجد الحرام حتى "984" في جوانبه الأربعة غير الزيادة في باب زيادة "دار الندوة" وزيادة باب إبراهيم أربعمائة وتسعة وستين أسطوانة. وما كان على الأبواب سبع وعشرون فيكون مجموع ذلك "496" أسطوانة" كلها من الأساطين الرخام. عدا أسطوانة كانت من الحجر الصوان المنحوت. أما الأساطين التي كانت في زيادة دار الندوة فمجموعها "27" أسطوانة. وفي زيادة باب إبراهيم "27" أسطوانة. أما ما هو موجود بالمسجد الحرام بعد عمارة السلطان سليم عام "984هـ" فكانت "311" أسطوانة من الرخام من الحجر الصوان المنحوت وأما عدد الأعمدة أو الدعائم المعمولة من الحجر الشمسي أو الحجر الصوان فمجموعها مائتان وست وسبعون عمودا، وهي قد عملت على ثلاثة أشكال معظمها على شكل مثمن الأضلاع. وقليل منها على شكل مسدس ومربع. "أما العقود فقد كانت في عموم أروقة المسجد الحرام في عصر أمير المؤمنين الخليفة محمد المهدي ذات عقود مطوية في رءوس الأسطوانات الرخام وعددها 484 طاقا. وعدد طاقات زيادة دار الندوة "68" طاقا وزيادة باب إبراهيم "36" طاقا وقد أحصى كتاب "تاريخ عمارة المسجد الحرام" عدد العقود التي أنشئت في العمارة التي جرت سنة "984هـ" وكان "881" عقدا، وعقود صغار على مائة عقد". والقبب والطواجن بعد نفس العمارة التي تمت عام 984هـ" "152" قبة. وأما الطواجن فجملتها "232" طاجنا، وعدد شرفات المسجد الحرام: "993"، من خارجه: "495" شرفة، ومن داخله "498" شرفة.

ذكر عدد طاقات المسجد الحرام وشرفاته وقناديله

ذكر عدد طاقات المسجد الحرام وشرفاته وقناديله: أما عدد الطاقات التي بجوانب المسجد الحرام وهي العقود التي على الأساطين بجوانبه الأربعة غير الزيادتين: فأربعمائة طاق: وأربعمائة وثمانون طاقا. من ذلك بالجانب الشرقي: تسعة وتسعون طاقا في ثلاثة صفوف. ومن ذلك بالجانب الشامي: مائة وستة وخمسون في ثلاثة صفوف. ومن ذلك بالجانب الغربي: ثمانية وثمانون في ثلاثة صفوف. ومن ذلك بالجانب الجنوبي وهو اليماني مائة وواحد وأربعون في ثلاثة صفوف. وفيما ذكره الأزرقي في عدد طاقات المسجد الحرام مخالفة لما ذكرناه، لأنه قال: وعلى الأساطين أربعمائة طاقة وثمان وتسعون طاقة1 وبيّن ما في كل جهة منها. وقد ذكرناها في أصل هذا الكتاب.

_ 1 أخبار مكة للأزرقة 2/ 84.

ذكر عدد طاقات زيادة دار الندوة

ذكر عدد طاقات زيادة دار الندوة: جملة هذه الطاقات التي على الأساطين بهذه الزيادة في جوانبها الأربعة: ثمانية وستون طاقا، منها في الجهة الشرقية: أربعة عشر في صفين. ومنها في الجهة الشامية: أربعة وعشرون في صفين. ومنها في الجهة الشرقية أربعة عشر. ومنها في الجهة الجنوبية: أربع وعشرون في صفين، في كل صف منها اثنا عشر. وذلك غير الطاقات التي في جدار المسجد الكبير في هذه الجهة، وهي إحدي عشرة طاقة، وغير ما على الأبواب من الطاقات، والطاقات هي العقود.

ذكر عدد طاقات زيادة باب إبراهيم

ذكر عدد طاقات زيادة باب إبراهيم: عدد طاقات هذه الزيادة ستة وثلاثون طاقا: منها: خمسة على جدر دار زبيدة ورباط الخوزي. ومنها: خمسة على الجدر المقابل لهذا الجدار، وهو جدر رباط رامشت، والباقي على الأساطين، منها: ستة عشر على الأساطين التي في الجانب الشرقي، ثمانية في كل صف. ومنها خمسة على الأساطين التي في الجانب الشمالي. ومنها: خمسة على الأساطين التي في الجانب الغربي.

شرفات المسجد الحرام

شرفات المسجد الحرام: وأما عدد شرفاته التي تلي بطن المسجد الحرام فهي: أربعمائة وثلاثة وعشرون شرافة، وسبعة أنصاف شرافات. منها في الجانب الشرقي: إحدى وثمانون شرافة ونصف. ومنها في الجانب الشمالي: مائة وخمسة وعشرون شرافة ونصفان. ومنها في الجانب الغرب: سبعة وتسعون شرافة وأربعة أنصاف. ومنها في الجانب الجنوبي: مائة وثمانية وعشرون شرافة. وفي نحو النصف من كل جهة من هذه الأربعة جهات شباك كبير مخرم من آجر معقود بالنورة. وأما الشرافات التي على جدار المسجد الحرام من خارجه، فهي: اثنان وخمسون شرافة منها: خمس عشرة شرافة على باب المسجد المعروف بباب العباس. ومنها: إحدى عشرة شرافة على باب المسجد المعروف بباب علي. ومنها: إحدى عشرة شرافة على باب المسجد المعروف بباب بازان بالجانب الجنوبي. ومنها: ثلاثة شرافات على باب أجياد بالجانب الجنوبي أيضا. ومنها: ست شرافات على الباب الذي يليه. ومنها: ست شرافات على الباب الذي يليه أيضا. وما ذكرناه من عدد الشراريف مخالف لما ذكره الأزرقي في ذلك، لأنه قال: الشراف الذي على جدران المسجد الحرام من خارجه مائتا شرافة واثنتان وسبعون شرافة1 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 95.

ذكر عدد الشرافات التي بزيادة دار الندوة

ذكر عدد الشرافات التي بزيادة دار الندوة: والجوانب الأربع من هذه الزيادة التي تلي بطنها: اثنتان وسبعون شرافة، في كل جهة ثماني عشرة، وكلها متساوية في الشكل، إلا التي في الأركان فإنها مخالفة لها في الصفة.

ذكر عدد الشرافات التي بزيادة باب إبراهيم

ذكر عدد الشرافات التي بزيادة باب إبراهيم: عدد الشرافات التي بجوانب هذه الزيادة مما يلي بطنها: بضع وأربعون، منها: عشر في الجهة الشرقية. ومنها: اثنتا عشرة في الجنوبية، وكذلك في الشمالية وفي الغرب: ست بمحاذاة القبة، وبقية الصف خال، والظاهر أنه كان هناك شرافات فتخربت، والله أعلم.

ذكر عدد قناديل المسجد الحرام

ذكر عدد قناديل المسجد الحرام: وأما ذكر عدد قناديل المسجد الحرام الآن المرتبة فيه غالبا فهي ثلاثة وتسعون قنديلا بتقديم التاء على السين منها في الجانب الشرقي: سبعة قناديل. ومنها في الجانب الشمالي: أحد عشر قنديلا. ومنها في الجانب الغربي: سبعة أيضا بتقديم السين على الباء كالجانب الشرقي. ومنها في الجانب الجنوبي: ثمانية قناديل. ومنها في الدائرة التي حول المطاف ثلاثون قنديلا. ومنها في مقام الخليل إبراهيم: أربعة قناديل. ومنها في كل مقام من المقامات الأربعة حول المطاف: خمسة قناديل. ومنها: قنديل على باب بني شيبة من خارجه. ومنها: ثلاثة قناديل بزيادة دار الندوة في كل جانب منها قنديل، خلاف الجانب الشرقي منها فإنه لا قنديل فيه. ومنها: قنديل عند باب الزيادة بالجانب الغربي المعروف بباب إبراهيم من داخله فهذه القناديل المرتبة في المسجد الحرام غالبا. ويزاد فيه في شهر رمضان من كل سنة ثلاثون قنديلا في الدائر الذي حول المطاف، وزاد في هذا الدائر في كل من المقامات الأربعة وفي مقام إبراهيم عدة قناديل في بعض ليالي العشر الأخير من رمضان في كل سنة عند ختم المصلين، فهذه الأماكن للقرآن الكريم ويزاد في هذا الدائر في زمن الموسم نظير ما يزاد فيه في شهر رمضان ويزاد في جوانب المسجد الحرام الأربعة في زمن الموسم عدة قناديل، في سلاسل معلقة في الرواق الأوسط من هذه الجوانب، وهي التي فيها القناديل المرتبة المشار إليها. إلا أن في الرواق الثالث من الجانب الشمالي الذي يلي زيادة دار الندوة ست سلاسل مفرقة. وفي الرواق الأوسط من هذا الجانب أيضا تسع سلاسل بتقديم التاء على السين، وفي الرواق الأوسط من هذا الجانب أيضا تسع سلاسل بتقديم التاء على السين، وفي الرواق الأوسط من هذا الجانب الجنوبي: عشر سلاسل، وفيه وفي الجانب الشرقي والغربي سلاسل مقطعة، وجميع هذه السلاسل لا قناديل فيها، وعدد قناديل المسجد الحرام وسلاسله الآن تنقص كثيرا عما ذكره الأزرقي في قناديل المسجد الحرام، لأنه ذكر أن فيه من القناديل أربعمائة قنديل وخمسة وستين قنديلا1 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 98.

ذكر عدد أبواب المسجد الحرام وأسمائها وصفاتها

ذكر عدد أبواب المسجد الحرام وأسمائها وصفاتها: للمسجد الحرام -الآن- تسعة عشر بابا بتقديم التاء على السين، تفتح على ثمانية وثلاثين طاقا، منها: في الجانب الشرقي أربعة أبواب: الأول: ثلاث طاقات، وهو الباب المعروف بباب بني شيبة، ويقال له أيضا باب السلام. الثاني: طاقان، ويعرف بباب الجنائز؛ لأن الجنائز يخرج بها منه في الغالب. ذكر الأزرقي أنه باب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج منه ويدخل إلى منزله دار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في زقاق العطارين1. وذكر أنه كان طاقا واحدا، ولم أدر متى جعل له طاقان، إلا أنه كان على ذلك من سنة تسع وتسعين وخمسمائة؛ لأن ابن جبير ذكره هكذا في أخبار رحلته، وكانت في هذه السنة2. الباب الثالث: ثلاث طاقات، يعرف بباب العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، لأنه يقابل داره بالمسعى، وعرفه بذلك الأزرقي1، وسماه ابن الحاج في "منسكه" باب الجنائز، لأنه قال لما ذكر صفة السعي: ثم ينزل عن الصفا ماشيا حتى يحاذي العلم الأخضر، وهو أول بطن الوادي، يسعى سعيا في الهرولة حتى يجاوز العلم الأخضر الذي عند باب الجنائز. وهو آخر بطن الوادي، فيمشي على هيئته حتى يأتي المروة ... انتهى. ولعل تسميته له بباب الجنائز والله أعلم، لأن الجنائز كان يصلى عليها فيه، كما ذكر الفاكهي3. وذكر أيضا موضعين غيره من أبواب المسجد الحرام كان يصلى على الجنائز فيهما، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا. الباب الرابع: ثلاث طاقات أيضا، ويعرف بباب علي، وقد عرفه بذلك ابن جبير، لأنه قال: وباب علي رضي الله عنه2، وعرفه الأزرقي بباب بني هاشم4. وبالجانب الجنوبي سبعة أبواب: الأول: طاقان، ويقال له باب بازان، لأن عين مكة المعروفة ببازان قربه، وعرفه الأزرقي بباب ابن عائذ5. الثاني: طاقان، ويعرف بباب البغلة بباء موحدة وغين معجمة ولم أدر ما سبب هذه التسمية والشهرة، وعرفه الأزرقي بباب بني سفيان6. الثالث: باب الصفا، لأنه يليه، وهو خمسة أبواب. قال الأزرقي: ويقال له اليوم باب بني مخزوم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78. 2 رحلة ابن جبير "ص: 82". 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 189. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 88. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 89. 6 هو باب بني سفيان بن عبد الأسد.

الباب الرابع: طاقان، ويعرف بباب أجياد الصغير. وسماه بذلك ابن جبير1، وسماه أيضا بباب الخلقيين، قال الأزرقي: ويقال له باب بني مخزوم2. الباب الخامس: طاقان أيضا، ويعرف بباب المجاهدية، لأن عنده مدرسة الملك المؤيد المجاهد صاحب اليمن، ويقال له باب الرحمة، وما عرفت سبب هذه التسمية، وهو من أبواب بني مخزوم على ما ذكره الأزرقي. الباب السادس: طاقان أيضا، ويعرف الآن بباب مدرسة الشريف عجلان صاحب مكة، لأنها عنده. قال الأزرقي: ويقال لهذا الباب باب بني تيم. الباب السابع: طاقان، ويعرف الآن بباب أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، وعرفه بذلك الأزرقي، ويقال له الآن أيضا باب الملاعبة، لأنه بحذاء دار تنسب للقواد تسمى الملاعبة. ووجدت بخط الشيخ أبي طيبة محمد بن أحمد بن أمين الأقشهري، نزيل الحرمين الشريفين تعريف هذا الباب بباب الفرج. والجانب الغربي ثلاثة أبواب: الأول: طاقان، ويعرف بباب عزورة، وهي الحزورة التي صحفت بهذه اللفظة كما سبق بيانه، قال الأزرقي: ويقال له باب بني حكيم بن حزام، وبني الزبير بن العوام والغالب عليه باب الحزامية، لأنه يلي الحزامية. الثاني: طاق واحد كبير، يقال له: باب إبراهيم في الزيادة التي بهذا الجانب، وإبراهيم المنسوب إليه هذا الباب خياط كان عنده على ما قيل كما ذكر ذلك أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك"، وذكر أن العوام نسبوه إليه، ووقع للحافظ أبي القاسم ابن عساكر3، وابن جبير وغيرهما من أهل العلم ما يقتضي أن إبراهيم المنسوب إليه هذا الباب هو إبراهيم الخليل عليه السلام وذلك بعيد، لأنه لا وجه لنسبته إليه، والله أعلم. الباب الثالث: طاق واحد، ويعرف بباب العمرة، لأن المعتمرين من التنعيم يخرجون منه ويدخلون منه في الغالب. وذكر تسميته بباب العمرة: ابن جبير في رحلته1، والمحب الطبري في "القرى"، وسماه الأزرقي بباب بني سهم2. وبالجانب الشمالي -ويقال له الشامي- خمسة أبواب: الأول: طاق واحد ويعرف بباب السدة، وسماه بذلك ابن جبير في رحلته، وغيره. ويقال له على -ما ذكر الأزرقي: باب عمرو بن العاص رضي الله عنه.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 82". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 90. 3 هو صاحب تاريخ دمشق وغيره، توفي سنة 571هـ.

الثاني: طاق واحد، ويعرف بباب العجلة، لكونه عند دار العجلة. الثالث: طاق واحد، بزيادة دار الندوة في ركنها الغربي. الرابع: طاقان بالزيادة المذكورة في جانبها الشامي. الخامس: طاق واحد، يعرف بباب الدريبة عند المنارة التي عند باب بني شيبة. فهذه أبواب المسجد الحرام الآن وأسماؤها..... وقد ذكر الأزرقي رحمه الله- عدد أبوابه وصفاتها وأسمائها1، وقد تغير بعده كثير من ذلك في العدد والصفة والتسمية. أما العدد: فلأنه ذكر أنها ثلاثة وعشرون بابا، فيها ثلاثة وأربعون طاقا. وأما الصفة: فلأن بعض الأبواب التي ذكرها زال عنها مكانه. وذلك أربعة أبواب بالجانب الغربي، وأربعة أبواب بالجانب الشامي، وبعضها تغيرت صفته مع بقائه على مكانه. وأما التسمية فلأنه لا يعرف منها الآن كما ذكره الأزرقي إلا خمسة أبواب باب بني شيبة، وباب العباس، وباب الصفا، وباب أم هانئ وباب العجلة وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب كلامه بنصه وبينا ما فيه، مع ما ذكره ابن جبير في أبواب المسجد الحرام وأسمائها، ولم يذكر ابن جبير فيها باب بني سفيان2. ولم أذكر في أبواب المسجد الحرام أبواب الدور التي في المسجد، وإن كان الأزرقي ذكرها، لأنها أبواب للدور لا للمسجد، وفي غالب هذه الدور أبواب صغار يخرج منها إلى سطح المسجد، وكانت سدت قبيل سنة ثمانمائة، أو فيما بعدها حسما لمادة مفاسد تقع في سطح المسجد، ثم فتحت واستمرت إلى الآن فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ونشير إلى أبواب المسجد الحرام التي ذكر الفاكهي أن فيها كان يصلى على الجنائز، وهي: باب بني شيبة، وباب العباس، وباب الصفا. قال الفاكهي: وكان الناس فيما مضى من الزمان يصلون على الرجل المذكور في المسجد الحرام3 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 86. 2 رحلة ابن جبير "ص: 82، 83". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 97، وقد ظلت هذه الأبواب كما هي في العدد منذ ذلك العهد حتى عهد الملك "سعود بن عبد العزيز" الذي قام بأول توسعة للحرم بعد أن ظل "1609" عاما بدون زيادة، حيث قال بزيادة أبواب الحرم إلى "51" بابا ما بين صغير وكبير، ثم جاء خادم الحرمين الشريفين الملك فهد ليدخل التكنولوجيا الحديثة للتسهيل على زوار بيت الله الحرام، فقام بزيادة أبواب الحرم، حيث ضمت التوسعة مدخلا رئيسيا هو "باب الملك فهد"، و"14" مدخلا فرعيا ومدخلان =

ومراده بالمذكور: المشهور. والناس اليوم يصلون على الموتى جميعا داخل المسجد الحرام، إلا أن المذكور من الناس يصلون عليه عند باب الكعبة. ويذكر أنهم كانوا إنما يصلون عند باب الكعبة على الأشراف وقريش، وأدركناهم يصلون عند باب الكعبة على غيرهم من الأعيان، وبعض الناس تسامح في ذلك بالنسبة لغير قريش والأشراف، وتسامح أيضا في إخراج غيرهم، وإن عظم قدره من باب بني شيبة، ولم أر في الخروج بالموتى من باب بني شيبة شيئا يستأنس به، وعندي: أن الخروج بالموتى من المسجد من الباب المعروف بباب الجنائز أولى، لأنه كان طريق النبي صلى الله عليه وسلم من منزل زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلى المسجد الحرام، ولذلك قيل له: باب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الصلاة على الموتى عند باب الكعبة: فرأيت فيه خبرا ذكره الأزرقي يقتضي أن آدم عليه السلام صُلِّيَ عليه عند باب الكعبة1، والذين لا يُصلَّى عليهم عند باب الكعبة يُصلَّى عليهم خلف مقام إبراهيم عليه السلام عند مقام الشافعي، وبعضهم يُصلَّى عليه عند باب الحزورة، وهم الفقراء الطرحاء، وذلك داخل المسجد الحرام أمام الرواق، لكون ذلك بالقرب من الموضع الذي يغسلونهم فيه، وكونه إلى موضع دفنهم أقرب.

_ = للبدروم، وبذلك أصبح عدد المداخل الرئيسية للحرم4 مداخل وعدد المداخل الفرعية 54 مدخلا، وست مداخل للبدرومات، هذا غير المداخل الفرعية العلوية للطابق الثاني. وكذلك السلالم الكهربائية المتحركة. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين تم استخدام سطح المسجد الحرام للصلاة فيه، وهو يستوعب أكثر من 80000 مصلٍّ بعد تحسينه وإعداد ثلاث مبان للسلالم المتحركة التي يستخدمها زوار بيت الله الحرام من الاتجاهات الأربع خارج المسجد. وقد وجه خادم الحرمين الشريفين أوامره لزيادة عدد السلالم المتحركة والثابتة في مبنى التوسعة بعد أن تمت تهيئة الأسطح بالسلالم لمساعدة المصلين على الصعود بكل يسر إلى هذه الساحات. وقد صممت هذه السلالم بشكل يسهل حركة الصعود. وقد أضيف مبنيان للسلالم المتحركة. أحدهما في شمال مبنى التوسعة. والآخر جنوبه.... ومساحة كل منهما "375م". ويحتوي على مجموعتين من السلالم طاقة كل منهما "15" ألف شخص في الساعة. إضافة إلى مجموعتين أخريين من السلالم المتحركة داخل حدود المبنى على جانبي المدخل الرئيسي وبذلك يصبح مجموع السلالم المتحركة داخل حدود المبنى على جانب المدخل الرئيسي. وبذلك يصبح مجموع السلالم المتحركة سبعة عشر تنتشر حول الحرم كله لخدمة الدول الأول والأسطح بإجمالي "56" سلما كهربائيا بطاقة حركة "105000" شخص في الساعة. أما السلالم وقد أضيفت ستة سلالم في التوسعة ليصبح المجموع 13 "سلما في الحرم المكي كله. وزعتا على جانبي بوابة الملك فهد وعلى المداخل الثانوية شمال التوسعة وجنوبها. والسبعة الباقية موزعة على جوانب المبنى القائم وقد أنشئت هذه السلالم بالخرسانة المسلحة وكسيت بالرخام. وقد استهلكت الأعمال الإنشائية لأساسات مباني السلالم الكهربائية ما مقداره "1186"م3 من الخرسانة المسلحة. وبالنسبة للسلالم الثابتة فقد بلغت كمياتها من الخرسانة المسلحة "49"م3 من نوع "ب" و"1174" م3 من نوع. 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 98.

ذكر منائر المسجد الحرام

ذكر منائر المسجد الحرام: للمسجد الحرام الآن خمس منائر، منها أربعة في أركانه، وواحدة في زيادة الندوة، وذكر ابن جبير أنه كان بالمسجد الحرام سبع منائر عد فيها هذه الخمسة، ثم قال: وأخرى على باب الصفا وهي أصغرها، وهي علم لباب الصفا وليس يصعد إليها لضيقها، قال: وعلى باب إبراهيم صومعة1 ... انتهى. وهذه الصومعة هي التي يقال لها الآن: خزانة القاضي نور الدين علي النويري، وأعلاها الآن منهدم، هدمه بعض أمراء مكة، لإشرافها على داره على ما قيل والله أعلم. وعمَّر أبو جعفر المنصور من منائر المسجد الحرام: منارة باب العمرة. وعمر ابنه المهدي منها: المنارة التي على باب بني شيبة، والمنارة التي على باب علي، والمنارة التي على باب الحزورة. وعمر الخواجا جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني وزير صاحب الموصل منائر المسجد الحرام على ما ذكر بعض مشايخنا، والله أعلم بحقيقة ذلك2. وأخبرني من اعتمده، أنه رأى اسمه مكتوبا في منارة باب العمرة، بما معناه أنه أمر بعمارتها في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة3. وعمرت منارة باب الحزورة في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين صاحب الموصل وكانت سقطت في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة4، وسلم الناس منها، فوصل المعمرون لعمارتها في موسم هذا السنة، وفرغ منها في المحرم مفتتح شهور سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة5. وعمرت منارة باب بني شيبة في زمن مولانا السلطان الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وذلك بعد أن سقطت في آخر شعبان سنة تسع وثمانمائة6، وابتدأ في عمارتها سنة عشر، ولم يكمل بناءها إلا في آخر ذي القعدة من السنة التي بعدها واستحسنت عمارتها.7.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 68". 2 وقد قام السلطان العثماني سليمان القانوني بتجديدها سنة "931" ثم جددها الشريف سرور سنة "1201هـ". 2 إتحاف الورى 2/ 517. 4 العقد الثمين 5/ 10، وبدائع الزهور 1/ 2/ 97، ودرر الفرائد "ص: 311". 5 إتحاف الورى 3/ 313. 6 إتحاف الورى 3/ 454. 7 إتحاف الورى 3/ 457.

وذكر الفاكهي منائر المسجد الحرام الأربعة التي بجوانبه الأربعة، وبدأ في ذكرها بمنارة باب بني سهم. ثم بمنارة باب الحزورة ثم بالمنارة التي فيها الميل الذي يهرول الساعي بين الصفا والمروة عنده، ثم بمنارة باب بني شيبة. وذكر الفاكهي أن في منارة باب بني سهم يؤذن صاحب الوقت بمكة، ومراده بصاحب الوقت والله أعلم: الذي يقال له في هذا الزمان رئيس المؤذنين، وهذا يخالف ما عليه الناس اليوم بمكة، لأن منارة صاحب الوقت الآن هي منارة باب بني شيبة1. وذكر الفاكهي أن في منارة باب الحزورة يسحر المؤذن في شهر رمضان، ولم يذكر أن ذلك يصنع في غيرها، فدل ذلك على أن اختصاصها به، والذي عليه المؤذنون الآن بمكة أنهم يسحرون في جميع منائر المسجد الحرام الخمس، وإنما لم يذكر الأزرقي والفاكهي المنارة الخامسة التي بزيادة الندوة لحدوثها بعدهما2. ونختم هذه الترجمة بمنائر في غير المسجد الحرام كان يؤذن فيها بمكة وظاهرها، ذكرها الفاكهي ونص ما ذكره الفاكهي: ذكر عدد المنارات التي على رؤوس الجبال بمكة. وكان أهل مكة فيما مضى من الزمان لا يؤذنون على رؤوس الجبال، وإنما كان

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 202- 203. 2 ظلت هذه المنائر على حالها وقد تم تجديدها وبيان ذلك كما يلي: 1- منارة باب العمرة التي عمرها "محمد الجواد الأصفهاني" وزير صاحب الموصل سنة "551هـ. وجددت سنة "931هـ" في عهد السلطان: "سليمان القانوني"، ثم في عهد الشريف سرور سنة "1201"هـ. 2- منارة باب الوداع التي عمرها الملك الأشرف شعبان سنة "771هـ" بعد سقوطها. 3- منارة باب علي التي هدمها السلطان العثماني "سليمان بن سليم" عام "970م"، ثم أعاد بناءها. 4- منارة قايتباي، وكانت أجمل المنائر السبع. 5- منارة باب السلام التي هدمت في عصر السلطان الناصر فرج بن برقوق الجركسي، ثم أمر السلطان مراد الثالث بإعادة إعمارها سنة "983هـ". 6- منارة السلطان سليمان، التي كانت تعرف بمنارة الحكمة. 7- منارة باب زيادة التي أعاد بناءها الملك الأشرف برسباي سنة "838هـ" بعد سقوطها، ثم هدمت على يد الأمير سودون المحمدي سنة "1113هـ". وقد تم إزالة جميع هذه المنائر عند التوسعة السعودية الأولى عام "1374هـ" وأبدلت بسبع منائر جديدة ذات طراز معماري واحد، وقد وزعت هذه المنائر الجديدة على الأبواب الرئيسية كل باب بمنارتين وبالقرب من باب الصفا المنارة السابعة. وبعد الزيادة الضخمة التي تمت في عهد خادم الحرمين الشريفين، أضيفت مئذنتان جديدتان تتشابهان في شكلهما مع المآذن السبع. وبذلك وصل عدد المنائر تسع منائر.

الأذان في المسجد الحرام وحده، فكان الناس تفوتهم الصلاة من كان منهم في فجاج مكة، ونائيا عن المسجد، حتى كان في زمن أمير المؤمنين هارون، فقدم عبد الله بن مالك أو غيره من نظرائه بمكة، ففاتته الصلاة ولم يسمع الأذان، فأمر أن يتخذ على رؤوس الجبال منارات تشرف على فجاج مكة وشعابها، يؤذن فيها للصوات، وأجرى على المؤذنين في ذلك أرزاقا، ولعبد الله بن مالك الخزاعي على جبل أبي قبيس المشرف على المسجد الحرام منارة على القبلة بعينها، ومنارة أخرى بحذائها مشرفة على أجياد، ومنارة إلى جنب المنارة التي على القبلة، وأخرى تحتها، فتلك أربع منارات، ولعبد الله بن مالك منارة على جبل مرازم المشرف على شعب ابن عامر، وجبل الأعرج. ثم أمر بُغا مولى أمير المؤمنين الذي يكنى بأبي موسى1 بمنارة على رأس الفلق، فبنيت به، ولعبد الله بن مالك منارة تشرف على المجزرة، وله هناك منارتان على جبل تفاحة، ولعبد الله بن مالك منارة على رأس الجبل الأحمر. بناها على موضع منه يقال له الكبش مرتفع على جبل الأحمر، وعليه منارة لبغا أيضا. ولعبد الله بن مالك منارة على جبل خليفة بن عمر البكري ومعها منارة لبغا أيضا، ولعبد الله على كُدَيّ منارة تشرف على وادي مكة، ولبغا منارة على جبل المقبرة، وله أيضا منارة على جبل الحزورة، وله منارتان على جبل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعلى جبل الأنصار الذي يلي "أجياد" منارة، وله منارة على ثنية أم الحارث، تشرف على الحصحاص، ولبغا منارة على جبل معدان مشرفة على حائط خرمان، وله أيضا منارة تشرف على الخضراء وبئر ميمون، ولبغا أيضا منارة بمنى عند مسجد الكبش، فكانت هذه المنارات عليها قوم يؤذنون فيها للصلوات وتُجرى عليهم الأرزق في كل شهر، ثم قطع ذلك عنهم، فترك ذلك بعضُهم، وبقي منها مناراتٌ يؤذن عليها، يجري على من يؤذن فيها: عبد العزيز بن عبد الله السهمي اليوم ... انتهى. وقد ترك الأذان على جميع هذه المنارات في عصرنا، إلا أن في شهر رمضان يسحر جماعة من الناس على جبال بمكة، في كل جبل إنسان، ويؤذن كل منهم في الجبل الذي يسحر عليه، وهي: جبل أبي قبيس، والجبل الذي على القرارة المعروف بلعلع، وفي الجبل الأحمر، ويقال له جبل الحارثي نسبة إلى مؤذن كان يسحر فيه. ويؤذن، وللمؤذن على هذه الجبال جامكية2 يسيرة تصل من مصر مع ما يصل لمؤذني المسجد الحرام وأرباب الوظائف به.

_ 1 هو: بغا الكبير، أبو موسى التركي. أحد قواد المتوكل وأكبرهم له فتوحات ووقعات، مات حوالي سنة "250هـ" انظر ترجمته في:الوافي بالوفيات 10م 172، 173 رقم 4656". 2 الجامكية: هو اصطلاح كان شائعا في عصر المماليك، وهو يعني: مخصصات أو مرتبات شهرية أو سنوية.

ذكر ما صنع في المسجد الحرام لمصلحة أو لنفع الناس به

ذكر ما صنع في المسجد الحرام لمصلحة أو لنفع الناس به ... ذكر ما صنع في المسجد الحرام لمصلحته أو لنفع الناس به: مما صنع في المسجد الحرام لمصلحته: قبة كبيرة بين زمزم وسقاية العباس رضي الله عنه لحفظ الأشياء الموقوفة لمصالح المسجد، وما فيها من الربعات والمصاحف الشريفة، منها: مصحف عثمان رضي الله عنه على ما يقال، وفيها ما يقتضي أنها عمرت في زمن الناصر العباسي، وكانت موجودة قبل ذلك على ما ذكر ابن عبد ربه في "العقد"1، وقد تقدم أنه توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وذكرها ابن جبير في أخبار رحلته، وذكر أنها تنسب لليهودية2، ولم يبين سبب هذه التسمية والنسبة، وعمر بعضها في سنة إحدى وثمانمائة3. ومن ذلك "المزولة" التي بصحن المسجد الحرام، وهي من عمل الوزير الجواد، واسمه مكتوب في اللوح النحاسي المعمول لمعرفة الوقت، وهو بأعلى هذه المزولة، يقال لها أيضا ميزان الشمس، وبينها وبين ركن الكعبة الشامي الذي يقال له العراقي: ثلاثة وأربعون ذراعا بذراع الحديد وثمن ذراع. ومنها ظلة للمؤذنين في سطح المسجد، تظلهم من الشمس، ذكرها الأزرقي4، ولا أثر لها الآن. ومنها: فسقية من رخام بين زمزم والركن والمقام، عملها "خالد القسري"5 في ولايته لمكة بأمر سليمان بن عبد الملك، وساق إليها ماء عذبا ضاهى به زمزم، وقيل: إنه عمل ذلك بأمر الوليد بن عبد الملك، ذكر هذا القول السهيلي6، والأول ذكره الأزرقي7.

_ 1 العقد الفريد 6/ 258. 2 رحلة ابن جبير "ص: 66. 3 إتحاف الورى 3/ 416. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 99. 5 كان أمير العراقيين من قبل الخليفة هشام بن عبد الملك، وولي مكة سنة 89هـ وقتل سنة 126هـ. 6 الروض الأنف 1/ 224. 7 أخبار مكة للأزرقي 2/ 60.

ثم بطلت فلم يبق لها أثر، وذلك في سنة اثنين وثلاثين ومائة، أبطلها داود بن علي العباسي لما قدم مكة واليا عليها لابن أخيه أبي العباس السفاح1. ومما جعل في المسجد الحرام لينتفع الناس بذلك: المنابر التي يخطب عليها، وأول من خطب على منبر بمكة معاوية بن أبي سفيان2، وهو منبر صغير على ثلاث درجات، قدم به من الشام لما حج، وكانت الخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة قياما على أرجلهم في وجه الكعبة وفي الحجر، وكان منبر معاوية يعمر إذا تخرب، ولم يزل يخطب عليه حتى حج هارون الرشيد، وأهدى له منبر منقوش عظيم في تسع درجات، أهداه له عامله على مصر موسى بن عيسى، فكان منبر مكة وجعل المنبر القديم بعرفة، ثم أمر الواثق العباس بعمل منبر بمكة، ومنبر بمنى، ومنبر بعرفة، هذا ما ذكره الأزرقي من خبر المنابر3. وذكر الفاكهي ذلك، وزاد أن المنتصر ابن المتوكل العباس لما حج في خلافة أبيه، جعل منبرا عظيما يخطب عليه بمكة ثم خرج وخلفه بها ... انتهى. وجعل بعد ذلك عدة منابر للمسجد الحرام منها: منبر عمله وزير المقتدر4 العباسي. وكان منبرا هائلا استقام بألف دينار ولما وصل إلى مكة أحرق، لأنه كان بعث به ليخطب عليه للخليفة المقتدر فمنع من ذلك المصريون وخطبوا للمستنصر العبيدي صاحب مصر، وأحرقوا المنبر المشار إليه. ومنها: منبر عمل في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر في سنة ست وستين وسبعمائة5. ومنها: منبر بعث به الملك الظاهر برقوق صاحب مصر سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وهو باق يخطب عليه الخطباء إلى تاريخه6، وأصلح بعد وصوله إلى مكة غير مرة. ومنها منبر حسن أنفذه الملك المؤيد صاحب مصر في موسم سنة ثماني عشرة وثمانمائة، فخطب عليه في سابع ذي الحجة7، وهجرت الخطبة على الذي قبله، وأنفذ

_ 1 إتحاف الورى 2/ 166. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 203. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 100. 4 تولى المقتدر الخلافة من سة 295-320هـ. 5 إتحاف الورى 3/ 304. 6 أي إلى تاريخ هذا التأليف، وفي إتحاف الورى 3/ 396: أن هذا المنبر ظل يخطب عليه حتى سنة 818هـ. 7 إتحاف الورى 3/ 528.

معه درجة حسنة للكعبة، فنصبت للرقي عليها إلى الكعبة، وأعرض عن التي قبلها وكانت عملت في سنة ست وستين وسبعمائة من قبل الأشرف شعبان صاحب مصر، وكان مدة الرقي عليها إلى الكعبة اثنتين وخمسين سنة أو تزيد قليلا، وكان مدة الخطبة على المنبر الذي عمل في دولة الأشرف إحدى وثلاثين سنة أو تزيد قليلا، والله أعلم1.

_ 1 وأهديت بعض المنابر على مر القرون من بعد حتى أهدى السلطان سليمان العثماني سنة "173هـ = 1654م" منبرا وهو مصنوع من المرمر البراق الناصع البياض. ويحتوي على ثلاث عشرة درجة. وفي أعلاه أربعة أعمدة من المرمر تحمل قبة مستطيلة صنعت من الخشب المتين. وصفحت بألواح من الفضة طليت بالذهب. وفي أعلى القبة هلال. ويبلغ طول المنبر اثني عشر مترا تقريبا.

ذكر صفة المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام ومواضعها منه

ذكر صفة المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام ومواضعها منه ... ذكر صفة المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام ومواضعها: أما صفة المقامات فإنها غير مقام الحنفي أسطوانتان من حجارة، عليها عقد مشرف من أعلاه، وفيه خشبة معترضة فيها خطاطيف للقناديل، وما بين الأسطوانتين من مقام الشافعي لا بناء فيه وما بينهما في مقام المالكي والحنبلي مبنى بحجارة مبيضة بالنورة، وفي وسط هذا البناء محراب، وكان عمل هذه الثلاثة المقامات على هذه الصفة في سنة سبع وثمانمائة1. رغبة في بقائها، فقد ذكرنا صفتها القديمة في أصل هذا الكتاب. وأما صفة مقام الحنفي الآن: فأربع أساطين من حجارة منحوتة، عليها سقف مدهون مزخرف، وأعلا السقف مما يلي السماء مدكوك بالآجر، مطلي بالنورة، وبين الأسطوانتين المتقدمتين بناء فيه محراب مرخم، وكان ابتداء عمله على هذه الصفة في شوال، أو في ذي القعدة من سنة إحدى وثمانمائة، وفرغ منه في أوائل سنة اثنتين وثمانمائة2. وأنكر عمله على هذه الصفة، جماعة من العلماء من مشايخنا وغيرهم، منهم: العلامة زين الدين الفارسكوري الشافعي3، وألف في ذلك تأليفا حسنا، ثم أخبرني بالقاهرة في أوائل سنة اثنين وثمانمائة أن شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني4،

_ 1 إتحاف الورى 3/ 442. 2 إتحاف الورى 3/ 412. 3 هو عبد الرحمن بن علي بن خلف أبو المعالي، ولي قضاء المدينة المنورة ولكنه لم يباشره، وجاور بمكة وصنف بها شيئا في مقام إبراهيم، توفي 808هـ "انظر ترجمته في الضوء اللامع 4/ 69، 97". 4 هو: عمر بن رسلان بن نصير، برع في الفقه وأصوله، وتولى القضاء وتأهل للتدريس والفتيا، توفي سنة 805هـ" انظر ترجمته في الضوء اللامع 6/ 85 - 90".

وابنه سيدنا ومولانا قاضي القضاة بالديار المصرية الآن شيخ الإسلام جلال الدين1 أبقاه الله ورحم سلفه وقضاة القضاء بالديار المصرية في هذه السنة أفتوا بهدم هذا المقام، وتعزير من أفتى بجواز بنائه على هذه الصفة، وأن ذلك جنحة فيه، وأن وَلِيّ الأمر بمصر رسم بهدمه، فعارض في ذلك بعض ذوي الهوى، فتوقف في ذلك. وسبب الإنكار في بناء هذا المقام، ما حصل فيه من كثرة شغل الأرض بالبناء وقلة الانتفاع بموضعه في الليالي الحارة لأجل سقفه إلا بمشقة فادحة، وما يتوقع من إفساد أهل اللهو فيه، لأجل سترته لهم وغير ذلك. وأما مواضعها في المسجد الحرام: فإن مقام الشافعي خلف مقام إبراهيم الخليل عليه السلام والحنفي بين الركنين الشامي والغربي، والمالكي بن الركن الغربي واليماني والحنبلي تجاه الحجر الأسود.

_ 1 هو عبد الرحمن بن رسلان، توفي سنة 824هـ "انظر ترجمته في الضوء اللامع 4/ 106- 113".

ذكر ذرع ما بين كل من هذه المقامات وبين الكعبة

ذكر ذرع ما بين كل من هذه المقامات وبين الكعبة: أما مقام الشافعي: فبينه وبين جدار الكعبة الشرقي تسعة وثلاثون ذراعًا ونصف ذراع بذراع الحديد، وبينه وبين الأسطوانتين المؤخرتين ساباط مقام إبراهيم عليه السلام تسعة أذرع ونصف. وأما مقام الحنفي: فإن من جدار محرابه إلى وسط جدار الحجر اثنين وثلاثين ذراعا إلا سدس ذراع. وقد تقدم في الباب السابع عشر في أخبار الحجر مقدار ما بين جدار دائر الحجر من داخله إلى جدار البيت، وعرض جدار الحجر، فأغنى ذلك عن ذكره هنا، ومن جدار محرابه إلى حاشية المطاف: عشرة أذرع ونصف بالعتبة، وعرض العتبة نصف ذراع وقيراطان. وأما مقام المالكي: فإن من جدار محرابه إلى وسط جدار الكعبة على الاستواء: سبعة وثلاثين ذراعا وثلثا ذراع، ومن جدار المحراب إلى حاشية المطاف بالعتبة عشرة أذرع وثلث. وأما مقام الحنبلي فإن من جدار محرابه إلى الحجر الأسود: ثمانية وعشرين ذراعا إلا ثلثا بعتبة الحاشية، والذراع المحرر به هو ذراع الحديد1. وكان تحرير ذلك بحضوري. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب ارتفاع هذه المقامات وذرعها بزيادة في ذلك.

_ 1 المقامات الأربعة تغيرت صفتها مع مرور الزمن، أما مكانها حول المطاف فلم يتغير حتى عام "1360م"، وعندما قام جلالة الملك "سعود" رحمه الله بالتوسعات الأولى للحرم قام بإزالة هذه المقامات عام "1377هـ"، حيث كانت مصدرا لتعدد الجماعات، وسببا من أسباب التفرقة. وقد كان المغفور له الملك "عبد العزيز آل سعود" رحمه الله قد أبطل الصلاة فيها عام "1343هـ" بعد إجماع العلماء على أن الصلاة فيها بدعة ابتدعتها الجماعات.

ذكر كيفية صلاة الأئمة بهذه المقامات وحكم صلاتهم بها

ذكر كيفية صلاة الأئمة بهذه المقامات وحكم صلاتهم بها: أما كيفية صلاتهم: فإنهم يصلون مرتين، الشافعي، ثم الحنفي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، وذكر ابن جبير ما يقتضي أن المالكي كان يصلي قبل الحنفي1، وأدركناه كذلك، ثم تقدم عليه الحنفي بعد التسعين بتقديم التاء على السين وسبعمائة، واضطراب كلام ابن جبير في الحنفي والحنبلي، لأنه ذكر ما يقتضي أن كلا منهما يصلي قبل الآخر، وهذا كله في غير صلاة المغرب فإنهم يصلونها جميعا في وقت واحد، وسبب اجتماعهم في هذه الصلاة: أنه يحصل للمصلين لبس كثير بسبب التباس أصوات المبلغين، واختلاف حركات المصلين، وهذا الفعل ضلال في الدين، لما فيه من المنكرات التي لا تخفى إلا على من غلب عليه الهوى. ولم يزل العلماء ينكرون ذلك قديما وحديثا نسأل الله زوال البدعة ثم زالت هذه البدعة بسعي جماعة من أهل الخير فيها عند ولي الأمر أثابهم الله تعالى، وذلك أن في موسم سنة إحدى عشرة وثمانمائة ورد أمر السلطان الملك الناصر فرج نصره الله تعالى بأن الإمام الشافعي بالمسجد الحرام يصلي المغرب بمفرده دون الأئمة الباقين، فنفذ أمره الشريف بمكة كما رسم به2. واستمر هذا الحال إلى أن ورد أمر الملك المؤيد أبي النصر شيخ صاحب مصر بأن الأئمة الثلاثة يصلون المغرب كما كانوا يصلون قبل ذلك. ففعلوا ذلك، وأول وقت فعل فيه ذلك ليلة السادس من ذي الحجة من سنة ست عشرة وثمانمائة3. وكذلك تجمع الأئمة الثلاثة غير الشافعي على صلاة العشاء في رمضان، ويجتمع أيضا هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة بالمسجد الحرام في صلاة التراويح في المسجد، وتحصل بسبب اجتماعهم في ذلك: المنكر القبيح الذي كان يقع دائما في صلاة المغرب وأعظم، لكثرة الأئمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وأما حكم صلاة الأئمة الثلاثة: الحنفي والمالكي، والحنبلي، في الفرائض على الصفة التي يصفونها، فاختلف فيه آراء العلماء المالكية، لأن الشيخ الإمام أبا القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الحباب المالكي4 أفتى في سنة خمسين وخمسمائة بمنع

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 79". 2 إتحاف الورى 3/ 466. 3 إتحاف الورى 3/ 509. 4 لم نعثر على ترجمته، وانظر الخبر في إتحاف الورى 2/ 516.

الصلاة بأئمة متعددة، وجماعات مترتبة بحرم الله تعالى، وعدم جوازها على مذاهب العلماء الأربعة. ثم إن بعض الناس استفتى في ذلك بعض علماء الإسكندرية، فأفتوا بخلاف ما رآه ابن الحباب، والذي أفتى بذلك. شداد بن المقدم، وعبد السلام بن عتيق، والشيخ أبو طاهر بن عوف بن الزهري. ولما وقف ابن الحباب على فتاويهم أملى في الرد عليهم أشياء كثيرة حسنة، ونقل إنكار ذلك عن جماعة من العلماء. الشافعية، والحنفية، والمالكية، حضروا الموسم بمكة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، فمن الشافعية: أبو النجيب مدرس النظامية، ويوسف الدمشقي صاحب أسعد البهتي، ونقل عنهما أنهما قالا: وأما صلاة المغرب فهي أشنع وأبشع، وأقره العطاري في بقية فقهاء نيسابور، ومحمد بن جعفر الطائي يعني صاحب الأربعين. ومن الحنفية: الشرف الغزنوي. ومن المالكية: عمر المقدسي، وأقام الدلالة على فسادها، وأنها مخالفة لرأي مالك وأصحابه، وذكر ابن الحباب أن أبا بكر الطرسوسي، ويحيى الزياتي شيخ شداد بن المقدم لم يصليا خلف إمام المالكية بالحرم الشريف ركعة مع كونه مغموصا عليه، قال: ولا شيء أقبح من جهل الإنسان بحال شيوخه. وأما وقت حدوثهم: فلم أعرفه تحقيقا، ورأيت ما يدل على أن الحنفي والمالكي كانا موجودين في سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وأن الحنبلي لم يكن فيه موجودا وذلك لأن الحافظ أبا طاهر السلفي1 حج في هذه السنة، ورأى فيها أبا محمد بن العرضي القروي المقرئ إمام مقام الخليل عليه السلام وذكر أنه أول من يصلي من أئمة الحرم المقدسي قبل المالكية والحنفية والزيدية ... انتهى. ووجه الدلالة من هذا على ما ذكرناه من أن الحنبلي لم يكن موجودا في هذه السنة: عدم ذكر السلفي له، وذكره لإمام الزيدية، ولو كان الحنبلي موجودا حينئذ لذكره السلفي، فإنه أولى بالذكر من إمام الزيدية، والله أعلم. ووجدت ما يدل على أنه كان موجودا في عشر الأربعين وخمسمائة، وقد ذكرت ذلك في أصل هذا الكتاب، والله أعلم. وكان بعض المتعصبين على الحنابلة قلع حطيمهم من مكة، لأن أبا المظفر سبط ابن الجوزي قال في كتابه "مرآة الزمان" في ترجمة "مرجان" خادم المقتفي العباسي2 بعد

_ 1 هو: أحمد بن محمد الأصفهاني السلفي، صاحب كتاب "معجم السفر" المتوفى سنة 576هـ. 2 هو: أبو عبد الله الحسيني المقتفي لأمر الله، بويع بالخلافة سنة 530هـ واستمر فيها إلى أن توفي سنة 555هـ.

أن ذكر عنه أنه قال: قصدي أن أقلع مذهب الحنابلة، لأنه لما حج قلع الحطيم1 الذي كان لهم بمكة، وأبطل إمامتهم بها وبالغ في أذاهم ... انتهى2.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 79". 2 ظل المقام إلى قبل عام "1387هـ-1967م" داخل مقصورة نحاسية مربعة الشكل. وعليها قبة قائمة على أربعة أعمدة، غير أن ازدياد عدد الحجاج في تلك السنوات حتى ضاق المطاف حول الكعبة من استيعابهم، وأصبح ذلك من عوامل إعاقة الحركة حول بيت الله الحرام. مما أدى إلى مناقشات مستفيضة بين علماء المسلمين. وقضي الأمر إلى قرار من رابطة العالم الإسلامي في جلسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي المنعقدة في 25/ 12/ 1384هـ بإزالة جميع الزوائد الموجودة حول المقام. وإبقاء المقام في مكانه على أن يجعل عليه صندوق من البللور السميك القوي على قدر وارتفاع مناسب يمنع تعثر الطائفين. وتتسنى معه رؤية المقام. فعمل له غطاء من البللور الممتاز. وأحيط هذا الغطاء بحاجز وعملت له قاعدة من الرخام فوقها قاعدة نحاسية نصبت حول المقام لا تزيد مساحتها عن 180× 130 سم وبارتفاع "75 سم" وتم هذا في رجب عام "1387هـ = 1967م". وفي يوم السبت 18/ 7/ 1387هـ جرى رفع الستار عن الغطاء البللوري في حفل جليل بيد الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله.

الباب العشرون

الباب العشرون: ذكر حفر بئر زمزم وعلاجها: أول من أظهر زمزم على وجه الأرض جبريل عليه السلام عند ظمأ إسماعيل عليه السلام سقيا من الله تعالى، واختلفت الروايات في كيفية صنع الأمين جبريل عليه السلام حين أخرج ماء زمزم، ففي رواية: "بحث بعقبه"، وفي رواية: "همز بعقبه"، وهاتان الروايتان في "صحيح البخاري". ولما أظهر الله ماء زمزم لإسماعيل عليه السلام حوضت عليه أمه هاجر خشية أن يفوتها قبل أن تملأ منه شنها ولو تركته لكان عينا تجري، على ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي: أن الخليل عليه السلام حفر زمزم وقصته كانت بينه وبين ذي القرنين في زمزم، لأنه قال: حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي، قال: حدثنا سعد بن سالم قال: حدثنا عثمان بن ساج قال: بلغنا في الحديث المأثور عن وهب بن منبه قال: كان بطن مكة ليس فيه ماء، وليس لأحد فيه قرار، حتى أنبطه الله لإسماعيل لما أراد من عمارة بيته لم يكن لأحد بها يومئذ مقام1. قال عثمان: وذكر غيره: أن زمزم تدعى سابق، وكانت وطأة من جبريل. وكانت سقياها لإسماعيل عليه السلام يوم فرج له عنها جبريل، وهو يومئذ وأمه عطاش،

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 122.

فحفر إبراهيم بعد ذلك البئر، ثم غلبه عليها ذو القرنين، وأظن أن ذا القرنين كان سال إبراهيم عليه السلام أن يدعو الله له، فقال: كيف، وقد أفسدتم بئري؟ فقال ذو القرنين: ليس عن أمري، ولم يخبرني أحد أن البئر بئر إبراهيم، فوضع السلاح، وأهدى إبراهيم إلى ذي القرنين بقرا وغنما، فأخذ إبراهيم سبعة أكبش، فأقرنهم وحدهم، فقال ذو القرنين: ما شأن هذه الأكبش يا إبراهيم؟ فقال إبراهيم: هؤلاء يشهدون في يوم القيامة أن البئر بئر إبراهيم ... انتهى. وفي حاشية كتاب الفاكهي في هذا الحديث مكتوب ما صورته: عطاشا ما أقرأ عبد الله بن عمران عطاشا، قال أبو عبد الله: والصواب عطشانان1 ... انتهى. ولم تزل ماء زمزم ظاهرا ينتفع به سكان مكة، إلى أن استخفت جرهم بحرمة الكعبة والحرم، فدرس موضعه ومرت عليه السنون عصرا بعد عصر، إلى أن صار لا يعرف. وقيل: إن جرهما دفنتها حين نفت عن مكة، ذكره الزبير بن بكار وغيره، والله أعلم. ثم بوأه الله تعالى لعبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم لما خصه الله به من الكرامة، فأتي في المنام وأمر بحفرها، وأعلمت له بعلامات استبان بها موضع زمزم فحفرها، وكان حفره لها قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنا روينا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن جده عبد المطلب حين حفر زمزم لم يكن له ولد سوى ابنه الحارث، روينا ذلك عنه في سيرة ابن إسحاق2 بسند رجالُه ثقات. وروينا في تاريخ الأزرقي، عن الزهري، ما يقتضي أن حفر عبد المطلب لزمزم كان بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الأزرقي روى بسنده إلى الزهري: أن حفر عبد المطلب لزمزم كان بعد الفيل3، والنبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل على الصحيح، والله أعلم. وروينا في مسند البزار، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو طالب يعالج زمزم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة وهو غلام، وإسناد هذا الحديث ضعيف، وبتقدير صحته، فعلاج أبي طالب غير علاج عبد المطلب، لأن حديث علي رضي الله عنه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا طالب لم يكونا موجودين حين حفر عبد المطلب زمزم، لأنه ذكر فيه أنه لم يكن لعبد المطلب حين حفرها ابن غير ابنه الحارث، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 122. 2 السيرة لابن هشام 1/ 133. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 42.

ذكر علاج زمزم في الإسلام: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه أنه قال: ثم كان قد قل ماؤها جدا، حتى كانت تجم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين وأربع وعشرين ومائتين قال: وخرب فيها تسعة أذرع سحا في الأرض في تقرير جوانبها، ثم قال: وقد كان سالم بن الجراح قد خرب فيها في خلافة الرشيد أذرعا، وكان قد خرب فيها في خلافة المهدي أيضا، وكان عمر بن ماهان وهو على البريد والصواف في خلافة الأمين محمد بن الرشيد قد خرب فيها، وكان ماؤها قد قل حتى كان رجل يقال له: محمد بن بشير من أهل الطائف يعمل فيها، قال: وأنا صليت في قعرها1 ... انتهى باختصار2.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 43. 2 تجددت العمارة للبئر والقبة في مراحل تالية حتى كان وضعها قبل التوسعة السعودية. فكانت بئرا مستديرة الفوهة. عليها قطعة من المرمر على قدر سعة الفوهة والأرض المحيطة بالبئر فرشت بالرخام. ويحيط بالبئر من أعلى "درابزين" من حديد لمنع السقوط به، وفوقه شبكة من حديد، والبناء القائم على البئر مربع من الداخل طول كل ضلع "11"ذراعا "5.5م" وباب قبة زمزم في الجهة الشرقية. وفي المرحلة الثانية من التوسعة السعودية الأولى ما بين عامي 1381-1388هـ تمت إزالة المباني على البئر، وخفضت فوهة البئر على عمق "2.7" مترا، يتم النزول فيه بدرج. وفيه قسمان أحدهما مخصص للرجال والآخر للنساء، ومزود بالصنابير. وقد تم تطوير البدروم في مرحلة تالية لزيادة استيعابه. وأصبح ماء زمزم متاحا في كل أنحاء الحرم المكي الشريف من خلال بئر زمزم نفسه. وبواسطة حافظات ترامس موحدة لماء زمزم المبرد موزعة بشكل متناسق في كل طوائف الحرم وحول صحن الطواف. إضافة إلى مجمعات مياه زمزم خارج الحرم لملء الجوالين، وسبل الملك عبد العزيز رحمه الله. ويتم تصنيع الثلج الذي يوضع في ماء زمزم لتبريده من ماء زمزم، ويصنع في مصنع خاص، وبذلك يصبح ماء زمزم المبرد كماء زمزم، وتم فيما بعد تبريد ماء زمزم آليا.

ذكر ذرع بئر زمزم وما فيها من العيون وصفة الموضع الذي هي فيه الآن

ذكر ذرع بئر زمزم وما فيها من العيون وصفة الموضع الذي هي فيه الآن: وأما ذرعها: فذكره الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: كان ذرع غور زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعا، وفي قعرها ثلاث عيون عين حذاء الركن الأسود، وعين حذاء أبي قبيس والصفا، وعين حذاء المروة، وذكر ذلك الفاكهي1. وذكر الفاكهي خبرا به: أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: فأي عيونها أغزر؟ العين التي تجري من قبل الحجر الأسود، قال: صدقت2 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 74. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 31230، وطبقات ابن سعد 7/ 445، وابن حجر في الإصابة 3/ 298.

وبه إلى الأزرقي قال: فغورها من رأسها إلى الجبل أربعون ذراعا، كله بنيان، وما بقي فهو جبل منقور، وهو تسعة وعشرون ذراعا. قلت: هذا مخالف لما تقدم في غورها، والله أعلم بالصواب. وبه إلى الأزرقي قال: وذرع حنك زمزم في السماء: ذراعان وشبر، وذرع تدوير فم زمزم: أحد عشر ذراعا، وسعة فم زمزم: ثلاثة أذرع وثلثا ذراع1 ... انتهى. وقد اعتبر بعض أصحابنا بحضوري ارتفاع فم زمزم عن الأرض، وسعته، وتدويره، فكان ارتفاع فمها في السماء: ذراعين إلا ربعا، وسعته: أربعة أذرع ونصف، وتدويره: خمسة عشر ذراعا إلا قيراطين، كل ذلك بذراع الحديد المشار إليه. وأما صفة الموضع الذي فيه زمزم: فهو بيت مربع، وفي جدرانه تسعة أحواض للماء، تملآن من بئر زمزم، ليتوضأ الناس منها، إلا واحدا منها معطلا، وفي الحائط الذي يلي الكعبة، شبابيك، وهذا البيت مسقوف بالساج ما خلا الموضع الذي يحاذي بئر زمزم، فإنما عليه شباك خشب، ولم أدر من عمل هذا الموضع على هذه الصفة، وهي غير الصفة التي ذكرها الإمام الأزرقي فيه. وكانت ظلة المؤذنين التي فوق البيت الذي فيه بئر زمزم قد خربت لأكل الأرضة لأساطينها الخشب والأرضة دابة صغيرة كنصف العدسة، تأكل الخشب وتفسده كثيرا فشدت الظلة المذكورة بأخشاب تمنعها من السقوط في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، فلما كان السابع من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة هدمت الظلة المذكورة، وأزيل المقرنص الخشبي الذي كان تحتها ليصلح، والدرابزين الذي كان يطيف بها وبسطح البيت الذي فيه بئر زمزم، فوجد الخشب المقرنص مركبا خرابا لأكل الأرضة له، فاقتضى الحال قلعه، وأن يبنى فوق الجدار الذي يلي الكعبة، والجدار الذي يلي مقام الشافعي، والجدار الذي يلي الخلوة التي إلى جانب هذا البيت أساطين دقيقة من آجر بالنورة لئلا تفسدها الأرضة كما أفسدت الأساطين الخشب قبلها، ليعمل عليها ظلة للمؤذنين، وأن يقوى الجدار الشامي من هذا البيت، وهو الجدار الذي يلي مقام الشافعي بزيادة بناء في عرضها، فسلخ الجدران المشار إليها من أعلاها إلى الأرض، وأوسعوا في أساس الجدار الذي يلي الكعبة نحو ذراع باليد، وذلك لإحكام البناء، ونزلوه به في الأرض نحو قامة، وبنوا ذلك مخالطا للأساس الأول ووجدوا الأساس الذي يلي مقام الشافعي عريضا محكم البناء، فبنوا عليه وأكملوا بناء ما سلخ من الجدارين حتى

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 61.

اتصل ذلك بالسقف، وعملوا في كل من الجدارين ثلاثة عقود بالنورة، وفيما بين كل عقد من العقود التي في الجدار الذي يلي الكعبة أسطوانة دقيقة من رخام مشدودة بالرصاص، وترك لها محلا خاليا من البناء في الجدار المذكور، وأوسعوا في الشبابيك التي في هذين الجدارين، وفي الأحواض التي في هذين الجدارين من داخل البيت، لاتساع عرض الجدارين، وبنوا عليهما منحوتة كبار يقال لها: الفصوص، وبنوا ما فوق العقود بحجارة غير منحوتة، وكل ذلك بالنورة، وسلخوا من الجدار الشرقي من البيت الذي فيه زمزم أيضا ما فوق العتبة العليا من هذا الجدار إلى أعلاه، وبنوا ذلك بالنورة والآجر، وبنوا بهما أسطوانتين فوق هذا الجدار الشرقي يشدان الدرابزين الخشب المخروط الذي يكون في ذلك ولم يكونا قبل وكشفوا سقف هذا البيت، وأخرجوا من ذلك ما كان متخربا من الخشب، وعوضوا عنه بخشب جديد، وبنوا فوق الجدار الغربي من هذا البيت. ثلاث أساطين دقيقة من آجر بالنورة، وبنوا أسطوانتين مثل ذلك، إحداهما في الجدار الشامي، والأخرى في الجدار اليماني من هذا البيت، ونصبوا أسطوانة من خشب بين هاتين الأسطوانتين تحاذي الأسطوانة الوسطى من الأساطين الآجر المشار إليها، وركبوا بين كل أسطوانة من الست الأساطين أخشابا، وستروا جميع هذه الأخشاب بألوح من خشب مدهونة وركبوا فيها بين الأساطين المشار إليها سقفا من خشب مدهون، ساترا لمقدار ما بن الست الأساطين، إلا أنهم جعلوا بعض ما بين الأسطوانة الآجر الوسطى، والأسطوانة الخشب المقابلة لها خاليا من السقف، وركبوا في هذا الموضع الخالي قبة من خشب مدهونة، وجعلوا فوقها قبة ساترة لها من خشب وجريد وقصب، وجعلوا رفرفا من خشب مدهون يليق بهذا السقف الذي هو ظلة للمؤذنين وأتقنوا تسمير السقف والقبة والرفرف إتقانا كثيرا بمسامير زنة كل سبعة منها مَنٍّ1 من حديد، وزنة بعضها دون ذلك، وبكلاليب من حديد، وجعلوا فوق هذا السقف المدهون سقفا من خشب غير مدهون، ودكوا ما فوق السقف الأعلى بالآجر والنورة، وطلوا ما فوق الآجر بالنورة، وطلوا ما فوق القبة التي في وسط هذا السقف بالجبس، وأتقنوا ذلك وأصلحوا جميع سطح البيت الذي فيه زمزم بالنورة والآجر، وجعلوا درابزين من خشب مخروط يطيف بجميع جوانب البيت الذي فيه زمزم خلا الجانب اليماني، وجعلوا درابزين أيضا يطيف بجانبي ظلة المؤذنين اليماني والشرقي، ولم يكن قبل ذلك درابزين أيضا يطيف بجانبي ظلة المؤذنين اليماني والشرقي، ولم يكن قبل ذلك درابزين في هذين الجانبين، وجعلوا شباكا من حديد فوق بئر زمزم ليمنع من السقوط فيها، بعد أن ضيقوا سعة الفتحة التي كانت تحاذي بئر زمزم بأخشاب

_ 1 المن: كيل أو ميزان، وهو شرعا مائة وثمانون مثقالا، وعرفا: مائتان وثمانون مثقالا، والجمع: أمنان.

مسمرة جعلت هنالك، ولم يكن هناك قبل ذلك شباك من حديد، وجعلوا درابزين من خشب مخروط يطيف بجوانب هذه الشبابيك الأربعة، وكان قبل ذلك في موضع هذه الدرابزين أخشاب مرتفعة كالقامة يطيف بما يحاذي البئر من الجوانب الأربعة، مطلية بالنورة. وزنة الشباك الحديدي الذي فوق بئر زمزم الآن: اثنان وستون منًّا كل منٍّ: مائتان وستون درهما. وزادوا حديدا في بعض الشبابيك التي في الجدار الغربي من بيت زمزم،، ووسعوا الدرجة التي يصعد منها إلى سطح البيت الذي فيه بئر زمزم، وإلى ظلة المؤذنين، لضيق الدرجة حين عُمِّرت في سنة ثماني عشرة وثمانمائة، لما عمرت الخلوة التي إلى جانب هذا البيت سبيلا. وجعلوا لهذه الدرجة درابزين خشب غير مخروط، واستحسنت توسعة هذه الدرجة، وكذا جميع ما عمر من جدران بيت زمزم، وما صنع في سطحه من ظلة المؤذنين وغيرها استحسانا كثيرا، وكان الفراغ من ذلك في أثناء رجب سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، وكان القائم بأمر مصروف هذه العمارة الجناب العالي الكبير العلائي خواجه شيخ علي بن محمد بن عبد الكريم الجيلاني1، نزيل مكة المشرفة، زاده الله رفعة وتوفيقا2. وكان إلى جانب هذا البيت خلوة فيها بركة تملأ من زمزم، ويشرب منها من دخل إلى الخلوة وكان لها باب إلى جهة الصفا، ثم سد وجعل في موضع الخلوة بركة مقبوة، وفي جدارها الذي يلي الصفا زبازيب يتوضأ الناس منها على أحجار نصبت عند الزبازيب، وفوق البركة المقبوة خلوة فيها شباك إلى الكعبة، وشباك إلى جهة الصفا، وطابق صغير إلى البركة، وكان عمل ذلك على هذه الصفة في ذي الحجة سنة سبع عشرة وثمانمائة3، لما قيل من أن بعض الجهلة من العوام يستنجي هناك. وعمر عوض ذلك سبيل لمولانا السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ نصره الله ينتفع الناس بالشراب منه، فتضاعف له الدعاء، ولمن كان السبب في ذلك. وصفة هذا السبيل: بيت مربع مستطيل، فيه ثلاثة شبابيك كبار من حديد فوق كل شباك لوح من خشب صنعته حسنة، منها واحد إلى جهة الكعبة، واثنان إلى جهة الصفا، وتحت كل شباك حوض في داخل البيت، وفيه بركة حاملة للماء، وله سقف مدهون يراه من دخل السبيل، وبابه إلى جهة الصفا، وله رفرف خشب من خارجه مدهون، وفوق

_ 1 انظر ترجمته في الضوء اللامع 5/ 313 رقم 1034. 2 إتحاف الورى 3/ 566. 3 إتحاف الورى 3/ 522، العقد الثمين 3/ 392.

ذلك شراريف من حجارة منحوتة، وباطن السبيل منور، وظاهره مرخم بحجارة ملونة، وجاءت عمارته حسنة، وفرغ منه في شهر رجب سنة ثماني عشرة وثمانمائة1، وابتدئ في عمله بأثر سفر الحجاج. وفي موضع هذه الخلوة كان مجلس عبد الله بن العباس رضي الله عنهما على مقتضى ما ذكره الأزرقي والفاكهي2. وبين الحجر الأسود إلى وسط جدار البيت الذي فيه بئر زمزم: أحد وثلاثون ذراعا وسدس ذراع، بذراع الحديد.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 528. 2 أخبار مكة للأزرقي 612، أخبار مكة للفاكهي 3/ 81.

ذكر أسماء زمزم

ذكر أسماء زمزم: قال الفاكهي: أعطاني أحمد بن محمد بن إبراهيم كتابا ذكر أنه عن أشياخه من أهل مكة، فكتبته من كتابه، فقال: هذه هي تسمية أسماء زمزم، وهي: همزة جبريل، وسقيا الله إسماعيل، لا تنزف، ولا تذم، وهي بركة، وسيدة، ونافعة، ومضنونة، وعونة، وبشرى، وصافية، وبرة، وعصمة، وسالمة، وميمونة، ومباركة، وكافية، وعافية، ومغذية، وطاهرة، ومفداة، وحرمية، ومروية، ومؤنسة، وطعام طعم، وشفاء سقم1 ... انتهى. ومن أسمائها على ما قيل: طيبة وتكتم وشباعة العيال، وشراب الأبرار، وقرية النمل، ونقرة الغراب، وهزمة إسماعيل، وحفيرة العباس، ذكر هذا الاسم ياقوت، لأنه ذكر أنه الحفيرة عشرة مواضع، وقال في عددها وحفيرة العباس من أسماء زمزم. انتهى من "مختصر معجم البلدان"2 لياقوت وهو غريب، والله أعلم. ومن أسماء زمزم: همزة جبريل بتقديم الميم على الزاي ذكر هذا الاسم السهيلي، لأنه قال: وذكر أن جبريل عليه السلام همز بعقبه في موضع زمزم فنبع الماء، وكذلك زمزم تسمى همزة جبريل بتقديم الميم على الزاي، ثم قال: وحكى في أسماء زمزم: زمازم حكي ذلك عن المطرز3، ورأيت في النسخة التي رأيتها من "الروض الأنف": وزمزم مضبوطة بالشكل على الزاي ضمة، وعلى الميم الأولى شدة وفوق الشدة فتحة.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 68، وسبل الهدى والرشاد 1/ 214، والأعلاق النفسية لابن رستة "ص: 44". 2 المشترك وضعا لياقوت الحموي "ص: 140: 141". 3 الروض الأنف: 1/ 134.

ومن أسماء زمزم: سابق، ذكر ذلك الفاكهي في خبر رواه عن عثمان بن ساج وفيه قال عثمان: وذكر غيره يعني غير وهب بن منبه أن زمزم تدعى: سابق1 ... انتهى. وقد اختلف في تسمية زمزم بزمزم، فقيل: لكثرة مائها، قال ابن هشام: والزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع. وقيل: إنها سميت زمزم، لأنها زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينا وشمالا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء، وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما ذكره البرقي. وقيل: سميت زمزم: لزمزمة الماء، وهو صوته. قال الحربي: وقيل: سميت زمزم، لأن الفرس كانت تحج إليها في الزمن الأول فزمزمت عليها. قال المسعودي2: قيل لي: والزمزمة صوت يخرجه الفرس من خياشيمها عند شرب الماء، وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله أن أنهوا الفرس عن الزمزمة ... أنشد المسعودي: زمزمت الفرس على زمزم ... وذلك في3 سالفها الأقدم وقيل: إنها غير مشتقة، والله أعلم. وقد ذكرنا معاني بعض هذه الأسماء في أصل هذا الكتاب.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 86. 2 مروج الذهب 1/ 242. 3 في مروج الذهب 1/ 242: "من" بدل "في".

ذكر فضائل ماء زمزم وخواصه

ذكر فضائل ماء زمزم وخواصه: روينا في "معجم الطبراني" بسند رجاله ثقات، وفي "صحيح ابن حبان" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم"1. وروينا معنى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تاريخ الأزرقي2. وسمعت العلامة زين الدين الفارسكوري يقول: إن شيخنا، شيخ الإسلام، سراج الدين البلقيني قال: إن ماء زمزم أفضل من ماء الكوثر. وعلل ذلك لكونه غسل به صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ليغسل إلا بأفضل المياه ... انتهى بالمعنى.

_ 1 معجم الطبراني الكبير "11167"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه للطبراني في الكبير، وقال: رجاله ثقات، وابن عدي 1/ 230، والفاكهي في أخبار مكة 2/ 40. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 55.

وذكر شيخنا الحافظ العراقي الحكمة من غسل صدر النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم، ليقوى به صلى الله عليه وسلم على رؤية ملكوت السماوات والأرض، والجنة والنار، لأن من خواص ماء زمزم: أنه يقوي القلب، ويسكن الروع ... انتهى. وروينا في تاريخ الأزرقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: اشربوا من شراب الأبرار. وفسره بماء زمزم1. وروينا فيه عن وهب بن منبه معنى ذلك2. وروينا في "المعجم الكبير" للطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن التضلع من ماء زمزم علامة ما بيننا وبين المنافقين" 3. وروينا من حديثه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم: أخرج هذه الأحاديث الحافظ شرف الدين الدمياطي، وقال فيما أثبت به عنه: إسناد صحيح. وروينا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل" 4. أخبرني بهذا الحديث أحمد بن محمد بن عبد الله الحميري، وإبراهيم بن عمر، ومحمد بن محمد الصالحيان إذنا عن الحافظ شرف الدين الدمياطي، أن الحافظ يوسف بن خليل أخبره، قال: أخبرنا أبو الفتح ناصر بن محمد الوبرج5، قال: أخبرنا إسماعيل بن الفضل الإخشيد، قال: أخبرنا أبو طاهر بن عبد الرحيم، قال: أخبرنا الحافظ أبو الحسن الدارقطني، قال: حدثنا عمر بن الحسن بن علي، قال: حدثنا

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 53. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 49. 3 أخرجه: ابن ماجه 2/ 1017، والحاكم 1/ 472، والبيهقي في السنن 5/ 147، والدارقطني 2/ 288، والسيوطي في الكبير 1/ 3، وعزاه للبخاري في التاريخ الكبير، وابن ماجه، وأبي نعيم في الحلية، والطبراني في الكبير. 4 أخرجه: الدارقطني 2/ 284، وفيه: "وإذا شربته لشبعك أشبعك الله به" وابن ماجه "3062"، والطبراني في الأوسط "853"، وأحمد 3/ 220، والبيهقي في السنن 5/ 148، والمستدرك "1739"، والديلمي في الفردوس "3171"، والعقيلي 2/ 303، وابن عدي 4/ 1455، والبيهقي في شعب الإيمان "4127". 5 انظر: العبر للذهبي 4/ 282، والنجوم الزاهرة 6/ 143، وشذرات الذهب 4/ 215، وقد اختلف لقبه من كتاب لآخر فذكر: "الدبري" عند الدارقطني، و"الوبرج" في العبر، و"التوترح" في النجوم الزاهرة "018". في سنن الدارقطني 2/ 284: "المردزي"، وكذلك في المستدرك 1/ 473، وميزان الاعتدال 3/ 185.

محمد بن هشام بن علي المروزي، قال: حدثنا محمد بن حبيب الجارودي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره، أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد إن سلم في الجارودي1. قال شيخنا العراقي الحافظ: قد سلم منه، فلله الحمد، فإن الخطيب ذكره في "تاريخ بغداد"، وقال: كان صدوقا2. وحسن شيخنا الحافظ العراقي هذا الحديث من هذا الطريق، وقال في "نكته" على ابن الصلاح: إن حديث ابن عباس أصح من حديث جابر ... انتهى. ولكن يعكر على ما ذكره شيخنا العراقي ما ذكره الذهبي في "الميزان" في ترجمة عمر بن الحسن القاضي الإشناني بسنده: فآفة3 هذا هو عمر، فلقد أثم الدارقطني بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطل، ما رواه ابن عيينة قط4، هذا والمعروف حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن الزبير، عن جابر مختصرا. وقال الذهبي بعد أن ذكر أن الدارقطني ضعف الإشناني وكذبه5: وهذا الإشناني صاحب بلايا، فمن ذلك قال الدارقطني ... وساق الحديث ... انتهى. وحديث جابر رضي الله عنه رواه الحافظ الدمياطي بسنده إلى سويد بن سعيد، عن ابن المبارك، عن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه

_ 1 المستدرك "1739". 2 تاريخ بغداد 2/ 277 رقم 750. 3 في الأصل: "فأمه" والتصويب من ميزان الاعتدال 3/ 185، رقم 6071. 4 قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان 4/ 291: "والذي يغلب على الظن أن المؤلف هو الذي أثم بتأثيمه الدارقطني، فإن الإشناني لم ينفرد بهذا: بل تابعه عليه الحاكم في مستدركه: 1/ 743، ولقد عجبت من قول المؤلف: ما رواه ابن عيينة قط، مع أنه رواه عنه الحميدي، وابن أبي عمر، وسعيد بن منصور، وغيرهم إلا أنهم وقفوه على مجاهد، ولم يذكروا ابن عباس فيه: فغايته أن يكون محمد بن حبيب وهم في رفعه ... "وفي التلخيص الحبير لابن حجر 1/ 222: والجارودي صدق إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حفاظ: ابن عيينة والحميدي وابن أبي عمر وغيرهم، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. وقال ابن حجر في لسان الميزان 5/ 414 في محمد بن هشام الإشناني: قال ابن القطان: لا يعرف حاله، وكلام الحاكم يقتضي أنه ثقة عنده، فإنه قال عقب الحديث: صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي، قال: قلت: وقد قال الزكي المنذري مثل ما قال ابن القطان "الترغيب والترهيب 2/ 133". 5 كذا في الأصل. والذي في الميزان ولسانه: ويروى عن الدارقطني أنه كذاب، ولم يصح هذا، وقد ترجم لعمر بن الحسن: الخطيب البغدادي، ونقل عن الدارقطني أنه قال: ضعيف "تاريخ بغداد 11/ 236- 238".

عن النبي صلى الله عليه وسلم. وصحح الدمياطي هذا الحديث والإسناد، وفي صحته نظر على ما ذكره الحافظ ابن حجر1. وقد أخرجنا في أصل هذا الكتاب حديث جابر رضي الله عنه من طرق، وحديثا لعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم في هذا المعنى، وبينا ما في ذلك، وذكرنا فيها أخبارا عمن شرب ماء زمزم لقصد له فناله، فمن ذلك أن الإمام الشافعي رضي الله عنه شربه للعلم، فكان فيه غايته، وللرمي، فكان يصيب العشرة من العشرة، والتسعة من العشرة. ومنها: ما ذكره الفاكهي، لأنه قال: وحدثني أحمد بن محمد بن حمزة بن واصل، عن أبيه، أو عن غيره من أهل مكة أنه ذكر: أنه رأى رجلا في المسجد الحرام مما يلي باب الصفا والناس مجتمعون عليه، فدنوت منه، فإذا برجل مكعوم قد عكم نفسه بقطعة خشب، فقلت: ما له؟ فقالوا: هذا رجل شرب سويقا، وكانت في السويق إبرة فذهبت في حلقه، وقد اعترضت في حلقه، وقد بقى لا يقدر يطبق فمه، وإذا الرجل في مثل الموت، فأتاه آت، فقال له: اذهب إلى ماء زمزم فاشرب منه، وجدد النية، وسل الله عز وجل الشفاء، فدخل زمزم فشرب بالجهد منه حتى أساغ منه شيئا، ثم رجع إلى موضعه، وانصرفت في حاجتي، ثم لقيته بعد ذلك بأيام وليس به بأس، فقلت له: ما شأنك؟ فقال: شربت من ماء زمزم، ثم خرجت على مثل حالي الأول حتى انتهيت إلى أسطوانة، فأسندت ظهري إليها، فغلبتني عيني، فنمت، فانتبهت من نومي وأنا لا أحس من الأثر شيئا2 ... انتهى. ومنها: أن شيخنا الحافظ العراقي ذكر أنه شرب ماء زمزم لأمور، منها: الشفاء من داء معين ببطنه، فشفي منه بغير دواء. ومنها: أن أحمد بن عبد الله الشريفي الفراش بالحرم الشريف بمكة شربه للشفاء من عماء حصل له، فشفي منه، على ما أخبرني به عنه شيخنا العلامة تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الخير الفاسي، رحمة الله عليهم أجمعين. ومنها: أن الفقيه العلامة المدرس المفتي أبا بكر بن عمر بن منصور الأصبحي المعروف بالشنيني، بشين معجمة، ثم نون، ثم ياء مثناة من تحت ونون وياء للنسبة، أحد العلماء المعتبرين ببلاد اليمن، شرب ماء زمزم بنية الشفاء من استسقاء عظيم أصابه بمكة، فشفي بأثر شربه له على ما أخبرني به عنه ولده الفقيه الصالح عفيف الدين بن

_ 1 التلخيص الحبير 1/ 221- 222 والبيهقي في شعب الإيمان 5/ 248. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 35.

عبد الله بمكة، وأخبرني عن أبيه: أنه لما اشتد به الاستسقاء خرج يتعرض لطبيب بمكة، فأعرض عنه الطبيب الذي قصده، فأنكر خاطره لذلك، وألقى الله تعالى بباله أن يشرب من ماء زمزم للحديث الوارد في أنه لما شرب له، فقصد زمزم، واستسقى بدلو، فشرب منها حتى تضلع، وأنه بعد أن تضلع منه أحس بانقطاع شيء في جوفه، فبادر حتى وصل إلى رباط السدرة ليستنجي به، فما وصل إليه إلا وهو شديد الخوف من أن يلوث في المسجد، فألقى شيئا كثيرا، ثم عاد إلى زمزم فشرب منه ثانيا حتى تضلع، وأخرج شيئا كثيرا، ثم صح، وبينما هو في بعض الأيام برباط ربيع بمكة يغسل ثوبا له وهو يطؤه برجله، وإذا بالطبيب الذي قد أعرض عن ملاطفته، فقال له: أنت صاحب تلك العلة؟ قال: نعم، قال له: بِمَ تداويت؟ قال: بماء زمزم، فقال الحكيم: لطف بك. قال: وبلغني عن ذلك الحكيم أنه قال حين رآه أولا: هذا ما يعيش ثلاثة أيام. هذا ما أخبرني به الفقيه عبد الله ابن الفقيه أبي بكر الشنيني المذكور عن أبيه، في خبر مرضه بالاستسقاء وخبر استشفائه بماء زمزم، وهذه الأخبار مما تؤيد صحة حديث "ماء زمزم لما شرب له" مع أنه صحح بالإسناد كما سبق بيانه. ولم ينصف ابن الجوزي في ذكره هذا الحديث في كتاب "الموضوعات" لكونه صحيحا أو حسنا، كما سبق بيانه، ويتعجب من هذا، لأنه روى في كتاب "الأذكياء" له بإسناده إلى سفيان قصة فيها أنه قال: هذا الحديث صحيح1، ولم يتعقب ذلك، وليس بين هذا الحديث وحديث "الباذنجان" لم أكل له" تساو في الثبوت، لأن حديث "ماء زمزم" صحيح أو حسن، وحديث الباذنجان" غير صحيح. بل هو موضوع على ما بلغني عن العلامة الكبير شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي، وقال لي شيخنا الحافظ نور الدين الهيثمي: إنه موضوع، وضعه بعض الزنادقة ليشين به الشريعة، هذا معنى كلام شيخنا نور الدين الهيثمي. وأنبأني شيخنا الحافظ العراقي قال: وأما ما اشتهر على ألسنة الناس، بل على ألسنة كثير من أهل العلم، أن حديث "الباذنجان لما أكل له"، أصح من حديث "ماء زمزم لما شرب له"، فلا يصح ذلك بوجه من الوجوه، ولم نجد لحديث الباذنجان أصلا إلا في أثناء حديث "مسند الفردوس" بإسناد مظلم، وليس له أصل في كتب الإسلام المتداولة بين الناس، وذكر أن مؤلف مسند الفردوس كثير الأوهام ... انتهى مختصرا. ورويناه في خبر ابن عكيك بإسناد ساقط. ومن خواص ماء زمزم: أنه يبرد الحمى لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في سنن النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو في صحيح البخاري على الشك.

_ 1 الأذكياء "ص: 98".

ومنها على ما قال الضحاك بن مزاحم: أنه يذهب الصداع. ومنها: أن المياه العذبة ترفع وتغور قبل يوم القيامة إلا ماء زمزم، قاله الضحاك أيضا، والله أعلم بذلك. ومنها: أنه يفضل مياه الأرض كلها طبا وشرعا، على ما ذكر شيخنا بالإجازة الإمام بدر الدين بن الصاحب المصري، لأنه قال فيما أنبأنا به: وازنت ماء زمزم بماء عين مكة، فوجدت زمزم أثقل من العين بنحو الربع، ثم اعتبرتها بميزان الطب، فوجدتها تفضل مياه الأرض كلها طبا وشرعا. ورأيت لشيخنا بدر الدين بن الصاحب هذا أبياتا حسنة في فضل زمزم، رأيت أن أثبتها هنا، منها: قوله فيما أنبأنا به: شفيت يا زمزم داء السقيم ... فأنت أشفى ما يُعاطى النديم وكم رضيع لك أشواقه ... إليك بعد الشيب مثل الفطيم ومنها: قوله فيما أنبأنا به: يا زمزم الطيبة المخبر ... يا من علت غورا على المشرب رضيع أخلافك لا يشتهي ... فطام إلا لدى الكوثر1 ومنها: قوله فيما أنبأنا به: بالله قولوا لنيل مصر ... بأنني عنه في غناء بزمزم العذب عند بيت ... مخلق1 الشرب بالوفاء ومنها: قوله فيما أنبأنا به: لزمزم نفع في الفؤاد وقوة ... يزيد على ماء الشباب لذي فتك وزمزم فاقت كل ماء بطيبها ... ولو أن ماء النيل يجري على المسك ومنها: أن ماءها يحلو ليلة النصف من شعبان ويطيب، ذكر ذلك ابن الحاج المالكي في منسكه نقلا عن الشيخ مكي بن أبي طالب، ونص كلامه: قال الشيخ مكي بن أبي طالب: وفي ليلة النصف من شعبان تحلو زمزم ويطيب ماؤها، يقول أهل مكة إن عين سلوان تتصل بها تلك الليلة، ويبذل على أخذ الماء في تلك الليلة الأموال، ويقع الزحام فلا يصل إلى الماء إلا ذو جاه وشرف، قال: عاينت هذا ثلاث سنين ... انتهى.

_ 1 كذا بالأصل.

ومن خواص ماء زمزم: أن يكثر في ليلة النصف من شعبان في كل سنة، بحيث إن البئر تفيض بالماء على ما قيل لكن لا يشاهد ذلك إلا العارفون، وممن شاهد ذلك: الشيخ العام أبو الحسن المعروف بكرباج، على ما وجدت بخط جد أبي الشريف أبي عبد الله الفاسي، نقلا عن الشيخ فخر الدين التوزري، عن الشيخ على كرباج. ومن فضائل بئر زمزم: أن الاطلاع فيها يجلو البصر، قاله الضحاك بن مزاحم. ومن فضائلها أيضا: أن الاطلاع فيها يحط الأوزار والخطايا، لأن أبا الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني من الشافعية ذكر في كتاب "الإرشاد في المناسك" له: أنه يستحب لمن جاء إلى زمزم الإطلاع فيها، لأن النظر فيها عبادة وحط للأوزار والخطايا ... انتهى. ولم أقف على هذا الكتاب، وإنما نقل إلى ذلك عنه من اعتمده، وذكر: أنه رأى ذلك بخط من يعتمد عليه من حفاظ الحديث. وروى نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا في كتاب الفاكهي، لأنه قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الطبري قال: حدثنا بقية بن الوليد، عن ثور، عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النظر في زمزم عبادة وهي تحط الخطايا"1. ومنها: أن من حثا على رأسه ثلاث حثيات من ماء زمزم لم تصبه ذلة. ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: وحدثني قريش بن بشير التميمي، قال: حدثنا إبراهيم بن بشير، عن محمد بن حرب، عمن حدثه: أنه أسر في بلاد الروم، وأنه صار إلى الملك، فقال له: من أي بلد أنت؟ قال: من أهل مكة، فقال: هل تعرف بمكة هزمة جبريل؟ قال: نعم، قال: فهل تعرف بها برة؟ قال: نعم. قال: فهل لها اسم غير هذا؟ قال: نعم، هي اليوم تعرف بزمزم. قال: فذكر من جملة بركتها، ثم قال: أما أنك إن قلت هذا، إنا نجد في كتبنا أنه لا يحثو رجل على رأسه منها ثلاث حثيات فأصابته ذلة أبدا2 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 41، وهو ضعيف الإسناد، فيه "إسحاق بن إبراهيم الطبري" ضعيف، انظر لسان الميزان 1/ 344. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 39.

ذكر آداب شربه

ذكر آداب شربه: يستحب لشاربه أن يستقبل القبلة، ويذكر اسم الله تعالى، ويتنفس ثلاثا، ويتضلع منه، ويحمد الله تعالى، ويدعو بما كان ابن عباس رضي الله عنه يدعو به إذا شرب ماء زمزم، لأن في مستدرك الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه السابق: وكان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم قال: اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء1 ... انتهى. ولا يقتصر على هذا الدعاء بل يدعو بما أحبه من أمر الآخرة في الدعاء، ويجتنب الدعاء بما فيه مأثمة.

_ 1 مستدرك الحاكم 1/ 473.

ذكر حكمة التطهير بماء زمزم

ذكر حكمة التطهير بماء زمزم: أما حكم التطهير فإنه صحيح بالإجماع على ما ذكره الروميني في بحره، والماوردي في "حاويه"، والنووي في "شرح المهذب". وينبغي توقي إزالة النجاسة به، وخصوصا مع وجود غيره، وخصوصا في الاستنجاء به، فقد قيل: إنه يورث الباسور، ويقال إن ذلك جرى لمن استنجى به، وجزم المحب الطبري بتحريم إزالة النجاسة به، وإن حصل به التطهير، وأخذ ذلك من كلام الماوردي، ووافقه في الجزم بذلك، وأخذه من كلام الماوردي الشيخ كمال الدين النشائي في كتابه "جامع المختصرات وشرحه". ولابن شعبان من أصحابنا المالكية، ما يوافق ما ذكره الماوردي في منع التطهير بماء زمزم، لأنه قال: لا يغسل بماء زمزم ميت ولا نجاسة ... انتهى. ومقتضى ما ذكره ابن حبيب من المالكية: استحباب التوضؤ به، ومذهب الشافعي رضي الله عنه استحباب الوضوء والغسل به، ولم يكره الوضوء به إلا أحمد بن حنبل رضي الله عنه في رواية عنه. وذكر الفاكهي: أن أهل مكة يغسلون موتاهم بماء زمزم إذا فرغوا من غسل الميت وتنظيفه تبركا به، وذكر أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما غسلت ابنها عبد الله بن الزبير بماء زمزم1.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 47، والحديث إسناده حسن "انظر: التقريب 1/ 360".

ذكر نقل ماء زمزم إلى البلدان

ذكر نقل ماء زمزم إلى البلدان: أما نقله فإنه يجوز باتفاق المذاهب الأربعة، بل هو مستحب عند المالكية والشافعية، والفرق عند الشافعية بينه وبين حجارة الحرم في عدم جواز نقلها، وجواز نقل ماء زمزم، أن الماء ليس بشيء يزول فلا يعود، أشار إلى هذه التفرقة: الشافعي فيما حكاه عنه البيهقي. والأصل في جواز نقله: ما رويناه في "جامع الترمذي" عن عائشة رضي الله عنها: أنها حملت من ماء زمزم في القوارير، وقالت: حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأداوي والقرب، وكان يصب على المرضى ويسقيهم1. ورويناه في "شعب الإيمان" للبيهقي، وفي سننه، وقال: أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه2 ... انتهى. ويدل لذلك ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم3. أخرجه الطبراني بسند رجاله ثقات. ورويناه في تاريخ الأزرقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعجل سهيلا في إرسال ذلك إليه، وأنه بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بروايتين4.

_ 1 الترمذي 4/ 183، والمستدرك 1/ 485، وأخبار مكة للفاكهي 2/ 49. 2 شعب الإيمان 5/ 202. 3 مصنف عبد الرزاق 5/ 115، القرى "ص: 491"، والإصابة 4/ 221، في ترجمة أثيلة الخزاعية، وعزاه الفاكهي وعمر بن شبة. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 50.

ذكر شيء من خبر سقاية العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه

ذكر شيء من خبر سقاية العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: صفة هذه السقاية الآن: بيت مربع في أعلاه قبة كبيرة ساترة لجميعه، والقبة من آجر معقودة بالنورة، وفي أسفل جدرانها خلا الجنوبي شبابيك من حديد تشرف على المسجد الحرام، في كل جهة شباكان من حديد. وفي جانبها الشمالي من خارجها حوضان من رخام مفردان، وباب السقاية بينهما. وفي هذا البيت بركة كبيرة تملأ من بئر زمزم، يسكب الماء من البئر في خشبة طويلة على صفة الميزاب، متصلة بالجدار الشرقي من حجرة زمزم، ويجري الماء منها إلى الجدار المشار إليه، ثم إلى قناة تحت الأرض حتى يخرج إلى البركة من فوارة في وسطها. وأحدث وقت عمرت فيه هذه القبة سنة سبع وثمانمائة، وسبب عمارتها في هذه السنة: أن القبة التي كانت في سقف هذه السقاية أكلت الأرضة بعض الخشب الذي كان فيها فسقطت1. والأرضة دويبة صغيرة تأكل الخشب. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب شيئا من خبر عمارة هذا المكان، وما ذكره الأزرقي في صفة هذه السقاية وهو يخالف هذه الصفة، ولذلك تركنا ذكره هنا.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 443، العقد الثمين 2/ 212.

وقد ذكر الأزرقي ذرع ما بين هذه السقاية وبين الحجر الأسود، وذرع ما بينها وبين جدارات المسجد، لأنه قال: ومن الركن الأسود إلى سقاية العباس وهو بيت الشراب خمسة وتسعون ذراعا. ومن وسط سقاية العباس إلى جدار المسجد الذي يلي المسعى: مائة ذراع. ومن وسط السقاية إلى الجدار الذي يلي باب بني جمح: مائتا ذراع، وإحدى وتسعون ذراعا. ومن وسط السقاية إلى الجدار الذي يلي دار الندوة: مائتا ذراع، ومن وسط السقاية إلى الجدار الذي يلي الوادي: خمسة وثمانون ذراعا1 ... انتهى. وقد حررنا مقدار ما بين هذه السقاية والحجر الأسود، فكان ما بين ذلك: ثمانون ذراعا ونصف ذراع، بذراع الحديد، وذلك من الحجر الأسود إلى وسط جدار السقاية مارًّا من جانب زمزم اليماني.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 104، 105.

الباب الحادي والعشرون

الباب الحادي والعشرون: في ذكر الأماكن المباركة التي ينبغي زيارتها الكائنة بمكة المشرفة وحرمها وقربه: هذه الأماكن مسجد ودور وجبال ومقابر، والمساجد أكثر من غيرها إلا أن بعض هذه المساجد مشتهر باسم المولد، وبعضها باسم الدار، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذين الأمرين قريبا، والمقصود ذكره هنا ما اشتهر من ذلك بالمسجد الحرام فمن ذلك: مسجد بقرب المجزرة الكبيرة من أعلاها على يمين الهابط إلى مكة ويسار الصاعد منها، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه المغرب على ما وجدت بحجرين فيه، أحدهما: بخط عبد الرحمن بن أبي حرمي، وفيه: أنه عُمِّرَ في رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وفي الآخر: أنه عمر في سنة سبع وأربعين وستمائة. وطول هذا المسجد من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له: سبعة أذرع إلا ربعا، بذراع الحديد المستعمل في القماش بديار مصر ومكة، وعرضه: خمسة أذرع وثمن. وذلك من الجدار الذي فيه محرابه إلى الجدار المقابل له، وكان تحرير ذلك بحضوري. وبين باب هذا المسجد وجدار باب بني شيبة أحد أبواب المسجد الحرام: خمسمائة ذراع وعشرة أذرع ونصف ذراع اليد المتقدم ذكره، ويكون ذلك بذراع الحديد أربعمائة ذراع وستة وأربعين ذراعا وخمسة أثمان ذراع ونصف ثمن، وحرر ذلك بحضوري أيضا. ويوهم بعض أهل العصر أن هذا المسجد هو الذي ذكر الأزرقي أن عنده قرن مسقلة عند موقف الغنم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم باع الناس عنده يوم فتح مكة على ما يقال، وسبب هذا التوهم: أن المسجد الذي ذكرنا ذرعه وشيئا من خبره يلحق بجبل وعنده الآن سوق الغنم، وليس هذا التوهم صحيحا، لأن الجبل الذي عنده هذا المسجد هو المشرف على المروة، ويسمى جبل الديلمي على ما ذكره الأزرقي، وهو في شق معلاة مكة

الشامي، وقرن مسقلة الذي أشار إليه الأزرقي: ذكره الأزرقي في شق معلاة مكة اليماني، ونص كلامه في أخبار هذه الجهة: وقرن مسقلة وهو قرن قد بقيت منه بقية بأعلى مكة في دبر دار "سَمُرَة" عن موقف الغنم بين شعب ابن عامر وحرف دار رابعة في أصله1 ... انتهى. وشعب ابن عامر هو الذي تسميه الناس اليوم شعب عامر بأعلى مكة بشقها اليماني، وبين المكانين بعد كثير، والله أعلم. ومن ذلك: مسجد فوقه يقال له: مسجد الراية، وعرفه بذلك المحب الطبري في "القرى" وهو من المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقال كما ذكر الأزرقي، وذكر أن عبد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بناه، وفيه الآن لوحان مكتوبان: أحدهما: كوفى لا يعرف، والآخر: فيه أن المستعصم العباسي أمر بعمله في شعبان سنة أربعين وستمائة2، وعمره في أوائل سنة إحدى وثمانمائة الأمير قطلوبك الحسامي المنجكي3 عمارته التي هو عليها الآن. وطول هذا المسجد من داخله ستة عشر ذراعا بالحديد، وذلك من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له، وعرضه ستة أذرع إلا ثلث ذراع، وذلك من الجدار الذي فيه محرابه إلى الجدار المقابل له، وكان تحرير ذلك بحضوري، وبين باب هذا المسجد وجدار باب بني شيبة أحد أبواب المسجد الحرام: تسعمائة ذراع وأربعة وعشرون ذراعا بذراع الحديد، فيكون ذلك بذراع اليد ألف ذراع وستة وخمسون ذراعا، وكان تحرير ذلك بحضوري. ومن ذلك: مسجد بسوق الليل قرب مولد النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: المختبأ، يزوره الناس كثيرا في صبيحة اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل سنة، ولم أر من ذكره ولا عرفت شيئا من خبره. وطول هذا المسجد من وسط الجدار إلى وسط الجدار المقابل له الذي فيه محرابه: ثمانية أذرع إلا ثلثا، وعرضه سبعة أذرع وثلث، الجميع بذراع الحديد، وكان تحرير ذلك بحضوري. ومن ذلك: مسجد بأسفل مكة ينسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقال: إنه من داره التي هاجر منها إلى المدينة والله أعلم. وقد ذكر ابن جبير هذا المسجد4.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 270. 2 العقد الثمين 5/ 290، إتحاف الورى 3/ 59. 3 إتحاف الورى 3/ 416، والعقد الثمين 7/ 76. 4 رحلة ابن جبير "ص: 93".

وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب مع شيء من حال هذا المكان الآن، وهو مكان مشهور بالموضع المعروف بالحجارية براء مهملة بأسفل مكة بالقرب من باب الماجن. ومن ذلك: مساجد خارج مكة من أعلاها، منها: المسجد الذي يقال له مسجد الإجابة على يسار الذاهب إلى منى في شعب بقرب ثنية أذاخر، وهو مسجد مشهور يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وقد ذكره الأزرقي، وذكر شيا من خبر الشعب الذي هو به، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم، شعب آل قنفذ، هو الشعب الذي فيه دار آل خلف بن عبد ربه بن السائب، مستقبل قصر محمد بن سليمان، وكان يسمى شعب اللام1. وهو قنفذ بن زهير من بني أسد بن خزيمة، وهو الشعب الذي على يسارك وأنت ذاهب إلى منى من مكة فوق حائط خرمان، وفيه اليوم دار الخلعيين من بني مخزوم، وفي هذا الشعب مسجد مبني يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وينزله اليوم في الموسم الحضارمة2 ... انتهى. وهذا المسجد الآن متخرب جدا، وجدرانه ساقطة إلا القبلي، وفيه حجر مكتوب فيه إنه مسجد الإجابة، وأن عبد الله بن محمد، عمره في سنة عشرين وسبعمائة3، وما عرفت عبد الله بن محمد المشار إليه. وطول هذا المسجد من الجدار الذي فيه محرابه إلى الجدار المقابل له: ثمانية عشر ذراعا بذراع الحديد، وعرضه كذلك، وحرر ذلك بحضوري، وكثير من الناس يقصدون زيارة هذا المسجد في بكرة أول سبت من شهر ذي القعدة الحرام كل سنة، وما عرفت سبب مثابرتهم على زيارته في هذا اليوم، والله أعلم. ومن ذلك: المسجد الذي يقال له مسجد البيعة، وهي البيعة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الأنصار بحضرة عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه على ما ذكر أهل الأخبار. وهذا المسجد بقرب العقبة التي هي حد منى من جهة مكة، وهو وراء العقبة بيسير إلى مكة، في شعب على يسار الداخل إلى منى، وفيه حجران مكتوب في أحدهما: أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببنيان هذا المسجد، مسجد البيعة التي كانت أول بيعة بايع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بعقد عقده له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

_ 1 هكذا في الأصل، وفي أخبار مكة للأزرقي 2/ 286: "مسجد اللئام". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 286، 287. 3 إتحاف الورى 3/ 127.

وفي الآخر: تعريفه بمسجد البيعة، وأنه بني في سنة أربع وأربعين ومائة1 وأمير المؤمنين المشار إليه هو أبو جعفر المنصور العباسي. وعمره أيضا المستنصر العباسي على ما وجدته مكتوبا في حجر ملقى حول هذا المسجد لتخربه، وفيه: أن ذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، وقد ذكره الأزرقي2، ولم يذكر شيئا من خبر عمارته في زمن المنصور. وصفة هذا المسجد: رواقان كل منهما مسقوف بثلاث قبب على أربعة عقود، وخلفها رحبة، وله بابان في الجهة الشامية، وبابان في الجهة اليمانية، وطول الرواق المتقدم من الجهة الشامية إلى الجهة اليمانية، ثلاثة وعشرون ذراعا، وعرضه أربعة عشر ذراعا، والرواق الثاني نحو ذلك، وطول الرحبة من جدارها الشامي إلى اليماني: أربعة وعشرون ذراعا ونصف ذراع، وعرضها: ثلاثة وثلاثون ذراعا وسدس، الجميع بذراع الحديد، وأبواب كل رواق التي يدخل منها إلى الآخر ثلاثة، وأكثر هذا المسجد الآن متخرب، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرعه بحضوري. ومن ذلك مسجد بمنى عند الدار المعروفة بدار المنحر، بين الجمرة الأولى والوسطى على يمين الصاعد إلى عرفة، وهذا المسجد ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقال، لأن فيه حجرًا مكتوبا فيه: هذا مسجد سيد الأولين والآخرين صلى فيه الضحى ونحر هديه، وفيه: أن الملك قطب الدين أبا بكر بن الملك المنصور عمر بن علي ابن رسول صاحب اليمن، أمر بتجديد عمارته بعد زيارته في سنة خمس وأربعين وستمائة3. وهذا المسجد في قبلته إيوانان، وخلفه رحبة، ولا حائط له من جهة المشرق، وله أربعة أبواب: باب في الجهة الشامية، وباب في الجهة اليمانية، وبابان في حائطه القبلي: واحد عن يمين محرابه، وآخر عن يسراه. وطول هذا المسجد من المحراب إلى مؤخره: ثمانية أذرع، وعرضه سبعة أذرع، الجميع بذراع الحديد، وكان تحرير ذلك بحضوري. ومن ذلك: المسجد الذي يقال له: مسجد الكبش بمنى على يسار الذاهب إلى عرفة، وهو مشهور بمنى. والكبش المشار إليه هو الذي فدى الله تعالى به نبيه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقيل: إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام حين أراد الخليل عليه السلام ذبحه.

_ اأخبار مكة للأزرقي 2/ 206، والجامع اللطيف "ص: 333". 2 أخبار مكة للأزرقي2/ 201. 3 إتحاف الورى 3/ 66.

وفي تاريخ الأزرقي زيادة في خبر هذا المكان1، وفيه القولان في تعيين الذبيح هل هو إسحاق أو إسماعيل، قال المحب: والأكثر على أنه إسحاق2 ... انتهى. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن هذا الكبش نحر في غير هذا الموضع، لأنه روى حديثا بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة ذبح إبراهيم لإسماعيل، وفيه فنزل عليه كبش من ثبير فاضطره إلى الجبل، ثم جاء به حتى نحره بين الجمرتين. انتهى. وسيأتي هذا الخبر في الباب السادس والعشرين من هذا الكتاب. وذكر المحب الطبري ما يؤيد ذلك، وتبين هذا المنحر الذي بين الجمرتين، لأنه نقل عن أبي ذر الهروي خبرا لفظه: وعن ابن عباس قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في منحر إبراهيم الذي نحر فيه الكبش، فاتخذوه منحرا. وهو المنحر الذي ينحر فيه الخلفاء اليوم يقال هذا منحر، وكل منى منحر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما تقول اليهود: إن المفدى إسحاق، وكذبت، إنما هو إسماعيل. أخرجه أبو داود. ثم قال: وعنه رضي الله عنه قال: الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسماعيل أو إسحاق ... انتهى باختصار. ثم قال: أخرجه أبو سعيد في "شرف النبوة" ثم قال: وهذان الحديثان بينهما تضاد، لأن حديث أبي سعيد يتضمن أن مكان ذبح إبراهيم في أصل ثبير، وحديث أبي ذر يتضمن أنه منحر الخلفاء اليوم، وذلك في سفح الجبل المقابل له ... انتهى. وهذا المنحر هو الدار المعروفة بدار المنحر بمنى بين الجمرتين الأولى والوسطى بقرب المسجد الذي سبق ذكره قبل هذا المسجد، وهي مشهورة بذلك عند الناس. وعندها ينحر هدي صاحب اليمن. والمسجد المعروف بمسجد الكبش ثلاثة أروقة مكشوفة لا سقف لها، وفي كل من المقدمين عقدان، وله أبواب خمسة: اثنان في جداره القبلي عن يمين المحراب ويساره، واثنان في مؤخرة حائطه الشرقي والغربي، وبابه الخامس خوخة في جداره المؤخر، وفي الرواق الأوسط بابان يدخل منهما إلى الرواق المقدم، وفي مؤخره عند الباب الذي يلي المشرق حفرة صغيرة فيها حجر مبني في الجدار فيه أثر يقال إنه أثر الكبش الذي فدي به الذبيح ابن إبراهيم عليه السلام. وطول هذا المسجد من مؤخره إلى جداره القبلي: تسعة عشر ذراعا وربع ذراع وعرضه: ثلاثة عشر ذراعا وسدس، الجميع بذراع الحديد، وأكثر هذا المسجد الآن

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 175. 2 القرى "ص: 450".

متخرب. وكان كل من رواقيه المقدمين مسقوفا بثلاث قبب فسقط جميع ذلك. وكان تحرير ذرعه بحضوري. ومن ذلك: مسجد الخيف بمنى، وهو مسجد عظيم الفضل، لأحاديث وأخبار وردت في ذلك، منها: ما رويناه في "المعجم الأوسط" للطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الخيف، والمسجد الحرام، ومسجدي هذا" وهذا الحديث إسناده ضعيف، وإنما أوردناه لهذه الفائدة الغريبة. ومنها: ما رويناه في "معجم الطبراني الكبير" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا منهم موسى" 1. رويناه في تاريخ الأزرقي. ورويناه عن مجاهد أنه: "صلى في مسجد الخيف خمسة وسبعون نبيا"2. ورويناه في مسند البزار من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًّا" 3 وإسناد رجاله ثقات. وذكر الفاكهي فيما رواه بسنده إلى عروة بن الزبير: أن آدم عليه السلام دفن بمسجد الخيف بعد أن صلى عليه جبريل عليه السلام بباب الكعبة4. ذكر ما جاء في استحباب زيارة مسجد الخيف كل سبت: وبالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن عبد المجيد عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: لو كنت من أهل مكة لأتيت إلى مسجد الخيف كل سبت5. وقال الجنيدي: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا أبو قزة، قال: ذكر ابن جريج، عن عطاء، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: لو كنت امرأ من أهل مكة ما أتى علي سبت حتى آتى مسجد الخيف فأصلي فيه ركعتين. ذكر تعيين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الخيف: وبه إلى ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، أن خالد بن مطرس أخبره أنه رأي أشياخا من الأنصار يتحرون مصلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام المنارة قريبا منها.

_ 1 المعجم الكبير للطبراني "12283". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 174. 3 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 298، وعزاه للبزار، وقال: رجاله ثقات، "وانظر: كشف الأستار 2/ 48- 49" وأخبار مكة للفاكهي 5/ 266". 4 أخبار مكة للفاكهي 4/ 268. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 174.

وبه إلى الأزرقي قال جدي: الأحجار التي بين يدي المنارة هي موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يزل الناس وأهل العلم يصلون هنالك1. ذكر صفة مسجد الخيف الآن وذرعه بذراع الحديد: ذكر الأزرقي رحمه الله ذرع مسجد الخيف بذراع اليد وصفته في عصره2، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب، مع صفته الآن، وذرعه بذراع الحديد المتقدم ذكره، وشيء من خبر عمارته بعد الأزرقي رحمه الله واقتصرنا هنا على ذكر صفته الآن، وذرعه بذراع الحديد، لكونه أبلغ في تعريفه مع ما علمناه من خبر عمارته. ذكر صفته الآن: هو مسجد كبير مربع، في قبلته أربع محاريب غير محرابه الكبير، ثلاثة عن يساره وواحد عن يمينه، ومنبره درج عالية، وفي مقدمه أربعة أروقة مسقوفة بآجر معقود بالنورة كالأطباق، وله رواق آخر لاصق بجداره الذي يلي الطريق العظمى، غير مسقوف، وبابه الأعظم في نحو وسط هذا الجدار، وله باب آخر كبير في جداره المؤخر الذي يلي عرفات، وخوختان في جداره الذي يلي الجبل، وفي وسطه منارة مربعة بين يديها موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم محوط بحجارة فيها محراب صغير، وفي طول المسجد فيما بين بابه الكبير والمنارة سقاية كبيرة معقودة في الأرض على أعمدة لها خمسة أبواب، تسقي الناس منها، وعن يمين القبلة من خارج الأروقة درجة لاصقة بالرواق الذي يلي الطريق، يصعد منه إلى أعلى سقف الأروقة المذكورة، وجدران المسجد عالية لها شرافات، وعلى باب المسجد الكبير نصب عال قد سقط أكثره. وكذلك سقط جانب من المسجد مما بين بابه الكبير والقبلة. وقبة كبيرة كانت على المحراب سقطت أيضا مع جانب من وسط حائطه القبلي. ذكر ذرعه: طوله من وسط حائطه القبلي إلى مؤخره: مائتا ذراع وعشرة أذرع، وعرضه من الجدار الذي فيه بابه الكبير إلى الجدار المقابل له الذي يلي الجبل: مائة ذراع وسبعة وتسعون ذراعا ونصف ذراع. وذرع ارتفاع جداره القبلي من داخله من الأرض: أحد عشر ذراعا، ومن خارجه: سبعة أذرع ونصف، وارتفاع جداره الذي يلي الجبل من داخله: ثمانية أذرع إلا ثلث ومن خارجه: أربعة أذرع، وارتفاع جداره الذي يلي عرفة من داخله: سبعة أذرع، ومن خارجه، خمسة أذرع إلا ثلث، وارتفاع جداره الذي يلي الطريق من داخل المسجد: ستة أذرع وربع ذراع. ومن خارجه: تسعة أذرع إلا ثلث،

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 174. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 181.

وارتفاع باب المسجد الكبير في السماء: سبعة أذرع وسدس، وعرضه: أربعة أذرع إلا سدس، وارتفاع عتبته من خارج: نصف ذراع، وارتفاع بابه الذي في مؤخره في السماء: أربعة أذرع وربع، وعرضه: ذراعان: ذكر ذرع أروقته: ذرع الأروقة التي في مقدمه من جداره القبلي إلى مؤخرها الذي هو طرف الصحن: أحد وثلاثون ذراعا، وذرع كل رواق منها طولا من الجدار الذي يلي الطريق إلى الجدار الذي يلي الجبل: خمسة وثمانون ذراعا وثلثا ذراع. وعرضه: سبعة أذرع ونصف إلا الرواق الذي يلي الصحن فإنه سبعة فقط، وأما رواقه الملاصق لجداره الذي يلي الطريق: فطوله من جدار القبلة إلى باب المسجد الكبير: سبعون ذراعا وسدس ذراع. وعرضه: سبعة أذرع ونصف، وطول باقيه من باب المسجد الكبير إلى مؤخره: مائة وأربعون ذراعا وسدس ذراع، وعرضه سبعة أذرع وربع، وفي كل من جانبي هذا الرواق من الأبواب النافذة إلى صحن المسجد: ثلاثة أبواب: اثنان متلاصقان، وآخر مفرد يلي باب المسجد الكبير. ذكر عدد أساطينه وصفتها وذرع ما بينها: أما عددها: فهو أربع وثمانون أسطوانة في أربع صفوف، الأربعة المقدمة منه، منها في كل صف إحدى وعشرون أسطوانة وهي حجارة مجصصة، وذرع ما بين كل أسطوانتين من كل صف: خمسة أذرع وثلث، وبعض ذلك يزيد قليلا. ذكر عدد عقوده: عدد العقود التي في الأروقة المقدمة: مائة وثمانية وستون عقدا، منها في كل رواق: اثنان وعشرون في عرضه، وفي كل صف: اثنان وعشرون في طوله. ذكر ذرع موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام المنارة: ذرعه طولا من جدار المنار القبلي إلى أقصى محرابه: ثلاثة وعشرون ذراعا ونصف ذراع وثمن ذراع، وعرضه عن يمين المصلى ويساره: أربعة وعشرون ذراعا وربع ذراعا، وسعة فتحة محرابه: ثمانية أذرع وثمن، وطوله إلى جهة القبلة: ذراعان ونصف، وما بين هذا المحراب وطرف صحن المسجد مما يلي القبلة: خمسة وثمانون ذراعا. ذكر عدد شرفات المسجد من داخله وخارجه: أما التالي في خارجه ففي حائط مؤخره منها: ستة وسبعون شرافة، وفي حائطه الذي يلي الطريق العظمى من مؤخر المسجد إلى بابه الكبير: اثنتان وسبعون شرافة، منها ثلاثة مهدومة، وتمام ما على هذا الحائط من الشرفات أكثر من عشرين، لأنه سقط كثير منها مما يلي الباب.

وعلى الحائط الذي يلي الجبل ستة وتسعون، منها ست مهدومة. وأما الشرفات التي تلي باطن المسجد: فعلى الرواق المؤخر من الأربعة الذي يلي صحن المسجد: مائة وثلاث شرفات، منها اثنتان وسبعون من مؤخر المسجد إلى بابه الأعظم، وثلاثة وثلاثون تمام ذلك إلى جداره القبلي. ذكر ذرع المنارة وصفتها وعدد درجها وما بين المنارة وبين نواحي المسجد: طولها إلى المسجد: أحد وعشرون ذراعا وثمن ذراع، وذرع تربيعها من جهة القبلة: ستة أذرع إلا قيراط. ومن مؤخرها كذلك، ومما يلي الجبل إلى بابها: ستة أذرع ونصف إلا قيراطين. والمقابل له الذي يلي باب المسجد الأعظم كذلك، وفيها من الطاقات: إحدى عشرة طاقة في كل جهة ثلاث خلا الجهة التي تلي مؤخر المسجد فاثنتان فقط. وعدد درجها: أربعة وستون، وبينها وبين جدار المسجد الذي يلي الجبل: ثلاثة وثمانون ذراعا وربع ذراع، وبينها وبين الرواق الملاصق لجدار المسجد الذي يلي الطريق: ثمانية وثمانون ذراعا وربع ذراع، وبينها وبين جدار المسجد المؤخر: سبعة وتسعون ذراعا ونصف. وقد تقدم ما بينها وبين طرف صحن المسجد مما يلي القبلة، وما بين ذلك والجدار القبلي. ذكر ذرع السقاية المذكورة: طولها: تسع وثلاثون ذراعا وربع ذراع، وبينها وبين محاذاة المنارة: ثلاثة وخمسون ذراعا إلا ثمن ذراع، وبينها وبين عتبة باب المسجد الكبير: اثنان وأربعون ذراعا وسدس ذراع. وكان تحرير ما ذكرناه كله من أمر هذا المسجد بحضوري. عمارة المسجد بعد زمن الأزرقي: وأما خبر عمارة هذا المكان بعد الأزرقي فقد خفي علينا كثير من ذلك، لعدم تدوين من قبلنا له، فمن ذلك بعد الأزرقي، فيما أحسب عمارة في زمن الخليفة المعتمد أحمد بن المتوكل العباسي في سنة ست وخمسين ومائتين1. ومن ذلك بعد الأزرقي يقينا أن الوزير الجواد الأصفهاني عمره، وأن أم الخليفة الناصر لدين الله العباسي عمرته واسمها مكتوب على بابه الكبير، وأن الملك المظفر صاحب اليمن عمر ما تشعث منه في سنة أربع وسبعين وستمائة2. وفي هذه السنة أمر

_ 1 إتحاف الورى 2/ 334، ولم نعثر على هذا الخبر في غيره من المراجع التي تيسرت لنا. 2 العقد الثمين 7/ 489، وإتحاف الورى 3/ 104.

بإنشاء المنارة التي هي الآن فيه، واسمه مكتوب في لوح فيها إلى الآن. وأن أحمد بن عمر المعروف بابن المرجاني التاجي الدمشقي عمره لما كان مجاورا بمكة في سنة عشرين وسبعمائة بما زيد على عشرين ألف درهم، وأصلح فيه بعد ذلك مواضع متشعثة في عصرنا وفيما قبله، وقد كثر تشعثه في عصرنا، وزال كثير من ذلك بعمارته في سنة عشرين وثمانمائة1 والذي تطوع بمصروف هذه العمارة ما عرفته، والمتولي لمصروفها الشيخ علي البغداني شيخ رباط موالينا جهة فرحان بمكة، ولكن ضيق بابه الكبير الذي يلي الطريق العظمى إلى عرفة ومكة، ولو لم يضيقه كان أحسن، للحاجة إلى سعته في أيام الحج2. ومن ذلك: المسجد الذي اعتمرت منه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد حجها في حجة الوداع وهذا المسجد بالتنعيم3. واختلف فيه فقيل: هو المسجد الذي يقال له: المسجد الهليلجة، بشجرة هليلجة كانت فيه وسقطت من قريب، وهو المتعارف عند أهل مكة على ما ذكر سليمان بن خليل، وفيه حجارة مكتوب فيها ما يؤيد ذلك، والله أعلم. وقيل: هو المسجد الذي بقربه بئر، وهو بين هذا المسجد وبين المسجد الذي يقال له مسجد علي، بطريق وادي مر الظهران، وفي هذا أيضا حجارة مكتوب فيها ما يشهد لذلك. والخلاف في ذلك من قديم ذكره الفاكهي وغيره. ورجح المحب الطبري أنه المسجد الذي بقربه البئر، وهو الذي يقتضيه كلام إسحاق الخزاعي وغيره، والله أعلم. وعمره على ما ذكر إسحاق الخزاعي: عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى العباسي أمير مكة ثم العجوز والدة المقتدر العباسي على ما ذكر الخزاعي ثم زوج الملك المنصور صاحب اليمن، وتاريخ عمارتها في سنة خمس وأربعين وستمائة أو في سنة أربع وأربعين وستمائة4 على ما ذكر المحب الطبري في تاريخ عمارتها5.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 172 والعقد الثمين 3/ 113، والبداية والنهاية 14/ 96. 2 وعمره الملك الأشرف عام 874هـ، والسلطان محمد قزلار الأغا عام 1072هـ، وسليمان أغا عام 1902م من قبل الخليفة العثماني محمد رشاد، وجددت عمارته في عهد الملك عبد العزيز آل سعود. 3 ويعرف هذا المسجد باسم مسجد التنعيم، والتنعيم هو حد الحرم من جهة المدينة. 4 في إتحاف الورى أن ذلك تم في آخر هذه السنة وأول السنة التي بعدها "إتحاف الورى 3م 64، ودرر الفرائد ص: 704". 5 القرى "ص: 665.

وممن عمر مسجد الهليلجة: أبو النصر الأستراباذي عنه وعن أخيه في سنة ست وستين وأربعمائة1. ثم الملك المسعود صاحب اليمن ومكة في سنة تسع عشرة وستمائة2، وتاريخ عمارته وعمارة أبي النصر في حجرين مكتوب فيهما ذلك بالمسجد المذكور3. وقد حررنا ذرع هذين المسجدين، فكان طول المسجد المعروف بمسجد الهليلجة من وسط المحراب إلى الجدار الذي في آخر رحبته: خمسة وعشرين ذراعا، وطوله خارجا عن الرحبة: أحد عشر ذراعا، وعرضه: ثلاثة وعشرون ذراعا وربع ذراع، وبين هذا المسجد وبين أول الأعلام التي في الأرض لا التي في الجبل بالتنعيم: سبعمائة ذراع وأربعة عشر ذراعا. كل ذلك حرر بذراع الحديد. وكان طول المسجد الآخر المنسوب إلى عائشة رضي الله عنها الذي يلي مسجد الهليلجة المشار إليه من المحراب إلى جدار الرحبة المقابل له أربعة وعشرين ذراعا وثلثي ذراع: وعرض الموضع المعبر منه: ثلاثة وعشرون ذراعا وثلاثة أرباع الذراع بالذراع الحديد أيضا. وذرع ما بين المسجدين المشار إليهما: ثمانمائة ذراع، واثنان وسبعون ذراعا بالذراع المذكور. ومنها: مسجد يقال له: مسجد الفتح بالقرب من الجموم من وادي مر الطهران، يقال: إنه من المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ذكره شيخنا القاضي زين الدين بن حسين المراغي المدني في "تاريخه للمدينة المنورة" في المساجد التي نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها بين مكة والمدينة. ونص كلامه: ومسجد في المسيل الذي بوادي مر الظهران حين يهبط من الصفراوات عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، ومر الظهران وهو بطن مر المعروف الآن بمسجد الفتح ... انتهى. وممن عمر هذا المسجد على ما بلغني الشريف أبو نمى صاحب مكة وبلغني أنه سبق عمه الشريف إدريس بن قتادة إلى عمارته لما بلغه أن عمه يريد أن يعمره.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 475، والعقد الثمين 3/ 261، والنجوم الزاهرة 5/ 95. 2 العقد الثمين 6/ 340، والنجوم الزاهرة 7/ 72. 3 وعمره السلطان العثماني محمود عام 1011هـ ومحمود بك والي جدة عام 1012هـ، وأصلح الوزير سنان بك بئرا بجواره وذلك عام 978هـ، وجددت عمارة المسجد في عهد الملك عبد العزيز آل سعود.

وممن عمره بعد ذلك: الشريف راجح الحسني، وبيضه في عصرنا من نحو ثمان سنين صاحب مكة الشريف حسن بن عجلان، بياضه الذي هو به الآن، ورفع أبوابه لصونه عن الغنم وشبهها، أثابهم الله تعالى. فهذه الأماكن المباركة بمكة وحرمها وقربه المعروفة الآن بالمساجد. وقد ذكر الأزرقي مساجد أُخَر لا يعرف موضعها الآن، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب. ذكر المواضع المباركة بمكة المشرفة المعروفة بالمواليد: هذه المواضع هي مساجد وإنما هي معروفة عند الناس بالمواليد، ولذلك أفردناها عن المساجد بالذكر. فمنها: الموضع الذي يقال له: مولد النبي صلى الله عليه وسلم بالموضع الذي يقال له سوق الليل، وهو مشهور عند أهل مكة، وذكر الأزرقي أن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه أخذه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يزل بيده ويد ولده حتى باعه بعضهم من محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف الثقفي، فأدخله في داره التي يقال لها: دار البيضاء: ولم يزل هذا البيت في هذه الدار حتى حجت الخيزران أم الخليفتين موسى، وهارون فجعلته مسجدا يصلى فيه، وأخرجته من الدار، وشرعته إلى الزقاق الذي في أصل تلك الدار1 ... انتهى. وذكر السهيلي رحمه الله ما يستغرب في تعيين الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وفيمن بناه، لأنه قال: وولد في الشعب، وقيل: بالدار التي عند الصفا، وكانت بيد محمد بن يوسف أخي الحجاج. ثم بنتها زبيدة مسجدا حين حجت2 ... انتهى. وذكر الحافظ علاء الدين مغلطاي في "سيرته" ما يستغرب أيضا في تعيين الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قال فيما أنبئت به عنه: ولد بمكة، ثم قال: في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف. ويقال: بالشعب. ويقال: بالردم، ويقال: بعسفان ... انتهى. والمستغرب من ذلك ما قيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد بالردم، وقيل: بعسفان. والقول بأنه ولد بالردم رواه أبو حفص بن شاهين في "الناسخ والمنسوخ"، لأنه قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن السكن، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا يعلى بن الأشدق، عن عبد الله بن جراد، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالردم، وختن بالردم، واستبعث من الردم، وحمل من الردم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 198، القرى "ص: 664"، أخبار مكة للفاكهي "4م 50. 2 الروض الأنف "1/ 184".

قال البكري: ردم بني جمح بمكة، كانت فيه حرب بينهم وبين بني محارب بن فهر، فقتلت بنو محارب من بني جمح أشد القتل، فسمي ذلك الموضع بما ردم عليه من القتلى ... انتهى. ذكر شيء مما ورد في بركة الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم: روى الأزرقي بسنده عن بعض من كان يسكن هذا الموضع قبل أن تخرجه الخيزران من الدار البيضاء أنهم قالوا: لا والله ما أصابنا فيه جائحة ولا حاجة، فأخرجنا منه فاشتد الزمان علينا1 ... انتهى. ذكر صفة هذا المكان: أما صفته التي أدركناه عليها، فإنه بيت مربع وفيه أسطوانة عليها عقدان، وفي ركنه الغربي مما يلي الجنوب زاوية كبيرة قبالة بابه الذي يلي الجبل، وله باب آخر في جانبه الشرقي أيضا، وفيه عشرة شبابيك، أربعة في حائطه الشرقي، وهو الذي فيه باباه المتقدم ذكرهما، وفي حائطه الشمالي ثلاثة، وفي الغربي واحد. وفي الزاوية اثنان، واحد في جانبها الشمالي، وواحد في جانبها اليماني، وفيه محراب. وبقرب المحراب حفرة عليها درابزين من خشب، وذرع تربيع الحفرة من كل ناحية: ذراع وسدس، الجميع بذراع الحديد المتقدم ذكره وفي وسط الحفرة رخامة خضراء، وكانت هذه الرخامة مطوقة بالفضة على ما ذكره ابن جبير، وذكر أن سعتها مع الفضة ثلثا شبر2 ... انتهى. وهذا الموضع جعل علامة للموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المكان، وذرع هذا المكان طولا: أربعة وعشرون ذراعا وربع ذراع. وذلك من الجدار الشمالي إلى الجدار المقابل له، وهو الجنوبي الذي يلي الجبل، وذرعه عرضا: أحد عشر ذراعا وثمن ذراع، وذلك من الشرقي الذي فيه بابه إلى جداره الغربي المقابل له، وطول الزاوية المشار إليها: ثلاثة عشر ذراعا ونصف ذراع، وعرضها: ثمانية ونصف، الجميع بذراع الحديد. وكان تحرير ذلك بحضوري. ولم يذكر الأزرقي صفة هذا المكان ولا ذرعه، وقد خفي علينا كثير من خبر عمارته، والذي علمته من ذلك: أن الناصر العباسي عمره في سنة ست وسبعين وخمسمائة3. ثم

_ أخبار مكة للأزرقي 2/ 199. 2 كذا في الأصل، وعند ابن جبير في "رحلته" "ص: 141": "فتكون سعتها مع الفضلة المتصلة بها شبرا". 3 إتحاف الورى 2/ 544.

الملك المظفر صاحب اليمن في سنة ستة وستين وستمائة1، ثم حفيده المجاهد في سنة أربعين وسبعمائة2، وفي سنة ثمان وخمسين وسبعمائة من قبل الأمير شيخون أحد كبار الدولة بمصر، وفي دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر بإشارة مدبر دولته يلبغا الخاصكي3 سنة ست وستين وسبعمائة4، وفي آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في التي بعدها، من المال الذي أنفذه الملك الظاهر برقوق صاحب مصر لعمارة المسجد الحرام وغيره بمكة. وكانت عمارة هذا المولد بعد موته5. ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، وهذا المكان من دار أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في الزقاق المعروف بزقاق الحجر بمكة المشرفة، ويقال: للدار كلها مولد فاطمة رضي الله عنها. والموضع الذي يقال إن فاطمة رضي الله عنها ولدت فيه مشهور في هذه الدار، وطوله: خمسة أذرع إلا ثمنا، وعرضه من وسط جداره: ثلاثة أذرع وربع وثمن، الجميع بذراع الحديد. وفي هذا الموضع موضع صغير على صفة البركة مدورة، وسعة فمها طولا من داخل البناء المحوط عليه: ذراع، وعرضها: كذلك، وفي وسطها حجر أسود يقال إنه مسقط رأسها، ولا ريب في كون فاطمة رضي الله عنها ولدت في هذه الدار، وكان تحرير ما ذكرنا من ذرعه بحضوري. ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قريبا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم من أعلاه مما يلي الجبل، وهو مشهور عند أهل مكة بذلك لا اختلاف بينهم فيه، ولم يذكره الأزرقي، وذكره ابن جبير6، وعلى بابه مكتوب: هذا مولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وفيه ربي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بعمله سيدنا ومولانا الإمام أبو العباس أحمد بن الناصر لدين الله أمير المؤمنين في سنة ثمان وستمائة7.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 92، ودرر الفرائد "ص: 281". 2 في العقد الثمين 1/ 318، 6/ 158، أن ذلك كان سنة 739هـ، وفي العقود اللؤلؤية 2/ 68 أن ذلك كان سنة 740هـ، كما هو مذكور. 3 يلبغا هو: "يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري" الأمير الكبير المشهور، قتل سنة 768هـ، قال عنه ابن حجر: كانت ليلبغا صدقات كثيرة على طلبة العلم، وقد كان معروفا في بلاد الحجاز "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 4/ 438- 440 رقم 1218". 4 العقد الثمين 5/ 10، 11، وإتحاف الورى 3/ 305. 5 إتحاف الورى 3/ 416. 6 رحلة ابن جبير "ص: 141". 7 إتحاف الورى 3/ 13.

ذكر صفة هذا المكان وذرعه: هذا المكان رواقان بينهما عقدان كالبابين، طول الرواق المقدم من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له الذي يلي الجبل: أربعة وعشرون ذراعا ونصف وثمن ذراع، وطول الرواق المؤخر: خمسة وعشرون ذراعا ونصف، وعرض الرواقين جميعا: خمسة عشر ذراعا وثلث ذراع، وفي الرواق المقدم ثلاثة محاريب، وفي طرف الرواق المؤخر درجة يصعد منه إلى أعلى هذا الموضع، وهي الآن متخربة، وفي طرف هذا الرواق مما يلي الشرق خوخة صغيرة يدخل منها إلى هذا المكان، وفي طرف الرواق المقدم باب هذا المكان. وفي هذا المكان من العقود سبعة عقود، غير العقدين اللذين بين الرواقين، منها في الرواق المقدم ثلاثة، وفي المؤخر أربعة، وفي طرف الرواق المقدم مما يلي الجبل حفرة صغيرة كالبركة، يقال إنها الموضع الذي ولد فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وطولها: نصف ذراع، وكذلك عرضها، والذراع المشار إليه هو ذراع الحديد، وكان تحرير ذرع ذلك بحضوري. ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه بأسفل مكة، بقرب باب الماجن، وعنده عين مكة المعروفة ببازان1، ولم أر شيئا يدل لصحة ذلك، بل في صحته نظر، لأن هذا الموضع ليس محلا لبني هاشم، والله أعلم. وطول هذا الموضع: خمسة عشر ذراعا وثلث ذراع، وعرضه: سبعة أذرع وربع ذراع وثمن ذراع، وذلك من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له وهو القبلي، وبابه إلى جهة باب الماجن، وهذا المكان الآن خراب جدا، ولا سقف له، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرعه بحضوري، والذراع المحرر به هو ذراع الحديد. ومنها: الموضع الذي يقال له مولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجبل الذي يسميه أهل مكة النوبي2 وهو جبل مشهور بأسفل مكة، ولا أعلم في ذلك شيئا يستأنس به، إلا أن جدي لأمي القاضي أبا الفضل النويري كان يزور هذا الموضع في جمع من أصحابه في ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول من كل سنة في الغالب، والله أعلم بحقيقة ذلك.

_ 1 ما زال هذا المكان معروفا إلى الآن بمسجد سيدنا حمزة، وهو بقرب بازان المسفلة المسمى ببازان السبعة آبار. 2 اسم الجبل اليوم: "جبل عمران".

ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد جعفر الصادق بالدار المعروفة بدار أبي سعيد بقرب دار العجلة، لأن على بابه حجرا مكتوب فيه: هذا مولد جعفر الصادق رضي الله عنه، ودخله النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أن بعض المجاورين أمر بعمارته في صفر سنة ثلاث وعشرين وستمائة1 ... انتهى. ويقال لهذا الموضع مولد جعفر بن أبي طالب المعروف بالطيار، والله أعلم بحقيقة ذلك. وطول هذا الموضع من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له وهو القبلي: ستة عشر ذراعا وثلث ذراع، وعرضه: سبعة أذرع إلا ربع ذراع، الجميع بذراع الحديد وكان تحرير ذلك بحضوري. ذكر الدور المباركة بمكة المشرفة: بمكة دور مباركة معروفة عند الناس وغالبها مساجد، ولكنها مشهورة عند الناس بالدور، ولذلك أفردناها بالذكر عن المساجد. منها: دار خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها بالزقاق المعروف بزقاق الحجر بمكة، ويقال له أيضا: زقاق العطارين على ما ذكره الأزرقي2، وتعرف هذه الدار بمولد فاطمة رضي الله عنها، لكونها ولدت فيها هي وإخوتها أولاد خديجة رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكره الأزرقي، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بخديجة فيها، وأنها توفيت فيها، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ساكنا فيها حتى هاجر إلى المدينة، فأخذها عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم اشتراها منه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهو خليفة، فجعلها مسجدا يصلى فيه وبناه ... انتهى باختصار. وذكر في موضع آخر أن معتب بن أبي لهب أخذ بيت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فباعه من معاوية رضي الله عنه بمائة ألف درهم3 ... انتهى. وهذا يخالف ما ذكره من أن عقيلا رضي الله عنه أخذ بيت خديجة، والله أعلم بالصواب. وغالب هذه الدار الآن على صفة المسجد، لأن فيها رواقا فيه سبعة عقود على ثمانية أساطين، في وسط جداره القبلي ثلاثة محاريب، وفيه ست وعشرون سلسلة في صفين، وأمامه رواق فيه أربعة عقود على خمس أسطوانات، وبين هذين الرواقين صحن، والرواق الثاني أخصر من الرواق المتقدم، لأن قربه بعض المواضع التي يقصدها الناس بالزيارة في هذه الدار، وهي ثلاثة مواضع: الأول: الموضع الذي يقال له مولد فاطمة رضي الله عنها.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 41. 2 أخار مكة للأزرقي 2/ 78. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 246.

والثاني: الموضع الذي يقال له قبة الوحى، وهو ملاصق لمولد فاطمة. والثالث: الموضع الذي يقال له المختبأ، وهو ملاصق لقبة الوحي، زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختبئ فيه من الحجارة التي يرميه بها المشركون1، والله أعلم بحقيقة ذلك. وذرع الموضع الذي يقال له "المختبأ": أربعة أذرع وثلث ذراع، وذلك من الجدار الذي فيه المحراب إلى الجدار المقابل له، وهو طرف جدار قبة الوحي الغربي، هذا ذرعه طولا. وذرعه عرضا: ثلاثة أذرع وثلثا ذراع، وذلك من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له، وذرع الموضع الذي يقال له قبة الوحي من الجدار الذي فيه بابه إلى الجدار المقابل له: ثمانية أذرع وثلثا ذراع، هذا ذرعه طولا، وأما ذرعه عرضا: فثمانية أذرع ونصف، بذراع الحديد المتقدم ذكره. وقد تقدم ذرع الموضع الذي يقال له مولد فاطمة رضي الله عنها من هذه الدار وذرع الرواق المقدم من هذه الدار من وسط جداريه على الاستواء: ثمانية وثلاثون ذراعا هذا ذرعه طولا، وذرعه عرضا: سبعة أذرع وربع، وذرع ما بين كل أسطوانتين منه: خمسة أذرع وربع، وذرع الرواق المؤخر من هذه الدار من جدار قبة الوحي إلى الجدار المقابل له: ثلاثة وعشرون ذراعا، هذا ذرعه طولا، وذرعه عرضا: عشرة أذرع، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرع هذه المواضع بذراع الحديد، وحرر ذلك بحضوري. وعلى باب هذه الدار مكتوب أنها عمرت في خلافة الناصر العباسي، وفي زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر. وفي الرواق المقدم من هذه الدار أن المقتدي العباسي أمر بعمله. وعمر بعض هذه الدار في أول دولة الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق من المال الذي أنفذه أبوه لعمارة المسجد الحرام وغيره، ولم يعمر ذلك إلا بعد موته في آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في التي بعدها2. ومما عُمِّر في هذا التاريخ من هذه الدار: الموضع المعروف بقبة الوحي بعد سقوطه، وبلغني أن القبة الساقطة كانت من عمارة الملك المظفر صاحب اليمن، وإلى جانب هذه الدار حوش كبير على بابه حجر مكتوب فيه: إن هذا الموضع مربد مولد فاطمة رضي الله عنها وأن الناصر العباسي عمره، ووقفه على مصالح دار خديجة التي إلى جانبه ... انتهى بالمعنى.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 142". 2 إتحاف الورى 3/ 416.

وحكى بعض الناس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يكثر التردد إلى هذه المواضع وذكر المحب الطبري أن دار خديجة أفضل الأماكن بمكة بعد المسجد الحرام، ولا شك في ذلك1 والله أعلم. ومنها على ما يقال: دار لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بهذا الزقاق، وهي مشهورة فيه، وعلى بابها حجر مكتوب فيه: هذه الدار دار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ورفيقه في الأسفار إلى أن قال الكاتب: أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أمر بعمارته طلبا لثواب الله تعالى، الأمير الكبير نور الدين عمر بن علي بن رسول المالكي المسعود في نعمة السلطان الملك المسعود، ذكر الكاتب ألقابه وألقاب أبيه، ثم قال: وذلك في المحرم سنة ثلاث وعشرين وستمائة2 ... انتهى. والآمر بهذه العمارة هو الذي بنى المسجد الذي فيها، والله أعلم. ولم يذكر الأزرقي هذه الدار للصديق رضي الله عنه، وذكرها ابن جبير في مشاهد مكة، لأنه قال لما ما ذكر مشاهدها: ومن مشاهدها الكريمة: دار لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي اليوم دارسة الأثر، ويقابلها جدار فيه حجر مبارك يتبرك الناس بلمسه، يقال إنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم متى اجتاز عليه3 ... انتهى. وذكر خطيب سبتة الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن محمد بن عمر بن رشيد بضم الراء المهملة الفهري في "رحلته" شيئا من خبر هذه الدار، وهذا الحجر، لأنه ذكر أن ممن لقي بمكة المشرفة فقيهيْ الحرم: الرضا محمد بن أبي بكر بن خليل وأخاه العلم أحمد، ثم قال: فلما زرناهما، جزنا بالطريق طريق دارهما بحجر يتبرك الناس بالتمسح به، فسألت علم الدين عنه فقال: أخبرني عمي سليمان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف، قال: أخبرني أبو حفص الميانشي، قال: أخبرني كل من لقيت بمكة أن هذا الحجر هو الذي كلم النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحجر الذي مررنا به هو الذي بجهة باب النبي صلى الله عليه وسلم أمام دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه بارزا هنالك عن الحائط قليلا ... انتهى. وهذ الحجر إن صح كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم فلعله الحجر الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على ليالي بعثت" 4 ... انتهى بالمعنى. وقد اختلف في هذا الحجر، فقيل: هو الحجر الأسود، وقيل: حجر غيره بمكة لعله هذا، والله أعلم.

_ 1 القرى "ص: 664". 2 العقد الثمين 6/ 340، إتحاف الورى 3/ 41. 3 رحلة ابن جبير "ص: 92". 4 أخرجه: مسلم "الفضائل: 2277".

وطول هذا المسجد الذي في هذه الدار المذكورة: ثمانية أذرع، وعرضه: ستة أذرع، وذلك من جدار المحراب إلى باب المسجد، وكان تحرير ذرع ذلك بذراع الحديد، وحرر بحضوري. ومنها: دار الأرقم المخزومي، وهي الدار المعروفة بدار الخيزران عند الصفا والممقصود بالزيارة منها هو المسجد الذي فيها، وهو مشهور، وهو من المساجد التي ذكرها الأزرقي، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مختبئا فيه. وفيه أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه1 ... انتهى. ولعل هذا الموضع أفضل الأماكن بمكة بعد دار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، لكثرة مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيه يدعو الناس للإسلام مستخفيا، وإقامته صلى الله عليه وسلم بهذا الموضع دون إقامته بدار خديجة رضي الله عنها، لذلك كانت أفضل من هذا الموضع، والله أعلم. وطول هذا المسجد: ثمانية أذرع إلا قيراطين: وعرضه: سبعة أذرع وثلث، الجميع بذراع الحديد. حرر ذلك بحضوري، وفيه مكتوب: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] هذا مختبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الخيزران، وفيه مبتدأ الإسلام، أمر بتجديده الفقيرة إلى الله تعالى مولاة أمير الملك مفلح سنة ست ... وذهب بقية التاريخ. وعمره أيضا الوزير الجواد وعمره أيضا المستنصر العباس، وعُمر أيضا في عصرنا من قبل امرأة مجاورة يقال لها: مرة العصماء، وعمر أيضا في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة2، والذي أمر بهذه العمارة لا أعرفه، والمتولي لصرف النفقة فيها علاء الدين علي بن ناصر محمد بن الصارم المعروف بالقائد. ومن الدور المباركة بمكة: دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بالمسعى، وفيها العلم الأخضر، وهي الآن رباط الفقراء. ومنها: الرباط المعروف برباط الموفق بأسفل مكة، لأني وجدت بخط جد أبي الشريف عبد الله الفاسي أنه سمع الشيخ أبا عبد الله بن مطرف نزيل مكة يقول: ما وضعت يدي في حلقة باب الرباط قال جدي: يريد رباط الموفق إلا وقع في نفسي كم ولي لله وضع يده في هذه الحلقة ... انتهى. وبلغني أن الشيخ خليلا المالكي كان يقول: إن الدعاء مستجاب فيه أو عند بابه، وأنه كان يكثر إتيانه للدعاء، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 200. 2 إتحاف الورى 3/ 365.

ومنها: الموضع الذي يقال له: معبد الجُنَيد، بلحف الجبل الذي يقال له الأحمر، أحد أخشبي مكة، ويقال له الآن: قعيقعان، ويسميه أهل مكة أيضا جبل أبي الحارث، والله أعلم. وهو مشهور بمكة المشرفة. ذكر الجبال المباركة بمكة وحرمها: بمكة وحرمها جبال مباركة منها: الجبل المعروف بجبل أبي قبيس، لأن فيه قبر آدم عليه السلام على ما يقال لأن صاحب "المورد العذب الهني" قال: قال -يعني ابن منبه: حفر له -يعني آدم في موضع في أبي قبيس في غار يقال له غار الكنز، فاستخرجه نوح عليه السلام وجعله في تابوت معه في السفينة، فلما نضب الماء رده نوح عليه السلام إلى مكانه ... انتهى. وهذا الغار لا يعرف الآن، وقد اختلف في موضع قبر آدم عليه السلام على أربعة أقوال: الأول: أنه كان بأبي قبيس، كما قال وهب. والثاني: أنه بمسجد الخيف، كما قال عروة بن الزبير فيما روى عنه الفاكهي بسنده، وقد تقدم لنا ذلك في أخبار مسجد الخيف، وفيه أنه دفن به بعد أن صلى عليه جبريل بباب الكعبة. والقول الثالث: أنه عند مسجد الخيف، حكى هذا القول الذهبي في تأليف له ترجم فيه تاريخ مدة آدم وبنيه، رأيته بخط الذهبي قال فيه: بعد أن ذكر قول وهب السابق في قبر آدم بالمعنى: وقيل: دفنه سام بن نوح عند مسجد الخيف، ولم يحك هذا القول وهب إلا بصيغة التمريض. والقول الرابع: أنه ببلاد الهند في الموضع الذي أهبط إليه من الجنة، وصحح هذا القول الحافظ عماد الدين بن كثير في "تفسيره" والله أعلم. ووقع في تاريخ الإمام الأزرقي ما لعله يوهم أن قبر آدم عليه السلام كان في بيت المقدس، لأن فيه: وأخبرني مقاتل قال: في المسجد الحرام بين زمزم، قبر تسعين نبيا منهم: هود، وصالح، وإسماعيل، وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام في بيت المقدس1 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 73.

وفي أبي قبيس على ما يقال قبر شيث بن آدم وأمه حواء، لأن الذهبي قال في الجزء الذي ألفه في تاريخ مدة آدم وبنيه ما نصه: وخلفه بعده ابنه شيث، وأنزلت عليه خمسون صحيفة، وعاش تسعمائة سنة، ودفن مع أبويه في غار أبي قبيس ... انتهى. ومن خط الذهبي نقلت ذلك، والله أعلم. وفي أعلى جبل أبي قبيس موضع يقول الناس فيه: انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولم أر ما يدل لصحة هذه المقالة، بل رأيت ما يدل على أن الانشقاق وقع في هذا الجبل في غير هذا الموضع الذي يقوله الناس، لأن أبا نعيم روى بسنده إلى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذلك كان -ويعني انشقاق القمر- ليلة أربع عشرة، فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا، ونصفا على المروة ... انتهى. والصفا: من جبل أبي قبيس على ما قال العلماء: وهو بأسفله ويروى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ما يقتضي أن القمر انشق على أبي قبيس من غير بيان موضعه، وهذا في كتاب الفاكهي، لأنه روى بسنده إلى ابن جريج، عن مجاهد شيئا في انشقاق القمر، ثم عقب ذلك بقوله قال: أخبرني أبو معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: رأيت القمر ينشق شقين مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، شقة على أبي قبيس، وشقة على كُدَي وكداء ... انتهى باختصار. وما عرفت المراد بكدي وكداء: هل الثنية السفلى لمقابلتها لأبي قبيس، أو مكان آخر، ويتأكد كون الثنية السفلى بأن القطب الحلبي ذكر شيئا في انشقاق القمر، قال: كان يرى نصفه على قعيقعان1. ونصفه الآخر على أبي قبيس ... انتهى. وقعيقعان عنده الثنية السفلى، وهي على مقتضى ما ذكر المحب الطبري: الثنية التي بني عليها باب مكة المعروف بباب الشبيكة، ولعلها من قعيقعان، والله أعلم. وقوله: نصفا على الصفا في الخبر الذي ذكره أبو نعيم لا يعارض قول ابن مسعود رضي الله عنه شقة على أبي قبيس وقول القطب الحلبي: ونصفه على أبي قبيس لما سبق من قول العلماء: إن الصفاء من أبي قبيس ... وقوله: ونصفا على المروة: لا يوافق كون المراد بكدي وكداء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثنية السفلى، وما ذكرناه عن القطب الحلبي مذكور في كتابه "المورد العذب الهني في شرح سيرة عبد الغني المقدسي" وعليه اعتمدت في نقل الحديث الذي نقلناه عن أبي نعيم، لأنه في كتابه المذكور، وقال بعد ذكره له: فعلى هذا يكون الانشقاق بنفس بلد مكة ... انتهى.

_ 1 قعيقعان: بالضم ثم الفتح، بلفظ تصغير، اسم لجبل بمكة "معجم البلدان 4م 379".

ويدل على وقوع الانشقاق بمكة: الحديث الذي رويناه في مسند عبد بن حميد ولفظه: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] إلى قوله: {سِحْرٌ مُسْتَمِرّ} [القمر:2] . وأخرجه الترمذي: عن عبد بن حميد، فوقع لنا موافقة له عالية بدرجتين بالنسبة إلى روايتنا المتصلة بالسماع، وفي بعض طرق حديث أنس رضي الله عنه: سأل أهل مكة النبي صلى الله علبيه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما. وذكر القاضي عياض في "الشفا": أن مسروقا روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الانشقاق كان بمكة، وروى ذلك أبو يعلي في مسنده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ما نقل بعض مشايخنا1، وروينا من حديث ابن مسعود رض الله عنه أيضا ما يقتضي أن الانشقاق كان بمنى، لأن مسلما قال في صحيحه: وحدثنا منجاب بن الحرب التميمي واللفظ له. أخبرنا ابن مسهر، عن الأعمش بن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا" 2. ولا تعارض بين رواية من روى أن الانشقاق كان بمكة، وبين رواية من روى أنه كان بمنى، لأن سبب الانشقاق أن بعض المشركين سأل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر، وأظهره الله تعالى هكذا ليراه من بمكة وحولها، تصديقا لنبيه صلى الله عليه وسلم، في المعجزة التي طلبت منه، فإن بعض المشركين تردد في ذلك وعد ذلك سحرا، وأحال بعضهم الأمر في صحة ذلك على السُّفّار، فأخبر السُّفّارُ عند قدومهم برؤيتهم القمر منشقا، حتى أنه رؤي هكذا في آفاق مكة على ما ذكره القطب الحلبي. ونقل القاضي عياض، عن السمرقندي، عن الضحاك: أن أبا جهل بن هشام، هو القائل، هذا سحر، وأنه قال: فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى ينظروا أرأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقا، فقال -يعنى للكفار: هذا سحر مستمر ... انتهى. وروينا معنى ذلك في مسند أبي داود الطيالسي، لأن فيه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وانشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، قال: فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء السفار فقالوا ذلك ... انتهى.

_ 1 الشفاء 1/ 281. 2 أخرجه مسلم "الفضائل: 280".

وانشقاق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم من معجزاته الباهرة المتواترة بنص القرآن العظيم، في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر} [القمر: 1] ، وثبوتها في السنة الصحيحة الشريفة من حديث أنس، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم وحديثهم في صحيح مسلم1. وروي من حديث علي بن أبي طالب، وجبير بن مطعم، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين، ولا عبرة باستبعاد كثير من الملاحدة الانشقاق، فإن ذلك شقاوة منهم، وإنكار لأمر محسوس متواتر وقوعه في النقل، ولم يستحل جوازه في العقل. وفي "الشفاء" للقاضي عياض ذكر حجتهم في ذلك والرد عليهم بما فيه الكفاية ونشير هنا لشيء من ذلك، قال فيما رويناه عنه: ولا يلتفت إلى اعتراض مخذول بأنه لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض، إذ هو شيء ظاهر لجميعهم، أنه لم تنقل الناس لنا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة، فلم يروه انشق، ولو نقل إلينا عمن لا يجوز غالبهم على الكذب لكثرتهم لما كانت به علينا حجة، إذ ليس القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض، فيه يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابلتهم من أقطار الأرض ... إلى آخر كلامه. وذكر القطب الحلبي وجها في الرد على من استبعد ذلك، فقال: ويحتمل أن يكون خرق العادة في ذلك الوقت لصرف جميع أهل الأرض عن الالتفات إليه في تلك الساعة، ليخص أهل مكة بهذه الآية التي طلبوها ... انتهى. ومن فضائل جبل أبي قبيس: أنه كان يدعى الأمين، لأن الحجر الأسود استودع فيه زمن الطوفان، فلما بنى إبراهيم الخليل عليه السلام البيت، نادى أبو قبيس: الركن مِنِّي بمكان كذا وكذا، وجاء جبريل عليه السلام فوضعه موضعه من الكعبة. ومن فضائله: أن الدعاء فيه يستجاب، لأن الفاكهي ذكر في خبر وفد عاد للاستسقاء لقومهم بسبب جدب بلادهم: أنهم نزلوا على بكر بن معاوية سيد العماليق يومئذ بمكة، فأقاموا عنده شهرا يسقيهم الخمر، ويطعمهم اللحم، وتغنيهم الجرادتان، فلهوا عما جاءوا له، واستحيا بكر من مشافهتهم بذلك، فعمل شعرا غنتهم به الجرادتان، فأقاموا من غفلتهم، فنهضوا، فلما رآهم بكر بن معاوية قال لهم: اعلوا هذا الجبل يعني أبا قبيس، فإنه لم يعله خاطئ يعرف الله تعالى منه الإنابة إلا أجابه إلى ما دعاه إليه، وذكر بقية الخبر في دعاء كل من الوفد، واستجابة دعائه، وما ذكرناه منه باللفظ وبعضه بالمعنى.

_ 1 صحيح مسلم "الفضائل: 2800".

ومن فضائله: أنه أول جبل وضعه الله تعالى في الأرض على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما وسمعت بعض علماء العصر يقول: إنه أفضل جبال مكة حتى أنه فضله على حراء، وعلل ذلك بكونه أقرب الجبال إلى الكعبة، وفي النفس شيء من تفضيله على حراء، لكونه صلى الله عليه وسلم كان يكثر إتيانه للعبادة، ويقيم فيه لأجلها شهرا في كل عام، وفيه أكرمه الله بالرسالة، ولم يتفق له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك في جبل سواه، وذلك مما يقتضي امتيازه بالفضل، ويؤيد ذلك أن المحب الطبري قال في دار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بمكة إنها أفضل المواضع بمكة بعد المسجد الحرام، وليس لتفضيل دار خديجة رضي الله عنها على غيرها من دور الصحابة بمكة موجب سوى طول سكنى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول الوحي عليه فيها، ولو كانت الأفضلية تحصل بالقرب من الكعبة من غير نظر إلى شيء من المعاني التي ذكرناها في تفضيل حراء ودار خديجة رضي الله عنها لفضل على جبل حراء كل جبل كان أقرب منه إلى الكعبة، ولفضل على دار خديجة ما هو أقرب منها إلى الكعبة كدار العباس رضي الله عنه بالمسعى، ودار الأرقم المخزومي رضي الله عنه بالصفا، المعروفة بدار الخيزران، وأستبعد أن يقال ذلك، والله أعلم. ومن خواص جبل أبي قبيس: ما ذكره أبو عبد الله محمد بن محمد القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات" لأنه قال: جبل أبي قبيس مطل على مكة، يزعم الناس أن من أكل عليه الرأس المشوي يأمن أوجاع الرأس، وكثير من الناس يفعل ذلك ... انتهى1، وهذا عجيب والله أعلم بحقيقة ذلك. ومنها: جبل الخندمة، لما روي فيها من الفضل، لأن الفاكهي قال بعد تعريفه للخندمة: فحدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم المليكي قال: حدثني عبد الله بن عمر بن أسامة الحميدي قال: حدثنا أبو صفوان المرواني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما مطرت مكة قط إلا كان للخندمة غرة، وذلك أن فيها قبر سبعين نبيا ... انتهى، والله أعلم بصحته. وقال الفاكهي في تعريف جبل الخندمة: الخندمة ما بين حرف السويد إلى الثنية التي عليها بئر ابن أبي شمير في شعب عمر، ومشرفة على أجياد الصغير، وعلى شعب ابن عامر، على دار محمد بن سليمان في طريق منى، وهو جبل في ظهر أبي قبيس، ومن قافية الخندمة من ظهرها المشرف على دار ابن صيفي المخزومي بين الثنية التي يسلك منها من شعب ابن عامر إلى شعب آل سفيان دون شعب الخور، وذلك الموضع الذي على يمين من انحدر من الثنية التي يسلك منها من شعب ابن عامر، وعلى دار

_ 1 عجائب المخلوقات "ص: 126".

محمد بن سليمان في طريق منى إذا جاوزت المقبرة عن يمين الذاهب إلى منى ... انتهى. وذكر الأزرقي في تعريف الخندمة نحو ما ذكره الفاكهي باختصار1، والخندمة الآن معروفة عند الناس بمكة، وفيها يقول القائل: إنك لو شهدت يوم الخندمة الأبيات المشهورة في خبر فتح مكة. ومنها: جبل حراء بأعلى مكة، لكثرة مجاورة الني صلى الله عليه وسلم، وما خصه صلى الله عليه وسلم به فيه من الكرامة بالرسالة إليه، ونزول الوحي فيه عليه، وكان نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار فيه، لأن في بعض طرق الحديث: حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، وهذا الغار بأعلى حراء، في مؤخره، وهو غار مشهور عند الناس، نقله الخلف عن السلف، ويقصدونه بالزيارة. وذكر الأزرقي موضع هذا الغار، لأنه قال بعد ذكره لحائط حراء: وهو مشرف القلة مقابل لثَبير غَيْناء، ومحجة العراقي بينه وبينه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه واختبأ فيه من المشركين من أهل مكة في غار في رأسه، مشرف القلة مما يلي القبلة1 ... انتهى. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختفى بحراء من أذى المشركين وهذا غريب، وكذلك ما ذكره الأزرقي، لأن المعروف في الغار الذي اختبأ فيه النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين أنه غار ثور لا غار حراء، فإنه كان يأتيه للعبادة، والله أعلم، وإن صح اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم بحراء فهو غير اختفائه بثور، والله أعلم. وذكره أبو عبيد البكري مع شيء من خبره، لأنه قال: حراء مشهور، بينه وبين مكة ميل ونصف، وهو جبل صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلا من موضع واحد على رصفة ملساء، وهو في جميع جوانبه منقطع لا يرقاه راق، والموضع الذي نزل جبريل عليه السلام فيه في أعلاه من مؤخره في شق مبارك ... انتهى. قلت: ما ذكره أبو عبيد من أن بين حراء ومكة ميلا ونصفا فيه نظر، لمخالفته ما نقله صاحب "المطالع"، لأنه قال: وهو على ثلاثة أميال من مكة، وذكر ذلك غيره وهو ابن جبير، لأنه قال: ومن جبال مكة المشهورة جبل حراء، وهو في الشرق منها على فرسخ أو نحوه2، وذكره في موضع آخر من رحلته أنه في مكة على ثلاثة أميال ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 222. 2 رحلة ابن جبير "ص: 90".

قلت: والعيان يشهد بخلاف ما ذكره البكري في مقدار ما بين حراء ومكة، ولصحة ما ذكر ابن جبير وصاحب "المطالع" في مقداره، والله أعلم. وقال ابن عطية المفسر في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من حراء وبينهما أربعة أميال ... انتهى. وهذا قول ثالث فيما بين حراء ومكة والله أعلم، والمكاء: الصفير. وذكر الخطابي أن أهل الحديث يخطئون فيه ثلاثة مواضع: يفتحون حاءه، ويكسرون الراء وهما مفتوحان، ويقصرونه وهو ممدود ... انتهى. وكانت أهل الجاهلية تعظمه وتذكره في أشعارها، فمن ذلك قول أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم: وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل وذكره المسلمون في أشعارهم1. ومنها: جبل ثور بأسفل مكة، لاختفاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه فيه حين هاجرا إلى المدينة، وذلك في غار مشهور فيه، وهو الغار الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، حيث قال سبحانه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] . وقد جاء في فضله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنا أبا بكر الصديق قال لابنه: يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه، فإنه سيأتيك رزقك غدوة وعشية، وهذا الحديث رواه البزار في مسنده، إلا أن في سنده موسى بن مطير وهو كذاب2. ويروى أن هذا الجبل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إليَّ يا محمد فقد آويت قبلك سبعين نبيا. وهذا الغار مشهور في هذا الجبل، يأثره الخلف عن السلف ويقصدونه بالزيارة. وقد ذكر ابن جبير في رحلته أن طول الغار ثمانية عشر شبرًا، وطول فمه الضيق خمسة أشبار، وسعته وارتفاعه عن الأرض مقدار شبر في الوسط منه، ومن جانبيه ثلثا

_ 1 معجم البلدان 2/ 86، وفيه: "وعير وراق" وانظر شعرا عنه في معجم ما استعجم 2/ 432. 2 الجرح والتعديل 8/ 162 رقم 717، التاريخ لابن معين 2/ 569 رقم 1608، وميزان الاعتدال 4/ 223، ولسان الميزان 6/ 130، والخبر ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 297، وعزاه للبزار.

شبر، وعلى الوسط منه يكون الدخول، وسعة الباب الثاني المتسع في مدخله خمسة أشبار ... انتهى. وقد وسع بابه في عصرنا -الآن- بعض الناس، ولج فيه فانحبس فيه، فنحت عنه الحجر حتى اتسع عليه، وذلك في سنة ثمانمائة أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل1. وذكر ابن جبير: أن أكثر الناس يتجنبون دخوله من بابه الضيق2، لما فيه من المشقة التي يقاسيها الداخل، ولما يقال من أن من لا يدخل منه ليس لأبيه، وذكر أن بعض الناس يقولون: ليس يصعد جبل أبي ثور أحد إلا ثور ... انتهى. قلت: اللهم غفرا. وذكر ابن جبير: أنه من مكة على ثلاثة أميال، وهكذا نرى ابن الحاج في "منسكه" وسماه بأبي ثور على ما نقل عنه المحب الطبري، وقال المحب: والمعروف المشهور فيه ثور1 ... انتهى. وسماه البكري بأبي ثور، وقال: إنه من مكة على ميلين، ويكون ارتفاعه نحو الميل. وفي أعلاه الغار الذي دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه وهو المذكور في الكتاب العزيز، والبحر يرى من أعلا هذا الجبل، وفيه من كل نبات الحجاز وشجره، وفيه شجر اللبان، وفيه شجرة من حمل منها شيئا لم تلدغه هامة ... انتهى. وقال في "القاموس" بعد ذكره لهذا الجبل ما نصه: "ويقال: له ثور أطحل. واسم الجبل أطحل، نزله ثور بن عبد مناة فنسب إليه"3 ... انتهى. وفيه فيما قيل قتل قابيلُ هابيل، وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، ذكر ذلك شيخنا الإمام كمال الدين الدميري4 في تعاليقه، ونص المكتوب بخطه: عجيبة قتل قابيل هابيل، قال ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات إنه كان في جبل ثور بقرب مكة ... انتهى. أفادني ذلك عن خط شيخنا بعض أصحابنا المعتمدين. قلت: وثور أيضا جبل بالمدينة مذكور في حد حرمها، وكما في صحيح مسلم5 من حديث علي رضي الله عنه، وهو جبل صغير جدا، أُحد عن يساره

_ 1 القرى "ص: 665". 2 رحلة ابن جبير "ص: 94". 3 القاموس المحيط 1/ 384، معجم ما استعجم 1/ 348. 4 هو صاحب كتاب "الحيوان" المشهور، توفى عام 818هـ. 5 صحيح مسلم "الفضائل: 1370، وجاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور".

ذكره العفيف بن مزروع، ونقل ذلك عن طوائف من العرب عارفين بتلك المواضع، وأنكر بعضهم أن يكون ثور بالمدينة1 والله أعلم. ومن الجبال المباركة بحرم مكة: جبل ثبير، لأنا روينا في "تارخ الأزرقي" قال: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن معاوية بن عبد الله الأزدي، عن معاوية بن قرة، عن الخلد بن أيوب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما تجلى الله عز وجل للجبل تشظي، فطارت لطلعته ستة أجبل، فوقعت بمكة ثلاثة وبالمدينة ثلاثة، فوقع بمكة: حراء، وثبير، وثور، ووقع بالمدينة أحد، وورقان، ورضوى" 2. وقال أبو عبد الله محمد بن محمد القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات": جبل ثبير بمكة بقرب منى، هو جبل مبارك يقصده الزوار، وهو الذي أهبط الله تعالى عليه الكبش الذي جعله فداء لإسماعيل عليه السلام، والعرب تقول: أشرق ثبير كيما نُغِير3 ... انتهى. قوله: "بمكة" سبق إليه الجوهري، وهو يجوز، لكونه بقرب مكة، وقوله بقرب منى ينبئني على قول من قال: إنه جبل بالمزدلفة، وهو قول مرجوح، ويؤيده ما ذكره من أنه أُهبط عليه الكبش الذي فُدِيَ به إسماعيل، ولم يختلفوا في أن هذا الجبل بمنى، وهو على يسار الذاهب إلى عرفة ... انتهى، والله أعلم. وقال شيخنا قاضي القضاة مجد الدين الشيرازي في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى" إن أبا بكر النقاش المفسر قال في "منسكه" إن الدعاء يستجاب في ثبير يعني ثبير الأثبرة الذي يلحقه مغارة الفتح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يتعبد فيه قبل النبوة وأيام ظهور الدعوة، ولهذا جاورت به عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وذكر أن بقرب المغارة التي أنشأها يلحق ثبير معتكف عائشة رضي الله عنها ... انتهى بالمعنى. ويعرف هذا الموضع بصخرة عائشة، والله أعلم بحقيقة ذلك. ومنها: الجبل الذي يلحق مسجد الخيف، لأن فيه غارا يقال له غار المرسلات، لأن فيه أثر رأس النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقال، ذكر ذلك ابن جبير، لأنه قال بعد ذكر مسجد الخيف: وبقربه منه على يمين المار في الطريق حجر كبير مسند إلى سفح الجبل مرتفع على الأرض يظلّ ما تحته، ذُكِرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد تحته مستظلا، ومس رأسه المكرم فيه، فلان الحجرُ حتى أثر فيه تأثيرا بقدر دورة الرأس، فتبادر الناس بوضع رءوسهم في هذا

_ 1 معجم ما استعجم 1/ 350. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 280، 281. 3 عجائب المخلوقات "ص: 127".

الموضع تربكا واستجارة لها بموضع مسّ الرأس الكريم ألا يمسه النار برحمته عز وجل1 ... انتهى. وذكره ابن خليل، لأنه قال: ويستحب أن يزور مسجد المرسلات، وفيه نزلت سورة المرسلات، وهو يماني مسجد الخيف. وذكر المحب الطبري نحو ذلك، لأنه قال في كتابه "القرى" في الباب الثلاثين: ما جاء في الغار الذي أنزلت فيه سورة "والمرسلات"، عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذا نزلت عليه والمرسلات عرفا، وإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حية فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اقتلوها" فابتدرناها فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقيت شركم كما وقيتم شرها"، أخرجه البخاري2 في باب ما يقتل المحرم من الدواب، وهذا الغار مشهور بمنى خلف مسجد الخيف نحو الجبل مما يلي اليمن، كذلك يأثره الخلف عن السلف، والله أعلم3 ... انتهى. وبلغني عن شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي ما معناه أنه قرأ في هذه الغار سورة "المرسلات" في جماعة من أصحابه، فخرجت عليهم منه حية، فابتدروها ليقتلوها فهربت، وهذا من غريب الاتفاق لموافقة القصة التي اتفقت للنبي صلى الله عليه وسلم كما في "صحيح البخاري" وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. ورأيت في نسختي من مسند ابن مسعود رضي الله عنه ومن مسند ابن حنبل ما يقتضي أن هذه القصة اتفقت للنبي صلى الله عليه وسلم بحراء، لأنه قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} ليلة الحية، فقلنا: وما ليلة الحية يا أبا عبد الرحمن؟ قال: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه بحراء ليلا، خرجت علينا حية من الجبل، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها، فطلبناها فأعجزتنا، فقال: "دعوها فقد وقاها الله شركم كما وقيتم شرها" 4 ... انتهى. فإن لم يكن قوله بحراء تصحيفا فهو يخالف ما قيل إن الغار المعروف بغار المرسلات بمنى، والله أعلم.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 138". 2 البخاري 4/ 29 في الحج باب ما يقتل من الدواب. 3 القرى "ص: 539، 540". 4 أخرجه أحمد في المسند 1/ 458، وفيه: "دعوها عنكم".

ذكر مقابر مكة المباركة: بمكة المشرفة مقابر مباركة، منها: المقبرة المعروفة بالمعلاة1، ويقال: المعلي بلام وياء، وهي مشهورة، وروينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: وأخبرني جدي عن الزنجي قال: كان أهل مكة في الجاهلية، وفي صدر الإسلام يدفنون موتاهم في شعب أبي ذئب، وبين الحجون إلى الشعب الصفي -صفي الشباب- وفي الشعب الملاصق لثنية المذنبين، الذي هو اليوم مقبرة أهل مكة، ثم تمضي المقبرة مصعدة لاصقة بالجبل إلى ثنية أذاخر بحائط خرمان، ثم قال الأزرقي وكان أهل مكة يدفنون موتاهم في جنبتي الوادي يمنة وشأمة في الجاهلية والإسلام، ثم حول الناس جميعا قبورهم في الشعب الأيسر لما جاء من الرواية فيه، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الشعب، ونعم المقبرة" 2. وبالإسناد المتقدم إلى الأزرقي قال: قال جدي: لا نعلم بمكة شعبا يستقبل ناحية من الكعبة ليس فيه انحراف إلا شعب المقبرة، فإنه يستقبل وجه الكعبة كله. وبه إليه قال: حدثني جدي قال: أخبرنا الزنجي، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن أبي خراش، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم المقبرة هذه، مقبرة أهل المدينة" 3. وبه إلى الأزرقي قال: أخبرني جدي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن الوليد بن هشام، عن يحيى بن محمد بن عبد الله بن صيفي، أنه قال: من قبر في هذه المقبرة بعث آمنا يوم القيامة يعني مقبرة مكة4 ... انتهى. قلت حديث ابن عباس رضي الله عنهما رويناه أعلى من هذا في "معجم الطبراني الكبير"5. ورواه أحمد والبزار في مسنديهما، ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا ابن أبي خراش، ولم يضعفه أحمد6. وقال الجندي فيما رويناه عنه في "فضائل مكة" له: حدثنا عبد الله بن أبي غسان قال: حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمري، عن شقيق بن سلمة بن وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية -ثنية المقبرة- وليس بها

_ 1 مقبرة أهل مكة، وبها قبور كثير من الصحابة. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 208. 3 أخرجه أحمد 1/ 367، الطبراني في الكبير 11/ 137، عبد الرزاق 3/ 579، البخاري في التاريخ 1/284، الفاكهي في أخبار مكة 4/ 50. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 209. 5 المعجم الكبير للطبراني 11/ 137 رقم "11282". 6 مسند أحمد "1/ 367".

يومئذ مقبرة فقال: "يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا، يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا، وجوههم كالقمر ليلة البدر". فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يا رسول الله من هم؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الغرباء"1 ... انتهى هذا الإسناد، وفيه سقطٌ بين عبد الرحيم وشقيق. ومما ورد في فضل هذه المقبرة: ما وجدته بخط عبد الله بن المرجاني في "تاريخه للمدينة" قال: سمعت والدي يقول: سمعت الشيخ أبا عبد الله الدلاصي يقول: سمعت الشيخ أبا محمد الدبشي يقول: كشف لي عن أهل المعلاة، فقلت: أتجدون نفعا بما يُهدَى إليكم من قراءة أو نحوها؟ فقالوا: ليس نحن محتاجين إلى ذلك، قال: فقلت لهم: ما منكم أحد واقف الحال؟ قالوا: ما يقف حال أحد في هذا المكان ... انتهى. ومن ذلك ما رويناه في "تاريخ ابن السمعاني" الحافظ أبي سعد في ترجمة أبي نصر محمد بن إبراهيم بن الفخار الأصبهاني، لأنه ذكر: أن أبا زكريا بن منده الحافظ سمع محمد بن منصور بن عليك التاجر، قال: سمعت من ثقات المجاورين بمكة، قالوا: سمعنا أبا نصر محمد بن إبراهيم بن الفخار الأصبهاني بمكة يحدث أنه رأى في المنام كأن إنسانا مدفونا بمقبرة المعلاة استخرج، ومروا به إلى موضع آخر، قال: فسألت عن حاله لم استخرجتم هذا الميت؟ قالوا: هذه المقبرة منزهة عن قبول أهل البدعة، فلا تقبل أرضها مبتدعا ... انتهى، وهذا إن صح فيستخرج منها من دفن فيها من أهل البدعة. ويقرب من هذه الحكاية ما يحكى: أن شخصا يقال له "الشريشير" من كبار الرافضة بالمدينة المنورة، توفي بها ودفن بالبقيع، ثم بعد مدة رؤي بعض أهل الخير الغرباء يقرأ على قبره ويلازم القراءة عليه، فليم على ذلك، فقال لهم: كان لي شيخ توفي بغير المدينة فرأيته في المنام، فقال لي: أنا نقلت إلى قبر الشريشير بالمدينة، ونقل الشريشير إلى قبري، فأنا ألازم القراءة على هذا القبر لهذا المعنى. هذا معنى الحكاية، وهي مشهورة عند أهل المدينة وغيرهم، والله أعلم. ومن ذلك: ما سمعته من شيخنا المفتي تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الخير الشريف الفاسي قال: سمعت الشيخ خليل المالكي يقول: إن الدعاء يستجاب عند ثلاثة أماكن بالمعلاة، منها القبور التي يقال لها: قبور سماسرة الخير بقرب قبة الملك

_ 1 أخرجه الديلمي كما جاء في كنز العمال 12/ 262، وما تفرد به الديلمي ضعيف، والهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 13 وعزاه للطبراني في الكبير.

المسعود، وعند قبر المتبولي، وعند قبر إمام الحرمين يعني به عبد المحسن بن أبي العميد الحقيقي إمام مقام إبراهيم ... انتهى بالمعنى. وزيارة هذه المقبرة مستحبة، لما حوته من سادات الصحابة والتابعين وكبار العلماء والصالحين ولا يعرف فيها تحقيقا قبر أحد من الصحابة، وليس في القبر الذي يقال له قبر خديجة بنت خويلد1 أثر يعتمد، والله أعلم. ومن مقابر مكة المباركة: المقبرة العليا، وقد ذكرها الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عند بالسند المتقدم: أخبرني جدي، عن الزنجي قال: وكان يدفن في المقبرة التي عند ثنية أذاخر آل أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وفيها دفن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومات بمكة في سنة أربع وسبعين، وقد أتت له أربع وثمانون سنة، وكان نازلا على عبد الله بن خالد بن أسيد في داره، وكان صديقا له، فلما حضرته الوفاة أوصاه أن لا يصلي عليه الحجاج، وكان الحجاج بمكة واليا بعد مقتل ابن الزبير فصلى عليه عبد الله بن خالد بن أسيد ليلا على ردم عبد الله، على2 باب دارهم، ودفنه في مقبرته هذه عند ثنية أذاخر بحائط خرمان، ويدفن في هذه المقبرة مع آل أسيد أل سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهم يدفنون فيها جميعا إلي اليوم3 ... انتهى. وقال الأزرقي في موضع آخر: كان أهل مكة يدفنون موتاهم في جنبتي الوادي يمنة وشأمة في الجاهلية وفي صدر الإسلام، ثم حول الناس قبورهم في الشعب الأيسر، لما جاء فيه من الرواية، ثم قال: ففيه اليوم قبور أهل مكة إلا آل عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن عبد شمس، وآل سفان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فهم يدفنون بالمقبرة العليا بحائط خرمان4 ... انتهى. قلت: حائط خرمان هو والله أعلم الموضع الذي يقال له: الخرمانية، وهو أودان بأعلى الموضع المعروف بالمعابدة بظاهر مكة، وثنية أذاخر فوق هذا المكان، وهي ثنية مشهورة، وكانت تنتهي المقبرة إليها في الجاهلية، ومنها دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، على ما ذكر الأزرقي وغيره، وما نقله الإمام الأزرقي عن جده عن الزنجي من أن عبد الله بن عمر مدفون في هذه المقبرة5، يرد ما يقال إنه مدفون بالجبل الذي عند باب المعلاة، على يسار الهابط إلى مكة ويمين الصاعد منها، ولا أعلم لما يقال من أن ابن

_ 1 الصحيح أنها مدفونة بالأبواء بين المدينةومكة على نحو 13 ميلا من رابغ. 2 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 209. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 209، 210. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 211. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 210.

عمر رضي الله عنهما مدفون في هذا الجبل دليلا، وهو بعيد من الصواب، والله أعلم. ومنها: المقبرة المعروفة بمقبرة المهاجرين بالحصحاص1، رويناه بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: الحصحاص: الجبل المشرف على ظهر ذي طوي، إلى بطن مكة2. قال: وبطن ذي طول ما بين مهبط ثنية المقبرة التي بالمعلاة إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء، يهبط إلى قبور المهاجرين دون فخ3 ... انتهى. قلت: مقتضى هذا أن يكون مقبرة المهاجرين عند الثنية التي يتوجه منها إلى المعلاة، وتسميها الناس الحجون الأول، والله أعلم. وذكر سليمان بن خليل ما يقتضي أن الحصحاص عند الجبل الذي تسميه أهل مكة البكاء، وهو معروف بطريق العمرة، لأنه قال لما تكلم على الإحرام من التنعيم: قال الفاكهي في كتابه: في طريق هذه العمرة أيضا جبل يسمى المقلع قال: والمقلع جبل الذي بأسفل الحصحاص، بين يديه حجارة كثيرة يقال إنه بكى على النبي حين هاجر إلى المدينة، وتسميه أهل مكة اليوم الجبل البكاء ... انتهى. وفخ: هو وادي الزاهر على ما قال السيد علي بن وهاس الحسيني فيما نقله عنه ياقوت في "مختصر معجم البلدان"، وذكر أن فخ اسم لمكانين هذا أحدهما، وذكر الآخر، ويذكر كلامه بنصه قال باب: فخ موضعان بفتح الفاء والخاء معجمة مشددة، وفخ واد من نواحي مكة، قال السيد على بن وهاس العلوي: فخ وادي الزاهر فيه قبور جماعة من العلويين قتلوا فيه في واقعة4 كانت لهم مع أصحاب موسى الهادي بن المهدي بن المنصور في سنة تسع وتسعين5 ومائة في ذي الحجة، وللشعراء فيهم مراث كثيرة. وفخ: ما أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم بن الحرث المحاربي، ذكره الحازمي6 ... انتهى. ومن المقابر المباركة بمكة المشرفة: المقبرة المعروفة بالشبيكة، بأسفل مكة دون باب الشبيكة، وهي مشهورة عند الناس، لما حوته من أهل الخير الغرباء وغيرهم، وذكر

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 213. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 299. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 297. 4 في معجم البلدان: "وقعة". 5 هكذا ورد في جميع النسخ، والصحيح أنه سنة تسع وستين ومائة كما جاء عند ياقوت، وهو يتفق مع خلافة الهادي التي استمرت حتى سنة 170هـ. 6 المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 330، 331".

الفاكهي بعد ذكر مقبرة مكة التي بأعلاها وشيئا من فضلها السابق، وكانت مقبرة المطيبين بأعلى مكة، ومقبرة الأحلاف بأسفل مكة1 ... انتهى. والظاهر أن مقبرة الأحلاف في هذه المقبرة، لأنه لا يعرف بأسفل مكة مقبرة سواها، ودفن الناس بها إلى الآن مشعر بأن الناس كانوا يدفنون فيها فيما مضىن والله أعلم. والمطيبون هم بنو عبد مناف بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزي، وابن زهرة بن كلام، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر. والأحلاف هم بنو عبد الدار بن قصي، وبنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب، ولتسمية هؤلاء بالأحلاف والآخرين بالمطيبين سبب مشهور، ذكرناه في أصل هذا الكتاب. ومن القبور التي ينبغي زيارتها: قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنه وهو معروف بطريق وادي مر، ولا أعلم بمكة ولا فيما قرب منها قبور أحد ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى هذا القبر، لأن الخلف يأثر ذلك عن السلف، والموضع الذي فه قبر ميمونة رضي الله عنها يقال له: سرف، بسين مهملة مفتوحة وراء مهملة مكسورة وفاء، وذكر صاحب "المطالع" في مقدار ما بينه وبين مكة أربعة أقوال: ستة أميال، وسبعة بتقديم السين، وتسعة بتقديم التاء على السين واثنى عشر ميلا، وهو الموضع الذي بني بها النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوجها.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 60.

الباب الثاني والعشرون

الباب الثاني والعشرون ذكر أماكن بمكة المشرفة وحرمها وقربه التي لها تعلق بالمناسك ... الباب الثاني والعشرون: في ذكر أماكن بمكة المشرفة وحرمها وقربه التي لها تعلق بالمناسك: وهي ستة وعشرون موضعا مرتبة على ترتيب حروف المعجم: الأول: باب بني شيبة1 الذي يستحب للمحرم دخول المسجد الحرام منه، وهو أول باب بالجانب الشرقي مما يلي الجانب الشامي، بين رباط الشرابي ورباط السدرة، وعليه "منارة المسجد الحرام، وأمامه في خارجه بلاط مفروش من حجارة، وفي عتبته حجارة طوال، يقال إنها كانت أوثانا تعبد في الجاهلية، وليس ذلك بصحيح، على ما نقل الأزرقي عن جده2. والأصل في استحباب دخول المسجد الحرام من هذا الباب، ما رويناه عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا، رواه البيهقي، وقال: إنه مرسل جيد، قال: ورويناه عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا في دخوله من باب بني شيبة، وخروجه من باب الحناطين ... انتهى. والمراد بباب بني شيبة في هذا الخبر: جهة هذا الباب، لا هذا الباب نفسه، فإنه لم يكن إلا في عمارة المهدي. والمراد بباب بني مخزوم: باب الصفا، فإنه ينسب لبني مخزوم. وباب الحناطين باب كان للمسجد فيما بين باب الحزورة وباب بني جمح الذي في وزانه الآن: باب الزيادة بالجانب الغربين ولا أثر الآن لباب الحناطين، والمراد به جهته، لأنه لم يكن إلا عقب موت المهدي العباسي فيما أمر به من الزيادة الثانية في المسجد الحرام، فينبغي للخارج من المسجد مسافرا أن يخرج من باب الحزورة، أو هي باب الزيارة المشار إليها لقربها من باب الحناطين.

_ 1 يعرف الآن بباب السلام، وكانت نسب لآل شيبة سدنة الكعبة. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78.

وفي "النوادر" لابن أبي زيد المالكي ما يقتضي أن الخارج من المسجد الحرام مسافرا خرج من باب المسجد المعروف الآن بباب العمرة في الجانب الغربي، فينبغي للمسافر أن يخرج منه أو من باب زيادة إبراهيم، أو من باب الحزورة، والله أعلم. ونص ما في "النوادر" على ما نقل الأشنائي في شرحه لمنهاج النووي بعد أن ذكر أن "النوادر" أهمل بيان الباب الذي يخرج منه المسافر من المسجد الحرام، ففي "النوادر" عن ابن جبير: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وإلى المدينة من باب بني سهم1 ... انتهى. وباب بني سهم: هو باب المسجد الذي أشرنا إليه، كما يقتضيه كلام الأزرقي وغيره كالأشنائي، باستحباب الخروج منه للمسافر إلى بلده. وذكر عن الرافعي: أن الأصحاب أطلقوا استحباب دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة لمن كان في طريقه، ولمن لم يكن في طريقه، ولا كذلك الثنية العليا، فإن الدخول منها إنما يستحب لمن كانت في طريقه، على خلاف في ذلك. والفرق بينه وبين باب بني شيبة: أن دوران المسجد لأجله لا عسر فه، ولا كذلك الدوران للدخول من الثنية العليا إذا لم يكن في الطريق، والله أعلم. الثاني: التنعيم المذكور في حد الحرم من جهة المدينة النبوية، وهو أمام أدنى الحل، على ما ذكر المحب الطبري، قال: وليس بطرف الحل، ومن فسره بذلك تجوز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه، وأدنى الحل إنما هو من جهته، ليس موضع في الحل أقرب إلى الحرم منه، وهو على ثلاثة أميال من مكة، والتنعيم أمامه قليلا في صوب طريق وادي مر الطهران ... انتهى بنصه2. وقال صاحب "المطالع": التنعيم من الحل بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، وقيل: على أربعة أميال، وسميت بذلك لأن جيلا عن يمينها يقال له: نعيم، وآخر عن شمالها يقال لها: ناعم، والوادي: نعمان ... انتهى. والإحرام من الحل الذي في جهة التنعيم للمقيم بمكة أفضل من الإحرام من الحل الذي في بقية جهات الحرم، ما خلا الجعرانة، فإن الإحرام منها أفضل عند مالك، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم من العلماء رحمة الله تعالى عليهم أجمعين. الثالث: ثبير، الذي يقولون في الجاهلية إذا أرادوا أن يدفعوا من المزدلفة: أشرق ثبير كيما نغير، ولا يدفعون حتى يروا الشمس عليه، وهو جبل بالمزدلفة على ما ذكر.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 83، 84". 2 القرى "ص: 99".

الأزرقي ونص كلامه: وثبير الموضع الذي فيه سداد الحاج، وهو جبل المزدلفة الذي هو على يسار الذاهب إلى منى، وهو الذي كانوا يقولون في الجاهلية إذا أرادوا أن يدفعوا من المزدلفة: أشرق ثبير كيما نغير. ولا يدفعون حتى يروا الشمس عليه1 ... انتهى. وثبير الذي يستحب للحاج إذا طلعت الشمس عليه سار إلى عرفة لينزل بنمرة، ثم يذهب منها بعد صلاة الظهر والعصر مع الإمام إلى موقف عرفة، وهو جبل كبير بمنى على يسار الذاهب إلى عرفة، نص على ذلك الشخ الإمام المحب الطبري، لأنه لما تكلم على قول صاحب "التنبيه" في صفة الحج: "ثم يخرج إلى منى في اليوم الثامن، فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت بها، ثم يصلي الصبح، فإذا طعلت الشمس على ثبير سار إلى الموقف"، قال: ثبير بثاء مثلثة مفتوحة وباء موحدة مكسورة أعلى جبل بمنى. وقال الجوهري: بمكة، ولعله أراد بقرب مكة فتجوز، وقال غيره: بالمزدلفة، والمشهور الأول وهو يشرف على منى من جمرة العقبة إلى تلقاء مسجد الخيف، وأمامه قليلا على يسار الذاهب إلى عرفة ... انتهى. وممن ذكر أن ثبيرا بمنى: الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عنه بالمسند المتقدم: اسم الجبل الذي مسجد الخف بأصله الصفائح، واسم الجبل الذي وجاهه على يسارك إذا أتيت من مكة المقابل ثبير، وهو من الأثبرة2 ... انتهى. وممن ذكر أن ثبيرا بمنى: سليمان بن خليل، لأنه قال: وثبير جبل كبير بمنى وكذلك النووي في "التهذيب"، لأنه قال لما ذكر منى: وهو شعب ممدود بين جبلين، أحدهما: ثبيرن والآخر: الصائح3، كذا رأيت في نسخة من "التهذيب" ولعله: والآخر الصفائح، كما يقتضيه كلام الأزرقي، والله أعلم. وإذا تقرر أن ثبيرا بمنى وثبيرا بمزدلفة: فلا مانع أن يكون ثبير الذي إذا طلعت عليه الشمس سار الحاج من مبيته بمنى إلى عرفة، كما قال الفقهاء ثبير بمنى، لكونه إلى مبيت الحاج أقرب من ثبير الذي بالمزدلفة، ولا مانع من أن يكون ثبير الذي عناه المشركون بقولهم أشرق ثبير كيما نغير من المزدلفة، لأنهم كانوا يقولون ذلك بالمزدلفة، ولا يدفعون منها حتى تطلع الشمس على ثبير التي بها، وهو إلى أبصارهم أقرب من ثبير الذي بمنى، كيف وقد قال الأزرقي: إن ثبيرا الذي عناه المشركون ثبير المزدلفة، وأثبت أن بمنى ثبيرا سواه!

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 280. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 180. 3 في التهذيب: الضائعط بدل "الصائح "انظر: تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 157.

وأما قول النووي في "التهذيب" وغيره أن ثبيرا جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب إلى منى، ويمين الذاهب من منى إلى عرفات، وأنه المذكور في صفة الحج، والمراد في مناسك الحج، فقد اعترضه شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي، وقال: إنه قول فيه مقال، ورجم بالغيب، ومخالفة لإجماع أئمة اللغة والتواريخ، ثم قال شيخنا: نعم في المزدلفة جبل يسمى ثبيرا، وليس هو المراد في مناسك الحج ... انتهى، والله أعلم. وذكر ياقوت في "معجم البلدان"1 أن ثبيرا اسم لثمانية مواضع فنذكر كلامه لإفادة ذلك، ونص كلامه: باب: ثبير: ثمانية مواضع بفتح أوله كسر الباء الموحدة ثم ياء ساكنة وراء. الأول: ثبير من أعظم جبال مكة، بين مكة وعرفة، وهو المراد بقولهم في الجاهلية: أشرف ثبير، كيما نغير. الثاني: ثبير الزنج بمكة أيضا، قالوا: لأن الزنج كانوا يجتمعون عنده للعب واللهو. الثالث: ثبير الأعرج "وثبير الأحدب"2. الرابع ثبير الخضراء. الخامس: ثبير النصع، وهو جبل المزدلفة. السادس: ثبير غينا3 وهذه السبعة بمكة، ويقال لها: الأثبرة. الثامن: ثبير: ماء في بلاد مزينة أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم شريح بن ضمرة المزني4 ... انتهى. هكذا وجدت في نسخة سقيمة من "مختصر معجم البلدان لياقوت" ولا يستقيم ما فيها من أن بمكة سبعة أثبرة إلا بأن يكون سقط من النسخة ذكر ثبير السابع، أو يكون ثبير الأعرج وثبير الأحدب اثنين، فإن الموجود في النسخة يوهم أنهما واحد، ويكون سقط الرابع قبيل قوله: وثبير الأحدب، ويكون على هذا قوله: الرابع والخامس والسادس سهوا في العدد، وهذا الاحتمال أظهر5، لأن الرضى الصاغاني قال: من الأثبرة ثبير

_ 1 النص المذكور في المتن ليس من "معجم البلدان" بل هو من المشترك وضعا والمفترق صقعا" لياقوت أيضًا "ص: 86، 87". 2 ما بين القوسين ليس في "المستدرك". 3 في المشترك: "السابع ثبير الأحدب". 4 المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 76: 87". 5 الواضح أن المؤلف اطلع على نسخة سقيمة من "المشترك" ويسميه "مختصر معجم البلدان"، وهي التي جعلته يسهب في التحليل والتعليق، ولو اطلع على نسخة سليمة كالتي وصلتنا مطبوعة لوقف على أسماء الأثبرة كاملة.

غَيْنَا، وثبير الأعرج، وثبير الأحدب، وسمعت أعراب هذيل يسمونه: الأحيدب مصغرا ... انتهى، وهذا يدل على أن ثبيرا الأعرج غير ثبير الأحدب. وذكر الأزرقي من الأثبرة التي ذكرها ياقوت: ثبيرا الأول، وذكر أن اسمه القابل، وثبير النصع جبل المزدلفة، وثبير الأعرج، ونص ما ذكره فيه: وثبير الأعرج المشرف على حق الطارقيين بين المغمس والنخيل1 ... انتهى. وفي هذا إشارة إلى تعريف محله. وذكر الزمخشري2 من هذه الأثبرة ثبير غينا وثبير الأعرج، وأفاد في كلامه ضبط غينا، وأن ثبير غينا وثبير الأعرج متقاربان، ولم أقف على المحل الذي ذكر فيه ذلك، وإنما نقل عنه ذلك شيخنا القاضي مجد الدين اللغوي الشيرازي، لأنه قال: وقال الزمخشري: وثبير غينا بالغين المعجمة المتفوحة بعدها مثناة تحتية ثم نوف وألف وثبير الأعرج جبلان يصب بينهما أفاعية بضم الهمزة وبعدها فاء وألف وعين مهملة مكسورة ومثناة تحتية مفتوحة مخففة بعدها هاء وهي واد يصب من منى ... انتهى. وثبير الزنج الذي ذكره ياقوت يقال: إنه جبل بأسفل مكة تسميه أهلها النوبي، والله أعلم. وثبير الخضراء هو الجبل المشرف على الموضع الذي يقال له الخضيرا، بطريق منى وهو مكان مشهور، والنصع بكسر النون وسكون الصاد المهملة هكذا ضبطه شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي، وفي كلام ياقوت إشارة إلى أن ثبيرا الذي كانوا يقولون فيه: "أشرق ثبير كيما نغير": هو ثبير مني، الذي قال له ثبير الأثبرة، وذلك يخالف ما ذكره الأزرقي، والله أعلم. الرابع: الجعرانة، الموضع الذي أحرم فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف بعد فتح مكة، وهو موضع مشهور بين الطائف ومكة، وهو إلى مكة أقرب بكثير، لأن بينه وبين مكة نحو ثمانية عشر ميلا على ما ذكر الباجي المالكي. وقال الفاكهي: والجعرانة حيث اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم على بريد من مكة3 ... انتهى باختصار. وهذا يخالف ما ذكره الباجي، والله أعلم بالصواب. وحد الحرم من جهته على تسعة أميال بتقديم التاء على السين وقيل: يزيد، وهو اثنا عشر ميلا كما سبق في حدود الحرم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 280. 2 غريب الحديث الزمخشري. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 69، والحديث حسن نقله ابن حجر في الفتح 8/ 64 حسبما قال محقق كتاب الفاكهي.

وذكر السهيلي أن هذا الموضع سمي باسم امرأة كانت تلقب بالجعرانة، واسمها: ريطة بنت سعد بن زيد مناة بن تميم، وقيل: هي من قريش ... انتهى، ذكر ذلك بالمعنى لما تكلم عن قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92] الآية: ولم يبين السهيلي القائل بأنها من قريش، وقد بين ذلك الفاكهي لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين الأزدي، عن رجلين، عن ابن الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} نزلت في امرأة من قريش من بني تيم بن مرة يقال لها: ريطة بنت كعب، ولقبها جعرانة، وهي أم أسد بن عبد العزى، التي قامت عنه، وكانت حمقاء. وروى الفاكهي بسنده عن السدي في تفسير هذه الآية قال: كانت امرأة تسمى حرفا بمكة كانت تغزل، فإذا أبرمت غزلها نقضته. وقال: قال ابن جريج: قال أبو الهذيل: حرفا كانت بمكة تنقضه بعد ما تبرمه. وروي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} قال: هن النساء من أهل نجد ينقضن حبلهن وينفشنه ثم يخلطنه بالصوف فيغزلنه ... انتهى.

ذكر الموضع الذي أحرم منه رسول الله من الجعرانة

ذكر الموضع الذي أحرم منه رسول الله من الجعرانة: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن الزنجي، عن ابن جريج قال: أخبرني زياد بن محمد بن طارق أخبره أنه اعتمر مع مجاهد من الجعرانة، فأحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة قال: ومن ههنا أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لأعرف أول من اتخذ المسجد على الأكمة، بناه رجل من قريش سماه، واشترى بمال عنده نخلا، فبنى هذا المسجد، قال ابن جريج: فلقيت أبا محمد بن طارق فسألته فقال: اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة، فأخبرني أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بالجعرانة، قال: وأما هذا مجاهد فإنما بناه رجل من قريش، واتخذ ذلك الحائط1 ... انتهى. ونقل ابن خليل عن ابن جريج أن الرجل الذي بنى المسجد الأديني هو عبد الله بن خالد الخزاعي. وذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، وكان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالجعرانة، فأما الأدنى فبناه رجل من قريش، واتخذ ذلك الحائط عنده، ولم يجز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلا محرمًا ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 207.

وكان إحرامه صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، نقل ذلك عن الواقدي المحب الطبري قال: ومنها يحرم أهل مكة كل عام ليلة سبع عشرة من ذي القعدة، وذلك خلاف ما ذكره الواقدي1 ... انتهى. وما ذكره المحب الطبري يخالف ما أدركنا عليه أهل مكة، فإنهم يخرجون من مكة في اليوم السادس عشر من ذي القعدة، ويقيمون اليوم السابع عشر بالجعرانة، ويصلون المغرب بها ليلة الثامن عشر، ويحرمون ويتوجهون إلى مكة، وهو يلائم ما ذكره الواقدي، إلا أن في بعض السنين يحصل للناس خوف فيخرجون من الجعرانة محرمين قبل الغروب من اليوم السابع عشر، وربما خرجوا منها قبل صلاة العصر، وما ذكره الواقدي في تاريخ عمرة النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة هو المعروف. وذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي خبرا ضعيفا يخالف ذلك، ونصه على ما ذكر الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري في جوابه عن المسائل التي سأله عنها ابن أيبك الدمياطي: وقد ذكر ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن سابق قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عقبة مولى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال2. قال أبو الفتح المذكور: هذا والذي قبله ضعيف، والمعروف عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلا، فأحرم بعمرة، ودخل مكة ... انتهى. والجعرانة أفضل مواقيت العمرة من مكة، لإحرام النبي صلى الله عليه وسلم من هذ المكان، على مذهب مالك، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم من العلماء رضي الله عنهم. واختلف في وسط العين والراء من الجعرانة، فقال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": "الجعرانة بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء، هكذا صوابها عند إمامنا الشافعي، والأصمعي، وأهل اللغة، ومحققي المحدثين، وغيرهم، ومنهم من يكسر العين ويشدد الراء، وهو قول عبد الله بن وهب وأكثر المحدثين، قال صاحب مطالع الأنوار، أصحاب الحديث يشددونها، وأهل الإتقان والأدب يخطوئنهم ويخففونها، وكلاهما صواب، حكى إسماعيل القاضي عن علي بن المديني قال: أهل المدينة يثقلونها ويثقلون الحديبية، وأهل العراق يخففونهما3 ... انتهى باختصار.

_ 1 القرى "ص: 99". 2 عيون الأثر لابن سيد الناس 2/ 280. 3 تهذيب الأسماء: "ص: 58، 59" وفيه "يخففونهما".

ومن فضائل وادي الجعرانة ما ذكره الجندي في "فضل مكة" لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا عبد الوهاب بن فليح، حدثني سعيد بن سالم القداح، عن سعيد بن بشير، عن عبد الكريم الجردي، عن يوسف بن ماهك، قال: اعتمر من الجعرانة ثلاثمائة نبي، وصلى في مسجد الخيف سبعون نبيا. وبالجعرانة ماء شديد العذوبة يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فحص موضع الماء بيده المباركة فانبجس، فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم وسقى الناس، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غرز رمحه فنبع الماء موضعه، وهذان الخبران في كتاب الفاكهي1. الخامس: الجمار المذكور في صفة الحج: هي بمنى، ونقل عن ابن سيده2 اللغوي صاحب "المحكم" ما يقتضي أنها بعرفة، وهو وهم قطعا، ذكرناه لغرابته، وقد نقل ذلك عنه السهيلي في كتابه "الروض الأنف"، لأنه نقل عن ابن سيده شيئا قاله في كتابه "المحكم" وخطأه فيه، ثم قال السهيلي: وقال يعني ابن سيده في الجمار في غير هذا الكتاب هي التي بعرفة، وهذه هفوة لا تقال، وعثرة لا لعا لها، وكم له من هذا إذا تكلم في النسب وغيره، والله ولي التوفيق. والأولى منها: هي التي تلي مسجد الخيف، والوسطى التي بينها وبين جمرة العقبة، والأخيرة هي جمرة العقبة، وهي أقرب الجمار إلى مكة، ورميها على هذا الترتيب مطلوب على مذهب الإمام مالك رحمه الله، ومتى وقع على غير هذه الصفة ولم يتدارك في وقت الأداء وهو النهار على المشهور لزم فاعل ذلك الدم. وقد ذكر الأزرقي في ذرع ما بين هذه الجمار وما بين الجمرة الأولى وأوسط أبواب مسجد الخيف بمنى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ومن جمرة العقبة وهي أول الجمار مما يلي مكة، إلى الجمرة الوسطى: أربعمائة ذراع وسبعة وثمانون ذراعا واثنا عشر أصبعا، ومن الجمرة الوسطى إلى الجمرة الثالثة وهي التي تلي مسجد منى: ثلاثمائة ذراع وخمسة أذرع، ومن الجمرة التي تلي مسجد منى إلى أوسط أبواب المسجد: ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وواحد وعشرون ذراعا3 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 68، والحديث عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 3م 279-280 إلى الطبراني، وقال: فيه من لم أعرفه، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير 2/ 380 للطبراني وأبي نعيم. وذكره البكري في معجم ما استعجم 1/ 158. 2 هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي، كان إماما في اللغة والعربية حافظا لهما، وكتابه "المحكم" كتاب جامع رتبه ترتيب كتاب " العين"، وتوفي سنة 458هـ. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185.

قلت: وقد حرر بعض أصحابنا ذرع ذلك وأنا معه، فكان مقدار ما بين جمرة العقبة والجمرة الوسطى مائتي ذراع وثمانية أذرع بذراع الحديد، وكان مقدار ما بين جمرة الوسطى والجمرة الأولى: مائتي ذراع وخمسة وسبعين ذراعا بذراع الحديد، وكان مقدار ما بين الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف إلى باب مسجد الخيف الكبير على يمين الذاهب إلى عرفة: ألف ذراع ومائتي ذراع وأربعة وخمسين ذراعا ذراعا بذراع الحديد. وقد ذكر الأزرقي شيئا من خبر جمرة العقبة، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ذكر ما غير من فرش أرض الكعبة": وكانت الجمرة زائلة عن غير موضعها، أزالها جهال الناس برميهم الحصا، وغفل عنها، حتى أزيحت من موضعها شيئا يسيرا منها ومن فوقها، فردها إلى موضعها الذي لم يزل عليه، وبنى من ورائها جدارا أعلاه عليها، ومسجدا متصلا بذلك الجدار، لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها، وإنما السنة لمن أراد الرمي أن يقف من تحتها من بطن الوادي، فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، ويرمي كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا أصحابه من بعده1 ... انتهى. والذي أشار إليه الأزرقي بقوله: فردها، وبقوله: وبنى: هو إسحاق بن سلمة الصائغ الذي أنفذه المتوكل العباسي لعمل أمور تتعلق بالكعبة وغير ذلك. السادس: الحجون المذكور في حد المحصب2: وهو جبل بالمعلاة، مقبرة أهل مكة على يسار الداخل إلى مكة، ويمين الخارج منها إلى جهة منى وغير ذلك، وهو الجبل الذي يزعم الناس أن فيه قبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وليس لذلك حقيقة كما نبهنا عليه، ويحتمل أن يكون الجبل المحاذي له الذي يكون على يسار الداخل إلى الشعب الذي تسميه الناس: شعب العفاريت، والجبلان مشرفان على هذا الشعب، ولعله الشعب الذي يقال له شعب الصفا صفى الشباب، والله أعلم. وما ذكرنا من كون الحجون في هذه الجهة من المعلاة صريح من كلام أبي الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" ومن كلام إسحاق بن أحمد الخزاعي راوي كتاب الأزرقي، وأدخل الخزاعي ذلك في كتاب الأزرقي عند ذكر الأزرقي لحد المحصب: وهذا ما ذكرناه من تعيين كون الحجون أحد الجبلين المشار إليهما، يدل له كلام الأزرقي3. وما ذكره الخزاعي في تعيين جهة الحجون يدفع ما يقوله الناس من أن

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 303. 2 هو موضع الحجارة بمنى. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 160.

الحجون هو الجبل الذي فيه ثنية كداء، بفتح الكاف والمد، والتي يستحب للمحرم دخول مكة منها. ووقع للمحب الطبري في "القرى" ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: الحجون بفتح الحاء وضم الجيم مخففة، الجبل المشرف عند المحصب، وهو مقبرة أهل مكة، قال الشاعر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر وذكر أبو موسى المديني في "يتيمته" أنه الجبل المشرف مما يلي شعب الجزارين بمكة، قلت: ويشبه أن يكون ما ذكره هو الجبل الذي على يمين المنهبط من الثنية العليا على المقبرة، فإن إلى جانبه شعبا يقال له شعب الجزارين، ويحتمل أن يكون الجبل المشرف على المقابر على يسار المنهبط من الثنية، وتكون المقبرة بينه وبين الصفا على ما قال الشاعر: انتهى كلام المحب الطبري. والشعب الذي ذكر أنه يقال له شعب الجزارين يقال له شعب النور، وهو الذي فيه قبر الشيخ أبو لكوط1. وفي كون هذا الشعب شعب الجزارين نظر، وكذا في الاحتمال الآخر الذي ذكره في تفسير شعب الجزارين، وكذا فيما يقوله الناس من أن الحجون هو الجبل الذي فيه الثنية المشار إليها، وهو مقتضى كلام المحب الطبري، لكون ذلك مخالفا لما ذكره الأزرقي في تفسير الحجون، مع موافقة الخزاعي له على ما ذكره من أن الحجون في الجهة المقابلة لجهة الثنية، كما أشرنا إليه. والأزرقي والخزاعي بذلك أدرى، والتعويل عليهما في ذلك أولى. ونص ما ذكره الأزرقي في الترجمة التي بين فيها ما في شق معلاة مكة اليماني من المواضع والجبال والشعاب، وما أحاط به: الحجون الجبل المشرف حذاء مسجد البيعة الذي يقال له مسجد الحرس، وفيه ثنية يسلك إليها من حائط عوف، عند الماجلين الذين فوق دار "مال الله" إلى شعب الجزارين، وبأصل شعب الجزارين كانت المقبرة في الجاهلية2 ... انتهى. ونص كلام الخزاعي: الحجون الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد، وهو أيضا مشرف على شعب الجزارين في أصل دار أبي دب إلى موضع القبة مسجد سبيل أم زبيدة بنت جعفر بن أبي منصور ... انتهى. ووجه الدلالة من كلام الخزاعي على ما ذكرناه في تعيين جهة الحجون، ذكره للحجون من شق معلاة مكة اليماني، ولا ريب أنها الجهة التي أشرنا إليها، ووجه الدلالة

_ 1 هكذا في الأصل، وفي منتخب شفاء الغرام: "ابن لكود". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 273.

من كلام الخزاعي: قوله في تعريف الحجون: على يمينك وأنت مصعد، ولا يكون الحجون على يمين المصعد من مكة إلا إذا كان في الجهة التي أشرنا إليها. وذكر النووي في "شرح مسلم" في تفسير الحجون نحو ما ذكره الخزاعي باختصار، لأنه قال في تفسير حديث قوله: "قرب الحجون" هو بفتح الحاء وضم الجيم، وهو من حرم مكة، وهو الجبل المشرف على مسجد الحرم بأعلى مكة، على يمينك وأنت مصعد عند المحصب ... انتهى. والدلالة من كلام النووي على ما ذكرناه في تفسير الحجون كالدلالة على ذلك من كلام الخزاعي، وقد سبق ذلك. وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره الأزرقي في كون الحجون بشق معلاة مكة اليماني وفي تعريفه له1، والفاكهي من العارفين بأخبار مكة، فيتأيد بما ذكره في الحجون ما قاله الأزرقي والخزاعي في الحجون، والله أعلم. "وشعب الجزارين": لا يعرف الآن، إلا أن بين سور مكة الآن وبين الجبل الذي يقال له جبل ابن عمر موضعا يشبه الشعب، فلعله شعب الجزارين. وشعب الجزارين هو شعب أبي دب على ما ذكر الأزرقي، وذكر أنه رجل من بني سواءة بن عامر2. و"حائط عوف" الذي ذكره الأزرقي في تعريف الحجون لا يعرف، ولعله أحد البساتين التي في الجبل الذي يقال له جبل ابن عمر، فإن منها يتوصل إلى الجبل المذكور. ولعل هذا يؤيد أحد الاحتمالين اللذين ذكرناهما في تعيين كون هذا الجبل الحجون، ويتأيد ذلك أيضا بقربه من الماجلين اللذين ذكرهما الأزرقي، وهما في غالب الظن البركتان المنسوبتان للصارم، التي إحداهما ملاصقة لسور مكة، والله أعلم. وأغرب السهيلي في تفسير الحجون، لأنه قال في "الروض الأنف": والحجون على فرسخ وثلث من مكة3 ... انتهى. وهذا مخالف للمحسوس والمنقول. وما ذكره المحب من كون الحجون بفتح الحاء وضم الجيم سبقه إلى ذلك النووي في "شرح مسلم" وضبطه أيضا بفتح الحاء صاحب "المطالع"، وضبطه ابن خلكان بضم الحاء، والمعروف فيه الفتح، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 143. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 272. 3 الروض الأنف 1/ 138.

وهذا الموضع من جملة المواضع التي أصلحتها في هذا الكتاب بعد تأليفي له، لأني لم أكن نظرت فيما كتبته أولا إلا كلام المحب، وتأيد عندي بما يقوله الناس في تفسير الحجون، فلما راجعت كلام الأزرقي، والخزاعي ظهر لي أنه الصواب، فكتبت هذا الفصل على هذا الوجه، والله أعلم بالصواب. السابع: الحديبية الموضع الذي نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من المدينة محرما يريد دخول مكة، فعاقه حينئذ المشركون عن ذلك. يقال إنه الموضع الذي فيه البئر المعروفة ببئر شميس بطريق جدة، والله أعلم. قال صاحب "المطالع": إن الحديبية قرية ليست بالكبيرة، وسميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة ... انتهى. والشجرة والحديبية لا يعرفان الآن، وقد سبق في حدود الحرم الخلاف في الحديبية، هل هي في الحرم كما قال مالك، أو في طرف الحل، كما قال الماوردي، أو أن بعضها في الحل وبعضها في الحرم، كما قال الشافعي وابن العطار، والله أعلم. وليست الحديبية بالموضع الذي يقال له الحدة1 في طريق جدة بقرب هذا الموضع من جدة، وبعده من مكة، والحديبية دونه بكثير إلى مكة، واختلف في الياء الثانية من الحديبية هل هي مخففة أو مشددة، والقولان مشهوران على ما ذكر النووي في "التهذيب"، لأنه قال: الحديبية بضم الحاء وفتح الدال وتخفيف الياء، كذا قاله الشافعي رضي الله عنه وأهل اللغة، وبعض أهل الحديث، وقال أكثر المحدثين بتشديد الياء وهما وجهان مشهوران2 ... انتهى. والحديبية أفضل مواقيت العمرة بعد الجعرانة، والتنعيم، عند الشافعية، ما خلا الشيخ أبا حامد، فإن الحديبية عنده مقدم على التنعيم، والله أعلم بالصواب. الثامن: ذو طوى الموضع الذي يستحب فيه الاغتسال للمحرم، هو على مقتضى ما ذكره الأزرقي: الموضع الذي يقال له بين الحجونين، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: بطن ذي طول: ما بين مهبط ثنية المقبرة التي بالمعلاة إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء مهبط على قبور المهاجرين3 ... انتهى. وفي "صحيح البخاري" ما يؤيد هذا، وصرح به القاضي بدر الدين بن جماعة فيما نقله عنه ابن القاضي عز الدين، على ما أخبرني عنه خالي، وقال النووي: إنه موضع بأسفل مكة في طريق العمرة المعتادة، ويعرف اليوم بآبار الزاهر4 ... انتهى.

_ 1 في الأصل "الحدبة"، وليس بطريق جدة مكان يقال له الحدبة. 2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 81. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 297. 4 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 1: 115 وقال النووي: إن طوى بفتح الطاء على الأفصح، ويجوز ضمها وكسرها، وبفتح الواو المخففة.

وقال الداودي فيما نقله عن صاحب "المطالع": إن ذا طوى هو الأبطح وهو بعيد، والله أعلم بالصواب، وطاؤه مثلثة وهو مقصور، واستحباب الغسل بذي طوى للمحرم هو مذهب الأئمة الأربعة، إلا أن أصحابنا لا يستحبونه للحائض والنفساء، لأنهما لا يؤمران بالطواف عند قدومهما مكة، والغسل شرع لأجل الطواف، والله أعلم. وإنما يطلب من المحرم الاغتسال فيه إذا كان في طريق. التاسع: الردم، الذي ذكر بعض الشافعية أن المحرم يقف عنده للدعاء إذا قدم مكة، وهو ردم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأعلى مكة، وهو معروف عند الناس. وسبب ردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه له: أنه جاء في خلافته السيل المعروف بسيل أم نهشل، فدخل المسجد الحرام وذهب بالمقام عن موضعه، وأخفى موضعه، فشق ذلك على عمر رضي الله عنه وعمل هذا الردم صونا للمسجد1. العاشر: الصفا، الذي هو مبدأ السعي، وهو في أصل جبل أبي قبيس، على ما ذكره غير واحد من العلماء، ومنهم أبو عبيد البكري، والنووي2، وهو موضع مرتفع من جبل له درج، وفيه ثلاثة عقود، والدرج الذي أعلى العقود: أربع درجات، ووراء هذه الأربع ثلاث مصاطب كبار، على قمة الدرج يصعد من الأولى إلى الثانية منهن بثلاث درجات في وسطها، وتحت العقود درجة، وتحتها فرشة كبيرة، ويليها ثلاث درجات، ثم فرشة مثل الفرشة السابقة تتصل بالأرض، وربما علا التراب عليها فغيبت، وعرض الفرشة العليا التي تحت العقود: ذراعان وثلثا ذراع، وعرض الثلاث الدرجات التي بين الفرشتين، ذراعان ونصف ذراع، كل ذلك بذراع الحديد، وتحت الفرشة السفلى التي تتصل بالأرض درج مدفون وهو ثماني درجات، ثم فرشة مثل الفرشة السابقة، ثم درجتان، وتحت هاتين الدرجتين حجر كبير يشبه أن يكون من جبل، وهذا الدرج المدفون لم نره إلا في محاذاة العقد الأوسط من عقود الصفا. والظاهر والله أعلم أن في مقابلة العقدين الأخيرين مثل ذلك. وذرع ما بين وجه العقد الأوسط على الصفا إلى منتهى الدرج المدفون: ثمانية عشر ذراعا بالحديد، وكان تحرير ذلك بحضوري بعد الأمر بالحفر عن الدرج المشار إليها في سابع عشر شوال سنة أربع عشرة وثمانمائة3، وكان ابتداء حفرنا عن ذلك يوم السبت خامس عشر شوال المذكور.

_ 1 والردم هو ما يسمى الآن بالمدعى. 2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 180. 3 إتحاف الورى 3/ 487، 488، العقد الثمين 7/ 264.

وكان الناس يأتون لمشاهدة ما ظهر من الدرج أفواجا أفواجا، وحصل لهم بذلك غبطة وسرور، لأن كثيرا من الساعين لا يرقون في الدرج الظاهر الآن، خصوصا الساعي راكبا، وسبب حفرنا عن ذلك: أنه حال في نفس بعض فقهاء مكة في عصرنا عدم صحة سعي من لم يرق في الدرج الظاهر، لأن بعض متأخري فقهاء الشافعية أشار إلى أن في الصفا درجا مستحدثا ينبغي للساعي الاحتياط بالرقي عليها، إلى أن يستيقن ... انتهى بالمعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك بنصه. وهذا الكلام يوهم أن بعض الدرج الموجود الآن محدث، لأنه ليس هناك درج سواها حتى يحمل الكلام عليها، وذاكرني الفقيه المشار إليه بما حاك في نفسه فقلت له: الظاهر -والله أعلم- أن المراد بالدرج المحدث غير الدرج الظاهر، ويتحقق ذلك بالحفر عنه، فحفرنا حتى ظهر لنا من الدرج ما ذكرناه، ويبعد جدا أن يكون مجموع الدرج المدفون، والظاهر محدثا في غير محل السعي، حتى لا يجري الوقوف عليه في السعي، وإنما المحدث بعض الدرج المدفون، لكونه في غير محل السعي على ما يقتضيه كلام الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ذرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا: مائتا ذراع واثنان وستون ذراعا وثمانية عشر أصبعا1 ... انتهى. والصفا الذي ذكر الأزرقي ذرع ما بينه وبين الحجر الأسود هو محل السعي2 وما ذكره الأزرقي في ذرع ما بين الصفا والحجر الأسود إما أن يكون إلى مبدأ الدرج، أو إلى مبدأ الدرج الظاهر تحت العقود، أو إلى العقود، أو إلى ما وراء ذلك، وفي كل الوجوه نظر غير الوجه الثاني. أما الأول: فلان من الحجر الأسود إلى مبدأ الدرج المدفون: مائتي ذراع وواحدا وعشرين ذراعا وربع ذراع وثمن ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد، مائتي ذراع وثلاثة وخمسين ذراعا بذراع اليد، على ما حررناه، وذلك دون ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين الحجر الأسود والصفا بعشرة أذرع إلا ربع، فدل ذلك على أنه لم يرده لمخالفته المقدار الذي ذكره، والله أعلم. وأما الوجه الثالث: فلأن من الحجر الأسود إلى العقد الوسد الذي بالصفا: مائتي ذراع وثلاثة وسبعين ذراعا بتقديم السين وأربعة أسباع ذراع، على ما حررناه، وذلك يزيد على مقدار ما ذكره الأزرقي عشرة أذرع وخمسة أسباع ذراع وثلاثة أرباع خمس سبع ذراع، فدل ذلك على أنه لم يرده لمخالفته القدر الذي ذكرناه.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 118. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 181.

وأما الوجه الرابع: فالنظر فيه كالنظر في الوجه الثالث، لأنه إذا كان الوجه الثالث غير المراد لما فيه من المخالفة لما ذكره الإمام الأزرقي بسبب الزيادة، فالوجه الرابع غير المراد من باب أولى، لكثرة الزيادة فيه على الزيادة التي في الوجه الثالث، خصوصا إذا قيل إن المراد موضع جدار البيت المشرف على الصفا، فإن من العقد الوسط إليه: سبعة عشر ذراعا بتقديم السين بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد: تسعة عشر ذراعا -بتقديم السين- وثلاثة أسباع ذراع، والله أعلم. وإذا كان في كل من هذه الوجوه نظر، تعين أن يكون المراد الوجه الثاني، لموافقته كلام الأزرقي، لأن من أول الفرشة التي تحت الدرجات الثلاث إلى آخر الفرشة التي فوقها تحت الدرجة التي تحت العقد الوسط: عشرة أذرع باليد، وذلك هو العقد الزائد على ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين الحجر الأسود والصفا، وإنما ذكر الأزرقي ذرع ما بين الحجر الأسود والصفا ليبين أن ما وراء ذلك محل للسعي، والفرشة السفلى المشار إليها من وراء الذرع المذكور فتكون محلا للسعي على هذا، ويصح إن شاء الله تعالى سعي من وقف عليها، فلا يقصر الساعي عنها، ولا يجب عليه الرقي على ما وراءها، والله أعلم. والفرشة المشار إليها: هي التي سبق أن التراب يعلو عليها، وأما الكلام الموهم بخلاف ذلك فهو ما ذكره المحب الطبري في "شرح التنبيه"، لأنه قال: وبني في ذيل الصفا درج، فينبغي أن يحتاط مريد السعي بالرقي عليها، فإن الأرض ربت بحيث يرى البيت من غير رقي ... انتهى. ومن ذلك ما ذكره النووي في "الإيضاح"، لأنه قال: إن من واجبات السعي أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه، حتى لو كان راكبا، واشترط أن تسير دابته حتى تضع حافرها على الجبل أو إليه، حتى لا يبقى من المسافة شيء ويجب على الماشي أن يلصق في الابتداء أو الانتهاء رجله بالجبل، بحيث لا يبقى بينهما فرجة، فيلزمه أن يلصق العقب بأصل ما يذهب منه، ويلصق رءوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، فيلصق في الابتداء بالصفا عقبه، وبالمروة أصابع رجليه، فإذا عاد عكس ذلك، هذا إن لم يصعد، فإن صعد فهو الأكمل، وقد زاد خيرا، وليس الصعود شرطا بل هو سنة متأكدة، ولكن بعض الدرج مستحدث فليحذر أن يخلفها وراءه، فلا يتم سعيه، وليصعد بعد أن يستيقن، وقال بعض أصحابنا يجب الرقي على الصفا والمروة بقدر إقامة، وهذا ضعيف، والصحيح المشهور لا يجب، لكن الاحتياط أن يصعد للخروج من الخلاف ... انتهى. وذكر الأزرقي ذرع ما بين الصفا والمروة، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ومن الصفا إلى المروة طواف واحد: سبعمائة ذراع وستة وستون ذراعا ونصف ذراع.

يكون سبع بينهما: خمسة آلاف وثلاثمائة ذراع وخمسة وستين ذراعا ونصف ذراع1 ... انتهى. وقد حررت أنا ذرع ذلك فجاء من وسط جدار الصفا وهو من محاذاة نصف العقد الوسط من عقود الصفا إلى الدرج الذي بالمروة من داخله: ستمائة ذراع وثلاثة وسبعون ذراعا بتقديم السين وسبعة أثمان ذراع، يكون ذلك بذراع اليد: سبعمائة ذراع وسبعون ذراعا وسبع ذراع، بتقديم السين في السبعمائة ذراع، وفي السبعين، وفي السبع، ومن محاذاة نصف العقد الوسط من عقود الصفا إلى الدرجة العالية بالمروة التي كهيئة الدكة الكبيرة من داخل الدرج: ستمائة ذراع وثمانون ذراعا إلا ثمن ذراع، بذراع الحديد، يكون ذلك باليد سبعمائة ذراع وسبعة وسبعين ذراعا، بتقديم السين في السبعمائة وفي السبعة وفي السبعين. وما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين الصفا والمروة دل على أنه لم يرد به إلى ما وراء الدرج، وإنما مراده: إليه أو ما قرب منه، لأنه لو أراد ما وراء الدرج لم يكن المقدار الذي ذكره موافقا لذلك، لما فيه من النقص عن ذلك، والله أعلم. وما ذكرناه في مقدار ما بين وسط عقود الصفا والدرج الذي بالمروة في اعتبار ذرع ذلك باليد يقرب مما ذكره الأزرقي ثلاثة أذرع ونصف ذراع وسبع ذراع، ولعل الأزرقي لم يعتبر ما ذكره من الموضع الذي اعتبرناه منه، وإنما اعتبر ذلك من طرف العقد الذي يلي العقد الوسط، والله أعلم. وذرع عقود الصفا الثلاثة: أحد وعشرون ذراعا إلا ثمن ذراع بالحديد، وطول الدرجة الأخيرة من درج الصفا السفلى التي تلي الأرض في محاذاة الثلاثة العقود التي بالصفا: اثنان وعشرون ذراعا بالحديد. وذكر النووي أن عرض فتحة الدرج الذي كان على الصف نحو خمسين قدما ... انتهى. وذكر الأزرقي شيئا من خبر درج الصفا والمروة، فنذكر ذلك لإفادته، لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثني أحمد بن محمد، قال: كانت الصفا والمروة يشتد2 فيهما من سعى بينهما، ولم يكن بينهما بناء ولا درج حتى كان عبد الصمد بن علي في خلافة أبي جعفر المنصور، فبنى درجهما التي هي اليوم درجهما، فكان أول من أحدث بناءها، ثم كمل بالنورة في زمن مبارك الطبري وذلك في خلافة المأمون ... انتهى. وذكر الأزرقي أن درج الصفا اثنتا عشرة درجة3.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 120 "يسند". 3 ودرج المروة خمس عشرة درجة. "أخبار مكة للأزرقي 2/ 119" وفي رحلة ابن جبير: ص: 84"، و"أدراج المروة خمسة".

وذكر ابن جبير أن درج الصفا أربع عشرة درجة1. وذكر النووي أن درج الصفا إحدى عشرة درجة2. وسبب هذا الاختلاف أن الدرج يعلو عليها التراب فيخفيها، وما أظن النووي شاهد ما ذكره من عدد درج الصفا، وإنما قلد في ذلك الأزرقي وغيره من المصنفين، لأنه يبعد أن تعلو الأرض من عهد النووي إلى اليوم علوا يغيب به من درج الصفا القدر الذي وجدناه مدفونا، والله أعلم. ويتأييد ذلك بأن سليمان بن خليل قال في الرد على أبي حفص بن الوكيل من الشافعية في إيجابه الرقي على الصفا والمروة، وتعليله إيجاب ذلك بأنه لا يمكنه استيضاح ما بينهما إلا بالرقي عليهما، وقد كان هذا قبل أن يعلو الوادي، لأن الدرج كانت كثيرة، وكان الوادي نازلا حتى أنه كان يصعد درجا كثيرا ليرى البيت حتى قيل: إنه كانت عبر الفرسان في المسعى والرماح قائمة معهم، ولا يرى من في المسجد إلا رؤوس الرماح، فأما اليوم فإنه يرى البيت من غير أن يرقى على شيء من الدرج ... انتهى. ووجه الدلالة من هذا على ما أشرنا إليه أن عصر سليمان بن خليل، وعصر النووي متقاربان، وسليمان مات قبل النووي بنحو خمسة عشر سنة، وإذا كان البيت يرى في عصره من غير رقي على الصفا لعلو الأرض فيكون الحال هكذا في عصر النووي، والله أعلم. الحادي عشر: طريق ضب التي يستحب للحاج أن يسلكها إذا توجه إلى عرفة، وهي طريق مختصر من المزدلفة إلى عرفة في أصل المأزمين عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة، هكذا عرفها الأزرقي، وإنما يستحب للحاج سلوكها، لأنه روي أنه صلى الله عليه وسلم سلكها حين غدا من منى إلى عرفة، نقل ذلك الأزرقي عن بعض أهل المكيين، وروى عن عطاء أنه سلكها، وقال: هي طريق موسى بن عمران3. الثاني عشر: عَرَفَة موضع الوقوف، هي خارج الحرم قريب منه، روينا في تاريخ الأزرقي، ووادي عرنة بالنون4 وفي بعض نسخه: ووادي عرفة بالفاء، ذكر ذلك المحب الطبري في شرحه للتنبيه، وقال هكذا نقلته من نسخة معتنى بها، ووادي عرفة بالفاء وضبطها بفتح العين. وحكاه شيخنا أبو عمرو بن الصلاح أنه قال إلى ملتقى وصيف، ووادي عرنة بالنون، وأكد ذلك فقال بعده: وبطن عرنة ووادي عرنة مضافان إلى عرنة.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 84". 2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 182. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 193. 4 عُرَنَة: بضم أوله وفتح ثانية وثالثه، وهو ما بين العلمين اللذين هما حد عرفة والعلمين اللذين هما حد الحرم.

بضم العين وفتح الراء والنون قال المحب قلت: وفيما ذكره نظر، لأنه أراد تحديد عرفة أولا وآخرا، فجعله من الجبل المشرف على بطن عرنة بالنون، فيكون آخره ملتقى وصيف، وبطن عرفة بالفاء، ولا يصح أن يكون وادي عرفة بالنون، لأن وادي عرنة لا ينعطف على عرفة، بل هو ممتد مما يلي مكة يمينا وشمالا، فكان التقييد بوادي عرفة أصح، والله أعلم، قال: وهذا التحديد يدخل عرنة في عرفة ... انتهى. وقال المحب الطبري أيضا في "القرى": قال الشافعي في الأوسط من مناسكه: وعرفة ما جاوز وادي عرنة وليس الوادي ولا المسجد منها، إلى الجبال المقابلة مما يلي حائط ابن عامر وطريق الحضن، وما جاوز ذلك فليس من عرنة، حكى ذلك صاحب "الشامل"، وحكى الشيخ أبو حامد الأسفراييني الشافعي: أن الشافعي قال في القديم: وعرفة ما بين الجبل المشرف إلى الجبال المقابلة يمينا وشمالا، ثم قال يعني الشيخ أبا حامد الجبل المشرف على بطن عرنة إلى الجبال المقابلة يمينا وشمالا مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحضن، قال المحب الطبري بعد حكايته لذلك قلت: وهذا موافق لما حكاه الشيخ أبو حامد، إلا أنه أضاف الجبل المشرف إلى بطن عرنة فكأنه يشير إلى الجبل الطويل في آخر عرفة. حتى يكون مشرفا على أول عرفة، وهذا مغاير لما ظنه الشيخ أبو حامد أنه جبل الرحمة، وما ذكره في "البيان" هو الصواب. والحمل على جبل الرحمة لا يصح، لأن عرفة يطيف بها، ولو جعلنا الخندمة لخرج ما خلفه من عرفة ولا خلاف عند أهل الخبرة بها أنها منه، ولذلك يقف فيما خلفه من السهل والجبل طوائف من أنواع العرب متطابقين على ذلك من غير إنكار، ويكون ذكره صاحب "البيان" من الإضافة إلى بطن عرفة1 يريد به عرفة موضع الوقوف، ولعله وسطها، حتى يكون بطنا، وربما صحف قوله: بطن عرفة بالفاء، فقيل بطن عرنة بالنون، وظن أن التقييد بالفاء غلط، وليس كذلك، بل هي بطن عرفة بالبفاء، واستدل على ذلك بما يؤيده ... انتهى. قلت: وحد عرفة من جهة مكة الذي فيه هذا الاختلاف الآن بَيّنٌ، وهو علمان بين العلمين اللذين هما حد الحرم إلى جهة عرفة، وكان ثمة ثلاثة أعلام، فسقط أحدهم وهو إلى جهة المغمس وأثره بين، ورأيت عنده حجرا ملقى مكتوبا فيه: أمر الأمير الأصفهسلار الكبير مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل حسام أمير المؤمنين بإنشاء هذه الأعلام الثلاثة بين منتهى أرض عرفة ووادي عرنة، لا يجوز لحاج بيت الله العظيم أن يجاوز هذه الأعلام قبل غروب الشمس. وفيه: كان ذلك بتاريخ شعبان من شهور سنة خمس وستمائة. ورأيت مثل ذلك مكتوبا في حجر ملقى في أحد العلمين الباقيين، وفي هذين العلمين مكتوب، أمر بعمارة علمي عرفات، وأضاف كاتب ذلك: هذا الأمر للمستنصر العباسي، ثم قال: وذلك في شهور سنة أربع وثلاثين وستمائة2.

_ 1 كذا في الأصل. 2 إتحاف الورى 3/ 52.

ذكر مقدار ما بين باب بني شيبة وهذين العلمين

ذكر مقدار ما بين باب بني شيبة وهذين العلمين: من باب بني شيبة إلى العلمين المشار إليهما: أربعون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وأحد وثمانون ذراعا وستة أسباع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: أحد عشر ميلا ونصف ميل وربع سبع يزيد ستة أذرع وستة أسباع ذراع. ومن باب المعلاة إلى العلمين المذكورين: ثمانية وثلاثون ألف ذراع ومائتا ذراع وأربعة وخمسون ذراعا وستة أسباع ذراع بذراع اليد أيضا، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: عشرة أميال وأربعة أخماس ميل وعشر ميل وخمس سبع ميل يزيد أربعة أذرع وستة أسباع ذراع بالذراع المذكور، وذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك على مقتضى الأصول الثلاثة في مقدار الميل، في اعتبار المسافة من باب المعلاة، وفي اعتبار المسافة من باب بني شيبة.

ذكر تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة

ذكر تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة: قد قام على تحريره جماعة من العلماء ولم أر لأحد منهم في ذلك مثل ما رأيت للقاضي بدر الدين بن جماعة، ولذلك اقتصرت هنا على ذكره في ذلك: أخبرني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري رضي الله عليه، قال: أخبرني القاضي عز الدين بن جماعة، قال في منسكه: وينبغي تحري موقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اجتهد والدي تغمده الله برحمته في تعيينه وجمع فيه بين الروايات، فقال: إنه الفجوة المستعلية المشرفة على الموقف، وهي من وراء الموقف صاعدة في الرابية، وهي التي عن يمينها وورائها صخرتان متصلتان بصخر الجبل المسمى بجبل الرحمة، وهذه الفجوة بين الجبل المذكور والبناء المربع عن يساره، وهي إلى الجبل أقرب بقليل، بحيث يكون الجبل قبالة الواقف إذا استقبل القبلة، ويكون طرف الجبل تلقاء وجهه، والبناء المربع عن يساره بقليل. وقال: ذكر والدي رحمه الله أنه وافقه على ذلك من يعتمد عليه من محدثي مكة وعلمائها حتى حصل الظن بيقينه، قال: فإن ظفر بموقف النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في الفضل، وإن خفي عليه وقف بين الجبل والبناء المربع على جميع الصخرات والأماكن التي بينهما لعله أن يصادف الموقف الشريف النبوي فتفاض عليه بركاته ... انتهى.

قلت: البناء المربع المشار إليه في هذا الكلام هو الذي يقال له بيت آدم بعرفة، وكان سقاية للحاج، أمرت بعملها العجوز والدة المقتدر العباسي، على ما هو مكتوب في حجر في حائطها القبلي، ومن ركن هذه السقاية الذي يلي جبل الرحمة من جهة مكة إلى الموضع الذي فيه الآن المحامل بعرفة: مائة ذراع وأحد عشر ذراعا بالحديد، يكون ذلك بذراع اليد: مائة ذراع وستة وعشرين ذراعا وستة أسباع ذراع، ومن موقف المحامل الآن بعرفة إلى ما يقابله من جهة جبل الرحمة: سبعة -بتقديم السين- وثلاثون ذراعا بالحديد، يكون ذلك بذراع اليد: اثنين وأربعين ذراعا وسبعي ذراع. ومن موقف المحامل بعرفة إلى ركن مسجد نمرة الذي يلي عرفة والطريف: ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة ذراع وخمسة وتسعون ذراعا -بتقديم التاء- وربع ذراع يكون ذلك بذراع اليد ثلاثة آلاف وثمانمائة ذراع وستة وسبعين ذراعا -بتقديم السين- وذلك ميل وثلاثة أرباع سبع ميل يزيد ذراعا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع. ومن جدار باب بني شيبة إلى الموضع الذي يقف فيه المحامل الآن بعرفة ثلاثة وأربعون ألف ذراع وثمانية وثمانون ذراعا وسبع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: اثنى عشر ميلا وخمس ميل وعشر ميل وعشر عشر ميل يزيد ثلاثة أذرع وسبع ذراع. ومن عتبة باب المعلاة إلى موقف المحامل الآن بعرفة: أربعون ألف ذراع وتسعمائة ذراع -بتقديم التاء- وإحدى وستون ذراعا وسبع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: أحد عشر ميلا وثلاثة أخماس ميل وعشر ميل وخمس سبع عشر ميل، يزيد ذراعا وسبع ذراع، ولا فضيلة للوقوف على الجبل الذي يقال له جبل الرحمة بعرفة، لأن مالكا رحمه الله كره الوقوف على جبل عرفة، وكان هذا الجبل صعب المرقى فسهله الوزير الجواد الأصفهاني، وبنى فيه مسجدا ومصنعا للماء، والقبة التي فيه الآن جددت في سنة تسع وتسعين وسبعمائة1 بعد سقوطها في التي قبلها، وعمارتها من مال أنفذه الملك الظاهر برقوق صاحب مصر، وما عرفت في أي وقت عمرت هذه القبة بهذا الجبل، وكانت موجودة في سنة تسع وسبعين وخمسمائة على ما ذكر ابن جبير، وذكر أنها تنسب لأم سلمة رضي الله عنها2، والله سبحانه وتعالى أعلم بصحة ذلك.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 406، العقد الثمين 3/ 257، درر الفرائد "ص: 316". 2 رحلة ابن جبير "ص: 153".

ذكر مسجد عرفة وحكم الوقوف فيه

ذكر مسجد عرفة وحكم الوقوف فيه: مسجد عرفة هو الذي يصلي فيه الإمام بالناس يوم عرفة، وما ذكرناه من أنه مسجد عرفة يوافق ما ذكره الأزرقي في غير موضع من كتابه. وذكر المحب الطبري1 أن المتعارف فيه عند أهل مكة وتلك الأمكنة مسجد عرفة بالفاء، وقيل: إنه من عرنة بالنون، وهو موافق لما ذكره الشافعي، كما سبق في حد عرفة، وتقييد ابن الصلاح على ما نقل عنه المحب الطبري، لأنه قال: ويقال له مسجد عرنة بالنون وضم العين، كذلك قيده ابن الصلاح في منسكه، ثم عقب ذلك بقوله: والمتعارف فيه إلى آخر كلامه، وجزم النووي في "الإيضاح" بأن مسجد عرنة بالنون، وذكر ابن الجلاد من أصحابنا المالكية ما يقتضي أنه ليس من عرفة بالفاء، وذكر ابن المواز أن حائط القِبلي على حد عرفة، ولو سقط لسقط في عرفة ... انتهى. وقيل: مقدم هذا المسجد من عرنة بالنون، ومؤخره من عرفة بالفاء، ذكر ذلك جماعة من الأئمة الشافعية الخراسانيين، منهم: الشيخ أبو محمد الجويني، وابنه إمام الحرمين، والقاضي الحسين في تعليقه، والرافعي، قال الشيخ أبو محمد: ويتميز ذلك بصخرات كبار فرشت في ذلك الموضع ... انتهى. وتظهر ثمرة هذا الخلاف في رجل أخر الوقوف به، وتوقف مالك في إجزاء الوقوف بهذا المسجد، وفيه لأصحابنا قولان: المنع لأصبغ، والإجزاء لمحمد بن المواز، وهو مقتضى كلام الشيخ خليل الجندي في مختصره الذي صنفه لبيان ما به الفتوى، مع كراهة الوقوف بهذا المسجد، وما قاله الفقهاء المشار إليهم من أن هذا المسجد كله من عرفة أو بعضه يخالف مقتضى رأي من جعل حد عرفة من جهة مكة الأعلام الثلاثة التي عمرها المظفر صاحب إربل، وعمر منها المستنصر العباسي العلمين الموجودين الآن، لأن فيهما مكتوبا أن صاحب إربل أمر بإنشائهما بين منتهى أرض عرفة ووادي عرفة، ووجه مخالفة ذلك: ما ذكره الفقهاء في هذا المسجد أن من ركن المسجد المشار إليه مما يلي عرفة إلى محاذاة العلمين الموجودين الآن: سبعمائة ذراع -بتقديم السين- وأربعة وسبعين ذراعا -بتقديم السين- أيضا وربع ذراع وثمن ذراع كل ذلك بذراع الحديد يكون ذلك بذراع اليد: ثمانمائة ذراع وخمسة وثمانين ذراعا، ومقتضى كون هذه الأعلام علامة لحد عرفة أن يكون المسجد المشار إليه ليس من عرفة، وكذلك المسافة التي بين المسجد وبين الأعلام المشار إليها، وذلك يخالف ما ذكره الفقهاء المشار إليهم، والله أعلم بالصواب.

_ 1 القرى "ص: 384".

ويقال لهذا المسجد مسجد إبراهيم، وإبراهيم المنسوب إليه هذا المسجد هو الخليل عليه السلام كما هو مقتضى كلام الأزرقي في غير موضع1 وجزم به الرافعي والنووي، وأنكر ذلك القاضي عز الدين بن جماعة، قال: ليس لذلك أصل، وخطأ الشيخ جمال الدين الأستاذ الرافعي، والنووي فيما ذكراه من نسبة هذا المسجد للخليل عليه السلام وذكر أن ابن سراقة سبقهما إلى هذا الخطأ في كتابه "الأعداد"، وفيما ذكره الإسنوي وابن جماعة نظر، لمخالفته ما يقتضيه كلام الأزرقي، وهو عمدة في هذا الشأن، كيف وقد وافقه عليه غير واحد من كبار العلماء، منهم ابن المنذر فيما نقله عنه سليمان بن خليل، والله أعلم. ولم يذكر الأزرقي الوقت الذي بني فيه هذا المسجد. وذكر ابن عبد البر أنه بعد مصير الأمر لني هاشم بعشر سنين، هكذا نقله عن ابن عبد البر الشيخ خليل في توضيحه على مختصر ابن الحاجب، وبه فسر قوله: وإنما حدث بعد بني هاشم بعشر سنين، لأنه يوهم أنه حدث بعد انقراضهم، وعلى هذا فإن هذا المسجد بني في أوائل عشر الخمسين ومائة، والله أعلم2.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202. 2 في مرآة الحرمين: أن مسجد عرفة بناه الوزير محمد بن علي بن المنصور المعروف بالجواد الأصفهاني، في سنة 559هـ كما جاء في كتاب "منائح الكرم" "ص 44 مرآة الحرمين".

ذكر ذرع هذا المسجد وشيء من صفته

ذكر ذرع هذا المسجد وشيء من صفته: طوله من بابه إلى جداره القِبلي: مائة ذراع وأحد وتسعون ذراعا وربع ذراع، وعرضه من وسط جداريه: مائة وأربعون ذراعا إلا ثلث ذراع وارتفاع محرابه: ستة أذرع إلا ثلث، ودخوله في الجدار: ذراعان، وسعة فتحته: ثلاثة أذرع إلا ثمن، والمنبر: عشر درجات مبنية بالحجارة، وارتفاعه إلى الدرجة العليا: أربعة أذرع ونصف، والذراع المشار إليه في هذا الاعتبار هو ذراع الحديد المتقدم ذكره. وهذا المسجد جميعه مكشوف ليس فيه رواق، وقد ذكر الأزرقي في تاريخه صفة هذا المسجد في زمنه1، وذرعه بذراع اليد، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب واقتصرنا على ما ذكرناه هنا من ذرعه لأنه أبلغ في التعريف، وكان تحرر ما ذكرنا بحضوري.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 187 وما بعدها.

ذكر تسمية عرفة بعرفة وما يتعلق بجمعها وصرفها، وحكم الإحياء بها

ذكر تسمية عرفة بعرفة وما يتعلق بجمعها وصرفها، وحكم الإحياء بها: أما سبب تسميتها عرفة: فلتعارف آدم وحواء فيها، لأن آدم عليه الصلاة والسلام أهبط بالهند، وحواء بجدة، فتعارفا بالموقف، قاله الضحاك، وقيل: لأن جبريل عليه السلام عرف الخليل عليه السلام فيها المناسك يوم عرفة وقيل: لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم وقيل: غير ذلك من الأقوال التي ذكرناها في أصل هذا الكتاب، وهي تسعة أقوال، والله أعلم بالصواب. وأما جمعها وصرفها: فذكر جوازه جماعة من العلماء منهم النووي، لأنه قال وجمعت على عرفات وإن كان موضعا واحدا، لأن كل جزء منه يسمى عرفة، ولهذا كانت معروفة كقصبات، قال النحويون: ويجوز ترك الصرف كما يجوز ترك صرف غايات1 وأذرعات على أنها اسم مفرد لبقعة2 ... انتهى. وأما حكم الإحياء بها: فإنه لا يجوز ولا يملك، على ما قال الحسين بن علي الطبري، فيما نقله عنه ابن خليل، وعلل ذلك بأنها متعبد ومنسك لعامة الناس، فصارت كالمساجد. وحكى النووي في ذلك ثلاثة أوجه، قال: والأصح المنع مطلقا، وهذا أشبه بالمذهب ... انتهى. الثالث عشر: عرنة بالنون، الموضع الذي يجتنب الحاج الوقوف فيه، وهو بين العلمين اللذين هما حد عرفة، والعلمين اللذين هما حد الحرم من هذه الجهة وذكر ابن حبيب المالكي أنها من الحرم، وذلك لا يصح على ما ذكر المحب الطبري في "القرى"3، وذكر أنها عند مالك من عرفة، وحكاه ابن المنذر أيضا عن مالك، وفي صحة ذلك عنه نظر، لأنه توقف في إجزاء الوقوف بمسجد عرفة مع كونه مختلفا فيه: هو هو من عرفة أو من عرنة؟ أو بعض من عرفة بالفاء، وبعضه من عرنة بالنون؟ فكيف يرى أن عرنة بالنون كلها من عرفة بالفاء عند مالك؟ ولعل من نسبه إليه أنه يرى أن عرنة بالنون كلها من عرفة بالفاء، أخذ ذلك مما وقع لمالك من إجزاء الوقوف بهذا المسجد، لأن ابن الجلاد ذكر أن الوقوف ببطن عرنة مكروه. قال: ومن وقف به أجزأه وقوفه، قال: وبطن عرنة هو المسجد الذي يصلي فيه الإمام ... انتهى. ولا يلزم من كون مالك يرى إجزاء الوقوف بهذا المسجد أنه يرى عرنة -بالنون- كلها من عرفة -بالفاء- لاحتمال أنه يرى أن هذا المسجد من عرفة بالفاء، لما حصل عنده من ضعف الشبهة التي توقف لأجلها في إجزاء الوقوف بهذا المسجد، والله أعلم. وذكر المحب الطبري أن حد عرفة الذي ذكره الأزرقي عن ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي دخول عرنة في عرفة4.

_ 1 في تهذيب الأسماء: "عامات". 2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 56. 3 القرى "ص: 383". 4 القرى "ص: 384".

وقد سبق في ذكر عرنة ما ذكره الأزرقي في حد عرفة، واستدلال المحب الطبري منه على دخول عرنة في عرفة، ثم قال تلو ذلك: ويؤيد ذلك ما استدل به أصحابنا على أنها ليست منها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وارتفعوا عن بطن عرنة". ولا دلالة فيه على ما قالوه، بل دليل على مذهب مالك، فإن أمره بالارتفاع عنها يشعر بذلك، وتؤيده الرواية الأخرى: "عرفة كلها موقف إلا عرنة"، والاستثناء دليل على دخول المستثنى في المستثنى منه، والاستثناء المنفصل على خلاف الأصل. نعم فيه دليل على اختلاف حكم الوقوف فيه وفي عرفة، وهو عند مالك كذلك، وعلى المذهب: فمتى وقف في شيء من حدود عرفة صح حجه. وإذا وقف في غيره لا يصح حجه ... انتهى. وعرنة بضم العين وفتح الراء المهملة هذا هو المشهور فيها. وقيل: إنها بضم العين والراء. وقيل: بضم العين وسكون الراء، ذكره ابن عبد السلام المالكي في شرحه لابن الحاجب الفرعي. الرابع عشر: قُزَح، الموضوع الذي يستحب فيه للحاج أن يقف عنده غداة يوم النحر، هو مكان بالمزدلفة، وهو المكان الذي يجتمع الناس عنده للدعاء غداة يوم النحر، ويعرف بالمشعر الحرام. أشار إلى ذلك المحب الطبري وغيره، قال في "شرح التنبيه": وقزح بقاف مضمومة ثم زاي مفتوحة ثم حاء مهملة، في وسطه: مزدلفة، ويكثر من التلبية، ويدعو بما تقدم، ولا ينبغي أن يفعل ما تطابق الناس على فعله من النزول بعد الوقوف عليه من درج في وسطه ضيقة يزدحم فيها الناس. وذلك بدعة. بل يكون نزوله من حيث رقيه من الدرج الظاهرة. وذكر الإمام أبو عمرو بن الصلاح: أن قزح جبل صغير من آخر المزدلفة ثم قال: وقد استبدل الناس بالوقوف على الموضع الذي ذكرناه ببناء مستحدث في وسط المزدلفة. ولا يتأدى به هذه السنة، قال المحب: والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل كما تقدم، والمشاهدة تشهد بصحة ذلك، ولم أر ما ذكره لغيره ... انتهى ما ذكره المحب الطبري بنصه، وذكر في كتابه "القرى" مثله1. وذكر النووي في "الإيضاح" أن الأظهر أن للحاج تحصيل السنة بالوقوف على البناء المستحدث. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب صفة البناء الذي على قزح قديما وحديثا، وخبر الوقيد فيه، ونشير هنا إلى شيء من ذلك.

_ 1 القرى "ص: 426".

أما صفة البناء الذي عليه قزح الآن1 فإنه بناء مربع يشبه المنارة، وفي أعلاه اثنتان وعشرون شرافة، منها في الجهة القبلية سبع شرافات، وفي بقية الجهات خمس من كل جهة. وله درج من ظاهره وباطنه. وعدد الذي من ظاهره أربع وعشرون، والذي من باطنه عشرون، وارتفاعه في السماء ثلاثة عشر ذراعا، بذراع الحديد المستعمل في القماش بمصر ومكة. وذلك من الأرض إلى أعلى الشراريف، وارتفاعه من الأرض إلى أعلى السطح بغير الشراريف ينقص عن ذلك ذراعين ونصف تقريبا، وذرع تربيعه من كل ناحية اثنا عشر ذراعا ونصف ذراع، بالذراع المشار إليه، إلا أن الجهة الشرقية منه تنقص عن بقية الجهات ثلث ذراع، وكان اعتبار ما ذكرناه من ذرعه وصفته في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، بحضوري. وصفته هذه تخالف صفته التي ذكرها الأزرقي2، واقتصرنا عليها لكونها أبلغ في تعريفه، ولم أعرف متى بني هكذا. وبناه في الجاهلية قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم، على ما ذكر ابن عبد ربه في "العقد الفريد"3. وأما خبر الوقيد عليه: فإنهم كانوا يوقدون فيه بالشمع في خلافة الرشيد، فلما مات كانوا يوقدون عليه بمصابيح كبار، ثم صاروا يوقدون عليه بمصابيح صغار وفتله دقاق، هذا ملخص ما ذكره الأزرقي في خبر الوقيد عليه، وذكر أنه كان يوقد عليه في خلافة الرشيد النار والحطب4، وما عرفت هل أراد بذلك في الجاهلية أو في الإسلام، والله أعلم. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذرع ما بين قزح وبين باب بني شيبة، وما بين قزح وبين باب المعلاة عند ذكر المشعر الحرام، والأصل في استحباب الوقوف على قزح ما رويناه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجمع 5 أتى قزح فوقف عليه وقال: "هذا قزح وهو الموقف، وجمْعٌ كلها موقف"، أخرجه أبو داود6. والترمذي7 وقال حسن صحيح ... انتهى. الخامس عشر: كداء، الموضع الذي يستحب للمحرم دخول مكة منه، وهو الثنية التي بأعلا8 مكة التي يهبط منها إلى المقبرة المعروفة بالأبطح، ويقال لها الحجون.

_ 1 أي سنة 811هـ وهي السنة التي ذرع الفاسي فيها هذا الموضع، كما سيأتي في المتن. 2 راجع أخبار مكة للأزرقي 2/ 188. 3 لم أجد هذه المعلومة في "العقد الفريد". 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 187. 5 "جمع" بفتح فسكون، هو المزدلفة، سمي بذلك لاجتماع الناس فيه. 6 سنن أبي داود 2/ 193 رقم 1935 كتاب المناسك. 7 الترمذي "885" في الحج "باب ما جاء أن عرفة كلها موقف". وهو فيه طويل. 8 كذا في الأصل.

الثاني. وما ذكرناه في تعريف كداء هذا، ذكر الفاكهي ما يوافقه لأنه قال في تعريفه لما في شق معلاة مكة الشامي كداءك الجبل المشرف على المقبرة والوادي، وله يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه يوم الفتح: عدمت ثنيتي إن لم تروها ... تثير النقع عن كتفي كداء1 وقال الفاكهي بعد أن ذكر شعب المقبرة في هذه الجهة وشيئا من خبره: ومن ثنية المقبرة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع2. وقال بعضهم: قيل: إن ثنية المقبرة هو اسمها، يقال لها: ثنية المقبرة، ويقال اسمها هذا، وهي ثنية المعلاة ... انتهى. ويقال: اسمها كداء، وهو مشعر بتضعيف هذه المقالة، لكونها حكيت بصيغة التمريض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان دخل من هذه الثنية إلى مكة في حجة الوداع تعين أن تكون هذه الثنية كداء، لأن الأخبار وافرة صحيحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حين حج من المدينة دخل إلى مكة من كداء. وفي تاريخ الأزرقي ما يوافق ما ذكره الفاكهي من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من هذه الثنية3، وذلك يقتضي أن تكون هذه الثنية: كداء، للمعنى السابق، والله أعلم. وفي كلام غير واحد من المتأخرين تسمية هذه الثنية كداء، منهم: سليمان بن خليل، والمحب الطبري، والنووي، وقال المحب: هي بالفتح والمد تصرف على إرادة الموضع، وبتركه على إرادة البقعة ... انتهى. وقد ذكر الأزرقي شيئا من خبر هذه الثنية، وهي الآن يحاميم الأحداب التي بين دار السري إلى ثنية المقبرة، وهي التي قبر أمير المؤمنين أبي جعفر بأصلها، قال: يعرفها باليحاميم وأولها القرن الذي بثنية المدنيين على رابية بيوت ابن أبي حسين النوفلي، والذي يليه القرن المشرف على دار منارة الحبشي فيما بين ثنية المدنيين وهي التي كان ابن الزبير مصلوبا عليها، وكان أول من سهلها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثم عملها عبد الملك بن مروان، ثم كان آخر من بنى ضفائرها ودرجها وجدرها4 المهدي ... انتهى. وذكر ذلك الفاكهي إلا أنه لم يجزم بكون معاوية رضي الله عنه أول من سهل هذه الثنية وحكاه بصيغة التمريض، وقال أيضا: ويقال إن ابن الزبير أول من سهلها ...

_ 1 هكذا ورد في النسختين، والصحيح أن روايته هكذا: عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء وسيأتي البيت صحيحا بعد قليل، وفي أخبار مكة للفاكهي كما أثبتناه "4/ 180". 2 أخبار مكة للفاكهي 4/ 179. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 286. 4 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 286: "جددها".

انتهى. فيستفاد مما ذكره الأزرقي والفاكهي قولان في أول من سهل هذه الثنية، والله أعلم بالصواب. وفي سنة إحدى عشرة وثمانمائة1 سهل بعض المجاورين موضعا مستصعبا في رأسها فالله تعالى يثيبه، وسهل أيضا غير من المجاورين بمكة أثابه الله في النصف الثاني من سنة سبع عشرة وثمانمائة طريقا في هذه الثنية غير الطريق المعتاد2، وهذه الطريق تكون على يسار الهابط من هذه الثنية إلى المقبرة والأبطح، وكانت حزنة ضيقة جدا، فتحت ما يليها من الجبل بالمعاول حتى اتسعت، فصارت تسع أربع مقاطير من الجمال محملة، وكانت قبل ذلك لا تسع إلا واحدا، وسهلت أرضها بتراب ردم فيها حتى استوت، وصار الناس يسلكونها أكثر من الطريق المعتادة، وجعل بينهما حاجزا من حجارة مرصوصة، وكان في بعض هذه الطريق قبور فأخفي أثرها. السادس عشر: كدي، الموضع الذي يستحب الخروج منه لمن كان في طريقه: هو الثنية التي بأسفل مكة التي بني عليها بابها المعروف بباب الشبيكة على ما يقتضيه كلام المحب الطبري في "شرح التنبيه" لأنه قال فيه: وكدى التي يخرج منها الحاج مضمومة مقصورة، وقد بني عليها باب مكة الذي يتوجه منه إلى عمرة التنعيم ... انتهى. وباب مكة الذي أشار إليه المحب هو باب الشبيكة، لأن الناس تتوجه منه إلى عمرة التنعيم غالبا. وذكر النووي ما يؤيد ما ذكره المحب الطبري في ضبطها ومكانها، لأنه قال في الإيضاح" في الباب الثالث: الرابعة: السنة أن يدخل مكة من ثنية كداء بفتح الكاف والمد، وهي بأعلى مكة ينحدر منها إلى المقابر، وإذا خرج راجعا إلى بلده خرج من ثنية كدًى -بالضم والقصر والتنوين، وهي بأسفل مكة بقرب جبل قعيقعان، وإلى صوب ذي طوى ... انتهى. وذكر القاضي بدر الدين بن جماعة في منسكه ما يقتضي أن كدى هذه هي الثنية التي عندها الموضع المعروف بقبر أبي لهب بطريق العمرة، ونص كلام ابن جماعة: وإذا يخرج من ثنية كد -بالضم والقصر من أسفل مكة، وهي الثنية التي يخرج إليها من باب مكة المعروف بباب الشبيكة، وهي الثنية التي يخرج منها إلى المرجم المعروف بقبر أبي لهب، يسلك منه إلى الزاهر المتقدم ذكره وغيره، ومنه يخرج المعتمرون ... انتهى. وكلام ابن جماعة هذا يخالف ما قاله المحب الطبري في كدى التي يخرج منها، والمحب الطبري الذي يعتد به في معرفة ذلك، والله أعلم بالصواب.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 465، 466. 2 إتحاف الورى 3/ 522.

ومن هذه الثنية دخل قيس بن سعد بن عبادة يوم فتح مكة على ما ذكر الأزرقي1، وذكر ما يقتضي أن حسان بن ثابت عناها بقوله السابق في كداء بالفتح، وأنشد على غير ما أنشده الفاكهي لأنه قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء2 ... انتهى. وبأسفل مكة ثنية يقال لها: كديّ، بالضم وتشديد الياء وتنوينها، يخرج منها إلى جهة اليمن، ذكر ذلك المحب الطبري، قال: وقد بني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن ويخرجون، هكذا قال في "شرح التنبيه"، وقال في "القرى": والثالثة كدي، بالضم وتشديد الياء مصغر، موضع بأسفل مكة، والأوليان هما المشهورتان، وهذه يخرج منها إلى جهة اليمن، هذا ضبط عن المحققين، ومنهم: أبو العباس أحمد بن عمر العذري، فإنه كان يرويه عن أهل المعرفة بمواضع مكة من أهلها، حكاه عنه الحميدي3 ... انتهى. وما ذكره من أنه بني على الثنية التي يقال لها كدي بالتصغير باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن ويخرجون، يخالف ما يقوله الناس فيها، لأنهم يذكرون أنها الثنية التي يهبط منها إلى خم، وخم: شعب مشهور، وليس هو خم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عند غديره: "من كنت مولاه فعلي مولاه" الوارد في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه موضع عند الجحفة، وبينها وبين باب مكة الذي أشار إليه المحب الطبري غلوتان، والله أعلم. وممن ذكر هذا الموضع سليمان بن خليل، لأنه قال: وأما كدي بالتصغير بضم الكاف وفتح الدال، فإنه جبل بأسفل مكة يخرج منها إلى اليمن ... انتهى. وما ذكرناه في ضبط كداء العليا، وكدي السفلى التي بني عليها باب الشبيكة هو الصواب، وضبط بعضهم العليا بالضم، وهذه السفلى بالفتح، ونسب النووي قائل ذلك إلى الغلط والتصحيف4 وذكر صاحب "المطالع" ما يشهد لمن ضبط العليا بالضم، ولكن المشهور فيها الفتح، والله أعلم. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن بأعلى مكة موضعا آخر يقال له كداء غير كداء الذي هو ثنية المقبرة، لأنه قال: كداء: الجبل المشرف على الوادي مقابل مقبرة أهل مكة، اليوم

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 286. 2 البيت من قصيدة مطلعها: عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء 3 القرى "ص: 254". 4 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 123، 124.

تحته بيوت عبد الرحمن بن يزيد، وابن خلف مولى العباس بن محمد، وهو ممتد إلى دار الأراكة ... انتهى1، ذكر هذا في تعريفه لما في شق معلاة مكة اليماني، وذكر ما سبق في كداء الذي هو ثنية المقبرة في شق معلاة مكة الشامي، وتغاير الجهتين يقتضي مغايرة المكانين، وذكر في موضع آخر ما يقتضي أن كدا موضعا بأعلى مكة غير كداء الذي هو ثنية المقبرة، ولم يتعرض لضبط ذلك، فتصير المواضع أربعة، اثنان لا تعلق لهما بالمناسك، واثنان لهما تعلق بالمناسك، وهما كداء الذي هو ثنية المقبرة، وكدي الذي هو في طريق المدينة، وإنما استحب الخروج منه والدخول إلى مكة من آذاخر، لكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع، وأما في فتح مكة فدخل صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر بأعلى مكة، على ما ذكره ابن إسحاق في سيرته، والأزرقي، وذكر موسى بن عقبة ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح من كداء بأعلى مكة، وكذلك الزبير بن العوام رضي الله عنه2، والله أعلم بالصواب. وأما في عمرته في الجعرانة فدخل صلى الله عليه وسلم مكة من أسفلها وخرج من أسفلها، كذا في خبر ذكره الفاكهي بإسناده، وفيه من لم أعرفه، والله أعلم. السابع عشر: المأزمان اللذان يستحب للحاج أن يسلك طريقهما إذا رجع من عرفة، هو الموضع الذي تسميه أهل مكة الآن: المضيق بين المزدلفة وعرفة، قال صاحب "المطالع" المأزمان مهموز مثنى، قال ابن شعبان: هما جبلا مكة وليس من المزدلفة ... انتهى. وقال النووي في "التهذيب" والمأزمان جبلان بين عرفات ومزدلفة بينهما طريق. هذا معناهما عند الفقهاء فقولهم: على طريق المأزمين أي الطريق التي بينهما، وأما أهل اللغة فقالوا: المأزم الطريق الضيق بين جبلين"3 ... انتهى باختصار. وذكر المحب الطبري معنى ذلك، قال: وأنكر بعض الناس على الفقهاء ترك همز المأزمين وعده لحنا، وهذه عبارة غير محررة، فإن ترك الهمز في المثال جائز باتفاق أهل العربية، فمن همز فهو الأصل، ومن لم يهمز فعلى التخفيف، فهما فصيحان ... انتهى. وذكر الأزرقي أن ذرع ما بين مأزمي عرفات مائةٌ ذراع واثنا عشر إصبعا، وذكر ذلك ابن خليل هكذا

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 145. وقال محقق الكتاب: وأرى أن وجود هذه الترجمة وهم من النساخ لا أنسبه للفاكهي؛ لأن ما هو مذكور في شرح الترجمة سيذكره الفاكهي في "ثنية كدي"، ودار الأراكة ودار ابن خلف مولى العباس ذكرهما الفاكهي وحدد موضعهما على "ثنية كدي". 2 السيرة النبوية للإمام المعافري 4/ 91. 3 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 148.

قلت: ومن أول هذين المأزمين مما يلي المزدلفة إلى العلمين اللذين هما حد عرفة اثنا عشر ألف ذراع وثلاثة وتسعون -بتقديم التاء- وثلاثة أسباع بذراع اليد المتقدم، وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك بالأميال على مقتضى الأقوال الأربعة في مقداره، ومن أول هذين المأزمين مما يلي المزدلفة إلى العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة ثمانية آلاف ذراع وتسعمائة ذراع -بتقديم التاء- واثنان وعشرون ذراعا، وذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك بالأميال، ولذلك تركنا ذكره هنا. الثامن عشر: "محسر" الموضع الذي يستحب الإسراع فيه، هو واد بين منى والمزدلفة على حدهما، وليس منهما، أشار إلى ذلك النووي في "الإيضاح"، والمحب الطبري في "القرى"، وذكر أن في حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أنه من منى، والحديث في الصحيحين. ونقل صاحب "المطالع" ما يدل على أن بعض "محسر" من منى، وبعضه من المزدلفة، وصوب ذلك. وذكر سليمان بن خليل، والمحب الطبري ما يدل على أن "محسر" الموضع الذي يقال له وادي النار، وهو مشهور بذلك إلى الآن، ويقال ذلك أيضا للموضع الذي ينزله الآن بنو حسن بمنى، وبينه وبين محسر فلوات، ولعل ذلك لقربه من محسر، والله أعلم. ويقال لمحسر: المهلل؛ لأن الناس إذا وصلوا إليه في حجهم هللوا فيه وأسرعوا السير في الوادي المتصل به، والمهلل المشار إليه مكان مرتفع عنده بركتان معطلتان بلحف قرن جبل عال، ويتصل بهما آثار حائط ويكون ذلك كله على يمين الذاهب إلى عرفات ويسار الذاهب إلى منى. ولما عرفه ابن صلاح قال: وأول محسر من القرن المشرف من الجبل الذي على يسار الذاهب إلى منى. ثم قال: وأهل مكة يسمونه وادي النار ... انتهى. وكون محسر عند الموضع الذي يقال له: المهلل، أمر مشهور عند الناس، والله أعلم. ويتأيد لذلك بأن من رأس المهلل إلى منتهى منى من جهة مكة، فهو طرف العقبة التي هي حد منى سبعة آلاف ذراع ومائة ذراع وتسعة -بتقديم التاء- وثلاثين ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد، وذلك يقارب ما ذكره الأزرقي في قدر منى، وهو على ما ذكر سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع1.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186.

وذكر المحب وابن خليل: أنه سمي محسرا لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيا. قلت: وفي ذلك نظر، لأن ابن الأثير ذكر في "نهاية الغريب" أن هذا الفيل لم يدخل الحرم، ذكر ذلك في مادة حبس، عند قوله: حبسها حابس الفيل1. وذكر الأزرقي أن وادي محسر خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا2 ... انتهى. واتفق الأئمة الأربعة على استحباب الإسراع فيه قدر رمية حجر للراكب والماشي. وحكى الرافعي وجها ضعيفا أن الماشي لا يستحب له الإسراع، والأصل في استحباب الإسراع في هذا المكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فيه، وجاء في بعض الأحاديث ما يقتضي خلاف ذلك، لكن الأحاديث في الإسراع أكثر وأصح، وقدمت على ما خالفها لأنها مثبتة، واختلف في تحريكه صلى الله عليه وسلم راحلته في هذا الموضع فقيل: يجوز أنه فعل ذلك لسعة الموضع، وقيل: إنه فعل ذلك لأجل أن مأوى الموضع للشياطين، فاستحب صلى الله عليه وسلم الإسراع فيه، ولعله المشار إليه بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أفاض من عرفة إلى المزدلفة: إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها ومحسر بميم مضمومة ثم حاء مفتوحة ثم سين مشددة مكسورة ثم راء مهملة هكذا ضبطه النووي وغيره. التاسع عشر: المحصب3 الذي يستحب للحاج النزول فيه بعد انصرافه من منى، وهو مسيل بين مكة ومنى، وهو أقرب إلى مكة بكثير، وقد صرح الأزرقي بحده من جهة مكة، ووقع في كلامه ما يوهم حده من جهة منى، ونص كلامه: وحد المحصب من الحجون مصعدا في الشق الأيسر وأنت ذاهب إلى منى إلى حائط خرمان، مرتفع على بطن الوادي4 ... انتهى. والحجون المشار إليه في هذا الحد هو الجبل المتقدم ذكره، وقد تقدم لنا أنه أحد الجبلين اللذين بينهما الشعب الذي تسميه الناس: شعب العفاريت، بالمعلاة على يمين الذاهب إلى منى، ويعرف أحد الجبلين بجبل ابن عمر، لأن فيه ما يقال قبر عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو الذي على يمين الداخل إلى الشعب المشار إليه،

_ 1 النهاية لابن الأثير باب الحاء مع الباء. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 189، 190. 3 المحصب: بالضم ثم بالفتح وصاد مهملة مشددة، اسم المفعول من الحصباء، والحصب هو الرمي بالحصى، وهو مسيل ماء بين مكة ومنى. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 160.

وإذا تقرر أن الحجون بهذا المكان، فيكون ذلك حد المحصب من جهة مكة، كما هو مقتضى كلام الأزرقي المتقدم ذكره. ووقع للشيخ تقي الدين بن الصلاح في منسكه، والشيخ محيى الدين النووي في إيضاحه وغيره، والشيخ محب الدين الطبري في "القرى" ما يوهم أن حد المحصب من جهة مكة دون الموضع الذي أشرنا إليه في تفسير الحجون. ونص كلام ابن الصلاح: والمحصب بالأبطح، وهو ما بين الجبل الذي عنده مقبرة أهل مكة إلى الجبل الذي يقابله مصعدا في الشق الأيسر، وأنت ذاهب إلى منى مرتفعا عن بطن الوادي، وليست المقبرة منه، وإنما سمي المحصب لأن السيل يجمع فيه الحصباء ... انتهى. وكلام النووي والمحب مثل هذا ... انتهى. وللقاضي عز الدين بن جماعة في منسكه الكبير في حد المحصب كلام مثل هذا ولا تضاد بين ما ذكرناه في كون حد المحصب من جهة مكة الموضع الذي ذكرناه في تفسير الحجون، وبين ما قاله ابن الصلاح، ومن ذكر من العلماء أن المقبرة ليست من المحصب لأن سواد هؤلاء العلماء المشار إليهم أجمعوا على التحديد بالجبل الذي عنده مقبرة أهل مكة، في تعريفهم المحصب: الجبل الذي على يسار الهابط من ثنية كداء بفتح الكاف والمد، فإن مقبرة أهل مكة عنده، أو الجبل الذي على يمين الهابط من الثنية المشار إليها، فإن عنده أيضا مقبرة لأهل مكة، وأيهما كان المراد، فهو يقابل الموضع الذي ذكرناه في تفسير الحجون، فيكون هذا الموضع حد المحصب من جهة مكة، ويكون ما حاذاه من المقبرة مستثنى من عرض المحصب لا من طوله، ويتفق كلام هؤلاء من جهة مكة عند ابن الصلاح، ومن قال بقوله من الأئمة المشار إليهم، دون الموضع الذي أشرنا إليه في حد المحصب، وأن المقبرة غير داخلة في حده طولا، لقالوا حده من جهة مكة طرف المقبرة من أعلاها، ولم يحتاجوا إلى التنبيه على أن المقبرة لا تدخل فيه، فإن هذه العبارة وما شابهها يقتضي ذلك، ولكن لما كان المحصب من جهة مكة الموضع الذي أشرنا إليه ولم يكن في محاذاته سوى أحد الجبلين اللذين بينهما الثنية المشار إليها، قالوا في تعريفه: هو ما بين الجبل الذي عنده مقبرة أهل مكة، والجبل المقابل له؛ يعنون الحجون واستثنوا المقبرة مما بين الجبلين، لأن موضعهما ليس محصبا لمزدلفة، فإن المحصب هو ما سهل من الأرض لأن العلماء فسرو المحصب بأنه الموضع الذي يجتمع فيه حصب من السيل، وموضع المقبرة ليس بهذه الصفة، ويدل لصحة هذا التأويل أن المحصب هو الأبطح، والبطحاء على ما قال المحب الطبري، ولا ريب في كون الموضع الذي أشرنا إليه من الأبطح، والله أعلم.

وأما حد المحصب من جهة منى: فوقع في كلام الأزرقي ما يوهم أنه إلى حائط خرمان، وهو الأودان المعروفة بالخرمانية بأعلى المعابدة، ولفظ الأزرقي الذي أوهم كون هذا الموضع حد المحصب قوله في الحد السابق إلى حائط خرمان، ويحتمل أن لا يكون تعرض لحده، وإن أراد أن الموضع الذي ينزل من المحصب يكون على يسار الذاهب إلى منى، وعلى يسار الذاهب إلى حائط خرمان، وهو أقرب والله اعلم، لأني وجدت في كلام منقول عن الشافعي ما يقتضي أن حد المحصب من جهة منى جبل المقبرة وهو بقرب السبيل الذي يقال له سبيل الست، وطريق منى إلى جهته لا إلى جهة منى ونص الكلام الذي رأيته للشافعي في ذلك على ما نقل سليمان بن خليل في منسكه، قال الشافعي رضي الله عنه: المحصب ما بين الجبلين، جبل المقبرة، والجبل الآخر وهو على باب مكة بالأبطح، هكذا نقل الشيخ أبو حامد في التعليق ... انتهى من منسك ابن خليل، وهو يقتضي أن حد المحصب من جهة جبل المقبرة، وجبل العيرة حد الميل الثاني من الأميال التي ذكرها الأزرقي، فيما بين باب بني شيبة وموقف الإمام بعرفة، لأنه قال لما ذكر هذه الأميال: والميل الثاني في حد جبل المقبرة، وقال في موضع آخر: المقبرة الجبل الذي عند الميل على يمين الذاهب إلى منى ... انتهى. وقد اعتبرنا من باب بني شيبة إلى السبيل الذي يقال له سبيل الست فجاء ميلين، كل ميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، فاستفدنا من هذا أن جبل المقبرة عند هذا السبيل، وأنه حد المحصب من جهة منى، والله أعلم. وأما قول صاحب المطالع": المحصب بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب، فليس بظاهر، وقد نبه على ذلك النووي، والله أعلم، والمحصب هو خَيْف بني كنانة التي تقاسمت فيه قريش على الكفر. العشرون: المروة، الموضع الذي هو منتهى السعي، هو في أصل جبل قعيقعان، على ما قال أبو عبيد الله البكري، وقال النووي: إنها أنف من جبل قعيقعان1. وذكر سليمان بن خليل سبب تسمية الصفا والمروة، وكذلك المحب الطبري ونص ما ذكره سليمان بن خليل: وقال جعفر بن محمد: نزل آدم عليه السلام على الصفا، وحواء على المروة فسمي الصفا باسم آدم المصطفى، وسميت المروة باسم المرأة، وهي الصخرة الملساء، وجمع المروة المروات بمثل تمرة وتمرات. ونص ما ذكره المحب الطبري في شرح التنبيه: والصفا مقصور، وهو في الأصل: جمع صفا، وهو: الصخرة الملساء، والحجر الأملس، والمروة في الأصل: الحجر

_ 1 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 181.

الأبيض البراق، وقيل: الذي يقدح منه النار، فسمي الجبلان بذلك لتضمنهما هذا المعنى، والله أعلم ثم قال: وقد بني على الصفا والمروة أبنية حتى سترتهما، بحيث لا يظهر منهما شيء غير يسير في الصفا، قال: والمروة أيضا في وجهها عقد كبير مشرف، والظاهر أنه جعل علما لحد المروة، وإلا كان وضعه ذلك عبثا، وقد تواتر كونه حدا بنقل الخلف عن السلف، وتطابق الناسكون عليه، فينبغي للساعي أن يمر تحته ويرقى على البناء المرتفع عن الأرض ... انتهى. وذكر الأزرقي، والبكري في درج المروة ما يخالف حالها اليوم، أما الأزرقي فإنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: قلت: البناء المرتفع الذي أشار إليه المحب كهيئة الدكة، وله درجة ذكر وذكر ذرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا، وذرع ما بين الصفا والمروة: وعلى المروة خمس عشرة درجة1 ... انتهى. وذكر في هذه الترجمة درج الصفا، ونص كلامه على الصفا اثنتي عشرة درجة من حجارة ... انتهى. وذكر البكري في درج المروة مثل ما ذكره الأزرقي. وذكر ابن جبير أن درج المروة خمس درجات2، وذكر النووي أن فيها درجتين، والذي فيها الآن واحدة. والعقد الذي بالمروة جدد بعد سقوطه في آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في التي بعدها، وعمارته هذه من جهة الملك الظاهر برقوق3، صاحب مصر، واسمه مكتوب بسبب هذه العمارة في أعلى هذا العقد، وفي الصفا أيضا، وما أظن أن عقد الصفا بني، وإنما أظن أنه نور وأصلح، وسبب ترددي في ذلك أني رحلت من مكة في آخر سنة إحدى وثمانمائة رحلتي الثانية إلى الديار المصرية والشامية. ومن تحت هذا العقد4 إلى أول درجة الدركة التي بالمروة داخل العقد: سبعة أذرع، ومن تحت العقد الذي بالمروة إلى الذي يستدبره مستقبل القبلة: ثمانية عشر ذراعا وثلثا ذراع، كل ذلك بذراع اليد، واتساع هذا العقد ستة عشر ذراعا بذراع الحديد المصري. والمروة أفضل من الصفا على ما قاله شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وتلميذه الشهاب القرافي، لكونها تزاد من الصفا أربعا، والصفا لا يزاد منها إلا ثلاثا، وما كانت العبادة فيه أكثر فهو أفضل. وذكر القاضي عز الدين بن جماعة أن في ذلك نظرا، وقالوا: لو قيل بتفضيل الصفا لأن الله سبحانه وتعالى بدأ به لكان أظهر، ولو قيل بتفضيل المروة باختصاصها بالنحر والذبح دون الصفا لكان أظهر مما قالاه، والله أعلم ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119. 2 رحلة ابن جبير ص " 84". 3 توفي برقوق عام 801هـ. 4 إتحاف الورى 3/ 416.

الحادي والعشرون: المزدلفة، الموضع الذي يؤمر الحاج بنزوله والمبيت فيه بعد دفعه من عرفة ليلا، هو ما بين مأزمي عرفة ومحسر، ومأزمي عرفة هو الذي يقال له المضيق، وقد ذكر حد المزدلفة بما ذكرناه جماعة من العلماء، منهم: عطاء كما في تاريخ الأزرقي عنه1، والإمام الشافعي في كتابه "الأم"، لأنه قال: المزدلفة حدها من حيث يفيض من مأزمي عرفات إلى أن يأتي قرن محسر، هكذا على يمينك وشمالك من تلك المواطن القوائل، والظواهر، والنجاد، والوادي، كل ذلك من المزدلفة ... انتهى. وسميت مزدلفة لازدلاف الناس إليها، أي اقترابهم، وقيل: لمجيء الناس إليها زلفا من الليل، أي ساعات، وقيل غير ذلك، ويقال للمزدلفة: جمع سميت بذلك لاجتماع الناس بها، وقيل: لاجتماع آدم وحواء فيها، وقيل: لجمع الصلاتين فيها. وبها مسجد حول قزح، وهو صغير مربع ليس بالطويل الحيطان، طوله إلى جهة القبلة ستة وعشرون ذراعا إلا ثلث ذراع غير أن الجهة التي عن يسار المصلي تنقص في الطول عن الجهة اليمنى خمسة أذرع إلا ثلث ذراع، وعرضه اثنان وعشرون ذراعا، وفي قبلته محراب فيه حجر مكتوب فيه: أن الأمير يلبغ الخاصكي جدد هذا المكان بتاريخ ذي القعدة سنة ستين وسبعمائة2. وقد ذكر الأزرقي صفة مسجد المزدلفة وذرعه3، وذكرنا كلامه بنصه في أصل هذا الكتاب، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرع هذا المسجد بحضوري، والذراع الذي حررناه به هو ذراع الحديد المتقدم ذكره، وطول المزدلفة من حدها الذي يلي منى، وهو طرف وادي محسر إلى حد مزدلفة الذي يلي عرفة، وهو أول المأزمين مما يلي المزدلفة سبعة آلاف ذراع وسبعمائة ذراع وثمانون ذراعا وأربعة أسباع، ومن جدار باب بني شيبة إلى حد مزدلفة من جهة منى ومكة عشرون ألف ذراع وخمسمائة ذراع وسبعة أذرع -بتقديم السين- وثلاثة أسباع ذراع، يكون ذلك أميال على القول بأن الميل ثلاثة ألاف ذراع وخمسمائة ذراع: خمسة أميال وستة أسباع ميل يزيد سبعة أذرع -بتقديم السين- وثلاثة أسباع ذراع، ومن باب المعلاة إلى حد المزدلفة المشار إليها ثمانية عشر ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وثمانون ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك أميالا على القول

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 191، 192. 2 وفي سنة 842هـ أمر السلطان جقمق الأمير سودون بتعمير هذا المسجد، وفي سنة 874هـ في سلطة السلطان قايتباي أمر أمير مكة الشريف محمد بن بركات بتبيضه، وفي سنة 1072هـ عمره سليمان بك والي جدة من قبل السلطان محمد الفاتح. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186 وما بعدها.

بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: خمسة أميال وربع ميل يزيد خمسة أذرع وثلاثة أسباع ذراع، والله أعلم. الثاني والعشرون: المشعر الحرام الذي يستحب للحاج الوقوف عنده للدعاء والذكر، غداة يوم النحر، هو موضع معروف بالمزدلفة، وهو قزح الذي تقدم ذكره وحديث جابر رضي الله عنه الطويل يدل على أن المشعر الحرام موضع من المزدلفة لا كلها، لأنه قال فيه بعد أن ذكر نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ومبيته بها، وصلاته فيها الصبح: ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا وكبر وهلل ووحد، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا ودفع قبل أن تطلع الشمس1. وفي حديث علي رضي الله عنه السابق عند ذكر قزح ما يؤيد ذلك2، لأن قزح هو المشعر الحرام، والله أعلم. وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما: المشعر الحرام المزدلفة كلها، ومثله في كثير من كتب التفسير، في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] فهو محمول على المجاز، أشار إلى ذلك المحب الطبري، والأفصح في المشعر الحرام فتح الميم، وكسرها لغة، حكاه الجوهري وغيره، ولم ترد إلا بالفتح، ومعنى المشعر الحرام أي الذي يحرم فيه الصيد وغيره، ويجوز أن يكون معناه ذا الحرمة، والله أعلم. وأحدث وقت بني فيه المشعر الحرام فيما علمت سنة تسع وخمسين وسبعمائة3، أو في التي بعدها. ومن جدار باب بني شيبة إلى جدار المشعر الحرام الذي يلي مكة المكرمة خمسة وعشرون ألف ذراع وسبعمائة ذراع -بتقديم السين- وثمانية أذرع وأربعة أتساع ذراع ومن عتبة باب المعلاة إلى حد المشعر الحرام الذي يلي مكة ثلاثة وعشرون ألف ذراع، وستمائة ذراع وواحد وثمانون ذراعا وأربعة أسباع ذراع، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: ستة أميال وخمسة أسباع ميل ونصف عشر ميل، يزيد ستة أذرع وأربعة أسباع ذراع، والله أعلم. الثالث والعشرون: المطاف المذكور في كتب الفقهاء، وهو ما بين الكعبة ومقام إبراهيم الخليل عليه السلام وما يقارب ذلك من جميع جوانب الكعبة، وقد أشار إلى

_ 1 أخرجه مسلم "1218" في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو داود "1905، 1907، 1908، 1909" في المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي 5/ 143، 144ن في الحج وابن ماجه "3974" في المناسك باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 سنن أبي داود "1935"، والترمذي "885" في الحج. 3 إتحاف الورى 3/ 274، العقد الثمين 5/ 40.

تعريفه بما ذكرناه الشيخ أبو محمد الجويني فيما نقله عنه ابن الصلاح في منسكه، لأنه قال: قال الشيخ أبو محمد: المطاف المعتاد الذي يستنكر ويستبعد مجاوزته هو ما بين الكعبة والمقام، ومن كل جانب في العادة أمارات منصوبة لا يكاد الناس يخرجون عنها ... انتهى. قلت: وهذا الموضع مفروش بالحجارة المنحوتة حول الكعبة من جوانبها، وعمل ذلك دفعات، حتى صار على ما هو عليه اليوم، وكان مصيره هكذا في سنة ست وستين وسبعمائة، والمعمول منه في هذه السنة جانب كبير جدا، وهاتان العمارتان من جهة الملك الأشرف شبعان صاحب مصر1. وعمر المطاف من ملوك مصر: الملك المنصور لاجين المنصوري2، واسمه مكتوب بسبب ذلك في رخامة بين الركن اليماني والحجر الأسود، وعمره من الخلفاء: المستنصر العباسي في سنة إحدى وثلاثين وستمائة3، واسمه مكتوب بسبب ذلك في الحفرة التي عند باب الكعبة. قد بين الفاكهي أول من فرش الحجارة في موضع الطواف ومقدار ذلك، وما كان يضع في موضعه، لأنه قال: ذكر فرش الطواف بأي شيء هو، قال بعض المكيين: إن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما بنى الكعبة وفرغ من بنائها وخلقها وطلاها بالمسك، وفرش أرضها من داخلها، بقيت من الحجارة بقية، ففرش بها حول المطاف كما يدور البيت نحوا من عشرة أذرع، وذلك الفرش باق إلى اليوم، إذا جاء الحاج في الموسم، جعل على تلك الحجارة رمل من رمل الكثيب الذي بأسفل مكة يدعى كثيب الرمضة، وذلك أن الحجبة يشترون له مدر ورملا كثيرا فيجعل في الطواف، ويجعل الرمل فوقه، ويرش بالماء حتى يتلبد، ويؤخذ بقية ذلك الرمل فيجعل في زاوية المسجد الذي يلي باب بني سهم، فإذا خف ذلك الرمل والمدر أعادوه عليه ورشوا عليه الماء حتى يتلبد، فيطوف الناس عليه، فيكون ألين على أقدامهم في الطواف، فإذا كان الصيف وحمي ذلك الرمل من شدة الحر فيؤمر غلمان زمزم وغلمان الكعبة أن يستقوا من ماء زمزم في قرب، ثم يحملونها على رقابهم حتى يرش به رمل الطواف فيتلبد ويسكن حره، وكذلك أيضا يرشون الصف الأول، وخلف المقام كما يدور الصف حول البيت ... انتهى. وقد اعتبر بعض أصحابنا بحضوري مقدار ما بين منتهى ذلك وبين الكعبة المعظمة من جميع جوانبها، فكان مقدار ما بين الحجر الأسود وطرف البلاط المحاذي له على

_ 1 إتحاف الورى 3/ 304، العقد الثمين 5/: 10، 11. 2 تولى السلطنة سنة 696 وقتل سنة 698هـ "البداية والنهاية 13/ 348- 14/ 3". 3 إتحاف الورى 3/ 50، العقد الثمين 3/ 325، وفيه أن العمارة كانت سنة 635هـ.

الاستواء في الجهة اليمنية خمسة وعشرين ذراعا إلا ثلث ذراع، وما بين الحجر الأسود وطرف البلاط المحاذي لوسط مقام الحنابلة اثنتين وعشرين ذراعا وثلث ذراع، وما بين الحجر وجدار زمزم ثلاثون ذراعا وثلثي ذراع، وما بين الركن الشامي الذي يقال له العراقي وآخر تدوير المطاف المسامت له إلى الجهة الشرقية أربعة وعشرون ذراعا ونصف، ومن الركن الشامي إلى آخر البلاط المحاذي له في الجهة الشامية سبعة وثلاثون ذراعا وربع ذراع، وما بين الركن الغربي وآخر البلاط المحاذي له من الجهة الشامية والغربية ثلاثون ذراعا، وما بين نصف الجهة الغربية من الكعبة وآخر البلاط المقابل له من الجهة الغربية تسعة وعشرون ذراعا إلا ثلث ذراع، وما بين الركن اليماني وآخر البلاط المقابل له من جهته اليمنى سبعة وعشرون ذراعا وثلث ذراع، وكذلك ما بين وسط الجهة اليمانية من الكعبة وآخر البلاط المحاذي له، والذراع المحرر به هو الذراع الحديد المتقدم ذكره. وينبغي للطائف أن لا يخرج عن هذا المكان في طوافه، لأن في "الجواهر" لابن شاش على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه: لا يطوف من وراء زمزم ولا من وراء السقائف، فلو فعل مختارا أعاد، ما دام بمكة، فإذا رجع إلى بلده فهل يجزيه الهدي أم يلزمه الرجوع؟ للمتأخرين قولان ... انتهى، ونحوه لابن بشير، وابن الحاجب في مختصره، وقد بسطنا هذه المسألة في أصل هذا الكتاب، والسقائف، أروقة المسجد الحرام. وأما مقدار الطواف بالكعبة: فذكره الأزرقي، وسليمان بن خليل وبينهما في ذلك اختلاف، لأن الأزرقي ذكر أن طواف سبع بالكعبة ثمانمائة ذراع وستة وثلاثون ذراعا وعشرون أصبعا1 ... انتهى. وذكر سليمان بن خليل أن ذرع موضع الطواف مائة ذراع وسبعة أذرع ... انتهى. وما ذكره سليمان بن خليل في مقدار موضع الطواف يقتضي أن يكون الطواف بالكعبة: سبعمائة ذراع وتسعة -بتقديم التاء على السين- وأربعين ذراعا، وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في مقدار ذلك: سبعة وثمانين ذراعا وعشرين إصبعا، والله أعلم بالصواب. وذكر ابن خرداذبه ما يوافق ما ذكره ابن خليل، لأنه قال: ودور البيت مائة ذراع وسبعة أذرع2 ... انتهى، ولعل ابن خليل قلده في ذلك، والله أعلم.

_ 1 وذرع جميع الكعبة مكسرا: أربعمائة ذراع وثمانية عشر ذراع. "أخبار مكة للأزرقي 1/ 290". 2 المسالك والممالك "ص: 133".

الرابع والعشرون: منى الموضوع الذي يؤمر الحاج بنزوله والإقامة به حتى تطلع الشمس على ثبير، في يوم عرفة، وفي يوم النحر، وفيما بعده من أيام التشريق، والمبيت به في ليالي أيام التشريق، والمبيت به في ليالي التشريق، لأن رمي الجمار هو من أعلى العقبة التي فيها الجمرة التي تلي مكة المعروفة بجمرة العقبة، إلى وادي محسر، وقد حد منى بذلك عطاء بن أبي رباح، فيما ذكره عنه الفاكهي، لأنه قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني يحيى بن محمد ثوبان، عن رباح عن الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء قال: حد منى رأس العقبة مما يلي منى إلى النحر1 ... انتهى. وقوله: إلى النحر تصحيف صوابه إلى محسر، لأنه حد منى من جهة المزدلفة على ما قال غير واحد من العلماء، ولم يقل أحد إن النحر حد بمنى، وما ذاك إلا لبعد حدها عن محسر وقربه إلى حد منى من جهة مكة. وفي تاريخ الأزرقي عن عطاء ما يوافق ما ذكرنا أنه الصواب، والله أعلم، وما ذكرناه عن عطاء نفهم أن أعلى العقبة من منى. وذكر الإمام الشافعي رضي الله عنه ما يقتضي أن العقبة ليست من منى، لأنه قال: وحد منى ما بين قرى وادي محسر إلى العقبة التي عندها الجمرة الدنيا إلى مكة، وهي جمرة العقبة التى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها، وليست محسرا، ولا العقبة من منى، وسواء سهل ذلك وجبلها، وعامرها وخرابها، فأما الجبال المحيطة بجانبيها مما أقبل منها على منى فهو منها، وما أدبر من الجبال فليس منها ... انتهى. هكذا نقل عنه سليمان بن خليل في منسكه. وقال المحب بعد أن ذكر في حد منى، معنى هذا: والعقبة التي ينسب إليها الجمرة منه2، قلت: كلام المحب الطبري في "القرى" صريح في أن جمرة العقبة من منى. ونقل عنه ابن جماعة في منسكه على ما أخبرني عنه خالي أنه قال: إن العقبة من منى، ولم يقل عن أحد أن الجمرة ليست من منى ... انتهى. وهذا يخالف ما يقتضيه كلام الشافعي، والنووي من أن العقبة ليست من منى، والله أعلم بالصواب. وقد ذكر الإمام الأزرقي في ذرع منى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: وذرع منى من جمرة العقبة إلى وادي محسر سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع، وعرض منى عن مؤخر المسجد الذي يلي الجبل إلى الجبل3 بحذائه العقبة ستة وعشرون ذراعا، وعرض الطريق الأعظم حيال الجمرة الأولى، وهي الطريق الوسطى ثمان وثلاثون

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 246. 2 القرى "ص: 430". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185 "الجبل الذي".

ذراعا1، ثم قال: وذرع الطريق طريق العقبة على الجدار إلى الجدار الذي بحذائه سبعة وستون ذراعا، وعرض الطريق الأعظم من العقبة المدرجة: ستة وثلاثون ذراعا2. وذكر الفاكهي أن الطريق الوسطى طريق النبي صلى الله عليه وسلم التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر من قزح إلى جمرة العقبة ولم تزل أئمة الحج تسلكها حتى تركت سنة المائتين3 ... انتهى باختصار. واختلف في سبب تسمية منى4، فقيل: لما بها من الدماء المشروعة في الحد بمنى، أي يراق ويصب، وهذا هو المشهور الذي قاله جمهور العلماء من أهل اللغة وغيرهم على ما قال النووي5، وقيل: لِمَنِّ الله عز وجل على الخليل بفداء ابنه فيها، وقيل: لِمَنِّ الله تعالى فيها بالمغفرة على عباده، وهذان القولان في "منسك ابن خليل". وقيل: لاجتماع الناس بها: والعرب تقول لكل مكان يجتمع فيه الناس منى، ذكره الفاكهي بهذا اللفظ، وقيل غير ذلك من الأقوال التي ذكرناها في أصل هذا الكتاب. واختلف في صرف منى، واقتصر ابن قتيبة في "أدب الكاتب" على أنها لا تصرف6، واقتصر الجوهري في "الصحاح" على أن منى مصروف، والأجود فيه، الصرف على ما ذكر النووي، وقال إنها بكسر الميم. وقد بسطنا هذه المسألة أيضا في أصل هذا الكتاب. ومنى علم لمكان آخر غير منى، كما ذكر أبو الفرج الأصبهاني صاحب "الأغاني" لأنه أنشد أبياتا للبيد بن ربيعة أولها: عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها7 ثم قال: عفت: درست، ومنى: موضع في بلاد بنى عامر ليست بمكة.

_ 1 أخبار مكة 2/ 186. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185. 3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 307. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186. 5 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 157. 6 تهذيب الأسماء 2/ 2: 157، نقلا عن أدب الكاتب "ص: 231". 7 الأغاني 15/ 378.

ذكر حكم البناء بمنى

ذكر حكم البناء بمنى: أخبرني إبراهيم بن محمد الدمشقي1 سماعا بالمسجد الحرام أن أحمد بن أبي طالب أخبره قال: أخبرنا ابن اللتي قال: أخبرنا أبو الوقت قال: أخبرنا الداوودي قال: أخبرنا ابن حمويه قال: أخبرنا عيسى بن عمر قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أخبرني إسحاق قال: أخبرنا وكيع قال: أخبرنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهاك، عن أمه مسيكة وأثنى عليها خيرا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا يظلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، إنما هو مناخ من سبق". أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بهذا الإسناد، ولفظه: قال: قلت: يا رسول الله ألا نبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا إنما، هو مناخ من سبق" 2. أخبر به أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي. قال أبو اليمن ابن عساكر3 بعد إخراجه لهذا الحديث: ومفهوم هذا الخطاب يدل على أنه لا يجوز إحياء شيء من مواتها، ولا تملك جهة من جهاتها فلا ينبغي لأحد أن يختص بمكان من أماكنها دون غيره، فيحظر عليه حظارا أو يتخذه دارا، بل الناس في النزول بها شرع واحد وأهل مكة وسواهم في ذلك سواء، قال الله سبحانه وتعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] الضمير في قوله "فيه" مختلف فيه بين أهل العلم، فمن قال أراد به جميع الحرم وهو الأكثر منع من جواز إحياء مواتها وتملكها، ومن ملك منها شيئا قبل ذلك كان هو وسواه في منافعه سواء، فلا يجوز له بيعه ولا كراؤه، ثم قال: ومن تأول الآية على المسجد أجاز بيع دورها وكراءها، وبه قال أبو يوسف والشافعي، وكره مالك رحمه الله على جميعهم البيع والكراء. وفي جواز إحياء موات عرفة ومزدلفة اختلاف بين أهل العلم، وما ذكرناه من منى أولى بالمنع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو مناخ لمن سبق" وإنما في كلام العرب لإثبات المذكور ولنفي ما سواه، والله سبحانه وتعالى أعلم ... انتهى باختصار من كلامه عن بعض ما استدل به على عدم الاختصاص في ذلك. وقال المحب الطبري في "القرى" لما تكلم على هذا الحديث، وقد احتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها، ثم قال: قلت: فيحتمل أن يكون ذلك مخصوصا بمنى لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها، فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد اقتطاع موضع فيها للبناء ولا غيره، بل الناس فيها سواء، وللسابق حق السبق، وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة إلحاقا بها ... انتهى. وجزم النووي في "المنهاج" من زوائده بأن منى ومزدلفة لا يجوز إحياء مواتها كعرفة، والله أعلم ... انتهى.

_ 1 هو: برهان الدين أبو بكر إبراهيم بن محمد بن صديق الدمشقي الصوفي المؤذن بالجامع الأموي بدمشق نزيل الحرم. ويعرف بابن الرسام. توفي سنة 806هـ "الضوء اللامع 1/ 147، 148". 2 مسند أحمد 6/ 187، 206. 3 هو: عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسين أمين الدين الدمشقي المكي. مات سنة 686هـ "لحظ الألحاظ" ص: 81، 82.

ونقل عن الشافعي أنه بنى بمنى مضربا ينزل فيه أصحابه إذا حجوا، روى عنه ذلك أبو ثور، وهو أحد رواة القديم، وتمسك به بعضهم على جواز البناء بمنى. وفي العمل به على تقدير صحته عن الشافعي نظر لأمرين: أحدهما: أن الشافعي قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والحديث الوارد في النهي عن البناء بمنى تقوم به الحجة، لأن الترمذي حسنه، وأبا داود سكت عنه، فهو فى معنى الصحيح لقيام الحجة به على ما هو مقرر في علم الحديث، فالشافعي حينئذ يقول به ويصير ذلك مذهبه وصحبه، ومثل هذا لا ينكر، لأنه وقع للنووي مثله في غير مسألة، ولعله لحظ هذا فيما ذكره من عدم جواز إحياء موات منى ومزدلفة، مع قياسهما على عرفة لمشاركتهما لعرفة في علة الحكم، والله أعلم. والأمر الثاني: أنه لا ريب في أن الشافعي على تقدير ثبوت بنائه بمنى لم يكن يحجز بناءه على أحد، ولا يأخذ على النزول فيه أجرا، وأن بناءه بمنى لأجل الارتفاق به من جهة الظل وصيانة الأمتعة، وشبه ذلك فلا يقاس عليه من لم يقصد ببنيانه إلا الاختصاص بنزوله وأخذ الأجرة على نزوله، كما هو الغالب من أحوال أهل العصر، وإلحاق من هو بهذه الصفة لمن حسنت نيته عند الشافعي لا يحسن، والله أعلم. وسمعت قاضي الحرم جمال الدين أبا حامد بن ظهيرة1 أبقاه الله تعالى إن جدي لأمي قاضي مكة أبا الفضل النويري رحمه الله كان ينكر البناء بمنى ويشدد فيه، وينهى أشد النهي ... انتهى بالمعنى. وأما ما أفتى به الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الشافعي مؤلف "مختصر الروضة" من أن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها فإن ذلك غير سديد نقلا ونظرا، وأما النقل فلمخالفته مقتضى الحديث، وكلام النووي، وابن عساكر، والمحب الطبري، وغيرهم، وأما النظر، فلأن أعظم ما يمكن أن يتمسك به في ذلك كون موات الحرم يجوز إحياؤهن ومنى من الحرم، فيملك ما أحيا فيها ويجري فيه أحكام الملك، وهذا لا يستقيم لأن في منى أمرا زائدا يقتضي عدم إلحاقها بموات الحرم، وهو كونها متعبدا ونسكا لعامة المسلمين، فصارت كالمساجد وغيرها من المسبلات، وما هذا شأنه لا اختصاص فيه لأحد إلا بالسبق في النزول لا بالبناء، إذ هو ممتنع فيه، فالبناء بمنى ممتنع حينئذ، ولا يملك، ولا يكون كغيره مما يصح تملكه، ويجري حكم البناء بمنى على حكم البناء بعرفة لمساواتها لعرفة في السبب الذي لأجله امتنع البناء بعرفة على الأصح، فمنى كذلك، والله أعلم.

_ 1 هو محمد بن عبد الله بن ظهيرة قاضي مكة وفقيهها وناظر حرمها وأوقافها والحسبة بها وشيخها في الفتوى والتدريس. ولد سنة 751 ومات سنة 817هـ. "لحظ الألحاظ 253- 255، الضوء اللامع 8/ 92-95 رقم 194".

ما جاء في فضل منى وما ذكر فيها من الآيات

ما جاء في فضل منى وما ذكر فيها من الآيات: أما فضل منى فمشهور، ولم نذكره إلا للتبرك به، وقد تقدم منه ما ذكرناه عند ذكر مسجد الخيف، ومنه ما رويناه في "صحيح ابن حبان" وغيره من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنت بين الأخشبين من منى -ونفخ بيده نحو المشرق- فإن هناك واديا يقال له: وادي السرر، به سرحة سر تحتها سبعون نبيا" ... انتهى باختصار. قال المحب الطبري بعد أن أخرج هذا الحديث: شرح قوله: سرر تحتها أي قطعت سررهم، والسرر ما تقطعه القابلة من المولود، والباقي مع القطع يقال له السرة، والمقطوع السَّرر والسُّرر، والمراد أنهم ولدوا تحت تلك السرحة، والموضع الذي هي فيه يسمى وادي السرر بضم السين، وقيل بفتحها وقيل بكسرها، والراء مفتوحة في الأحوال الثلاثة1 ... انتهى. ولم يبين المحب موضع هذا الوادي وما عرفته أنا أيضا، وأخشبا منى: الجبلان اللذان هما بينهما، وهما ثبير الذي على يسار الذاهب إلى عرفة وما يليها، والصفائح وهو الذي يلحقه مسجد الخيف. وأما الآيات التي بمنى فخمس آيات منها: رفع ما يقبل من حصى الجمار بمنى، ولولا ذلك لسد ما بين الجبلين. وقد روينا في رفع المتقبل من ذلك أخبار، منها ما رويناه بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي قال: حدثنا يحيى بن سليم عن ابن خثيم عن أبي الطفيل قال: قلت له يا أبا الطفيل هذه الجمار ترمى في الجاهلية والإسلام كيف لا يكون هضابا يسد الطريق؟! قال: سألت عنها ابن عباس فقال: إن الله عز وجل وكل بها ملكا، فما يقبل منه رفع، وما لم يتقبل منه ترك2، ورويناه في تاريخ الأزرقي في رفع ما يقبل من حصى الجمار عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري. وقال المحب الطبري في "شرح التنبيه": وقد أخبرني شيخنا أبو النعمان بشير بن أبي بكر حامد التبريزي شيخ الحرم الشريف ومفتيه أنه شاهد ارتفاع الحجر عيانا، واستدل المحب على صحة ذلك، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب، وذكر هذه الآية شيخنا القاضي مجد الدين قال: وقد خمنت مرة فاقتضى قياس العقل والحساب وعدد السنين

_ 1 القرى "ص: 540". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 176، 177.

والأعوام التي حج فيها البيت، ورميت الجمار أن يكون المتراكم عند كل جمرة من الحصى ما يوازي مساحة خمسين ذراعا في مثلها في وجه الأرض، ويرتفع في العلو ارتفاع جبل ثبير، ولكن لله عز وجل فيها سر كريم من أسراره الخفيات لا إله سواه ... انتهى. ومن الآيات التي بمنى اتساعها للحجاج في أيام الحج مع ضيقها في الأعين عن ذلك، روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني محمد بن يحيى قال: أخبرنا سليم بن مسلم عن عبد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يسأل عن منى، ويقال له: عجبا لضيقه في غير الحج، فقال ابن عباس: إن منى يتسع بأهله كما يتسع الرحم للولد1. ومنها: كون الحدأة لا تخطف اللحم بمنى أيام التشريق. ومنها: أن الذباب لا يقع في الطعام، وإن كان لا ينفك عنه في الغالب، كالعسل وشبهه، ذكر هاتين الآيتين المحب الطبري مع آية الجمار، ونص كلامه: الثانية أن الحدأة مع تولعها بخطف اللحم حيث رأته حتى لو رأت بيد إنسان خرقة حمراء انقضت عليه حتى تخطفها منه، وفي منى اللحم مشرق على الجدارات والأسطحة والجبال، والحدأة تحوم حوله ولا تستطيع أن ترزأ أصحابه منه شيئا. الثالثة: أن الطعام الحلو المقتضي لاجتماع الذباب في الأمكنة الخالية يكثر بمنى في أيام منى، ولا يقع الذباب على شيء منه، فضلا عن غيره من الأطعمة، ولو أكل في غير هذه الأيام بمنى أو غيرها ما يهنأ الإنسان لكثرة اجتماع الذباب عليه، هذا مما شاهدناه مكررا في أعوام ... انتهى. ومن الآيات التي بمنى في أيام الحج: قلة البعوض بها على ما ذكر أبو سعيد الملا في "شرف النبوة" فيما حكى عنه شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى"، لأنه قال: وقال أبو سعيد في "الوفا بشرف المصطفى" صلى الله عليه وسلم: كنت ليلا بمنى في غير أيام الموسم وكنت ساهرا أكثر الليل أتأذى من البعوض، فلما كان من الغد سألت بعض أهل الحرم عن البعوض فقال: جميع السنة يكون كثيرا إلا أيام منى فإنه يقل فيها ... انتهى بنصه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر مقدار ما بين منى ومكة: ومنى ستة أميال، وتعقب ذلك النووي قال: إن بينهما ثلاثة أميال، وجزم بذلك في غير موضع من كتبه2، وذكر المحب الطبري في "القرى" أن منى من مكة على أربعة أميال3، ذكر ذلك في الترجمة التي ذكر فيها اتساع منى

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 179. 2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 157. 3 القرى "ص: 543".

وأسماءها: وقد حررنا ذلك بالأذرع، والأميال على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل، فأما مقدار ما بين باب بني شيبة ومنى بالأذرع فإنه ثلاثة عشر ألف ذراع وثلاثمائة وذراع وثمانية وستون ذراعا، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وأربعة أخماس ميل وخمس عشر ميل ينقص ذراعين. وما مقدار ما بين باب المعلاة وحد منى من جهة مكة، فهو أحد عشر ألف ذراع ومائة ذراع، وأحد وأربعون ذراعا وسبع ذراع، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وخمس ميل وخمس خمس عشر ميل، يزيد ذراعا وسبع ذراع. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ما بين باب بني شيبة ومنى، وما بين باب المعلاة ومنى بالأميال على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل. الخامس والعشرون: الميلان الأخضران اللذان يهرول الساعي بينهما في سعيه بين الصفا والمروة: هما العلمان اللذان أحدهما: بركن المسجد الذي فيه المنارة التي يقال لها: منارة باب علي، والآخر: في جدار المسجد الذي يقال له: باب العباس، والعلمان المقابلان لهذين العلمين: أحدهما في دار عباد بن جعفر، ويعرف اليوم بسلمة بنت عقيل، والآخر في دار العباس، ويقال لها اليوم: رباط العباس، ويسرع الساعي إذا توجه من الصفا إلى المروة إذا صار بينه وبين العلم الأخضر الذي بالمنارة المشار إليها، والمحاذي له نحو ستة أذرع، على ما ذكر صاحب "التنبيه" وغيره، قال المحب الطبري في شرحه للتنبيه: وذلك لأنه أول محل الأنصاب في بطن الوادي، قال المحب الطبري في شرحه للتنبيه: وذلك لأنه أول محل الأنصاب في بطن الوادي، وكان ذلك الميل موضوعا على بناء، ثم على الأرض في الموضع الذي شرع منه ابتداء السعي، وكان السيل يهدمه ويحطمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولم يجدوا على السنين أقرب من ذلك الركن، فوقع متأخرا عن محل ابتداء السعي بستة أذرع ... انتهى. وذكر سليمان بن خليل نحو ذلك بالمعنى، وسبقهما إلى نحو ذلك إمام الحرمين أبو المعالي الجويني رحمه الله ولم يذكر الأزرقي سبب هذا التغيير مع كونه ذكر أن بالمنارة المشار إليها علم السعي، وهذا يقتضي أن يكون التغيير المشار إليه وقع في عصره أو قبله، ويبعد أن يكون لتغيير ذلك سبب، ولا يذكره الأزرقي، كما يبعد خفاء سبب ذلك عليه، إلا أنه كثير العناية بهذا الشأن، والله أعلم. ومقتضى ما ذكره من إسراع الآتي من الصفا إلى المروة قبل هذا العلم بنحو ستة أذرع، أن الساعي إذا قصد الصفا من المروة لا يزال يهرول حتى يجاوز هذين العلمين بنحو ستة أذرع، لأجل العلة التي شرع لأجلها الإسراع في التوجه إلى المروة، والله أعلم.

وذكر الأزرقي صفة هذه الأعلام: وأن ذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس رضي الله عنه عرض المسعى: خمسة وثلاثون ذراعا ونصف، وقال: من العلم الذي على باب دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى العلم الذي عند دار ابن عباد الذي بحذاء العلم الذي في حد المنارة وبينهما الوادي: مائة ذراع وأحد وعشرون ذراعا1. يعني طول ما بين هذين العلمين لا عرض ما بينهما، وقد حررنا مقدار ما بين هذه الأعلام طولا وعرضا، وذلك أن من العلم الذي في حد باب المسجد الحرام المعروف بباب العباس عند المدرسة الأفضلية إلى العلم الذي يقابله في الدار المعروفة بدار العباس: ثمانية وعشرون ذراعا إلا ربع ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد إحدى وثلاثين ذراعا وخمسة أسباع ذراع، وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في مقدار هذين العلمين. ومن العلم الذي بالمنارة المعروفة بمنارة باب علي إلى الميل المقابل له في الدار المعروفة بدار سلمة: أربعة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع وقيراطان، بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد سبعة -بتقديم السين- وثلاثين ذراعا ونصف ذراع وسدس سبع ذراع، ومن العلم الذي بباب المسجد المعروف بباب العباس إلى العلم الذي بمنارة باب علي: مائة ذراع وثلاثة أذرع وربع ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك باليد مائة ذراع: وثمانية عشر ذراعا. ومن الميل الذي بدار العباس إلى الميل الذي بالدار المعروفة الآن بدار سلمة ستة وتسعون ذراعا -بتقديم التاء- وثلث ذراع بالحديد، يكون ذلك باليد مائة ذراع وعشرة أذرع وثلثي سبع ذراع1. وذكر الأزرقي أن من العلم الذي على باب المسجد إلى المروة خمسمائة ذراع ونصف ذراع. وقد حررنا مقدار ما بين العلم المشار إليه والأزج الذي بالمروة، فكان ذلك أربعمائة ذراع واثنين وتسعين ذراعا -بتقديم التاء- وثلث ذراع بذراع اليد، وحررنا ما بين العلم الذي بالمنارة ووسط عقد الصفا، فكان من سمت الميل الذي بالمنارة إلى عقود الصفا: مائة ذراع وستين ذراعا بذراع اليد. وذكر الأزرقي ما يقتضي أن موضع السعي فيما بين الميل الذي بالمنارة والميل المقابل له لم يكن مسعى إلا في خلافة المهدي العباسي بتغيير موضع السعي قبله في هذه الجهة، وإدخاله في المسجد الحرام في توسعة المهدي له ثانيا، لأنه قال: حدثني

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119.

جدي قال: لما بنى المهدي المسجد الحرام، وزاد فيه الزيادة الأولى: اتسع أعلاه وأسفله وشقه الذي يلى دار الندوة والشامي، وضاق شقه اليماني الذي يلي الوادي والصفا، فكانت الكعبة في شق المسجد، وذلك أن الوادي كان داخلا لاصقا بالمسجد في بطن المسجد اليوم، قال: وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه في موضع الوادي اليوم، إنما كان موضعه دور الناس وإنما كان ذلك من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي، ثم يسلك في زقاق ضيق، حتى يخرج إلى الصفا من التفات البيوت فيما بين الوادي والصفا. وكان السعي في موضع المسجد الحرام اليوم، وكان باب دار محمد بن عباد بن جعفر عند جدار ركن المسجد الحرام اليوم، عند موضع المنارة الشارعة في بحر الوادي، فيها علم المسعى، وكان الوادي يمر دونها في موضع المسجد الحرام اليوم. ثم قال الأزرقي بعد أن ذكر شيئا يتعلق بالزيادة، في هذا الجانب: فابتدءوا عمل ذلك في سنة سبع وستين ومائة، واشتروا الدور وهدموها، فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العائذي، وجعلوا المسعى والوادي فيها1 ... انتهى. والظاهر والله أعلم أن إجراء المسعى بموضع السعي اليوم، وإن كان تغير بعضه عن موضع المسعى قبله لتوالي الناس من العلماء وغيرهم على السعي بموضع المسعى اليوم، ولا خفاء في تواليهم على ذلك، كما لا خفاء في شهرة كتاب الأزرقي شرقا وغربا، وإحاطة العلماء المتأخرين بما فيه، سيما علماء الحرم، ولو سلم أن من تأخر عن الأزرقي لم يعلموا بما في كتابه، فهو معروف عند علماء الحرم وغيرهم ممن وقع ذلك التغيير في زمنهم لمشاهدتهم له، وما حفظ عن أحد منهم إنكار لذلك، ولا أنه سعى في غير المسعى اليوم، وحال من بعد هؤلاء العلماء كحالهم، إلا في عدم مشاهدتهم لتغيير ذلك، فيكون إجزاء السعي بمحل المسعى اليوم مجمعا عليه عند من وقع التغيير في زمنهم وعند من بعدهم. والله أعلم. السادس والعشرون: نمرة، الموضع الذي يؤمر الحاج بنزوله إذا توجه من منى في يوم عرفة، وهو بطن عرنة، بالنون، على ما ذكره ابن خليل في منسكه. وقال المحب الطبري في "القرى": ونمرة بفتح النون وكسر الميم وبراء مهملة، موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمين الخارج من المأزمين، أي الموقف، وقد كانت عائشة تنزل بها، ثم تحولت إلى الأراك، قاله ابن المنذر2. وقال في "شرح التنبيه": ونمرة، بفتح النون وكسر الميم، موضع عند الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الوقوف، وتحت جبل

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78- 80. 2 القرى "ص: 147".

نمرة غار أربعة أذرع أو خمسة، ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزله يوم عرفة حتى يروح إلى الموقف، ومن الغار إلى مسجد عرفة ألفا ذراع وأحد عشر ذراعا. وقال البغوي وغيره: وهي موضع قريب من عرفة. وقال ابن الصباغ: هي من عرفة، والمشهور أنها ليست منها، وعليه الأكثر ... انتهى. وقال النووي: ونمرة موضع معروف بقرب عرفات، خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات، وقال: وهو بفتح النون وكسر الميم1. ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها، فتبقى ثلاثة أوجه في نظائرها ... انتهى. وقيل: إن نمرة هذه من الحرم، روي عن سفيان بن عيينة، حكاه عن الماوردي في حاويه، على ما ذكر المحب الطبري في "القرى"، لأنه قال: وذكر الماوردي في كتابه "الحاوي" عن سفيان بن عيينة، أن قريشا كانوا لا يخرجون من الحرم في يوم عرفة، ويقفون بنمرة دون عرفة في الحرام2 ... انتهى باختصار، ذكر ذلك المحب الطبري في كتابه "القرى" في الباب العاشر، وقال بعد أن حكى عن سفيان بن عيينة ما ذكرناه، ثم قوله: إن نمرة من الحرم فيه نظر، وكلام الجمهور يدل أنها ليست منه3 ... انتهى. وذكر الأزرقي ما يوافق ما ذكره سفيان في نمرة، لأنه روى عن ابن عباس خبرا فيه ذكر الحمس وشيء من خبرهم، وفيه: يقصرون عن مناسك الحج، والموقف من عرفة، وهو من المحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة بمفضى المأزمين، يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة ... انتهى. ونمرة أيضا: موضع آخر بقديد، ذكره المحب في "القرى" ... انتهى، والله أعلم.

_ 1 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 177. 2 القرى "ص: 147". 3 أخبار مكة 1/ 180، 181.

الباب الثالث والعشرون

الباب الثالث والعشرون: ذكر المدارس بمكة المشرفة: المدارس الموقوفة بمكة إحدى عشرة مدرسة فيما علمت: منها بالجانب الشرقي من المسجد الحرام: مدرسة الملك الأفضل عباس ابن الملك المجاهد صاحب اليمن، على فقهاء الشافعية، وقفت قبيل سنة سبعين وسبعمائة بتقديم السين فيهما وفي هذه السنة ابتدأ التدريس بها1. ومنها بالجانب الشامي منه: مدرسة بدار العجلة، وهي التي على يمين الخارج من باب المسجد المعروف بباب العجلة، ولم أدر من وقفها ولا متى وقفت؟ ثم عمل فيها الآمر أُرْغُون النائب درسا للحنفية قبيل العشرين وسبعمائة أو بعدها بيسير، في أوائل عشر الثلاثين وسبعمائة. ومنها بالجانب الغربي منه: ثلاث مدارس، وهي: مدرسة الأمير فخر الدين عثمان بن علي الزنجيلي نائب عدن، على باب العمرة، وتعرف الآن بدار السلسلة، وقفها على الحنفية سنة تسع وسبعين وخمسمائة2، ومدرسة طاب الزمان الحبشية عتيقة المستضيء العباس، وهو الموضع المعروف بدار زبيدة، وقفتها في شعبان سنة ثمانين وخمسمائة على عشرة من الفقهاء الشافعية3.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 309. 2 إتحاف الورى 2/ 549، العقد الثمين 6/ 35، ورحلة ابن جبير "ص: 146- 149". 3 إتحاف الورى 2/ 553، العقد الثمين 8/ 261.

ومدرسة الملك المنصور عمر بن علي ابن رسول، صاحب اليمن بين هاتين المدرستين وعمارتها في سنة إحدى وأربعين وستمائة1 على يد الأمير فخر الدين الشلاج أمير مكة، من قبل واقفها، ولأبيه الملك المظفر عليها وقف جيد، وربما نسبت إليه، وهي على الفقهاء الشافعية والمحدثين. ومنها بالجانب الجنوبي منه: مدرسة الملك المجاهد صاحب اليمن، على الفقهاء الشافعية، وتاريخ وقفها في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة2. ومنها بالجانب اليماني أيضا: مدرسة الملك الممدوح بجميع الصفات، مغيث أهل الحرمين الشريفين بجزيل الصلات، مولانا السلطان الملك المنصور غياث الدين3 أبي المظفر أعظم شاه ابن السلطان السعيد الشهيد إسكندر شاه ابن السلطان شمس الدين المغفور صاحب بنجاله بلغه الله آماله وهي على الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، فكان المتولي لشراء عرضتها وعمارتها ووقفها من ندبه لذلك وغيره من مصالحها التي تذكر، وفوض إليه هذا النظر: خادمه المسكين، ونعته الأمين، الجانب العالي الافتخاري ياقوت السلطاني الغياثي، لا زالت الخيرات على يديه جارية، والنعم عليه متوالية، وكان الشراء لعرصتها والنخيل وسقيه يوقف عليها، ويأتي ذكرها باثني عشر ألف مثقال في أول شهر رمضان من سنة ثلاثة عشرة وثمانمائة، ثم أعيد عقد البيع على ذلك في شهر شوال من السنة المذكورة لموجب اقتضاه الحال، وفي شهر رمضان المذكور ابتدئ في هدم ما كان في موضعها من الأبنية، وفيه أيضا ابتدئ في بنائها، وفرغ من ذلك في آخر صفر سنة أربع عشرة وثمانمائة. وفي شهر ربيع من هذه السنة وجمادي الأولى منها بيض باطنها والصهريج الذي في جوفها وغالب ظاهرها، وعمل فيها أيضا كثيرا مما يطلب عمله في العمائر، وأحكمت منها العمارة، فاستحسنها ذوو البصائر، وكان وقفها في السابع عشر من المحرم سنة أربع عشرة4، بعد الفراغ من عمارة سفلها وغالب علوها، وقرر واقفها فيه أربعة من المدرسين، وهم قضاة مكة الأربعة يومئذ،

_ 1 إتحاف الورى 3/ 60، العقد الثمين 3/ 324، 325. 2 في "منتخب شفاء الغرام ص 104" تعريف بالمدارس الثلاث خلافا لما هنا، وهي كما ذكرها: مدرسة الأمير فخر الدين عثمان بن علي الزنجيلي نائب عدن، وقفها على الحنفية سنة 579هـ، ومدرسة طاب الزمان الحبشية وقفتها عام 580هـ على فقهاء الشافعية، ومدرسة الملك المنصور صاحب اليمن عمرها سنة 641هـ على يد الأمير فخر الدين الشاج أمير مكة. 3 قال السخاوي في ترجمته: "إنه ابتنى بمكة عند باب أم هانئ مدرسة صرف عليها وعلى أوقافها اثني عشر ألف مثقال مصرية، وقرر بها دروسه للمذاهب الأربعة، وانتهت، ودرس فيها في جمادى الآخرة سنة أربعة عشرة" ... "الضوء اللامع 2/ 313 رقم 992". 4 إتحاف الورى 3/ 485- 489، والعقد الثمين 3/ 320، 321.

وستين نفرا من المتفقهين، عشرين من الشافعية، وعشرين من الحنفية، وعشرة من المالكية، وعشرة من الحنابلة، وجعل الإيوان الغربي محل تدريس المالكية والحنابلة، وجعل لوقف المنازل التي تعلوها وهي إحدى عشرة خلوة محلا لسكنى جماعة من الفقراء، خلا واحدة منها فإنه جعلها خاصا للمدرسة المذكورة. وكان ابتداء التدريس فيها في يوم السبت سابع جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وثمانمائة على الحالة التي قدرت حين الوقف في تعيين أوقات التدريس بها في أيام الأسبوع، فكان تدريس الشافعي ضحوة يوم السبت وضحوة يوم الاثنين، وكان تدريس الحنفي من ضحوة يوم الأحد وضحوة يوم الأربعاء وضحوة يوم الخميس، وكان تدريس الحنفي من ضحوة يوم الأحد وضحوة يوم الأربعاء، وضحوة يوم الخميس، وكان تدريس الحنبلي فيما بين الظهر والعصر من يومي الأربعاء والخميس، ووقف الواقف المتقدم ذكره على المدرسين والفقهاء والسكان بالمدرسة المذكورة وعلى مصالحها ما اشتراه لذلك، وذلك حديقتان وسقية ماء، فأما الحديقتان: فتعرف إحداهما بسلمة، والأخرى بالحل، وهما بالضيعة المعروفة بالركاني بوادي مر، من أعمال مكة المشرفة. وأما السقية: فأربع رحيات، من قرار عين الضيعة المذكورة، وجبتان منها تعرفان بحسين منصور ليله ونهاره، والوجبتان الآخرتان تعرفان بحسن يحيى ليله ونهاره. وجعل الواقف المذكور ربع ما يتحصل من ذلك في كل سنة يقسم خمسة أقسام: قسم للمدرسين الأربعة بالسوية بينهم، وثلاثة أقسام للطلبة بالسوية بينهم، وقسم منه يقسم ثلاثة أقسام: قسم منه يصرف في مصالح المدرسة المذكورة من الزيت والماء وغير ذلك والقسمان الآخران من هذا القسم يصرفان للسكان بالمدرسة المذكورة بالسوية بينهم، وكان وقفه لذلك في اليوم التاسع عشر من المحرم سنة أربع عشرة وثمانمائة. وفي النصف الأخير من ذي الحجة من السنة المذكورة سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقف الواقف المذكور على المدرسة المذكورة دارا تقابلها تعرف بدار أم هانئ، اشتراها الواقف بخمسمائة مثقال. وعمرها في السنة المذكورة، وأوقفها على مصالح المدرسة المذكورة1. وسافر الواقف من مكة بعد حجه في هذه السنة لإعلام مخدومه السلطان غياث الدين بذلك، فلم يقدر اجتماعهما، لأن ياقوت مات في شهر ربيع الأول من سنة خمس عشرة وثمانمائة2 بجزيرة هرموز، ومات السلطان غايث الدين في آخر سنة أربع عشرة أو في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة، والأولى أقرب للصواب، لأنه أشيع موته بمكة في

_ 1 إتحاف الورى 3م 485. 2 الضوء اللامع 10/ 214 رقم 929، إتحاف الورى 3/ 485.

موسم سنة أربع عشرة، ولم يصح ذلك، ثم جاء الخبر بصحة وفاته في سنة خمس عشرة، تغمدهم الله برحمته، آمين. ومنها: مدرسة أبي على بن أبي ذكرى1 قرب المدرسة المجاهدية، وتعرف بأبي طاهر المؤذن. وتاريخ وقفها سنة خمس وثلاثين وستمائة على ما في حجرها، وواقفها فيه مترجم بالإمام الشهيد، وما عرفت حاله2. ومنها مدرسة الأرسوفي بقرب باب العمرة، وهو العفيف عبد الله بن محمد الأرسوفي3، وهي معروفة به، وما عرفت متى وقفت، إلا أن لها أزيد من مائتي سنة، ولعله وقفها في تارخ وقفه رباطه الذي بقربها المعروف برباط أبي رقيبة لسكناه به، وسيأتي تاريخه. ومنها: مدرسة ابن الحداد المهدوي بقرب هذه المدرسة، وتعرف الآن بمدرسة الأشرف الأدراسة لاستيلائهم عليها، وتاريخ وقفها شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وهي على المالكية. ومنها: مدرسة النهاوندي بقرب الموضع الذي يقال له الدريبة، ولها نحو مائتي سنة فيما أحسب، والله أعلم. ذكر الربط بمكة المشرفة: بمكة ربط موقوفة على الفقراء، منها: الرباط المعروف برباط السدرة بالجانب الشرقي من المسجد الحرام على يسار الداخل إلى المسجد الحرام من باب بني شيبة، لا أدرى من وقفة ولا متى وقفه، إلا أنه كان موقوفا في سنة أربعمائةن وموضعه هو دار القوارير التي بنيت في زمن الرشيد على ما ذكر الأزرقي4. ومنها: رباط قاضي القضاء أبي بكر محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم المراغي الملاصق لهذا الرباط، ورباط عند باب المسجد المعروف باب الجنائز، ويعرف الآن بالقيلاني5 لسكناه به، وتاريخ وقفه سنة خمس وسبعين وخمسمائة، كذا في الحجر الذي على بابه، وفيه أن واقفه وقفه على الصوفية الواصلين إلى مكة المقيمين والمجتازين من العرب والعجم6.

_ 1 في إتحاف الورى 3/ 54: "ذكرى". 2 إتحاف الورى 3/ 54، والعقد الثمين 1/ 118. 3 توفى بمصر سنة 493هـ وهو مشهور بكثرة البر والصدقات بمصر والحجاز "التكملة 1/ 277 رقم 379". 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 113. 5 في إتحاف الورى 2/ 542: "بكيلاني". 6 إتحاف الورى 2/ 542، العقد الثمين 2/ 67.

ومنها: رباط الأمير إقبال الشراب المستنصري العباسي عند باب بني شيبة، على يمين الداخل من باب السلام إلى المسجد الحرام، وتاريخ عمارته له في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وللشرابي عليه أوقاف كثيرة من الكتب والمياه وغير ذلك بوادي مر ونخله1. ومنها: رباط أم الخليفة الناصر العباسي، ويعرف بالعطيفية، لأن الشريفة عطيفة صاحب مكة كان يسكنه، وتاريخ وقفه سنة تسع وسبعين2 وخمسمائة. كذا في الخشب الذي على بابه، وفيه أنه وقفه على الفقراء والصوفية ذوي التقى والعبادة والعفاف والزهادة والصلاح والرشاد والتجريد والانفراد3. ومنها: رباط الحافظ أبي عبد الله بن منده ملاصق لزيادة دار الندوة، وبابه على بابها الذي يخرج منه إلى السويقة، ويعرف الآن بالبرهان الطبري، وعلى بابه الذي عند باب زيادة دار الندوة حجر مكتوب فيه: إنه وقفه على القادمين من أصبهان أربعين يوما، وعلى سائر الناس عشرة أشهر وعشرين يوما. ومنها: رباط الشيخ أبي حفص عمر بن المجيد الميانشي قرب هذا الرباط، ومنه داران في شارع السويقة، وما عرفت نسبته للميانشي، هل هو لأجل وقفه أو لسكناه فيه؟ ومقتضى ما ذكر من نسبة الميانشي: أن يكون له أزيد من مائتي سنة وثلاثين سنة. ومنها: رباط عند الباب المنفرد في هذه الزيادة يقال له: رباط الفقاعية، وتاريخ وقفة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. كذا في الحجر الذي على بابه، وفيه أن قهرمانة المقتدي الخليفة العباسي وقفته على المنقطعات الأرامل4. ومنها: رباط قربه، يقال له: رباط صالحة، لا أعرف من وقفه ولا متى وقف. ومنها بالجانب الشمالي أيضا: رباط يعرف برباط القزويني، وما عرفت واقفه ولا من وقفه، إلا أنه كان موجودا في أثناء القرن السابع، وبابه عند باب السدة من خارج المسجد. ومنها: رباط قبالته يقال له: رباط الخاتون، ويعرف الآن بابن محمود، وتاريخ وقفه سنة سبع وسبعين وخمسمائة، كذا في الحجر الذي على بابه، وفيه أنه وقف على الصوفية الرجال الصالحين من العرب والعجم. وأن الذي وقفته الشريفة فاطمة بنت الأمير أبي ليلى محمد بن أنو شروان الحسني5.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 60، العقد الثمين 1/ 331. 2 في "منتخب شفاء الغرام" المطبوع في أوروبا ص 108: "وتسعين". 3 إتحاف الورى 2/ 552 العقد الثمين 1/ 118، 8/ 238. 4 إتحاف الورى 2/ 489. 5 إتحاف الورى 2/ 544.

ومنها: رباط الزنجيلي قبالة مدرسته عند باب العمرة من خارج المسجد، بينه وبين المسجد دار، وتاريخهما واحد. ومنها: الرباط المعروف برباط الخوزي بخاء وزاي معجمتين بزيادة باب إبراهيم، وقفه الأمير قرامر بن محمد بن قرامر الأقدري1 الفارسي على الصوفية الغرباء والمتجردين، كذا في الحجر الذي على بابه، وتاريخه فيما أظن سنة سبع عشرة وستمائة. ومنها: رباط رامشت عند باب الحزورة ورامشت هو الشيخ أبو القاسم، واسمه إبراهم بن الحسين الفارسي، وقفه على جميع الصوفية الرجال دون النساء أصحاب المرقعة، من سائر العراق، وتاريخه سنة تسع وعشرين وخمسمائة2. وظفرت بنسخة كتاب وقفه، وكان قد احترق جانب كبير من هذا الرباط في الليلة التي احترق فيها المسجد الحرام وهي ليلة الثامن والعشرين من شوال سنة اثنتين وثمانمائة، وأول ما كان الحريق في البيت الذي على بابه الذي بالمسجد، ثم خرجت النار من شباكه حتى تعلقت بسطح المسجد3، ثم وفق الله غير واحد للتقرب بعمارته، فعمر منه جانب كبير من سفله الذي يلي المسجد وبعض المجمع الذي فوقه، ثم صرف الشريف حسن بن عجلان أمير مكة مائتي مثقال ذهبا لعمارته أوائل سنة ثمان عشرة وثمانمائة، فعمر بها جميع ما كانت محترفا من الرباط المذكور من البيوت العلوية وغير ذلك مما يحتاج إلى العمارة علوا وسفلا، وصرف من ذلك جانبا فيما يحتاج إليه من أبواب بيوت الرباط وغير ذلك من مصالحه، وجاءت عمارته حسنة. ومنها: رباط السيد الشريف بدر الدين حسن بن عجلان الحسني نائب السلطنة بمكة وجميع الأقطار الحجازية، زاده الله رفعة، وهو الذي أنشأه، وهذه منقبة ما عرفت مثلها لأحد ممن تقدم من أمراء مكة، وتاريخه سنة ثلاث وثمانمائة، وهو مقابل المدرسة المقابلة للمدرسة المجاهدية، وله عليه أوقاف بمكة ومنى ووادي مر4. ومنها: رباط الجمال محمد بن فرج المعروف بابن بعلجد5 قريبا من هذ الرباط وباب الحزورة، وتاريخه سنة سبع وثمانين وسبعمائة، وهو وقف على الفقراء المنقطعين بمكة6.

_ 1 في "منتخب شفاء الغرام": "الأقزري". 2 إتحاف الورى 2/ 504. 3 إتحاف الورى 3/ 420. 4 إتحاف الورى 3/ 423، العقد الثمين 4/ 96. 5 هذه الكلمة من زيادة كتاب منتخب شفاء الغرام "ص: 110. 6 إتحاف الورى 3/ 349، والعقد الثمين 2/ 254.

ومنها: رباط قبالة باب المسجد الحرام المعروف بباب أجياد، أمر بإنشائه وزير مصر تقي الدين عبد الوهاب بن عبد الله المعروف بابن أبي شاكر1 قبل أن يلي الوزارة في سنة خمسة عشرة وثمانمائة، ومات قبل كمال عمارته، وبعد عمارة غالب سفله، فاستصاره الأمير فخر الدين2 عبد الغني بن أبي الفرج الأستادار الكبير الملكي المؤيدي فيما ذكره بوجه شرعي، وأمر أمير مكة الشريف حسن بن عجلان بتكميل عمارته، فبني بأمره جانب كبير من علوه ومن سفله في سنة عشرين وثمانمائة، وفي ذي القعدة من السنة قبلها مات ابن أبي شاكر، ومات ابن أبي الفرج في نصف شوال سنة إحدى وعشرين وثمانمائة قبل كمال عمارته، والفقراء الآن فيه ساكنون، وله باب في باب أجياد الصغير غير بابه الذي بالشارع الأعظم3. ومنها: رباط السلطان شاه شجاع4 صاحب بلاد فارس قبالة باب الصفا، ويقال له: رباط الشيخ غياث الدين الأبرقوهي الطبيب لتوليه لأمره وعمارته، وله فيه سعى مشكور أعظم الله له فيه الأجور، وتاريخه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وهو وقف على الأعاجم من بلاد فارس المجردين المتقين دون الهنود5. ومنها قربه رباط يقال له رباط البانياسي على يسار6 الذاهب إلى الصفا، وتاريخه سنة خمس وعشرين وستمائة، وقفه الأمير فخر الدين أياز بن عبد الله البانياسي على الفقراء المعروفين بالتدين والصلاح في التاريخ المذكور7. ومنها: الدار المعروفة بدار الخيزران قرب الصفا مبدأ المسعى، ولا أعرف واقفها ولا متى وقفت. ومنها: الرباط المعروف برباط العباسي بالمسعى وفيه العلم الأخضر وكان مطهرة ثم جعل رباطا، والذي عمله مطهرة الملك لمنصور لاجين المنصوري، والذي عمله رباط: ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي أعظم الله أجرهما، واسمهما مكتوب فيه على ما بلغني.

_ 1 توفي سنة 819هـ "الضوء اللامع 5/ 102، 103 رقم 384". 2 ذكره الفاسي في العقد الثمين وقال إنه أمر بتكملة عمارة الرباط الذي أمر بإنشائه الوزير قبله تقي الدين عبد الوهاب ... وهو برأس زقاق جياد الصغير مقابل المسجد الحرام بينهما مسيل الوادي. "الضوء اللامع 4/ 248- 251 رقم 649". 3 إتحاف الورى 3/ 500. 4 هو شاه شجاع بن محمد بن مظفر اليزدي. مات سنة 787هـ. وقيل: 786هـ "الدرر الكامنة 2/ 187". 5 إتحاف الورى 3/ 311. 6 في "منتخب شفاء الغرام" "ص: 111": يمين، وفي إتحاف الورى 3/ 44: "يسار". 7 إتحاف الورى 3/ 44.

ومنها: رباط الشيخ أبي القاسم بن كلالة الطيبي بالمسعى قرب هذا الرباط، وتاريخه سنة أربع وأربعين وستمائة1. ومنها بالمسعى أيضا: رباط المروة على يسار الذاهب إليها يقال له رباط التميمي والذي وقفه هو الشخ أبو العباس ويقال: أبو جعفر أحمد بن غبراهيم بن عبد الملك بن مطرق التميمي المرين الفنجيري2، وقفه على الفقراء من أهل الخير والدين والفضل من العرب والعجم المتأهلين وغيرهم، على ما يليق بكل واحد منهم من المنازل، في العشر الأوسط من شوال سنة عشرين وستمائة، ووقف عليه الحمام الذي بأجياد، وقد ظفرت بكتاب وقف الحمام ثم ذهب مني3. وبأعلى مكة عدة ربط، منها: رباط علي بن أبي بكر بن عمران العطار المكي، ولم يثبت وقفه إلا بعد موته، في سنة موته وهي سنة إحدى وثمانمائة4. ومنها: رباط يعرف بأبي سماحة لسكناه به قرب المجزرة الكبيرة من أعلاها على يمين الذاهب إلى المعلاة، وقفه الأمير قايماز بن عبد الله السلطاني سلطان الروم والأرمن أبي الفتح قلج بن أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي على المجاورين والمقيمين والمنقطعين بمكة من أصحاب الإمام أبي حنيفة في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، هذا معنى ما في الحجر الذي على بابه5. ومنها: بأعلى مكة أيضا ثلاثة ربط، يقال لها ربط الأخلاطي، بعضها وقف على النساء الحنفية من المجاورات والقادمات، وبعضها وقف على أهل مدينة أخلاط الصالحين القاصدين لبيت الله الحرام، وبعضها وقف في سنة تسعين وخمسمائة6، وبعضها في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة7. ومنها: رباط يقال له: رباط الوتش بتاء مثناة من فوق وشين معجمة قرب هذا الرباط. ومنها: رباط العطية بن خليفة المطيرن8 أحد تجار مكة في عصرنا. وبزقاق الحجر بمكة رباطان.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 64، العقد الثمين 1/ 120. 2 في العقد الثمين 3/ 5: الفنجيري". 3 إتحاف الورى 3/ 37. 4 الضوء اللامع 5/ 205، 206 رقم 683، إتحاف الورى 3/ 417، العقد الثمين 6/ 147. 5 إتحاف الورى 2/ 545، العقد الثمين 120، 7/ 84. 6 إتحاف الورى 2/ 561. 7 إتحاف الورى 2/ 562، والعقد الثمين 5/ 247. 8 في المنتخب "ص: 112" والزهور المقتطفة: "المطيبين" وهو الصواب.

أحدهما: رباط المعز إبراهيم بن محمد الأصبهاني سبط الشيخ قطب الدين القسطلاني1 وقفه على الفقراء والمساكين المجاورين بمكة من أهل الخير والديانة من أي صنف كانوا من العرب والعجم، في سلخ رجب سنة تسع وأربعين وسبعمائة2. والثاني: رباط السيدة أم الحسين بنت قاضي مكة شهاب الدين الطبري وقفته على الفقراء والمساكين في شعبان سنة أربعة وثمانين وسبعمائة3. وبسوق الليل عدة ربط: منها رباط يقال له: رباط سعيد الهندي لسكناه فيه وما عرفت واقفه ولا تاريخه. ومنها: الموضع الذي يقال له: بت المؤذنين، وواقفه هو واقف رباط الخوزي على شرطه، وتاريخ وقفه سنة سبع عشرة وستمائة4. ومنها: الموضع الذي يقال له: زاوية أم سليمانن وتاريخها سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة5. وبأجياد عدة ربط: منها الموضع الذي يقال له: رباط الزيت لا أعرف واقفه ولا متى وقف. ومنهاك رباط يقال له: رباط غزي بغين وزاي معجمتين وقفه على بن محمد المصري على الفقراء والمساكين المجردين من أي جنس كان من المسلمين سنة اثنتين وعشرين وستمائة. ومنها: رباط يعرف برباط الساحة، وكان موجودا في أثناء القرن السابع، ووقفه جماعة من النسوة، منهن والدة الشيخ قطب الدين القسطلاني على الفقراء والغريبات المتدينات. ومنها: الرباط المعروف برباط ربيع، وهو واقفه على موكله في ذلك السلطان الملك الأفضل نور الدين علي6 ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتاريخ.

_ 1 في النتخب "ص: 112": القسطلاني" وسيأتي هكذا بعد قليل في المتن. 2 إتحاف الورى 3/ 238، العقد الثمين 1/ 334. 3 إتحاف الورى 3/ 430،والعقد الثمين 1/ 121، 8/ 331. 4 إتحاف الورى 3/ 31. 5 إتحاف الورى 3/ 313،والعقد الثمين 8/ 343. 6 تسلطن بدمشق وتوفى سنة 622هـ. انظر عنه: مفرج الكروب لابن واصل 2/ 423، ذيل الروضتين لأبي شامة "ص: 145"، شفاء القلوب "ص: 256"، التكملة للمنذري 3/ 140، البداية والنهاية 13/ 108، أمراء دمشق 58، النجوم الزاهرة 6/ 262، شذرات الذهب 5/ 101، ترويح القلوب في ذكر ملوك بني أيوب للزبيدي 69.

وقفه في العشر الأوسط من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وهو وقف على الفقراء المسلمين الغرباء1. ومنها: رباط بقرب رباط ربيع، أمر بإنشائه أمير مكة السيد حسن بن عجلان، وهو ملاصق لحوش داره التي أنشأها بأجياد. وقد عمر غالب سفله إلا قليلا منه وجانب من علوه، وفي سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة استؤجر بعض البناة بمكة على تكميل عمارته وشرع في ذلك، وكان أمر الشريف حسن بإنشائه في سنة عشرة وثمانمائة وأدخلت فيه البئر المعروف ببئر عفراء2. ومنها: رباط يعرف برباط بنت التاج، ولا أعرف واقفه في الابتداء، وله أزيد من مائتي سنة، وعلى باب حجر مكتوب فيه أنه وقف على النساء الصوفيات الأخيار والمجاورات. ومنها: رباط يعرف برباط المسكينة. ومنها بالحزامية بزاي معجمة: الرباط المعروف برباط الدمشقية، وقف على الصوفية والعلماء والقراء والفقراء من أهل دمشق والعراقيين العرب والعجم في رجب سنة تسع وعشرين وخمسمائة3. ومنها: الرباط المعروف برباط الدوري، وقفه الشيخ نجيب الدين أبو الحسن بن محمد بن جبريل الزرندي على أهل سادة زرند القادمين إلى حج البيت الله الحرام، وله أزيد من ثلاثمائة سنة. ومنها: رباط يعرف برباط السبتية بسين مهملة وباء موحدة ثم تاء مثناة من فوق ثم ياء مثناة من تحت كان موجودا في سنة تسع وعشرين وخمسمائة. ومنها: رباط خلف رباط الدوري للنسوة، وكان موجودا في أثناء القرن السابع. ومنها: رباط بقرب هذه الربط يقال له رباط بنت الحرابي بحاء وراء مهملتين وألف وباء موحدة لسكناها به، وبلغني أنها وقفته. ومنها: رباط يعرف برباط الوراق بقرب باب إبراهيم لا أعرف واقفه ولا متى وقف. ومنها: رباط الموفق جمال الدين علي بن عبد الوهاب الإسكندري، وقفه على فقراء العرب الغرباء ذوي الحاجات المتجردين، ليس للمتأهلين فيه حظ ولا نصيب في سنة أربع وستمائة، كذا هو مكتوب في الحجر الذي على بابه، وفيه العرب مضبوطة بفتح اليعن والراء المهملتين، وهذا الرباط بأسفل مكة4.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 564. 2 إتحاف الورى 3/ 508. 3 إتحاف الورى 2/ 504. 4 إتحاف الورى 3/ 6، العقد الثمين 6/ 204.

وفي جهة الشبيكة بالمسفلة عدة ربط: منها: الرباط الذي يقال له: رباط أبي رقيبة، لسكناه به ويقال له رباط العفيف والعفيف المشار إليه: هو الأرسوفي صاحب المدرسة التي بقربه، وقفه عن نفسه وعن موكل شريكه فيه القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عل البيساني1 سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، على ما في الحجر الذي على بابه، وفيه أنه وقف على الفقراء والمساكين العرب والعجم، الرجال دون النساء، القادمين إلى مكة والمجاورين، على أن لا يزيد الساكن في السكنى على ثلاث سنين إلا أن تقطع أقدامه، وسكناه في السفر إلى مسافة القصر. ومنها: رباط به بقربه يعرف برباط الطويل، بنى في عشر السبعين وسبعمائة فما أحسب. ومنها: رباط الجهة، وهي الآدر الكريمة جهة الطواشي فرحات زوج الملك الأشرف إسماعيل بن لفضل صاحب اليمن وأم أولاده ضاعف الله أجرها وأعلى قدرتها، ويقال له: رباط الشيخ على البغدادي لتوليته لأمره وعمارته، وتاريخ وقفه سنة ست وثمانمائة، وهو وقف على الفقراء الآفاقين المجردين عن النساء المستحقين للسكنى2. ومنها: رباطان قرب الموضع الذي يقال له الدريبة: أحدهما يعرف برباط ابن السوداء لسكناه به، وعلى بابه حجر مكتوب فيه: أن أم خليل خديجة، وأم عيسى مريم: ابنتي القائد أبي ثامر المبارك بن عبد الله القاسمي وقفتاه على الصوفيات المتدينات الخاليات من الأزواج، الشافعيات المذهب، في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة تسعية وخمسمائة3، ويقال له أيضا: رباط الهريش بتشديد الراء المهملة. والآخر: يعرف بابن غنايم، وعلى بابه حجر مكتوب فيه ما معناه: وقفه السلطان الملك العادل ملك الجبال والثغور والهند محمد بن أبي على، على الصوفية الرجال العرب والعجم، على أن يكون عدد الساكنين فيه عشرة لا غير سواء كانوا مجاورين أو مجتازين، وبعضهم مقيم وبعضهم مجتاز، وذلك سنة ستمائة4 ... انتهى. فهذه الربط المعروفة الآن بمكة أجل الله ثواب واقفيها ومن أحسن النظر فيه.

_ 1 وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي، وتوفي سنة 596هـ. ترجمته في: خريدة القصر "القسم المصري" 1/ 35، معجم البلدان 1/ 788، مرآة الزمان 8/ 873، ذيل الروضتين، الجامع لابن الساعي 9/ 28، وفيات الأعيان الترجمة 347، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 4/ 53، البداية والنهاية 13/ 24، التكملة 1/ 351، الفلاكة للدلجي 89، السلوك للمقريزي 1/ 153، حسن المحاضرة 1/ 270، شذرات الذهب 4/ 324. 2 إتحاف الورى 3/ 438. 3 إتحاف الورى 3/ 561. 4 إتحاف الورى 2/ 570، العقد الثمين 1/ 123.

وبمكة أوقاف كثيرة على جهات من القربات، غالبها الآن غير معروف لتوالي الأيدي عليها، ومن المعروف منها: البيمارستان المستنصري العباسي بالجانب الشمالي من المسجد الحرام، وتاريخ وقفه سنة ثمان وعشرين وستمائة1، وعمره في عصرنا هذا الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة عمارته التي هو عليها الآن، وزاد فيه على ما كان عليه أولا إيوانين: أحدهما: في جهته الشامية، والآخر: في جهته الغربية، وأحدث فيه صهريجا ورواقا فوق الإيوانين اللذين أحدثهما، وفوق الإيوان الشرقي الذي كان فيه من قبل، وجدد هو عمارته، وفوق الموضع الذي فيه الشباكان المشرفان على المسجد الحرام، وأدخل فيه البئر التي كان يستقي منه للميضأة الصرغتمشية، ووقف جميع ما بناه وما يستحق منافعه في الموضع المذكور للمدة التي يستحقها على الضعفاء والمجانين، ووقف عليه منافع الدار المعروفة بدار الإمارة عند باب بني شيبة بعد عمارته لها حين تخربت بالحريق الذي وقع في آخر ذي القعدة من سنة أربع عشرة وثمانمائة2، وذلك بعد استئجاره لها واستئجاره للبيمارستان المذكور لتخربهما، من القاضي الشافعي بمكة لمدة مائة سنة، وأذن له في صرف أجرة الموضعين في عمارتها، وكان استئجاره لذلك في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وثمانمائةن وفيها شرع في عمارتها وكان وقفه لذلك في صفر سنة ست عشرة وثمانمائة3. ووقف المنافع يتمشى على رأي البعض من متأخري المالكية، وحكم به بعض طلبة المالكية ليثبت أمره، وإن كان بعض المعتبرين من المالكية لا يرى جوازه، كما هو مقتضى مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رحمة الله عليهم والله يوقفنا أجمعين للخير آمين. ذكر السقايات والبرك بمكة المشرفة وحرمها وعرفة: بمكة وحرمها عدة سقايات، تسمى أيضا السبل بسين مهملة وباء موحدة مضمومتين جمع سبيل، وشهرتها عند الناس بالسبل أكثر، وهي كثيرة إلا أن بعضها صار لا يعرف لخرابه وبعضها معروف مع الخراب. فمن ذلك: سبيل عطية بن ظهيرة بأعلى مكة4، وسبيل قاسم الزنكي عند مسجد الراية، وسبيل السيدة أم الحسين بنت القاضي شهاب الدن الطبري بالمسعى عند موضع الجزارين والخرازين، وسبيل لابن بلعجد عند عين بازان التي بالمسعى قرب الميل

_ 1 إتحاف الورى 3/ 49، العقد الثمين 1/ 123،غاية المرام 2/ 293. 2 إتحاف الورى 3/ 487، 488، والعقد الثمين 1/ 50. 3 إتحاف الورى 3/ 507. 4 جردة القاضي أبو السعادات بن ظهيرة في أوائل سنة ست وخمسن وثمانمائة.

الأخضر الذي بمنارة باب علي والمقابل له، وسبيل السيد الشريف حسن بن عجلان سلطان الحجاز في عصرنا برباطه الذي أنشأه، بلغه الله مناه. ومنها بأعلى مكة سبيل لأم المتصوفة عند تربتها بالمعلاة قرب دار المعلاة. ومنها: سبيل أنشأه القاضي زين الدين عبد الباسط1 ناظر الجيوش المنصورة في سنة ست وعشرين وثمانمائة بالمعلاة على يمين النازل من الحجون2. ومنها سبيل لعطية المطير في طرف المقبرة من أعلاها عند البئر التي يقال لها بئر الطواشي. ومنها: السبيل الذي أنشأه القائد سعد الدين جبروه. ومنها: السبيل المعروف بسبيل ابن صنداد، وليس هو المبتكر له، لأن بعض أمراء الملك الكامل ولد الملك المسعود صاحب مكة عمر ذلك. ومنها: سبيل فوق هذا السبيل إلى جهة منى للسيد الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة أمر بعمارته في سنة اثني عشرة وثمانمائة وعنده مسجد. ومنها: السبيل الذي يقال له سبيل الست، وهو مشهور بطريق منى، والست المنسوبة إليها عمارته هي أخت الملك الناصر حسن صاحب مصر، وتاريخ عمارتها سنة إحدى وستين وسبعمائة3. ومنها: سبيل المعلم عبد الرحمن بن عقبة المكي بقرب منى. ومنها سبيل بمنى لعطية المطير. وبمنى عدة سبل عامرة، وبمزدلفة، وعرفة. وبطريقهم سبل متخربة معطلة، وبعضها لا يعرف، وقد أشرنا إليها في أصل هذا الكتاب. وبأسفل مكة مما يلي التنعيم عدة سقايات منها: سبيل الزنجيلي، ويقال له: سبيل أبي راشد لتجديده له، ويقال له: سبيل المكيين لتجديده له أيضا، وتاريخ عمارة الزنجيلي له سنة عشرين وستمائة. كذا في حجر فيه، وهي عمارة تجديد، لأن الزنجيلي

_ 1 هو عبد الباسط بن خليل الدمشقي القاهري: ولد سنة 784 بدمشق، وتوفي بالقاهرة سنة 854هـ. قال السخاوي: وله من المآثر والقرب المنتشرة بأقطار الأرض ما يفوق الوصف؛ فمن ذلك كل من المساجد الثلاثة وبدمشق وغزة والقاهرة مدرسة.... وأصلح كثيرا من مسالك الحجاز، ورتب سحابة تسير في كل سنة من كل من دمشق والقاهرة إلى الحرمين ذهابا وإيابا برسم الفقراء والمنقطعين "الضوء اللامع 3/ 24- 27 رقم 81". 2 إتحاف الورى 3/ 559، 600، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 212". 3 إتحاف الورى 3/ 286.

توفي قبل ذلك على ما ذكر ابن شاكر الكتبي بسبع وثلاثين سنة، وتاريخ عمارة أبي راشد سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وتاريخ عمارة المكين سنة ثمان وثمانمائة1. ومنها: السبيل الذي يقال له: سبيل بنت القاضي عبد الرحمن بن عقبة المكي، وسبيل آخر أنشأته السيدة زينب بنت القاضي شهاب الطبري صدقة عن أخيها القاضي نجم الدين محمد ابن القاضي شهاب الدين الطبري2 سنة خمس وستين وسبعمائة، وهو الآن معطل لخرابه. ومنها: سبيل الملك المنصور صاحب اليمن وهو مشهور. ومنها: السبيل المعروف بسبيل الجوخي، وهو الآن لخرابه. ورأيت فيه حجرا ملقى مكتوبا فيه: أن المقتدر العباسي ووالدته أمرا بعمارة هذه السقاية والآبار التي وراءها وتصدقا بها، وفيه: أن ذلك سنة اثنتين وثلاثمائة3. ومنها: سبيل دون هذا السبيل إلى مكة عمره الشهاب المكين السابق أجزل الله ثوابه في سنة ثمان وثمانمائة، وإلى جانب ذلك حوض للبهائم1. وكان بمكة سقايات أكثر مما ذكرنا بكثير، لأن الفاكهي قال: لما ذكر السقايات وبمكة في فجاجها وشعابها من باب المسجد إلى منى ونواحيها ومسجد التنعيم نحوا من مائة سقاية ... انتهى. ذكر البرك بمكة وحرمها: بمكة وحرمها عدة برك لا أدري من أنشأها، ويقال لها: المصانع. منها بركتان عند باب المعلاة متلاصقتان جددتا في دولة الملك الناصر حسن، صاحب مصر، وذلك في ولايته الأولى سنة تسع وأربعين وسبعمائة4، وعمرتا بعد ذلك غير مرة. منها: في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة5، وعمارتها في هذه السنة عمارة حسنة لإصلاحهم بالنورة ما يحتاج إلى الإصلاح فيهما، ونوروا في بعض الجدران ما لم يكن منورا قبل ذلك، ورفعوا جميع جوانبها عن الأرض، والذي رفعوه من ذلك نحو ذراع، وفي بعض المواضع أكثر، وعمدوا إلى الحاجز الذي بين البركتين فهدموا الجدار الذي يليه إلى صوب الطريق العظمى، وبنوا هناك ثبرتين6، وعملوا عليهما عقدا مشرفا،

_ 1 إتحاف الورى 3/ 449. 2 إتحاف الورى 3/ 301، العقد الثمين 6/ 338، وفيه: "لأنه توفي في هذا العام". 3 إتحاف الورى 3/ 363، العقد الثمين 3/ 416، غاية المرام 2/ 537، 3/ 129. 4 إتحاف الورى 3/ 237، والسلوك 3/ 2: 766- 768، 769. 5 إتحاف الورى 3/ 560. 6 الثبرة: حفرة تمسك الماء كالصهريج.

وعملوا في موضع العقد بابا شبحا من عرعر يغلق دون الصغار، ومن يريد النزول إلى الماء، خوفا على الماء من تغيره بالنزول فيه، وعملوا تحت الباب درجا. والآمر بهذه بالعمارة علاء الدين القائد. ومنها: بركتان متلاصقتان: إحداهما يلصق بسور باب المعلاة ببستان الصارم، وكانتا معطلتين فعمرت إحداهما في النصف الثاني من سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وملئت في عين بازان بعد جريها، والذي أمر بعمارتها وإجراء الماء فيها الشهاب بركوت المكين1. ومنها: بركتان عند مولى النبي صلى الله عليه وسلم بسوق الليل تنسبان للمسلماني على ما بلغني. ومنه: بأسفل مكة بركة يقال لها: بركة باب الماجن، لأنها عند باب مكة المعروف بباب الماجن. ومنها: بحرم مكة مما يلي منى وعرفة عدة برك، منها: البركة المعروفة ببركة السلم، لا أدري من أنشأها، وجددها الأمير المعروف بالملك نائب السلطنة بمصر، وعمر العين التي تصل إليها من منى، وذلك في سنة خمس وأربعين وسبعمائة2. وبطرف منى مما يلي المزدلفة في طريق عرفة برك أخر معطلة أيضا لخرابها، أشرنا إليها في أصل هذا الكتاب. وبعرفة عدة برك، وغالبها الآن ممتلي بالتراب حتى صار ذلك مساويا للأرض، وبعضها من عمارة العجوز والدة المقتدر، وذلك خمس برك، وتاريخ عمارتها سنة خمس عشرة وثلاثمائة3. وبعضها عمره المظفر صاحب إربل في سنة أربع وتسعين وخمسمائة4، وفيما بعدها، وبعضها عمره إقبال الشرابي المستنصري العباسي في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة5، وعمارتها للبرك المكتفة بعين عرفة أيضا. واسم إقبال باق على بعض البرك التي حول جبل الرحمة.

_ 1 في المنتخب: "وهو شهاب الدين عتيق سعيد المكيني مكين الدين اليمني، مات سنة 830هـ. قال السخاوي: "ومن مآثره بطريق أنس: سبيل وحوض البهائم" "الضوء اللامع 3/ 15 رقم 61" وانظر تلك العمارة في إتحاف الورى 3/ 482. 2 إتحاف الورى 3/ 228، العقد الثمين 3/ 331. 3 إتحاف الورى 2/ 373، درر الفرائد 234. 4 إتحاف الورى 2/ 564، درر الفرائد 267. 5 إتحاف الورى 3/ 50، العقد الثمين 3/ 325.

عمر بعضها الملك نائب السلطة بمصر، ثم عمر بعضها في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر. ذكر الآبار التي بمكة وحرمها: ذكر الأزرقي شيئا من خبر الآبار الجاهلية والإسلامية بمكة وحرمها وبعرفة، وليس يعرف ههنا الآن مما ذكره الأزرقي إلا القليل كما سنبينه، ولذلك اقتصرنا هنا على تعريف هذه الآبار بما تعرف به الآن. وجملة الآبار التي يحتوي عليها سور مكة ثمانية وخمسون بئرا منها: برباط السدرة، وهي سجلة1 -بسين مهملة وجيم- حفرها هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وقيل: حفرها قصي ووهبها عبد المطلب بن هاشم للمطعم بن عدي، وقيل: إن جبير بن مطعم ابتاعها من ولد هاشم2. ومنها: بئر برباط الشرابي. ومنها: بئر بالمدرسة الأفضلية. ومنها: بئر بالميضأة الصرغتمشية. ومنها: بئر برباط أم الخليفة، وهو العطيفية. ومنها بئر برباط الفقاعية. ومنها: بئر برباط الميناشي. ومنها: بئر بالمدرسة المنصورية. ومنها: بئر عند باب الحزورة، عليها جميزة كبيرة حفرها المهدي العباسي. ومنها: بئر في الدار المعروفة بالملاعنة. ومنها: بئر بالمدرسة المجاهدية. ومنها: بئر برباط كلالة بالمسعى. ومنها: بئر بالمطهرة الناصرية عند باب بني شيبة. ومنها: بئر بميضأة الملك الأشرف شعبان، عمرها جده الملك الناصر سنة ست وسبعمائة لأجل رباط العباس فيما أحسب، فإن منها إليه قناة ليسكب فيها الماء. ومنها: بئر الحمام الذي بسوق الليل. ومنها: بئر بقرب مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسوق الليل، تعرف بالسماطية لعلها بئر عبد شمس بن عبد مناف بن قصي المعروفة بالطوى التي ذكرها الأزرقي3، والله أعلم.

_ 1 سجلة؛ بفتح أوله وسكون ثانية، والسجل: الدول إذا كان فيه ماء سوء قل الماء أو كثر، ولا يقال لها وهي فارغة سجل. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 217. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 218.

ومنها: بئر بقربها ينسب لأبي مغامس أحد تجار مكة، لأنه عمرها، وعندها مسجد. ومنها بقرب ذلك: بئر في دار عطية المطيري. ومنها: بئران في المعلاة بالشعب الذي تسميه الناس شعب عامر، وهو شعب عبد الله بن عامر بن كربز، إحداهما في بستان في هذا الشعب، والأخرى بفم الشعب1. ومنها: بئر في البستان الذي عند باب المعلاة، ويقال لها: المنقوس. ومنها: بئر تعرف بأم الفاغية عند سبيل ابن ظهيرة. ومنها: بئر عند مسجد الراية، وهي بئر جبير بن مطعم التي ذكرها الأزرقي2، والله أعلم. وبأجياد عدة آبار منها: بئر برباط في جانب الوادي. ومنها: بئر يقال لها: أم الزين، عند بيت الشريفة فاطمة بنت ثقبة صاحب مكة. ومنها: بئر يقال لها: الوردية. ومنها: بئر يقال لها: بئر عكرمة، ذكرها الأزرقي3. ومنها بئر يقال لها: بئر مسعود، ويقال له أيضا: أم الفاغية. ومنها: بئر يقال لها: بئر المعلم ومنها: بئر عند بيوت الداجوة يقال لها: أم حجر. ومنها: بئر برباط بنت التاج. ومنها بئر عند حمام أجياد. وبالحزامية بأسفل مكة بالحاء المهملة وزاي معجمة عدة آبار، منها: بئر برباط الدمشقية، عمرتها فيما أحسب زوجة تقي الدين ابن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ومنها: بئر برباط الدوري. ومنها: بئر برباط السبتية. ومنها: بئر يقال لها: بئر النبي صلى الله عليه وسلم، والناس يستشفون بماء هذه البئر، ولعلها والله أعلم السنبلة، بئر خلف بن وهب الجمحي التي ذكرها الأزرقي رحمه الله، وقال: يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم: بصق فيها، وإن ماءها جيد4 من الصداع، والله أعلم. وبالحجارية من المسفلة عدة آبار:

_ 1 يوجد بفم الشعب الآن بئر يقال لها: "بئر أبو دية" لعلها هي. 2 هي بئر شجلة عند الأزرقي في أخبار مكة 2/ 217. 3 بأجياد الصغير في الشعب الذي قال له الأيسر "أخبار مكة للأزرقي 2/ 225". 4 كذا بالأصل، وفي أخبار مكة للأزرقي 2/ 219 أيضا ولعله أراد: "جيد يشفي من الصداع".

منها: بئر عند بيوت عرفطة، يقال لها: أم الحمرة بحاء مهملة مضمومة وميم وراء مفتوحتين1. ومنها: بئر عند البيوت المعروفة بالأشراف ذوي علي، مما يلي باب الماجن، وهما بقرب الموضع الذي يقال له: بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ومنها: بئر في زقاق ضيق نافذ بقرب أم الحمرة2. ومنها: بئر في بستان علي بن يوسف بن أبي الأصبع عند باب الماجن. ومنها: بئر قبالة هذه البئر في الودنة. وبمسيل وادي إبراهيم بالمسفلة وما يليه من البيوت عدة آبار، منها: البئر المعروفة بباب إبراهيم3. ومنها: بئر برباط الموفق. ومنها: بئر ينسب للقائد زين الدين شكر4 مولى الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة، ومنها: بئر بجنبها إلى أسفل مكة في البيت المعروف بأحمد بن عبد الله الدوري الفراش بالحرم الشريف. ومنها: بئر بقربها في بيت يعرف ببيت الينبوعي على يسار الذاهب إلى باب الماجن5. ومنها: بئر في جهة الشبيكة يقال لها: بئر النشوة. ومنها: بئر في الشبيكة أيضا بقرب المقبرة عند بيوت رقية، يقال لها: مجنة، ولها قرنان. ومنها بئر قرب باب الشبيكة عمرها العفيف الهبي، وبنى عليها سبيلا6 هو الآن خراب، ومنها بأسفل مكة: بئر أيضا بالموضع الذي يقال لها خرابة قريش التي عمرها الشهاب بركوت بن عبد الله المكين ومنها: بئر في وسط السويقة، عليها بيت ينسب للبليني، يقال: إنها من عمارة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه والله أعلم. ومنها: بئر في الموضع المعروف بدار الحفرة بالسويقة. ومنها: بئر بقعيقعان عند وقف على بن أبي بكر بن عمران العطار. فهذه الآبار التي حواها سور مكة فيما علمت، ولم أذكر فيها الآبار التي لا ماء فيها، وجميعها مسبلة إلا البئر التي في بيت المطيبيز بأعلى مكة، والبئر التي في بيت القائد زين الدين شكر، والبئر التي في بيت أحمد الدوري، والبئر التي في بيت الينبوعي، والله أعلم.

_ 1 ما زال ذلك الزقاق يسمى باسم "زقاق الخمرة" ولكن البئر التي هناك، وهي موجودة إلى الآن اسمها بئر المدعون. 2 المعروف الآن عند بيت أبي بكر الصديق "البازان المسمى بازان القبة" وفي أول زقاق القبة الضيق بئر مهجورة اسمها بئر زقاق القبة، ومن الجهة الجنوبية لبركة الصديق بئر أخرى ما زالت باقية إلى الآن. 3 هذه البئر ما زالت موجودة يستقي منها الناس، وهي في دهليز المدرسة المسماة بالمدرسة الفخرية في باب إبراهيم. 4 توفي سنة 845هـ بعد أن أوصى ببيت من بيوته يجعل رباطا وبآخر يوقف عليه، وبعد سنين بنى ابنه "بديد" رباطا ووقف البيت عليه "الضوء اللامع 3/ 306 رقم 1174". 5 لعلها البئر الموجودة حتى الآن بين بيت الشريف العمري، وبيت السيد الغلالي، على ناصية زقاق المسفلة. 6 في الأصل: "وبنى عندها سبيلا".

ذكر الآبار التي بين المعلاة ومنى: بين باب المعلاة ومنى سبع عشرة بئر -بتقديم السين- منها: بئر قرب باب المعلاة تنسب لأم سليمان المتصوفة عند تربتها، وتنسب أيضا للملك المسعود صاحب مكة، ومنها: بئر يقال لها: بئر الطواشي عند طرف المقبرة من أعلاها. ومنها: بئر بالبستان الذي أنشأه القائد سعد الدين جبروة. ومنها: بئر ببستانة الذي أمامه إلى جهة منى. ومنها: بئر ببستان له بن هذين البستانين إلى جهة شعب البياضية. ومنها: بئر خلف سبيل ابن شداد1 السابق ذكره. ومنها: بئر في بستان ينسب لابن فطيس أمام هذا السبيل ومنها: بئر في محاذاة المعابدة فيها الماء، ويقال لها: أم قرنين. ومنها: بئر لا ماء فيها في الموضع الذي يقال لها: الخرمانية، وهو أودان برأس المعابدة على جادة الطريق على يمين الهابط إلى مكة. ومنها: البئر التي يقال لها: بئر آدم على يمين الذاهب إلى منى وليست على جادة الطريق، وممن عمرها الأمير شيخون2 العمري الناصري في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة3. ومنها: بئر يقال لها: البياضية. ومنها: بئر ميمون بن الحضرمي أخي العلاء بن الحضرمي، وهي التي الآن بالسبيل المعروف بسبيل الست بطريق منى، وممن عمرها: المظفر صاحب إربل في سنة أربع وستمائة على ما وجدت بخط عبد الرحمن بن أبي حرمي المكي في حجر بهذه البئر يتضمن عمارة صاحب إربل لها4، وعرفها ببئر ميمون الحضرمي، ورأيت لبعضهم ما يقتضي أن بئر ميمون بطريق وادي مر الظهران، وهو وهم، والله أعلم. ومنها: بئر محاذية لبركة السلم على يسار الذاهب إلى منى. ومنها بئر يقال لها: بئر النجار، وتعرف بالمعلم عبد الرحمن بن عقبة المكي على يسار الذاهب إلى منى أيضا، وممن عمرها الأمير شيخون في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة3، وعَمرها بعده الأمير جركتمر المارديني5 صاحب الحجاب بالقاهرة، ومقدم العساكر بمكة6 في سنة إحدى وستين وسبعمائة. ومنها: بئر أمام هذه البئر إلى منى في وجهتها إلى جهة منى عند رأس الشعب الذي يقال له: شعب البيعة الذي فيه مسجد البيعة السابق ذكره، وتعرف هذه البئر ببركة مسهر.

_ 1 في الأصل: "صنداد". 2 هو شيخون الناصري مدير المملكة للسلطان الناصر حسن بن محمد بن قلاوون. مات سنة 758هـ. "الدرر الكامنة 2/ 196، 197 رقم 1950". 3 إتحاف الورى 3/ 272. 4 إتحاف الورى 3/ 6. 5 مات قبيل سنة 77هـ. الدرر الكامنة 1/ 534، 535 رقم 1448". 6 إتحاف الورى 3/ 280.

ومنها: البئر المعروفة بصلاصل، وهي من الآبار الإسلامية على ما ذكره الأزرقي1. ومنها: بئر بقرب هذه البئر يقال لها: الجنينة بجيم مضمونة ونون مفتوحة وياء مثناة من تحت ونون، وهي وصلاصل في الجانب الذي يكون على يمين الذاهب إلى منى، وكلام الأزرقي يقتضي أن البئر المعروفة ببركة مسهر في صلاصل، لأنه قال: وبئر الصلاصل بفم شعب البيعة عند العقبة، عقبة منى ... انتهى، والله أعلم. ولم يبين الأزرقي سبب تسميتها بصلاصل، ولعل ذلك نسبتها إلى صلصل بن أوس بن مخامس بن معاوية بن شريف من بني عمرو بن تميم، لأن الفاكهي روى بسنده عن هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: كانت العرب في أشهر الحج على ثلاثة أهواء، منهم من يفعل المنكر وهم المحلون الذين يحلون الأشهر الحرم فيغتالون فيها ويسرقون، ومنها من كان يكف عن ذلك، ومنهم أهل هوى شرعه صلصل بن أوس بن مجاسر بن معاوية بن شريف من بني عمرو بن تميم في قتال المحلين، ثم قال بعد أن ذكر المحرمين: وكانوا يسمونهم الصلاصل، لأن صلصلا شرع ذلك، وكانوا ينزلون على بئر قريبة من مكة، ثم يتفرقون في الناس منها، وكانت البئر تسمى ببئر صلاصل ... انتهى. ولكن يعكر على نسبة هذه البئر لصلاصل المشار إليه ما ذكره الأزرقي من أن صلاصل البئر التي ذكرها من الآبار الإسلامية فإن مقتضى ما ذكره الكلبي أن تكون من الآبار الجاهلية، والله أعلم بالصواب. وذكر الأزرقي ما يخالف ما ذكره من أن صلاصل من الآبار الإسلامية، لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: ذكر الآبار الإسلامية، وهي التي ذكر فيها ما سبق ذكره عنه في صلاصل تلو قوله: عقبة منى، وفيها يقول أبو طالب: وتسمله حتى يصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل2 ... انتهى. وإذا كان أبو طالب ذكر هذه البئر فهي جاهلية. ذكر الآبار التي بمنى وهي خمس عشرة بئرا: منها: بئر تعرف بالحجامية بقرب جمرة العقبة في بستان عندها. ومنها: بئر يقال لها: كدانة بدال مهملة مشددة ونون بعد الألف في منزلة المحمل المصري. ومنها:

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 226. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 227.

بئر يقال لها: عمارة بفتح العين وتشديد الميم في الشعب الذي يلي ذلك، وهي حلوة، ومنها: بئر يقال لها: الكليبية، حلوة أيضا، ومنها: بئر يقال لها: بئر إسماعيل ويقال لها: دغبح. ومنها: بئر في بيت الجاعفرة عند بيت أبي مغامس في الطريق الوسطى ومنها: بئر بقرب الشعب الذي يقال له: سمير، ينسب لموسى بن غصون ومنها: بئر بقربها تنسب لابن فطيس.. ومنها: بئر بقربها يقال لها: أم النخلة، وتنسب لابن معيوف، ومنها: بئر يقال لها. أم الحمام، حلوة: ومنها: بئر بقرب أم النخلة، عمرتها زوجة الملك المنصور صاحب اليمن، في سنة خمس وأربعين وستمائة. ومنها: بئر يقال لها: العسيلة في منزلة بني حسن بمنى. ومنها: بئر في الشعب الذي يقال له: سمير. ومنها: بئر يقال لها: العراقيب، حلوة، في الشعب الذي يقال له: شعب عمرو، على يسار الذاهب إلى عرفة. وبمنى آبار أُخر في بعض بيوتها لا تعرف على ما بلغني. ذكر الآبار التي بمزدلفة: بمزدلفة ثلاثة آبار: منها: بئر قبالة المشعر الحرام على يمين الذاهب إلى عرفة، ومنها: بئر بقربها في الجهة اليمنى يقال لها: بئر البقرة، ومنها: بئر في الجهة اليسرى محاذية للمشعر الحرام في منزلة الركب العراقي، وفيما بين مزدلفة وعرفة: بئر يقال لها: السقيا على يسار الذاهب إلى عرفة. ذكر الآبار التي بعرفة: بعرفة آبار، فيها الآن الماء، فمنها: بئر يقال لها: الزيادة الكبرى، ومنها: بئر يقال لها: الزيادة الصغرى، ومنها: بئر يقال لها: الشمردقية، وفيها عدة آبار أخر لا ماء فيها، عمرها المظفر صاحب إربل. وقد ذكرناها مع تاريخ عمارة المظفر لها في أصل هذا الكتاب، والله أعلم. ذكر الآبار التي بظاهر مكة من أعلاها: فيما بين بئر ميمون بن الحضرمي والأعلام التي هي حد الحرم في طريق جادة وادي نخلة، وفيما بين بئر ميمون والأعلام المشار إليها خمس عشرة بئرا: منها أربعة آبار تعرف بآبار العسيلة، وفي رأس طي بعضها ما يقتضي أن المقتدر العباسي أمر بحفر بئرين منها، وفي طي بعضها ما يقتضي أن العجوز والدة المقتدر عمرتها مع سقايات هناك، ومسجد لا يعرف الآن منه شيء، وقد ذكرنا نص المكتوب في أصل هذا الكتاب والبئر الرابعة من آبار العسيلة جددها بعد دثورها بعض الآمراء

المصريين في سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة1. وبقية الآبار لا ماء فيها إلا بئر لأبي بكر الحصار، وهي تلي آبار العسيلة. ذكر الآبار التي بأسفل مكة في جهة التنعيم: فيما بين باب مكة المعروفة بباب الشبيكة والتنعيم ثلاث وعشرون بئرا بجادة الطريق. منها: بئر الملك المنصور صاحب اليمن عند سبيله، وتعرف بالزاكية، وقد ذكرنا هذه الآبار في أول هذا الكتاب أوضح من هذا. ومنها: الآبار المعروفة بآبار الزاهر الكبير، وبعض هذه الآبار من عمارة المقتدر العباسي، وبقرب الشبيكة آبار أخر يقال لها: الزاهر الصغير، وهي ثلاثة آبار منها واحدة لا ماء فيها ولها قرنان، في أحدهما حجر مكتوب فيه تاريخ عمارتها. وبقرب هذه الآبار بئر ببطن ذي طول على مقتضى ما ذكره الأزرقي في تعريف ذي طول2. وبأسفل مكة أيضا: بئر يقال لها. الطنبداوية3. وبأسفل مكة مما يلي بابها المعروف بباب الماجن عدة آبار، منها بئر بقربه من خارجه، وبئر بالشعب الذي يقال له: "خم" بخاء معجمة4. ذكر عيون مكة المشرفة: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال في العيون التي أجريت في الحرم: كان معاوية رضي لله عنه قد أجرى في الحرم عيونا، واتخذ له أخيافا، وكانت حوائط وفيها النخل والزرع، وسردها الأزرقي5، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب. قال: وقد كانت عيون معاوية رضي الله عنه تلك قد انقطعت وذهبت، فأمر أمير المؤمنين الرشيد بعيون، فعملت وأحييت وصرفت في عين واحدة، ثم قال: ثم كان الناس بعد تقطع هذه العيون في شدة الحاجة إلى الماء، وكان أهل مكة والحجاج يلقون في ذلك المشقة حتى أن الراوية لتبلغ في الموسم عشرة دراهم، وأقل وأكثر، فبلغ ذلك أم جعفر بنت أبي

_ 1 إتحاف الورى 3/ 378، وذكر أن الذي جددها الأمير قطلوبك الناصري. 2 أخبار مكة للأزرق 2/ 107. 3 هي الطنبداوية، وبها سمي الطنبداوي: وهو حي من أحياء مكة. 4 خم: بضم أوله. قال الفاكهي بئر خم قريبة من المثيب، وكان الناس يأتون خما في الجاهلية والإسلام في الدهر الأول يتنزهون به ويكونون فيهن قال عبد شمس: حضرتخما وحفرت رما ... حتى ترى المجد لنا قد نما وكان عبد الله بن عمر يقول وهو بخم: لا نستقي إلا بخم والحفر معجم البلدان 2/ 389، 390". 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 227.

الفضل جعفر ابن أمير المؤمنين المنصور، فأمرت في سنة أربع وسبعين ومائة بعمل بركتها التي بمكة، فأجرت لها عينا من الحرم فجرت بماء قليل، فلم يكن فيه ري لأهل مكة، وقد غرمت في ذلك غرما عظيما، فبلغها فأمرت المهندسين أن يجروا لها عينا من الحل. ثم أمرت من يزن عينها الأولى فوجدوا فيها فسادا، فأنشأت عينا أخرى إلى جنبها، وأبطلت تلك العيون، فعملت عينها هذه بأحكم ما يكون من العمل، وعظمت في ذلك رغبتها، وحسنت نيتها، فلم تزل تعمل فيها حتى بلغت ثنية خل1، فإذا الماء لا يظهر في ذلك الجبل، فأمرت بالجبل فضرب فيه، وأنفقت في ذلك من الأموال ما لم تكن تطيب به نفس كثير من الناس، حتى أجراها الله على يديها وأجرت فيها عيونا من الحل، منها عين المشاش2، واتخذت له بركا تكون فيها السيول إذا جاءت تجتمع فيها، ثم أجرت لها عيونا من حنين واشترت حائط حنين، فصرفت عينه إلى البركة، وجعلت حائطه سدا يجتمع فيه السبل. فصارت لها مكرمة لم تكن لأحد قبلها، وطابت نفسها بالنفقة فيها بما لم تطب به نفس أحد غيرها ... انتهى باختصار. وقد ذكرنا ذلك كله في أصل هذا الكتاب3. وذكر أبو الحسن المسعودي في "تاريخه" مقدار ما صرفت زبيدة على هذه العين، لأنه ذكر أن القاهر العباسي سأل محمد بن علي العبدي الخراساني الإخباري أن يبسط له في أخبار زبيدة، فذكر أن لها في الجد والعزم ما بررت به على غيرها، فأما الجد فالآثار الجميلة التي لم يكن في الإسلام مثلها، مثل حفرها العين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، فإنها حفرتها ومهدت الطريق لمائها في كل خفض ورفع، وسهل ووعر، حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر ميلا إلى مكة، وكان جملة ما أنفقت عليها فيما ذكروا قدر بألف ألف وسبعمائة ألف دينار4 ... انتهى باختصار. وهذه العين في غالب ظني عين مكة المعروفة بعين بازان5 -بباء موحدة وألف ثم زاي معجمة ثم ألف ونون- لأنها من هذه الجهة، وقد عمر هذه العين جماعة من الخلفاء والملوك، منهم المستنصر العباسي غير مرة، منها: مرة في سنة خمس وعشرين وستمائة6. ومنها: مرة في سنة أربع وثلاثين وستمائة. ومنهم: الأمير جوبان7 نائب

_ 1 ثنية خلة ويقال لها: خل الصفاح، وهي عند منتهى الحرم من طريق العراق، وطريق السيل للطائف. 2 عين المشاش: بضم الميم. قال ياقوت: يتصل بجال عرفات جبال الطائف، ومنها مياه كثيرة، منها المشاش وهو الذي يجري بعرفات ويتصل إلى مكة "معجم البلدان 5/ 131". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 230- 232. 4 قارن بمروج الذهب 4/ 317. 5 وتعرف الآن بعين زبيدة. 6 إتحاف الورى 3/ 44. 7 إتحاف الورى 3/ 52.

السلطنة بالعراق، عن السلطان أبي سعيد بن خرابندا ملك التتار، وذلك في سنة ست وعشرين وسبعمائة1، ووصلت إلى مكة في العشر الأخير من جمادى الأولى من هذه السنة، وعم نفعها وعظم. وكان جريانها هذا نعمة من الله تعالى ورحمة منه لأهل مكة، فإن الناس كانوا بمكة في جهد عظيم لقلة الماء بمكة. ولجد والدي لأمه الشيخ دانيال بن علي بن يحيى المرستاني2 أحد كبار مشيخة العجم بمكة في جريانها سعي مشكور، أجزل الله له ولمن أعانه على ذلك الثواب فيه. وجملة ما صرف على هذه العين في هذه العمارة: مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم على ما قيل، وكانت تحتمل من المصروف زيادة على هذا القدر مثله وأكثر، والسبب في الاقتصار على القدر المعين: الاستغناء به عن غيره بسبب ماء وجد فيها حين عمارتها من العين المعمولة المهيأة من قديم الزمان، وهي أكثر من الثلث وأقل من النصف. وعمرت بعد ذلك غير مرة في سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وهذه العمارة من جهة السيد الشريف حسن بن عجلان نائب السلطنة بمكة والأقطار الحجازية أعلى الله قدره، وكان دخولها مكة في آخر العشر الأوسط من جمادى الأولى منها، وجرت جريا حسنا بحيث امتلأت منها بركة الماجن بأسفل مكة وتعدى الماء إلى غيرها، وكثر الدعاء له بسبب ذلك لما حصل بها من عظيم النفع، وبيعت منها الراوية بربع مسعودي، بعد أن كانت بدرهمين مسعوديين وأزيد، فلله الحمد والشكر، ثم حصل في جريانها قصور في آخر السنة، ثم انصلح حالها في أول سنة اثنتي عشرة وثمانمائة من غير عمل، ثم تغير حالها قليلا، ثم عمرت وانصلح حالها كثيرا ثم تغير حالها كثيرا في آخر هذه السنة. ثم جرت جريا حسنا في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وهي مستمرة على جريانها إلى الآن. غير أن الماء يكثر حينا ويقل حينا، ونسأل الله تعالى تيسير الخير، والشهاب بركوت المكين سلمه الله يحسن في أمرها، لأنه يقوم بمصالحها من سنة ثلاث عشرة وثمانمائة إلى تاريخه، وهو سنة سبع عشرة وثمانمائة. ثم بعد ذلك قل ماؤها ولقي الناس بمكة شدة بسبب ذلك، وعرف بهذا الأمر مولانا السلطان الأعظم الملك المؤيد أبو النصر شيخ صاحب الديار المصرية والشامية والحمرين، آدام الله تعالى توفيقه وتأييده ونصره، فتطوع بألفي مثقال ذهبا لعمارة هذه العين، لأنه ما زال بمصالح أهل الحرمين كثير الاهتمام، وقد يكون منه عليهم الجزيل من الإنعام. وندب القائد علاء الدين3 لعمارة ذلك، فشرع في العمارة

_ 1 إتحاف الورى 3/ 181. 2 في منتخب شفاء الغرام "ص: 128": "اللرستاني". 3 مات في سنة 828هـ "الضوء اللامع 11/ 163".

والتنظيف والإصلاح حتى وصل الماء لمكة المشرفة وحصل به النفع، وتضاعفت الأدعية من سكان الحرم لمولانا السلطان بسبب ذلك. وكان حصول هذا الخير بمكة في شعبان سنة إحدى وعشرين وثمانمائة1. وابتدأ العمل في جمادى الآخرة من السنة المذكورة. ثم قل جريان الماء في العين المذكورة بعد قليل من جريانها الأول، ويسر الله دخول سيل فيها فجرت جريا أحسن من جريها الأول، وصرفت إلى بركتي المعلاة اللتين على يمين الداخل إلى مكة، فامتلأتا وحصل بهما للحجاج نفع كثير، ولم يبق فيهما بعد سفر الحاج ما فيه كثير نفع، وعلى الماء كثيرا، وشق ذلك على الناس، فوفق الله تعالى القائد علاء الدين بعمارة العين، وبعث إليها عمالا ومهندسا يعمرون فيها ما لم يعمروا في النوبة الأولى، وبعض ما عمر فيها لتخربه بالسيل، ووصل الماء إلى مكة بعد ذلك في آخر صفر سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة2، وكان جريه قليلا، فزادوا في العمارة حتى جرى الماء وعظم النفع به بحيث بيعت الراوية بنصف مسعودي، وبما يزيد، وبدرهم، وهذا أكثر مما بيعت به الراوية بعد عمارة العين في النوبة الثانية وبلغني أنها بيعت بجايز. وقد وصل الماء أي ماء العين إلى البركة التي بأسفل مكة المعروفة ببركة الماجن خارج باب مكة المعروف بباب الماجن، بعد تنظيف الطريق إليها وزرعوا بماء العين أودانا بقرب بركة الماجن، فلله الحمد، وفاز القائد علاء الدين بدعاء جزيل. وكان جريانه القوي في العمارة الثانية في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، فالله تعالى يثيبه ويحسن إليه ويجزيه خيرا بمحمد وآله أجمعين. ومن العيون التي أجريت بمكة: عين أجراها الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر، في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة3 في مجرى عين بازان، على ما ذكر البرزالي في "تاريخه" نقلا عن كتاب العفيف المطري إليه، لأنه ذكر في أخبار هذه السنة أنه ورد عليه كتاب من العفيف المطري فيه أمور: ومنها: أجريت عين أخرى كانت تعرف بعين جبل ثقبة مما يلي جبل حراء على مجرى العين الجوبانية، وأنفق عليها قدر يسير، قدر خمسة آلاف درهم، ووصلت إلى مكة، وخرجت من أسفلها، وكان ذلك على يد ابن هلال الدولة مشيد العمائر، وتاريخ كتاب العفيف سلخ ربيع الأول سنة ثمان وعشرين4 ... انتهى.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 560. 2 إتحاف الورى 3/ 566. 3 إتحاف الورى 3/ 187، والسلوك 2/ 1: 303، درر الفرائد "ص: 302". 4 إتحاف الورى 3/ 187، درر الفرائد 302، السلوك 2/ 1: 303.

ومنها: عين أجراها الأمير المعروف بآل ملك نائب السلطنة في مصر في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، من منى إلى بركة السلم بطريق مني1. ونختم هذه الترجمة بحكاية عجيبة تتعلق بعين مكة، وهذه الحكاية ألفيتها مذكورة في الكتاب المسمى "آكام المرجان في أحكام الجان"2، ونصها فيه: ونقلت من خط الشيخ العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي رحمه الله وحدثني به أيضا، قال: وقعت هذه الواقعة بعينها في مكة سنة أجرى العين بها. فأخبرني إمام الحنابلة بمكة وهو الذي كان أجراها على يده، وتولى مباشرتها بنفسه نجم الدين خليفة بن محمود الكيلاني قال: لما وصلنا في الحفر إلى موضع ذكره خرج أحد الحفارين من تحت الحفر مصروعا لا يتكلم، فمكث كذلك طويلا، فسمعناه يقول: يا مسلمون، لا يحل لكم أن تظلمونا. قلت له أنا: وبأي شيء ظلمناكم؟ قال: نحن سكان هذه الأرض، ولا والله ما فيهم مسلم غيري وقد تركتهم ورائي مسلسلين وإلا كنتم لقيتم منها شرا، وقد أرسلوني إليكم يقولون لا ندعكم تمرون، فهذا الماء في أرضنا حتى تبذلوا لنا حقنا، قلت: وما حقكم؟ قال: تأخذون ثورا فتزينوه بأعظم زنية، تلبسونه وتزفونه من داخل مكة حتى تنتهوا به إلى هنا، فاذبحوه ثم اطرحوا لنا دمه وأطرافه ورأسه في بئر عبد الصمد وشأنكم بباقيه، وإلا فلا ندع الماء يجري في هذه الأرض أبدا، قلت: نعم أفعل ذلك، قال: وإذا بالرجل قد أفاق فمسح وجهه وعينيه ويقول: لا إله إلا الله. أين أنا؟! قال: وقام الرجل ليس به قلبه، فذهبت إلى بيتي، فلما أصبحت ونزلت أريد المسجد إذا برجل على الباب لا أعرفه، فقال لي: الحاج خليفة ههنا؟ فقلت: وما تريد به؟ قال: حاجة أقولها له، قلت له: قل لي الحاجة وأنا أبلغها إياها فإنه مشغول، قال لي: قل له إني رأيت البارحة في النوم ثورا عظيما قد زينوه بأنواع الحلي واللباس، وجاءوا يزفونه حتى مروا به على دار الخليفة فوقفوه إلى أن أخرج وراءه. وقال: نعم. هو هذا، ثم أقبل به يسوقه والناس خلفه يزفونه حتى خرج به من مكة، فذبحوه وألقوا راسه وأطرافه في بئر. قال: فعجبت من منامه وحكيت الواقعة والمنام لأهل مكة وكبرائهم، فاشتروا ثورا وزينوه وألبسوه، وخرجنا به نزفه حتى انتهينا إلى موضع الحفر، فذبحناه وألقينا رأسه وأطرافه ودمه في البئر التي سماها، قال: ولما كنا قد وصلنا إلى ذلك الموضع كان الماء يفور ولا ندري أين يذهب أصلا، ولا نرى له عينا ولا أثرا،

_ 1 اتحاف الورى 3/ 228، العقد الثمين 3/ 331. 2 الكتاب مطبوع وهو من تأليف قاضي طرابلس الشام بدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي "755- 769هـ". ترجمته في: الدرر الكامنة 4/ 107. الوافي بالوفيات 3/ 378. تاج التراجم "ص: 63". المنهل الصافي 5/ 56، النجوم الزاهرة 11/ 100، كشف الظنون 1/ 141، 2/ 1609، هدية العارفين 2/ 164، الأعلام 7/ 112.

قال: فما هو إلا أن طرحنا ذلك في البئر، حتى كان من أخذ بيدي وأوقفني على مكان وقال: احفروا ههنا، قال: فحفرنا، فإذا بالماء يموج في ذلك الموضع، وإذا طريق منقورة في الجبل يمر تحتها الفارس بفرسه، فأصلحناها ونظفناها فجرى الماء فيها نسمع هديره، فلم يكن إلا نحو أربعة أيام، وإذا بالماء بمكة، وأخبرنا من حول البئر أنهم لم يكونوا يعرفون في البئر ما يريدونه، فما هو إلا أن امتلأت وصارت موردا ... انتهى. والشيخ شمس الدين الحنبلي المذكور في هذه الحكاية هو ابن قيم الجوزية1، وقال بعد ذكرها: وهذا الرجل الذي أخبر بهذه الحكاية كنت نزيله وجاره، وخبرته فرأيته من أصدق الناس وأدينهم وأعظمهم أمانة، وأهل البلد كلمتهم واحدة على صدقه ودينه، وشاهدوا هذه الواقعة بعيونهم ... انتهى. وبئر عبد الصمد المذكور في هذه الحكاية لا تعرف الآن، والعين المشار إليها عين بازان، ويغلب على ظني أن الماء جرى فيها لما عمرها أصحاب جوبان، والله أعلم. ذكر المطاهر التي بمكة: بمكة مطاهر أعظمها نفعا: مطهرة الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر عند باب بني شيبة، وكان اشترى موضعها من الشريفين عطيفة2 ورميثة3 ابني أبي نمى أميري مكة نيابة عنه بخمسة وعشرين ألف درهم، وكانت عمارتها في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وفيها وقفت4. ومنها: مطهرة الأمير المعروف بآل ملك نائب السلطنة بمصر عند باب الحزورة، وأظن أنه عمرها في سنة خمس وأربعين وسبعمائة5، والله أعلم، وهي الآن معطلة. ومنها: مطهرة الأمير صرغتمش الناصري أحد كبار الأمراء في دولة الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهي فيما بين البيمارستان المستنصري ورباط أم الخليفة، وتاريخ عمارتها سنة تسع وخمسين وسبعمائة، ثم عمرها في عصرنا بعض تجار الشام وأدارها في سنة ثمان وثمانمائة أو في التي بعدها، وعمرت في سنة إحدى عشرة وثمانمائة من وصية أوصى بها بعض تجار العجم وأدبرت فيها.

_ 1 هو العالم المعروف محمد بن أبي بكر بن أيوب. ولد سنة 691، وتوفي سنة 751هـ. 2 هو عطيفة بن محمد بن حسين، مات بعد سنة 738هـ "الدرر الكامنة 2/ 455، 456 رقم 2628". 3 رميثة: أسد الدين أبو عرادة بن أبي نمى -بالنون مصغر ولي إمرة مكة مع أخيه حميضة، توفي سنة 748هـ "الدرر الكامنة 2/ 206، 207 رقم "1728". 4 إتحاف الورى 3/ 187. 5 إتحاف الورى 3/ 229.

ومنها: مطهرة الملك الأشرف شعبان بن حسين ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون بالمسعى قبالة باب المسجد الحرام المعروف بباب علي، وكان المتولي على عمارتها الأمير أبو بكر بن سنقر الجمالي في سنة ست وسبعين وسبعمائة، وللأشرف عليها وقف بمكة، ربع فوقها، ودكاكين، ووقف بضواحي القاهرة. ومنها: مطهرة خلفها للنسوة، عمرتها أم سليمان المتصوفة صاحبة الزاوية بسوق الليل، وفرغ من عمارتها في سنة ست وسبعين وسبعمائة. ومنها: مطهرة الأمير زين الدين بركة العثماني رأس النوب1 بالقاهرة، وخشداش2 الملك الظاهر صاحب مصر، وهي التي بسوق العطارين الذي يقال له: سوق النداء عند باب بني شيبة، وكان إنشاؤها وإنشاء ربعها ودكاكينها في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. ومنها: مطهرة تنسب إلى الأمير الطنبغا المعروف بالطويل أحد الأمراء المقدمين بالقاهرة في أوائل عشر السبعين وسبعمائة، وأظنها عمرت في هذا التاريخ، وهي بقرب الموضع المعروف بخرابة قريش، وبينهما الطريق إلى باب الشبيكة وإلى السويقة3 وغير ذلك. ومنها: مطهرة عند باب الحزورة يقال لها: مطهرة الواسطي، وما عرفت الواسطي المنسوبة إليه ولا متى وقفت4.

_ 1 رأس نوبة النوب: هو لقب الذي يتحدث على مماليك السلطان أو الأمير وتنفيذ أمره فيهم "صبح الأعشى 5/ 450". 2 خشداش أو خجداش، معرب عن اللفظ الفارسي "خواجا تش" بمعنى الزميل، والخشداشية في عصر المماليك هم الذين نشئوا عند أستاذ واحد "النجوم الزاهرة 15/ 161". 3 هذه المطهرة باقية إلى الآن من باب العمرة، وبمناسبة توسعة الحرام هدمت بعض هذه المطاهر. 4 ومن المطاهر مطهرتان أنشأتهما زوجة الملك الأشرف أينال سنة 865هـ وهما بالصفا، ومنها المطهرة المنسوبة للواسطي، وقفها الملك العادل نور الدين الشهيد سنة 564هـ، وجددها القاضي جمال الدين يوسف سنة 585هـ.

الباب الرابع والعشرون

الباب الرابع والعشرون: ذكر شيء من خبر بني المحض بن جندل ونسبهم: قال المسعودي في "تاريخه": وقد تنازع أهل الشرائع في قوم شعيب بن نويل1 بن عوائيل2 بن مدين بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام وكان لسانه العربية، منهم: من رأى أنهم من العرب الدائرة والأمم البائدة، وبعض من ذكرنا من الأجيال الخالية. ومنهم من رأى أنهم من ولد المحض بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم الخليل، وأن شعيبا أخوهم في النسب، وقد كانوا عدة ملوك تفرقوا في ممالك متصلة ومنفصلة، فمنهم المسمى: بأبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت. وهم على ما ذكرنا بنو المحض بن جندل، وأحرف الجمل هي3 أسماء هؤلاء الملوك، وهي الأربعة4 والعشرون حرفا التي عليها حساب الجمل. ثم قال المسعودي: فكان أبجد: ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان هوز، وحطي ملكين ببلاد وج، وهي أرض الطائف وما اتصل بذلك من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقرشت ملوكا بمدين، وقيل: ببلاد مصر. وكان كلمن على ملك مدين. ومن الناس من رأى أنه كان ملك جميع من سمينا مشاعا متصلا على ما ذكرنا، وأن عذاب يوم الظلة كان في ملك كلمن.

_ 1 كذا في الأصل، وعند المسعودي: "تويل" وفي نسخة "نوفل". 2 كذا في الأصل، وعند المسعودي: "رعويل" بالعين المهملة، وقيل: "رعبيل بن عنقاء بن مدين....". 3 عند المسعودي: "على" بدل "هي". 4 وفي نسخة للمسعودي "التسعة".

ثم قال المسعودي: وقد ذكرهم المنتصر بن المنذر المزني بأبيات، يقول فيها: ملوك بني حطي وسعفص ذي الندى ... وهوز أرباب الثنية1 والحجر هم ملكوا أرض الحجاز ووجه2 ... كمثل شعار الشمس أو صورة البدر ولهذه4 الملوك أخبار عجيبة5 ... انتهى باختصار. ذكر شيء من أخبار العماليق ملوك مكة ونسبهم: أما نسبهم: فذكره غير واحد من أهل الأخبار، منهم ابن إسحاق؛ لأنه قال في "سيرته" تهذيب ابن هشام: وطسم، وعملاق، وأمير: بنو لاوذ بن سام بن نوح، عرب كلهم ... انتهى. وعمليق الذي ذكره الزبير بن بكار، هو عملاق الذي ذكره ابن إسحاق، لأن ابن هشام قال بعد ذكره لخبر فيه ذكر العماليق: وهو ولد عملاق، ويقال: عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ... انتهى. وتحصل مما قالوا إن والد عملاق يقال له: لوذ ولاوذ، وسقط فيما ذكروه من نسب عملاق: "إرم" بين لاوذ وسام بن نوح على ما ذكره المسعودي في غير موضع من تاريخه، لأنه قال لما ذكر ديانات العرب وآراءها في الجاهلية وتفرقها في البلاد: وسار بعد جديس عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح بولده ومن اتبعه، وهو يقول بعد أن ذكر شعرا: فنل هؤلاء أكناف الحرام والتهائم، ومنهم من صار إلى بلاد مصر والمغرب. وقال المسعودي لما ذكر أخبار نوح عليه السلام ما يوافق ذلك أيضا6. وذكر المسعودي في موطن آخر ما يقتضي سقوط "إرم" في نسب عملاق، ولا منافاة بين من أثبته في النسب وبين من أسقطه، لأن من أثبته ذكر النسب على وجهه، ومن أسقطه نسب "لاوذ" إلى جده "سام" لأنه يجوز أن ينسب الإنسان إلى أبيه وإلى جده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".

_ 1 كذا في الأصل، وعند المسعودي: "البنية". 2 كذا في الأصل، وعند المسعودي: "وهم ملكوا أرض الحجاز وأوجها". 3 عند المسعودي: "وفي" بدل "أول". 4 عند المسعودي: "ولهؤلاء". 5 مروج الذهب 2/ 148- 150 وفيه زيادة في الشعر. 6 مروج الذهب 2/ 134.

وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن العماليق من ولد "العيص" ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام ذكر هذا القول المسعودي في "تاريخه" في غير موضع، لأنه قال لما ذكر مكة وأخبارها، وبناء البيت الحرام، ومن تداوله من جرهم وغيرها: وقد كانت العماليق بغت في الأرض، فسلط عليهم ملوك الأرض فأفنتها. وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكر الروم وأنسابهم من ألحق ولد1 عملاق وغيرهم ممن ذكرنا بولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وأن علماء العرب تنسبهم إلى غير ذلك، وهو الأشهر في الناس2. وذكر في باب أخبار الروم ما يقتضي: أن العماليق عند من قال في نسبهم هذه المقالة: من ولد اليعاز بن عيصو، وأن عيصوا هو العيص بن إسحاق3. وروينا في "تاريخ الأزرقي" خبرا عن ابن عباس رضي الله عنهما فيه ما يقتضي أن العماليق من حمير4. وروينا في تاريخ الأزرقي" مثله، عن عبد الله بن خيثم، وسنذكر إن شاء الله تعالى هذين الخبرين فيما بعد. وفي كون العماليق من حمير نظر، لأن العماليق من ولد إرم بن سام بن نوح، على ما ذكر المسعودي، وحمير من ولد أرفخشذ بن سام بن نوح، وهو: حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه: يقطن على ما قال الحازمي في العجالة" ابن عابر، ويقال: ابن غبير بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، هذا مقتضى ما نسبه ابن إسحاق في نسب حمير. وذكر أن اسم أبيه: سبأ عبد شمس، قال: وإنما سمي سبأ، لأنه أول من سبا في العرب ... انتهى. وقد اتضح مما ذكرناه نسب العماليق وشيء من خبرهم، ونتبع ذلك بشيء من خبرهم. قال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي العائدي قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح قال: قال عثمان بن ساج: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: كان البيت في زمن هود معروفا، والحرم قائما فيما يذكرون والله أعلم وأهل مكة يومئذ العماليق، وإنما سموا العماليق، لأن أباهم عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح. وكان سيد العماليق

_ 1 زيادة من مروج الذهب 2/ 52. 2 مروج الذهب 2/ 52. 3 مروج الذهب 1/ 308. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 89.

فيما يزعمون يومئذ رجل يقال له: بكر بن معاوية، وهو الذي نزل عليه وفد عامر حين بعثوا إلى مكة يستسقون1. قال الفاكهي: وحدثنا محمد بن علي المروزي قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل قال: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصن، عن عروة بن الزبير، قال: كانت الحجاز أسحر أرض الله وأكثرها ماء، وإنما كانت الخرق مظلة عليها. قال: يقول عروة: لقد بلغني أن العماليق تسرح بها في الغداة الواحدة ألفي ناضح، بين أحمر وجون2 ... انتهى. وروى الفاكهي بسنده إلى أبي جهو بن حذيفة أخبارا فيها ذكر شيء من حال العماليق، فنذكر ما فيها من ذلك: ففي بعضها: أن جبريل عليه السلام كان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم: بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول له جبريل: لا، حتى مر به على مكة، وهي إذ ذاك عضاه وسلم. والعماليق يومئذ حول الحرم، وهم يكونون بعرنة، وهم أول من نزل حول مكة، وكانت المياه يومئذ قليلة2. وفي بعض الأخبار بعد أن ذكر إخراج الله الماء لإسماعيل عليه السلام وأقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرين لهما قد أخطأه، فقد عطشا وأهلهما بعرنة، فنظرا إلى طير يهوي قبل الكعبة، فاستنكر ذلك، ثم قال بعد أن ذكر استدلالهما على الماء بالطير: فاتبعا الواردة منها حتى وقفا على أبي قبيس، فنظرا إلى الماء وإلى العريش، فنزلا وكلما هاجر، وسألاها: متى نزلت؟ فأخبرتهما، وقالا: لمن هذا الماء؟ فقالت: لي ولابني، فقالا: من حفره؟ فقالت: سقيا الله، فعرفا أن أحدا لا يقدر أن يحفر هنالك ماء، وعهدهما بما هنالك قريب، وليس به ماء، فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما، وأخبراهم، فتحولوا حتى نزلت معهما على الماء، وأنست بهم، ومعهم الذرية، ونشأ إسماعيل عليه السلام مع ولدانهم. وكان إبراهيم عليه السلام يزور هاجر في كل شهر على البراق، يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله الشام، ونظر من هنالك من العماليق وإلى كثرتهم، وعمارة الماء، فسر بذلك وقرت به عينه. خروج العماليق من مكة: وكان العماليق ولاة الحكم بمكة، فضيعوا حرمة البيت، واستحلوا منه أمورا عظاما، ونالوا ما لم يكونوا ينالون، فقام فيهم رجل يقال له: عملوق، فقال: يا قوم،

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 137. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 138.

أبقوا على أنفسكم ولا تفعلوا المنكر، تواصلوا، ولا تستخفوا بحرم الله وبيته، فلم يقبلوا ذلك، وتمادوا في هلكة أنفسهم. وفيه: فكثر العماليق، فنازعوهم يعني جرهما وقطورا فنفوهم وأخرجوهم من الحرم كله، فكانوا في أطراف الحرم، لا يدخلون الحرم، فقال لهم صاحبهم عملوق: ألم أقل لكم لا تستخفوا بحرمة البيت، ولا تنتهكوا به، ولا تتجبروا؟ فغلبتموني ... انتهى. وذكر الأزرقي شيئا من خبر العماليق، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم، قال: حدثني جدي، عن سعد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بمكة حيٌّ يقال لهم: العماليق، فكانوا في عز وكثرة وثروة، وكانت لهم أموال كثيرة من خيل وإبل1 وماشية، وكانت ترعى بمكة وما حولها من "مر" "ونعمان" وما حول ذلك، وكان "الجرف" عليهم مظلة، والأربعة مغدقة، والأودية تنسال2، والعضاه ملتفة، والأرض مبقلة، فكانوا في عيش رخي، فلم يزل بهم البغي والإسراف على أنفسهم، والإلحاد بالظلم، وإظهار المعاصي، والإضطهاد لمن قاربهم، ولم يقابلوا ما أوتوا بشكر3 الله، حتى سلبهم الله تعالى ذلك، فبغضهم4 بحبس المطر عنهم، وتسليط الجدب عليهم، وكانوا يكرون بمكة الظل، ويبيعون الماء، فأخرجهم الله تعالى من مكة بالذر، سلطه الله عليهم حتى خرجوا من الحرم، فكانوا حوله، ثم ساقهم الله بالجدب يضع الغيث أمامهم ويسوقهم بالجدب، حتى ألحقهم الله تعالى بمساقط رءوس آبائهم، وكانوا قوما عربا من حمير، فلما دخلوا بلاد اليمن تفرقوا وهلكوا، فأبدل الله عز وجل الحرم بعدهم بجرهم، فكانوا سكانه، حتى بغوا فيه، واستخفوا بحقه، فأهلكهم الله عز وجل جميعا5. قال الأزرقي: وحدثني جدي إبراهيم بن محمد الشافعي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن خيثم قال: كان بمكة حيٌّ يقال لهم: العماليق، فأحدثوا فيها أحداثا، فجعل الله تعالى يقودهم بالغيث، ويسوقهم بالسنة، يضع الغيث أمامهم فيذهبون ليرجعوا، فلا يجدون شيئا، فيتبعون الغيث، حتى ألحقهم الله بمساقط رءوس آبائهم، وكانوا من حمير، ثم بعث الله عز وجل عليهم الطاعون قال أبو خالد الزنجي: فقلت لابن خيثم: وما الطاعون؟ قال: الموت6 ... انتهى.

_ 1 قارن بأخبار مكة للأزرقي 1/ 89. 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 89: "نجال". 3 في الأصل: "لشكر" والتصويب من أخبار مكة للأزرقي 1/ 89. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 90: "فنقصها". 5 أخبار مكة للأزرقي 1/ 89، 90. 6 أخبار مكة للأزرقي 1/ 89.

وهذان الخبران هما اللذان أشرنا غلى أنهما يقتضيان أن العماليق من حمير، وليس فيهما ما يشعر بأن أحدا من الناس أخرجهم من مكة قهرا. وقد ذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن جرهما وقطورا أخرجوا العماليق من مكة1، وسيأتي هذا الخبر إن شاء الله تعالى في أخبار جرهم. وما ذكرناه عن الفاكهي يقتضي ذلك أيضا، والله أعلم بالصواب. وسيأتي إن شاء الله تعالى في أخبار جرهم ما يقتضي أن العماليق كانوا ولوا مكة حينا مع جرهم، ولا معارضة بين هذا الخبر وبين الخبر الذي يقتضي أن العماليق كانوا ولاة مكة قبل جرهم، لأنه يجوز أن يكون طائفة من العماليق ولوا مكة قبل جرهم، وطائفة من العماليق غير الأولين ولوا مكة مع جرهم، والله أعلم. ووقع في خبر ذكره الفاكهي ما يوهم أن العماليق كانوا بعد جرهم، لأنه قال: وحدثنا حسين بن حسن قال: حدثنا عمرو بن عثمان قال: حدثنا موسى بن أعين، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عمر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أول من بنى البيت إبراهيم ثم هدم فبنته جرهم، ثم هدم البيت، فبنته العماليق، ثم هدم فبنته قريش2 ... انتهى. ووقع في الخبر الذي رويناه عن ابن عباس في أخبار العماليق: أن أموالهم كانت ترعى بمكة وما حولها من "مر" و"نعمان"، فأما "مر" المشار إليه فهو: مر الظهران الذي يسميه أهل مكة: الوادي، ويقال له أيضا: وادي مر. وقد ذكر السهيلي خلافا في سبب تسميته بمر فقال: وسمي مرا، لأنه في عرق من الوادي من غير لون الأرض، شبه الميم الممدودة وبعدها راء خلقت كذلك، قال: ويذكر عن كثير أنه قال: سميت مرا لمرارتها، ولا أدري ما صحة هذا3 ... انتهى كلام السهيلي. ونقل الحازم عن الكندي: أن مر: اسم للقرية، والظهران: اسم للوادي ... انتهى. وبين مر ومكة: ستة عشر ميلا، على ما قال البكري4. وقيل: ثمانية عشر ميلا، وقيل: أحد وعشرون، حكاه ابن وضاح، والله أعلم. وأما نعمان المشار إليه فهو موضع مشهور فوق عرفة على طريق الطائف من عرفة، وفيه مزارع حسنة، والشعراء تذكره في شعرها5، وهو بفتح النون الأولى، وفيه

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 85. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 138. 3 الروض الأنف 1/ 114. 4 معجم ما استعجم 4/ 1212. 5 معجم ما استعجم 4/ 1316.

أخذ الله الميثاق على ذرية آدم، لأن ابن الأثير في "كامله" قال: روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أخذ الله الميثاق على ذرية آدم بنعمان من عرفة، ثم قال ابن الأثير: نعمان بفتح النون الأولى1 ... انتهى. ذكر ولاية طسم البيت الحرام: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم، قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، عن قتادة قال: إن عمر بن الخطاب رضي لله عنه قال لقريش: إنه كان ولاة هذا البيت قبلكم طسم، فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته، فأهلكهم الله، ثم وليته بعدهم جرهم، فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته، فأهلكم الله، فلا تهاونوا به، وعظموا حرمته2 ... انتهى. وطسم، أخو عملاق، وقد سبق نسبه، فأغنى عن إعادته.

_ 1 الكامل 1/ 40. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 80.

الباب الخامس والعشرون

الباب الخامس والعشرون ذكر نسب جرهم ... الباب الخامس والعشرون: ذكر نسبهم: أما نسبهم فإنهم من ولد جرهم بن قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوج عليه السلام هذا مقتضى ما ذكره ابن إسحاق في "سيرته" وابن هشام في نسب جرهم. وذكر ابن هشام أن جرهما هو ابن قحطان أبو اليمن كلها، وإليه يجتمع نسبها مع ابن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ... انتهى. وقيل: إن جرهما بن مالك من الملائكة، وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه عنه الفاكهي في "تاريخه" لأنه قال: وحدثني حسن بن حسين أبو سعيد قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن ابن الكلبي، عن أبي المقوم الأنصاري واسميه يحيى بن ثعلبة عن الكلبي، عن أبي صالح قال: كنا عند ابن عباس رضي الله عنهما فذكرنا جرهما، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الملك من الملائكة إذا أذنب ذنبا عظيما أهبط إلى الهوى، ونزعت منه روحاينة الملائكة وجعل في خلق ابن آدم، فأذنب ملك من الملائكة يقال له: عرعرا أو نحوها ذنبا فكان في الهوى، ثم هبط مكة، فتزوج امرأة من العماليق فولدت له جرهما، فذلك قول الحارث بن مضاض الجرهمي1: اللهم إن جرهما عبادك ... الناس طرف وهم قلادك2

_ 1 شاعر جاهلي قديم، وقوله: "وهم قلادك": أي أن أهل مكة كالقلادة، والحرم منهم قلادك أي قلاد بيتك. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 139.

.. انتهى. وشعر الحارث في هذا المعنى طويل، ذكره الفاكهي، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وقد أنكر السهيلي هذا الخبر لأنه قال: وجرهم هو الذي تتحدث به العرب في أكاذيبها، وكان من خرافاتها في الجاهلية أن جرهما ابن ملك أهبط من السماء لذنب أصابه، فغضب عليه من أجله، كما أهبط هاروت وماروت، ثم ألقيت فيه الشهوة، فتزوج امرأة، فولدت له جرهما، وقال فيه قائلهم: اللهم إن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا ثم قال: من كتاب "الأمثال" للأصبهاني1 ... انتهى. وقال: وقد قيل: إنه كان مع نوح في السفينة وذلك أنه من ولده2 ... انتهى. ولم يبين السهيلي قائل هذه المقالة، وقد بين ذلك الفاكهي في كتابه "أخبار مكة" لأنه روى فيه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان في السفينة ثمانون إنسانا وفيهم جرهم3 ... انتهى. وذكر السهيلي اختلافا في نسب قحطان الذي ينسب إليه جرهم، وفوائد تتعلق بقحطان، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص كلامه: أما قحطان فاسمه مهرم فيما ذكر ابن ماكولا، وكانوا أربعة إخوة فيما روي عن ابن منبه: قحطان، وقاحط، ومقحط، وفالغ. وقحطان أول من قيل له: أبيت اللعن، وأول من قيل له: عم صباحا. واختلف فيه، فقيل: هو ابن غابر4 بن شالخ5، وقيل: هو ابن عبد الله أخو هود، وقيل: هو "هود" نفسه، فهو على هذا القول ابن إرم بن سام، ومن جعل العرب كلها من إسماعيل قالوا فيه: هو ابن تيمن بن قيدر بن إسماعيل، ويقال له: هو ابن الهميسع بن يمن. ثم قال: وقال ابن هشام: يمن هو ابن6 يعرب بن قحطان ثم قال الإمام السهيلي: وقد احتجوا لهذا القول أعني أن قحطان من ولد إسماعيل عليه السلام بقول:

_ 1 الروض الأنف 1/ 138، 139. 2 الروض الأنف 1/ 139. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 139. 4 في الروض الأنف 1/ 12 "عابر" بالعين المهملة. 5 الروض الأنف 1/ 12. 6 ليس في الروض كلمة "ابن".

النبي صلى الله عليه وسلم: "ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" قال هذا القول لقوم من أسلم بن قصي وأسلم أخو خزاعة، وهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وهم من سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ولا حجة عندي في هذا الحديث لأهل هذا القول، لأن اليمن لو كانت من إسماعيل مع أن عدنا كلها من إسماعيل بلا شك لم يكن لتخصيص هؤلاء القوم بالنسب إلى إسماعيل معنى، لأن غيرهم من العرب أيضا أبوهم إسماعيل، ولكن في الحديث دليل والله أعلم على أن خزاعة من بني لمعة1 أخي مدركة بن إلياس بن مضر2 ... انتهى. وقد اختلف في نسب قحطان المنسوب إليه جرهم اختلافا كثيرا. فقال محمد بن عبدة بن سليمان النسابة فيما رواه عنه ابن عبد البر: اختلف النسابون جميعا في نسب قحطان على ثلاثة مقالات، تفرق كل أهل مقالة منها على ثلاثة مقالات، فنسبته طائفة إلى إرم بن سام بن نوح، وقالت فيه ثلاث مقالات. ونسبته طائفة إلى غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وقالت فيه ثلاث مقالات ونسبته طائفة إلى إسماعيل بن إبراهيم، وقالت فيه ثلاث مقالات ... انتهى. وقد بان بما ذكرناه في هذه الترجمة التي ذكرت شيء من نسب جرهم وقحطان وشيء من خبرهما.

_ 1 في الروض الأنف 1/ 19: "قمعة". 2 الروض الأنف 1/ 19.

ذكر من ملك مكة من جرهم ومدة ملكهم لها وما وقع في نسبهم من الخلاف وفوائد تتعلق بذلك

ذكر من ملك مكة من جرهم ومدة ملكهم لها وما وقع في نسبهم من الخلاف وفوائد تتعلق بذلك: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق فذكر شيئا من خبر إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام وبني إسماعيل، ثم قال: "ثم توفي نابت بن إسماعيل، فولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي وهو جد نابت بن إسماعيل أبو أمه وضم بني نابت بن إسماعيل وبني إسماعيل إليه، وصاروا مع جدهم أبي أمهم مضاض بن عمرو ومع أخوالهم من جرهم، وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة، وعلى جرهم مضاض بن عمرو ملكا عليها وعلى قطورا رجل منهم يقال له: السميدع ملكا عليهم وكانا حينا ظعنا من اليمن أقبلا سيارة، وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم ملك يقيم أمرهم، فلما نزلا مكة رأيا بلدا طيبا وأراما1 وشجرا، فأعجبهما ونزلا به، فنزل مضاض بن

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي "وإذا ماء".

عمرو بمن معه من جرهم أعلا مكة وقعيقعان، فحاز ذلك، ونزل السميدع أجياد وأسفل مكة، فيما حاز ذلك. وكان مضاض بن عمرو يعشر من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشر من دخل مكة من أسفلها ومن كداء1، وكل في قومه على حاله، لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه. ثم إن جرهما وقطورا بغى بعضهما على بعض، وتنافسوا الملك بها، فاقتتلوا بها حتى نشبت الحرب أو شبت الحرب بينهم على الملك، وولاة الأمر بمكة مع مضاض بن عمرو بني نابت بن إسماعيل، وبني إسماعيل، وإليه ولاية البيت دون السميدع فلم يزل البغي حتى سار بعضهم على بعض، فخرج مضاض بن عمرو من قعيقعان في كتيبة سائرا إلى السميدع، ومع كتيبته عدتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب، يقعقع ذلك معه، ويقال: ما سميت قعيقعان إلا بذلك. وخرج السميدع بقطوراء من أجياد ومعه الخيل والرجال، ويقال: ما سميى أجياد إلا بخروج الخيل الجياد مع السميدع حتى التقوا بفاضح، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السميدع وفضحت السميدع وفضحت قطوراء، ويقال: ما سمي فاضح فاضحا إلا بذلك. ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ شعب بأعلى مكة يقال له: شعب عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فاصطلحوا بذلك الشعب، وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو، فلما جمع أمر مكة وصار ملكها له دون السميدع: نحر للناس وأطعمهم، وطبخ الناس وأكلوا فيقال: ما سمي المطابخ إلا بذلك. قال: وكان الذي بين مضاض بن عمرو والسميدع أول بغي كان بمكة فيما يزعمون، فقال مضاض بن عمرو الجرهمي في تلك الحرب يذكر السميدع وقتله وبغيه والتماسه ما ليس له: ونحن قتلنا سيد الحي عنوة ... فأصبح فيها وهو حيران موجع وما كان يبغي أن يكون سوانا ... بها ملك حتى أتانا السميدع2 فذاق وبالا حين حاول ملكنا ... وعالج منا غصة تتجرع فنحن عمرنا البيت كنا ولاته ... ندافع عنه من أتانا وندفع

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي "كدى". 2 في أخبار مكة للأزرقي: وما كان يبغي أن يكون سواءنا ... بها ملكا حتى أتانا السميدع

ومن كان يبغي أن يلي ذاك غيرنا ... ولم يكن حي قبلنا ثم يمنع وكنا ملوكا في الدهور التي مضت ... ورثنا ملوكا لا ترام فتوضع قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم أنها سميت المطابخ لما كان تبح نحر بها وأطعم بها، وكانت منزله. ثم نشر الله عز وجل بني إسماعيل بمكة، وأخوالهم جرهم إذ ذاك الحكام وولاة مكة والبيت، كانوا كذلك بعد نابت بن إسماعيل، فلما ضاقت عليهم مكة وانتشروا بها انبسطوا في الأرض وابتغوا المعاش والتفسح في الأرض، فلا يأتون قوم لا ينزلون بلدا إلا أظهرهم الله تعالى عليهم بدينهم فوطؤوهم وغلبوهم عليها، حتى ملكوا البلاد ونفوا عنها العماليق ومن كان ساكنا بلادهم التي كانوا اصطلحوا عليها من غيرهم، وجرهم على ذلك بمكة ولاة البيت لا ينازعهم إياه بنو إسماعيل لخؤولتهم وقرابتهم وإعظام الحرم أن يكون به بغي وقتال. حدثني بعض أهل العلم قالوا: كانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة، فضيعوا حرمة مكة، واستحلوا منه أمورا عظاما، ونالوا ما لم يكونوا ينالون، فقام رجل منهم يقال له عملوق، فقال: يا قوم أبقوا على أنفسكم فقد رأيتم وسمعتم خبر من أهلك من صدر الأمم قبلكم: قوم هود، وصالح، وشعيب، فلا تفعلوا المنكر وتواصلوا، ولا تستخفوا بحرم الله وموضع بيته، وإياكم والظلم والإلحاد فيه، فإنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلا قطع دابرهم، واستأصل شأفتهم، وبدل أرضا غيرهم، حتى لا يبقى لهم بقية، فلم يقبلوا ذلك منه، وتمادوا في هلكة أنفسهم، قالوا: ثم إن جرهما وقطورا أخرجوا سيارة من اليمن، وأجدبت بلادهم عليهم، فساروا بذراريهم وأنفسهم وأموالهم، وقالوا: نطلب مكانا فه مرعى تسمن فيه ماشيتنا، فإن أعجبنا أقمنا فيه، فإن كل بلاد نزل بها أحد ومعه ذريته وماله فهي وطنه وإلا رجعنا إلا بلادنا فلما قدموا مكة وجدوا فيها ماء معينا وعضاها ملتفة من سلم وسمر، ونباتًا أسمن1 مواشيهم، وسعة من البلاد، ودفئا2 من البرد في الشتاء، وقالوا: إن هذا الموضع يجمع لنا ما نريد، فأقاموا مع العماليق، وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم، وكان ذلك سنة فيهم، ولو كانوا نفرا يسيرا، فلما كان مضاض بن عمرو ملك جرهم والمطاع فيهم، وكان السميدع ملك قطورا، فنزل مضاض بن عمرو أعلا مكة، فكان يعشر كل من دخلها من أعلاها، وكان حوزهم وجه الكعبة والركن الأسود والمقام وموضع زمزم مصعدا يمينا وشمالا وقعيقعان إلى أعلى الوادي، ونزل السميدع أسفل مكة وأجيادا3،

_ 1 في أخبار مكة: "ملتفة من سلم، وسمر ونباتا يسمن مواشيهم". 2 في أخبار مكة: "ودفا". 3 في أخبار مكة للأزرقي: "أجيادين".

فكان يعشر من دخل مكة من أسفلها، وكان حوزهم المسفلة، وظهر الكعبة، والركن اليماني والغربي، وأجياد، والثنية إلى الرمضة، فبنيا فيها البيوت واتسعا في المنازل وكثروا على العماليق، فنازعهم العماليق فمنعتهم جرهم وأخرجوهم من الحرم كله، فكانوا في أطرافه لا يدخلونه، فقال لهم صاحبهم عملوق: ألم أقل لكم لا تستخفوا بحرمة الحرم فغلبتموني؟ فجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما، وكثروا وازيلوا وأعجبتهم البلاد، وكانوا قوما عربا، وكان اللسان عربيا، فكان إبراهيم عليه السلام خليل الله يزور إسماعيل عليه السلام، فلما سمع لسانهم وإعرابهم، سمع لهم كلاما حسنا، ورأى قوما عربا وكان إسماعيل عليه السلام قد أخذ بلسانهم، أمر إسماعيل أن ينكح فيهم، وخطب إلى مضاض بن عمرو ابنته رعلة، فزوجه إياها، فولدت له عشرة ذكور، وهي أم البيت وزوجته التي غسلت رأس إبراهيم عليه السلام حين وضع رجله في المقام. ثم قال: فلم يزل أمر جرهم يعظم بمكة ويستفحل حتى ولوا البيت، فكانوا ولاته وحجابه، وولاة الأحكام بمكة، فجاء سيل فدخل البيت، فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم عليه السلام وكان طوله في السماء تسعة أذرع، وقال بعض أهل العلم: كان الذي بني البيت لجرهم أبو الجدرة، فسمي عمرو الجادر، وسموا بنوه الجدرة. قال: ثم إن جرهما استخفت أمر البيت الحرام وارتكبوا أمورا عظاما وأحدثوا فيها المظالم وأحدثوا ما لم يكن، فقام مضاض بن عمرو بن الحارث فيهم خطيبا فقال: يا قوم احذروا البغي فإنه لا بقاء لأهله، قد رأيتم من كان قبلكم من العماليق استخفوا بالحرم فلم يعظموه، وتنازعوا بينهم واختلفوا فسلطكم الله عليهم فأخرجتموهم، فتفرقوا في البلاد، فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة البيت بيت الله عز وجل، ولا تظلموا من دخله أو جاءه معظما لحرمته، أو جاء بائعا لسلعته أو مرتعيا1 في جواركم، فإنكم إن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا منه خروج ذل وصغار، حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل الحرم ولا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرم وأمن والطير تأمن فيه، فقال قائل منهم يقال له يجدع2: من الذي يخرجنا منه؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالا وأموالا وسلاحا؟ فقال مضاض بن عمرو: إذا جاء الأمر بطل ما تقولون. فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون، وكان للبيت خزانة بئر في بطنها يلقى فيها الحلي والمتاع الذي يهدى له، وهو يومئذ لا سقف له، وتواعد له خمسة نفر من جرهم أن يسرقوا ما فيها، فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم، واقتحم الخامس، فجعل الله عز وجل أعلاه أسفله، وسقط منكسا، فهلك، وفر الأربعة الأخر. فعند ذلك مسحت الأركان الأربعة.

_ 1 في أخبار مكة: "مرتعبا" وهو خطأ. 2 في أخبار مكة للأزرقي: "مجدع".

ثم قال: وقال أهل العلم: إن جرهما لما طغت في الحرم دخل رجل منهم وامرأة يقال لها إساف ونائلة البيت ففجرا فيه فمسخهما الله تعالى حجرين، فأخرجا من الكعبة فنصبا على الصفا والمروة ليعتبر بهما من رآهما وليزدجر الناس عن مثل ما ارتكبا1 ... انتهى. وقد يشتمل هذا الخبر على أمور من حال جرهم، وفيه موضعان يقتضيان أنهم أخرجوا العماليق من مكة، وهذا الخبر الذي أشرنا إليه بعد ذكرنا لخبر ابن عباس وابن خيثم في خروج العماليق من مكة، لكونه يفهم خلاف ما يفهمه الخبران المشار إليهما ... والله أعلم. وأظن أن أبا الوليد الأزرقي مؤلف "أخبار مكة" هو القائل: حدثني بعض أهل العلم، قالوا: كانت العماليق هم ولاة الحكم في مكة2، إلى آخر ما ذكرناه من خبر العماليق وقطورا وجرهم، ويحتمل أن يكون قائل ذلك هو ابن إسحاق زيادة على ما ذكره من خبر جرهم وقطورا لما في ذلك من الفوائد الزائدة على ما ذكره أولا ... والله أعلم. وذكر المسعودي خبر جرهم وقوم السميدع على وجه يخالف ما ذكره الأزرقي عن ابن إسحاق، وأفاد في ذلك ما لم يفده غيره، فاقتضى ذلك ذكر ما فيه مما يلائم خبر المشار إليهم دون ما فيه من خبر غيرهم، إلا ما لا بد من ذكره، لارتباط الكلام به، قال المسعودي: ولما أسكن إبراهيم ولده عليهما السلام مكة مع أمه هاجر ثم قال: وكان من خبر إسماعيل وخبر هاجر ما كان إلى أن أنبع الله زمزم وأقحط الشحر واليمن، فتفرقت العماليق وجرهم، ومن هنالك من عاد، فيممت العماليق نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى والدار المخصبة وعليهم السميدع بن هوثر بن لاوي بن قطور بن كركر بن حمدان3، فلما أمعنت4 بنو كركر من المسير وقد عدمت الماء والمرعى واشتد بها الجهد، أقبل السميدع بن هوثر يرتجز بشعر له يحثهم على المسير ويشجعهم فيما نزل بهم، فقال: سيروا بني الكراكر في البلاد ... إني أرى الدهر في فساد قد سار من قحطان ذو الرشاد فأشرف روادهم وهم المتقدمون منهم لطلب الماء على الوادي، فنظروا إلى الطير يرتفع وينخفض، فاستبطنوا الوادي، فنظروا إلى العريش على الربوة الحمراء، يعني

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 81- 88. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 89, 3 في مروج الذهب "السميدع بن هوبر بن لاوي بن قيطور بن كركر بن حيدان، وفي نسخة: السميدع بن هود بن لابي بن قنطور". 4 في مروج الذهب 1/ 582: "أجهدت".

موضع البيت، لأنه ذكر أنه كان ربوة حمراء، وفيها هاجر وإسماعيل، وقد زما حول الماء بالحجارة، ومنعوه من الجريان، ثم قال: فسلم الرواد عليهما واستأذنوهما في نزولهم وشربهم من الماء، فأنست إليهم وأذنت لهم في النزول، فتلقوا من وراءهم من أهلهم، وأخبروهم خبر الماء، فنزلوا الوادي مطمئنين مستبشرين بالماء لما أضاء لهم الوادي من نور النبوة وموضع البيت الحرام. ثم قال: وتسامعت جرهم ببني كركر، ونزولهم في الوادي، وما هم فيه من الخصب ودر الضرع، وهم في حال قحط، فساروا نحو مكة وعليهم الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد بن رقب بن ظالم بن هني1 بن نبت بن جرهم، حتى أتوا الوادي، ونزلوا على مكة، واستوطنوا الدار مع إسماعيل ومن تقدمهم من العماليق من بني كركر، وقد قيل في كركر: إنهم من العماليق، وقيل: من جرهم، والأشهر أنهم من العماليق. ثم قال بعد ذكر شيء من خبر إسماعيل: ولما قبض إسماعيل قام بالبيت بعده نابت بن إسماعيل، ثم قام بعد نابت إياس بن جرهم لغلبة جرهم على دار إسماعيل، وكان ملك جرهم يومئذ الحارث بن مضاض، وهو أول من ولي البيت، فكان ينزل هنالك في الموضع المعروف بقعيقعان لما ذكرنا، وخرج السميدع ملك العماليق معه الجياد من الخيل، فعرف الموضع بجياد إلى هذا الوقت، فكانت على الجرهميين فافتضحوا، فسمي الموضع فاضحا إلى هذه الغاية، ثم اصطلحوا ونحروا الجزور وطبخوا، فسمي الموضع المطابخ إلى هذه الغاية، وصارت ولاية البيت إلى العماليق، ثم كانت لجرهم عليه، فأقاموا ولاة البيت نحو ثلاثمائة سنة، وكان آخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر بن عمرو بن الحارث بن مضاض الأكبر، وزاد في بناء البيت ورفعه عما كان من بناء إبراهيم2 ... انتهى. وقد أغرب المسعودي فيما ذكره من أن ملك جرهم حين قدموا إلى مكة: الحارث بن مضاض بن عمرو، فإن المعروف أن ملكهم إذ ذاك مضاض بن عمرو كما ذكر ابن إسحاق وغيره، وذكر المسعودي بعد ذلك ما يوافق ما ذكره ابن إسحاق.

_ 1 في مروج الذهب: "هيني" وفي نسخة: "ظالم بن مجالة بن هي". 2 مروج الذهب 2/ 46-50.

وممن ذكر أن أول ملوك جرهم بمكة مضاض بن عمرو بن غالب الجرهمي الزبير بن بكار، لأنه قال: كان أول من ولي البيت من جرهم مضاض بن عمرو بن غالب الجرهمي، ثم ولده بعده، ثم بنوه كابرا عن كابر، حتى بغت جرهم بمكة ... انتهى. وأغرب المسعودي أيضا فيما ذكره من أن جرهما لما اقتتلوا مع السميدع وقومه، كانت الدائرة على الجرهميين، وأن ولاية البيت صارت للعماليق، ثم صارت لجرهم، والمعروف في قتال الفريقين أن الدائرة كانت على السميدع وقومه، وأنه قتل في هذه الواقعة، وانفرد مضاض بن عمرو الجرهمي بملك مكة كما هو مقتضى ما ذكره ابن إسحاق وغيره، ولا أعلم للمسعودي فيما ذكره في ذلك سلفا ولا خلفا إلا "شارخ العبدونية" فإنه ذكر في ذلك نحو ما ذكره المسعودي، ولعله قلد المسعودي في ذلك، فإنه متأخر عنه، والله أعلم. وأفاد المسعودي رحمه الله فيما ذكره من خبر الفريقين أمورا لم يفدها غيره فيما علمت، منها: كون السميدع وقومه من العماليق، ومنها: كونهم قدموا إلى مكة قبل جرهم، ومنها: ما ذكره في مدة ملك جرهم، وأفاد في "تاريخه" أيضا في ملكهم غير ذلك، لأنه قال: ووجدت في وجه آخر من الروايات أن أول من ملك من ملوك جرهم بمكة مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هني بن نبت بن جرهم بن قحطان مائة سنة، ثم ملك بعده ابنه عمرو بن مضاض مائة وعشرين سنة، ثم ملك الحارث بن عمرو مائة سنة، وقيل دون ذلك، ثم ملك بعده عمرو بن الحارث مائتي سنة، ثم ملك بعده مضاض بن عمرو الأصغر بن الحارث بن عمرو بن مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هني بن نبت بن جرهم بن قحطان أربعين سنة1 ... انتهى. وقد ذكر "شارح العبدونية" مدة ملوك جرهم وترتيبهم على وفق كلام المسعودي هذا بالمعنى، إلا أنه لم يذكر القول الذي ذكره المسعودي في أن مدة ملك الحارث بن عمرو بن مضاض دون مائة سنة. وذكر الشارح أيضا في مدة ملك جرهم غير ما ذكره المسعودي، ونص كلامه: وكانت ولاية البيت بعد نابت بن إسماعيل في جرهم نحو ثلاثمائة سنة، وقد قيل: خمسمائة سنة وستين سنة، وقيل: ستمائة سنة ... انتهى. والقول الثاني يوافق ما ذكره المسعودي في مدة ملكهم.

_ 1 مروج الذهب 2/ 51.

وما ذكره المسعودي في نسب السميدع يخالف ما ذكره السهيلي في نسبه، لأن المسعودي ذكر أنه السميدع بن هوثر -بثاء مثلثة قيدها- البكري بن لابي بن قطور بن كركر بن عملاق1 فوقعت المخالفة في اسمين، أحدهما قطور بدل قطورا، وجيدان بدل عملاق، ولعل الصواب ما ذكره السهيلي، إلا أن يكون ذلك تصحيفا من ناسخ النسخة التي رأيتها من "تاريخ المسعودي"، ورأيت فيها ما يقتضي أن هوبر بالباء ذكر "شارح العبدونية" نسب السميدع كالمسعودي، إلا أنه انتهى في نسبه إلى الكركر، ووقع في بعض نسخ الشرح ابن هود، وليس السميدع هذا بالسميدع الذي حاربه يوشع بن نون، وإن كانا قد اتفقا في الاسم واسم الأب، وفي الانتساب إلى العماليق، ولأن المسعودي قال في أخبار يوشع بن نون: وسار ملك الشام وهو السميدع بن هوثر2 بن ملك إلى يوشع بن نون، فكانت له معه حروب إلى أن قتله يوشع، واحتوى على جميع ملكه، ثم قال: وقد قيل إن يوشع بن نون كان يريد3 محاربته لملك العماليق وهو السميدع، ببلاد أيلة صوب مدين4 ... انتهى. والدليل على ما ذكرناه من أن السميدع هذا ليس بالسميدع الذي حاربه يوشع بن نون: أن السميدع ملك قطور كان في زمن الخليل عليه السلام على ما يقتضي كلام المسعودي في الخبر الذي سبق ذكرنا له باختصار، ويوشع المحارب للسميدع كان بعد الخليل عليه السلام بزمن طويل، لأن بين يوشع والخليل عليه السلام خمسة آباء، فإنه على ما ذكره المسعودي: يوشع بن نون بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإذا كان بين يوشع والخليل عليه السلام هذه الآباء كان متأخرا عن الخليل بدهر طويل، فيكون كذلك السميدع، والسميدع ملك قطورا من العماليق، والزباء الملكة من ذريته على ما فهم السهيلي1 من كلام صاحب "الأغاني"5، والله أعلم. وذكر السهيلي ما يقتضي أن قطورا الذي منهم السميدع هذا من جرهم، لأنه قال لما ذكر الآباء التي بين عدنان وإبراهيم عليه السلام: وذكر -يعني الطبري6 فيهم أيضا دوس العتقي، وكان أحسن الناس وجها، وكان يقال في المثل: أعتق من دوس، وهو الذي هزم جيش قطورا من جرهم7 ... انتهى.

_ 1 الروض الأنف 1/ 136. 2 في مروج الذهب: "هوبر". 3 في مروج الذهب: "كان بدء محاربته". 4 مروج الذهب 1/ 51. 5 في كتابه "الأمثال" كما صرح السهيلي في الروض الأنف 1/ 139. 6 تاريخ الطبري 2/ 275. 7 الروض الأنف 1/ 12.

وما ذكره المسعودي في نسب ملوك جرهم مخالف لما ذكره السهيلي في ذلك، وكلام المسعودي أيضا مختلف، لأنه أعنى المسعودي ذكر أن جرهما لما ساروا نحو مكة كان عليهم الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن ظالم بن هني1 بن نبت بن جرهم2. وقال أيضا: ووجدت في وجه آخر من الروايات أن أول ملك من ملوك جرهم بمكة مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هني بن نبت بن جرهم3. وقال السهيلي: وكان الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هني4 بن نبت بن جرهم قد نزل قنونا5 من أرض الحجاز6، وذكر قضية يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، ووقعت المخالفة في كلام المسعودي في "هني" بالهاء والنون، وفي "منى" بالميم، وفي زيادة "ظالم" بين الرقب" وبين "مي" وفي إسقاط ظالم، ووقعت المخالفة بين المسعودي والسهيلي في زيادة "ظالم"، وفي "هني" هل هو "هني" بالنون كما ذكر المسعودي، أو هي بلا نون كما ذكر السهيلي، أو هي بالميم كما ذكر المسعودي، إلا أن يكون ذلك غلطا من ناسخ أحد الكتابين فتنتفي المعارضة، والله أعلم. وذكر الشيخ فتح بن موسى بن حماد الأندلسي7 في كتاب له نظم فيه السيرة لابن إسحاق خبرا طويلا، فيه ما يخالف ما ذكره المسعودي والسهيلي في نسب ملوك جرهم، وفيه ما يخالف ما ذكره ابن إسحاق في سبب تسمية قعيقعان وأجياد وفاضح والمطابخ وغير ذلك، فاقتضى ذلك ذكره لإفادة ذلك وغيره من الفوائد، وهو أن إلياس بن مضر قال: سألت عمي إياد بن نزار عن أصل ماله وكان متمولا فذكر أنه مرت عليه سنون، لم يبق له سوى عشرة أبعرة، يعود بكراها على أهله، وذكر أنه كان أكبر إخوته، ثم قال: فخرج إياد إلى الشام بجماله فلم يجد من يكتري منه، فسمع صوتا كالرعد ينادي: من يحملني إلى الحرم وله وقر جمل درا وياقوتا وعقيانا، ولا يجيبه أحد، فتتبع الصوت، إلى أن وجد رجلا أعمى كالنخلة السحوق، ولحيته تناطح ركبتيه، فراعه ذلك وقال: عندي يا شيخ حاجتك. قال: ادن مني، فدنا منه. فقال: أنت إياد بن نزار؟ فقال: نعم! فمن عرفك باسمي؟ قال: علمه عندي عن جدي أن إياد بن نزار يرد الحارث بن مضاض

_ 1 عند المسعودي: "هيني" وفي نسخة "هي". 2 مروج الذهب 2/ 47. 3 مروج الذهب 2/ 51. 4 في الروض: "هي". 5 في الروض: "بقنوني" وهي القنقدة. 6 الروض الأنف 1/ 138. 7 فقيه عالم بالأدب والحكمة والمنطق، ولد بالجزيرة الخضراء سنة 588هـ. وتوفي بها سنة 663هـ وتولى القضاء بأسيوط بمصر، ومن كتبه "نظم المفضل للزمخشري" و"نظم الإشارات لابن سينا". انظر: الأعلام ص: 766.

إلى مكة من طول غربته، فقال: كم جملا عندك؟ قلت: عشرة: قال: تكفيني، قلت هل معك غيرك؟ قال: لا ولكني إنما أركب الجمل يوما وأتميل، فقلت، قد لفظت له بجملة، فلا أعود، وبيننا وبين مكة عشرة مناهل، فحملته، وكلما حسر جمل قطرته إلى آخر، إلى أن عارضنا مكة، فقال: يا بني إني أحسب الجمل يجمر بي جمرا وأظنه واقعا حول جبل المطابخ قلت: نعم. قال: اسمع آخر كلامي، قلت: نعم. قال: أنا الحارث بن مضاض بن عبد المسيح بن بقيلة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود عليه السلام. كنت ملك مكة وما والاها إلى هجر، ومدين وثمود، وكان أخي عمرو بن مضاض ملكا قبلي، وكنا نعلق التيجان على رءوسنا يوما ويوما نعلقها بباب الحرم، فحضر يهودي بدرٍّ وياقوت، فاشترى منه أخي ما شاء الله، وأنصفه في الثمن، ووفاه، فباع أفخره على السوقة، فسمع أخي، فانتزع جميع ما كان معه، فأغفل اليهودي حارس التاج بباب الحرم فقتله، وحمل التاج، فلم نعرف الخبر إلا ممن رآه بالبيت المقدس، فأرسل أخي إلى ملكهم فأران بن سبط يليامين بن يعقوب أن يرد التاج ويأخذ حق اليهودي، فلم يفعل، فخرج إليهم أخي في مائة ألف وخمسين ألفا من أجناده ومن العمالقة وقضاعة، واستنصر فأران بن شنيف بن هرقل، فخرج إلينا في مائتي ألف، وجماعة من أهل الشام فساروا إلينا ونزلوا شرقي هذا الجبل، ونزلنا غربيه، وأوقدنا كلنا النيران، وطبخوا وطبخنا، فسمي ذلك جبل المطابخ، ثم نزلنا قعيقعان فتقعقعنا نحن وهم بالجحف والسلاح، فسمي الجبل قعيقعان، ثم لم اصطففنا خرج أخي وقال: أنا الملك عمرو بن مضاض فابرز لي يا شنيف، فمن أظفره الله كان الملك له، ففعل، فقتله أخي على ربوة فاضح، فنزل إليه فجره برجليه وفضح بذلك، فسميت تلك الربوة ربوة فاضح، وامتنع "فأران" من الوفاء بما التزمه شنيف، فقاتلناهم، وقتل أخي فأران، فانهزموا، وتبعناهم إلى بيت المقدس، فأذعنوا للطاعة، فتزوج أخي منهم برة بنت شمعون، ولم يكن في زمانهم أجمل منها، فشفعت له أن يرحل عن قومها، فرحل، فلما بلغ مكة، وكان عنده مائة رجل من أعيان بني إسرائيل رهائن على الطاقة فلما كانوا بأجياد سمت زوجته مسكة من حديد وألقتها في فراشه، فلما نام عليها مات، وهربت الزوجة في الرهان المائة على نجب عدوها، فلحقناهم وأحضرناهم، فأمرت بقتلهم، فقال أولهم للسياف: لا تخفض ولا ترفع وانزل بسيفك على الأجياد، فسمي موضع قتلهم بالأجياد، وملكت وتزوجت بها، وقصدتني بنو إسرائيل بجنود عظيمة، ومعهم تابوت داود عليه السلام الذي فيه السكينة والزبور، فهزمتهم، وأخذت جرهم التابوت فدفنته في مزبلة، فنهبتهم فعصوني، فأخرجته ليلا ووضعت مكانه تابوتا يشبهه، ونهاهم عنه هميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل، فأبوا فأعطيته التابوت، فسلط الله على جرهم والعمالقة عللا كثيرة، فماتوا إلا من كره فعلهم، فملكت ابني عمرو، وخرجت

أجول في الأرض، فضربت الأمثال بغربتي، وسار به إلى شعب الأثل عند غيضة زيتون فقال: يا بني قد خلونا وثالثنا الله الشاهد العالم الواحد، وإذا أسديت نعمة للمرء وجب عليه شكرها، وقد أسديت إلي نعمة وجب علي شكرها، فعلي لك النصيحة أو أقع في الفضيحة: أنبئك بما ينجيك، والذي به أهديك أحب إلي مما أغنيك، يا بني هل ولد في آل مضر مولود اسمه محمد؟ قلت: لا، قال: إنه سيولد ويأتي حينه ويعلو دينه ويقبل أوانه، ويشرف زمانه، فإن أدركته فصد وحقق، وقبل الشامة التي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، وقل له: يا خير مولود، دعوت إلى معبود، فأجب ولا تخب، ثم قال: شكر مسارعا نعم الأيادي ... لخير الناس كلهم أبادي إلى ابن نزار حيث الفقر حتى ... نزلت برحله من غير زاد وذكر باقي الأبيات، ثم أتى صخرة عظيمة مطبقة على صخرة فقلعها، ودخل معه سربا، وذكر العقبة، إلى أن دخل بيتا فيه أربعة أسرة، سرير خال، وثلاثة عليها رجال، وفي البيت كرسي دار وياقوت وعقيان ولجين، فقال لي: خذ وقر جملك لا غير، وقال له: هذاك الذي على يسار سريري الخالي مضاض أبي، والذي على يساره ابنه عبد المسيح، والذي على يساره سرير ابنه بقيلة، لوح رخام فيه مكتوب: أنا بقيلة بن عبد المدان، عشت خمسمائة سنة في طلب الملك، فلم يكن ذلك ينجيني من الموت، وعلى رأس عبد المسيح، أنا عبد المسيح، عشت مائة سنة وركبت مائة فرس، وافتضضت مائة بكر، وقتلت مائة مبارز، وأخذني الموت غضبا فأورثني أرضا، وعلى رأس مضاض: أنا مضاض عشت ثلاثمائة سنة، أخذت مصر والقدس، وهزمت الروم بالمرادن، ولم يكن لي بد من الموت، ثم استوى على سريره الخالي، وإذا على رأسه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض، عشت أربعمائة سنة، ملكت مائة، وجلت في الأرض ثلاثمائة سنة متغربا بعد هلاك قومي جرهم، ثم قال: يا بني ناولني القارورة التي في تلك الكسوة، فناولته إياها، فشرب نصفها وادهن بنصفها، وقال: إذا أتيت إخوتك وقومك فقالوا لك: من أين لك هذا المال؟ فقل لهم: إن الشيخ الذي حملته هو الحارث بن مضاض الجرهمي، فهم يكذبونك، فقل لهم: إن آيتي الحجر المدفون بجوار زمزم فيه مقام إبراهيم، وفي الحجر الذي يليه شعر الحارث بن مضاض، وهو قوله: كأن لم يكن بن الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر1

_ 1 هذا البيت من قصيد طويلة تروي عن المضاض بن عمرو الجرهمي، وراجعها في صفحة 47 من كتاب "تاريخ القطبي". وستأتي الأبيات بعد قليل وتنسب لعمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي.

الأبيات الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى، ثم قال: ناولني القارورة الأخرى، فناولته فشربها، فصاح صيحة فمات، فخرجت بما معي من المال ... انتهى. هذا الخبر على ما هو مذكور في الكتاب المذكور، إلا أني تركت منه شيئا لا تعلق له بخروجهم، وإنما له تعلق بحال إياد بن نزار، وسوى لفيظات في الخبر مصحفة في النسخة التي نقلت منها هذا الخبر، فكتبتها على الصواب إلا ما لم يتجه لي فيه وجه الصواب، فكتبته على ما وجدته في النسخة التي نقلت منها هذا الخبر: تسمية أخي الحارث بن مضاض بعمر بغير واو، ولا أدري هل ذلك صواب؟ والصواب: عمرو بالواو. وقال الأندلسي بعد ذكره لهذا الخبر: فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الحكاية من مخالفات ما نقله صاحب السيرة من أن هذا الشعر لعمرو بن الحارث بن مضاض، وهو ههنا لوالده، قال: ويمكن الجمع بأن يكون ولده تمثل بها لما فاروا مكة، ثم نبه رحمه الله على أن ما في هذا الخبر من نسب الحارث بن مضاض مخالف لما ذكره السهيلي في نسبه، وقد سبق ما ذكره السهيلي في نسب جرهم، فأغنى عن إعادته. ومن موجبات ذكر فتح الأندلسي لهذا الخبر الاستدلال به على خلاف ما ذكره السهيلي فيما اعترض به على ابن إسحاق فيما ذكره في سبب تسمية أجياد، ويذكر كلاما ثم يتبعه بتعقب فتح له، لما في ذلك من الفائدة. قال السهيلي رحمه الله: وأما أجياد فلم يسم بأجياد من أجل جيل الخيل، كما ذكر -يعني ابن إسحاق- لأن جياد الخيل لا يقال فيها: أجياد، وإنما أجياد جمع جيد، وذكر أصحاب الخبر أن مضاضا ضرب في ذلك الموضع من أجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بأجياد، وهكذا ذكر ابن هشام في غير هذا الكتاب1 ... انتهى. وأما تعقب فتح بذلك فلأنه قال: قلت: وما ذكره السهيلي لا يلزم ابن إسحاق، لأن تسمية الشيء لأجل لا يلزم أن يصدق على لفظه بحاله، بل يصدق عليه، كما ذكروه في المطابخ وفاضح، وقد لا يصدق كما ذكره في قعيقعان، فيكون كحكم الجياد مع أجياد، وكحكم القعقعة مع قعيقعان، ويحتمل أن يكون مراده لأجل أجياد الجياد، لأن أعناق الخيل أول ما ظهرت هناك، فيكون على حذف المضاف لقربه من الصفة، على أن لا يسلم له أنه لا يجمع جيد على جيد، فإن المنقول عن سيبويه رحمه الله أن جيدا فعل بضم الفاء وسكون العين كريح، وقد جمعوا الريح على رياح، فكذلك الجيد على هذا التقدير يجمع على جياد، ويؤيد هذا أن سيبويه رحمه الله ذكر أن باب فعل يجمع في التكسير على فعول وفعال، وإن كان جمع فعول فيه أكثر من فعال.

_ 1 الروض الأنف 1/ 136.

وأما ما ذكره عن أصحاب الأخبار من ضرب مضاض في ذلك الموضع أجياد مائة من العماليق، فإن الذي نقلته من كتب جماعة أن الذي ضرب الرقاب هناك لم يكن مضاضا، ولا كانت المائة المقتولة من العمالقة أصلا، فإن أصحاب الأخبار قد ذكروا في حديث طويل نذكر معناه مختصرا لأن فيه ما يدل على البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أن إلياس بن مضر قال: سألت عمي إياد بن نزار عن أصل ماله، وكان متمولا، فذكر الخبر المتقدم ... انتهى. قلت: لا مانع من أن يكون مضاض بن عمرو الجرهمي ضرب أيضا بأجياد: أجياد مائة رجل من العمالقة، لما ظهر على قطورا قوم السميدع وهم من العمالقة كما تقدم، ويصح بذلك ما نقله السهيلي عن ابن هشام وغيره من أهل الأخبار، وتكون ذلك قضية، وما ذكره من فتح الأندلس قضية أخرى، وقد ذكر صاحب "الاكتفا" ما يؤيد ذلك، لأنه قال: وغير ابن إسحاق يقول: إنما سمي بأجياد لأن مضاضا ضرب في ذلك الموضع جياد مائة رجل فيه من العمالقة، وقيل: بل أمر بعض الملوك غير مسمى بضرب الرقاب فيه، فكان يقول لسيافه توسطا لأجياد، وهذا أو نحوه أصح في تسمية الموضع بأجياد مما قال ابن إسحاق ... انتهى. ولا منافاة بين ما ذكره صاحب "الاكتفا" من أن الملك قال لسيافه: توسط الأجياد، وبين ما تقدم في الخبر من أن قائل ذلك أول المقتولين، لإمكان أن يكون قال الملك ذلك أيضا لسيافه، كما قاله المقتول للسياف، لأن المقتول سأل ما لا يؤثر في مقصود الملك، فأجابه الملك إلى سؤاله، والله أعلم. وقد قيل في سبب تسميته أجياد وقعيقعان غير ما ذكره ابن إسحاق في سيرته، لأن الأزرقي ذكر خبرا في خبر تبع، قال فيه: "ثم سار تبع حتى قدم مكة، فكان سلاحه بقعيقعان، فيقال: فبذلك سمي قعقيعان، وكانت خيله بأجياد، ويقال: إنما سميت أجيادا بأجياد خيل تبع، وهذا الخبر رواه الأزرقي، عن جده، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج عن ابن إسحاق1. وقد قيل في سبب تسمية أجياد وقعيقعان، والمطابخ شيئا يستغرب، ذكره الفاكهي لأنه قال: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثني الوليد بن عطاء بن أبي مسلم الأعز، عن أبي صفوان المرواني قال: حدثنا ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أباكم إسماعيل أول من ذللت له الخيل العراب فأعتقها وأورثكم حبها"، وذلك أن الخيل العراب كانت كلها وحوشا كسائر الوحوش،

_ 1 أخبار مكة للأزرقي1/ 133.

فلما أذن الله عز وجل لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد من البيت أعطى لكل واحد منهم كنزا من كنوزه فأوحى الله إلى إسماعيل إني معطيك كنزا من كنوزي ذخرته لك لم أعطه أحدا قبلك، فخرج إسماعيل وما يدري ما ذلك الكنز وما يدري الدعاء، حتى أتى أجياد، فألهمه الله تعالى الدعاء فدعا به وأحيط الداعي بالخيل فلم يبق في بلاد العرب كلها فرس إلا أتاه وذلله الله تعالى له وأمكنه من نواصيها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فبذلك سميت أجياد أجيادا، لأنها اجتمعت في أجياد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فالخيل العراب تراث أبيكم إسماعيل فأعتقوها واركبوها". قال ابن عباس رضي الله عنهما: ووضع في الخيل وجاه السلاح، فكانت كلما أخرجت تقعقع بعضها على بعض، وبذلك سميت قعيقعان، وكان الطعام في الشعب الذي يدعى شعب عبد الله بن عامر، فبذلك سميت المطابخ1 ... انتهى. وشعب عبد الله بن عامر المشار إليه هو شعب بأعلى مكة يعرف عند الناس بشعب عامر، وفاضح المذكور فيما سبق من الأخبار هو على ما يقول الناس جبل بسوق الليل مما يلي المعلاة، وقد طال الكلام فيما يتعلق بسبب تسمية أجياد، وقعيقعان، والمطابخ، وفي نسب ملوك جرهم وقطورا، ولكن تحصل بذلك فوائد لا توجد مجتمعة، ولله الحمد.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 130.

ذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منها

ذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منها: اختلفت الأخبار فيمن أخرج جرهما من مكة اختلافا كثيرا يعسر فيه التوفيق بين الأخبار المروية في ذلك، فقيل: إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة أخرجوا جرهما من مكة لبغيهم فيها، وقيل: إن بني عمرو بن عامر ماء السماء أخرجوا جرهما من مكة حتى لم يترك جرهم بني عرمو بن عامر يقيمون عندهم بمكة حتى يصل إليهم روادهم. وقيل: إن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر أخرج جرهما من مكة حين طلب حجابة البيت لسيادته ولشرفه، وقيل: إن بني إسماعيل أخرجوا جرهما من مكة بعد أن سلط الله تعالى على جرهم آفات، وقيل: إن الله تعالى سلط عليهم دوابا فأهلكت كثيرا منهم، وجلا لذلك بعضهم عن مكة، والقول الأول ذكره ابن إسحاق، لأنه قال: ثم إن جرهما بغوا بمكة واستحلوا حلالا من الحرمة وظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها، فرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة، فآذنوهم بالحرب، فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان، فنفوهم من مكة، وكانت مكة في الجاهلية

لا كفر فيها ولا ظلما ولا بغيا، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته، فكانت تسمى الناسة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك. فيقال: ما سميت ببكة إلا لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها: قال ابن إسحاق: فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا فقال عمرو بن الحارث بن مضاض في ذلك وليس بمضاض الأكبر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ضاهر ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما تخطى لدينا المكاثر ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا ... فليس لحي غيرنا ثم فاخر ألم ينكحوا من غير شخص علمته ... فأبناؤها منا ونحن الأصاهر فإن تنثن الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا وفيها التشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك بين الناس تجري المقادر أقول إذا نام الخلي ولم أنم ... إذ العرش لا يبعد سهيل وعامر وبدلت منها أوجها لا أحبها ... قبائل منها حمير وتحابر وصرنا أحاديث وكنا بغبطة ... كذلك عضتنا السنون الغوابر فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم آمن وفيها المشاعر وتبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ... يظل به آمنا وفيه العصافر وفيه وحوش ولا ترام أنيسة ... إذا أخرجت منه فليس تغادر1 قال ابن هشام: قوله فأبناؤه عن غير إسحاق. قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن الحارث يذكر بكرا، وغبشان، وساكني مكة الذين خلفوا فيها بعدهم: يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

_ 1 راجع بعض أبيات القصيدة في صفحة 47 من تاريخ القطبي وفي كتاب الأغاني للأصبهاني 15/ 18، 19، وفي أخبار مكة للأزرقي 1م 97- 99، 1/ 127، 128. وبعض الأبيات في الروض الأنف 1/ 183، ومعجم البلدان 2/ 285، والكامل لابن الأثير 2/ 43، والبداية والنهاية 2/ 185، 186،ومروج الذهب 2/ 50، وعيون التواريخ 1/ 40.

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل المهات وقضوا ما تقضونا كنا أناسا كما كنتم فعيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا1 قال ابن هشام، هذا ما صح له منها: وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات هي أول شعر قيل في العرب، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن، ولم يسم قائلها2 ... انتهى. والقول الثاني في خروج جرهم من مكة ذكره الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح، فذكر خبرا طويلا فيه شيء من خبر جرهم، وخزاعة بمكة، وفيه أن ثعلبة بن عمرو بن عامر لما قدم مكة في قومه بعد تفرقهم من بلاد سبأ لما أخبرت به طريفة الكاهنة من خرابها بسيل العرم، أرسل إلى جرهم وسألهم أن يفتحوا له في بلادهم قدر ما يرسل رواده يرتادون له موضعا، فأبت ذلك جرهم وأخشنوا له القول، وأرسل إليهم ثعلبة يقول لهم: لا بد لي من المقام بهذا البلد حولا كاملا حتى ترجع إلي رسلي، فإن تركتموني طوعا حمدتكم وواسيتكم في الماء والرعي، وإن أبيتم أقمت على كرهكم، فإن قاتلتموني قاتلتكم، ثم إن ظهرت عليكم؛ سبيت النساء وقتلت الرجال، ولم أترك منكم أحدا ينزل الحرم، فأبت جرهم أن يتركوه طوعا، وتعبت لقتاله، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم انهزمت جرهم، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وكان مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو قد اعتزل جرهما ولم يعن جرهما في ذلك، وقال: كنت أحذركم هذا، ثم رحل هو وأهل بيته حتى نزل قنوني3 وحلي4 وما حول ذلك، ثم قال: وفنيت جرهم وقد أقناهم السيف في تلك الحرب، وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا. ثم قال: بعد أن ذكر تفرقهم في البلاد، بإشارة طريفة الكاهنة لما أصابهم من الحمى، وانخزعت خزاعة بمكة، وأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة الكعبة، ثم قال: فلما جاورت خزاعة أمر مكة وصاروا أهلها، جاءهم بنو إسماعيل، وكانوا قد اعتزلوا حرب جرهم وخزاعة، يدخلون في ذلك فسألوهم السكنى معهم، فأذنوا لهم في ذلك، فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن

_ 1 قارن الأبيات هنا بالأبيات الواردة في المصادر الأخرى المشار إليها، ففيها تقديم وتأخير واختلاف في الألفاظ. 2 سيرة ابن هشام 1/ 139، 140. 3 قنوني: هي القنفدة الميناء الحجازي المشهور، وهو واقع في جنوب مكة. 4 حلي: بالفتح ثم السكون، بوزن ظبي، مدينة باليمن على ساحل البحر. "معجم البلدان 2/ 297".

الحارث، وقد كان أصبه من الصبابة إلى مكة ما أحزنه، أرسل إلى خزاعة يستأذنها في الدخول عليهم والنزول معهم بمكة في جوارهم، فأبت خزاعة، ثم قال: فنزعت إبل لمضاض بن عمرو الجرهمي من قنونى تريد مكة، فخرج في طلبها حتى وجد أثرها، وقد دخلت مكة، فمضى على الجبال من نحو أجياد، حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن وادي مكة، فأبصرها تنحر وتؤكل لا سبيل له إليها، فخاف إن هبط الوادي أن يقتل، فولى منصرفا إلى أهله، وأنشأ يقول: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر ولم تتربع واسطا1 فجنوبه ... إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وبدلني ربي بها دار غربة ... بها الذئب يعوي والعدو المحاصر فإن تملأ الدنيا بكلبها ... ويصبح حال بعدنا وتشاجر فكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بهذا البيت والخبر ظاهر فأنكح جدي غير شخص علمته ... فأبناؤه منا البيت والخير ظاهر فأنكح جدي غير شخص علمته ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك بالناس تجري المقادر2 أقول إذا نام الخلي ولم أنم ... إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر وبدلت منهم أوجها لا أحبها ... وحمير قد بدلتها والعمائر وصرنا أحديثا وكنا بغبطة ... كذلك عقتنا السنون الغوابر وسحت دموع العين تبكي لبلدة ... كذا بها حرم أم وفيها المشاعر بواد أنيس ليس يؤذي حمامه ... ولا منفر يوما وفيها العصافر وفيها وحوش لا ترام أنيسه ... إذا أخرجت منها فما إن تغادر فيا ليت شعري هل يعمر بعدنا ... جياد فمضى سيله فالظواهر فبطن منى وحش كأن لم يسر به ... مضاض وفي حي عدي عمائر3 وقال أيضا: يا أيها الحي سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

_ 1 واسط، هو الجبل الذي يصل بين الحارة الموصلة إلى منى، والدرب الذي يمر منه المشاة من الحجاج والذي يعرفه أهل مكة بدرب المكيين. 2 كذا في جميع الأصول. 3 يلاحظ أن القصيدة تختلف في ترتيبها عما كانت عليه عندما أوردها المؤلف قبل قليل، وهي تختلف أيضا في الترتيب وزيادة بعض الأبيات ونقص بعض الأبيات في المصادر المشار إليها قبل قليل في الحاشية.

إنا كما كنتم فغيرنا دهر ... فسوف كما صرنا تصيرونا أرخوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما يقضونا إن التفكر لا يجدي بصاحبه ... عند البديهة في علم تعيدونا قضوا أموركم بالحزم إن لها ... أمور رشيد وشدوا ثم مسنونا واستخبروا في صنيع الناس قبلكم ... لما استبان طريف عنده الهونا كنا زمانا ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في جوار الله تأتونا قال: وانطلق مضاض بن عمرو نحو اليمن إلى أهله وهم يتذاكرون ما حال بينهم وبين مكة وما فارقوا من أهلها وملكها، فحزنوا على ذلك حزنا شديدا وجعلوا يقولون الأشعار في مكة1 ... انتهى باختصار، لمواضع من هذا الخبر لها تعلق بخبر خزاعة نذكرها فيما بعد وغير ذلك، وفيما ذكرنا من كلمات ذكرناها بالمعنى. والقول الثالث في سبب خروج جرهم من مكة ذكره الفاكهي، لأنه قال: ويقال في رواية أبي عمرو الشيباني: إن حجابة البيت صارت إلى خزاعة لأن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن تزوج فهيرة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له عمرو بن ربيعة، فلما شب وساد وشرف طلب حجابة البيت، فعند ذلك نشب القتال بينهم وبين جرهم، ثم قال بعد أن ذكر شيئا من خبر عمرو وأولاده: وكانت بينهم حرب طويلة وقتال شديد، ثم إن خزاعة غلبوا جرهما على البيت، وخرجت جرهم حتى نزلت وادي إضم2 فهلكوا فيه. وفي هذا الخبر شيء من خبر جرهم، لأن فيه: وذكروا -والله أعلم- أن إسافا كان رجلا من بني قطورا أخذ امرأة من جرهم يقال لها نائلة، ففجر بها في الكعبة، فمسخهما الله حجرين، فغضب عمرو من ذلك فأخرج بني مضاض وكانوا أخواله، وكانوا أخرجوهم خروجا من مكة فلحقوا باليمن، فتفرقوا في القبائل، فقال بكر بن غالب بن الحارث بن مضاض: وأخرجنا عمرو سواها لبلدة ... بها الذئب يعوي والعدو المحاصر وقال أيضا: وكنا ولاة البيت والقاطن الذي ... إليه يوفي نذره كل محرم

_ 1 قارن بأخبار مكة للأزرقي 1/ 90- 100 ففيه اختلاف في الألفاظ. 2 بالكسر ثم الفتح، ذو إضم: ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند السمينة. وقيل: وادٍ بجبال تهامة. وقيل: وادٍ يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر. "معجم البلدان 1/ 214، 215".

سكنا بها قبل الظباء وراثة لنا ... عن بني حي بن نبت بن جرهم فأزعجنا منه وكنا عقيلة ... قبائل من كعب وعوف وأسلم1 والقول الرابع في خروجهم جرهم من مكة، ذكره المسعودي، لأنه قال في أثناء الخبر السابق في خبر جرهم وقطورا: وبغت جرهم في الحرم وطغت، حتى فسق رجل منهم بإمرأة في البيت، وكان الرجل يدعى بإساف والمرأة بنائلة، فمسخهما الله حجرين فصيرا وثنين، وعبدا تقربا بهما إلى الله، فبعث الله عز وجل الرعاف والنحل وغير ذلك من الآيات على جرهم، فهلك كثير منهم وكثر ولد إسماعيل وصاروا ذوي قوة ومنعة، فغلبوا على أخوالهم من جرهم فأخرجوهم عن مكة، فلحقوا ببلاد جهينة، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم مكان الموضع الذي يدعى بإضم، وقد ذكر ذلك أمية بن أبي الصلت الثقفي في شعر له فقال: وجرهم دمثوا تهامة في الدهر ... فسالت بجمعهم إضم وفي ذلك يقول الحارث بن مضاض الأصغر الجرهمي: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بل نحن كنا أهلها فإذا لنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وكنا لإسماعيل صهرا وجيرة ... ولما تدر فيها علينا الدوائر وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخبر ظاهر وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث ابنه: وكنا ولاة البيت والقاطن الذي ... إليه يوفي نذره كل محرم سكنا بها قبل الظباء وراثة ... ورثنا بني حي بن نبت بن جرهم2 ... انتهى. وذكر الزبير بن بكار ما يقتضي أن المجر لجرهم من مكة بعد فناء أكثرهم بالرعاف والنمل: بنو حارثة بن عامر، لأنه قال: قال أبو عبيدة: فلما لم تتناه جرهم عن بغيهم، وتفرق أولاد عمرو بن عامر في اليمن، فانخزع بنو حارثة بن عمرو بن عامر فأوطنوا تهامة وسميت خزاعة، ثم قال: بعث الله عز وجل على جرهم الرعاف والنمل فأفناهم، فاجتمعت خزاعة ليجلوا من بقي، ورأس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وأمه فقيرة بنت عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي، وليس بابن مضاض الأكبر، فاقتتلوا، فلما أحس عمرو بن الحارث بن مضاض بالهزيمة

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 140. 2 مروج الذهب 2/ 50، 51.

خرج بغزالي1 الكعبة، وحجر الركن يلتمس التوبة وهو يقول: لاهُمَّ إن جرهما عبادك ... الناس طرف وهم تلادك2 وهم قديما عمروا بلادك فلم تقبل توبته، وألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، ثم دفنها، وخرج من بقي من جرهم إلى إضم من أرض جهينة، فجاءهم سيل، أي سيل، فذهب بهم، فقال أمية بن أبي الصلت3: جرهم دمثوا تهامة في الدهـ ... ـر فسالت بجمعهم إضم ... انتهى. هذا الخبر ذكره المسعودي4 في كون المخرج لهم عمرو، وفناء أكثرهم بالرعاف والنمل. والقول الخامس في سبب خروج جرهم من مكة ذكره الفاكهي أيضا، لأنه قال في خبر ولاة إياد بن نزار الكعبة: وحدثني حسن بن حسين قال: حدثنا محمد بن حبيب قال: ذكر ابن الكلبي أن الله تعالى سلط على الذي يلون البيت من جرهم دواب شبيهة بالنغف، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب، حتى جلوا عن مكة إلى إضم5 ... انتهى. وقد بان بما ذكرناه من هذه الأخبار الاختلاف فيمن أخرج جرهما من مكة، وكيفية خروجهم، وفي قائل الأبيات الرائية التي أولها: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر هل هو عمرو بن الحارث بن مضاض الأصغر، كما هو مقتضى ما ذكره ابن إسحاق، أو هو مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو، كما هو مقتضى الخبر الذي رواه الأزرقي عن الكلبي عن أبي صالح، أو الحارث بن مضاض بن عمر، كما هو مقتضى ما ذكره المسعودي.

_ 1 هما غزالان من ذهب كانا في جوف الكعبة، وقد وجدهما بعد ذلك عبد المطلب حينما حفر زمزم، 2 قارن بالروض الأنف 1/ 139. 3 شاعر جاهلي مشهور أدرك البعثة ومات سنة 9هـ، وكان يدعي أنه سيكون النبي المنتظر. ترجمته في: الأغاني 4/ 120- 133 الشعر والشعراء 1/ 369- 372، سمط اللآلئ 362، الحيوان للدميري 2/ 154، خزانة الأدب للبغدادي 15/ 118، طبقات ابن سلام 220- 224، الوافي بالوفيات 4/ 395- 400. 4 مروج الذهب 2/ 51. 5 أخبار مكة للفاكهي 5/ 141.

وقيل: إن قارئ هذه الأبيات: ليس ناظم هذه القصيدة، وقيل: هو الحارث بن عمرو بن سعد بن الرقيب، كما هو مقتضى كلام السهيلي في "الروض الأنف". فتحصل من ذلك في قائل هذه الأبيات خمسة أقوال، وليس المراد نسبة كلها إلى كل من المشار، وإنما المراد البيت الأول، وما ذكر منعه عليه حسب مما وقع في كل خبر. وقال السهيلي في "الروض" أيضا في قوله في هذه الأبيات: "ولا يبعد سهيل وعامر". جبل من جبال مكة، يدل على ذلك قول بلال رضي الله عنه: فهل يبدون لي عامر وطفيل على رواية من رواه هكذا1 ... انتهى. واختلف في قائل الأبيات النونية، فقيل: هو عمرو بن الحارث بن مضاض على ما ذكر ابن إسحاق كما سبق، ورأيت في "أخبار مكة" للفاكهي ما يقتضي أن قائل الأبيات النونية هو الحارث بن مضاض، وذكر بعضها على غير ما سبق ذكره، لأنه قال: وقال الحارث بن مضاض، يعني بكرا وغبشان وساكني مكة الذين خلفوا فيها بعدهم: يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حنوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا قضوا أموركم بالحزم إن له ... أمرا رشيدا ورأي الحزم مأمونا إن عمرنا بدهر كان يعجبنا ... حتى أتانا زمان أظهر الهونا2 ... انتهى. واختلف فيمن دفن الحجر الأسود وغزالي الكعبة في زمزم، هل هو مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي، كما هو مقتضى الخبر الذي رواه الأزرقي عن الكلبي عن أبي صالح؟ أو هو عمرو بن الحارث بن مضاض الأصغر؟ كما هو مقتضى ما ذكره ابن إسحاق والزبير بن بكار عن أبي عبيدة. وذكر الأزرقي ما يوافق ذلك في الباب الذي ترجم عليه بقوله: باب ما جاء في إخراج جبريل عليه السلام زمزم لأم إسماعيل عليهما السلام، وعزا ذلك لبعض العلماء، ولم يسمه في خبر ذكر فيه شيئا من حال جرهم بمكة وزمزم3.

_ 1 الروض الأنف 1/ 138. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 142. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 56.

وفيما ذكره المسعودي في سبب خروج جرهم من مكة إشعار بأن الرعاف والنمل الذي فني به أكثرهم أصابهم بمكة. وكذلك الذي نقله الزبير عن أبي عبيدة في فناء جرهم. ورأيت في بعض الأخبار ما يوهم أن النمل أصابهم في بلدة جهينة، وهذا الخبر ذكره الفاكهي، لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن ابن الكلبي قال: بينما الناس سمار حول الكعبة إذا هم بخلق يطوف بها يداري رأسه بها، فأجفل الناس هاربين، فناداهم: لا تراعوا، فأقبلوا إليه وهو يقول: اللهم رب البيت ذي المناكب ثم يقول بعد أن ذكر شعرا زيادة على ما ذكرناه قال: فنظروا فإذا هو امرأة، فقالوا ما أنت، إنسية أم جنية؟ قالت: بل إنسية من جرهم. ثم قالت: من ينحر لي كل يوم جزورا، ويعد لي زادا وبعيرا، ويبلغني بلادا أفورا أعطيه مالا كثيرا. قال: فانتدب لها رجلان من جهينة، فسارا بها أياما وليالي حتى انتهيا إلى جبل جهينة، فأتت على قرية نمل وذر، وقالت: يا هذان ههنا قومي، فاحتفروا هذا المكان، فاحتفروا عن مال كثير من ذهب وفضة، فأوقرا بعيرها، وقالت لهما إياكما أن تلتفتا فيختلس ما معكما، وأقبل الذر حتى غشيها، فمضينا غير بعيد، ثم التفتا فاختلس ما كان احتملا، فنادياها، هل من ماء؟ قالت: نعم، في موضع هذه الضبات، وقالت وقد غشيها الذر: يا ويلي يا ويلي من أجلي، أرى صغار الذر يبغي هبلي، أهلكنا الذر زمان يعلم، بالمجحفات وبموت لا يهدم، حتى نزلنا بزقاق أهيم، للبغي منا وركوب المأثم، سلطن تفرين علي، محملي، لما رأيت أنه لا بد لي، من منعة أحرز فيها معقلي. ودخل الذر منخريها ومسامعها، فخرت تشهق، فهلكت، ووجد الجهينيان الماء حيث قالت، والماء يقال له: مسخي، وهو بناحية فرش ملل إلى جانب مشعر، فهو اليوم لجهينة1 ... انتهى. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أنه لم يصب جرهما من معرة جيش بختنصر2 ما أصاب غيرهم من العرب، وسيأتي هذا الخبر في أخبار بني إسماعيل وفي ذلك دليل على رحمة الله لجرهم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي، وقارن بالروض الأنف 1/ 137. 2 هو بختنصر ملك الفرس، وطيء الشام وفتح بيت المقدس، وسبى بني إسرائيل. قال المسعودي: والعامة تسميه "البخث ناصر". "مروج الذهب 1/ 228".

وذكر الفاكهي أيضا خبرا يقتضي أن جرهما حين هلكوا بقي منها بقية، ونص هذا الخبر: وحدثني الزبير بن بكار قال: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن زكريا بن عيسى، عن ابن شهاب قال: هلكت جرهم فلم يبق منها غير حيٍّ في بني ملكان، وهم قليل، وآخرون في بني الجون1 ... انتهى. وذكر الفاكهي لعمرو بن الحارث المتقدم ذكره شعرا يعظ به بكرا وغبشان حين تهيئوا لقتال جرهم، ويعظم عليهم القتال في الحرم ويحذرهم الهلاك إن هم فعلوا ذلك، أوله: نعوذ برب الناس من كل ظالم ... بغي في ملوك بني كعب وجرهم وذكر له أيضا شعرا في شأن بكر وغبشان حين أخرجوا من مكة أوله: لقد نهضت بكر وغبشان كلها ... تريد تسامي جرهما في فعالها1 وذكر الفاكهي أيضا خبرا يستغرب لما يقتضيه من طول حياة عمرو هذا، لأنه قال: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه قال: حدثني سعيد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سلمة بن عبد الأسد خرج في ناس من قريش نحو اليمن قال: وأخطئوا الطريق، فأصابهم عطش شديد، قال: فقال أبو سلمة بن عبد الأسد لمن معه من قريش: أي قوم أطيعوني فإن ناقتي عارفة بالطريق، قالوا: فإنا نطيعك. قال: فخلى عن رأس ناقته، فساروا يومهم وليلتهم حتى كان عند قرب الصبح فإذا الناقة قد بركت، قال أبو سلمة. ما بركت إلا على ماء، قال: فنزلوا فإذا هم ببعر الغنم، فما كان بأسرع من أن انفجر الفجر، فنظروا فإذا بئر، وعلى رأس البئر رجل طويل لم ير مثله، فتقدموا إليه، فقال الرجل: ممن القوم؟ فقلنا: من قريش، فقال: من أي قريش؟ قلنا: من بني مخزوم. قال: فسعى فأتى شجرة طويلة، فإذا قفة معلقة في الشجرة فمد يده فأنزل القفة وفتح رأسها، فإذا شيخ فيها، فرفع حاجبيه ثم قال: "أبت" ثلاث مرات. قال: ففتح عينيه، فقال: ما تشاء؟ قال: هؤلاء قوم من قريش، قال: ادعهم إلى، فجاءوا فقال: تقدموا إلى الشيخ، فتقدمنا إليه ففعل به مثل ما فعله الأول، يا أبت، ثلاث مرات، ففتح عينيه فقال: ما تشاء؟ قال: هؤلاء قوم من قريش. فقال: من أي قريش أنتم؟ قال أبو سلمة: فقلت: من بني مخزوم، فقال: ها أنا ومخزوم قرب، فقال هل تعرفون لما سميت أجياد أجيادا؟

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 143.

قلنا: لا قال: لأنها جادت فيها الخيل، ثم قال: لم سميت قعيقعان قعيقعان؟. قلنا: لا. قال: لأنها تقعقعت فيها السيوف، ثم أنشأ يقول: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... كروب الليالي والجدود العواثر فهل فرح يأتي بشيء نريده ... وهل جزع ينجيك مما تحاذر؟! يا ابن أخي أتدري لم سميت قعيقعان باسمها؟ قلت: لا، قال: خرج القوم علينا منها عليهم السلاح تقعقع فسميت بقعيقعان. أتدري يا ابن أخي لم سميت أجياد أجيادا؟ قلت: لا، قال: جادت بالدماء، فسميت أجيادا1 ... انتهى. وذكر هذا الخبر الأزرقي2، إلا أنه لم يسنده كما أسنده الفاكهي، وفي غيره أن أبا سلمة ومن معه أصبحوا على ماء فاستقوا واستقى، فإنه لعلى ذلك، إذ أقبل إليهم رجل فقال: من القوم؟ فقالوا: من قريش، وفيه أن الشيخ قال لأبي سلمة بعد أن ذكر له نسبه: كأن لم يكن ... الخ. ولم يذكر الأزرقي في خبره البيت الثالث الذي ذكره الفاكهي من هذا الخبر3، وهو بعيد عن الصحة لما يلزم عليه من أن يكون عمرو بن الحارث عاش ألف سنة، لأن هذه القصة إن صحت فإنها قبيل الإسلام، لأن أبا سلمة أدركها، وإدراكه لها يقتضي أن يكون في هذا التاريخ، لأن سنه تقرب من سن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ثويبة4 مولاة أبي لهب أرضعتهما كما في الصحيح5 عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك فحياة عمرو إلى هذا التاريخ يقتضي أن يكون عمره ما ذكرنا، لكونه عاش مدة ولاية خزاعة على مكة، وهي خمسمائة سنة، وقيل ثلاثمائة سنة، ومدة ولاية قريش وهي نحو ثلاثمائة على مكة، مع ما عاشه عمرو في ولاية قوم جرهم، ومما يؤيد ذلك أن السهيلي رحمه الله ذكر العمرين، ولم يذكره فيهم، وهو لو كان بهذه الصفة أولى بالذكر لعلو سنه ومقداره، لأنه قال: ومن أطول المعمرين عمر بن وحيد واسمه رويد بن فهر بن قضاعة ثم قال: عاش رويد أربعمائة عام فيما ذكروا، انتهى والله أعلم. بختام هذا الباب يتم الجزء الأول من كتاب شفاء الغرام ويليه الجزء الثاني وأوله الباب السادس والعشرون في ذكر شيء من خبر إسماعيل عليه السلام

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 143-145. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 82. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 97. 4 الإصابة 4/ 257 رقم 213، الروض الأنف 1/ 186. 5 أخرجه البخاري "2110". مسلم "الرضاع: 1449".

فهرس محتويات الجزء الأول

فهرس محتويات الجزء الأول ... فهرس المحتويات: مقدمة 3 تصدير 11 مقدمة المؤلف 15 الباب الأول في ذكر مكة المشرفة وحكم بيع دورها وإجارتها ذكر حكم بيع دور مكة وإجارتها 43 الباب الثاني في أسماء مكة المشرفة: ذكر معاني بعض أسماء مكة وعزو بعضها لأهل العلم 43 الباب الثالث: في ذكر حرم مكة وسبب تحريمه وتحديده وعلاماته وحدوده: وما يتعلق بذلك من ضبط ألفاظ في حدوده: ومعنى بعض أسمائها: ذكر الحرم وسبب تحريمه 73 ذكر علامات الحرم 74 ذكر حدود الحرم وضبط ألفاظ فيها 75 ذكر تحديد حد الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة 80 ذكر تحديد حد الحرم من جهة العراق 84 ذكر تحديد حد الحرم من جهة التنعيم 85 ذكر تحديد حد الحرم من جهة اليمن 86

الباب الرابع: في ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها: وشيء من الأحكام المختصة بذلك ذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك 98 الباب الخامس: ذكر الأحاديث الدالة على أن مكة أفضل من غيرها من البلاد: وأن الصلاة فيه أفضل من غيرها وغير ذلك من فضلها ذكر الأحاديث الدالة على أن الصلاة بمسجد مكة أفضل من الصلاة في غيره من المساجد 107 الباب السادس: في المجاورة بمكة والموت بها، وشيء من فضل أهلها، وشيء من فضل جدة ساحل مكة، وشيء من خبرها، وشيء من فضل الطائف، وشيء من خبره: ذكر المجاورة بمكة 113 ذكر شيء مما جاء في الموت بمكة 115 ذكر شيء مما جاء في فضل أهل مكة 116 ذكر شيء من فضل جدة ساحل مكة وشيء من خبرها: 118 ذكر شيء من فضل الطائف وخبره 120 الباب السابع: في أخبار عمارة الكعبة المعظمة: بناء الملائكة للكعبة: 125 بناء آدم عليه السلام 125 ذكر البيت المعمور الذي أنزله الله على آدم وشيء من خبره 126 بناء الخليل عليه السلام 126 بناء العمالقة وجرهم للكعبة 128 بناء قريش للكعبة 128 بناء ابن الزبير للكعبة 132 بناء الحجاج للكعبة 135

ذكر شيء من حال الكعبة بعد بناء ابن الزبير والحجاج، وما وضع فيها من العمارة، وما عمل لها من الأساطين والميازيب والأبواب بعد ابن الزبير والحجاج 136 ذكر الأساطين 140 ذكر الميازيب 140 ذكر الأبواب 141 أول من بوب الكعبة 143 الباب الثامن: في صفة الكعبة المعظمة وذرعها وشاذروانها وحليتها ومعاليقها وكسوتها وطيبها وأخدامها وأسمائها وهدم الحبشي لها ووقت فتحها في الجاهلية والإسلام ... الخ ذكر صفة الكعبة وما أحدث فيها من البدعة 147 ذكر ذرع الكعبة من داخلها وخارجها 149 ذكر ذرع الكعبة من داخلها بذراع الحديد 152 ذكر ذرع الكعبة من خارجها بذراع الحديد 153 ذكر ذرع سطح الكعبة 154 ذكر شاذروان الكعبة وشيء من خبر عمارته 154 ذكر حلية الكعبة المعظمة ومعاليقها 156 ذكر معاليق الكعبة وما أهدي إليها في معنى الحلية 160 ذكر كسوة الكعبة 164 ذكر طيب الكعبة وأخدامها 173 ذكر أسماء الكعبة المعظمة 174 ذكر هدم الحبشي الكعبة في آخر الزمان 175 ذكر وقت فتح الكعبة في الجاهلية والإسلام 176 ذكر بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق، ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق 179 الباب التاسع في بيان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة المعظمة وقدر صلاته فيه، ووقتها، ومن رواها من الصحابة ... الخ ذكر بيان مصلاه صلى الله عليه وسلم في الكعبة 188 ذكر قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا 189

ذكر من روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة من الصحابة، ومن نقلها منهم رضي الله عنهم ... 191 ذكر ترجيح رواية من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على رواية من نفاها، وما قيل من الجمع بين ذلك ... 197 ذكر عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة الشريفة بعد هجرته إلى المدينة، وأول وقت دخل الكعبة فيه بعد هجرته 208 الباب العاشر ذكر ثواب دخول الكعبة المعظمة وفيما جاء من الأخبار الموهمة بعدم استحباب دخولها وفيما يطلب فيها من الأمور التي صنعها النبي وفي حكم الصلاة فيها وفي آداب دخولها: ذكر حكم الصلاة في الكعبة 217 آداب دخول الكعبة 221 الباب الحادي عشر: في ذكر شيء من فضائل الكعبة وفضائل ركنيها الحجر الأسود واليماني: ذكر شيء من فضائل الكعبة 222 ذكر شيء من فضائل الحجر الأسود، وما جاء في كونه من الجنة 224 ذكر ما قيل من الحكمة في اسوداد الحجر الأسود بعد بياضه 226 ذكر ما رؤي من البياض في الحجر الأسود بعد اسوداده 227 ما جاء في شهادة الحجر الأسود يوم القيامة لمن استلمه بحق 228 ما جاء في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم للحجر الأسود واستلامه له 228 ما جاء في السجود عليه 228 ما جاء في الإكثار من استلامه 229 ما جاء في مفاوضة الحجر الأسود 229 ما جاء في أن الحجر الأسود يمين الله يصافح بها عباده، واستجابة الدعاء عنده 229 ذكر فضل الركن اليماني، وما جاء في تقبيله ووضع الخد عليه 230 ما جاء في استلام النبي صلى الله عليه وسلم للركن اليماني 231 ما جاء في المزاحمة على استلام الركن اليماني والحجر الأسود، وأن مسحهما كفارة للخطايا 231 ما جاء في عدم استحباب ذلك للنساء بحضرة الرجال 232 ما جاء في إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من استلامه، واستغفار الملائكة لمن استلمه 232 ما جاء في تأمين الملائكة على الدعاء عنده، واستجابة الدعاء عنده 232

ما جاء في أن الركن اليماني باب من أبواب الجنة 233 الباب الثاني عشر: في فضائل الأعمال المتعلقة بالكعبة كالطواف بها والنظر إليها والحج والعمرة وغير ذلك: ذكر ما ورد في ثواب الطواف عموما، من غير تقييد بزمن 234 ما جاء في فضل الطواف في الحر 236 ما جاء في الطواف في المطر 236 ما جاء في الطواف إذا وقع بعد صلاة الصبح أو العصر، وانقضى مع طلوع الشمس أو غروبها 237 ما جاء في تفضيل الطواف على الصلاة 237 ما جاء في تفضيل الطواف على العمرة 239 ما جاء في فضل الطائفين 241 ذكر بدء الطواف بهذا البيت العظيم وما ورد من طواف الملائكة 242 ذكر طواف بعض الجن والدواب والطير بالكعبة 243 ما جاء في شرعية الطواف لإقامة ذكر الله 244 ذكر ثواب النظر إلى الكعبة 244 ذكر ثواب الحج والعمرة 245 الباب الثالث عشر: الآيات المتعلقة بالكعبة: ذكر خبر تبع والهذليين 250 ذكر خبر أصحاب الفيل 252 هلاك من أراد الكعبة بسوء 253 الباب الرابع عشر: في ذكر شيء من أخبار الحجر الأسود ذكر ما أصاب الحجر الأسود في زمن ابن الزبير رضي الله عنه، وما صنع فيه من الفضة في زمنه، وزمن هارون الرشيد 257 ذكر ما أصاب الحجر الأسود في فتنة القرمطي وأخذهم له 257 ذكر ما صنعه الحجبة في الحجر الأسود بأثر رد القرامطة له 258 ذكر ما أصاب الحجر الأسود بعد فتنة القرامطة 259 ذكر صفته وقدره وقدر ما بينه وبين الأرض 260 ذكر شيء من الآيات المتعلقة بالحجر الأسود 260

الباب الخامس عشر: في الملتزم والمستجار والحطيم وما جاء في استجابة الدعاء في هذه المواضع وغيرها من الأماكن بمكة المشرفة وحرمها ذكر الملتزم 262 ذكر المستجار 262 ذكر الحطيم 263 ذكر بقية المواضع بمكة وحرمها التي قيل إن الدعاء فيها مستجاب 265 الباب السادس عشر: في ذكر شيء من أخبار المقام، مقام الخليل عليه السلام ذكر حلية المقام 271 ذكر صفة الموضع الذي فيه المقام والمصلى خلفه 272 ذكر ذرع ما بين المقام والحجر الأسود، وما بين المقام والركن الشامي الذي يقال له: العراقي، وما بين المقام وبين جدار الكعبة وشاذروانها المقابل للمقام وما بين المقام وحجرة زمزم، وحفر بئر زمزم الطيبة المباركة 273 ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام وما قيل في ذلك، ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى موضعه وهذا حين غيره السيل عنه 274 ذكر شيء من فضل المقام 279 ما جاء في هلاك من تعرض له بسوء 279 الباب السابع عشر: في ذكر شيء من أخبار الحجر المكرم، حجر إسماعيل عليه السلام وفيه بيان المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة ذكر موضع الحجر، وصفته وشيء من خبر عمارته، وذرعه، وذرع جدره من داخله وخارجه 284 ما جاء في الحجر والصلاة فيه 288 ما جاء في الدعاء في الحجر تحت الميزاب 288 ذكر المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة 290 الباب الثامن عشر: ذكر شيء من أخبار توسعة المسجد الحرام وعمارته وذرعه، وذكر شيء مما ذكره الأزرقي من خبر توسعته ذكر شيء من خبر توسعة المسجد الحرام بعد الأزرقي، ومن خبر عمارته بعده 298 ذكر صفة هذه الزيادة 300

ذكر ذرع المسجد الحرام غير الزيادتين 303 ذكر ذرع زيادة دار الندوة 306 ذكر ذرع زيادة باب إبراهيم 306 الباب التاسع عشر: في عدد أساطين المسجد الحرام، وصفتها وعدد عقوده وشرفاته وقناديله وأبوابه وأسمائها، ومنابره، وفيما صنع فيه لمصلحة أو لنفع الناس به، وفيما فيه الآن من المقامات ... الخ ذكر عدد أساطين المسجد الحرام غير الزيادتين وصفتها 308 ذكر عدد الأساطين التي بصحن المسجد الحرام وصفتها 309 ذكر عدد أساطين زادة دار الندوة 310 ذكر عدد أساطين زيادة باب إبراهيم 310 ذكر عدد طاقات المسجد الحرام وشرفاته وقناديله 310 ذكر عدد طاقات زيادة دار الندوة 311 ذكر عدد طاقات زيادة باب إبراهيم 311 عدد شرفاته التي تلي بطن المسجد الحرام 311 الشرفات التي على جدار المسجد الحرام من خارجه 312 ذكر عدد الشرفات التي بزيادة دار الندوة 312 عدد قناديل المسجد الحرام الآن المرتبة فيه غالبا 312 ذكر عدد أبواب المسجد الحرام وأسمائها، وصفتها 313 ذكر منائر المسجد الحرام 318 ذكر ما صنع في المسجد الحرام لمصلحته، أو لنفع الناس به 321 ذكر صفة المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام ومواضعها منه 323 ذكر ذرع ما بين كل من هذه المقامات وبين الكعبة 324 ذكر كيفية صلاة الأئمة بهذه المقامات وحكم صلاتهم بها 325 الباب العشرون: في ذكر شيء من خبر زمزم وسقاية العباس رضي الله عنه ذكر حفر زمزم وعلاجه 328 ذكر علاج زمزم في الإسلام 330 ذكر ذرع بئر زمزم وما فيها من العيون، وصفة الموضع الذي هي فيه الآن 330 صفة الموضع الذي فيه زمزم 331

ذكر أسماء زمزم 334 ذكر فضائل ماء زمزم وخواصه 335 خواص ماء زمزم 339 فضائل بئر زمزم 341 ذكر آداب شربه 341 ذكر حكم التطهير بماء زمزم 342 ذكر نقل ماء زمزم إلى البلدان 342 ذكر شيء من خبر سقاية العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه 343 الباب الحادي والعشرون: في ذكر الأماكن المباركة التي ينبغي زيارتها، الكائنة بمكة المشرفة وحرمها وقربه مسجد الخيف بمنى 350 ما جاء في استحباب مسجد الخيف كل سبت 350 ذكر تعيين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الخيف 350 ذكر صفة مسجد الخيف الآن وذرعه بذراع الحديد 351 ذكر صفته الآن 351 ذكر ذرعه 351 ذكر ذرع أروقته 352 ذكر عدد أساطينه، وصفتها وذراع ما بينه 352 ذكر عدد عقوده 352 ذكر ذرع موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام المنارة 352 ذكر عدد شرفات المسجد من داخله وخارجه 352 ذكر ذرع المنارة، وصفتها، وعدد درجها، وما بين المنارة وبين نواحي المسجد 353 ذكر ذرع السقاية المذكورة 353 عمارة المسجد بعد زمن الأزرقي 353 ذكر المواضع المباركة بمكة المعروفة بالمواليد 356 ذكر شيء مما ورد في بركة الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم 357 ذكر صفة هذا المكان 357 موضع مولد فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها 358 موضع مولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه 358

ذكر صفة هذا المكان وذرعه 359 موضع مولد حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه 359 موضع مولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه 359 مولد جعفر الصادق 360 ذكر الدور المباركة بمكة 360 دار خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنه 360 دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه 362 دار الأرقم المخزومي 363 ذكر الجبال المباركة بمكة وحرمه 364 أبو قبيس 364 من فضائل جبل أبي قبيس 367 من خواص جبل أبي قبيس 368 جبل الخندمة 368 جبل حراء بأعلى مكة 369 جبل ثور بأسفل مكة 370 ومن الجبال المباركة بحرم مكة جبل ثبير 372 الجبل الذي يلحق مسجد الخيف 372 ذكر مقابر مكة المباركة 374 ومن مقابر مكة المباركة: المقبرة العليا 376 المقبرة المعروفة بمقبرة المهاجرين بالحصحاص 377 ومن المقابر المباركة بمكة: المقبرة المعروفة بالشبيكة 377 ومن القبور التي ينبغي زيارتها: قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنه 378 الباب الثاني والعشرون: في ذكر أماكن بمكة المشرفة وحرمها وقربه التي لها تعلق بالمناسك وهي ستة وعشرون موضعا مرتبة على ترتيب حروف المعجم الأول: باب بني شيبة الذي يستحب للمحرم دخول المسجد الحرام منه 379 الثاني: التنعيم المذكور في حد الحرم من جهة المدينة النبوية 380 الثالث: ثبير 380 الرابع: الجعرانة 383 ذكر الموضع الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة 384

الخامس: الجمار المذكورة في صفة الحج 386 السادس: الحجون المذكور في حد المحصب 387 السابع: الحديبية 390 الثامن: ذو طوى 390 التاسع: الردم 391 العاشر: الصفا الذي هو مبدأ السعي 391 الحادي عشر: طريق ضب 395 الثاني عشر: عرفة 395 ذكر مقدار ما بين باب بني شيبة وهذين العلمين المشار إليهما 397 ذكر مسجد عرفة وحكم الوقوف فيه 399 ذكر ذرع هذا المسجد وشيء من صفته 400 ذكر سبب تسمية عرفة بعرفة وما يتعلق بجمعها وصرفها وحكم الإحياء به 400 الثالث عشر: عرنة بالنون الموضع الذي يجتنب الحاج فيه الوقوف 401 الرابع عشر: قزح 402 الخامس عشر: كداء، الموضع الذي يستحب للمحرم دخول مكة منه 403 السادس عشر: كدي، الموضع الذي يستحب الخروج منه لمن كان في طريقه 405 السابع عشر: المأزمان، اللذان يستحب للحاج أن يسلك طريقهما إذا رجع من عرفة 407 الثامن عشر: محسر، الموضع الذي يستحب للحاج الإسراع فيه 408 التاسع عشر: المحصب الذي يستحب للحاج النزول فيه بعد انصرافه من منى 409 العشرون: المروة، الموضع الذي هو منتهى السعي 411 الحادي والعشرون: المزدلفة 413 الثاني والعشرون: المشعر الحرام 414 الثالث والعشرون: المطاف 414 الرابع والعشرون: منى 417 ذكر حكم البناء بمنى 418 ما جاء في فضل منى وما ذكر فيها من الآيات 421 الخامس والعشرون: الميلان الأخضران 423 السادس والعشرون: نمرة 425

الباب الثالث والعشرون: فيما بمكة من المدارس، والربط، والسقايات، والبرك المسبلة، والآبار، والعيون، والمطاهر وغير ذلك من المآثر، وما في حرمها من ذلك ذكر المدارس بمكة المشرفة 427 ذكر الربط بمكة 430 ذكر السقايات 438 ذكر البرك بمكة وحرمها 440 ذكر الآبار التي بمكة وحرمه 442 ذكر الآبار التي بين باب المعلاة ومنى 445 ذكر الآبار التي بمنى، وهي خمسة عشر بئرا 446 ذكر الآبار التي بمزدلفة 447 ذكر الآبار التي بعرفة 447 ذكر الآبار التي بظاهر مكة 447 ذكر الآبار التي بأسفل مكة في جهة التنعيم 448 ذكر عيون مكة المشرفة 448 ذكر المظاهر التي بمكة 453 الباب الرابع والعشرون: في ذكر شيء من خبر بني المحض بن جندل ملوك مكة ونسبهم وذكر شيء من أخبار العماليق ملوك مكة ونسبهم وذكر ولاية طسم للبيت الحرام ذكر شيء من خبر بني المحض بن جندل ونسبهم 455 ذكر شيء من أخبار العماليق ملوك مكة ونسبهم 456 خروج العماليق من مكة 458 ذكر ولاية طسم للبيت الحرام 461 الباب الخامس والعشرون: في ذكر شيء من جرهم ولاة مكة ونسبهم وذكر من ملك مكة وجرهم ومدة ملكهم لها وما وقع في نسبهم من الخلاف، وفوائد تتعلق بذلك وذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منها وغير ذلك من خبرهم ذكر نسبهم: 462

ذكر من ملك مكة من جرهم ومدة ملكهم لها وما وقع في نسبهم من الخلاف وفوائد تتعلق بذلك 464 ذكر من أخرج جرهما من مكة وكيفية خروجهم منه 477

المجلد الثاني

المجلد الثاني الباب السادس والعشرون: في ذكر شيء من خبر إسماعيل عليه السلام وذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام ... بسم الله الرحمن الرحيم الباب السادس والعشرون: في ذكر شيء من خبر إسماعيل عليه السلام وذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام روينا عن البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أيوب السختياني وكثير بن المطلب بن أبي وداعة -يزيد أحدهما على الآخر- عن سعد قال ابن عباس -رضي الله عنهما: أول ما اتخذ النساء المنطق1 من قبل أم إسماعيل -عليهما السلام- اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم -عليه السلام- وبابنها إسماعيل -وهي ترضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء؛ فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، وذهب إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ وقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها؛ فقالت: "الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فإذا لا يضيعنا، ثم رجعت؛ فانطلق إبراهيم -عليه السلام- حتى إذا كان عند الثنية؛ حيث لا يرونيه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه؛ فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حتى بلغ قوله: {يَشْكُرُون} [إبراهيم: 37] . وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل -عليهما السلام- وتشرب من ذلك الماء؛ حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يلتوي -أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه؛ فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؛ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى

_ 1 هي النطاق الذي تشد به المرأة وسطها.

جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه؛ فنظرت هل ترى أحدا؟ ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس -رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلك سعي الناس بينهما". فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه -تريد نفسها- ثم سمعت؛ فسمعت -أيضا- فقالت: قد سمعت؛ إن كان عندك غوث؛ فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو قال: بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس -رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينا معينا". قال: فشربت وأرضعت ولدها؛ فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة؛ فإن هذا بيت الله الحرام يبينه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله؛ فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقه من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كدي؛ فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا: إن هذا الطير ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأسلوا جريّا أو جريّين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا في الحال -وأم إسماعيل عند الماء- فقالوا: أتأذنين لنا ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فألفى ذلك أم إسماعيل -عليهما السلام"، وهي تحب الأنس - فنزلوا فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم؛ حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب؛ فلما أدرك زوجوه على امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل -عليهما السلام- فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل -عليه السلام- يطالع تركته فلم يجد إسماعيل؛ فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، قالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه؛ فلما جاء إسماعيل -عليه السلام- وكأنه أنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم -عليه السلام- ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته، فسألها عنه؛ فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ -وسألها عن عيشهم وهيئتهم- فقالت: نحن

بخير وسعة، وأثنت على الله -عز وجل. قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء -قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه" قال: فما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه -قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه؛ فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت بشيء؟ قالت: نعم، وهو يقرئ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، وأمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل -عليه السلام- يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم؛ فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني عليه؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا -وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها؛ فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل -عليه السلام- يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني؛ حتى إذا ارتفع البناء جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له؛ فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل -عليه السلام- يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 72] حتى رفع البناء1 وضع الشيخ عن نقل الحجارة، فوقف على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة وهو يقول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ... انتهى. ورأيت في الأخبار الواردة في هذا المعنى أمورا بعضها يخالف ما في هذا الخبر، وبعضها يوضح منافيه من أمر مبهم؛ فحسن يبالي ذكر ذلك لما يحصل به من الفائدة. فمن الأمور المخالفة لهذا الخبر: أن الفاكهي روى بسنده من طريق الواقدي، عن أبي جهنم بن حذيفة خبرا في قدوم إبراهيم بإسماعيل -عليهما السلام- قال فيه: فعمد إبراهيم إلى موضع الحجر، فأنزل فيه هاجر وإسماعيل، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا2.. انتهى. وذكر الأزرقي ذلك فيما رواه بسنده عن ابن إسحق؛ لأنه قال في خبر رواه من هذا المعنى: فعمد بهم إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا3.. انتهى.

_ 1 أخرجه: البخاري 6/ 282-288 في "الأنبياء: باب قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 120. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 54.

فهذا يخالف ما في خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- السابق؛ لأن فيه: ثم جاء إبراهيم بهاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد. ووجه المخالفة بين ظاهر؛ لأن موضع الحجر غير موضع زمزم. وذكر الإمام المسعودي ما يخالف ما ذكره ابن عباس -رضي الله عنهما- وما ذكره أبو جهم بن حذيفة وابن إسحاق في موضع إنزال إبراهيم لابنه إسماعيل وأمه هاجر واستودعهما خالقه على حسب ما أخبر الله سبحانه وتعالى، وأنه أسكنهما بواد غير ذي زرع1. وكان موضع البيت ربوة حمراء، أمر إبراهيم هاجر أن تتخذ عليه عريشا يكون لها سكنا وكنا ... انتهى. فتحصل من هذا الموضع الذي أنزل إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه ثلاثة أقوال: هل هو في موضع الحجر على ما ذكر أبو جهم وابن إسحق؟ أو فوق زمزم على ما ذكره ابن عباس -رضي الله عنهما؟ أو في موضع البيت على ما ذكر المسعودي؟ والله أعلم. ومنها: أن الفاكهي روى بسنده من طريق الواقدي عن أبي جهم بن حذيفة خبرا ذكر فيها نفاذ الماء الذي كان مع أم إسماعيل -عليهما السلام- وتطلبها للماء حين عطش ابنها إسماعيل، وسقي الله لها، وأخرج جبريل -عليه السلام- لهما الماء في موضع زمزم، وغير ذلك، وفيه قال: قال: ويقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرين لهما قد أخطآه وقد عطشا، وأهلهما بعرفة، فنظرا إلى طير يهوي قبل الكعبة فاستنكرا ذلك، وقالا: أنى يكون هذا الطير على غير ماء؟. قال أحدهما لصاحبه: كما ترى هذا الطير يذهب إلى غير ماء؟ قال الآخر: فأمهل حتى نبرد ثم نسلك في مهوى أو مهد قبيس؛ فنظرا إلى الماء وإلى العريش، فنزلا وكلما هاجر سألاها متى نزلت؟ فأخبرتهما، وقالا: لمن هذا الماء؟ فقالت لي، ولابني؛ فقالا: ومن حفره؟ فقالت: سقيا الله -عز وجل-، فعرفا أن أحدا لا يقدر على أن يحفر هنالك ماء، وعهدها بما هنالك قريب وليس به ماء؛ فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما وأخبراهم، فتحولوا حتى نزلوا معها على الماء وأنست بهم ومعهم الذرية؛ نشأ إسماعيل -عليه السلام- مع ولدانهم، وكان إبراهيم -عليه السلام- يزور هاجر كل شهر على البراق، يغدو غدوة فيأتي مكة، ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام. يزور هاجر كل شهر على البراق، يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقبل في منزله بالشام، ونظر من هنالك من العماليق وإلى كثرتهم وعمارة الماء فسر بذلك ... انتهى.

_ 1 مروج الذهب 2/ 46.

وهذا يقتضي أن الذين نزلوا على هاجر حين أخرج الله لها الماء العماليق، وهو يخالف خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- السابق؛ فإنه يقتضي أن الذين نزلوا على هاجر حين أخرج الله لها الماء قوم من جرهم قدموا من طريق كدي بعد أن أنكروا الماء لكونهم لم يعهدونه، وبعد أن استأذنوا هاجر في النزول معها فأذنت لهم في ذلك لحبها في الأنس بهم، وفي حبها لذلك إشعار بفقدها لأحد تأنس به غيرهم1، والله أعلم. وذكر الجندي في "فضائل مكة"، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- خبرا في وضع إبراهيم لإسماعيل وأمه -عليهم السلام- بمكة، وفيه ما يقتضي أن جرهما الذين نزلوا على إسماعيل وأمه -عليهما السلام- قدموا من اليمن بعد أن سار إسماعيل يصطاد؛ لأنه فيه: فمكثت هي وإسماعيل -يصطاد عليها من الحل- حتى جاء ناس من اليمن من جرهم؛ فرأوا الطير يطوف على الماء وهم ذاهبون إلى الشام؛ فلما رأوا الماء وجدوا عنده المرأة وابنها ... ، وذكر بقية الخبر، وهذا غريب جدا؛ أعني كون إسماعيل-عليه السلام- يصطاد حين نزل جرهم على أمه؛ والمعروف أنه كان إذ ذاك رضيعا. ومنها: أن الفاكهي روى بسنده عن طريق الواقدي عن أبي جهم بن حذيفة قال: لما بلغ إسماعيل -عليه السلام- تزوج امرأة من العماليق ابنه صدى، قال: فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل، عليه السلام- في ماشيته يرعاها ويخرج متنكبا قوسه فيرمي الصيد مع رعيته، وكان يرعى بأعلى مكة -في ماشيته يرعاها ويخرج متنكبا قوسه فيرمي الصيد مع رعيته، وكان يرعى بأعلى مكة -السدرة وما والاها- فجاء إبراهيم- عليه السلام -إلى منزله فقال: السلام عليكم يا أهل البيت؛ فسكتت فلم ترد عليه -إلا أن تكون ردت عليه في نفسها- فقال: هل فذكرت جهدا؛ فقالت: لاها الله2 إذن. قال: كيف طعامكم ولبنكم وماشيتكم؟ قال: فذكرت جهدا؛ فقالت: أما الطعام فلا طعام، وأما الشاة فلا تحلب الشاة بعد الشتاء المضير -قال الواقدي: المضير: السحب- وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ. قال: فأين رب البيت؟ قالت: في حاجته. قال: فإذا جاء فاقرئيه السلام وقولي غير عتبة بيتك3 ... انتهى. وهذا يقتضي أن امرأة إسماعيل التي أمره أبوه بفراقها من العماليق، وهو يخالف ما في خبر ابن عباس- رضي الله عنهما- السابق، فإن فيه ما يقتضي أنها من جرهم. وذكر المسعودي أنها من العماليق4، وذكر كلاما يقتضي أنها من العماليق الذين قدموا من اليمن وملكهم السميدع؛ وذلك يخالف ما في خبر أبي جهم بن

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 120، 121. 2 لعل هذا من العبارات التي كانت ذات معنى في اللهجات القديمة. 3 أخبار مكة الفاكهي 5/ 128. 4 مروج الذهب 2/ 46.

حذيفة؛ فإنه يقتضي أنها من العماليق الذين كانوا حول مكة حين قدم إبراهيم بإسماعيل إلى مكة. وذكر المسعودي أن المرأة التي تزوجها إسماعيل -عليه السلام- من العمالقة هي صدا1 بنت سعد؛ وذلك يخالف ما ذكره أبو جهم بن حذيفة في اسم أبي المرأة التي تزوجها إسماعيل -عليه السلام- من العمالقة. والله أعلم بالصواب. وقال السهيلي بعد ذكر أم أولاد إسماعيل: وقد كان له امرأة سواها من كدي2- وهي التي أمره أبوه بتطليقها حين قال لها إبراهيم: قولي لزوجك فليغير عتبته -يقال السهيلي أن المسعودي ذكر ذلك أيضا. ومنها: أن الفاكهي روى بسنده من طريق الواقدي عن أبي جهم بن حذيفة قال: وفيه نظر إسماعيل -عليه السلام- إلى بنت مضاض بن عمرو فأعجبته؛ فخبطها إلى أبيها فتزوجها. فجاء إبراهيم -عليه السلام- زائرا لإسماعيل؛ فجاء إلى بيت إسماعيل -عليه السلام- فسلم عليه، فقال: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله، فقامت إليه المرأة الله، ونحن في لبن كثير، ولحم كثير، وماء وإبل وصيب، قال: هل من حب؟ قالت: يكون إن شاء الله، ونحن في نعم، قال: بارك الله لكم -قال أبو جهم: فكان أبي يقول: ليس أحد يخلو على اللخم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه ولعمري لو وجد عندها حبًا لدعى فيه بالبركة، وكانت أرض زرع- قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم واللبن. قال: فما شرابكم؟ قالت: اللبن والماء، قال: بارك الله لكم في طعامكم، قال: فمن طعام وشراب، قالت: انزل رحمك الله فاطعم واشرب، قال: إني لا أستطيع النزول ... انتهى باختصار. ثم قال بعد غسلها لرأسه وهو راكب: فلما فرغت قال لها: إذا جاء إسماعيل قولي له: أثبت عتبة بيتك، فإنها صلاح المنزل3 ... انتهى. وهذا لم نورده لمخالفة بينه وبين خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- السابق، وإنما أوردناه لما فيه من الفائدة ببيان أن زوجه إسماعيل -عليه السلام- التي أمره أبوه بإمساكها لشكرها النعمة هي بنت مضاض بن عمرو الجرهمي؛ فإن خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- السابق لا يفهم ذلك، ولكن يروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنها السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي.

_ 1 في مروج الذهب 2/ 47: "الجداء". 2 في الروض الأنف "من جرهم". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 129.

وذكر المسعودي أن امرأة إسماعيل التي أمره أبوه بإمساكها هي شامة1 بنت مهلهل الجرهمي. وذكر ذلك السهيلي؛ لأنه قال: ثم تزوج أخرى وهي التي قال لها إبراهيم -عليه السلام- في الزورة الثانية: قولي لزوجك ليثبت عتبة بيته2، الحديث. وهو مشهور في الصحيح أيضا. ويقال اسم هذه المرأة الأخيرة شامة بنت مهلهل، وذكر السهيلي أن الواقدي ذكر ذلك في كتاب: "انتقال النور"، وأن المسعودي ذكر ذلك أيضا. قال السهيلي: وقد قيل في الثانية: عاتكة ... انتهى. وما ذكره السهيلي عاتكة التي قيل إنها امرأة إسماعيل، وقد بين ذلك ابن هشام في كتابه "التيجان" لأنه قال: إنها عاتكة بنت عمرو الجرهمي، وأنها قالت لإبراهيم عليه السلام: إن هاجر وإسماعيل يرعيان الغنم، فانزل أو سر معي إلى زمزم أغسل رأسك وأنت راكب2 ... انتهى. وليس في خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- السابق بيان أن امرأة إسماعيل -عليه السلام- الأولى منه جرهم. وقد بين ذلك الأزرقي؛ لأنه قال بعد أن ذكر نزول جرهم على إسماعيل وأمه: فلما بلغ أنكحوه جارية منهم، قال: وفي كتاب "المبتدأ" عن عباد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق أن اسم امرأة إسماعيل: عمارة بنت سعيد بن أسامة3 ... انتهى. وليس في خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- السابق بيان سن إسماعيل -عليه السلام- حين بنى مع أبيه الخليل إبراهيم البيت الحرام، وقد بين ذلك الفاكهي؛ لأنه روى بسنده من طريق الواقدي عن أبي بن جهم حذيفة قال: فلما بلغ إسماعيل -عليه السلام- ثلاثين سنة -وإبراهيم الخليل يومئذ ابن مائة سنة- أوحى الله -عز وجل- إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا، وذكر بناء البيت، وذكر ذلك أيضا المسعودي4، وذكر الأزرقي ما يخالف ذلك؛ لأنه روى بسنده عن ابن إسحاق أن إبراهيم -عليه السلام- لما قدم مكة لبناء البيت كان إسماعيل -عليه السلام- ابن إبراهيم سنة5، وفي هذا بعد؛ لأن إسماعيل تزوج بعد أن بلغ، وزاره إبراهيم -عليه

_ 1 في مروج الذهب 2/ 47: "سامة" بالسين المهملة. 2 الروض الأنف 1/ 17. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 57. 4 مروج الذهب 2/ 48. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 64.

السلام- بعد أن تزوج فلم يجده، ثم لبث إبراهيم -عليه السلام- ما شاء الله، ثم زاد إسماعيل -عليه السلام- ثانية فلم يجده، ثم لبث إبراهيم -عليه السلام- ما شاء الله تعالى، ثم جاء لبناء البيت. وهذا يقتضي أن يكون من بلوغ إسماعيل -عليه السلام- إلى بناء البيت مدة طويلة، فيكون سنة حين البناء أكثر من عشرين سنة1، والله أعلم. وقد بان بما ذكرناه بعد ذكرنا لخبر ابن عباس -رضي الله عنهما- سابق فوائد كثيرة تتعلق به، والله أعلم. ذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: قال الفاكهي: وكان من حديث ذبح إسماعيل -عليه السلام- وقصته في ذلك ما أذكره الآن: حدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: حدثت -وعند الله العلم- أن إبراهيم -عليه السلام- أمر بذبح ابنه، قال: أي بني خذ يذكر له ما أمر به -فلما توجه به اعترضه إبليس عدو الله ليصده عن أمر الله -عز وجل- في صورة رجل، فقال: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي. فقال: والله إني لأرى الشيطان قد أتاك في منامك فأمرك أن تذبح ابنك هذا فأنت تريد أن تذبحه؛ فعرفه إبراهيم -عليه السلام- اعترض لإسماعيل -عليه السلام- وهو وراء أبيه يحمل الحبل والمدية، فقال: أيها الغلام، هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: نحتطب قال: فليفعل ما أمره به ربه سمعا وطاعة؛ فلما امتنع منه الغلام ذهب إلى هاجر أم إسماعيل -عليه السلام- وهي في منزلها. فقال: يا أم إسماعيل، أتدرين أين ذهب إبراهيم بإسماعيل؟ قالت: ذهبا يحتطبان. فقال: ما ذهب إلا ليذبحه؛ فقالت: كلا إنه سلمنا لأمر الله؛ فرجع عدو الله بغيظه لم يصب منهم شيئا مما أراد، وقد منع الله منه إبراهيم وآل إبراهيم، وأجمعوا لأمر الله بالسمع والطاعة؛ فلما خلا إبراهيم -عليه السلام- في الشعب -ويقال ذلك إلى ثبير- قال له: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. قال: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. قال: فحدثت أن

_ 1 في رواية سابقة ذكرها الفاكهي: أن إبراهيم -عليه السلام- كان يزور هاجر وولدها إسماعيل كل شهر على البراق، يغدو غدوة فيأتي مكة، ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام؛ فإذا أصحت هذه الرواية، فلا وجه لاستبعاد أن سن إسماعيل حين بناء الكعبة كانت لا تزيد على العشرين، ولعل هذا الخبر من الأساطير.

إسماعيل قال له عند ذلك: يا أبتاه إذا أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصيبك من دمي فينقص أجري؛ فإن الموت شديد ولا آمن أن أضطرب عنده إذا وجدت مسه، واشحذ شفرتك حتى تجهز علي فتذبحني، فإذا أنت أضجعتني فاكببني على جنبي، ولا تضجعني لشقي؛ فإني أخشى إن أنت نظرت إلى وجهي أن تدركك الرقة فتحول بينك وبين أمر ربك في، وإن رأيت أن ترد قميصي إلى أمي فإنه عسى أن يكون أسلى لها فافعل؛ فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ويقال إنه ربطه كما أمره بالحبل فأوثقه، ثم شحذ شفرته، ثم تله للجبين واتقي النظر إلى وجهه، ثم أدخل الشفرة حلقه، فقلبها جبريل -عليه السلام- لقفاها في يده، ثم اجتذبها إليه، ونودي: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فهذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها دونه1. قال ابن إسحاق: وحدثني الحكم بن عيينة، عن مجاهد، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: أخرجه الله إليه من الجنة، قيل: رعى قبل ذلك أربعين خريفا. ثم قال الفاكهي: قال ابن إسحاق فحدثني من لا أتهم من أهل البصرة، عن الحسن أنه كان يقول: ما فدي إلا بتيس هبط عليه من الأروى هبط عليه من ثبير. ثم قال الفاكهي: ويزعم أهل الكتاب وكثير من العلماء أن ذبيحة إبراهيم -عليه السلام- التي فدت بها إسماعيل -عليه السلام- كبش أملح أقرن أعين. ثم قال الفاكهي: وحدثنا محمد بن سليمان قال: حدثنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن هشيم، عن سعيد بن جبير، من ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: الكبش الذي ذبحه إبراهيم -عليه السلام- هو الكبش الذي قربه ابن آدم. ثم روى الفاكهي بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الكبش الذي فدى به إسماعيل -عليه السلام- هو القربان المتقبل من أحد ابني آدم، ثم قال في هذا الخبر: فلم يزل ذلك الكبش محبوسا عند الله -عز وجل- حتى أخرجه في فداء إسماعيل -عليه السلام- فذبحه على هذه الصفة في ثبير عند منزل سمرة الصراف وهو على يمينك متى ترمي الجمار. وذكر الفاكهي خبرا فيه ما يقتضي أن الذبح إبراهيم -عليه السلام- لفداء إسماعيل كان بين الجمرتين بمنى، وأن ذلك كان في زمن الحج؛ لأنه قال: وحدثنا عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا ابن أبي الوزير والفضل بن خالد قالا: حدثنا محمد بن جابر قال:

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 122-124.

حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي -رضي الله عنه: فذكر خبرا يأتي ذكره، ثم قال: وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: ثم أوحى الله تعالى إليه ناد بالحج، فنادى عند كل ركن: حجوا يا عباد الله، فلبى كل شيء حتى النحلة؛ فكانت أول التلبية: لبيك اللهم لبيك، ثم أتاه، جبريل -عليه السلام- قبل يوم عرفة، فذهب به إلى منى فنزل بها وبات حتى أصبح غاديا إلى عرفات، ثم راح إلى الجبل الذي يفيض منه الناس فوقف به، ثم أراه الموقف، ثم خرج إلى "جمع"1 فبات بها ليلة جمع، ثم المواقف بعرفات؟ قال: لا فذهب به مرة أخرى فقال: اعرف؛ فمن ثم سميت عرفات العقبة فرماها بسبع حصيات، ثم قيل له: اذبح ما أمرت به، فدعا إسماعيل -عليه السلام- فقال: إني أمرت بذبحك؛ فقال له إسماعيل -عليه السلام: على ما أمرت به فإني سوف أطيعك. ولا أحسب إلا أنه قال: أخاف أن أجزع؛ فإن خفت فشد يدي وراء ظهري فإنه أجدر أن لا أضطرب، فوضعه لجنبه فجعل ينظر ويعرض، فقال له: أعرض وضع السكين، فوضعها فانقلبت، وناداه مناد من السماء أن قد وفيت بنذرك، وأرضيت ربك، اذبح الذي أنزل عليك، فنزل عليه كبش من ثبير فاضطرب الجبل، ثم جاء به يجري حتى نحوه بين الجمرتين ... انتهى. وروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الذبيح إسماعيل -عليه السلام. وروى عنه مرفوعا ما يقتضي أن الذبيح إسحاق، ولفظ هذه الرواية بعد ذكر قصة تتعلق بإبراهيم -عليه السلام- في رمية الجمار: فلما أراد إبراهيم أن يذبح ولده إسحاق قال لأبيه: يا أبت أوثقني لا أضطرب فينضح عليك دمي إذا ذبحتني، فشده؛ فلما أخذ الشفرة فأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. نقل هاتين الروايتين، عن ابن عباس المحب الطبري وقال: أخرجهما الإمام أحمد. وقال المحب: وعن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: الذي أمر إبراهيم -عليه السلام- بذبحه إسحاق، وهكذا قالوا: كانت القصة بالشام. أخرجه مسعود، وكعب، ومقاتل، وقتادة، وعكرمة، والسدي، وقال آخرون: الذي أمر بذبحه إسماعيل -عليه السلام- وهو قول سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، ومجاهد، وابن عباس -رضي الله عنهما- وفي رواية: عطاء، ثم قال المحب: وسياق الآية يدل على أنه إسحاق لأنه جل وعلا قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] . ولا

_ 1 "جمع" هي مزدلفة.

خلاف أن هذا إسحاق، ثم قال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] ؛ فعطف بقصة الذبيح على ذكر إسحاق فدل على أنه هو ... انتهى. وذكر النووي ما يخالف ما نقله المحب الطبر عن الأكثرين في الذبيح؛ لأنه قال في "التهذيب": واختلف العلماء في الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق، والأكثرون على أنه إسماعيل1 ... انتهى. وممن رجح أن الذبيح إسماعيل "الفاكهي" في كتاب "أخبار مكة" لأنه قال: وقد قال الناس في الذبيح ما قالوا. فقالت العرب هو إسماعيل. وقالت طائفة من المسلمين وأهل الكتاب جميعا: إنه إسحاق؛ فإن أقوال العرب في ذلك أثبت. واستدل الفاكهي على ذلك بما معناه أن الله تعالى عبر عن قصة إسماعيل بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] إلى قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِين} [الصافات: 11] وأخبر عن قصة إسحاق -عليه السلام- بقوله {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 111، 112] . وإن ذكر قصة إسحاق بعد التي قبلها دليل على أن إسحاق -عليه السلام- غير الذبيح، وأن ذلك يتأيد بكون سارة بشرت بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ويعقوب هو ابن إسحاق والبشارة بيعقوب تقتضي حياة أبيه لتصح البشرى، فكيف يؤمر بذبح ابنه2؟ ونقل أن الذبيح إسماعيل -عليه السلام- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من رواية مجاهد عنه، ومن رواية عكرمة عنه، وعن مجاهد نفسه وعن سعيد بن المسيب، وعن سعيد بن جبير، وعن أبي الخلد، وعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- ولفظ ما نقل عنه، قال: كنا نقرأ في كتاب اليهود أنه إسماعيل، وعن محمد بن كعب القرظي، وعن سعيد بن جبير، وعن الحسن، وذكر في ذلك شعر لأمية بن أبي الصلت الثقفي حيث يقول: ولإبراهيم الموفي بالنذر ... احتسابا وحامل الأجزال3 بكره لم يكن ليبصر عنه ... لو رآه معشر إقبال بينما يخلع السراويل عنه ... فكه ربه بكبش حلال ثم قال الفاكهي: قال ابن إسحاق -عليه السلام- في حديثه: فحقق قول أمية بن أبي الصلت في شعره أن الذي أمر بذبحه إبراهيم من ولده بكره، وبكره إسماعيل، وهو أكبر من إسحاق في علم الناس كلهم! العرب من بني إسماعيل وأهل الكتاب4 ... انتهى.

_ 1 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 1: 116. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 126. 3 الأجزال جمع جزل؛ أي الأحمال. 4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 127.

وممن رجح كون الذبيح إسماعيل -عليه السلام- الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير؛ لأنه قال في ترجمت: وهو الذبيح على الصحيح؛ ومن قال إنه إسحاق فإنه تلقاه مما حرفه النقلة من بني إسرائيل1 ... انتهى. وكلام السهيلي يقتضي ترجيح قول من قال: إن الذبيح إسحاق، وأجاب عما يخالف ذلك، ونذكر كلامه لإفادة ذلك وغيره، ونصه: وقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] الآية. يعني بإسحاق ألا تراه يقول في آية أخرى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] ، وقال في آية أخرى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات: 29] الآية، وامرأته هي سارة، فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا، فالذبيح إذا هو إسحاق لقوله ههنا: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] الآية. وأيضا فإنه قال: {بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} ولم يكن معه بالشام إلا إسحاق، وأما إسماعيل -رضي الله عنه- ورواه ابن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وروي أيضا عن ابن عباس مرفوعا، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ غير أن الإسناد فيه لين. وبهذا قال كعب الأحبار، وبه قال شيخ التفسير محمد بن جرير. وروي ذلك -أيضا- عن مالك بن أنس. وقالت طائفة: إن الذبيح إسماعيل، وروي هذا القول بإسناد عن الفزردق الشاعر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح إسناده عن الفرزذق لكان في الفرزدق نفسه مقال، وروي أيضا من طريق معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رجلا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن الذبيحي2 ... في حديث ذكره، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم, ولو صح إسناده هذا الحديث لم يقم به حجة لأن العرب تجعل العم أبا، قال الله تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] وهما أبوه وخاله، ومن حجتهم أيضا أن الله لما فرغ من قصة الذبيح قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاق} [الصافات: 111، 112] ... إلخ، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن البشارة الثانية إنما هي نبوة إسحاق والأولى بولادته؛ ألا تراه يقول: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً} [الصافات: 111، 112] ، ولا تكون النبوة إلا في حال الكبر، عنه من منصوب على الحال. والجواب الثاني: أن قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً} [الصافات: 111، 112] تفسير؛ كأنه قال بعدما فرغ من ذكر البشرى وذكر ذبحه: وبشرناه، وكانت البشارة بإسحاق، كما

_ 1 البداية والنهاية 1/ 159. 2 انظر "القول الفصيح في تعيين الذبيح" للسيوطي في الحاوي للفتاوي.

روت عائشة -رضي الله عنها- وهذا كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 133] والصلاة الوسطى أي وهي صلاة العصر؛ فعطف الاسم على الاسم والمسمى واحد. ومما احتجوا به -أيضا- أي: ومن بعد إسحاق يعقوب؛ فكيف يبشر بإسحاق وأنه يلد يعقوب ثم يؤمر بذبحه. والجواب أن الاحتجاج باطل من طريق النحو؛ لأن يعقوب ليس مخفوضًا عطف على إسحاق، ولو كان كذلك لقال: ومن وراء إسحاق بيعقوب؛ لأنك إذا فصلت بين واو العطف وبين المخفوض بجار ومجرور لم يجز أن تقول: مر بزيد وبعده عمرو؛ إلا أن تقول وبعده بعمرو؛ فإذا بطل أن يكون يعقوب مخفوضا ثبت أنه منصوب بفعل مقدر مضمر تقديره وهبنا له يعقوب؛ فبطل ما ادعدوه به، وثبت ما قدمناه، وبالله المستعان ... انتهى. وفي قصة الذبيح دليل واضح على فضل إسماعيل -عليه السلام- وقد أثنى الله عليه في غير ما آية في كتابه العزيز؛ فقال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ، وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 85، 86] وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم: 54، 55] ، وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 48] والآيات والأحاديث في فضله كثيرة، وكان إسماعيل -عليه السلام- رسولا من الله جرهم والعماليق على ما ذكره السهيلي؛ لأنه قال: وإسماعيل -عليه السلام- نبي مرسل أرسله الله إلى أخواله وإلى العماليق الذين كانوا بأرض الحجاز؛ فآمن بعضهم وكفر بعض1 ... انتهى. وفيما ذكره السهيلي من أن جرهم أخوال إسماعيل -عليه السلام- نظر؛ لأن أمه هاجر جارية سارة زوجه الخليل -عليه السلام- ولعل السهيلي أراد أن يقول إن إصهاره من جرهم فسبق زوجه الخليل -عليه السلام- ولعل السهيلي أراد أن يقول إن أصهاره من جرهم فسبق القلم إلى كتابه أخواله، والله أعلم. وإسماعيل -عليه السلام- أول من ذللت له الخيل؛ لأن الفاكهي روي بسنده، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أباكم إسماعيل أول من ذللت له الخيل العراب فاعتقها وأورثكم حبها" 2، وقد سبق هذا الحديث بسنده في خبر جرهم.

_ 1 الروض الأنف 1/ 17. 2 أورده: الفاكهي في أخبار مكة 4/ 189، وابن هشام 1/ 18، ومعجم البلدان 4/ 379.

وإسماعيل -عليه السلام- أيضا أول من ركب الخيل؛ لأن الزبير بن بكار روى بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانت الخيل وحوشا لا تركب؛ فأول من ركبها إسماعيل"؛ فبذلك سمعت العرب قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم. وإسماعيل -أيضا- أول من تكلم بالعربية؛ لأن الزبير روى بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أول من نطق بالعربية؛ فوضع الكتاب على لفظه ومنطقه، ثم جعله كتابا واحدا مثل بسم الله الرحمن الرحيم الموصل حتى فرق بين ولده: إسماعيل بن إبراهيم1. وروى الفاكهي عن محمد بن الحسين -يعني الباقر- أنه سئل عن أول من تكلم بالعربية؛ فقال: إسماعيل بن إبراهيم النبي -عليهما السلام- وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة ... انتهى. وقيل: إن الله أنطق إسماعيل -عليه السلام- بالعربية إنطاقا وهو أربع عشرة سنة، ذكر هذا القول السهيلي2. وقد روي في أول من تكلم بالعربية غير ما ذكرناه؛ لأن الفاكهي روي بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: من الأنبياء خمسة ممن تكلم بالعربية: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسماعيل بن إبراهيم، وشعيب، وصالح، وهود -عليهم السلام- وسائرهم بالسريانية، ما خلا موسى -عليه السلام- فإنه تكلم بالعبرانية، والعبرانية هي من السريانية وتكلم بها إبراهيم، ثمن إسحاق ثم يعقوب؛ فورثها ولده من بعده بنو إسرائيل فيه لغتهم، وبها قرأ موسى -عليه السلام- التوراة عليهم3 ... انتهى. وهذا يقتضي الفاكهي بسنده ما يقتضي أن جرهما وقطورا أول من تكلم بالعربية؛ لأنه روي بسنده عن ابن إسحاق من طريق عثمان بن ساج، ومن طريق زياد البكائي عنه خبرا في قدوم جرهم وقطورا إلى مكة، وفيه: وجرهم وقطوار أول من تكلم بالعربية منهم3 ... انتهى. وقد قيل: في أول من كتب بالعربية غير ما ذكرناه؛ لأن السهيلي قال: والخلاف كثير من أول من تكلم بالعربية، وفي أول من أدخل الكتاب العربي أرض الحجاز، فقيل:

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 30. 2 الروض الأنف 1/ 135. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 130.

حرب بن أمية، قال المسعودي، وقيل: سفيان بن أمية، وقيل: عبد بن قصي، تعلموا بالحيرة1 وتعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار2 ... انتهى. وذكر السهيلي ما يقتضي ترجيح ما قيل من إن إسماعيل أول من كتب بالعربية؛ لأنه قال: وعنه -عليه السلام- أنه قال: "أول من كتب بالعربية إسماعيل". قال أبو عمرو: وهذا أصح من رواية من روي أول من تكلم بالعربية إسماعيل -عليه السلام ... انتهى. وأبو عمرو هذا هو ابن عبد البر حافظ المغرب. واختلف في تسمية إسماعيل بإسماعيل؛ لأن المسعودي قال: وقيل: إنما سمي إسماعيل لأن الله تعالى سمع دعاء هاجر ورحمها حين هربت من سيدتها سارة أم إسحاق، وقيل: إن الله تعالى سمع دعاء إبراهيم3 ... انتهى. واختلف أيضًا في مبلغ عمر إسماعيل -عليه السلام- حين مات، وفي موضع قبره؛ فقال ابن إسحاق: كان عمر إسماعيل -عليه السلام- فيما يذكرون مائة سنة وثلاثين سنة، ثم مات -رحمه الله وبركاته عليه- فدفن في الحجر مع أمه هاجر ... انتهى. وقال المسعودي: وقبض إسماعيل -عليه السلام- وله مائة وسبع وثلاثون سنة فدفن في المسجد الحرام قبال الموضع الذي كان في الحجر الأسود3 ... انتهى. وذكر ابن الأثير في "كامله"4 والشيخ عماد الدين إسماعيل بن كثير في "تاريخه"5، في مبلغ عمر إسماعيل -عليه السلام- مثل مال ذكره المسعودي، والله أعلم بالصواب. وفي موضع قبره -عليه السلام- مقالة أخرى وهي: أنه بالحطيم، وقد سبق ذلك، والله أعلم بالصواب. وفي إسماعيل لغتان: إسماعيل باللام، والأخرى إسماعين بالنون. ويروى أن هاجر دعت ابنها إسماعيل يا شمويل؛ لأن الفاكهي روي بسنده عن حارثه بن مضرب عن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن هاجر دعت إسماعيل هكذا: يا شمويل يا شمويل ثلاث مرات وعدها ... انتهى.

_ 1 الحيرة مدين بالعراق كانت عاصمة لدولة الغساسنة، وظلت عامرة ثم اندثرت ولم يبق إلا آثارها. 2 الأنبار: اسم لمدينتين إحداهما في بلاد فارس، والأخرى في العراق وهي المقصودة هنا. 3 مروج الذهب 2/ 48. 4 الكامل لابن الأثير 1/ 125. 5 البداية والنهاية 1/ 193.

وإسماعيل -عليه السلام- أول العرب كلها1، وقال ابن هشام: فالعرب كلها من إسماعيل وقحطان، وبعض العرب يقول: قحطان من ولد إسماعيل، ويقول: إسماعيل أبو العرب كلها ... انتهى. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إسماعيل أبو العرب إلا أربعة قبائل، وهذا الحديث ذكره الفاكهي؛ لأنه قال: وحدثني عبد الله بن سلمة، حدثنا إبراهيم بن أبي المنذر، عن عبد العزيز بن عمران، عن معاوية بن صالح، عن ثورة بن يزيد، عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرب بنو إسماعيل إلا أربعة قبائل: السلف، والأوزاع، وحضرموت، وثقيف" 2، وهذا الخبر مرسل، وفيه نظر لكونه يقتضي أن ثقيفا ليسوا من بني إسماعيل وهم منهم؛ لأن ثقيفا تنسب إلى مضر على الصحيح، وقيل: تنسب إلى معد بن عدنان، وهو من بني إسماعيل وكذلك مضر. وذكر الفاكهي محاورة كانت بين إسماعيل وأخيه إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام- لأنه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة قال: أخبرنا الهيثم بن عدي، عن مجاهد، عن الشعبي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء إسماعيل إلى إسحاق -عليه السلام- فطلب ميراثه من أبيه؛ فقال له إسحاق: أما رضيت أن تركناك وأمك لم نأخذها في الميراث! فأوى جذم حائطا كئيبا يبكي؛ فأوحى الله -عز وجل- إلى إسماعيل: ما لك؟ قال: ما أنت أعلم به يا رب، قال الله تعالى: لا تبك يا إسماعيل فإني جاعل الملك والنبوة في آخر الزمان في ولدك، واجعل الذل والصغار ولده إلى يوم القيامة3 ... انتهى. وفيما ذكرناه من أخبار إسماعيل -عليه السلام- كفاية إذ القصد الاختصار، والله أعلم.

_ 1 المقصود هنا: أول العرب المستعربة؛ لأن العرب العاربة هم أبناء يعرب بن قحطان وليسوا من ولد إسماعيل، وقبيلة جرهم التي تزوج إسماعيل -عليه السلام- منهم ينتسبون إلى العرب العاربة. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 131، ومنائح الكرم ورقة "1394" ولفظة: "يا إسماويل يا إسماعيل يا إسماويل". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 132.

الباب السابع والعشرون

الباب السابع والعشرون: في ذكر شيء من خبر هاجر أم إسماعيل عليه السلام: قال ابن هشام بعد أن ذكر أن قبرها وقبر ابنها إسماعيل في الحجر عند الكعبة: تقول العرب: هاجر وآجر؛ فيبدلون الألف من الهاء، كما قالوا: هراق الماء وأراق الماء وغير ذلك. وهاجر من أهل مصر، وقال: حدثنا عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عمر مولى غفرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء السحم الجعاد؛ فإن لهم نسبا وصهرا". قال عمر مولى غفرة: نسبهم أن أم إسماعيل النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وصهرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرر فيهم. قال ابن لهيعة: أم إسماعيل هاجر أم العرب من قرية كانت أمام الفرما1 من مصر2 ... انتهى. وقال السهيلي: وكانت تهاجر لملك الأردن - واسمه صادوق فيما ذكر العتبي- دفعها إلى سارة حين أخذها من إبراهيم عجبا منه بجمالها؛ فصرع مكانه؛ فقال: ادع الله أن يطلقني ... الحديث، وهو مشهور في الصحاح، فأرسلها وأخذ منها هاجر، وكانت هاجر قبل ذلك الملك، بنت ملك من ملوك القبط بمصر3.

_ 1 الفرما: "بالمد والقصر" مدينة قديمة بين العريش والإسماعيلية، ومكانها يقرب من مدينة بور سعيد حاليا بمصر. 2 السيرة لابن هشام 1/ 16، 17. 3 الروض الأنف 1/ 15.

وذكر الطبري من حديث سيف بن عمرو، أو غيره: أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- حين حاصر مصر قال لأهلها: إن نبينا -عليه الصلاة والسلام- قد وعدنا بفتحها، وقد أمرنا أن تستوصي بأهلها خيرا، فإن لهم نسبا وصهرا؛ فقالوا: هذا النسب لا يحفظ حقه إلا نبي؛ لأنه نسب بعيد، وصدق، كانت أمكم هاجر امرأة لملك من ملوكنا، فحاربنا أهل عين الشمس، فكانت لهم علينا دولة، فقتلوا الملك واحتملوها؛ فمن هنالك سرت1 إلى أبيكم إبراهيم، أو كما قالوا2. ثم قال السهيلي: وهاجر أول امرأة ثقبت أذنها، وأول من خفض3 من النساء، وأول من جرت ذيلها؛ وذلك أن سارة غضبت عليها، فحلفت أن تقطع ثلاثة أعضاء من أعضائها، فأمرها إبراهيم -عليه السلام- أن تبر قسمها بثقب أذنيها، وخفاضها فصارت سنة في النساء، وممن ذكر هذا الخبر أبو زيد في "نوادره"4 ... انتهى. وقال السهيلي بعد أن ذكر إخراج جبريل ماء زمزم لإسماعيل -عليه السلام: وكان سبب إنزال هاجر وابنها إسماعيل مكة، ونقلها إليها من الشام: أن سارة بنت عم إبراهيم -عليه السلام- شجر بينها وبين هاجر أمر؛ فأمر إبراهيم -عليه السلام- أن يسير بها إلى مكة، فاحتملها على البراق واحتمل معه قربة ماء ومزود تمر، وسار بها حتى أنزلها بمكة في موضع البيت، ثم قال بعد أن ذكر ما كان بين هاجر وبين إبراهيم في مفارقته لها، وما كان منها من السعي بين الصفا والمروة لطلب الماء عند فناء ما كان معها من الماء وعطش ابنها: ثم ماتت هاجر وابنها إسماعيل -عليه السلام- ابن عشرين سنة، وقبرها في الحجر، ثم قبر إسماعيل عليه السلام5. وذكر السهيلي "الفرماء" التي ذكرها ابن لهيعة في خبر هاجر؛ فقال السهيلي: وقول ابن لهيعة بالفرماء من مصر، الفرماء: مدينة تنسب إلى صاحبها الذي بناها وهو الفرما بن فليس، ويقال: ابن فليس، ومعناه: محب الغرس5 ... انتهى. وقول السهيلي: وأمهم هاجر يعني أولاد إسماعيل؛ لأنهم أم أبيها، وأما قول أبي هريرة -رضي الله عنه: إنها أم بني ماء السماء؛ فجوز السهيلي فيه احتمالين؛ لأنه قال: وكذلك قول أبي هريرة -رضي الله عنه: هي أمكم يا بني ماء السماء -يعني: هاجر-

_ 1 في الروض الأنف 1/ 16: "تصيرته". 2 الروض الأنف 1/ 16. 3 خفضت: أي اختتنت، واللفظ خاص بالنساء. 4 الروض الأنف 1/ 17. 5 الروض الأنف 1/ 18.

يحتمل أن يكون تأويل في قحطان ما قاله غيره، ويحتمل أن يكون نسبهم إلى ماء السماء على زعمهم؛ فإنهم ينسبون إليه كما تنسب كثير من قبائل العرب إلى حاضنتهم وإلى رابهم -أي زوج أمهم- كما سيأتي بيانه في باب قضاعة، إنم شاء الله1, ... انتهى. وذكر ابن الأثير في "كامله" شيئا من خبر هاجر؛ لأنه قال في ولاده إسماعيل: فلما كبر إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- اختصما، فغضبت سارة على هاجر، فأخرجتهما، ثم أعادتهما، فغارت منها فأخرجتها، وحلفت فتقطعن منها بضعة، فتركت أنفها وأذنها لئلا تشينها، ثم خفضتها، فمن ثم خفض النساء. وقيل: كان إسماعيل -عليه السلام- صغيرا؛ وإنما أخرجتها سارة غيره منها، وهو الصحيح -إن شاء الله- وقالت سارة: لا تساكنيني في البلد2 ... انتهى. وقال النووي في "التهذيب" في ترجمته إبراهيم: وفي "التاريخ" -أيضا- يعني "تاريخ ابن عساكر" في ترجمة هاجر، قال: هاجر ويقال آجر بالمد، القبطية، ويقال الجرهمية، أم إسماعيل، كانت للجبار الذي يسكن عين الجر3 بقرب بعلبك؛ فوهبها لسارة، فوهبتها لإبراهيم -عليهم السلام- وأنها توفيت ولإسماعيل عشرون سنة، ولها تسعون سنة، فدفنها إسماعيل في الحجر4 ... انتهى. وما ذكره النووي من أن هاجر جرهمية -على ما قيل- لعله باعتبار ملائمتها لهم في السكني بمكة، ولا يصح أن يكون باعتبار نسبها إليهم، لكونها قبيطة. وما ذكره هو والسهيلي من كونها ماتت وسن ابنها إسماعيل عشرون سنة، فروي في بعض الأخبار ما يقتضي خلاف ذلك، وفي الأخبار الواردة في بعض هذا المعنى أن أباه أمر بذبحه بمزدلفة حين حج، وكان حجة بعد بنائه للبيت، وبناؤه للبيت، وإسماعيل -عليه السلام- ابن ثلاثين سنة على ما قيل، وهذا وإن لم يصح؛ ففيما ذكراه نظر من وجه آخر، وهو أن الأزرقي روى عن ابن إسحاق: أن إبراهيم -عليه السلام- لما أمر البيت، أقبل من أرمينية على البراق حتى انتهى إلى مكة، وبها إسماعيل -عليه السلام- وهو يومئذ ابن عشرين سنة، وقد توفيت أمه قبل ذلك5 ... انتهى. وهذا يقتضي أن أمه توفيت وسن إسماعيل دون عشرين سنة؛ لأنها ماتت قبل قدوم إبراهيم -عليه السلام- وقدم إبراهيم وإسماعيل ابن عشرين سنة.

_ 1 الروض الأنف 1/ 18. 2 الكامل لابن الأثير 1/ 102، 103. 3 "عين الجر: موضع معروف بين بعلبك ودمشق، وهي بلدة "عنجرة" الحالية في إقليم البقاع بلبنان، كانت منتجعا ومستجما لخلفاء بني أمية. 4 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 1: 101، 102. 5 أخبار مكة للأزرقي 1/ 64.

وفي كلام النووي نظر من وجه آخر؛ لأنه ذكر أن لها حين ماتت تسعين سنة، ولابنها عشرون سنة، وهذا إن صح فإنه يقتضي أن تكون هاجر حملت بإسماعيل -عليه السلام- وهي بنت سبعين سنة -بتقديم السين- وفي حمل من بلغت هذا السن نظر؛ فإن صح ذلك، فهي كرامة لها، ولا ريب في علو قدرها. وفي كتاب الفاكهي بعد أن ذكر شيئا من خبرها: وسمعت من بعض من يروي العلم يقول: أوحي إلى ثلاث من النساء: إلى مريم بنت عمران، وإلى أم موسى، وإلى هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليهم أجمعين ... انتهى. وهذا غريب، والله أعلم بصحته1. وفيما ذكرناه من أخبار هاجر كفاية إذ القصد الاختصار، ومن غريب ما قيل في وفاة هاجر ما ذكره ابن الأثير في "كامله" لأنه قال في وفاة سارة: وقيل إن هاجر عاشت بعد سارة مدة، والصحيح أن هاجر توفيت قبل سارة2 ... انتهى. ووجه الغرابة في هذا أن إسماعيل أكبر من إسحاق بأربع عشرة سنة، وسارة عاشت مائة سنة وسبعا وعشرين سنة، على ما ذكره أهل الكتاب. ويسن للمحرم السعي بين الصفا والمروة لسعي هاجر بينهما لما طلبت الماء لابنها حين اشتد به الظمأ، وخبرها في ذلك عن ابن عباس في صحيح البخاري3، وقد سبق ذلك في الباب الذي قبله.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 132. 2 الكامل لابن الأثير 1/ 123. 3 صحيح البخاري 6/ 282-288 "الأنبياء".

ذكر أسماء أولاد إسماعيل وفوائد تتعلق بذلك

ذكر أسماء أولاد إسماعيل وفوائد تتعلق بذلك: قال ابن هشام في "السيرة": حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق قال: ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- اثنى عشر رجلا: نابتا وكان أكبرهم، وقيدر، وأربل، ومنشي، ومسمعا، وماشي، ودما، وأدر، وطيما، ويطورا، ونبشا، وقيدما، وأمهم "رعلة" بنت مضاض بن عمرو الجرهمي ... انتهى. وقال الأزرقي: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق قال: ولد لإسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- اثني عشر رجلا، وأمهم السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولدت له اثني عشر رجلا: نابت بن إسماعيل، وقيدار بن إسماعيل، وواصل بن إسماعيل، ومياس1 بن إسماعيل، وآزر وطمياء بن إسماعيل، وقطورا2 بن إسماعيل،

_ 1 في سيرة ابن هشام 1/ 25: "ماش". 2 في أخبار مكة للأزرقي في 1/ 81: يطور، وفي السيرة 1/ 25 "تطورا".

وقيس1 بن إسماعيل، وقيدمان2 بن إسماعيل، وكان عمر إسماعيل فيما يذكرون ثلاثين ومائة سنة؛ فمن نابت بن إسماعيل وقيدار بن إسماعيل نشر الله "تعالى" العرب؛ فكان أكبرهم قيدار ونابت ابنا إسماعيل، ومنهما نشر الله العرب3 ... انتهى. وذكر المسعودي أولاد إسماعيل، وسمى بعضهم بغير ما سبق، قال: وولد لإسماعيل عليه الصلاة والسلام اثنا عشر ولدا؛ أولهم: نابت، وقيدر، وأذيل4، ومنشى5، ومسمع6، وديما، وردام، ومنشا، وحذام، وميم، وقطور، ونافس، وكل هؤلاء قد أنسل7 ... انتهى. وذكر الفاكهي أسماء أولاد إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- على وجه فيه مخالفة لبعض ما سبق؛ لأنه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا أبي سلمة قال: حدثنا يعقوب بن محمد بن محمد بن طلحة التيمي، عن عبد المجيد بن عبد الرحمن بن سهيل، عن عبد الرحمن بن عمرو العجلان قال: سمعت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: ولد إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- اثني عشر رجلا، وأمهم بنت الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي؛ فأكبر أولاد إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- نابت، وقيدر، والذيل، ومنشى، ومسمع، ودمه، وناس، وأدد، وصيبا، ومصور، وتيش، وقيدم؛ كلهم بنو إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- وكانع مر إسماعيل -عليه السلام- مائة وثلاثين سنة فيمن نابت وقيدر نشر الله -تعالى- العرب8 ... انتهى. وقد بان بما ذكرناه في أسماء أولاد إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- اختلاف المقالات في أسمائهم، ورأيت فيها غير ما ذكرت؛ فمن ذلك: منشأ بدل منشى، ومسماع بدل مسمع، ودوما بدل دما، وتيمن -بالتاء- بدل طيما، ويافيعش بدل تيش. وهذه الأسماء مذكورة هكذا في كتاب "النسابة" لأبي علي الجواي على ما ذكره القطب الحلبي في كتابه "المورد العذب الهني"، وقال: وزاد فيهم -يعني الجواتي: سعام، ولا عانوا، وحدان ... انتهى. ولم أر من تعرض لضبط جميعها بالحروف، وأظن أن سبب الاختلاف في كثير منها التصرف في نقل ذلك من الكتب المذكورة فيها، والله أعلم.

_ 1 في نسخة من أخبار مكة: "نيش"، وفي السيرة 1/ 35 "نيش". 2 في السيرة 1/ 25: "قيذة". 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 81. 4 في مروج الذهب 2/ 49: "أدبيل". 5 في مروج الذهب 2/ 419: "مبسم". 6 في مروج الذهب 2/ 49: "مشمع". 7 مروج الذهب 2/ 49، وفيه تختلف الأسماء عما هنا. 8 أخبار مكة للفاكهي 5/ 133 ومنائح الكرم ورقة "394-أ".

وأما الأسماء التي في "السيرة" فيقع في بعض النسخ الجيدة منها ضبطها بالشكل، وقد ضبطت ما ذكرته منها بالشكل على ما رأيته في نسخ معتمدة في السيرة"، وقد تعرض السهيلي -رحمه الله- لضبط بعضها، وبيان معنى بعضها، وما سمي ببعضها من الأماكن؛ فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص كلامه: وذكر في ولد إسماعيل: ظيما، وقيده الدارقطني بالظاء منقوطة بعدها ميم، كأنها تاء: بين ظيما، والظيما مقصور سمرة في الشفتين، وذكر دما. ورأيت للبكري أن دومة الجندل عرفت بدوما1 بن إسماعيل، وكان نزلها؛ فلعل ذلك مغير عنه، وذكر أن الطور سمي بقطور بن إسماعيل، ولعله محذوف الياء أيضا، إن كان يصح ما قاله، والله أعلم. وأما الذي قاله أهل التفسير في الطور فهو كل جبل ينبت الشجر؛ فإن لم ينبت شيئا فليس بطور، وأما قيدر فتفسيره عندهم صاحل الإبل؛ وذلك أنه كان صاحب إبل إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- انتهى. واختلف في أمهم؛ ففي "السيرة" لابن إسحاق أنها بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، ولم يسمها، وفي الأزرقي عن ابن إسحاق، أن أمهم السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي. ونقل ذلك السهيلي عن الدارقطني. وفي الأزرقي أيضا في خبر ذكر فيه خبر جرهم وقطورا بن إسماعيل، أن إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- خبط إلى مضاض بن عمرو ابنته رعلة فزوجه إياها؛ فولدت له عشرة ذكور. قال: وهي أم البيت2 ... انتهى. ولا منافاة بين قول من سماها السيدة، وبين قول من سماها رعلة، لإمكان أن يكون أحد الأمرين اسما لها، والآخر لقبا، واقتصر كل من القائلين على أحدهما، والله أعلم. وفي الفاكهي أن أم أولاد إسماعيل: بنت الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي، كما في الخبر السابق، وهذا يخالف ما سبق من أن أمهم بنت مضاض بن عمرو. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أم أولاد إسماعيل من العمالقة؛ لأنه روى خبرا عن أبي جهنم بن حذيفة في نزول العماليق على أم إسماعيل: ونشأ إسماعيل مع ولدانهم، ثم روي بإسناده عن عثمان بن عفان أمير المؤمنين أنه سئل: متى نزل إسماعيل مكة؟ قال: فذكر نحو حديث أبي جهم الأول؛ إلا أنه قال: تزوج إسماعيل امرأة منهم، فولدت له عشرة ذكور3 ... انتهى.

_ 1 في معجم ما استعجم 2/ 565: "دومان". 2 أخبار مكة للأزرقي في 1/ 86. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 133.

فتحصل من هذا في أم أولاد إسماعيل قولان: هل هي من جرهم أو من العماليق؟ وعلى الأول هي بنت مضاض بن عمرو أو بنت الحارث بن مضاض بن عمرو، والله أعلم. وسيأتي إن شاء الله تعالى في أم نابت بن إسماعيل غير ما سبق، وإلى نابت بن إسماعيل يرجع نسب عدنان على مقتضى ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل الأخبار، وقيل: يرجع نسب عدنان إلى قيدار بن إسماعيل، وهذا القول ذكره السهيلي؛ لأنه قال: وذكر من وجه قوي في الرواية عن نساب العرب أن نسب عدنان يرجع إلى قيدار بن إسماعيل، وأن قيدار كان الملك في زمانه، وأن معنى قيدار: إذ فسر، والله أعلم ... انتهى. وذكر القطب الحلبي في "شرح سيرة عبد الغني"؛ خلافا فينسب نابت بن إسماعيل، وفي أمه وأم قيدر ومن ينسب إليها، ونذكر كلامه لإفادة ذلك، ونص كلامه: قال المؤلف: إن نابت بالنون فاعل من نبت. قال الإمام أبو نصر بن ماكولا في باب النون: نابت بن إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام. وهذا القول الأخير ما ذكره الجواني في "النسب"؛ فإنه قال: عدنان بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان على نبت، وقال: إن أم نبت هامة بنت زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وتدعى حرمن، وجعل نابت بن حمل وأمه العاصرية بنت مالك الجرهمي بن قيدار، وأمه هالة بنت الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي، ويقال بل اسمها سلما، وقيل: الخنفا، ثم قال القطب: قال الجواني: ومن العلماء من ينسب اليمن إلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ويقولون إنهم من ولد بيمن بن نبت بن إسماعيل. وافترق باقي ولد إسماعيل في أقطار الأرض، فدخلوا في قبائل العرب، ودرج بعضهم فلم يثبت لهم النسابون نسبا إلا ما كان من ولد قيدار، ونشر الله تعالى ذرية إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- الذين تكلموا بلسانه من ولد قيدار ابنه أبي العرب. وفي كتاب "التيجان" قال وهب: حدثني ابن عباس -رضي الله عنهما- أن إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- دخل ذات يوم وعلى عنقه قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم؛ فجرى إليه يعقوب وعيصو، فأخذهما إلى صدره، فنزلت رجل قيدار اليمنى على رأس يعقوب، ورجله اليسرى على رأس عيصو؛ فغضبت سارة، فقال لها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام: لا تغضبي فإن رجل أولاد هذا الذي على عنقي على رؤوس هؤلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم ... انتهى. وخبر ابن عباس -رضي الله عنهما- هذا يدل على أن عدنان يرجع إلى قيدار، لا إلى نابت بن إسماعيل.

واستفدنا بما ذكره القطب في أم قيدار معرفة اسم بنت الحارث بن مضاض -التي ذكرها الفاكهي- أنها أم أولاد إسماعيل؛ لأن الفاكهي ذكر فيهم قيدار الذي ذكره القطب، واسم أمه. وأن فيها ثلاثة أقوال: هالة، وسلمى، والخنفا. ولإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- بنت غير أولاده الاثني عشر، ذكرها السهيلي؛ لأنه قال وقد ذكر ابن إسحاق أسماء بني إسماعيل، ولم يذكر بنته الأخرى وهي نسمة بنت إسماعيل، وهي امرأة عيصو بن إسحاق، وولدت له الروم وفارس فيما فيه أيضا: عيصي ... انتهى، والله أعلم.

ذكر شيء من خبر بني إسماعيل عليه الصلاة والسلام

ذكر شيء من خبر بني إسماعيل عليه الصلاة والسلام: قال الأزرقي: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني ابن إسحاق، فذكر أولاد إسماعيل وشيئًا من خبرهم، وخبر بعضهم وخبر جرهم وقطورا، وما كان بينهما من القتال؛ إلا أنه قال: ثم نشر الله تعالى بني إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- بمكة، وأخوالهم جرهم إذ ذاك الحكام وولاة البيت كانوا كذلك بعد نابت بن إسماعيل؛ فلما ضاقت عليهم مكة وانشتروا بها انبسطوا في الأرض وابتغوا المعاش والتفسح في الأرض؛ فلا يأتون قوما ولا ينزلون بلدا إلا أظهرهم الله -عز وجل- عليهم بدينهم فوطئوهم وغلبوهم عليها، حتى ملكوا البلاد ونفوا عنها العماليق، ومن كان ساكنا بلادهم التي كانوا اصطلحوا عليها من غيرهم، وجرهم على ذلك بمكة ولاة البيت، لا ينازعهم إياه بنو إسماعيل لخئولتهم وقرابتهم وإعظام الحرم أن يكون به بغي أو قتال1 ... انتهى. وقال الفاكهي: وحدثني الزبير بن أبي بكر قال: وجدت في الكتاب الذي ذكر أنه من كتب عبد الحكم بن أبي غمر: أن الله تبارك وتعالى لما نشر ولد إسماعيل توالدوا وكثروا وضاقت عليهم مكة، واشتدت المعيشة بها عليهم، فجعلوا ينبسطون في الأرض وينتشرون؛ فخرج أهل القوة يتخذون أموالا من الإبل والبقر والغنم يتطلبون بها المرعى، فلا تلبث أموالهم أن تربوا وتكثر؛ فجعل الناس يتداعون إلى ذلك رغبة فيه وكراهة أن يحدثوا في الحرم حدثا يقولون: نحن عباد الله وهذا بيته وحرمه، ومن أحدث فيه أخرج منه ولم يعد فيه، في خرج إلى ظل الله ومظهر من حرمه من أحداثنا2؛ فمن أحدث منا لم يحرم عليه دخول الحرم ولا زيارة البيت. فلم يبرحوا يصنعون ذلك ويخرجون حتى ضاقت مكة وما بها من ولد إسماعيل إلا متدين حبس نفسه بجوار البيت وعمارته،

_ 1 تاريخ الطبري 1/ 317. 2 هكذا في جميع النسخ.

أو مضعف لا مال له صبر على لأوائها وشدتها حسبه، أو خالف مستجير بالبيت والحرم فيأمن بذلك. وكان الناس؛ إذ ذاك يدعون من أقام به "أهل الله" يقولون: هؤلاء أهل الله أقاموا عنده بفناء بيته، وفي حرمته وحرمه، من بين حابس له نفسه، أو مستجير به، أو صابر على شدتها1 ولأوائها لوجهه2 ... انتهى. وقال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، قال: حدثنا عثمان -يعني ابن ساج- قال: أخبرني محمد بن إسحاق، وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله عن علي بن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه في اللفظ: أن بني إسماعيل والعماليق من سكان مكة ضاقت عليهم البلاد؛ فتفسحوا في البلاد، والتمسوا المعاش؛ فخلف الخلوف بعد الخلوف، وتبدلوا بدين إسماعيل غيره، وسلخوا إلى عبادة الأوثان، فيزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في البلاد إلا احتملوا معهم من حجارة الحرم، تعظيما للحرم وصيانة لمكة والكعبة، حينما حلوا وضعوه؛ فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم حتى خلف الخلوف بعد الخلوف ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- غيره، وعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالة، وانتحوا ما كان يعبد قوم نوح منها على إرث ما كان بقي فيهم من ذكرها، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- يتمسكون بها من تعظيم البيع والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف على عرفة، والمزدلفة، وهدي البدن، وإهلال الحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس فيه. وكان أول من غير دين إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- ونصب الأوثان، وسبب السائبة، ونحو البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، عمرو بن لحي3 بن قعمة بن خندف جد خزاعة؛ إلا أنهم من ولد عمرو بن عامر بن غسان4 ... انتهى. وقال الزبير بن بكار: وجدت في كتاب ذكر أنه من كتب عبد الحكم بن أبي غمر: لما أدرك إلياس بن مضر أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم، وبأن فضله فيهم، ولأن جانبه لهم حتى جمعهم رأيه، ورضوا به رضا لم يرضوا مثله بأحد من ولد إسماعيل بعد أدر؛ فردهم إلى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم تامة على أولها. وهو أول

_ 1 في المطبوع 2/ 35: "أو صابر على لأوائها وشدها لوجه"، وقد سقط منه "أو مستجير به". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 133. 3 تجمع الروايات على أن عمرا هو أول من أدخل الأنصاب إلى مكة، ودعا إلى التقرب إليها بالعبادة. 4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 134-135.

من أهدى البدن إلى البيت، أو في زمانه، وقال: وهو أول من وضع الركن للناس بعد هلاكه حين غرق البيت وانهدم زمن نوح -عليه الصلاة والسلام- فكان أول من سلط عليه الناس في زمانه فوضعه في زاوية البيت للناس. وبعض الناس تقول: إنما هلك بعد إبراهيم وإسماعيل -عليهم الصلاة والسلام- ولم تبرح العرب تعظم إلياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة، كتعظيم لقمان وأشباهه. ويقال: قال نبي إلا وقد علم ممن هو أو من أي أمة هو، وفيه قال الله عز وجل: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} [الصافات: 123] . وقال الفاكهي: وحدثني عبد الملك بن محمد عن زياد بن عبد الله قال: قال ابن إسحاق: يقال: إن أول نبي كان بين ولد إسماعيل الحارث، كان بين سعد العشيرة وبين معد، ويقال: كانوا يسمعون أن دعوة إبراهيم من ولد إسماعيل في معد بن عدنان لسعد، العشيرة، وهم أخرجوا معدا من اليمن إلى أرض نجد؛ إلا أنه كنانة أقامت بها الحرم؛ وإنما اكتتبوا على المياه، فقال عامر بن الظرب العدواني1 في حرب معد: وسعد العشيرة، يذكر قرابتهم وفضل معد فيهم وينتمي إلى عوف ابن البيت، ويحضهم على صلة معد؛ حيث يقول: أبونا مالك ولصلب زيد ... معد ابنه خير البنينا بنينا سأملك سواحر بنوه ... آمنون به سكونا أتى بهم من ذوي شمران ... أنسابها أحد السنينا في هذا ترحلت عنها معدا ... وكيف تصادف الدار الدفينا فيا عوف بن نبت بالعوف ... وهل هوف لتصبح من عوونا فلا تعصموا معدًا إن فيها ... بلاد الله والبيت المكينا وشمران من اليمن2 ... انتهى. وسعد العشيرة المذكورة في هذا الخبر من مذحج؛ وإنما قيل له: سعد العشيرة لأنه كان يركب -فيما قيل- في ثلاثمائة من ولده وولد ولده؛ فإذا قيل له: من هؤلاء؟ قال: عشيرتي مخافة العين عليهم، ذكر ذلك الحازمي وقال: المذحجي منسوب إلى مذحج، واسمه: مالك بن أدد بن يزيد بن يشجب بن كريب بن يزيد بن كهلان، سمي به؛ لأنه ولد على أكمة حمراء باليمن قال لها: مذحج. وقيل غير ذلك ... انتهى.

_ 1 حكيم جاهلي مشهور، كان سيدا في قومه، ويعد من المعمرين، ومن الخطباء والحكماء في الجاهلية. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 136.

وممن كان عظيم القدر من بني إسماعيل: معد1 بن عدنان؛ لأن الزبير بن بكار قال فيما رويناه عنه: حدثنا إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران قال: أخبرني أبو القاسم بن نشيط، عن الحجاج بن أرطأة، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما وقع بخت نصر بأهر حصور وبأهل عرمانا، بعث الله -عز وجل- ملكين فاحتلام معد بن عدنان حتى أنزلاه بأرمينية، حتى إذا تم الأمر رده الله تعالى إلى التهمة، قال: فلما انقضت غزاة بخت نصر من بلاد المغرب، وخرج منها إلى بلاده، رد معد بن عدنان إلى موضعه، من تهامة؛ فكان بمكة في ناحيتها مع أخواله ممن جرهم وهم ولاة البيت وبها منهم بقية؛ فاختلط بهم وسار معهم فأنكحوه، فناكحهم، ولم يصبه ولم يصب جرهم ومن كان معهم من معرة جيش بخت نصر ما أصاب غيرهم ... انتهى. وقد أتينا من أخبار بني إسماعيل بجملة فيها مقنع إن شاء الله.

_ 1 هو الجد الأعلى للرسول الأعظم، وأبو العرب كافة، ويؤثر أنه عني بالحجاز والحرم، ومهد الأمن فيهما، ويعد من الأنبياء في بعض الروايات.

ذكر ولاية نابت بن إسماعيل للبيت الحرام

ذكر ولاية نابت بن إسماعيل للبيت الحرام: قال الأزرقي فيما رويناه عنه: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني ابن إسحاق بعد أن ذكر أولاد إسماعيل: فولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي -وهو جد نابت بن إسماعيل أبو أمه- وضم بني نابت بن إسماعيل وبني إسماعيل إليه؛ فصاروا مع جدهم أبي أمهم مضاض بن عمرو، ومع أخوالهم من جرهم1 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 81، 82.

الباب الثامن والعشرون

الباب الثامن والعشرون: ذكر ولاية إياد بن نزار بن معد بن عدنان للكعبة: قال الزبير بكار؛ قاضي مكة: حدثنا عمر بن أبي بكر الموصلي، عن غير واحد من أهل العلم بالنسب، قالوا: لما حضرت نزارا الوفاة آثر إيادتا بولاية الكعبة، وأعطى مضر ناقة حمراء فسميت: مضرالحمراء، وأعطى ربيعة الفرس؛ فسمي: ربيعة الفرس، وأعطى أنمار جارية تسمى بجيلة؛ فحضنت بنيه فسموا: بجيلة أنمار. ويقال: بل أعطاه بجيلة وغنما كانت ترعاها؛ فيقال لهم: أنمار الشاء، ويقال: بل أعطى إياد بن نزار غنيما له برقاء؛ فسميت إياد البرقاء، ويقال: بل أعطى إيادا عصما وحله، فهم يدعون إياد الغصا، وقد قال في ذلك رجل إيادي: نحن ورثصنا عن إياد كله ... نحن ورثنا العصا والحله قال الزبير: وقال غير عمر بن أبي بكر: أعطى إياد أمه شمطاء؛ فسموا إياد الشمطاء ... انتهى. ورأيت لإياد بن نزار ولإخوته المشار إليهم خبرا يستطوف في ذكاتهم؛ فحسن ببالي ذكره هنا لما في ذلك من الفائدة، وقد ذكر هذا الخبر غير واحد من أهل الأخبار، منهم الفاكهي -رحهه الله-، ونص ما ذكروا: وحدثني حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا علي بن الصباح ومحمد بن حبيب ومحمد بن سهل قالوا: حدثنا ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن معاوية بن عميرة بن منجوس الكندي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ولد نزار بن معد بن عدنان أربعة: مضر، وربيعة، وإيادا، وأنمارا، وأم مضر وإياد: سودة بنت عك، وأم ربيعة وأنمار:

الجدعة1 بنت وعلان بن جوشم من جلهمة بن جرهم؛ فلما حضر نزارا الموت جمع بنيه هؤلاء الأربعة فقال: أي بني، هذه القبة الحمراء -وهي من أدم- وما أشبهها من المال فلمضر، وهذه البدرة والمجلس والأنمار فلأنمارا، وهذا الفرس الأدهم والخباء الأسود وما أشبهها من مال فلربيعة، وهذا الخادم -وكانت شمطاء- وما أشبهها من مال فلإياد، وإن أشكل عليكم كيف تقتسمون، فأتوا الأفعى الجرهمي ومنزله بنجران، وإن أنتم رضيتم -وهنا قد خفت صوته إذ لم يسمع الصوت فألمع- ثم مات، فتشاجروا في ميراثه ولم يهتدوا إلى القسم، فتوجهوا إلى الأفعى يريدونه وهو بنجران؛ فرأى مضر أثر بعير قد رعى، فقال: إن الذي رعى هذا الموضع لبعير أعور، فقال ربيعة: أنه الأزور، فقال إياد: إنه لأبتر؛ فقال أنما: إنه لشرود، فساروا قليلا، فإذا برجل يوضع على جمله، فسألهم عن البعير، فقال مضر: أعور؟ قال: نعم، قال ربيعة: أزور؟ قال: نعم، قال إياد: أبتر، قال: نعم، قال أنمار: شرود؟ قال: نعم؛ فسألهم عن البعير، وقال: هذه صفة بعيري، فدخلوا نجران؛ فقال صاحب البعير: هؤلاء أصابوا بعيري؛ وصفوا لي صفته وقالوا: لم نره؛ فاختصموا إلى الأفعى -وهو يومئذ حكم العرب- فاختصموا إلى الأفعى، وهو يومئذ حكم العرب؛ فأخبروه بقولهم، فحلفوا له ما رأوه؛ فقال الرجل: قد نعتوا لي صفة بعيري قال الأفعل لمضر كيف عرفت أنه أعور قال إنه رعى جانبا وترك جانبا فعرفت أنه أعور فقال لربيعة: كيف عرفت أنه أزور؟ قال: رأيت إحدى يديه ثابته الأثر، والأخرى فاسدة الأثر؛ فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه؛ فقال لإياد: كيف عرفت أنه أبتر؟ قال: باجتماع بعره ولو كان ذيالا لمصع2، فقال لأنمار: كيف عرفت أنه شرود؟ قال: إنه رعى في المكان المكيء، ولم يجزه إلى مكان أغرز منه نبتا؛ فقال الرجل: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه، ثم سألهم من أنتم؟ فأخبروه، فرحب بهم، وأخبروه ما جاء بهم، فقال: تحتاجون إلي وأنتم كما بدا لي؟! فذبح لهم وأقاموا عنده، ثم قام إلى خازن له يستحثه الطعام، ثم جلس معهم، ثم أكلوا وشربوا، وتنحى عنهم الأفعى؛ حيث لا يرى وهو يسمع كلامهم؛ فقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أطيب منه، لولا أن شاته غذيت بلبن كلبة؛ فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا، لولا أن حبلته نبتت على قبر؛ فقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرى، لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعى إليه؛ فقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا. وكان كلامهم بإذنه؛ فقال: ما هؤلاء إلا شياطين؛ فدعى القهرمان فقال: أخبرني خبر هذه الكرمة؛ فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن العناق؛ فقال: هي عناق أرضعتها بلبن كلبة. ولم يكن ولد في الغنم غيرها، وماتت أمهال، ثم أتى أمه فقال:

_ 1 عند ابن الأثير 2/ 92: الجدالة، وكذلك عند الطبري 2/ 268. 2 يقال: مصعت الناقة بذنبها؛ أي حركته وضربت به.

أصدقيني من أبي؟ فأخبرته أنها كانت تحت ملك كثير المال، لا يولد له، فخفت أن يموت ولا يولد له، فمر بن رجل فوقع علي، وكان نازلا عليه؛ فولدت. فرجع إليهم وقال: قصوا علي قصتكم، فقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال فلمضر. فذهب بالدنانير الفرس وما أشبه. وكان الفرس أدهم فسميت ربيعة الفرس، وأما الدراهم والأرض فلأنمار، وذهب إياد بالخيل البلق والغنم والنعم، فانصرفوا من عنده؛ فقال الأفعى مساعدة الخاطل تعد من الباطل، وإن العصا من العصية، وإن خشينا من أحسن1 ... انتهى. وذكر هذا الخبر "شارح العبدونية"، ونقل فيه عن كل من أولاد نزار؛ إلا أنمار في صفة البعير الذي رأوه في طريقهم إلى الأفعى الجرهمي غير ما في هذا الخبر؛ لأن فيه قال: فلما مات أبوهم اختلفوا في القسم، فمشوا إلى الأفعى بن الأفعى، فعثروا في طريقهم على أثر بعير؛ فقال مضر: هذا أثر بعير أزور. فقال ربيعة: نعم، وأبتر. فقال إياد: نعم، وأعور. قال أنمار: نعم، وشرود. وفي الخبر الذي ذكره "شارح العبدونية" أن الأفعى أطعم أولاد نزار عسلا، وأنه لما استطيبوه قال الثالث منهم: إلا أن نحلته وضعته على هامة جبار، وأن الأفعى سأله عن ذلك، فأخبر بما يصدق فيهم؛ وفيه أن الأفعى وكل بهم من يسمع كلامهم ويحفظه ويخبره. وبقية الخبر بمعنى الخبر الذي ذكرناه. وذكر الحافظ قطب الدين الحلبي في كتابه "المورد العذب الهني في شرح سيرة عبد الغني"، فوائد تتعلق بخبر ابن نزار يحسن ذكرها هنا؛ وذلك أنه قال عند ذكره للخبر السابق: زاد أبو الحسن بن الأثير: فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر؟ فقال: لأنني أصابني عطش شديد2. وذكر الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" قال: وذكر لي بعض أهل العلم أنه إنما قال ذلك؛ لأن الكرم إذا نبتت على قبر يكون انفعاله أقل انفعالا من غيره، وأن ربيعة قيل له. من أين علمت اللحم؟ قال: لأن لحم الكلب يعلو شحمه؛ بخلاف لحم الشاة، فإن شحمها يعلو لحمها. وذكر الماوردي، قال: لأني شممت ورائحة كلب، وأن إيادا قيل له: من أين علمت أنه ينتمي إلى عير أبيه؟ قال: لأنه وضع الطعام ولم يجلس معنا؛ فيكون أصله دنيا، وقال الماوردي: لأنه يتكلف ما يعمله. ورأيت بخط أبي الربيع سليمان قيل لإياد: فيما قال، فقال: نظرت إليه مذ وقعت عيني عليه؛ فنظر إلأى وأدام النظر ولم يطرق ... انتهى.

_ 1 الخبر عند الطبري 2/ 268-270، وابن الأثير 2/ 30، 31، ومجمع الأمثال 1/ 16. 2 الكامل لابن الأثير: 2/ 31.

ذكر ولاية بني إياد بن نزار الكعبة وشيء من خبرهم وخبر مضر ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش

ذكر ولاية بني إياد بن نزار الكعبة وشيء من خبرهم وخبر مضر ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش: قال الفاكهي: ذكر ولاية إياد بن نزار البيت وحجابتهم إياه وتفسير ذلك: حدثنا حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا محمد بن حبيب قال: قال عيسى بن بكر الكناني: ثم وليت حجابة البيت إياد؛ فكان أمر البيت إلى رجل منهم يقال له: وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد؛ فبنى صرحا بأسفل مكة -عند سوق الحناطين اليوم- وجعل فيه أمة يقال لها: الحزورة -فبها سميت خزورة مكة- وجعل فيها سلما، وكان يرقاه، ويقول -بزعمه- إنه يناجي الله تبارك وتعالى، وكان ينطق بكثير من الخبر يقوله، وقد أكثر فيه علماء العرب؛ فكان أكثر من قال فيه أن قال: إنه كان صديقا من الصديقين، وكان يتكهن، ويقول: مرضعة وفاطمة، ووادعة وقاطعة، والقطيعة، والفجيعة، وصلة الرحم، وحسن الكلم، يقول ربكم: "ليجزين بالخير ثوبا، وبالشر عقابا"، وكان يقول: من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم، وأزيلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد. حتى إذا حضرته الوفاة جمع إيادا؛ فقالوا: اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان، والأمر بعد البيان، من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجليها؛ فكان أول من قالها؛ فأرسلها مثلا. فمات وكيع، فنعي على رؤوس الجبال، فقال بشر بن الحجر: ونحن إياد عباد الإله ... ورهط مناجية في سلم ونحن ولاة حجاب العتيق ... مآل النخاع على جرهم ثم قال: وقامت نائحة وكيع على أبي قبيس فقالت: ألا هلك الوكيع أخو إياد ... سلام المرسلين على وكيع مناجي الله مات فلا خلود ... وكل شريف قوم في وضيع1 ثم إن مضر أديلت بعد إياد، وكان أول من ديل منها: عدوان وفهم، وأن رجلا من إياد ورجلا من مضر خرجا يصيدان؛ فمرت بهما أرنب، فاعتنقا بها يرميانها؛ فرماها الإيادي، فنزل سهم فنظم قلب المضري فقتله؛ فبلغ الخبر مضر، فاستغاثت بفهم وعدوان يطلبون لهم قود صاحبهم؛ فقالوا: إنما أخطأه، فأبت فهم وعدوان إلا قتله،

_ 1 في منتخف شفاء الغرام طبع أروبا "ص: 137": "وضوع".

فتناوش الناس بينهم بالمدور1 -وهو مكان- قشمت مضر من إياد ظفرا؛ فقالت لهم إياد: أجلونا ثلاثا فلن نساكنكم أرضكم؛ فأجلوهم ثلاثا، فظعنوا قبل المشرق؛ فلما ساروا يوما اتبعتهم فهم وعدوان حتى أدركوهم، فقالوا: ردوا علينا نساء مضر المتزوجات فيكم؛ فقالوا: لا تقطعوا قرابتنا، اعرضوا على النساء، فأية امرأة اختارت قومها رددتموها، وإن أحبت الذهاب مع زوجها أعرضتم لنا عنها، قالوا: نعم، فكان أول من اختار أهله امرأة من خزاعة. فحدثنا الزبير بن أبي بكر قال: لما هلك وكيع الإيادي واتضعت إياد، وهي إذ ذاك تلي أمر بيت الله الحرام، وقاتلوهم وأخرجوهم وأجلوهم ثلاثا يخرجون عنهم؛ فلما كانت الليلة الثانية حسدوا مضر أن تلي الركن الأسود؛ فحملوه على بعير، فبرك فلم يقم، فغيروه، فلم يحلموه على شيء إلا زرح وسقط، فلما رأوا ذلك فحنوا له تحت شجرة فدفنوه. ثم ارتحلوا من ليلتهم؛ فلما كان بعد يومين افتقدت مضر الركن، فعظم من أنفسها، وقد كانت شرطت على إياد كل متزوجة فيهم؛ فكانت امرأة من خزاعة -فيما يقولون- يقال لها: قدامة متزوجة في إياد، وخزاعة إذ ذاك -فيما يزعمون، والله أعلم -ينتسبون لبني عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر، فأبصرت إياد حين دفنت الركن. اجتمع الزبير والكلبي، وحديثهما كل واحد منهم بنحو من حديث صاحبه، فقالت لقومها حين رأت مشقة ذهاب الركن على مضر: خذوا عليهم أن يولوكم حجابة البيت، وأدلكم على الركن، فأخذوا بذلك عليهم، فوليتها خزاعة على العهد والميثاق الذي كان؛ فهذا سبب ولايتهم البيت. وقال الكلبي في حديثه: فقالوا لهم: إن دللناكم على الركن، أتجعلونا ولاته؟ قالوا: نعم، وقالت مضر جميعا: نعم، فدلتهم عليه. فأعادوه في مكانه، وولوه، فلم يبرح في أيدي خزاعة، حتى قدم قصي؛ فكان من أمره الذي كان2 ... انتهى. وقال الفاكهي -أيضا- بعد أن ذكر خبر بني نزار السابق متصلا به: وكان العدد والشرف من بني نزار السابق متصلا به: وكان العدد والشرف من بني نزار بن معد في إياد، قال: فلم يزالوا كذلك حتى بغوا على مضر وربيعة؛ فأهلكهم الله تبارك وتعالى؛ فكانوا من أهلكهم البغي بعد ابن آدم، سلط الله

_ 1 لم أجد في معجم البلدان "المدور" إنما الموجود "مدري": جبل بنعمان قرب مكة، ولعله المقصود لقربه من مكة. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 145-147 والعقد الثمين 1/ 137-138.

-عز وجل- النخاع، وجعل الشرف والعدد والملك والنبوة في مضر؛ فدخلوا إلى أرض العراق1 ... انتهى. وذكر المسعودي ما يقتضي أن ولاية البيت بعد جرهم صارت إلى ولد إياد بن نزار؛ لأنه قال: بعد أن ذكر خبر جرهم متصلا به: ثم صارت ولاية البيت في ولد إياد بن نزار، بعد، ثم كان حروب كثيرة بين ولد مضر إياد؛ فكانت لمضر على إياد، فانجلفوا عن مكة إلى العراق2 ... انتهى. وممن ولي الكعبة من مضر -على ما ذكر الفاكهي- أسد بن خزيمة؛ لأنه قال فلما مات، صار البيت في أسد بن خزيمة، فكان سادن الكعبة؛ فحدثني عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا الوليد بن عطاء المكي، عن أبي صفوان، عن عبد الملك بن عبد العزيز، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أسد بن خزيمة خازن الكعبة في الزمن الأول. وحدثني هارون بن محمد بن عبد الملك، قال: حدثني موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة قال: حدثني أبي قال: قال لي أبو جعفر المنصور: يا شيخ أين قبر جدك؟ قال: قلت بخرمان3. قال: فقال لي: لا، هو على أبي قبيس، إنه كالن من الفريقين عظيما؛ يعني أسد بن خزيمة ... انتهى. ذكر ذلك الإمام الفاكهي في ترجمة ترجم عليها بقوله: "ذكر من ولي مكة من مضر بن نزار قديما وتفسير أمورهم". ولم أر فيما ذكر في هذه الترجمة شيئا يفهم منه ولاية أحد ممن ذكر فيها لما ذكر غير أسد بن خزيمة ونفر قليل غيره، على ما يأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- بل في كلامه ما يشعر بخلاف ما ترجم له، ونذكر كلامه بنصه، قال بعد الترجمة التي سبق ذكرها: حدثنا أحمد بن حميد الأنصاري، قال: حدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا الفضيل بن محمد، قال: كان محلم بن سويد الرئيس الأول -ظننا أول من رأس معدا- وكان معقد قبل ذلك تسترضي رأيه جماعة، رجل رجل؛ فكان أول من قتاد معه ميمنة وميسرة ولواء، وفي ذلك يقول الفرزدق: زيد الفوارس وابن زيد منهم ... وأبو قبيصة والرئيس الأول أمأ قوله: ابن زيد؛ فهو حصين بن زيد بن صباح الضبي، وهو الذي قال: أوصى أبونا ضبة الملقى ... سيف سليمان الذي يبقى

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 147. 2 مروج الذهب 2/ 51. 3 خرمان: بستان بمكة.

إن على كل رئيس حقا ... أن يخضب القناة أو تندقا قال: وكان ضبة ينزل مكة، وكان قد ولي الحجاز واليمن لسليمان بن داود -عليهما السلام، وفي ذلك يقول الشاعر: ضبة رب خراج الحجاز ... تجبى إليه إتاواتها من كل ذي إبل ناقة ... ومن كل ذي غنم شاتها وكان البيت في ضبة عمن مضر؛ فلما أن مات صار البيت من مضر في بن ضبة؛ فلما مات صار البيت في أسد بن خزيمة، فكان سادن الكعبة. ثم قال بعد أن ذكر ما نقلناه عنه آنفا في شأن أسد بن خزيمة، ثم رجعنا إلى حديث الأنصاري، قال: فلما مات، صار البيت في تميم؛ فلما مات، صارت الرياسة إلى ابنه عمرو بن تميم، ثم صار البيت في أسيد بن عمرو؛ فلما مات أسيد صارت مضر لا رأس لها، حتى نشأ أبو الخفاد الأسدي، وكان من المعمرين، عاش دهرا طويلا، وفيه يقوله ربيعة أبو لبيد الجعفري: أبو الخفاد إقبال الكبر فالدهر ... صرفان فخذ ومضر في الدهر إن تجني لك الثمر ... من قيس عيلان وأحياء أخر وكان الذي يسعى لأبي الخفاد في جيمع صدقاته: الحارث بن عمرو بن تميم؛ فكان إذا نزل بقوم لم يبرح حتى يأكل من طعامهم؛ فأكثر يوما من ذلك، فعظم بطنه، فسموه الحارث الحنط -وهو أو الحنطات- فلما مات أبو الخفاد صار البيت في بني جماد من بني سعد، ثم تحول البيت بعد الجمانيين إلى الأضبط بن قريع، ثم تحول البيت إلى بني حنظلة بن دارم بن حنظلة، وضرب عليهم القبة الحمراء، وهي قبة مضر الحمراء، وبها سميت مضر الحمراء؛ فلما صارت إلى عبد الله بن دارم؛ فلما مات صارت إلى ابنه يزيد بن عبد الله؛ فلما مات، صارت إلى ابنه حدس، فلما مات صارت إلى ابنه زرارة، فلما مات صارت إلى ابنه حاجب بن زرارة. وكان حاجب والنباش ابنا زرارة من أشراف بني تميم وذوي القدر بمكة. حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ثور بن يزيد قال: تزوج رجل امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلأمه أخ له، فذكر منها صلاحا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عليك إلا أن تكون تزوجت ابنه حاجب بن زرارة، إن الله -عز وجل- جاء بالإسلام؛ فسوى بين الناس، ولا لوم على مسلم" 1.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 151، 152.

وحدثنا الزبير بن أي بكر قال: حدثني حماد بن نافع قال: سمعت سليمان المكي يقول: كان يقول في الجاهلية: والله لأنت أعز من النباش، وأشار بيده إلى دور حول المسجد، فقال: كانت هذه رباعهم. ثم رجعنا إلى حديث الفضيل قال: ثم صارت إلى ابنه عطارد بن حاجب؛ فلما مات صارت الرياسة في بني تميم في عمير بن عطارد؛ فلما مات صابرت إلى ابنه بجيد بن عمير، وكان أحد الأجواد، وكان صاحب ربع بني تميم وهمدان بالكوفة، وكان على أذربيجان في ولاية معاوية -رضي الله عنه- فمر به ألف رجل من بني بكر بن وائل، كانوا وجهوا في بعث؛ فحملهم على ألف فرس، وكان البيت من ضبة في الكبر: من بني ثعلبة بن بكر، وهم الفرسان، والعدد من بني صباح: في الحصين بن يزيد، ثم تحول البيت -يعني الشرف والرياسة- يوم الفرس أو القريتين -شك أبو العباس- في ضرار بن عمرو؛ فلما مات المنذر، صارت إلى عيلان بن حرشة بن عمرو بن ضرار؛ فلما مات صارت إلى ابنه مكحول بن عيلان1 ... انتهى. فقوله في هذا الخبر: ثم تحول البيت -يعني الشرف والرياسة- يفهم أن ما في هذا الخبر من قوله: فلما مات؛ صار إلى زيد الفوارس؛ فلما قتل، صار إلى قبيصة بن ضرار، وكان قبيصة على أصحابه يوم الكلاب؛ فلما مات، صارت إلى المنذر بن حسان بن ضرار -وكان المنذر بن حسان هو الذي قتل مهران الملك يوم القادسية -فلما مات المنذر، صارت إلى عيلان بن حرشة بن عهمرو بن ضرار. فلما مات صارت إلى ابنه مكحول بن عيلان1 ... انتهى. فقوله في الخبر: ثم تحول البيت -يعني الشرف والرياسة- يفهم أن ما في هذا الخبر من قوله: فلما مات؛ صار البيت من هذا المعنى. وذلك يخالف المعنى المقصود بهذه الترجمة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 153، والإصابة 3/ 378 في ترجمة "المنذر بن حسان بن ضرار".

الباب التاسع والعشرون

الباب التاسع والعشرون: في ذكر من ولي الإجازة بالناس من عرفة ومزدلفة ومنى من العرب في ولاية جرهم وفي ولاية خزاعة وقريش على مكة: قال ابن إسحاق: وكان الغوث بن مر بن عباد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، وكان يقال له ولولده: صوفة؛ وإنما ولي الغوث بن مر: أن أمه كانت امرأة من جرهم، كانت لا تلد؛ فنذرت لله تعالى إن هي ولدت رجلا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها؛ فولدت الغوث، وكان يقوم على الكعبة في الدهر الأول مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس من عرفة، لمكانه الذي كان به من الكعبة، وولده من بعده، حتى انقرضوا، فقال مر بن أد لوفاء نذر أمه1: إني جعلت رب من بنيه ... ربيطة بمكة العلية فباركن لي بها إليه ... واجعله لي من صالح البرية وكان الغوث من مر -زعموا- إذ دفع بالناس يقول: لاهم إني تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعة قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز لهم إذا نفروا من منى؛ إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صوفة يرمي للناس، لا يرمون حتى يرمي؛ فكان ذوو الحاجات المستعجلون يأتونه، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي معك؛ فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل يرمونه بالحجارة

_ 1 هكذا ورد، ولعلها: "لوفاء نذر زوجه"، لأن امرأة مر هي: "أم الغوث"، وهي التي نذرت ووفت كما أشارت إلى ذلك رواية ابن إسحاق.

ويستعجلونه بذلك ويقولون له: ويلك قم فارم، فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمي، ورمى الناس معه. قال ابن إسحاق، فإذا فارغوا من رمي الجمار، وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانب العقبة، فحبسوا الناس وقالوا: أجيزي صوفة؛ فلم يجز أحد من الناس حتى يرموا فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس، فانطلقوا بعدهم؛ فكانوا كذلك حتى انقرضوا، فورثهم من بعدهم بالعقد: بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شحنة. قال ابن هشام: صفوان هو ابن جناب بن شحنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. قال ابن إسحاق: فكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم هو الذي قام عليه الإسلام: كرب بن صفوان؛ فقال ابن مغراء السعدي: لا تبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة لأوس بن مغراء، وأما قول ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن عمرو: وعذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض بغى بعضهم ظلما ... فلمك يرع على ببعض ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض ومنهم من يجيز النا ... س بالسنة والفرض ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي وهذه الأبيات في قصيدة له؛ لأن الإفاضة من المزدلفة كانت في عدوان، فيما حدثني زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق، يتوارثون ذلك كابرًا عن كابر، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام: أبو سيارة، عملية بن الأعزل، فقيه يقول شاعر العرب: نحن دفعنا عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزارة حتى أجاز سالما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جارة وكان أبو سيارة يدفع بالناس على أتان؛ فلذلك يقول: سالما حماره ... انتهى. وذكر الزبير بن بكار خبر الإجازة من المزدلفة، وأفاد في ذلك ما لم يفده ابن إسحاق فاقتضى ذلك ذكرنا له. قال بعد أن ذكر خبر الإجازة من عرفة: قال أبو عبيدة: والثانية الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى؛ فكان ذلك إلى بين زيد بن عدوان بن

عمرو بن قيس بن غيلان؛ فكان آخر من ولي ذلك منهم: أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد الحارث، فكان إذا أراد أن يفيض بالناس غداة جمع قال: الجلعد، يا صاحب الحمار الأسود، على ما تحسد، مهلا صاحب الأتون الجلعد، اللهم أكف أبا سيارة الحسد، ثم يفيض بالناس، فقال قائل: نحن دفعنا عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزارة حتى أفاض محرما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره وكان يقال: أصح من حمار أبي سياره. قال أبو الحسن الأثرم: قال أبو عبيد: أظنه كان سمينا. وقال: قال محمد بن الحسن: عاش حمار أبي سيارة أربعين سنة، لا يصيبه فيها مرض؛ فيقال: أصح من غير أبي سيارة ... انتهى. وذكر الزبير بن بكار فيما نقل عنه الفاكهي ما يستغرب في نسب أبي سيارة، وفي انتقال الإجازة من صوفة إلى عدوان؛ لأنه قال: فأما الزبير بن أبي بكر قال: فلم تزل الإجازة إلى عقب صوفة حتى أخذتها عدوان؛ فلم تزل في عدوان حتى أخذتها قريش، ثم كان الحج مختلفا؛ فكانت قريش تدفع بمن معها من المزدلفة، وكان أبو سيارة يدفع بقيس من عرفة، وأبو سيارة من بني عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، وقيس أخواله ... انتهى. وإنما كان هذا مستغربا لأنه يقتضي أن أبا سيارة من قريش، والمعروف أنه من عدوان كما ذكر الزبير -فيما سبق- وغيره من أهل الأخبار، ولأنه يفهم أن الإجازة صارت من صوفة إلى عدوان، والمعروف أن صوفة لم يزالوا يجيزون بالناس من عرفة حتى جاء الإسلام، وأن آخر من أجاز منهم: كرب بن صفوان، على ما ذكر ابن إسحاق وغيره. وأما ما في هذا الخبر من أن قريشا أخذت من عدوان الإجازة؛ فكأنه أشار بذلك إلى ما وقع لقضي من أخذ ذلك من عدوان وصوفة، ثم ترك ذلك قصي لأنه كان يراه دنيئا. وذكر الفاكهي من خبر أبي سيارة، وخبر الإفاضة من عرفة ومزدلفة غير ما سبق، فاقتضي ذلك ذكره؛ لأنه قال: وحدثني أحمد بن سليمان، قال: حدثنا زيد بن مبارك، قال: حدثني أبو ثور، عن ابن جريج، قال: قال مولى ابن عباس -رضي الله عنهما: وكانت الحمس من عدوان، قال: وكانوا يقومون بالمزدلفة حتى يدفعوا هم، ومن يعرف

بعرفة من المزدلفة غداة جمع، وكان يدفع بهم أبو سيارة على حمار له عري، وكان يقول: أشرق ثبير لكي نغير وإذا أراد أن يدفع قال: يا رب البعير الأسود ... على ما يحسد فهل أنت تحسد على دمول جعلد ... ورثها أبي وجدي ففي ذلك أنزل: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] . وقال أيضا: وحدثنا حسن بن الحسين الأزدي، عن أبي عبد الله بن الأعرابي، عن هشام بن الكلبي، عن أبيه نحوا من الأحاديث الأولى، وزاد فيه: فكان كرب بن صفوان بن شحنة بن عطارد يأخذ بالطريق؛ فلا يفيض أحد من عرفات حتى تغيب الشمس، وكان يلي ذلك منهم -يعني الإجازة- كرب بن صفوان، وكانوا يقفون ولا يعرفون الوقوف بها؛ فيقيمون يفتخرون بآبائهم وبأفعالهم، ويسألون لدنياهم، فأنزل الله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200] ؛ فإذا غربت الشمس سارع نحو جمع، ويسيرون خلفه، لكل حي مجيز سوى ذلك، حتى يأتوا الحمس في جوف الليل، فيقضوا معهم، وقد أخذ الطريق، لا يخرج أحد قبل طلوع الشمس؛ فإذا أصبحوا قام أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن الحرث العدواني فقال: أشرق ثبير كيما نغير، اللهم إني سالك طريقة قريش فبين لنا يا رب حقنا، ثم يقول: اللهم أصلح بين نسائنا، وبض بين رعائنا، واجعل أموالنا عند سمحائنا. ثم يفيض من مزدلفة إلى منى على فرس له، وإن حمير عرضت لأبي سيارة ذات عام فقالوا: نحن أولى بهذا منك؛ فقال: كذبتم، أنتم في بلدي ونسكي وديني، هذا أمر نحن شرعناه أولا، وبنا اقتدت العرب فيه، وهذا ميراث لنا عن آبائنا، والحرمة حرمتنا؛ فأبوا عليه، وتعلقوا بلجامه؛ فقال: يا آل قيس؛ فلم يكن بها كثيرا أحد من قيس يقيم، فقال: يا آل مضر، فطار إليه بنو أسد بن خزيمة وبنو كنانة واستنقذوه. ثم قالوا: والله لا يجيز بهم إلا على حمار؛ فإنهم قد استنبطوا من الخيل، فحملوه على حمار، ثم زفرا حوله قليلا قليلا، وهم يقولون: نحن دفعنا عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزرة حتى أجاز سالما حماره ... مستقبل الكعبة يدعو جاره وقد قال ذو الأصبع العدواني: ومنهم من يجيز الحج بالسنة والفرض. فإذا أتى الناس منى، قام فيهم رجل يقال له: صوفة كان على صدقة الكعبة، وكان الذي يجيز بهم من صوفة: ثور بن أصفر؛ فإذا أجاز الناس في الأبطح اجتمعت كندة إلى بكر بن وائل، فأجازوا بهم حتى يبلغوا البيت، وقد قال الشاعر: وكندة إذ ترمي الجمار عشية ... يجيز بها حجاج بكر بن وائل

قال: فلم يزل أبو سيارة يجيز بالناس حتى أتاهم قصي بن كلاب1 ... انتهى. قوله في هذا الخبر: "فإذا أجاز الناس في الأبطخ اجتمعت كندة إلى بكر بن وائل؛ فأجازوا بهم حتى يبلغوا البيت" فهذه الإجازة لم أرها مذكورة في غير هذا الخبر، وكذلك ما فيه من أن أنسا العدواني، كان يقول مع أبي سيارة: أشرق ثبير كيما نغير، وكذلك قصة أبي سيارة مع حمير، وغير ذلك من الأمور التي لم أرها في غيره من الأمور التي لا يبعد أن تكون وقعت. وأما قوله فيه: "فلم يزل أبو سيارة يجيز بالناس حتى أتاهم قضي"؛ ففي صحته نظر؛ لأن أبا سيارة قام الإسلام وهو يجيز بالناس من المزدلفة، على ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل الأخبار: وبين قيام الإسلام وعهد قصي دهر طويل. وقد ذكر الفاكهي -أيضا- خبرا يخالف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا الحسن بن عثمان، عن الواقدي، قال: وحدثني عمران بن أبي أنس، عن محمد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن حويطب بن عبد العزي قال: رأيت أبا سيارة يدفع بالناس من جمع على أتان له عقوق1 ... انتهى. وجمع هي المزدلفة، ووجه مخالفة ذلك لما سبق: أن حويطب بن عبد العزي من مسلمة الفتح، ويبلغ عمره مائة وعشرين سنة؛ ستون في الإسلام، وستون في الجاهلية، ورؤيته له كانت قبل إسلامه؛ وذلك يقتضي تأخر أبي سيارة إلى قرب الإسلام. وقد ذكر السهيلي فيما يتعلق بأبي سيارة ما لم أره لغيره؛ لأنه قال بعد أن ذكر ما ذكره ابن إسحاق في اسم أبي سيارة، وقال غيره: اسمه العاصي، قاله الخطابي، واسم الأعزل: خالد، ذكره الأصبهاني، قال: فكانت له أتان عوراء، خطامها ليف. ثم قال وهو أول من جعل الدية مائة من الإبل، فيما ذكر أبو اليقظان، حكاه عنه حمزة بن الحسن الأصبهاني، قال: وهو الذي يقول: لاهم إني تابع تباعة2 وفيما ذكره السهيلي من أن أبا سيارة هو القائل: لاهم إني تابع تباعه نظر لمخالفته ما ذكره ابن إسحاق؛ فإنه ذكر أن قائل ذلك هو الغوث بن مر، وقد سبق ذلك.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 202. 2 الروض الأنف 1/ 146.

ومن الغريب أن السهيلي ذكر ما يقتضي أن القائل ذلك هو الغوث بن مر؛ لأنه قال: "فصل" وذكر قصة الغوث بن مر، ودفعه بالناس من عرفة، وقال بعض نقلة الأخبار: إن ولاية الغوث بن مر كانت من قبل ملوك كندة. وقوله: إن كان إنما فعلى فضاعة؛ إنما خص قضاعة بهذا؛ لأن منهم محلين يستحلون الأشهر الحرم، كما كانت خثعم وطيء تفعل، وكذلك كانت النسأة1 ذا حرمت صفرا أو غيره من الأشهر، بدلا من الشهر الحرام، يقول قائلهم: قد حرمت عليكم الدماء إلا ماء المحلين2 ... انتهى. فاستفدنا من ذلك فوائد: منها: موافقة السهيلي على أن القائل: لاهم إني تابع تباعه هو الغوث؛ لأن البيت الذي أفاد فيه السهيلي معنى تخصيص قضاعة بالذكر، قائله هو القائل: لاهم إني تابع تباعة ومنها: كون ولاية الغوث بن مر للإجازة بالناس كانت من قبل ملوك كندة ... انتهى. قال السهيلي: قوله: عن مواليه بني فزارة يعني بمواليه بني عمه؛ لأنه من عدوان، وعدوان وفزارة من قيس عيلان، وقوله: مستقبل القبلة يدعو جاره أي يدعو الله -عز وجل- يقول: اللهم كن لنا جارا ممن نخافه. وذكر السهيلي أيضا فيما يتعلق بما ذكره ابن إسحاق من خبر عدوان وصوفة فوائد حسن ذكرها. فمما ذكره فيما يتعلق بعدوان قوله: وأما ذو الإصبع -يعني الذي ذكره ابن إسحاق- فهو حرثان بن عمرو، ويقال: حرثان بن الحارث بن محرث بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب، وظرب: هو والد عامر بن الظرب الذي كان حكم العرب، ثم قال: وكذلك كان ذو الإصبع؛ حكما في زمانه، وعمره ثلاثمائة سنة، وسمي ذو الإصبع لأن حية نهسته في إصبعه، وجدهم ظرب: هو ابن عمرو بن عياد بن يشكر بن بكر بن

_ 1 النسأة: هم الذين يؤخرون شهر إلى شهر آخر، وسيأتي تفصيل ذلك. 2 الروض الأنف 1/ 143.

عدوان، واسم عدوان: تيم، وأمه: جديلة بنت أد بن طابخة، وكانوا أهل الطائف، فكثر عددهم فيها، حتى بلغوا بها سبعين ألفا، ثم هلكوا، بغى بعضهم على بعض. وكان ثقيف، وقيل: هي أخت عامر. ثم قال: فلما هلكت عدوان وأخرجت بقيتهم ثقيف من الطائف، صارت الطائف بأثرها لثقيف إلى الآن. وقوله: "حية الأرض؛ يقال: فلان حية الأرض، وحية الوادي، إذا كان مهيبا يذعر1 منه ثم قال: وقوله: عذير الحي من عدوان نصب عذيرا على الفعل المتروك إظهاره؛ كأنه يقول: هاتوا عذيره أي من يعذره؛ فيكون العذير بمعنى العاذر، ويكون أيضا بمعنى العذر مصدرا كالحديث ونحوه2. وقال السهيلي فيما يتعلق بصوفان قال: -يعني الزبير بن بكار-: قال أبو عبيدة: وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي البيت من غير أهله، أو قام بشيء من خدمة البيت، أو بشيء من أمر المناسك يقال لهم: صوفة وصوفان. قال أبو عبيدة: لأنهم بمنزلة الصوف، فيهم القصير والطويل، والأسود والأحرم، ليسوا من قبيلة، واحدة. وذكر أبو عبد الله -يعني الزبير- أنه حدثه أبو الحسن الأثرم، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: إنما سمي الغوث بن مر: صوفة؛ لأنه كان لا يعيش لأمه ولد؛ فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة؛ ولتجعلنه ربيطا للكعبة، ففعلت، فقيل له: صوفة، ولولده من بعده؛ وهو الربيط. وحدث إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران قال: أخبرني عقال بن شبة قال: قالت أم تميم بن مر: وولدت نسوة، فقالت: لله علي نذر، لئن ولدت غلاما لأعبدنه للبيت، وذوي واسترخى؛ فقالت: ما صار ابني إلا صوفة، فسمي صوفة2 ... انتهى. ورأيت فيما نقله الفاكهي عن الزبير بن بكار ما ذكره الزبير في تسميته صوفة عن أبي عبيدة، وعن إبراهيم بن المنذر.

_ 1 يذعر منه: أي يخاف منه. 2 الروض الأنف 1/ 145، 146.

وذكر الأزرقي في خبر صوفة ما يستغرب؛ لأنه قال في باب حج الجاهلية وإنساء الشهور بعد أن ذكر خبرا طويلا، رواه عن جده، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن إسحاق، عن الكلبي قال: قال -يعني الكلبي: وكانت الإفاضة في الجاهلية إلى صوفة؛ وصوفة رجل يقال له: أحزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأسد، وكان أحزم قد تصدق بابن له على الكعبة يخدعها، فجعل عمرو بن مازن بن الأسد، وكان أحزم قد تصدق بابن له على الكعبة يخدمها؛ فجعل إليه حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الخزاعي الإفاضة بالناس على الموقف، وحبشية يومئذ يلي حجابة الكعبة وأمر مكة، يصرف الناس على الموقف، فيقول حبشية: أجيزي صوفة، فيقول الصوفي: أجيزوا أيها الناس، فيجوزوه. ويقال إن امرأة أحزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأزد1 كانت عاقرا فنذرت إن ولدت غلاما أن تتصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها، ويقوم عليها؛ فولدت ابن2 أخزم الغوث، فتصدقت به عليها، فكان يخدمها في الدهر الأول مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة، وقالت أمه حين أتمت نذرها، وخدم الغوث بن أخزم الكعبة: إني جعلت من بنيه ... ربيطة بمكة العلية فاقبل اللهم لا تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعة3 فولي الغوث بن أخزم الإجازة من عرفة وولده من بعده في زمن جرهم وخزاعة حتى انقرضوا، ثم صارت الإفاضة في عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر في زمن قريش في عهد قصي، وكانت من عدوان في آل زيد بن عدوان يتوارثونه، حتى كان الذي قام عليه الإسلام: أبو سيارة العدواني، وهو عمير الأعزل بن خالد بن سعيد بن الحارث بن زيد بن عدوان4 ... انتهى.

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 106: "الأسد" وسيوضح المؤلف الصيغتين بعد قليل. 2 في أخبار مكة للأزرقي: 1/ 186 "من" بدل "ابن". 3 بنيه: أي ابني، ولحق الكلمة هاء السكت، وربيطة مفعول ثان لربيطة العلية: الشريفة. تباعه: أي أتباعه أو تبعة وهو الأصح، ويروي الشطر الأول من البيت الثاني هكذا. اللهم إني تابع تباعه وفي أخبار مكة للأزرقي 1/ 187 اختلاف في البيتين فهما: إني جعلت رب من بنية ... ربيطة بمكة العلية فباركن لي بها إليه ... واجعله لي من صالح البرية وراجع سيرة ابن هشام 1/ 19. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 186، 187.

والمستغرب في هذا الخبر أمور: منها ما يقتضي أن صوفة من قحطان؛ لأن مازن المذكور في نسب أخزم المشار إليه، هو جماع غسان الأزد، ويقال فيه الأسد بالسين مهملة، كما وقع في الخبر أيضا. واسم الأسد: دارن، ويقال: داغر بن الغوي بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان؛ هكذا نسبه الحازمي في "العجالة"، ورأيته هكذا منسوبا في السيرة لابن إسحاق؛ تهذيب ابن هشام1، إلا أني لم أر فيها ذكر أدد بن مالك، وزيد بن كهلان. والمعروف في صوفة أنه من مضر، كما ذكر ابن إسحاق وغيره، وذكر الفاكهي في ذلك حديثا رواه بسنده إلى عائشة -رضي الله عنها- لأنه قال: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمر الفهري، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الإيامي، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: وقد كان في بعض ولد مضر بن نزار من ولد إسماعيل، خلال أربع لا ينكرها العرب، ولا يدفعونهم عنها، يعدون فيها في ولاية جرهم، الإجازة للناس بالحج مضر بن نزار وولده من بعده. ويقال للغوث وولده من بعده: إن لهم صوفا؛ فقالت: أجيزوا صوفة ليجيز بإرادتها ... انتهى. وقال الفاكهي: حدثنا الحسن بن عثمان، عن الواقدي، قال: حدثني ربيعة بن عثمان قال: سألت الزهري: هل كان الإجازة من عرفة أو من جمع عند جمرة العقبة في أحد من اليمن في الجاهلية؟ فقال: لا، هذا لا يعرف، إن الصبيان ليعلمون أنه إنما كان في مضر. قال الواقدي: وسألت عبد الله بن جعفر الزهري، هل سمعت أن الإجازة في شيء من المشاعر في الجاهلية كانت في كنانة؟ فقال: لا2 ... انتهى. ومنها: أنه يفهم أن ابتداء أمر إجازة صوفة بالناس كانت في زمن ولاية خزانة خبر صوفة3، وهو مقتضى ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل الأخبار.

_ 1 تهذيب سيرة ابن هشام "ص: 18". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 204. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 186.

ومنها: أنه يفهم أن القائل: لاهم إني تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعه أم الغوث، والمعروف أن قائل ذلك الغوث، كما سبق بيانه. ومنها: أنه يفهم أن الإجازة انتقلت من صوفة بعد انقراضهم إلى عدوان، وفي ذلك نظر سبق بيانه؛ ومما يدل لعدم صحة ذلك ما ذكره الفاكهي عن الواقدي. قال الواقدي: وسألت ربيعة بن عثمان التيمي، وعبد الله بن جعفر، عن آخر المشركين دفع بالناس من عرفة والمزدلفة، وأنسا بمنى؛ فقال ربيعة: آخرهم كرب، وقال عبد الله بن جعفر: دفع بهم سنة ثمان، وأنسا أبو ثماثمة بمنى ... انتهى. وكرب المشار إليه هو: كرب بن صفوان، على ما ذكر ابن إسحاق في السيرة، وهو من آل صفوان بن الحارث، ويقال: ابن الحباب بن شحنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، الذين ورثوا الإجازة بالناس من عرفة من بني الغوث بن مر، بالعقد على ما ذكر ابن إسحاق، وقد بين السهيلي وجه ذلك؛ لأنه قال: وذلك أن سعدا هو ابن زيد مناة بن تميم بن مر، وكان سعد أقعد بالغوث بن مر من غيره من العرب1 ... انتهى.

_ 1 الروض الأنف 1/ 144.

الباب الثلاثون

الباب الثلاثون في ذكر من ولي إنساء الشهور من العرب بمكة ... الباب الثلاثون: في ذكره من ولي إنساء الشهور من العرب بمكة: قال الأزرقي: فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن إسحاق، عن الكلبي، فيما رواه عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس -رضي الله عنه- فذكر شيئا من خبر الحلة والحمس، ثم قال ابن إسحاق: قال الكلبي: فكان أول من أنسا الشهور من مضر: مالك بن كنانة؛ وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كندة، وكانت النساءة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف، المقاول فنسا ثعلبة بن مالك، ثم نسأ بعده الحارث بن مالك بن كنانة، وهو القلمس، ثم نسأ بعد القلمس ابنه مرة بن القلمس، ثم كانت النساءة في بني فقيم من بني ثعلبة، حتى جاء الإسلام. وكان آخر من نسأ منهم: أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن عبد بن فقيم، وهو الذي جاء في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الركن الأسود؛ فلما رأى الناس يزدحمون عليه، قال: أيها الناس أنا له جار فأخروا، فخفقه عمر -رضي الله عنه- بالدرة، ثم قال: أيها الجلف الجافي قد أذهب الله تعالى عزك بالإسلام. فكل هؤلاء قد نسأ في الجاهلية1 ... انتهى. وكلام ابن إسحاق في سيرته، تهذيب ابن هشام، يقتضي أن أول من أنسأ الشهور غير مالك بن كنانة؛ لأنه قال: كان أول من أنسأ الشهور على العرب فأحل منها ما أحل، وحرم منها ما حرم: القلمس؛ وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة، ثم قام بعده على ذلك: ابنه عباد بن

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 182، 183.

حذيفة، ثم قام بعد عباد قلع بن عباد، ثم قام من بعد قلع: أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية: عوف بن أمية، ثم قام بعد عوف بن أمية: أبو ثمامة؛ جنادة بن عوف، وكان آخرهم وعليه قام الإسلام1 ... انتهى. وذكر الفاكهي ما يقتضي: أن أول من أنسأ غير مالك بن كنانة وغير القلمس؛ لأنه قال: بعد أن روي خبرا في المعنى عن محمد بن السائب الكلبي -ويقال: إن أول من أنسا الشهور: عدي بن زيد بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، ثم كان بعد عدي: حذيفة بن عبد فقيم، ثم كان بعده عباد بن حذيفة، كان قلع بن عباد، ثم كان أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن عوف، وقد أدركه الإسلام فيما يقال، وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمدا، يقال: إنه أنسا أربعين سنة -والله أعلم- أكان ذلك- أم لا، أم أقل، أم أكثر؟ ... انتهى. فهذه ثلاثة أقوال في أول من أنسأ الشهور2 والله أعلم بالصواب.

_ 1 سيرة ابن هشام 1/ 63. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 205، 206.

ذكر صفة الإنساء

ذكر صفة الإنساء ... ذكره صفة الإنساء: روينا عن الأزرقي بسنده إلى ابن إسحاق عن الكلبي في الخبر الذي فيه ما سبق ذكره في أول من أنسأ الشهور، قال: والذي ينسأ لهم إذا أرادوا ألا يحلوا المحرم، قاموا بفناء الكعبة يوم الصدر؛ فقال: أيها الناس، لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب1 لقول قلته؛ فهنالك يحرمون المحرم ذلك العام. وكان أهل الجاهلية يسمون المحرم: صفرا الأول، وصفرا: صفرا2 الآخر، ويقولون: صفران، وشهرا ربيع، وجمالديان، ورجب وشعبان ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة. فكان ينسأ الإنسان سنة، ويترك سنة، ليحلوا الشهور المحرمة، ويحرموا الشهور التي ليست بمحرمة، وكان ذلك من فعل إبليس، ألقاه على ألسنتهم، فرأوه حسنا. فإذا كانت السنة التي ينسأ فيها، يقوم ليخطب بفناء الكعبة، ويجتمع الناس إليه يوم الصدر؛ فيقول: أيها الناس قد أنسأت العام صفر الأول -يعني المحرم- فيطرحونه من الشهور، ولا يعتدون به، ويبتدئون العدة فيقولون: لصفر وشهر ربيع الأول: صفران، ويقولون لشهر ربيع الآخر ولجمادى الأولى: شهرا ربيع، ويقولون لجمادى الآخر

_ 1 عند الأزرقي في أخبار مكة 1/ 183: "ولا يعاب". 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 183: "وشهرا ربيع".

ورجب: جمادين. ويقولن لشعبان: رجب، ولشهر رمضان: شعبان، ويقولون لشوال: رمضان، ولذي القعدة شوال، ولذي الحجة: ذو القعدة، ولصفر الأول -وهو المحرم الشهر الذي أنسأه- ذو الحجة، فيحجون تلك السنة في المحرم، ويبطل من هذه السنة شهرا ينسئه. ثم يخطبهم في السنة الثانية في وجه الكعبة أيضا، فيقول: أيها الناس لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاد لي قول قلته1. اللهم إني قد أحللت دماء المحلين: طيء وخثعم في الأشهر الحرم. وإنما أحل دماءهم لأنهم كانوا يعدون على الناس في الأشهر الحرم من بين العرب، فيعزونهم ويطلبون بثأرهم ولا يعفون عن حرمات الأشهر الحرم كما يفعل غيرهم من العرب، وكان سائر العرب من الحلة والحمس لا يعدون في الأشهر الحرم على أحد، ولو لقي أحدهم قاتل أبيه أو أخيه، ولا يستاقون مالا إعظاما للشهور الحرم، إلا خثعم وطيء فإنهم كانوا يغزون في الأشهر الحرم، فهنالك يحرمون من تلك السنة الشهر المحرم، وهو: صفر الأول، ثم يعدون الشهور على عدتهم التي عدوها في العام الأول، فيحجون في كل شهر حجتين. ثم ينسأ في السنة الثانية، فينسأ صفر الأول في عدتهم هذه، وهو: الصفر الآخر في العدة المستقيمة؛ حتى تكون حجتهم في صفر أيضا2، وكذلك الشهور كلها، حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الذي ابتدأوا منه الإنساء، ويحجون في الشهور كلها في كل شهر حجتين؛ فلما جاء الله -عز وجل- بالإسلام أنزل الله -عز وجل- في كتابه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الآية ... انتهى باختصار3. وقال السهيلي: وأما نسأهم الشهر الحرام؛ فكان على ضربين، أحدهما: ما ذكره ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر، لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات. والثاني: تأخيرهم الحج عن وقته تحريا منهم للسنة الشمسية؛ فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوما، أو أكثر قليلا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" 4. وكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة التي تسمي حجة الوداع؛ وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة، والله أعلم؛ إذ كانت مكة بحكمهم حتى فتحها الله على نبيه ... انتهى5.

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 183: "ولا يعاب لقول قلته". 2 عند الأزرقي 1/ 185: إضافة "حجتين". 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 183-185. 4 أخرجه البخاري "4662"، مسلم "القسامة بباب تغليظ تحريم الدماء والأموال 5/ 107". 5 الروض الأنف 1/ 64.

ذكر الحمس والحلة

ذكر الحمس والحلة ... ذكر الحمس 1 والحلة 2: قد ذكر خبرهم غير واحد من أهل الأخبار، منهم الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وحدثني إبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران قال: الحمس: قريش، وكنانة، وكلاب وعامر، ولدتهم مجد بنت تيم بن غالب، وكانوا حمسا؛ وإنما سمي الحمس بالكعبة، لأنها حمساء، حجرها أبيض يضرب إلى السواد. قال: وكانت لهم سيرة، وكانوا لا يأتقطون إقطا، ولا يسلون سمنا3، ولا يبيعون جرارا، ولا يقفون إلا بالمزدلفة، ولا يطوفون بالبيت عراة، ولا يسكنون في بيوت الشعر. وقال غيره: كانوا يعظمون الشهور الحرم، ويتعاطون الحقوق، ويزعون عن المظالم، وينصفون المظلوم. وحدثني محمد بن فضالة، عن مبشر بن حفص، عن مجاهد قال: الحمس: قريش، وبنو عامر بن صعصعة، وثقيف، وخزاعة، ومدلج، وعدوان، والحارث بن عبد مناة، وعضل أتباع قريش، وسائر العرب الحلة. وحدثني محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد، عن أبيه، قال: لم يكن التحمس بحلف؛ ولكنه دين شرعته قريش واجتمعوا عليه. وكانت الحلة لا تطوف في حجها إلا في ثياب جدد، أو ثياب أهل الله، سكان الحرم، ويكرهون أن يطوفون في ثياب عملت فيها المعاصي؛ فمن لم يجد طاف عريانا، ومن طاف من الحلة في ثيابه ألقاها إذا فرغ، فلم ينتفع بهغا ولا غيره حتى تبلى. قال: وكانت الحمس تطوف في ثيابها، وكانت الحلة تخرج إلى عرفات وتراها موقفا ومنسكا، وكان موقفها بالعشي دون الأنصاب، ومن آخر الليل مع الناس يقزح،

_ 1 عرف السهيلي الحمس بقوله: التحمس، التشدد. "الروض الأنف 1/ 229". 2 الحلة هم ما عدا الحمس. "الروض الأنف 1/ 23". 3 في الروض 1/ 229: لا يسلئون السمن، وسلأ السمن أن يطبخ حتى يصير سمنا.

وكان بعض أهل الحلة لا يرى الصفا والمروة1، وبعضهم يراها، وكان الذين يرونها: خندف، وكان سائر الحلة لا يرونها. فلما جاء الله بالإسلام أمر الحمس أن يقفوا مع الحلة بعرفة، وأن يفيضوا من حيث أفاض الناس منها مع الحلة، وأمر الحلة أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ؛ وذلك أن ناسا قالوا: ما كان أهل الجاهلية ممن يطوف بهما، لا يطاف إلا لإساف ونائلة -وكان إساف على الصفا، ونائلة على المروة- فأعلمهم الله -عز وجل- أنهما مشعران ... انتهى. وقد ذكر من العرب في الحمس غير من لم يذكره عبد العزيز بن عمران ومجاهد؛ لأن الأزرقي قال: حدثنا جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن إسحاق عن الكلبي، عن أبي صالح -مولى أم هانئ- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت العرب على ديني: حلة وحمس؛ فالحمس قريش وكل من ولدت من العرب، وكنانة، وخزاعة، والأوس، والخزرج، وخثعم، وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأزد شنوءة، وجذم، وزبيد، وبنو ذكوان من بين سليم، وعمرو اللات، وثقيف، وغطفان، والغوث، وعدوان، وعلاف قضاعة2 ... انتهى. وغالب المذكورين، في هذا الخير لم يذكروا في الخبرين اللذين ذكرهما الزبير عن عبد العزيز بن عمران، ومجاهدا؛ في بيان الحمس، وهم: الأوس، والخزرج، وجشم، وأزد شنوءة، وجذم، وزبيد، وبنو ذكوان، وغطفان، والغوث، وعلاف قضاعة -وما عرفت علاف قضاعة- وعمرو اللات ومكا عرفته أيضا. وجشم المشار إليهم في هذا الخير: المنسوبون إلى جشم بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان، أو إلى جشم بن سعد بن زيد إلى جشم بن الخزرج من الأنصار؛ لكون جشم بن الخزرج يدخلون في الخزرج المذكورين في هذا الخبر، والله أعلم. وليس كل من ذكر فيه ممن لم يذكر في الخبر الذي ذكره عبد العزيز بن عمران ومجاهد في بيان الحمس، يدخل فيمن عد في قريش، ممن ولدته قريش؛ لأن قريشا لم تلد هذه القبائل كلها، والله أعلم.

_ 1 أي لا يرى وجوب الطواف والسعي بينهما. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 179.

وفي الخبر الذي ذكره الأزرقي في بيان الحمس، ما يقتضي أن سبب تسميتهم الحمس لشدتهم في دجينهم؛ لأن فيه: وإنما سميت الحمس حمسا للتشديد في دينهم، والأحمسي في لغتهم: المشدد في دينه1 ... انتهى. وهذا يخالف ما ذكره عبد العزيز بن عمران في تسمية الحمس؛ لأنه قال في الخبر السابق عنه من كتاب الزبير: وإنما سموا الحمس بالكعبة؛ لأنها حمساء، حجرها أبيض يضرب إلى السواد ... انتهى. وذكره الأزرقي في خبر عن ابن جريج فيه ما يوافق الخبر السابق في سبب تسمية الحمس؛ لأن فيه: والأحمسي: المشدد فيدينه، وهذا الخبر ذكره الأزرقي في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في فتح الكعبة، ومن كانوا يفتحونها"، وهي قبل الترجمة2 التي فيها الخبر السابق في بيان الحمس، وسبب تسميتهم. وقيل في سبب تسميتهم بالحمس غير ما سبق، وهو: أنهم سموا حمسا لشجاعتهم والحماسة الشجاعة. وذكر هذا الخبر المحب الطبري في "القرى" مع القولين السابقين في سبب تسميتهم في الباب الثامن عشر، من "القرى لقاصد أم القرى"3، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وفي الخبر الذي فيه بيان الحمس من حالهم غير ما ذكره الزبير من حالهم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 181. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 175. 3 القرى لقاصد أم القرى "ص: 381".

ذكر الطلس

ذكر الطلس: هم طائفة من العرب تطوف بالبيت على صفة تختص بها، ذكرهم السهيلي بعد أن ذكر شيئا من خبر الحمس والحلة؛ لأنه قال: ولم يذكر -يعني ابن إسحاق- الطلس من العرب، وهم صنف ثالث غير الحلة والحمس، وكانوا يأتون من أقصى اليمن طلسا من الغبار؛ فيطوفون بالبيت في تلك الثياب الطلس، فسموا بذلك. ذكره محمد بن حبيب1 ... انتهى. والطلس: لقب لجماعة من أعيان السلف؛ لكونهم لا شعر في وجوههم، منهم: أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير الأسدي -رضي الله عنهما- وشريح بن الحارث القاضي، قاضي الكوفة ستين سنة أو أزيد.

_ 1 المحبر ص: 179-181.

الباب الحادي والثلاثون

الباب الحادي والثلاثون: ذكر نسبهم: أما نسبهم فاختلف فيه؛ فقيل: إنهم من عدنان، من ولد قمعة بن إلياس بن كنانة، وذكر هذا القول ابن قتيبة فيما نقله عنه القطب الحلبي. ونص كلامه: قال ابن قتيبة: وأما النضر بن مالك، فهو: أبو مالك بن النضر، فهو أبوها كلها1 ... انتهى. وليس كل خزاعة -على هذه المقالة- من ولد الصلت؛ وإنما بعضهم من ولده؛ لأن ابن إسحاق قال في "سيرته": والذين يعزون إلى الصلت بن النضر بن خزاعة: فبنو مليح بن عمرو، رهط كثير عزة. وأنشد ابن إسحاق في ذلك شعرا، وقيل: أنهم من قحطان. والقول الأول ينسب لنساب مضر؛ لأن ابن إسحاق قال في سيرته: وأما قمعة فيزعم نساب مضر أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس ... انتهى. ونقل ابن عبد البر عن ابن إسحاق قال: وخزاعة قال: نحن بنو عمرو بن عامر من اليمن. قال ابن هشام: وتقول خزاعة: نحن بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث، وخندف أمنا،

_ 1 المعارف لابن قتيبة "ص: 67".

وإنما سميت خزاعة؛ لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر، حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمر1 الظهران، فأقاموا بها ... انتهى. وممن ذكر أن خزاعة من قحطان: أبو عبيدة -معمر بن المثنى-؛ لأنه قال فيما نقله عن الزبير بن بكار: فلما لم تتناه جرهم عن بغيهم، وتفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، لانخزع بنو حارثة بن عمرو بن عهامر، فأوطنوا تهامة2. وسميت خزاعة، خزاعة كعب، وفتح، وسعد، وعوف وعدي، بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وأسلم وملكان ابنا قصي بن حارثة بنعمرو بن عامر ... انتهى. وقال ابن الكلبي: عمرو بن لحي هو أبو خزاعة كلها، منه تفرقت، وذكر أن لحيا هو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقال ابن الكلبي: فولد عمرو بن ربيعة -يعني عمرو بن لحي- كعبا بطن، وملحا بطن وعهديان بطن، وعوفا، وسعدا، وكل من ولد ربيعة بن حارثة فهم خزاعة؛ وإنما قيل لهم: خزاعة؛ لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر، تخلفوا عنهم وفارقوهم، وكذلك يقال أيضا لبني أقصى بن حارثة؛ لأنهم تخزعوا من ولد مازن بن الأزد في إقبالهم من اليمن، ثم تفرقوا في البلدان، وفي خزاعة بطون كثيرة. وقال محمد بن عبدة بن سليمان -النسابة-: افترقت خزاعة على أربعة شعوب: فالشعب الأول: ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الأشتر بن ربيعة بن حارثة، وهم بنو جفنة، ويقال: جفينة؛ الذين بالشام من غسان. والشعب الثاني: أسلم بن أقصى. والشعب الثالث: ملكان. والشعب الرابع: مالك بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر. وقال: وإنما قيل لهم خزاعة: لأنها تخزعت عن عظم الأزد، والانخزاع: التقاعس والتخلف -فأقامت بمر الظهران، بجنبان الحرم، وولوا حجابة البيت دهرا. وما نقلناه عن أبي عبيدة وابن الكلبي، نقله عنهما ابن عبد البر في كتاب له في الأنساب.

_ 1 هو وادي فاطمة كما يسميه الحجازيون اليوم. 2 تهامة كل ما كان منخفضا من الأرض، ويطلق هذا الاسم على كل البلاد الحجازيون الواقعة على سيف البحر، وتمتد إلى سفوح جبال السراة، وهي بكسر التاء.

وقد ظهر بذلك، ومما ذكرناه عن أبي عبيدة وابن هشام: أن حزاعة -على القول بأنهم من قحطان- من ولد حارثة بن عمرو بن عامر؛ وذلك يرد ما ذكره السهيلي في "الروض الأنف"1؛ لأنه ذكر في غير موضع من كتابه هذا ما يقتضي أن خزاعة من ولد حارثة بن عامر، لأنه قال: وأسلم إخوة خزاعة، وهو بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ذكر ذلك لما تكلم على الحديث الذي احتج به على أن قحطان من ذلك لقوم من عدنان. وهو قوله عليه السلام: "ارموا يا بنى إسماعيل، فإن أباكم كان راميا"، حين قال ذلك لقوم من أسلم بن أقصى، رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يرمون. قال السهيلي أيضا: لما تكلم عن حديث عمرو بن لحي: وقد تقدم في نسب خزاعة وأسلم أنهما ابنا حارثة بن ثعلبة1 ... انتهى. وقد وافق السهيلي على ما ذكره في خزاعة صاحب "الاكتفاء" الحافظ أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي. وقد ذكر ابن حزم في "الجمهرة" ما يخالف ما ذكره السهيلي في ثعلبة؛ لأنه قال لما ذكر أولاد عمرو بن عامر: وثعلبة العيفاء بن عمرو من ولده الأوس والخزرج2 ... انتهى. وابن حزم أقعد من السهيلي بالأنساب؛ لأنه ممن يعول عليه فيها، كيف وفي كلام غيره من أئمة النسب ما يقتضي أن جد خزاعة -على القول بأنهم من قحطان- حارثة بن عمرو لا ثعلبة بن عمرو؟ وذكر السهيلي -رحمه الله- وجها في الجمع بين قول من قال: إن خزاعة من مضر، وبين قول من قال: إنهم من قحطان؛ لأنه قال: وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسلم: "ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا" وهو معارض بحديث أكثم بن أبي الجون في الظاهر؛ إلا أن بعض النسب ذكر أن عمرو بن لحي كان حارثة قد خلف على أمهم بعد أن تأيمت من قمعة، ولحي صغير، ولحي هو: ربيعة، فتبناه حارثة، وانتسب إليه، فيكون النسب صحيحا بالوجهين جميعا، إلى حارثة بالتبني، وإلى قمعة بالولادة. وكذلك أسلم بن أقصى بن حارثة، فإنه أخو خزاعة، والقول فيه كالقول في خزاعة، وقيل في أسلم بن أقصى بن حارثة: إنه من بني أبي حارثة بن عامر، لا من بني حارثة ... انتهى. وهذا الجمع يتجه إن كان المتزوج لأم لحي: حارثة بن عمرو بن عامر، لا حارثة بن ثعلبة بن عمرو، لما سبق في ذلك.

_ 1 الروض الأنف 1/ 19. 2 جمهرة أنساب العرب "ص: 332".

وقد بين ابن حزم نسب خزاعة على القول بأنهم من مضر، وبين الحجة على ذلك؛ فنذكر ما ذكره لما في ذلك من الفائدة. فأما ما احتج به ابن حزم على أن خزاعة من مضر فهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيتب السوائب" 1. وحديث أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عمرو بن لحي بن فمعة بن خندف أبو خزاعة"، وقال ابن حزم: ليس هذا مخالفا لما قبله؛ إذ قد ينسبه إلى والده جده نسبة إضافة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" 2، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار". وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت على النار؛ فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام، أشبه من رأيت به أكثم بن أبي الجون"، فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم "لا لأنه كافر، وأنت مسلم". وحديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: "ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا". وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين, وأخرج ابن حزم منها الأول والثاني والخامس من صحيح البخاري، وأخرج الثالث من "صحيح مسلم" بسنده، وأخرج الرابع من طريق الدارقطني عن المحاملي. وقال ابن حزم: وأما الحديث الأول، والثالث، والرابع؛ ففي غاية الصحة والثبات، وأما الثاني ففيه إسرائيل، ولكن في الأحاديث حجة قاطعة وكفاية، ولا يجوز تعدي القول بما فيها، فخزاعة من ولد قمعة بن إلياس بن مضر بلا شك، وليس لأحد مع مثل هذا الكلام القول بما فيه؛ فخزاعة من ولد قمعة بن إلياس بن مضر؟ وأسلم إخوة خزاعة بلا شك عند أحد من النسابين، وقال: فولد قمعة بن إلياس: عامر بن قمعة، فولد عامر بن قمعة: أقصى وربيعة، وهو: لحي بن3 عامر بن قمعة، فولد لحي بن عامر بن قمعة: عامر بن لحي، فولد عامر بن لحي: عمرو بن لحي. وهو:

_ 1 جمهرة أنساب العرب "ص: 233". 2 الحديث أخرجه: البخاري 4/ 37، مسلم "الجهاد: 78، وأبو داود: 478، والترمذي: 1688، وأحمد: 1/ 264". 3 في جمهرة أنساب العرب "ص: 233": "ابنا".

عمرو بن لحي، نسب إلى جده، وهو أول من غير دين إبراهيم1 وإسماعيل -عليهما السلام، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، وولد عمرو بن عامر بن لحي كعبا بطن، ومليحا بطن. وعوفا بطن. وأمهم أسدية. وعديا بطن، أمه أيضا أسدية، وسعدا أمه خارجة البلخية، التي يقال لها: أسرع من نكاح أم خارجة2 ... انتهى. وإذا تقرر أن خزاعة من مضر؛ فلا يظهر تسميتها بخزاعة معنى، وإذا كانوا من قحطان فذلك لانخزاعهم عن قومهم بمكة. والانخزاع: هو المفارقة، وفي ذلك يقول عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي: فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في حلول كراكر حمت كل واغد من تهامة واحتمت ... بصم القنا والمرهفان البواتر هكذا ذكر ابن هشام في السيرة هذين البيتين لعون بن أيوب الأنصاري، وقال: هذان البيتان، له في قصيدة3. وأنشدهما الأزرقي لحسان بن ثابت الأنصاري؛ وذلك في خبر طويل رواه عن أبي صالح، ذكر فيه خبر جرهم وخزاعة، وفيه قال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر انخزاع خزاعة بمكة، ومسير الأوس والخزرج إلى المدينة، وغسان إلى الشام: فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في حلول كراكر4 حموا كل واد في5 تهامة واحتموا ... بصم القنا والمرهفات البواتر6 فكان لها المرباع في كل غارة ... بنجد وفي كل الفجاج الغوابر ونحن ظللنا أهل7 اجتهاد وهجرة ... وأنصارنا جند النبي المهاجر وذكر بقيتها، وهي تسعة أبيات، تتضمن مدح الأنصار، وغسان.

_ 1 "إبراهيم" ليس في جمهرة أنساب العرب "ص: 233". 2 جمهرة أنساب العرب "ص: 234، 235". 3 سيرة ابن هشام 1/ 92. 4 كراكر: جماعات. وقيل: هي جماعات الخيل خاصة. 5 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: "من" بدل "في". 6 البواتر: القواطع. 7 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: "خزاعتنا أهل اجتهاد".

ذكر سبب ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية

ذكر سبب ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية: سبق في أخبار جرهم ابتداء ولاية خزاعة لمكة، واختلاف ما ذكره ابن إسحاق والكلبي في سبب ولايتهم لمكة، فأغنى ذلك عن إعادته، ونذكر هاهنا غير ما سبق، ما يقتضي ذلك.

قال الفاكهي بعد أن روى في هذا المعنى أخبارا: قال ابن أبي سلمة، وابن إسحاق في حديثهما: فلم يزل الأمر لجرهم، وغبشان، وبكر، حتى اقتتلوا؛ فغلبتهم بكر وغبشان, وظهروا عليهم، ووطئوهم، ونفوهم من مكة إلى ما حولها، وولوا عليهم البيت، زاد ابن أبي سلمة والمخزومي في حديثهما: وولوا عليهم البيت وما كانوا يلون بمكة من الحكم وغيره1 ... انتهى. وذكر الزبير وغيره من أهل الأخبار ما يقتضي أن سبب ولاية خزاعة للبيت غير ما ذكره ابن إسحاق؛ وذلك أن امرأة من خزاعة يقال لها: قدامة كانت متزوجة في بني إياد بن نزار، نظرت إلى بني إياد لما دفنوا الحجر الأسود حين خرجوا إلى العراق، بعد أن تعذر عليهم حمله؛ فإنهم لم يحملوه على شيء إلا عجزوا، وافتقدت مضر الركن؛ فعظم ذلك في نفوسها، ورأت المرأة الخزاعية عظم مشقة ذكل عليهم، فأمرت قومها أن يأخذوا على مضر أن يولوهم حجابة البيت، وتدلهم المرأة على الركن، ففعلوا ذلك ووافقتهم عليه مضر، ودلتهم المرأة على الحجر الأسود، فابتحثوه من تحت الشجرة، وأعيد إلى مكانه، ووليت خزاعة عند ذلك البيت؛ فلم يبرح في أيديهم حتى قدم قصي؛ هذا معنى ما ذكره الزبير والكلبي في هذا الخبر، وقد سبق قريبا. وبان بذلك أن سبب ولاية خزاعة للبيت غير ما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم بالصواب.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 152.

ذكر مدة ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية

ذكر مدة ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية: قال الأزرقي فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: قال: حدثني جدي، قال: حدثنا سعد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن جريج، وعن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على الآخر- قالا: قامت خزاعة على ما كانت عليه من ولاية البيت والحكم بمكة ثلاثمائة سنة، وكان بعض التباعية قد سار إليه وأراد هدمه وتخريبه؛ فقامت دونه خزاعة، فقاتلت عليه أشد القتال حتى رجع، ثم آخر فكذلك؟. وقال الأزرقي -أيضا- فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح، فذكر خبرا طويلا في خبر جرهم وخزاعة، قال فيه: فكان عمرو بن لحي يلي البيت وولده من بعده خمسمائة سنة، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو، فزوج إليه قصي ابنته حبي ابنة حليل، وكانوا هم حجابه وخزانة، والقوام به، وولاة الحكم بمكة دهر

عامر، لم يخرب فيه خراب، ولم تبن خزاعة فيه شيئا بعد جرهم، ولم يسرق منه شيء علمناه ولا سمعنا به، ترادفوا على تعظيمه والذب عنه. وقال في ذلك عمرو بن الحارث بن عمرو الغبشاني: نحن وليناه فلم تغشه ... وابن مضاض قائم يهشه يأخذ ما يهدى له بعشه1 ... نترك مال الله ما نمسه2 ... انتهى.

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 102: "بغشه". 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 102: "نمشه" بالشين المعجمة.

ذكر أول من ولي البيت من خزاعة وغير ذلك من خبر جزهم

ذكر أول من ولي البيت من خزاعة وغير ذلك من خبر جزهم ... ذكر أول من ولي البيت من خزاعة وغير ذلك من خبر جرهم: اختلف في أول ملوك خزاعة بمكة؛ فقيل: عمرو بن لحي، ولحي هو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، على القول بأنهم من قحطان، ويدل لذلك خبر رواه الزبير بن بكار، عن أبي عبيدة، فيه ذكر شيء من خبر جرهم وخزاعة، لأن فيه: فاجتمعت خزاعة ليجعلوا من بقي، ورأس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وأمه فهيرة بنت عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي -وليس بابن مضاض الأكبر- فاقتلوا. ثم قال فيه بعد ذكره لخروج من بقي من جرهم إلى جشم من أرض جهينة: وولي البيت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر ... انتهى. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن عمرو بن لحي أول ملوك خزاعة، وفيه ذكر شيء منخبره وخبر جرهم؛ لأنه قال: ويقال في روايته أبي عمرو الشيباني: إن حجابة البيت صارت إلى خزاعة، لأن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن تزوج فهيرة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي؛ فولدت له عمرو بن ربيعة؛ فلما شب عمرو، وساد وشرف، طلب حجابه البيت؛ فعند ذلك نشبت الحرب بينهم وبين جرهم. وذكروا: أن عمرو بن ربيعة عاش ثلاثمائة وخمسا وأربعين سنة، وبلغ ولده في حياته ألف مقاتل، من ولد كعب، وعدي، وسعد ومليح، وعوف بن عمرو، وكانت بينهم حروب طويلة وقتال شديد، ثم إن خزاعة غلبوا جرهما على البيت، وخرجت جرهم حتى نزلت وادي إضم1، فهلكوا فيه.

_ 1 إضم بالكسر في أوله: واد في الشمال من مكة يصب في البحر.

وكان عمرو بن ربيعة أول من غير دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وأنه خرج إلى الشام، واستخلف على البيت رجلا من بني عبد بن ضخم، يقال له: آكل المروة1، وعمرو يومئذ وأهل مكة على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فلما تقدم الشام نزل البلقاء2؛ فوجد قوما يعبدون أوثانا، فقال: ما هذه الأنصاب التي أراكم تبعدون؟ فقالوا: أربابا نتخذها، ونستنصر بها على عدونا فننصر، ونستشفي بها من المرض فنشفي، فوقع قولهم في نفسهم. فقال: هبوا لي منها واحد نتخذه ببلدي؛ فإني صاحب بيت الله الحرام، وإلى وفد العرب من كل صوب، فأعطوه صنما يقال له: هبل؛ فحمله حتى نصبه للناس بمكة، فتابعته العرب على ذلك. وذكر بقية الخبر، وقد سبق في القول الرابع في سبب خروج جرهم. وذكر الأزرقي شيئا من خبر عمرو بن لحي، وأبان فيه غير ما سبق؛ لأنه روي خبرا طويلا في ولاية خزاعة بعد جرهم؛ وفي الخبر: فتزوج لحي -وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر- فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم؛ فولدت له عمرا، وهو عمرو بن لحي، وبلغ -بمكة وفي العرب- من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية، وهو الذي قسم بين العرب في حطمة حطموها عشرة آلاف ناقة، وقد كان أعور عشرين فحلا، وكان الرجل في الجاهلية إذا ملك آلأف ناقة فقا عين فحل إبله؛ فكان قد فقا عشرين فحلا، وكان أول من أطعم الحاج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد، وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من يرود اليمن. وكان قد ذهب شرفه في العرب كل مذهب، وكان قوله فيهم دينا متبعا لا يخالف، وهو الذي بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، وسيب السوائب، ونصب الأصنام حلو الكعبة، وجاء بهبل من "هيت" من أرض الجزيرة؛ فنصبه في بطن الكعبة، فكانت قريشا والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو من غير الحنيفية دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وكان أمره بمكة في العرب مطاعا لا يعصى. وكان بمكة رجل3 من جرهم على دين إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وكان شاعرا، فقا لعمرو بن لحي حين غير دينه الحنيفية: يا عمرو لا تظلم بمكة ... إنها بلد حرام سائل بعاد أين هم ... وكذلك تخترم الأنام

_ 1 كذا بالأصل: وصوابها آكل المرار "المحبر 368". 2 البلقاء: هي ما تسمى اليوم بالأردن. 3 هو الحارث بن مضاض.

وبني1 العماليق الذيـ ... ـن لهم بها كان السوام فزعموا أن عمرو بن لحي أخرج ذلك الجرهمي من مكة؛ فنزل بإطم من أعراض مدين النبي صلى الله عليه وسلم نحو الشام؛ فقال الجرهمي وتشوق إلى مكة: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وأهلي معا بالمأزمين حلول وهل رأيت العيس2 تنفخ في الثرى ... لها بمنى والمأزمين زميل3 منازل كنا أهلها له يحل بنا ... زمان بها فيما أراه يحول مضى أولونا راضيين بشأنهم ... جميعا وغالتنا بمكة غول4 ... انتهى. وقيل: أن أول ملوك مكة من خزاعة: لحي؛ وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عارم والد عمرو بن لحي السابق ذكره، وهذا القول ذكره الأزرقي؛ لأنه روي بسنده خبرا روي بسنده خبرا طويلا في خروج جرهم من مكة، وولاية خزاعة لها بعدهم، وفيه بعد أن ذكر تفرق أولاد عمرو بن عامر في البلاد: وانخزعت خزاعة بمكة؛ فأقام بها ربيعة من حارثة بن عمرو بن عامر، وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة البيت5 ... انتهى. وقيل: إن أول ملوك خزاعة بمكة: عمرو بن الحارث الغبشاني، ويدل بهذا القول ما ذكره الزبير بن بكار عن أبي عبيدة؛ لأن في الخبر الذي ذكره في إخراج خزاعة لجرهم من مكة بعد قوله: وولي البيت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وقال بنو قصي: بل وليه عمرو بن الحارث بن عمرو، أحد بني غبشان بن سليم من بني ملكان بن أقصى، وولي البيت، وهو الذي يقول: ونحن ولينا البيت من بعد جرهم ... لنعمره من كل باغ وملحد وقال أيضا: واد حرام طيره ووحشه ... نحن ولاته فلا نغشه ويروى: نحن وليناه فلا نغشه وزاد غير أبي عبيدة: وابن مضاض قائم يهشه

_ 1 وفي أخبار مكة للأزرقي 1/ 101: "وبنى". وكذا عند المسعودي 2/ 56. 2 العيس: الإبل. 3 الزميل: صوت الإبل في حدائها. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 1000-101. 5 أخبار مكة للأزرقي 1/ 95: وفيه "الكعبة" بدل "البيت".

ونقل الفاكهي ما يقتضي: أن عمرو بن الحارث أول من ولي البيت؛ لأنه قال: قال الواقدي: وحدثني حرام بن هشام، عن أبيه قال: أول من وليه من غبشان من خزاعة، وكان الذي وليه منهم: عمرو بن الحارث بن لؤي بن ملكان بن أقصى؛ فنصب هبل صنما بمكة، فقال الحارث بن مضاض، وهو يعظ عمرا: يا عمرو لا تفجر بمكـ ... ـة إنها بلد حرام1 فتحصل من هذه الأخبار ثلاثة أقوال في أول من ولي بمكة من خزاعة، هل هو عمرو بن لحي، كما ذكر أبو عبيدة والفاكهي، أو أبوه لحي، كما ذكر الأزرقي؟ أو ابن الحارث الغبشاني، كما ذكر أبو عبيدة وابن الكلبي؟ والله أعلم. وتحصل منه فيمن نصب هبل هؤلاء: أحدهما: أنه عمرو بن لحي، وهو القول المشهور. والآخر: عمرو بن الحارث الغبشاني، كما نقل الواقدي عن ابن الكلبي. ورأيت في "المورد العذب الهني في شرح سيرة عبد الغني" للحافظ قطب الدين الحلبي في ذلك قولا ثالثا؛ لأنه قال لما ذكره خزيمة جد النبي صلى الله عليه وسلم: وخزيمة هو الذي نصب هبل على الكعبة، وكان يقال: هبل خزيمة، هكذا ذكر ابن الأثير2 ... انتهى. وذكر ابن إسحاق ما يقتضي أن غبشان من خزاعة انفردت بالكعبة دون بني بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ لأنه بعد أن ذكر إخراج بني بكر وغبشان لجرهم من مكة: ثم إن غبشان من خزاعة، وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة، وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة؛ فوليت خزاعة البيت، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي3 ... انتهى؟. وذكر الفاكهي عن ابن إسحاق ما يقتضي أن بني بكر لم تل مع غبشان البيت؛ وإنما كلامه: حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، قال: قال عثمان -يعني ابن ساج: أخبرني محمد بن إسحاق، وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه في اللفظ- قال: ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت من بعد جرهم دون بكر بن كنانة؛ فكانت بكر لهم

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 155. 2 الكامل لابن الأثير 2/ 28. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 155، 156.

عضدا وناصرا ممن بغي عليهم، وقريش إذ ذاك حلول في أصرام، وهم بيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة، وكان الذي يلي البيت من عبشان عمروبن الحارث بن لؤي بن ملكان بن أقصى، وهو الذي يقول: نحن وليناه فلم نغشه ... وابن مضاض قائم يهشه يأخذ ما يهدي له يعسه ... نترك مال الله لا تمسه وقال أيضا: نحن ولينا من بعد جرهم ... لنمنعه من كل باغ وظالم ونمنعه من كل باغ يريده ... فيرجع منا عند غير سالم ونحفظ حق الله فيه وعهدنا ... ونمنعه من كل باغ وآثم ونترك ما يهدي له نمسه ... نخاف عقاب الله عند المحارم وكيف نريد الظلم فيه وربنا ... بصير بأمر الظلم من كل غاشم فوالله لا ينفك بحفظ أمره ... ويعمره ما حج هل المواسم ونحن نفينا جرهما عن بلادها ... إلى بلدة فيها صنوف المآثم قال: فوليت خزاعة البيت زمانا طويلا، وهم أخرجوا إسافا ونائلة من الكعبة، فوضعوها على زمزم1. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي بأن قيس بن عيلان، من مضر، أرادوا إخراج خزاعة من لحي ولي البيت من بعده كبع بن عامر، فاجتمعت قيس على عامر بن الظرب العدواني، فسار بهم إلى مكة ليخرج خزاعة، فقاتلهم خزاعة، فانهزمت قيس ووليت خزاعة البيت، لا ينازعهم أحدا2 ... انتهى. واستفدنا من هذا الخبر ولاية كعب بن عمرو بن لحي البيت بعد أبيه عمرو. وذكر الفاكهي لبعض عدوان شعرا، نال فيه من خزاعة؛ لأن بعض خزاعة قال شعرا، تعرض فيه لعدوان فيما يظهر، والله أعلم. ونص ما ذكره الفاكهي: وقال حليل: نحن بنو عمرو ولاة المشعر ... نذب بالمعروف أهل المنكر حمسا ولسنا نهزه للمحصر

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 1555، 156. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 156.

وقال: فأجابه نصر بن الأحت العدواني: إن الخنا منكم وقول المنكر ... جئناكم بالزحف في المسور بكل ماض في اللقاء مسعر وذكر الفاكهي: عن حليل بن حبشية -هذا- شعرا آخر؛ لأنه قال: وقال حليل بن حبشية: واد حرام طيره ووحشه ... وابن مضاض قائم يهشه ... انتهى. وقد سبق فيما ذكره الفاكهي عن ابن إسحاق أن عمرو بن الحارث الغبشاني هو الذي يقول: نحن وليناه فلم نغشه ... وابن مضاض قائم يهشه ولعل حليلا قال ذلك استشهادا؛ فينتفي التعارض، والله أعلم. وحليل هذا آخر من ولي البيت وأمر مكة من خزاعة، على ما ذكره الفاكهي، فيما رواه بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- وابن إسحاق وغير من أهل الأخبار. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن أبا غبشان الخزاعي كان شريك حليل في الكعبة، وأبو غبشان هو على ما ذكره الزبير، عن الأثرم، عن أبي عبيدة: سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، ونص الخبر الذي ذكره الفاكهي: قال الواقدي: وسمعت ابن جريج يقول: كان حليل يفتح البيت؛ فإذا اعتل أعطى ابنته المفتاح حتى تفتحه، فإذا اعتلت أعطت زوجها قصيا يفتحه. وكان قصي يعمل في أخذ البيت وحيازته إليه. وذكر قطع خزاعة منه، وكان شريك حليل فيه: أبو غبشان، وكان حليل يتنزه عن أشياء يفعلها أبو غبشان. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن حليلا أوصى بولاية البيت لأبي غبشان؛ لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: قال عيسى بن بكر الكناني المدني، قال: قال ابن الكلبي أو غيره. يقال: إن قصيا دعا أبا غبشان الملكاني؛ فقال: هل لك أن تدع الأمر الذي أوصى لك به حليل إلى حبي وعبد المدان فتخلى بينهما وبينه، وتصيب عرضا من الدنيا؟ فطابت نفسي أبي غبشان وأجابهم إلى ذلك؛ فأعطاهم قصي أثوابا وأبعرة. ولم يكن أبو غبشان وارثا لحليل، ولا وليا؛ وإنما كان وصيا فحاز وصيته، وصيرت حبي إلى ابنها حجابة البيت، ودفعت المفاتيح إليه1 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 157-159.

وذكر الزبير بن بكار خبرا يقتضي أن حليل بن حبشية جعل لأبي غبشان فتح البيت وإغلاقه، وأن قصيا اشترى ولاية البيت من أبي غبشان بزق خمر أو قعود. وسيأتي -إن شاء الله تعالى- هذا الخبر في أخبار قصي، وهذا الخبر نقله الزبير عن الأثرم عن أبي عبيدة. وقال الزبير: قال محمد بن الضحاك: اشترى قصي مفتاح بيت الله الحرام من أبي غبشان الخزاعي، بكبش وزق خمر. فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان، فذهبت مثلا1 ... انتهى. فتحصل من هذه الأخبار، فيما اشترى به قصي من أبي غبشان منا كان له في الكعبة ثلاثة أقوال: هل ذلك أثواب وأبعرة؟ أو هو زق خمر وقعود؟ أو هو كبش وزق خمر؟ وفي ذلك قول آخر رابع، وهو: زق خمر فقط، وذكر الزبير في خبر يأتي ذكره -إن شاء الله تعالى- فيما بعد في أخبار قصي، وفيه: أن أبا غبشان كان يلي البيت. وأفاد الفاكهي سببا في بيع أبي غبشان ما كان له في البيت؛ لأن في الخبر الذي نقله الفاكهي، عن الواقدي، عن ابن جريج بعد قوله: "وكان حليل يتنزه عن أشياء يفعلها أبو غبشان": وكانت البحائر تنحر عند البيت، عند إساف ونائلة؛ فكان أبو غبشان قد سن له من كل بحيرة رأسها والعنق، ثم إنه استقل ذلك؛ فأبى أن يرضي بذلك؛ فقال: يزيدون الأكتاف، ففعلوا، ثم أدب لهم، فقال: يزيدون العجز، فأبى الناس ذلك عليه، فأتى رجل من بني عقيل يقال له: مرة بن كثير -أو كبير- ببدنه له، وكانت سمينة، فما بقي إذا لمن سيقت إليه؟! قال: الأكارع، قال: فرفضه الناس ومن حضر من قريش وغيرهم، وقالوا: عبث، كنت أولا تقول: الرأس والعنق؛ فكان هذا أخف من غيره، ثم تعديت إل الأكارع، فقال: لا أقيم في هذا البلد أبدا إلا على ذلك؛ فلما أبوا عليه، قال: من يشتري نصيبي من البيت بإدواة تبلغني إلى اليمن، أو بزق من خمر؟ فاشترى نصيبه في ذلك قصي، وارتحل أبو غبشان إلى اليمن؛ فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان. قال الواقدي: وقد رأيت مشيخة خزاعة تنكر هذا2. ونقل الفاكهي عن الزبير بن بكار ما يقتضي أن قصيا اشترى مفتاح البيت من أبي غبشان بالطائف3، وهذا يخالف ما في الخبر الذي قبله؛ فإنه يقتضي أن شراء قصي

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 159، 160. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 160. 3 السابق

لذلك كان بمكة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- هذا الخبر في أخبار قصي، ويأتي في أخباره -أيضا- ما كان بينه وبين خزاعة من القتال، وتوليه لما كانت خزاعة يليه من ولاية مكة وحجابة البيت، وسكنى خزاعة معه بمكة في منازلهم التي جاء الإسلام وهم عليها. وقد ذكر ابن عبد البر في كتاب له في الأنساب شيئا من فضل خزاعة يحسن ذكره هنا؛ وذلك أنه قال بعد أن ذكر نسبهم ونزول حزاعة الحرم ومجاورتهم قريشا: قال ابن عباس -رضي الله عنهما: نزل القرآن بلغة الكعبيين: كعب بن لؤي، وكعب بن عمرو بن لحي؛ وذلك أن دراهم كانت واحدة، ويقال لخزاعة: حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حلفاء بني حزاعة وبني بكر، فأعان مشركو قريش حلفاءهم بني بكر، ونقضوا بذلك العهد؛ فكان ذلك سبب فتح مكة لنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة، حلفاءه1. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يومئذ لسحابة رآها: "هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب"، وأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة لم يعطها أحد من الناس، أن جعلهم مهاجرين بأرضهم، وكتب لهم بذلك كتابا ... انتهى. ووقع فيما ذكرناه من خبر عمرو بن لحي ذكر البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، من غير بيان ذلك. وقد بين ذلك ابن إسحاق وابن هشام في السيرة؛ لأن فيها قال ابن إسحاق: أما البحيرة فهي بنت السائبة: الناقة إذا تابعت من بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، سيبت؛ فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما أنتجت بعد لك من أنثى شقت أذنها، ثم خلي سبيلها مع أمها، فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما ضيف، كما فعل بأمها، فهي البحيرة بنت السائبة. والوصيلة: الشاة إذا أنتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكر، جعلت وصيلة. قالوا: قد وصلت؛ فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلى أنه منها شيء، فيشركون في أكله، ذكورهم وإناثهم. قال ابن هشام: ويروي: فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم. قال ابن إسحاق: والحام: الفحل إذا أنتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر، حمى ظهره؛ فلم يركب، ولم يجز وبره، وخلي في إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك.

_ 1 تهذيب سيرة ابن هشام "ص 243، 244".

قال ابن هشام: هذا كله عند العرب على غير هذا إلا الحام؛ فإنه عندهم على ما قال ابن إسحاق: فالبحيرة عندهم: الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها، ولا يشرب لبنها إلا ضعيف، أو يتصدق به، وتهمل لآلهتهم. والسائبة: التي ينذر الرجل أن يسيبها إن برأ من مرضه، أو أصاب أمرا يطلبه؛ فإذا كان كذلك ساب من إبلعه ناقة أو جملا لبعض آلهتهم، فساب فصارت لا ينتفع بها. والوصيلة: التي تلد أمها اثنين في كل بطن؛ فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها، ولنفسه الذكور، فتلدها أمها ومعها ذرك في بطنها، فيقولون: وصلت أخاها، فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به، حدثني به يونس غيره، وروي بعض ما لم يرو بعض. قال ابن إسحاق: فلما بعث الله -تبارك وتعالى- رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] ، وأنزل عليه: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] وأنزل عليه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] وأنزل عليه: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143، 144] ... انتهى. وقال السهيلي: فصل: وذكر البحيرة والسائبة، وفسر ذلك، وفسره ابن هشام تفسير آخر، وللمفسرين في تفسيرهما أقوال، منها ما يقرب، ومنها ما يبعد عن قولهما، وحسبك ما وقع في الكتاب؛ لأنها أمور كانت في الجاهلية أبطلها الإسلام، فلا تمس الحاجة إلى علمها ... انتهى1.

_ 1 الروض الإنف 1/ 121.

ذكر شيء من خبر عمرو بن عامر الذي تنسب إليه خزاعة وشيء من خبر بنيه

ذكر شيء من خبر عمرو بن عامر الذي تنسب إليه خزاعة وشيء من خبر بنيه: أما عمرو بن عامر -المشار إليه- فهو: عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن

سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الأزدي المازني؛ هكذا نسبه ابن هشام، وابن حزم، وابن الكلبي، فيما ذكر ابن عبد البر، ونسبه ابن الكلبي على ما وجدت في تاريخ الأزرقي على خلاف ذلك، وهو أنه جعل ثعلبة بين حارثة وامرئ القيس1، ونسبه هكذا المسعودي في تاريخه2. وذكر غير واحد أنه يقال لعمرو هذا: مزيقيا، ولابنه عامر: ماء السماء، ولجده: حارثة الغطريف؛ وإنما قيل له: مزيقيا -على ما ذكر بعضهم- لأنه كان يلبس في كل يوم حلة ثم يمزقها لئلا يلبسها أحد بعده3؛ وإنما قيل لابنه ماء السماء -على ما ذكر السهيلي: لجوده، وقيامه عندهم مقام الغيث. وكان عمرو بن عامر مالك مأرب -بهمزة ساكنة- وهي بلاد سبأ باليمن التي مزق الله أهلها وباعد بين أسفارهم، وأخربها سيل العرم، كما ذكر الله -عز وجل- في كتابه العزيز، حيث قال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 15، 16] . واختلف في معنى العرم، فقيل: هو صفة السيل، وهو اسم للوادي، وقيل: اسم لسد عارم كان يقيها من السيل، ويحبس الماء على أهلها، فيصرفونه حيث شاؤوا من بلادهم. وهذا السد بناه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وساق إليه سبعين واديا -على ما قيل، ومات قبل أن يكلمه، وأكمله بعده ملوك حمير، وقيل: بناه لقمان بن عاد الأكبر على ما ذكره المسعودي4، وذكر أنه كان فرسخا في فرسخ، وأن طول البلد أكثر من شهرين للراكب المجد، وكذلك عرضها5 والخصب، طيبة الفضاء، وكان أهلها في غاية الكثرة؛ حتى قيل إنهم كانوا يقتبسون النار من بعضهم بعضا مسيرة ستة أشهر، مع اجتماع الكلمة والقوة، ثم مزقهم الله تعالى، وباعد بين أسفارهم، وأخرب بلادهم بسيل العرم، كما ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز6. وكان سبب تمزقهم: تخوفهم من خراب بلادهم بالسيل، فإن طريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر -على ما قيل- رأت في كهانتها أن سيل العرم يخرب سد مأرب،

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 92. 2 مروج الذهب للمسعودي 2/ 190. 3 الروض الأنف 1/ 21. 4 مروج الذهب 2/ 180. 5 هذه الروايات فيها مبالغة ظاهرة؛ لأن الآثار الباقية في شبه الجزيرة العربية تدل على أن مملكة سبأ كانت جزءا محدودا من بلاد اليمن، كما تشير إلى ذلك الروايات التاريخية، في مختلف المراجع. 6 مروج الذهب 2/ 181، 182.

فذكرت ذلك لملكهم عمرو بن عامر، وأرته لذلك علامات، ومنها: جزر يحفر في السد؛ فلما تحقق لك كتمه عن قومه، وعزم على الانتقال من بلاده بمكيدة دبرها، وهو أنه قال لأصغر ولده: إذا تحدثت بحضرة الناس رد على حديثي؛ فأظهر الغضب عليك وألطمك، فافعل بي مثل ذلك، ثم عمل عمرو وليمه عظيمة، ودعا أهل مآرب؛ فلما اجتمعوا عنده تحدث، فجاراه ولده الحديث؛ ورد عليه، فغضب أبوه ولطمه، ففعل به الولد مثل ذلك. فأظهر عمرو أنه يريد قتله، فلم يزل الناس به حتى كفوه عنه؛ فقال: لا أقيم ببلد يلطم فيه وجهي أصغر ولدي -وقيل: إن الذي فعل به ذلك، يتيم كان في حجره -وعرض عمرو أمواله للبيع؛ فقال بعض أشراف قومه: اغتنموا غضبه عمرو واشتروا منه قبل أن يرضى، ففعلوا؛ فلما صار الثمن إليه أخبر الناس بشأن سيل العرم وخرج من بلاده1. وذكر ابن هشام أنه انتقل في ولده، وولد ولده، قال: قالت الأسد -يعني الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر؛ فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك2 مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم سجالا؛ ففي ذلك قال عباس بن مرداس البيت الذي كتبناه، يعني قوله: وعك بن عدنان الذين بغوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد ثم ارتحلوا عنه فتفرقوا في البلدان، فنزل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت ثم ارتحلوا عنه فتفرقوا في البلدان، فنزل جفنه بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرا، ونزلت أسد السراة، ونزلت أزد عمان3 ... انتهى. وقال شارح القصيدة العبدونية: ولما خرج عمرو بن عامر بن اليمن، خرج لخروجه منها بشر كثير، فنزلوا أرض عك، فحاربتهم عك، ثم اصطلحوا، وتفرقوا فيها حتى مات عمرو بن عامر، فتفرقوا في البلاد ... انتهى. وإنما ذكرنا هذا الكلام لإفادته حال قبائل عمرو ببلاد عك، ما لم يفده كلام ابن هشام، وليس ما ذكره من إقامتهم ببلاد عك، حتى مات عمرو بمقتضى لطول إقامتهم يستلزم قصر المدة؛ لأنه يمكن أن يكون عمرو مات في زمن الارتياد، والله أعلم. نعم في كلام الأزرقي ما يقتضي أنه لم يقهرهم أحد، وذلك يخالف ما ذكره ابن هشام والشارح، وقد رأيت أن أذكر كلامه لهذا المعنى، ولإفادته أمورا أخر، من حال

_ 1 مروج الذهب 2/ 188، 189. 2 "عك" بلاد بين اليمن والحجاز. 3 سيرة ابن هشام 1/ 29.

قبائل عمرو بن عامر بمكة وغيرها، وخصوصا حال خزاعة، وما آل إليه أمرهم بمكة؛ وذلك في خبر طويل، وفيه أيضا شيء من حال جرهم. وهذا الخبر رواه الأزرقي في تاريخه، عن الكلبي، عن أبي صالح، قال فيه: "فباع عمرو أمواله، وسار هو وقومه من بلد إلى بلد لا يطئون بلدا إلا غلبوا عليه وقهروا أهله، حتى يخرجوا منه -ولذلك حديث طويل اختصرناه- ثم قال: فلما قاربوا مكة ساروا ومعهم طريفة الكاهنة، فقالت لهم: سيروا فلن تجتمعوا أنتم ومن خلفتهم أبدا، فهم لكم أصل وأنتم لهم فرع، ثم قالت: مه مه وحق ما أقول، ما علمني ما أقول إلا الحكيم العليم المحكم، رب جميع الناس من عرب وعجم، فقالوا لها: ما شأنك يا طريفة؟ قالت: خذوا البعير الشدقم فخضبوه بالدم، تلون أرض جرهم جيران بيته المحرم، قال: فلما انتهوا إلى مكة، وأهلها جرهم قد قهروا الناس، وحازوا ولاية البيت على بين إسماعيل وغيرهم، أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر: يا قوم إنا قد خرجنا من بلادنا؛ فلم ننزل ببلد إلا فسح أهلها لنا، وتزحزحوا عنا، فنقيم معهم حتى نرسل روادنا فيروتادون لنا بلدا يحملنا، فافسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قد ما نستريح، ونرسل روادنا إلى الشام وإلى المشرق؛ فحيث ما بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرا، فأبت جرهم ذلك إباء شديدا، واستنكروا في أنفسهم، وقالوا: لا والله، ما نحب أن تنزلوا معنا فتضيقون علينا مرابعنا وموادرنا، فارحلوا عنا بحيث أحببتم، فلا حاجة لنا بجوارحكم؛ فأرسل إليه ثعلبة أنه لا بد لي من القمام بهذا البلد حولا حتى ترجع إلي رسلي التي أرسلت، فإن تركتموني نزلت طوعا وحمدتكم وواسيتكم في الماء والمرعى، وإن أبيتم أقمت على كرهكم، ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا، ولا تشربوا إلا نتنا. قال أبو الوليد الأزرقي يعني: الكدر من الماء، وأنشد على ذلك بيتين: فإن قتلتموني قاتلتكم ... ثم إن ظهرت عليكم سبيت النسا وقتلت الرجال ولم أترك منكم ... أحدًا ينزل الحرم أبدا فأبت جرهم أن تتركه طوعا، وتعبت لقتاله، فاقتتلوا ثلاثة أيام، وأفرغ عليهم الصبر ومنعوا النصر، ثم انهزمت جرهم، فلم ينفلت منهم إلا الشريد. ثم قال: وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا، فأصابتهم الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحيى؛ فدعوا طريفة، فشكوا إليها الذي أصابتهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون، وهو مفرق ما بيننا. قالوا: فماذا تأمرين؟ قالت: عليكم الإجابة وعلى التبيين. وقالوا: فما تقولين؟ قالت: من كان منكم ذا هم بعيد، وحمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بقصر عمان المشيد؛ فكان أزد عمان. ثم قالت: من كان

منكم ذا جلد وقصر، وصبر على أزمات الدهر؛ فعليه بالأراك1 من بطن مر، فكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في المنجل2، المطعمات من الحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، ويلبس الديباج والحرير، فليلحق ببضرى والغوير3 يريد الثياب الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق، فليلحق بأهل4 العراق؛ فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة من غسان وآل محرق، حتى جاءهم روادهم، فافترقوا من مكة فرقتين فرقة توجهت إلى عمان وهم: أزد عمان، وسار ثعلبة بن عمرو بن عامر نحو الشام؛ فنزلت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وهم الأنصار بالمدينة، ومضت غسان فنزلوا الشام، وانخزعت خزاعة بمكة، فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمروبن عامر -وهو: لحي، فولي أمر مكة، وحجاجة الكعبة5 ... انتهى باختصار. وقد بأن بما ذكرناه شيء من حال عمرو بن عامر وقومه، وفيه كفاية إن شاء الله تعالى.

_ 1 الأراك: وادي الأراك متصل بغيفة، وقال نصر: أراك فرغ من دون نافل قرب مكة. 2 عند الأزرقي: "الوحل". 3 الغوير: وهي ماء لكلب بأرض السماوة وأرض السماوة المسماة ببادية الشام. "معجم البلدان 2/ 94". 4 عند الأزرقي: "أرض". 5 أخبار مكة 1/ 92-95.

الباب الثاني والثلاثون

الباب الثاني والثلاثون: في ذكر شيء من أخبار قريش بمكة في الجاهلية وشيء من فضلهم وما وصفوا به وبيان نسبهم، وسبب تسميتهم بقريش وابتداء ولايتهم للكعبة، وأمر مكة ذكر شيء من فضلهم وما جاء في أنهم خير العرب: روينا في صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار من خيار" 1. ما جاء في أن الخلافة لا تزال في قريش: رينا عن البخاري في صحيحه قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا عاصم بن محمد، قال سمعت أبي يحدث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان". وروينا ذلك في صحيح البخاري، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم2. ما جاء في عقوبة من عادي قريشا 3: روينا عن البخاري في صحيحه من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين".

_ 1 أخرجه: الترمذي "3607"، ومناهل الصفة 53 رقم 125. 2 صحيح البخاري. 3 ورد في الأصل قبل ذلك عبارة: "ما جاء في الأمر بتقديم قريش على عيرهم" ثم أضاف: "روينا" وبعد ذلك يوجد بياض في الأصل في جميع النسخ.

ولذكر معاوية -رضي الله عنه- هذا الخبر قصة مذكورة في "صحيح البخاري". والأخبار الواردة في فضل قريش كثيرة، وفيما أوردناه من ذلك كفاية، ولم نورده إلا للتبرك به. ذكر ما وصفت به بطون قريش: قال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثنا إسحاق بن البهلول، قال حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عبد مناف عز قريش، وأسد ركنها وعضدها، وعبد الدار رئتها وأوائلها، وعدي جناحاها، ومخزوم ريحانتها في نظرتها، وجمح وسهم عديدها، وعامر ليوثها، وفرسانها والناس تبع لقريش، وقريش مع لولد قصي" 1. وحدثنا عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الملك بن عبد العزى، عن عبد الملك بن عبد العزى، عن عمر بن عبد العزيز، قال: عبد مناف عز قريش، وأسد بن عبد العزى عضدها، وزهرة الكبد، وتيم وعدي رئتها، ومخزوم فيها كالأراكة في بطونها، وجمح وسهم جناحاها، وعامر ليوثها وفرسانها، وكل تبع لولد قصي، والناس تبع لقريش". وحدثني حسن بن حسين قال: حدثنا محمد بن أبي السري قال: حدثنا هشام بن الكلبي، وعن سفيان بن عيينة، عن محمد بن قيس -الأسدي قال غير ابن الكلبي؛ عن علي بن ربيعة ولم يقله ابن الكلبي؛ أوقفه على محمد بن قيس، قال: سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن بني أمية، فقال: أشدنا حجرا، وأدركنا للأمور إذا طلبوا، وسئل عن بني المغيرة من بني مخزوم، فقال: أولئك ريحانة قريش التي تشمونها. وسئل عن بطن آخر كنى عنهم سفيان بن عيينة -قال عثمان: وهم بنو تيم- فذكر شيئا. قال الحسن بن حسين: وأخبرني محمد بن سهل الأزدي، قال: سمعت هشام بن الكلبي يذكر عن أبيه، قال: سئل علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه- عن قريش، فقال: أما بنو هاشم فأفصح وأسمح وأصبح، وأما إخوتها من بني عبد شمس فأنكر وأمكر، وأغدر وأفجر. وسئل مرة أخرى فقال: أما بنو هاشم فأصدق قريش في النوم واليقظة، وأكرمها أحلامها، وأضربها بالسيف، وأما بنو عبد شمس فأبعدنا همما، وأمنعنا لما وراء ظهورها،

_ 1 سمط النجوم العوالي 1/ 211.

وأما بنو مخزوم فريحانة من ريحانة قريش، يحب حديث رجالهم، ويشتهي تزوج نسائهم1، وسئل عن قوم من أقوام قريش، فقال: زعائفة. وأخبرني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن الحسين الشامي، قال: حدثنا النضر بن عمرو، قال: حدثني بكر بن عامر المري، عن عامر بن عبد الله المسمعي قال: دخل دغفل الشيباني2 على معاوية، فقال له معاوية -رضي الله عنه: أخبرنا عن بني هاشم، فقال: في الواسطة من القلادة، في الجاهلية سادة، وفي الإسلام ملوك وقادة، قال: فأخبرنا عن بني عبد المطلب، قال: بيت مقشعرة، أصابتها قرة، لا يسمع لها حرة، ولا يرى لها درة. قال: فأخبرنا عن بني نوفل، قال: اسم ولا حسيس، قال: فأخبرنا عن بني أسد. قال: ذو سؤم ونكد، وبغي وحسد. قال: فأخبرنا عن بني أسد. قال: ذو شؤم ونكد، وبغي وحسد. قال: فأخبرنا عن بني زهرة، قال: جهل فاش، وحلم الفراش، قال: فأخبرنا عن آل تيم بن مرة، قال: كثير أوغادهم، عبيد من سادهم، ولا يرى منهم قائد يقودهم، قال: فأخبرنا عن بني مخزوم، قال: معزى مطيره، أصابتها قشعريرة، إلا بني المغيرة؛ فإنهم أهل التشدق في الكلام، ومصاهرة الكرام. قال: فأخبرنا عن بني جمح، قال: كلهم طلف، إلا بني خلف. قال: فأخبرنا عن بني عدي بن كعب، قال: قساة الأخلاق، ولؤم أعراق، إن استغنوا شجوا، وإن انفردوا لجوا. ذكر أهل البطاح، والظواهر، والعارية، والعائدة من قريش: قال الفاكهي: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثنا محمد بن الحسن المخزومي، عن العلاء بن الحسن، عن عمه أفلح بن عبد الله بن المعلي، عن أبيه وغيره من أهل العلم، قال: إن قريش البطاح: لأن قرشا حين اقتسموا بلادهم احتلت كعب بن لؤي الأباطح؛ فكعب وبنوه مالك، وقدد بن رجا، والحارث ومحارب ابنا فهر، وعوف بن فهر ودرج، والأدرم؛ وهم بنو تيم بن غالب بن فهر، وعوف بن فهر، وقيس بن فهر، وقدد، وعامر بن لؤي؛ وإنما سموا الظواهر لأن قريشا حين اقتسموا دارهم أخذوا منهم ظواهر مكة؛ بحيث سكنوا بالظواهرة3 أو بالبطحاء، فهم قريش الظواهر بالظاهرة أو بالبطحاء.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 166، 168. 2 هو دغفل بن حنظلة بن يزيد، يعرف بدغفل النسابة، كان يحكم بجهة الموصل. "جمهرة أنساب العرب -ص319". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 167.

وحدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: كانت قريش الظواهر: محارب، والحارث ابنا فهر، ومن هناك من جيرانهم عامر بن لؤي، والأدرم1 بن غالب يغيرون على بني كنانة، يغير بهم عمرو بن عبد ود؛ إلا أن الحارث بن فهر دخلت بعد ذلك مكة، فهي من البطاح، وهم يد مع المطيبين ... انتهى. وأما قريش العاربة؛ فإنهم ولد سامة بن لؤي بن غالب بن فهر بنمالك بن النصر بن كنانة خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وقد ذكر الفاكهي سبب تسميتهم بذلك؛ لأنه قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: وأما ولد سامة بن لؤي وهم قريش العاربة؛ وإنما سموا العاربة لأنهم عربوا عن قومهم، فنسبوا إلى أمهم ناجية بنت حزم بن ربان، وهو علاف، وكان أول من اتخذ من الرجال العلافية فنسب إليها، فقيل: علاف. واسم ناجية: ليلي؛ وإنما سميت ناجية؛ لأنها سارت في مفازة فعطشت، فاستقت سامة بن لؤي، فقال لها: بين يديك، وهو يريها السراب، حتى جاءت الماء فنجت فسميت: ناجية2. قريش العائدة: وأما قريش العائدة: فهم بنو خزيمة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر. وقد ذكر الفاكهي عن الزبير سبب تسميتهم بذلك؛ لأنه قال: وإنما قيل لخزيمة بن لؤي: عائدة؛ لأن عبيدة3 بن خزيمة تزوج عائدة بنت الحمس بن قحافة بن خثعم؛ فولدت له مالكا وتيما فسموا عائدة بأمهم. قال لنا الزبير: قال علي بن المغيرة، عن حسن بن علي العقيلي قال: وإنما قيل: عائدة قريش؛ لأن عدادهم في بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان في الجاهلية والإسلام فقيل: عائدة قريش، لئلا يضلوا. حدثني الزبير بن أبي بكر قال: كان أهل الظواهر من قريش في الجاهلية يفخرون على أهل الحرم، فيعقد لواء فخارهم للناس. قال الزبير: وكانت العرب تنفس قريشا، وتعير أهل الحرم منها بالمقام بالحرم، فأسموهم: الصب ... انتهى. وفي قريش رهط يقال لهم: الأحربان، ذكرهم الزبير بن بكار؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن أبي قدامة العمري قال: كان بنو معيص بن عامر بن لؤي وبنو محارب بن فهر

_ 1 "الأدرم": المنقوص الذقن "الروض الأنف 1/ 119". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 168. 3 في نسب قريش "ص441": "عبيدة".

متحافين، وكانا يدعيان الأحربين -لما بينهما- فهما الأحربان من أهل تهامة، والأحربان من أهل نجد: بنو عبس، وذبيان ... انتهى. ذكر بيان نسب قريش: اختلف في نسبهم؛ فقيل: إنهم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقيل: إنهم ولد النضر بن كنانة، والقول الأول ذكره الزبير بن بكار عن غير واحد من أهل العلم؛ لأنه قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا أبو البختري وهب بن وهب، قال: حدثني ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: إن اسم فهر بن مالك الذي أسمته أمه قريشا، كما يسمي الصبي غدارة، وشمله، وأشباه ذلك، قال: قال: وقد اجتمع النساب من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر، والذي عليه من أدركت من نساب، وذكر الزبير هذا القول عن هشام بن الكلبي؛ لأنه قال: قال: ولد مالك بن النضر فهرا، وهو جماع قريش. وقال الزبير فيما نقله عنه القطب الحلبي، قال عمي: فهر هو قريش1، وقريش اسمه وفهر لقب له؛ فمن لم يلده فهر فليس من قريش. ونقل الزبير هذا القول أيضا عن هشام بن الكلبي؛ لأنه ذكر أن أبا الحسن الأثرم حدثه عن الكلبي أن النضر بن كنانة هو قريش. ونقل ذلك الزبير، عن أبي عبيدة بن المثنى؛ لأنه ذكر أن أبا الحسن الأثرم حدثه عن أبي عبيدة؛ قال: منتهى من وقع عليه اسم قريش: النضر بن كنانة؛ فولده قريش دون سائر بني كنانهة بن خزيمة بن مدركة، وهو عارم بن إلياس بن مضر، فأما من كان من ولد كنانة سوى النضر فلا يقال لهم: قريش، قال: وإنما سموا بنو النضر قريشا2؛ لأ، التقرش هو التجمع، قال: وقال بعضهم للتجار، يتقارشون، أي يتجرون.

_ 1 قارن بجمهرة أنساب لابن حزم "ص12"، والروض الأنف 1/ 16. 2 في الروض: 1/ 17 "قريشا لتجمعهم".

والدليل على اضطراب هذا القول: إن قريشًا لم يجتمعوا حتى جمعهم قصي بن كلاب؛ فلم يجتمع إلا ولد فهر بن مالك، لا مرية عند أحد في ذلك، وبعد هذا فنحن أعلم بأمورنا، وأرعى لمآثرنا، وأحفظ لأسمائنا، ولم ندع قريشا، ولم تهمهم1 إلا ولد فهر بن مالك2 ... انتهى. وذكر هذين القولين في نسب قريش: ابن هشام في "السيرة"؛ لأن فيها: وقال ابن هشام: النضر، قريش؛ فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي3، ثم قال: ويقال فهر بن مالك قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي ... انتهى. وليس في كلام ابن هشام ما يقتضي ترجيح أحد القولين. وفي كلام الزبير ما يقتضي ترجيح القول بأن قريشا ولد فهر بن مالك. وكلام النووي يقتضي ترجيح القول بأنهم ولد النضر. ويقال: إن أول من قيل له القرشي: قصي بن كلاب؛ لأن الفاكهي روي بسنده: أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير بن مطعم عن سبب تسميته قريش؛ فذكر له محمد بن جبير أن ذلك لتجمعها في الحرم، وأن عبد الملك قال له: ما سمعت بهذا، ولكني سمعت: أن قصيا كان يقال له: القرشي، ولم يسم قرشي قبله. ونقل الفاكهي ذلك عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف من طريقين، ونقل الفاكهي ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: قال أبو بكر: وحدثني أبو بكر بن عبد الله، وابن أبي جهم، عن أبيه قال: النضر بن كنانة كان يسمى القرشي ... انتهى. وذكر السهيلي ما يقتضي أن قريشا كانت تسمى قريشا قبل مولد قصي؛ لأنه ذكر أن كعب بن لؤي قال: إذا قريش تبغي الحق خذلانا4 ... انتهى. وقال أبو الخطاب بن دحية في تسمية قريش، ومن أول من سمي به عشرون قولا، نقل ذلك عن ابن دحية هكذا القطب الحلبي. وقال القطب الحلبي: ثم النسب إلى قريش: قرشي، وقريشي؛ فمن قال: قريشي، أجراه في النسب على أصله وتوفيته حروفه، فهو القياس؛ لأن الياء لا يطرد حذفها إلا ما كانت فيه هاء التأنيث. نحو: مرتبة ... انتهى.

_ 1 في الروض 1/ 17: "نهمم". 2 الروض الأنف 1/ 117. 3 قارن بجمهرة أنساب العرب "ص: 12"، وسيرة ابن هشام 1/ 91، 94. 4 الروض الأنف 1/ 117.

ذكر سبب تسمية قريش بقريش موما قيل في ذلك: اختلف في تسمية قريش بقريش؛ فقال ابن هشام في "السيرة": وإنما سميت قريش قريشا من التقرش، والتقرش: التجارة والاكتساب، وأنشد في ذلك شعرا لرؤبة بن العجاج. وقال ابن إسحاق: قال: إنما سميت قريش قريشا لتجمعها من بعد تفرقها، يقال للتجمع: التقرش1 ... انتهى. وقيل: إنما سميت بذلك، لتفتيشها عن حاجة الناس وسدها لها؛ وهذا يروي عن الشعبي كما سبق. وقيل: سميت بذلك: لأن قريش بن بدر يخلد بن النضر بن كنانة كان دليل بني كنانة في تجارتهم؛ فكان يقال: "قدمت عير قريش" فسميت قريش به، ذكر ذلك مصعب الزبيري2. قال: وأبوه بدر بن مخلد، صاحب بدر، الموضع الذي لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا. ذكر ذلك الزبير عن عمه. وقيل: إنما سموا قريشا لأنهم يتقرشون البضاعات فيشترونها. قيل: جاء النضر بن كنانة في ثوب له؛ فقالوا: قد تقرش في ثوبه كأنه جمل قريش: أي شديد مجتمع. وقال ابن الأنباري: وقيل: قريش من التقريش وهو التحريش3. قال أبو القاسم الزجاجي: هذا الوجه ليس بمعروف؛ لأن المعروف في اللغة أن تقديم الراء على القاف هو التحريش لا التقريش، والتقريش: تزيين الكلام وتحسينه. قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: قريش مأخوذ من القرش، وهو وقع الأسنة بعضها على بعض؛ لأن قريشا أحرب الناس بالطعان ... انتهى. وقيل: سميت قريش قيرشا بدابة في البحر تسمى القرش، وهذا يروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال لعمرو بن العاص -رضي الله عنه- حين سأله عن ذلك بحضرة معاوية -رضي الله عنه- استعجازا له عن معرفته، وأنشد ابن عباس -رضي الله عنه- على ذلك قول المسرح بن عمرو الحميري: وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا

_ 1 سيرة بن هشام 1/ 94. 2 نسب قريش "ص: 12"، جمهرة أنساب العرب "ص: 11". 3 الزاهر لابن الأنباري 2/ 121.

تأكل الغث والسمين ولا تترك ... منه لذي جناحين ريشا ذكر هذا الخبر الفاكهي وغيره، وذكره القطب الحلبي، وكلامه يوهم أن ابن عباس -رضي الله عنهما- سأل عمرو بن العاص؛ وذلك يخالف ما ذكره الأزرقي، ثم قال القطب: وقال المطرزي: هي ملكة الدواب وسيدة الدواب وأشدها؛ فلذلك قريش سادة الناس1 ... انتهى. وذكر هذا القول السهيلي؛ لأنه قال: ورأيت لغيره -يعني الزبير بن بكار- أن قريشا تصغير القرش: وهو حوت في البحر يأكل حيتان البحر، سميت به القبيلة، أو سمي به أبو القبيلة، والله أعلم2 ... انتهى. هذا ما رأيته من الأقوال في تسمية قريش، وفي ذلك أقوال أخر على مايقتضيه كلام ابن دحية3، والله أعلم بالصواب. ذكر ابتداء ولاية قريش الكعبة المعظمة ومكة: أول من ولي ذلك منهم: قصي بن كلاب، وقد ذكر خبره في ذلك جماعة من أهل الأخبار، منهم: الأزرقي وذلك فيما رويناه عنه بالسند المتقدم، قال: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن جريج، وعن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه- قالا -بعد ذكر شيء من خبر خزاعة-: فلبثت خزاعة على ما هي عليه، وقريش -إذ ذاك- في بني كنانة متفرقة، وقد قدم في بعض الزمان حاج قضاعة، فيهم: ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبد كثير بن عذرة بن سعيد4 بن زيد، وقد هلك كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وترك زهرة وقصيا ابني كلاب مع فاطمة بنت عمرو بن سعد بن شبل، وسعد بن شبل الذي يقول فيه الشاعر -وكان أشجع أهل زمانه: لا أرى في الناس شخصا واحدا ... فاعلموا ذاك لسعد بن شبل فارس أضبط فيه عسرة ... فإذا ما عاين القرن نزل فارس يستدرج الخيل كما ... يدرج الحر القطامي الحجل وزهرة أكبرهما، فتزوج ربيعة بن حزام أمهما. وزهرة رجل بالغ، وقصي فطيم أو في سن الفطيم، فاحتملها ربيعة إلى بلاده من أرض عذرة إلى أطراف الشام، فاحتملت

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 170. 2 الروض الأنف 1/ 117. 3 يراجع في هذا لسان العرب "مادة قرش"، وقلائد الجمعان في التعريف بقبائل عرب الزمان للقلقشندي، تحقيق إبراهيم الإبياري "ص: 137"، ونهاية الأرب في معرفة أنساب العرب "ص: 398". 4 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 104: "سعد".

معها قصيا لصغره، وتخلف زهرة في قومه؛ فولدت فاطمة ابنه عمرو بن سعد لربيعة: رزاح بن ربيعة؛ فكان أخا قصي بن كلاب لأمه، ولربيعة بن حزام من امرأة أخرى، ثلاثة نفر: حسن، ومحمود، وطهيمة1، بنو ربيعة. فبينا قصي بن كلاب في أرض قضاعة لا ينتهي2 إلا إلى ربيعة بن حزام؛ إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء، وقصي قد بلغ، فقال له القضاعي: ألا تلحق بنسبك وقومك، فإنك لست منا؟ فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له، فقالت له: أنت والله يا بني خير منه وأكرم، أنت كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقومك عند البيت الحرام وما حوله؛ فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحاق بهم، وكره الغربة في أرض قضاعة؛ فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب؛ فإني أخشى عليك. فأقام قصي حتى دخل الشهر الحرام، وخرج في حاج قضاعة حتى قدم مكة؛ فلما فرغ من الحج أقام بها، وكان قصي رجلا جليدا حازما بارعا، فخطب إلى حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي ابنته حبي ابنة حليل؛ فعرف حليل النسب ورغب في الرجل، فزوجه حليل، وحليل يومئذ يلي الكعبة وأمر مكة، فأقام قصي معه حتى ولدت حبي لقصي عبد الدار -وهو أكبر ولده- وعبد مناف، وعبد العزي، وعبد بن قصي؛ فكان حليل يفتح البيت، فإذا اعتل أعطى ابنته حبي المفتحا، ففتحته، فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصيا، أو بعض ولدها، فيفتحه، وكان قصي يعمل في حيازته إليه، وقطع ذكر خزاعة عنه؛ فلما حضرت حليل الوقاة نظر إلى قصي فجعل له ولاية البيت، وأسلم إليه المفتاح، وكان يكون عند حبي؛ فلما هلك حليل، أبت خزاعة أن تدعه وذلك، وأخذوا المفتاح من حبي، فمشي قصي إلى رجل من قومه من قريش وبني كنانة، فدعاهم إلى أن يقوموا معه في ذلك، وأن ينصروه ويعضدوه؛ فأجابوه إلى نصره، ويعلمه ما حالت خزاعة بينه من ولاية البيت، ويسأله الخروج إليه بمن أجابه من قومه؛ فقام رزاح في قومه، فأجابوا إلى ذلك، فخرج الخروج إليه بمن أجابه من قومه، فقام رزاح في قومه، فأجابوا إلى ذلك، فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته من أبيه: حسن، ومحمود، وطهيمة3، بنو ربيعة بن حزام، فيمن معهم من قضاعة، وفيمن ومعهم من حاج العرب مجتمعين لنصر قصي، والقيام معه؛ فلما اجتمع الناس بمكة، خرجوا إلى الحج، فوقفوا بعرفة، وبجمع، ونزلوا منى.

_ 1 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة للأزرقي 1/ 104، والروض الأنف: "جهلمة". 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 104: "ينتمي". 3 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة: "جهلمة".

وقصي مجمع على ما أجمع عليه، من قتالهم بمن معه من قريش وبني كنانة، ومن قدم عليه مع أخيه رزاح من قضاعة؛ فلما كانت آخر أيام منى، أرسلت قضاعة إلى خزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قضي ما جعل له حليل، وعظموا عليهم القتال في الحرم، وحذروهم الظلم والبغي بمكة، وذكروهم ما كانت فيه جرهم، وما صارت إليه حين ألحدوا1 فيه بالظلم؛ فأبت خزاعة أن تسلم ذلك، فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى -قال: فسمى ذلك المكان المفجر2، لما فجر فيه وسفك فيه من الدم، وانتهك من حرمته- فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا، وكثرت فيهم الجراحات، وحاج العرب جمعيا من مضر واليمن مستنكفون، ينظرون سفك الدماء والفجور في الحرم؛ فاصطلحوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا عمر بن عوف بن كعب بن عامر بن الليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكان رجلا شريفا؛ فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدا، فاجتمع الناس، وعدوا القتلى؛ فكانت في خزاعة أكثر منها في قريش وقضاعة وكنانة، وليس كل بني كنانة قاتل مع قصي خزاعة؛ إنما كانت مع قريش من كنانة فلال يسيرة، واعتزلت عنها بنو بكر بن عبد مناة قاطبة. فلما اجتمع الناس بفناء الكعبة قام يعمر بن عوف؛ فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين، ولا تباعة لأحد على أحد في دم، وإني قد حكمت لقصي بحجابة البيت، وولاية أمر مكة دون خزاعة لما جعل له حليل، وأن يخلي بينه وبين ذلك، وأن لا تخرج خزاعة من مساكنها من مكة. قال: فسمي يعمر ذلك اليوم: الشداخ. فسلمت ذلك خزاعة لقصي، وأعظموا سفك الدماء في الحرام، وافترق الناس. فولي قصي بن كلاب حجابة البيت وأمر مكة، وجمع قومه قريشا من منازلهم إلى مكة يستعز بهم ويملك على قومه، فملكوه، وخزاعة مقيمة بمكة على رباعهم وسكانهم لم يحركوا ولم يخرجوا منها؛ فلم يزالوا على ذلك حتى الآن، وقال قصي في ذلك وهو يشكر لأخيه رزاح بن ربيعة: أنا ابن العاصمين بني لؤي ... بمكة مولدي وبها ربيت لي البطحاء قد علمت معد ... ومروتها رضيت بها رضيت

_ 1 من الإلحاد وهو الميل. 2 ما زال اسم هذا المكان "المفجر" معروفا حتى اليوم وهو قريب من منى خلف الجبل المقابل لثبير.

وفيها كانت الآباء قبلي ... فيما سويت أخي وما سويت رزاح ناصري وبه أسامي ... فلست أخاف ضيما ما حييت1 فكان قصي أول رجل من كنانة أصاب ملكا، وأطاع له به قومه؛ فكانت إليه الحجامة، والرفادة، والسقاية، والندوة2، والقيادة؛ فلما جمع قصي قريشا بمكة سمي مجمعا، وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجمحي يمدحه: أبوهم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر همو نزلوها والمياه قليلة ... وليس بها إلا كهول بني عمرو يعني هم خزاعة: قال إسحاق بن أحمد: أبو جعفر محمد بن الوليد بن كعب الخزاعي: أقمنا بها والناس فيها قلائل ... وليس بها إلا كهول بني عمرو هم ملكوا البطحاء مجدا وسوددا ... وهم طردوا عنها غواة بني بكر هم حفروها والمياه قليلة ... ولم يستقوا إلا بنكد من الحفر حليل الذي عادى كنانة كلها ... ورابط بيت الله بالعسر واليسر أحازم إما أهلكن3 فلا تزل ... لهم شاكرا حتى توسد في القبر ويقال: من أجل تجمع قريش سميت قريش: قريشا4. وذكر ابن إسحاق خبر ولاية قصي بن كلاب، وفيه زيادة على ما في هذا الخبر؛ لأنه قال: ثم إن قصي بن كلاب خطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبي؛ فرغب فيه حليل فزوجه، فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزي، وعبدا؛ فلما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل؛ فرأى قصي أنه قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشا فرعة إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- وصريح ولده؛ فكلم رجالا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه، وكان ربيعة بن حزام بن عزرة بن سعد بن زيد بن مناة قد قدم مكة بعد هلك كلاب. فتزوج فاطمة بنت سعد بن شبل5، وهو يومئذ رجل، وقصي فطيم. فاحتملها إلى بلاده، فحملت قصيا معها، وأقام زهرة، فولدت لربيعة: رزاحا، فلما بلغ قصي.

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 107 بيتان زيادة على ما هنا. 2 في أخبار مكة للأزرقي يضيف بعد الندوة: "اللواء". 3 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 108: "أحازم إما أهلكنا". 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 103، 108. 5 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 109: "سيل".

وصار رجلا، أتى مكة فأقام بها؛ فلما أجابه قومه إلى ما دعاهم إليه، كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة يدعوه إلى نصرته والقيام معه. فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته: حسن بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وطهيمة وهم لغير فاطمة، فيمن تبعهم من قضاعةت في حاج العرب، وهم مجمعون لنصر قصي، وخزاعة تزعم أن حليل بن حبشية أوصى بذلك قصيا وأمره به؛ حتى انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة، والقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة؛ فعند ذلك طلب قصي ما طلب. ولم يسمع ذلك من غيرهم؛ فالله أعلم أي ذلك كان. ثم قال بعد أن ذكر شيئا من خبر صوفة وإجازتها بالناس من عرفة ومنى؛ فلما1 كان ذلك العام فعلت صوفة كما كانت تفعل، وقد عرفت لها ذلك العرب، وهو دين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم، فأتهاهم قصي بن كلاب لمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة؛ فقال: لا، نحن بهذا أولى منكم. فقاتلوه؛ فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم، من ذلك. وانحازت عند ذلك خزاعة، وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة، وأمر مكة؛ فلما انجازوا عنه باداهم2 وأجمع لحربهم. وخرجت له خزاعة وبنو بكر، فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا، ثم إنهم تداعوا إلى الصلح، وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب؛ فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلي بين قصي وبين الكعبة ومكة، فسمي يعمر بن عوف يومئذ: الشداخ، بما شدخ من الدماء، ووضع منها. قال ابن هشام: ويقال: الشداج. قال ابن اسحاق: وولي قصي البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه؛ إلا أنه قال: قد أقر العرب ما كانوا عليه؛ وذلك أنه كان يراه دينا في نفسه لا ينبغي تغييره؛ فأقر آل صفوان، وعدوان، والنساء، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام فهدم الله ذلك كله؛ فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة3

_ 1 من هنا يبدأ النص في سيرة ابن هشام 1/ 147. 2 باداهم: ظاهر وجاهر لهم بالعداوة. 3 الحجابة: سدانة الكعبة، وفتح بابها للحجاج.

والسقاية1، والرفادة2، والندرة3، واللواء4؛ فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة رباعا بين قومه؛ فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي اصطلح عليها. ويزعم بعض الناس أن قريشا هابوا قطع شجرا الحرام في منازلهم، فقطعها قصي بيده وأعوانه فسمته قريش مجمعا، لما جمع من أمرها، وتيمنت قريش بأمره؛ فما تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقده لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره، تشق عليها فيها درعها، ثم تدرعه، ثم ينطلق إلى أهلها؛ فكان أمره في قومه من قريش بها في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع. لا يعمل بغيره، واتخذ لنفسه دار الندرة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة؛ ففيها كانت قريش تقضي أمورها. قال ابن هشام: قال الشاعر: قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من قهر قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن راشد عن أبيه، قال: سمعت السائب بن حباب صاحب المقصورة يحدث أنه سمع رجلا يحدث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وهو خليفة- حديث قصي بن كلاب، وما جمع من أمر قومه، إخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة؛ فلم يرد ذلك عليه ولم ينكره5 ... انتهى. وفي هذا الخبر من الفائدة في خبر قصي غير ما في الخبر الأول، ببيان ما كان من خبر قصي وصوفة وغير ذلك، وهو يقتضي أن منازعة قصي خزاعة، لما كان في نفسه، من أنه أولى بالكعبة وأمر مكة خزاعة، أو لكون حليل جعل ذلك إليه -كما تزعم خزاعة- من غير أن تكون خزاعة عارضت قصيا في ذلك، والخبر الأول يقتضي أن منازعة قصي خزاعة لمنعهم له؛ مما جعله إليه حليل من أمر البيت، والله أعلم بالصواب.

_ 1 السقاية: سقيا الحجيج في الحرم. 2 الرفادة: ضيافة الحجاج ومدهم بالطعام. 3 الندرة: التشاور في الأمر، وبنى لها دارا سميت دار الندرة، وهو المكان الذي أقيمت عليه مقام الحنفي -الآن- بالمسجد الحرام. 4 اللواء: الراية التي تنشر لقيادة الجيوش، أو لقيادة الحجيج في مناسكهم، وتلك هي أهم وأعظم شخصية من الشخصيات الفذة الجيوش، أو لقيادة الحجيج في مناسكهم -وتلك هي أهم وأعظم شخصية من الشخصيات الفذة الخالدة في تاريخ العروبة؛ فهو أول من حكم، وأول من أشرك شعبه في الحكم بتأسيس دار الندرة للتشاور فيها؛ بحيث لا بيت في أمر إلا بعد أخذ رأيي أهل الندرة. 5 سيرة ابن هشام 1/ 115-117.

وقد ذكر الزبير بن بكار خبرًا يدل على أن حليلا حين حضرته الوفاة، جعل إلى قصي أمر البيت ومكة؛ وذلك يوافق ما زعمته خزاعة، كما في الخبر الذي ذكره ابن إسحاق، ونص ما ذكره الزبير: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن عمر الواقدي، عن عبد الله بن عمر بن زهير، عن عبد الله بن خراش بن أمية الكعبي، عن أبيه، قال لما تزوج قصي إلى حليل بن حبشية حبي، ابنته، وولدت له، أوصى حليل عند موته بولاية البيت وأمر مكة إلى قصي. قال الزبير: وحدثني إبراهيم، عن الواقدي، عن فاطمة الأسلمية، عن فاطمة الخزاعية -وكانت أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: وقال حليل: إنما ولد قصي ولدي، وهم بنو ابنتي؛ فأوصى إلي قصي بالبيت والقيام بأمر مكة، وقال: أنت أحق الناس بها ... انتهى. وقد قيل في سبب ولاية قصي غير ما سبق، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في خبر خزاعة ونذكره فيما هنا لما فيه من زيادة في إيضاح ذلك؛ ورويناه عن الزبير بن بكار، قال: قال محمد بن الضحاك: اشترى قصي مفتاح بيت الله الحرام من أبي غبشان الخزاعي بكبش، وزق خمر؛ فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان، فذهبت مثلا. وقال أيضا: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال: زعم الناس من خزاعة أن قصيا تزوج حبي ابنة خليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر؛ فولدت له عبد مناف، وعدب العزى، وعبد الدار، وعبد بن قصي، وكان حليل آخر من ولي البيت من خزاعة؛ فلما ثقل1، جعل ولاية البيت إلى ابنته حبي؛ فقالت له: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه. قال: إني أجعل لؤي بن ملكان بن أقصي بن حارثة بن عمرو بن عامر، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وقعود؛ فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي، فاستنصر أخاه رزاحا، فقدم بمن معه من قضاعة، فقاتل خزاعة حتى نفوا خزاعة. قالوا: فأما الخلفي -قال: قال أبو عبيدة: وهو رجل من بني خلف- فزعم أن خزاعة أخذتها العدسة حتى كادت تفنيها؛ فلما رأت ذلك جلت عن مكة؟ فمنهم من وهب مسكنه، ومنهم من باع، ومنهم من أسكن. قال: قال أبو عبيدة: وهذا باطل ليس كما قال الخلفي.

_ 1 أي حضرته الوفاة.

وقال الزبير: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن عبد الحكم بن سفيان بن أبي نمر، قال: كان أبو غبشان الخزاعي يلي البيت، وكان هو وقصي بمكة، فتحالفا على أن لا يبغي أحدهما على صاحبه، ثم ابتاع قصي المفتاح؛ فقدم مكة؛ فقال لقومه: هذا مفتاح بيت أبيكم إسماعيل، قد رده الله تعالى عليكم من غير ولا ظلم؛ فلما أفاق أبو غبشان ندمه قومه، وعابوا عليه ما صنع، فجحد البيع؛ فقال: إنما رهبته عنده رهنا بحقه. فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غبشان. فذهبت مثلا. ووقعت الحرب بين قصي وبين غبشان، وقومهما قريش وخزاعة، فذلك قول الشاعر: أبو غبشان أظلم من قصي ... وأظلم من بني فهر خزاعة فلا تلحوا قصيا في شراه ... ولوموا شيخكم إن كان باعه1 وذكر الفاكهي الخبر الذي رواه الزبير عن الموصلي، ووقع في الخبر الذي ذكره الفاكهي عن الزبير فائدتان لا يفهمان من الخبر الذي نقلناه عن الزبير من كتابه. إحداهما: أن اشتراء قصي من أبي غبشان لمفتاح البيت كان بالطائف. والأخرى: أنه اشترى ذلك بزق خمر. وذكر الفاكهي أن الذين قدم بهم رزاح لنصر أخيه قصي كانوا ثلاثمائة رجل، روى ذلك الفاكهي بسنده عن كرامة بنت المقداد بن عمرو الكندي، المعروف بالمقداد الأسود، عن أبيها. وذكر الفاكهي أيضا ما يقتضي أن قدوم رزاح على أخيه قصي، كان بعد أن نفى خزاعة، والمعروف أن قصي لم يقاتل خزاعة إلا بعد أن قدم عليه أخوه رزاح. وفي الخبر الذي فيه ما ذكرناه من قدوم رزاح على أخيه بعد نفي خزاعة شيئًا من خبر قصي لم يسبق له ذكر، فحسن ذكره لما في ذلك من الفائدة. ونصه على ما في كتاب الفاكهي. حدثنا الزبير بن أبي بكر، قال: قال أبو الحسن الأثرم، قال أبو عبيدة: قال محمد بن حفص: قدم رزاح وقد نفي قصي خزاعة، وقال بعض مشيخة قريش: إن مكة لم يكن بها بيت في الحرم؛ إنما كانوا يكونون بها حتى إذا أمسوا خرجوا، لا يستحلون أإن يصيبوا فيها جناية، ولم يكن بها بيت قائم؛ فلما جمع قصي قريشا- وكان أدهى من رؤي في العرب- قال لهم: أرى أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت، فوالله لا

_ 1 مروج الذهب 2/ 58.

يستحل العرب قتالكم، ولا يستطيعون إخراجكم منه، وتسكنوه فتسودون العرب أبدا1. فقالوا: أنت سيدنا، رأينا لرأيك تبع. فجمعهم، ثم أصبح بهم في الحرم حول البيت؛ فمشت إليه أشراف كنانة، وقالوا: إن هذا عند العرب عظيم، ولو تركناك ما تركتك العرب؛ فقال: والله لا أخرج منه، فثبت، وحضر الحج؛ فقال لقريش: قد حضر الحج، وقد سمعت العرب بما قد صنعتم، وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجا، ففعلوا، فجمع من ذلك شيئا كثيرا. فلما جاء أوائل الحاج نحر على كل طريق من طرق مكة جزورا، ونحر بمكة، وجعل حظيرة؛ فجعل فيها الطعام من الخبر والثريد واللحم، فمن مر باللحم والثريد أكل، ومن قدم دخل الحظيرة فأكل، وسقى الماء واللبن المحض، ثم صدروا على مثل ذلك، فصدر روادهم وهم يقولون: إن الحجيج طاعمين دسما ... عن الحسا مستحقين ... 2 أشبعهم زيد قصي لحما ... ولبنا محضا وخبزوا هشما ولم يكن بنو عامر بن لؤي ترفد مع قريش شيئا ... انتهى. وزيد: اسم قصي على ما ذكر الزبير؛ لأنه قال: كان اسم قصي: زيدا؛ وإنما سمي قصيا لأنه يقصي عن مكة، وخرجت به أمه منها إلى غيرها. وذكر الزبير عن قصي أخبارا غير ما سبق، وذكر أنه قال فيما رويناه عنه: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن عبيدة، قال: كان قصي يلي الرفادة، ويسقي الحاج اللبن والزبيب. وقال الزبير: قال أبو الحسن الأثرم: قال أبو عبيدة: حدثنا خالد بن أبي عثمان، قال: كان قصي أول من ثرد الثريد؛ فأطعم بمكة، وسقى اللبن بعد نابت بن إسماعيل فقال قائل: ولم يسموه هاشما: أشبعهم زيد قصي لحما ... ولبنا محضا وخبزا هشما وقال الزبير: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن عبد الحكيم بن سفيان بن أبي نمر قال: لما ولد لقصي أول ولد سماه عبد مناة، ثم نظر؛ فإذا هو موافق لاسم عبد مناة بن كنانة؛ فأحاله إلى عبد مناف3 بن كنانة؛ وإنما سمي عبد الدار لأنه حين هدم

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 170، والعقد الثمين 1/ 13. 2 هكذا في الأصل. 3 كان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب شرفه كل مذهب ولم يبلغ أحد من أولاد قصي ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف والعز.

الكعبة وأراد بناءها حضر الحج قبل بنيانها، وهي مهدومة؛ فأحاط عليها دارا من خشب، وربطها بالحبال ليدور الناس منوراء الدار؛ فولد له عبد الدار، فسماه بها: عبد الدار. وأما عبد بني قصي؛ فإنه سماه عبد قصي فكان بذلك يدعى، ثم أحال اسمه، فقيل له: عبد بن قصي. قال الزبير: وقال غير الموصلي: قال قصي: ولد لي، فسميت اثنين بآلهة -يعني: عبد مناف وعبد العزى- وسميت الثالث بداري، يعني: عبد الدار، وسميت الرابع بنفسي -يعني: عبدا- فكان يقال لعبد بن قصي: عبد قصي الصنم. وقال الزبير: حدثني محمد بن حسن قال: إنما سمي عبد مناف لأن أمه أخدمته صنما يقال له: مناف، ويقال: إن أباه أخدمه ذلك الصنم. وقال الزبير: وروي أن قصيا قال للأكابر من ولده: من عظم لئيما شركه في لؤمه. ومن استحسن مستقبحا شرك فيه، ومن لم تصلحه كرامة كبر فدعوه بهوانه فأداء يحسن الداء. وروى الزبير بسنده عن محمد بن جبير بن مطعم قال: إن قصي بن كلاب كان يعشر1 من دخل مكة من غير أهلها. وقال الزبير: وحدثني إبراهيم بن المنذر عن الواقدي قال: مات قصي بمكة فدفن بالحجون، فتدافن الناس بعده بالحجون ... انتهى. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن قصي بن كلاب أظهر الناس الحجر الأسود بعد دفن جرهم له؛ لأنه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود، قال: إن يعقوب بن عبد الله بن وهب حدثنه، وعن أبيه أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -وهي جدته- قالت: قدم قصي بن كلاب -يعني مكة- فقطع غيضة كانت، ثم ابتنى حول البيت دارا، ونكح حبي بنت حليل الخزاعي؛ فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى بن قصي. ثم قال: فقال قصي لامرأته: قولي لأمك تدل بنيك على الحجر الأسود؛ فإنما هم يلون البيت؛ فلم يزل بها: يا أمه دليني عليه فإنما هم بنوك، ولم يزل، بها حتى قالت: فإني أفعل، إنهم حين خرجوا إلى اليمن سرقوه، فنزلوا منزلا -وهم معهم- فبرك الجمل الذي عليه الحجر فضربوه؛ فقام، ثم ساروا فبرك، فضربوه، ثم ساروا الثالثة، فقالوا:

_ 1 أي يجبي منه العشر.

ما يبرك إلا من أجل الحجر، فدفنوه؛ وذلك في أسفل مكة، وإني لأعرف حيث برك. فخرجوا بالحديد، وخرجوا بها، فأرتهم حيث برك أول الشأن؛ فلا شيء. ثم المكان الثاني، فلا شيء. ثم الثالث، فقالت: احفروا هاهنا، فحفروا حتى أيسوا منه، ثم ضربوا فأصابوا، فأخرجوه؛ فأتى به قصي فوضعه موضعه في الأرض، فكانوا يتمسحون به وهو في الأرض، حتى بنت قريش الكعبة. ثم روى الفاكهي بسنده عن أم سلمة -رضي الله عنهما- أنها قالت: منزل الجعل الأول عند الجزارين، ثم دلتهم على المنزل الثاني عند سوق البقر1. وذكر هذا الخبر محمد بن عائذ في "مغازيه" وفيه نظر؛ لما فيه أن الحجر الأسود لم يزل مدفونا على عهد قصي، وقد بينا ذلك في أخبار الحجر الأسود؛ فأغنى ذلك عن إعادته. وقصي بن كلاب أحدث وقود الناس بالمزدلفة ليراها من دفع من عرفة، على ما ذكر القطب الحلبي. وكلامه يوهم أن أبا محمد عبد الله بن محمد العلاطي صاحب "الاشتمال" نقل ذلك عن أبي عبيدة، والله أعلم. وفي "العقد" لابن عبد ربه أن قصي بن كلاب، بني قزح: موضع الوقوف بالمزدلفة2، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 174. 2 لم أجد في كتاب العقد الفريد هذه المعلومة التي ذكرها الفاسي أعلاه.

الباب الثالث والثلاثون

الباب الثالث والثلاثون: في ذكر شيء من خبر بني قصي بن كلاب: وتوليتهم لما كان بيده من الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، والقيادة، وتفسير ذلك. قال ابن إسحاق1: فلما كبر قصي ورق عظمه، وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب كل مذهب، وعبد العزي، وعبد قصي، قال قصي لعبد الدار: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تقوم أنت بفتحها لهم، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك. فأعطاه دار الندوة التي لا تقضي قريش أمرا إلا فيها، وأعطاه أيضا الحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة. وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاج، فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد؛ وذلك أن قصيا فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله -تعالى- وأهل بيته، وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم؛ ففعلوا، وكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا، فيدفعونه إليه، فيصنع به طعاما للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلا يومنا هذا؛ فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس، حتى ينقضي الحج.

_ 1 السيرة لابن هشام 1/ 119.

قال ابن أسحاق، حدثني بهذا من أمر قصي بن كلاب، وما قال لعبد الدار فيما دفعه إليه مما كان بيده أبو إسحاق بن يسار عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بني عبد الدار يقال له: نبيه بن وهب بن عارم بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال الحسن: فجعل إليه قصي كل ما كان بيده من أمر قومه، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه. قال ابن إسحاق: ثم إن قصي بن كلاب هلك؛ فأقام أمره في قومه من بعده بنوه، فاختطوا مكة رابعا بعد الذي كان قطع لقومه بها؛ فكانوا يقطعونها في قومهم وفي غيرهم من حلفائهم، ويبيعونها، فأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع، ثم إن بني عبد مناف بن قصي، وبني عبد شمس وهاشما، والمطلب، ونوفلا، أجمعوا على أن يأخذوا ما في أيدي عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار من الحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم؛ فترفقت عند ذلك قريش؛ فكانت طائفة من بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم، وكانت طائفة مع بني عبد الدار يرون أن لا ينزع منهم ما كان قصي جعل إليهم. فكان صاحب أمر بني عبد مناف: عبد شمس بن عبد مناف؛ وذلك أنه كان أسن بني عبد مناف، وكان صاحب أمر بني عبد الدار: عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان بنو أسد بن العزي بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو الحرث بن فهر بن مالك بن النضر، مع بني عبد مناف. وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب وبنو كعب بن عمرو بن هصيص، وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار. وخرجت عامر بن لؤي، ومحارب بن فهر؛ فلم يكونوا مع واحد من الفريقين. فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة1؛ فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فيزعمون أن نساء بني عبد مناف أخرجنها لهم؛ فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسم، فسموا المطيبين.

_ 1 من عادة قريش إذا أرادت عقد عهد بينها أن تقول: "ما أقام ثبير، وما بل بحر صوفه" وهذا من الأبدايات.

وتعاقد بنو عبدج لدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا؛ على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف. ثم سوند1 بين القبائل ولز2 بعضها ببعض، فعبأت بنو عبد مناف لبني سهم، وعبأت بنو أسد لبني عبد الدار، وعبأت زهرة لبني جمح، وعبأت بنو تيم لبني لمخزوم، وعبأت بنوا الحارث بن فهر لبني عدي بن كعب، ثم قالوا: لتعن كل قبيلة فيما أسند إليها. فبينا للناس على ذلك قد أجمعوا للحرب؛ إذ تدعو للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة، واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت؛ ففعلوا، ورضي كل واحد من الفريقين بذلك، وتحاجز الناس علن الحرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة" 3. ثم قال ابن إسحاق، فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف؛ وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا، قل ما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد، وكان هاشم موسرا، وكان -فيما يزعمون- إذا حضر الحج قام في قريش، فقال: يا معشر قريش؛ إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته، وهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه؛ فأجمعوا له ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها؛ فإنه والله لو كان مالي يسع ذلك ما كلفتموه؛ فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم، كل امرئ بقدر ما عنده، فيصنع به للحاج طعاما حتى يصدروا منها. وكان هاشم -فيما يزعمون- أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف، وأول من أطعم الثريد بمكة؛ وإنما كان اسمه عمرا فما سمي هاشما إلا لهشمه الخبز بمكة لقومه. وقال شاعر من قريش، أو من بعض العرب: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز قوله: قوم بمكة مسنتين عجاف

_ 1 السيرة لابن هشام 1/ 154. 2 لز: أي شدة وألصقه. 3 السيرة لابن هشام 1/ 111-122، والحديث أخرجه الترمذي 1585، وأبو داود 5925، والدارمي 2526.

قال ابن إسحاق، ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرا؛ فولي السقاية والرفادة من بعد المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم، وكان ذا شرف في القوم وفضل، وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته وفضله1. ثم قال ابن إسحاق: ثم هلك المطلب بردمان2 من أرض اليمن؛ فقال رجل من العرب يبكيه: قد طمئ3 الحجيج بعد المطلب ... بعد الجفان والشراب المنثغب ليت قريشا بعده على نصب وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي المطلب وبني عبد مناف جميعا حين أتاه نعي نوفل بن عبد مناف، وكان نوفل آخرهم هلكا، فذكر أبياتا4. ثم قال ابن إسحاق: وكان أول بني عبد مناف هلكا هاشما بغزة من أرض الشام، ثم عبد شمس بمكة، ثم المطلب بردمان من أرض اليمن، ثم نوفلا بسلمان من ناحية العراق؛ فقيل لمطرود -فيما يزعمون: لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل ما هو لكان أحسن، فقال: أنظروني ليالي، فمكث أياما. قم قال: عصيت ربي باختيار ... أم بحكم الإله فينا فبسط اليدين إلى القفا ... خير فخر السابقينا وهذا قول السابق ذكره: يا عين جودي وادرالدمع وانهمري ... وأبكي على السر من كعب المغيرات وأبكي على كل فياض أخي ثقة ... ضخم الدسيعة وهام الجزيلات صعب الدسيعة لا نكس ولا ... وكل ماض العزيمة متلاف الكريمات

_ 1 سيرة ابن هشام 1/ 142، 125. 2 ردمان: مكان باليمن كما في معجم البلدان، ولم يزد مؤلف المعجم شيئا على ذلك؛ غير أنه أورد أبياتا تدل على أن موت المطلب بن عبد مناف كان بها "معجم البلدان 3/ 40". 3 في سيرة ابن هشام 1/ 162: "ظمئ". 4 بياض في الأصل، وهذه الأبيات هي: أخلصهم عبد مناف فهم ... من لوم من لام بمنجاة قبر بردمان وقبر بسل ... مان وقبر عند غزاة وميت مات قريبا بمن الـ ... حجون من شرق البنيات ثم قال ياقوت الحموي: فالذي بردمان: المطلب بن مناف، والذي بسلمان: نوفل بن عبد مناف، والقبر الذي عند غزة لهاشم بن عبد مناف، والذي يقرب الحجون: عبد شمس بن عبد مناف "معجم البلدان 3/ 40".

صقر توسط من كعب إذا نسبوا ... بحبوبة المجد والشيم الرفيعات ثم اندبني الفيض الفياض مطلبا ... واستحرصي عبد فيضات بحمسات1 أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا ... يا لهف نفسي عليه بين أموات وأبكي لك الويل ما كنت باكية ... لعبد شمس سرفي الثنيات وهاشم في ضريح وسط بلقعة ... تسفي الرياح عليه بين غزات ونوفل كان دون القوم خالصتي ... أمسى بسلمان في رمس بموماة لم ألق مثلهم عجما ولا عربا ... إذا استقلت بهم أدم المطيات أمست ديارهم منهم معطلة ... وقد يكونون نورا في الملمات2 ثم قال: يا عين وابكي أبا الشعث الشجيات ... تبيكه حسرا مثل البليات تبكين أكرم من يمشي على قدم ... بغولنه بدموع بعد عبرات ومنها: تبكين عمرو العلا إذا حان مصرعه ... سمح السجية بسام العشيات ومنها: ما في القروم لهم عدل ولا خطر ... ولا لمن تركوا سروا بقيعات ومنها: أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم ... خير النفوس لذي جهد الأليات ومنها: زين البيوت التي حلوا مساكنها ... فأصبحت منهم وحشا خليات أقول والعين لا ترقا مدامعها ... لا يبعد الله أصحاب الرزيات3 ثم قال ابن إسحاق: ثم ولي عبد المطملب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباءه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وعظم خطر فيهم4 ... انتهى.

_ 1 في السيرة لابن هشام 1/ 126: "واستخرطي بعد فيضات بجمات". 2 في السيرة لابن هشام 1/ 136: "زينا في السريات". 3 السيرة لابن هشام 1/ 126-128. 4 السيرة لابن هشام 1/ 126-129.

وذكر الفاكهي أخبارا تتلعق ببني قصي بن كلاب، وبني عبد مناف بن قصي، وبني عبد الدار بن قصي، وأفاد في ذلك غير ما سبق، فاقتضى ذلك ذكر ما ذكره من ذلك، لما فيه من الفائدة. قال الفاكهي: حدثنا عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق، قال: ثم إن بني عبد مناف، وعيد شمس، وهاشم، والمطلب ... " ثم قال بعد أن ذكر أمهم وأم نوفل فبن عبد مناف: أجمعوا على أن يأخذوا منا بأيدي بني عبد الدار بن قصي من الحجاجة، والسقاية، والرفادة، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف في رأيهم، يرون أنهم أحق بذلك من بنيعبد الدار، وكانت طائفة مع بني عبد الدار، لا يرون أن يغير عنهم ما كان قصي جعل إليهم. وذكر نحو ما سبق؛ إلا أنه قال بعد أن ذكر تعاقد كل من الفريقين: فأخرجت عاتكة بنت عبد المطلب طيبا، فوضعته لأحلافهم، ثم غمس القوم أيديهم فيه حين تعاقدوا وتهاهدوا، ثم مسحوا بها الكعبة، فسموا: حلف المطيبين1. وفي هذا الخبر من الفائدة غير ما سبق: كون عاتكة بنت عبد المطلب هي المخرجة لقومها جفنة الطيب، وفي ذلك نظر لتأخرت زمنها عن زمن عم أبيها عبد شمس القائم بأمر بني عبد مناف في هذه القصة، وكذلك في كون عامر بن هاشم، بن عبد مناف بن عبد الدار القائم بأمر بني عبد الدار حين نازعهم بنو عبد مناف نظر؛ لتأخر زمن عامر بن هاشم بن زمن عبد شمس ... انتهى، والله أعلم. وقال الفاكهي: وحدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني محمد بن فضالة، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، قال: حدثني ابن شهاب، قال: كانت السقاية في بني المطلب، وكانت الرئاسة فيبني عبد مناف كلهم، وكانت الرفادة في بني أسد بن عبد العزى، واللواء والحجابة في بني عبد الدار؛ فمشوا إلى سهم فحالفوهم، وقالوا لهم: امنعونا من بني عبد مناف؛ فلما رأت ذلك البيضاء التي يقال لها: أم حكيم بنت عبد المطلب، أخذت جفنة فملأتها خلوقا، ثم وضعتها في الحجر؛ فقالت: من تطيب بهذا الطيب فهو منا. فتطيب بنو عبد مناف، وأسد وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحرث بن فهر؛ فسموا: المطيبين؛ فلما سمعت بذلك بنو سهم نحروا جزورا، وقالوا: من تطيب بهذا الطيب فهو منا. فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحرث بن فهر، فسموا: المطيبين؛ فلما سمعت بذلك بنو سهم نحروا جزورا، وقالوا: من أدخل يده فيدمها فلعق منها فهو منها. فأدخلت أيديها: بنو سهم، وبنو عدب الدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم؛ فلما فعلوا ذلك وقع الشر بينهم، فتزاجعوا وقالوا: والله لئن اقتتلنا لتدخلن العرب علينا، فأقروهم على حالهم، فسمى هؤلاء. المطيبين

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 76.

وهؤلاء: الأحلاق؛ فقال أبو طلحة عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار: أتاني أن عمرو بن هصيص ... أقام وأنني بهم حليف وأنهم إذا حدثوا لأمر ... فلا إلف أكون ولا ضعيف1 ... انتهى. وفي هذا الخبر من الفائدة على ما سبق بيان ما جاء بالجفنة التي فيها الطيب، وهي أنها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب. وفيه من النظر ما سبق في أخيها، والله أعلم. وفي هذا الخبر ما يشعر بأن القائم بأمر بني عبد الدار حين نازعهم بنو عبد مناف: أبو طلحة عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار. ويتأيد ذلك بما في الخبر الآتي ذكره، إن شاء الله تعالى. قال الفاكهي: حدثنا حسن بن الحسن الأزدي، حدثنا محمد بن حبيب، عن ابن الكلبي قال: وإن بني عبد مناف لما زاد شرفهم وكثرتهم، أراداوا أخذ البيت من بني عبد الدار؛ فأرسلوا إلى أبي طلحة وهو عبد الله بنعبد العزى بن عثمان بن عبد الدار أن أرسل إلينا بمفتاح عبد الدار بن قصي، فعادتهم من بني عبد مناف ... وذكر نحو حديث ابن شهاب؛ إلا أنه قال: لما غمسوا أيديهم قالوا: والله لا يسلم أحدا منا أحدا، وخلطوا نعالهم بفناء الكعبة، فسموا: الأحلاف لخلطهم نعالهم، وتحالفهم في البيت ... انتهى,. ثم قال: وقال أبو طلحة عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار شعرا ذكره، وهما البيتان في حديث ابن شهاب، قال: بنو سهم نحن نكفيكموهم ... إن قاتلوا قاتلنا وإن رفدوا رفدنا ... وإن فعلوا فعلنا1 ... انتهى. فصرح في هذا الخبر بما يقتضي أن القائم بأمر عبد الدار: أبو طلحة؛ وذلك يخالف الخبر الذي ذكره الفاكهي عن ابن إسحاق؛ فإنه يقتضي إن القائم بأمر بني عبد الدار: حينئذ: عارم بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، والله أعلم. وقال الفاكهي: وحدثنا عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا عمر بن أبي بكر الموصلي، عن بني عدي بن كعب، قال: حدثني

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 177.

الضحاك بن عثمان الحرامي، قال: حدثني ابن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن عروة، عن حكيم بن حزام، قال: لما حضر عبد الدار الموت جعل الندوة، واللواء، والرفادة، إلى ابنه عثمان بن عبد الدار؛ فقال أمية بن عبد شمس لعثمان بن عبد الدار: طب لي نفسا عن واحدة من هذه الثلاث، فأبى، فقال: إذا، لا أدعيك، فأستخرج عثمان بن عبد الدار قريشا؛ فقالت له بنو مخزوم، وجمح، وسهم، وعدي: نحن معك، وتقع لك هذه الخصال، ونحالفك. قال: نعم، فتحالفوا، فمنعوها له ... انتهى. وفي هذا الخبر من الفائدة أن القائم بأمر بني عبد الدار حينئذ: عثمان بن عبد الدار وأن القائم بأمر بني عبد مناف حينئذ: أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وقال الفاكهي: وحدثني عبد الله بن سلمة قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثني ابن لهيعة، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الأسود، قال: يذكر أنه لما توفي عبد بن قصي، وكان اللواء بيده، أخذه عبد الدار؛ لأنه أكبر إخواته، فحسده إخواته، فذهب فخالف بني مخزوم، وعدي1 ... انتهى. وهذا يقتضي أن التنازع وقع بين عبد الدار وإخوته، وهذا لا يفهم مما سبق، والله أعلم. ويتحصل من مجموع هذه الأخبار في القائم بأمر بني عبد الدار، حين نازعهم بنو عبد مناف، ثلاثة أقوال: أولها: أنه عامر بن هاشم عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. وثانيها: أنه أبو طلحة بن عبد العزى بن عدب الدار بن قصي. وثالثها: أنه عثمان بن عبد الدار ... والله أعلم. ويتحصل في القائم بالأمر حين نازعه عبد الدار قولان: أحدهما: أنه عبد شمس بن عبد مناف. والآخر: أنه أمية بن عبد شمس. ويتحصل في القائم بالأمر حين نازعه عبد الدار قولان: أحدهما: أحدهما: أنه عبد شمس بن عبد مناف. والآخر: أنه أمية بن عبد شمس. ويتحصل في التي أخرجت الجفنة التي فيها الطيب لقومها وحلفائهم قولان: أحدهما: أنها عاتكة بنت عبد المطلب. والآخر: أنها أم حكيم؛ البيضاء بنت عبد المطلب، والله أعلم. قال الفاكهي: وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: ثم هلكت أعيان بني عبد مناف، فأقام عبد شمس بن عبد مناف على ما

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 178 قال محقق أخبار مكة: وفي سنده اضطراب شديد.

كان بيد عبد مناف، وكان أكبر ولده؛ فأقام أمر بني عبد مناف؛ فلما انتشرت قريش -سكان مكة، قلت عليهم المياه، واشتدت عليهم المؤونة1 ... انتهى. وهذا يفهم أن عبد شمس بن عبد مناف ولي شيئا من مآثر قصي. وفيما سبق ذكره عن ابن إسحاق في سيرته ما يشعر بأنه لم يل شيئا، والله أعلم. ولعل الصواب: فأقام هاشم بن عبد مناف، فتصفحت في كتاب الفاكهي بعبد شمس، وبذلك يتفق ما نقله الفاكهي عن ابن إسحاق مع ما نقلناه عن ابن إسحاق من سيرته، والله أعلم. وقال الفاكهي: وحدثنا الزبير بن أبي بكر، قال: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن زكريا بن عيسى، عن ابن شهاب أنهما كانا حلفين اثنين: فأما حلف قريش الأول فإن بني كلاب تكثروا على بطون بني كعب بن لؤي، فتحالف عليهم تلك الأحلاف: مخزوم، وعدي، وسهم، وجمح؛ فانطلق المطيبون، وكان حلفهم أن جعلوا جفنه من طيب، فتطيبوا بها، فسموا المطيبين بذلك الطيب في الجفنة، وسميت الأحلاف بتحالفهم عليه، أن جعلوا جفنه دم، فغمسوا أيديهم فيها2. زاد الزبير بن أبي بكر في حديثه: وأن الأحلاف عبوا لكل قبيلة قبيلة، وأنكروا شأن بني عبد الدار وولايتهم الكعبة، واللواء، والندوة: فقالوا: ما شأن هؤلاء إخواننا يلون علينا هذا وهم قليل؟ لننزعنه من أيديهم. وأنهم عمدوا إلى مفتاح الكعبة؛ فأخذوه من عثمان بن عبد الدار وبنيه، وأن بني بعد الدار أطافوا إلى الأحلاف لكل قبيلة، فعبت بنو سهم لبني عبد مناف3 ... انتهى باختصار. وفي هذا الخبر من الفائدة غير ما سبق، أن الحلف الذي يقال له حلف المطيبين كان قبل منازعة بني عبد مناف لبني عبد الدار فيما كان بيد الدار، والله أعلم. قال الفاكهي: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي، قال: حدثني محمد بن فضالة الثمري، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: كانت الرفادة إلى عبد العزى بن قصي، وكانت الحجابة، واللواء والندوة إلى إلى عبد الدار بن قصي، وولد عبد مناف بن قصي خمسة نفر: عمرا، وهاشما، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل4 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 178. 2 الروض الأنف 1/ 153، أخبار مكة للفاكهي 5/ 179.؟ 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 179. 4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 183.

وهذا الخبر يقتضي أن عبد العزى بن قصي ولي الرفادة، وما ذكرناه عن ابن إسحاق في سيرته يقتضي خلاف ذلك، والله أعلم. وقال الفاكهي: وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: فلما هلك قصي أقام عبد مناف أمر قريش، وهو أقام أمرهم بعده، واختط بمكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه؛ فكان يعطيها في قريش وفي غيرهم، وهو عقد حلق الأحابيش، والأحابيش: عضل، والقارة، ودوس، ورعل رهط سفيان بن عوف، والحليس بن زيد، وخالد بن عبد بن أبي فايض بن خالد1 ... انتهى. وقال الفاكهي: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد الله بن زيد، قال حدثني ابن لهيعة، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الأسود، قال: يذكر أنه لما توفي عبد بن قصي، وكان اللواء بيده، بأخذه عبد الدار؛ لأنه أكبر إخوته، فحسده إخوته، فذهب فحالف بني مخزوم، وعدي، وتوفي عبد مناف، فأخذ السقاية هاشم؛ لأنه كان أكبر ولده. وتوفي أسد، فأخذ الندوة المطلب؛ لأنه أكبر ولده، فلم يزل بأيديهم حتى باعها زمعة بن الأسود لمعاوية، فلذلك يقول الشاعر: بعتم سناكم ومجدكم ... ولم تبقوا بمكة دارا2 وهذا الخبر يشعر بأن عبد بن قصي كان إليه الندوة، وأن عبد مناف بن قصي كانت إليه السقاية؛ وذلك يخالف ما ذكرناه عن ابن إسحاق من سيرته، والله أعلم. وقال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن الأسود، أن يعقوب بن عبد الله بن وهب حدثه، عن أبيه قال: إن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -وهي جدته- حدثته فقالت: قدم قصي بن كلاب -يعني مكة- فقطع غيضة كانت، ثم ابتنى حول البيت دارا، ونكح حبي بنت حليل الخزاعي؛ فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى بن قصي، بفأول ما ولد لهخ سماه عدب الدار بداره تلك، ثم سمي عبد مناف بمناف، ثم سمي عبد العزى، وكانت أم حبي الخزاعية جرهمية عجوزا قديمة؛ فقال لها: إنما يلي سمي عبد العزى، وكانت أم حبي الخزاعية جرهمية عجوزا قديمة، فقال لها: إنما يلي البيت بنوك، وجعل الحجابة إلى عبد الدار؛ لأنه أكبرهم، والسقاية لعبد مناف، واللواء لعبد بن قصي، والرفادة -وهي دار الندوة- لعبد العزى ... انتهى باختصار.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 182. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 183.

وهذا صريح في أن قصي بن كلاب قسم مآثره بين بنيه الأربعة؛ وذلك يخالف ما ذكره ابن إسحاق في سيرته، والله أعلم. وقال الفاكهي: وحدثنا حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: كانت الرياسة أيام بني عبد مناف بن قصي، وكان القائم بأمور قريش والمنظور إليه فيها، ثم أفضى ذلك بعده إلى هاشم؛ ابنه، فرب ذلك بحسن القيام؛ فلم يكن له نظير من قريش ولا مساو، ثم صارت الرياسة لعبد المطلب، وفي كل قريش رؤساء؛ غير أنهم كانوا يعرفون لعبد المطلب فضله وتقدمه وشرفه؛ فلما مات عبد المطلب، صارت الرياسة لحرب بن أمية؛ فلما مات حرب بن أمية، تفرقت الرياسة والشرف ببني عبد مناف وغيرهم من قريش. وقال الفاكهي: قال: حدثنا الزبير، قال محمد بن الحسن: كان هؤلاء الأربعة من بني عبد مناف: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل، أول من رفع الله تعالى بهم قريشا، إنما كانت تتجر بمكة، وتبضع مع من يخرج من الأعاجم، فركب هاشم فأخذ له خيلا من قيصر، فتجروا إلى الشام، وركب المطلب فأخذ له خيلا من ملوك اليمن، فتجروا إلى اليمن بذلك الخيل، وركب نوفل فأخذ لهم خيلا من النجاشي، فتجروا بذلك الخيل إلى أرض الحبشة. وقال الفاكهي: قال: حدثنا الزبير، وحدثنا محمد بن الحسن، عن العلاء بن حسين، عن أفلح بن عبد الله بن المعلي عن أبيه وغيره من أهل العلم قالوا: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل، هم: الزنبور، وبنو هاشم يدان، وبنو المطلب يد، فإن دهمهم غيرهم صاروا يدا واحدة. على ذلك كانوا في الجاهلية دون بني عبد مناف، وبنو عبد مناف يدان: هاشم والمطلب، وهم البدران، وعبد شمس ونوفل يد، وهم الأبهران. قال: وكانت العرب تسمي هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا: أقداح النظار، فإن دهمهم غيرهم اجتمعوا فصاروا يدا واحدة1. وقال الفاكهي: وحدثني الزبير بن أبي بكر قال: حدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبيدة، قال: كان يقال لهاشم وعبد شمس والمطلب بني عبد مناف: المحيزون. وقال الفاكهي: وحدثني الزبير بن أبي بكر، قال: حدثني محمد بن الحسن قال: كان هاشم رئيس بني عبد مناف: وعبد شمس رئيس بني أمية. قال الزبير: وذلك الثبت عندنا. قال أخبرني عبد العزى: اللهم إني قائل قو ... ل ذي دين وبر وحسب

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 179 وسمط النجوم العوالي 1/ 214.

عبد شمس لا تهنها إنما ... عبد شمس عم عبد المطلب عبد شمس كان يتلو هاشما ... وهما بعد لأم وأب وقال الفاكهي: وحدثنا حسن بن حسين، قال: حدثنا أبو جعفر بن حبيب، عن أبي الكلبي، قال: فلما مات هاشم بخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن؛ فأخذ من ملوكهم عهدا لمن نفر قبلهم من قريش قبل أن يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب؛ حتى على مثل ما كان هاشم أخذ، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف1 ... انتهى. وهذا الخبر يخالف الذي قبل؛ إلا أن يكون قوله في حق المطلب، وكان المطلب أكبر، والله أعلم. وقد طال الكلام في أخبار بني عبد مناف، وأخبار عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، مما له تعلق فيما ذكره ابن إسحاق من خبر المشار إليهم، ومما ليس له تعلق بذلك، وفيما ذكرناه منه كفاية، ونتبع ذلك بفوائد، ذكرها هو وغيره، تتعلق بما ذكرناه من خبر المشار إليهم. منها: أن الفاكهي لما ذكر أخبار بني قصي بن كلاب، ترجم عليها بما نصه: "ذكر تولية قصي بن كلاب بنيه أمر مكة بعده، وقسمته إياها بينهم، وقيامهم بذلك بعده". ومنها: أنه قال لما ذكر أخبار بني عبد مناف: ذكر ولاية المطلب بن عبد مناف أمر مكة بعد أخيه وتفسير ذلك؛ وذلك إشارة إلى أن المشار إليهم كانوا ولاة مكة. ومنها: أنه قال لما ذكر ولاية عبد المطلب: حدثنا عبد الملك بن محمد عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق، قال: ولي السقاية والرفادة بعد المطلب بن عبد مناف: عبد المطلب بن هاشم، وتزعم بنو أسد أن الحويرث بن أسد قد ولي الرفادة في بعض الزمان، وقد كانت بنو أسد تقول ذلك، ولم يسمع ذلك بتاتا2 ... انتهى. وفي هذا ما يشعر بأن الحويرث بن أسد ولي الرفادة في زمن عبد المطلب، على ما قيل؛ وذلك لا يفهم من الأخبار السابقة عن ابن إسحاق، والله أعلم بصحة ذلك. ومنها: أن صاحب "المورد العذب الهني" نقل عن الرشاطي خبرا في خروج هاشم بن عبد مناف إلى الشام، وأخذه من قيصر الإيلام لقريش، ثم قال: وخرج عبد شمس إلى النجاشي بالحبشة، وأخذ كذلك وخرج نوفل إلى الأكاسرة بالعراق، وأخذ كذلك. وخرج المطلب إلى حمير وأخذ لهم كذلك ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 181. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 182.

وفي هذا الخبر من الفائدة على ماسبق، كون عبد شمس خرج إلى النجاشي بالحبشة، وأخذ منه لقومه الإيلاف؛ وذلك يخالف ما سبق من أن نوفل بن عبد مناف هو الذي أخذ لقومه الإيلام من النجاشي، والله أعلم. ومنها: أن هاشم وعبد شمس توأمان على ما قيل؛ ذكر ذلك صاحب "المورد العذب الهني"؛ لأنه قال: وقيل: إن هاشما وعبد شمس توأمان، وأن أحدهما ولد قبل الآخر. قيل: إن الأول هاشم، وأن إصبع أحدهما ملتصقة بجبهة، فنحيت، فسال دم، فقيل: يكون بينهما دم. ومنها: أنه اختلف في سن هاشم حين مات، فقيل: عشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة، ذكر هذه الفائدة صاحب "المورد". ومنها: أنه اختلف في سن عبد المطلب حين مات؛ فقال ابن حبيب في كتابه "المحبر"، إن عمر عبد المطلب خمسة وتسعون سنة، وأنه توفي سنة تسع من عام الفيل، وقال السهيلي: إن عبد المطلب مات وعمره مائة وعشرون سنة1 ... انتهى. وقيل: مائة وعشر سنين: وقيل: مائة وأربعون سنة، وقيل: اثنتان وثمانون سنة. ذكره هذه الأقوال الثلاثة: الحافظ مغلطاي في سريته. ودفن عبد المطلب على ما ذكره ابن عساكر بالحجون2. قال السهيلي: وظاهر حديث أبي طالب فثي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها"؛ فكان آخر كلامه: على ملة عبد المطلب، يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك. ووجدت في بعض كتب المسعودي اختلافا في عبد المطلب، وأنه قد قيل فيه: مات مسلما لما رأى من الدلالات على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم أنه لا يبعث إلا بالتوحيد3 والله أعلم. غير أنه في "مسند البزار"، وفي كتاب النسائي من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة وقد عزت قوما من الأنصار: "لعلك بلغت معهم الكدي" -قال: ويروي الكرى بالراء يعني القبور- فقالت: لا؛ فقال: "لو بلغت معهم ذلك ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك" 4.

_ 1 في الروض الأنف 1/ 7: "وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة". 2 هذا القول هو القول الذي يتلاءم مع المعروف عند أهل مكة حتى عصرنا الحاضر. 3 مروج الذهب 2/ 131. 4 أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب النعي -4/ 26-28.

وقال السهيلي: إنه أول من خضب بالسواد من العرب1 ... انتهى. وقال ابن الأثير: وهو أول من تحنت بحراء، وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين2. وقال ابن قتيبة: وكان يرفع من مائدة عبد المطلب للطير والوحوش في رؤوس الجبال، فيقال له: الفياض لجوده، ومطعم طير السماء ... انتهى. وكان مجاب الدعوة، يقال: أصاب الناس شدة؛ فاستسقى عبد المطلب على جبل أبي قبيس، فسقي، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام بين يدي عبد المطلب، وببركته صلى الله عليه وسلم سقوا. ذكر هذا الخير هشام بن الكلبي وأبو عبيدة معمر بن المثنى وغيرهما. وذكر ابن قتيبة أن عبد المطلب عمي قبل موته. وقيل: إن قصي بن كلاب قسم هذه الأمور بين أولاده كلهم، ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن المرواني قال: قسم قصي مكارمه بين ولده؛ فأعطى عبد مناف واسمه المغيرة: السقاية، والندوة، وفيه النبوة والثروة، وأعطى عبد الدار واسمه عبد الرحمن: الحجابة واللواء، وأعطى عبد العزى: الرفادة وأيام منى. قال: والرفادة الضيافة. وأيام منى كان الناس لا يجوزون إلا بأمره، ولم أسمع أيام منى إلا منه. قال: وأعطى عبد قصي جهتي الوادي، ولم أسمع في جهتي الوادي شيئا ... انتهى. وقيل: إن قصيا أعطى عبد مناف السقاية، والرفادة، والقيادة، وأعطى عبد الدار السدانة وهي الحجابة، ودار الندوة واللواء. ذكر ذلك الأزرقي في الخبر الطويل الذي رواه عن ابن جريج وابن إسحاق في ولاية قصي الكعبة وأمر مكة، وفيه شيء من خبر هذه الأمور، ولنذكر ذلك للفائدة. روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمنا بن ساج عن أبيه جريج، وابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه- قالا بعد ذكر ما سبق من خبر قصي بن كلاب: فحاز قصي شرف مكة، وابتنى دار الندوة، وفيها كانت قريش تقضي بعض أمورها. ولم يكن يدخلها من قريش من غير قصي إلا أبن أربعين سنة للمشورة، وكان يداخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفائهم؛ فلما كبر قصي ورق، وكان عبد الدار أكبر ولده وبكره، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب شرفه كل مذهب، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد بن قصي بها، لم

_ 1 الروض الأنف 7/ 1، الكامل لابن الأثير 2/ 14، المعارف لابن قتيبة "ص: 553". 2 الكامل لابن الأثير 2/ 15.

يبلغوا ولا أحد من قومهم من قريش، ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف والعز، وكان قصي وحبي ابنه حليل يحبان عبد الدار ويرأفان عليه، لما يريان عليه من شرف عبد مناف عليه، وهو أصغر منه، وقالت حبي: والله لا أرضي حتى يخص عهبد الدار بشيء يحلقه بأخيه. فقال قصي: والله لالحقنه به ولأحبونه بذروة الشرف، حتى لا يدخل أحد من قريش ولا غيرها الكعبة إلا بإذنه، ولا يقضون أمرا ولا يعقدون لواء إلا عنده، وكان ينظر في العواقب، فأجمع قصي على أن يقسم أمور مكة الست التي فيها الذكر والشرف والعز بين بنيه، فأعطى عبد الدار: السدانة وهي الحجابة، ودار الندوة، واللواء، وأعطى عبد مناف: السقاية، والرفادة، والقيادة. فأما السقاية: فهي حياض من أدم، كانت على عهد قصي توضع بفناء الكعبة، ويستقي فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقي الحاج. وأما الرفادة: فخرج كانت قريش تخرجه من أقواتها في كل موسم فتدفعه إلى قصي يصنع به طعاما للحاج، يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد؛ فلما هلك قصي أقيم أمره في قومه بعد وفاته على ما كان عليه في حياته، وولى عبد الدار حجابة البيت، وولاية دار الندوة، واللواء؛ فلم يزل يليه حتى هلك، وجعل عبد الدار الجابة بعده إلى ابنه عثمان بن عبد الدار، وجعل دار الندوة إلى ابنه عبد مناف بن عبد الدار؛ فلم يزل بنو عبد مناف بن عبد الدار يلون دار الندوة، دون ولد عبد الدار؛ فكانت قريش إذا أرادات أن تتشاور في أمر فتحها لهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، أو بعض ولده أو ولد أخيه، وكانت الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار درعها ثم درعها إياه. وانقلب بها أهلها فحجبوها، فكان عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار يسمى محيضا. وإنما سميت دار الندوة لاجتماع النداة فيها بندوتها فيجلسون فيها لإبرام أمرهم وتشاورهم. ولم يزل بنو عثمان بن عبد الدار يلون الحجابة دون ولد عبد الدار، ثم وليها عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده أبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده من بعده، حتى كان فتح مكة؛ فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أيديهم، وفتح الكعبة ودخلها، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة مشتملا على المفتاح؛ فقال له العباس بن عبد المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أعطنا الحجابة مع السقاية؛ فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: فما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتلك الساعة، فتلاها. ثم دعي عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال:

"غيبوه"، ثم قال: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه وتعالى؛ فأعلموا فيها بالمعروف خالدة تالدة، ولا ينزعها منكم أو من أيديكم إلا ظالم". فخرج عثمان بن أبي طلحة إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة مقامه؛ فلم يزل يحجب هو وولده وولد أخيه وهب بن عثمان، حتى قدم وفد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وولده مسافع بن طلحة بن أبي طلحة من المدينة، وكانوا بها دهرا طويلا؛ فلما قدموا حجبوا مع بني عمهم، فولد أبي طلحة جميعا يحجبون. وأما اللواء: فكان في أيدي بني عبد الدار كلهم، يليه منهم ذو السن والشرف في الجاهلية، حتى كان يوم أحد فقتل عليه من قتل منهم. وأما السقاية والرفادة والقيادة: فلم تزل لعبد مناف بن قصي يقوم بها حتى توفي؛ فولي بعده ابنه هاشم بن عبد مناف السقاية، والرفادة وولي عبد شمس بن عبد مناف القيادة؛ فكان هاشم بن عبد مناف يطعم الناس في كل موسم ما يجتمع عنده من ترافد قريش، كان يشتري بما يجتمع عنده دقيقا، ويأخذ من ذبيحة من دينه أو بقرة شيئا -فخذه أو غيره- فيجتمع ذلك كله، ثم تحرز به الدقيق ويطعمه الحاج؛ فلم يزل على ذلك من أمره حتى أصاب الناس في سنة جدب شديد، فخرج هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فاشترى بما اجتمع عنده من ماله دقيقا وكعكا، فقدم به مكة في الموسم، فهشم ذلك الكعك، ونحر الجزور وطبخها، وجعله ثريدا، وأطعم الناس -وكانوا في مجاعة شديدة- حتى أشبعهم؛ فسمي بذلك: هاشما، وكان اسمه عمرو، وفي ذلك يقول ابن الزبعرى السهمي: كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصها لعبد مناف الرائسين وليس يوجد رائس ... والقائلين هلم للأضياف والخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي والضاربين الكبش يبرق بيضه ... واللازمين1 البيض بالأسياف عمرو العلا هشم الثريد لمعشر ... كانوا بمكة مسنتين عجاف يعني بعمرو العلا: هاشما. فلم يزل هاشم على ذلك حتى توفي؛ فكان عبد المطلب يفعل ذلك؛ فلما توفي عبد المطلب قام بذلك أبو طالب في كل موسم، حتى جاء الإسلام وهو على ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل بمال يعمل به الطعام مع أبي بكر -رضي الله عنه- حين حج

_ 1 في أخبار للأزرقي 1/ 112 "والمانعين".

أبو بكر بالناس سنة تسع، ثم عمل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. ثم أقامه أبو بكر -رضي الله عنه- في خلافته، ثم عمر -رضي الله عنه- في خلافته، ثم الخلفاء هلم جرا، إلى الآن. وهو طعام الموسم الي يطعمه الخلفاء اليوم في أيام الحج بمكة ومنى، حتى تنقضي أيام الموسم. وأما السقاية: فلم تزل بيد عبد مناف؛ فكان يسقي الناس الماء من بئر رم، وبئر خم1 على الإبل في المزاد2 والقرب، ثم يسكب ذلك الماء في حياض من أدم بفناء الكعبة، فيرده الحاج حتى يتفرقوا؛ فكان يستعذب ذلك الماء. وقد كان قصي حفر بمكة آبارا، وكان الماء بمكة غزيرا؛ إنما يشرب الناس من آبار خارجة من الحرم، فأول ما حفر قصي بمكة حفر بئرا يقال لها: العجول وكان موضعها في رام أم هانئ ابنة أبي طالب بالحزورة، وكانت العرب إذا قدمت مكة يردونها فيسقون منها ويتزاحخمون عليها، فقال قائل فيها: أروى من العجول ثمت انطلق ... إن قصبا قد وفى وقد صدق بالسمع واللحي ورى المعتبق3 وحفر قصي أيضا بئرا عند الردم الأعلى، عند دار أبان بن عثمان التي كانت لآل جحش، بن رياب، ثم دثرت، فنثلها جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وأحياها، ثم حفر هاشم بن عبد مناف بئر بذر4، وقال: حين حفرها: لأجعلنها للناس زبيدة5 بالبطحاء في أصل المستندر، وهي التي يقول فيها بعض ولد هاشم: نحن حفرنا بذر بجانب المستندر نسقي بمائها الحجيج الأكبر6 وحفر قصي أيضا هاشم سجلة، وهي البئر التي يقال لها بئر جبير بن مطعم، دخلت في دار القوارير فكانت سجلة لهاشم بن عبد مناف؛ فلم يزل لولده حتى وهبها أسد ابن هاشم لمطعم بن عدي، حين حفر عبد المطلب زمزم، واستغنوا عنها، ويقال: وهبها له عبد المطلب حين حفر زمزم واستغنى عنها، وسأله المطعم بن عدي، أن يضع

_ 1 خم: بئر في ضواحي مكة، وكذلك رم: بئران حفرهما عبد شمس بن عبد مناف "معجم البلدان 2/ 389، 3/ 70". 2 اسم جنس مفرده مزاده، وهي: الجلود التي يضم بعضها إلى البعض ويوضع فيها الماء. 3 راجع أخبار مكة للأزرقي 1/ 112 ومعجم البلدان 4/ 87، وفتوح البلدان للبلاذري 1/ 65. 4 معجم البلدان 1/ 361. 5 زبيدة بنت المنصورة وزوج الرشيد. توفيت سنة 216هـ. 6 هكذا ورد البيت في جميع النسخ، وهو غير مستقيم الوزن، وفي أخبار مكة للأزرقي: "نسقي الحجيج الأكبر".

حوضا من أدم إلى جنب زمزم يسقي فيه من ماء بئره؛ فأذن له في ذلك, فكان يفعل؛ فلم يزل هاشم بن عبد مناف يسقي الحاج حتى توفي، فقام بأمر السقاية بعده عبد المطلب بن هاشم، فلم يزل على ذلك حتى حفر زمزم، فعفت على آبار مكة، فكان منها مشرب الحاج, قال: وكانت لعبد المطلب إبل كثيرة؛ فإذا كان الموسم جمعها، ثم يسقى لبنها بالعسل في حوض من أدم عند زمزم: ويشتي الزبيب في نبذه بماء زمزم ويسقيه الحاج؛ لأنه يكسر غلظ ماء زمزم. وكانت -إذ ذاك- غليظة جدا، وكان الناس -إذ ذاك- لهم في بيوتهم أسقية فيها الماء منهذه الآبار، ثم ينبذون فيها القبضان من الزبيب والتمر؛ لأنه يكسر عنهم من غلظ ماء آبار مكة. وكان الماء العذب بمكة عزيزا لا يوجد إلا لأناس يستعذب له من بئر ميمون في خارج مكة، فلبث عبد المطلب يسقي النماس حتى توفي. فقام بأمر السقاية بعده العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فلم يزل في يده، وكان للعباس كرم بالطائف، وكان يحمل زبيبه إليها، وكان يداين أهل الطائف، ويقتضي منهم الزبيب، فينبذ ذلك كله ويسقيه الحاج في أيام الموسم حتى تنقضي، في الجاهلية، وصدر الإسلام، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، فقبض السقاية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما ترزون فيه ولا يرزون منه"؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم بين عضادتي الباب -أي باب الكعبة- فقال: "ألا إن كل دم أومال أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين، إلا سقاية الحاج وسدانة الكعبة فإني قد أمضيتها لأهلها على ما كانت عليه في الجاهلية"؛ فقبضها العباس -رضي الله عنهما، وكان يفعل فيها كفعله دون بني عبد المطلب، وكان محمد ابن الحنفية -رضي الله عنه- قد كلم فيها ابن عباس؛ فقال له ابن عباس -رضي الله عنه: ما لك ولها، نحن أولى بها في الجاهلية والإسلام. قد كان أبوك تكلم فيها فأقمت البينة، وشهد لي طلحة بن عبد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عوف ومخرمة بن نوفل، وأن العباس بن عبد المطلب كطان يليها في الجاهلية بعد عبد المطلب، وجدك أبو طالب في إبله في باديته بعرفة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها العباس يوم الفتح0 دون بني عبد المطلب؛ فعرف ذل من حضر؛ فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه لا ينازعه فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم حتى توفي. فكانت في يد علي بن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- يفعل فيها كفعل أبيه وحفيده، يأتيه الزبيب من ماله بالطائف وينبذه، حتى توفي؛ فكانت بيد ولده حتى الآن.

_ 1 يعني السقاية، لأن سدانة الكعبة أعادها صلى الله عليه وسلم لبني عبد الدار.

وأما القيادة: فوليها من بني عبد مناف: عبد شمس بن عبد مناف، ثم وليها من بعده أمية بن عبد شمس، ثم من بعده حرب بن أمية؛ فقاد بالناس يوم عكاظ في حرب قريش وقيس بن عيلان. وفي الفجارين: الفجار الأول، والفجار الثاني، وقاد الناس قبل ذلك في حرب قريش، وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة، والأحابيش يومئذ مع بني بكر تحالفوا على جبل يقال له: الحبش، على قريش فسموا: الأحابيش، بذلك، ثم كان أبو سفيان بن حرب يقود قريشا بعد أبيه حتى كان يوم بدر؛ فقاد الناس عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. وكان أبو سفيان بن حرب في العير يقود الناس؛ فلما أن كان يوم أحد، قاد الناس أبو سفيان بن حرب، وقاد الناس يوم الأحزاب، وكانت آخر وقعة لقريش، حتى جاء الله تعالى بالإسلام وفتح مكة1 ... انتهى، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 109- 115.

الباب الرابع والثلاثون

الباب الرابع والثلاثون في ذكر شيء من خبر الفجار والأحابيش ... الباب الرابع والثلاثون: في ذكر شيء من خبر الفجار 1 والأحابيش: ينا في السيرة لابن إسحاق تهذيب ابن هشام، وروايته عن البكائي عنه، قال ابن هشام: "فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة2 أو خمس عشرة سنة فيما حدثني أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء قال: هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة، وبين قيس عيلان، وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان، أجار لطيمة3 للنعمان بن المنذر؛ فقال له البراض بن قيس أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم، وعلى الخلق؛ فخرج عروة الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته؛ حتى إذا كان بتيمن4 ذي طلال بالعالية، غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام؛ فلذلك سمي "الفجار"، وقال البراض في ذلك: وداهية5 تهم الناس قبلي ... شددت لها بني بكر ضلوعي هدمت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضروع

_ 1 المقصود هنا "انفجار الرابع" الذي حضره الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبله أيام فجارا ثلاثا، أولها: بين كنانة وهوزان، والثاني بين قريش وهوزان، والثالث بين كنانة وهوزان "راجع العقد الفريد 5/ 251-253، الأغاني 22، 54 وما بعدها". 2 العقد الفريد 5/ 253، تهذيب سيرة ابن هشام "ص: 43". 3 اللطيمة: عير تحمل الحب والبر وغيرهما للتجارة. 4 تيمن ذي طلال: ماء أو موضع ببلاد بني مرة، ورويت: ظلال، وهي سوان على يسار طنفة وأنت مصعد إلى مكة وهي لبني جعفر بن كذب "معجم البلدان 4/ 61". 5 داهية: الأمر المنكر العظيم.

رفعت له بذي طلال كفي ... فخر يميد كالجذع الصريع1 وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب: فأبلغ إن عرضت، بني كلاب ... وعامر، والخطوب لها موالي وبلغ، إن عرضت، بني نمير ... وأخوال القتيل بني هلال بأن الوافد الرحال أمسى ... مقيما عند تيم ذي طلال2 وهذه الأبيات في أبيات له فيما ذكر ابن هشام. فأتى آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا، وهوزان لا تشعر، ثم بلغهم الخبر؛ فأتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل؛ فأمسكت عنهم هوزان، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما والقوم يتناشدون، على كل قبيلة من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم. وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم؛ أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم3: "كنت أنبل على أعمامي" أي أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم بها. قال ابن إسحاق: هاجت الحرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة؛ وإنما سمي "حرب الفجار" لما استحل هذان الحيان -كنانة وقيس عيلان- فيه من المحارم بينهم. وكان قائد قريش كنانة حرب أمية بن عبد شمس؛ فكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة؛ حتى إذا كان وسط النهار كان لظفر لكنانة على قيس4 ... انتهى. وذكر الفاكهي خبر الفجار، وذكر فيه غير ما ذكره ابن إسحاق وابن هشام، فنذكر شيئا من ذلك لما فيه من الفائدة لأنه قال: وحدثني عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق، قال5: كان الفجار الآخر بعد الفيل بعشرين سنة؛ فلم يكن في العرب يوم أعظم ولا أذهب ذكرا في الناس منه بين قريش ومن حالفها من كنانة بين قيس بني عيلان، فالتقوا فيها بعكاظ؛ وإنما سمي يوم الفجار بما استحل هذا الحيان -كنانة وقيس- فيه من المحارم.

_ 1 راجع العقد الفريد 5/ 254، والأغاني 22/ 58، ففيها اختلاف في الأبيات عما هنا. 2 في الأغاني 22/ 58، بيتان فقط. 3 سيرة ابن هشام 1/ 164. 4 سيرة ابن هشام 1/ 163-165. 5 في أخبار مكة للفاكهي 5/ 185: قال "ثم كان".

وقد كان قبله يوم بني جبلة وتميم، وكان يوما مذكورا من أيام العرب، ولم يكن كيوم عكاظ، وذكر حديثا طويلا وروي أشعار كثيرة اختصرناها مخافة التطويل؛ ولذلك موضع غير هذا. وحدثني حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة: أن فجار البراض بين كنانة يوم وقيس أربعة أيام، في كل سنة يوم، وكان أوله يوم شطيمة1 من عكاظ، وعلى الفريقين الرؤساء من قريش؛ غير أبي براء، وكانت هوزان من وراء المسيل، وقريش دون المسيل، وبنو كنانة في بطن الواديط. وقال لهم حرب بن أمية: إن أبيحت2 قريش فلا تبرحوا مكانكم، وعبأت هوازن، وأخذوا مصافهم، وعبأت قريش؛ فكان على إحدى المجنبتين ابن جدعان، وعلى الآخر كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وحرب بن أمية في القلب؛ فكانت الدائرة أول النهار لكنانة على هوزان، حتى إذا كان آخر النهار وصبرت، فاستحر3 القتل في قريش؛ فلما رأى ذلك الذين في الوادي من كنانة مالوا إلى قريش وتركوا مكانهم؛ فلما فعلوا ذلك استحر القتل بهم فقتل تحت رايتهم ثمانون رجلا. وقال آخرون: لما رأت ذلك بنو بكر بن عبد مناة نجا بهم رئيسهم استبقاء لقومه؛ فاعتزل بهم إلى جبل يقال له: رخم وقال: دعوهم، ولوددت أنه لم يفلت منهم أحد، فكان يوم شيطمة لهوزان على كنانة، ولم يقتل من قريش أحد يذكر. وزالت آخر النهار في بني بكر4.

_ 1 في العقد الفريد 5/ 256، والأغاني 22/ 64، ومعجم البلدان 3/ 36، ورواه الأزهري بالظاء المعجمة "شمظة" "معجم ما استعجم 3/ 809"، وفي إتحاف الورى 1/ 124: "شيظمة". 2 أبيحت: هزمت. 3 في الأصول: "فاشتحر" وما أثبتناه هو الصواب، ومعناه: حمى واشتد. 4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 185- 186.

ذكر يوم العبلاء

ذكر يوم العبلاء: حدثني الأزدي قال: حدثني محمد، عن أبي عبيدة قال: وجمع هؤلاء وأولئك، فالتقوا بالعبلاء -وهو الجبل الذي إلى جنب عكاظ- ورؤساؤهم الذين كانوا يوم شيطمة بأعيانهم؛ فكانت الدائرة أيضا في لهوزان على كنانة1

_ 1 العقد الفريد 5/ 257، الأغاني 22/ 65، أخبار مكة للفكاهي 5/ 186.

ذكر يوم شرب

ذكر يوم شرب: حدثني الأزدي قال: حدثني محمد عن أبي عبيدة قال: ثم جمع الفريقان على قرن الحول1 في اليوم الثاني من عكاظ، فالتقوا فيه بشرب من عكاظ، وعليهم رؤساءهم

_ 1 أي على رأس الحول "معجم ما استعجم 3/ 961".

ذكر يوم الحريرة

ذكر يوم الحريرة: حدثني الأزدي حسن بن حسين قال: حدثني محمد بن حبيب الهاشمي عن أبي عبيدة، قال: كانت فيه الدائرة لهوزان على كنانة، وهو آخر أيامهم، وحريرة إلى جنب عكاظ؛ مما يلي مهب جنوبها لمن يقبل يريد مكة من مهب شمالها حتى تقطع دوين قرن؛ فكان رؤساؤهم الذين كانوا قبلا إلا قيسا فإنه مات، وكان بعده الرئيس عليهم جثامة بن قيس، وقتل يومئذ أبو سفيان بن أمية. ومن كنانة ثلاث رهط، قتلهم عثمان بن أسد بن مالك بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقتل ورقاء بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن عمرو بن عامر أبا كتف وابني إياس وعمرو وابن أيوب، وقد ذكرهم خداش بن زهير في شعره1. فهذه أيام الفجار الخمسة التي تراجفوا فيها. في أربع سنين: أولهن يوم نخلة حين تبعتهم هوزان؛ فكان كفافا لا على هؤلاء ولا على هؤلاء. ثم يوم شيطمة فكان لهوزان على كنانة، ثم يوم عكاظ الأول -وهو يوم العبلاء- فكان لهوزان على كنانة، ويوم عكاظ الثاني -وهو يوم شرب- كان لبني كنانة على هوزان. ولم يكن بينهم يوم أعظم منه، ثم يوم الحريرة وهو آخر أيامهم.

_ 1 راجع الشعر في العقد 2/ 259، والأغاني 22/ 75، ومعجم البلدان 2/ 250.

قال: ثم كان الرجل يلقي الرج أو الرجلين أو أكثر من ذلك أو أقل فيقتتلون؛ فربما قتل بعضهم بعضا. فلقي ابن محمية أخو بني الديل بن بكر أبا خداش بن زهير بالصفاح1؛ فقال أخو زهير بن خداش: جئت معتمرا، فقال: لا يلقي الدين إلا أن قلت معتمرا، فقتله ثم ندم، فقال: اللهم إن العامري المعتمر ... لم آت فيه عذر المعتذر ثم إن الناس تداعوا إلى السلم على أن يدي الفضل من القتلى التي فيهم؛ أي الفريقين أفضل على الآخر، فتواعدوا عكاظا ليتعادوا القتلى، وتعاقدوا وتواثقوا أن يتموا على ذلك وجعلوا بينهما مواعدا يلتقون فيه لذلك؛ فأبي ذلك وهب بن معتب، وخالف قومه، وجعل لا يرضي بذلك، حتى يدركوا ثأرهم، فقال في ذلك أمية بن جدعان بن الأشكر: المرء وهب وهب آل معتب ... مل الغواة وأنت لما تملل يسعى يعوذها بحر وقودها ... وإذا تعابى صلح قومك فأعمل وهي في شعره، واندس وهي حتى مكرت هوزان بكنانة وهم على رأس الصلح؛ فبعثت خيلا عليها سلمة بن مشعل البكائي، وخالد بن هوذة، فيهم ناس من بني هلال، ورئيسهم ربيعة بن أبي ظبيان، وناس من بني نصر، عليهم مالك بن عوف، فأغاروا على بني ليث بصحراء الغميم وهم غارون فقاتلوهم، وجعل مالك يقاتل ويرتجز، وهو أمرد يومئذ، يقول: أمر يبدي حمله شيب اللحا ... وهو أول يوم ذكر فيه مالك بن عوف فقتلت بنو مدلج يومئذ عبيد بن عوف البكائي، وسبيع بن أبي المؤمل من بني محارب، ثم انهزمت بنو ليث، فاستحر القتل ببني الملوح بن يعمر، فقتلوا منهم ثلاثين رجلا، وساقوا نعما، ثم أقبلوا، فعرضت لهم خزاعة وطمعوا فيهم فقاتلوهم؛ فلما رأوا أنه لا بد لهم منهم، وقالوا: عرضونا من غنيمتكم عراضة، فأبوا، فخلوا سبيلهم. فقال مالك بن عوف: نحن حمينا الخيل من بطن لية ... وخلدان فينا جافينات ووقعا تواعد ضبطا ذو خزاعة حزبنا ... وما حزت ضبطا يغلب مضجعا

_ 1 "الصفاح" موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسار الداخل إلى مكة من مشاش، جبل في وسط عرفة متصل بجبال تصل إلى مكة "معجم البلدان 3/ 412 و5/ 131".

ثم إن الناس تداعوا إلى الصلح، ورهنوا رهنا بوفاء بديات من كان له الفضل في القتلى وتم الصلح، ووضعت الحرب أوزارها ... انتهى. وكان آخر أمر الفجار ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وحدثني محمد بن حسن عن حماد بن موسى عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: حدثني حكيم بن حزام قال: لما توافت كنانة، وقيس، من العام القابل، بعكاظ، بعد العام الأول الذي كانوا التقوا فيه، ورأس الناس حرب، خرج معه عتبة بن ربيعة، وهو يومئذ في حجر حرب فمنعه أن يخرج، وقال يا بني أنا بك، فاقتاد راحلته، وتقدم في أول الناس فلم يدر به حرب إلا وهوفي العسكر، قال حكيم بن حزام: فنزلنا عكاظ، ونزلت هوزان بجمع كثير؛ فلما أصبحنا ركب عتبة جملا ثم صاح في الناس: يا معشر مضر، علام تفانون بينكم؟ هلم إلى الصلح قالت هوزان، وماذا تعرض. قال أعرض أن أعطي دية من أصيب، قالوا: ومن أنت؛ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، قالوا: قد قبلنا، فاصطلحج الناس، ورضوا بما قال عتبة: وأعطوهم أربعين رجلا من فتيان قريش، وكنت فيهم؛ فلما رأت بنو عامر أن الرهن قد صار في أيديهم رغبوا في العفو، فأطلقوهم. قال الزبير: وسمعت عبد الرحمن بن عبد الله يقول: لم يسد مملتق من قريش إلا عتبة بن ربيعة، وأبو طالب بن عبد المطلب، فإنهما سادا بغير مال ... انتهى. وكلام مغلطاي يقتضي أن أيام هذه الفجار ستة؛ لأنه في "سيرته" -على ما أخبرت به عنه: وأيام الفجار أربعة، قال السهيلي2، والصواب أنها ستة ... انتهى. ووقع في كلام الفاكهي ما يقتضي أنه كان قبل الفجار الذي أثاره البراض فجار آخر، وذكر الفاكهي شيئا من خبره، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكره الفاكهي.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 188، 189. 2 الروض الأنف 1/ 209.

ذكر الفجار الأول وما كان فيه بين قريش وقيس عيلان وسبب ذلك

ذكر الفجار الأول وما كان فيه بين قريش وقيس عيلان وسبب ذلك: حدثنا عبد الملك بن محمد، عن زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم هاج يوم الفجار الأول بين قريش، ومن كان إلفها من كنانة كلها، وبين قيس عيلان؛ وسببه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نضر بن معاوية بن بكر بن هوزان، فواعده به الكناني، فوافاه النصري بسوق عكاظ بقرد معه، فوقفه بالسوق، فقال: من يبيعني مثل هذا بمال لي على فلان بن فلان الكناني؛ وإنما أراد ذلك النضري الكناني وقومه، فمر به رجل من كنانة؛ فضربه القرد بالسيف أنفا مما يقول النضري، فصرخ

النضري في قيس، والكناني في بني كنانة؛ فتجاوز الناس حتى كادوا أن يكون بينهم قتال ثم تداعوا بمنى للصلح، وسرى الخطب من أنفسهم، فتراجع الناس وكف بعضهم عن بعض، ولم يكن بينهم إلا ذلك. ويقال: بل قعد قتيبة من العرب من قريش غدية إلى امرأة من بني عامر ذات هيبة، عليها برفع وهي في درع فضل -وكذلك نساء العرب يفعلن- فأعجبهم ما رأوه من حسن هيئتها؛ فقالوا لها: يا أمة الله أسفري لنا عن وجهك ننظر إليك، فأبت عليهم، فقام غلام منهم فشبك درعها إلى ظهرها بشوكة -والمرأة لا تدري- فلما قامت انكشف الدرع عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتنا أن ننظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك!! فصاحت المرأة في بني عامر: فضحت فتحاور الناس ثم ترادوا، ورأوا أن الأمر دون1. ويقال: بل قعد رجل من بني غفار بني خليل بن حمزة يقال له: أبو معشر، كان عارفا متصنعا في نفسه بسوق عكاظ، ومد رجله وقال: أنا ابن مدركة بن خندف ... من تضعفوا في عينه لا تطرف ومن تكونوا قومه يغطرف أنا والله أعز العرب، فمن زعم أنه أكرم مني فليضربها بالسيف. فضربها رجل من قيس فخدشها خدشا غير كبير، فتحاور الناس عند ذلك حتى كاد أن يكون بينهم قتال. قال: ثم تراجع الناس ورأوا أنه لم يكن بينهم شيء كبير، فكل هذا الحديث يقال في يوم الفجار2، والله أعلم أي ذلك كان؟ قال عبد الملك: قال زياد: قال ابن إسحاق: وقد قال بعض الشعراء شعرا، قد ذكر فيه عكاظ وما أصابوا من بني كنانة وضرب رجل أبي معشر فقال: عمرك الله سائلي أي قوم ... معشري في سوالف الأعصار نحن كنا الملوك من أهل نجد ... زمن جزناه بميل الدمار ومنعنا الحجاز من كل حي ... وقمعنا الفجار يوم الفجار وضربنا به كنانة ضربا ... حالفوا بعده سني العسار وتركنا سراة خثعم محا ... كذا تتويج أهل الدثار فاستغاثوا إلى العريف فقلنا ... أخرجوهم من العريف بثار

_ 1 الأغاني 22/ 6. 2 الوفا بأحوال المصطفى 1/ 135، السيرة الحلبية 1/ 128، إتحاف الورى 1/ 103، تاريخ الخميس 1/ 255، الأغاني 22/ 59.

قال زياد في حديثه هذا: وقال ابن إسحاق، فأجابه أمية بن الأشكر بشعر1، فقال: أبلغا حمة الغريب أنا ... قد قتلنا ميراثكم في الفجار وسقيناكم المنية صرفا ... ودهشنا بالنهب والإذكار وطحنا مضر فدارت رحانا ... فاستدلوا الباء والأعشار خرجوا من ديارهم سراعا ... إلينا فرددته للديار وضربوا هوازن بعكاز ... مثل ضرب الصحيفة وطلعنا بعد تعود إليها ... سحب الخيل ضم للمغمار فتركناهم هنالك صرعى ... وحلت عن قلوبهم للفرار رفعت عن خجولها كل أثنى ... فصلاها هاربا بغير إزار

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 183-185، سمط النجوم العوالي 1/ 193.

ذكر شيء من خبر الأحابيش ومحالفتهم لقريش

ذكر شيء من خبر الأحابيش ومحالفتهم لقريش: ذكر الزبير بن بكار في كتاب "النسب" شيئا من خبر الأحابيش ومحالفتهم مع قريش لأنه قال: وحدثني محمد بن الحسن قال: تحالفت قريش والأحابيش الأحلاف؛ فصاروا حلفاء لقريش دون بني كنانة، والحيا والمصطلق من خزاعة كلها إلا الحيا والمصطلق مع بني مدلج. قال: وكان تحالف قريش والأحابيش على الركن يقوم رجلان أحدهما من قريش والآخر من الأحابيش فيضعفان أيديهما على الركن فيحلفان بالله القائل بحرمة هذا البيت، والمقام، والركن، والشهر الحرام، على النصر على الخلق جميعا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقل التعاون وعلى من عاداهم من الناس جميعا ما بل بحر صوفه، وما قام حراء وثبير، وما طلعت الشمس من مشرقها، وما غربت من مغربها، إلى يوم القيامة؛ فسموا عند ذلك الأحابيش لاجتماعهم ... انتهى، والله أعلم.

الباب الخامس والثلاثون

الباب الخامس والثلاثون: ذكر شيء من خبر حلف الفضول: روينا في "السيرة لابن إسحاق تهذيب ابن هشام"، وروايته عن زياد البكائي شيئا من خبره، ونص ذلك على ما في السيرة، قال ابن هشام: "وأما حلف الفضول، فحدثني زياد بن عبد الله، عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف الفضول؛ فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي لشرفه وسنة؛ فكان حلفهم عنده: بنو هاشم وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلم حتى ترد عنه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول". قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن زيد، عن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" 1 ... انتهى. وقد ذكر الزبير بن بكار أشياء من خبر حلف الفضول، وأفاد في ذلك غير ما سبق؛ لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبدية، قال: كان سبب حلف الفضول أن رجلا من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة، فاشتراها رجل من بني

_ 1 سيرة ابن هشام 1/ 123، إتحاف الورى 1/ 121.

سهم؛ فلوى الرجل بحقه؛ فسأله ماله، فأبى عليه، فسأله متاعه فأبى عليه، فقام على الحجر وقال: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر وأشعث محرم لم يقض حرمته1 ... بين الإله وبين الحجر والحجر أقائم من بني سهم بذمتهم ... أم ذاهب في ضلال مال معتمر إن الحرام لو تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر ثم ذكر الزبير خبرا يقتضي أن الرجل الذي باع سلعته من السهمي كان من زبيد، ولا منافاة بين كونه من اليمن، وكونه من زبيد، لجواز كون نسبته إلى اليمن، باعتبار يكناه به، والله أعلم. وفي الخبر الذي فيه أن البائع من زبيد فوائد ليست في الخبر الذي فيه أن البائع من اليمن، فاقتضى ذلك ذكرنا له، ونص ذلك على ما في كتاب الزبير: حدثني محمد بن فضالة عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن ابن شهاب قال: كان شأن حلف الفضول أنه بدأ ذلك أن رجلا من بني زبيد قدم مكة معتمرا في الجاهلية، ومعه تجارة له فاشتراها منه رجل من بني سهم؛ فأواها إلى بيته، ثم تغيب، فابتغى متاعه الزبيدي، فلم يقدر عليه، فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا عليه، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه؛ فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها، ثم قال بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الأهل والوطر ومحرم شعث لم يقض عمرته ... يا آل فهر وبين الحجر والحجر هل محضر من بني سهم بحضرتهم ... فعادل، أم حلال مال معتمر فما نزل من الجبل أعظمت ذلك قريش؛ فتكلموا فيه. فقال المطيبون: والله لئن قمنا في هذا لنقضين على الأحلاف، وقال الأحلاف: والله لئن تظلمنا في هذا لنقضين على المطيبين؛ فقال ناس من قريش: تعالوا فلنكن حلفاء فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم يومئذ طعاما كثيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فاجتمعت بنو هاشم، وأسد، وزهرة، وتيم، وكان الذي تعاقد عليه القوم وتحالفوا أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد؛ إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه، ويردوا2 إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثم عمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا

_ 1 في الروض الأنف 1/ 156: "عمره". 2 هكذا في الأصل.

به إلى البيت؛ فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه، فحدث هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان، من حلف الفضول ما لو دعيت إليه اليوم لأحببت، وما أحب أن لي به حمر النعم". قال الزبير: حدثني عبد العزيز بن عمرو العنبسي أن الذي اشترى من الزبيدي المتاع: العاص بن وائل السهمي، وقال: حلف الفضول بنو هاشم وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، تحالفوا بينهم بالله، لا يظلم أحد بمكة إلا كنا جميعا مع المظلوم على الظالم، حتى نأخذ له مظلمته ممن ظلمه، شريفا أو وضيعا، منا أو غيرنا. ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل؛ فقالوا: والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه، فأعطى الرجل حقه، فمكثوا كذلك لا يظلمن أحد حقه بمكة إلإ أخذوه له؛ فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول، وليست عبد شمس في حلف الفضول1. وحدثني محمد بن حسن بن محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن فضالة، عن هشام بن عروة، وعن إبراهيم بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي قال إن بني هاشم وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزي، وبني تيم بن مرة، تحالفوا على أن لا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا إليه مظلمته، أو يبلغوا في ذلك عذرا، وعلى أن لا يتركوا لأحد فضلا إلا فخذوه، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك سمي حلف الفضول: بالله على الظالم حتى نأخذ للمظلوم حقه ما بل بحر صوفة، وما رسا حراء وثبير في مكانهما، وعلى الناس في المعاش. وذكر الزبير ما يوهم أن سبب حلف الفضول بغير ما سبق؛ لأنه قال: وقال بعض العلماء إن قيسا السلمي باع متاعا من أبي بن حلف، فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جمح، فلم يقم بجواره؛ فقال قيس: يال قصي كيف هذا في الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق الكرم أظلم لا يمنع مني من ظلم2 وبلغ الخبر عباس بن مرداس فقال: إن كان جارك لم تنفعك ذمته ... وقد شربت بكأس الذل أنفاسا فأت البيوت وكن من أهلها صددا ... ولا تبد باديهم فحشا ولا باسا

_ 1 الاكتفاء 1/ 91، إتحاف الورى 1/ 121. 2 الروض الأنف 1/ 157.

وثم كن بفناء البيت معتصما ... تلقي ابن حرب وتلقي المرء عباسا ساقي الحجيج وهذا ياسر فلح ... والمجد يورث أسداسا وأخماسا وقام العباس وأبو سفيان حتى ردا عليه متاعه. واجتمعت بطون قريش فتحالفوا على رد الظلم بمكة، وأن لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا له بحقه، وكان حلفهم في دار ابن جدعان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلفا في دار ابن جدعان 1، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به لأحببت" فقال قوم من قريش: هذا والله أفضل من الحلف؛ فسمي: حلف الفضول. قال: وقال الآخرون: تحالفوا على مثال حلف تحالف عليه قوم من جرهم في هذا الأمر؛ ألا يقروا ظلما ببطن مكة إلا غيروه، وأسماهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن وداعة، والفضي بن قضاعة. والله أعلم أي ذلك كان؟ وذكر الزبير خبرا يقتضي أن البائع من أبي بن خلف رجل من ثمالة؛ لأنه قال: حدثني علي بن صالح، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه، فذكر قصته، ثم قال: فبلغ ذلك معاوية، وعنده جبير بن مطعم، فقال له معاوية: يا أبا محمد كنا في حلف الفضول؟ قاله جبير بن مطعم: لا، وقد مر رجل من ثمالة؛ فباع سلعة له من أبي بن خلف ووهب بن حذافة بن جمح، فظلمه، وكان سيء المخالطة؛ فأتى الثمالى أهل حلف الفضول فأخبرهم؛ فقالوا: اذهب فأخبره بأنك قد آتيتنا، فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا. فأتاه فأخبره ما قال له أهل حلف الفضول، وقال له: فما تقول؟ فأخرج إليه حقه، فأعطاه إياه، فقال: أتعجزني ببطن مكة ظالما ... وإني ولا قومي لدي ولا صحبي وناديت قومي بارقا لتجيبني ... وكم دون قومي من فياف ومن شهب؟ ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي ... بني جمحخ والحق يؤخذ بالغصب وذكر الزبير حبرا يوهم أن سبب حلف الفضول غير ما سبق؛ لأنه قال: حدثني غير واحد من قريش، منهم عبد العزيز بن عمر العنبسي، عن معن بن عبد الله بن عنبسة قال: إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا2، ومعه ابنه له يقال له يقال لها القتول، أوضأ نساء العالمين: فعلقهما نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، فلم يبرح حتى

_ 1 كان عبد الله بن جدعان من أشراف قريش وساداتها وأثريائها، وهو الذي مدحه أمية بن أبي الصلت في شعره وفيه يقول قصيدته المشهورة: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء 2 في الروض الأنف 1/ 157: "معتمرا أو حاجا".

نقلها إليه، وغلب أباها عليها، فقيل لأبيها: عليك بحلف الفضول، فأتاهم وشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن الحجاج، وقالوا: أخرج ابنة هذا الرجل -وهو يومئذ بناحية مكة وهي معه- وإلا فإنا من قد عرفت؛ فقال: يا قوم متعوني بها الليلة، فقالوا: قبحك الله ما أجهلك، لا والله ولا شخب لقحه1. قال: وهي أوسع أحاليل من الشاة فأخرجها إليهم، فأعطوها أباها، وركب معهم الخثعمي؛ فذلك يقول نبيه بن الحجاج: راح صحبي ولم أحي القتولا ... لم أودعهم وداعا جميلا وذكر بقية الأبيات، وقال نبيه في ذلك أبياتا أخر2. وذكر الفاكهي من خبر حلف الفضول عن الزبير بن بكار جميع ما ذكرناه عن الزبير3. وذكر الفاكهي في ذلك غير ما سبق، فاقتضى ذلك ذكرنا له لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكر الفاكهي::ذكر حلف الفضول، وسببه، وتفسيره، وغيره من الحلف". ثم إن قريشا تداعت إلى الفضول؛ وذلك بعد رجوعهم من عكاظ، ويقال: بعد فراغهم من بنيان الكعبة، وكان حلفا جميلا على قريش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالف فيه، فاجتمعوا في ذلك في دار ابن جدعان لشرفه وموضعه في قومه، وكانت له أسباب سأذكرها إن شاء الله تعالى. حدثني عبد الله بن شبيب الربعي مولى بني قيس بن ثعلبة قال: حدثني أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الخزاعي، قال: حدثني عمرو بن أبي بكر العدوي، قال: حدثنا عثمان بن الضحاك، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت جدي حكيم بن حزام يقول: انصرفت قريش من الفجار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة؛ وكان حلف الفضول في شوال، وكان أشرف حلف وأعظم بركة؛ وذلك أن الرج لمن العرب أو غيرها من العجم، كان يقدم مكة بسلعته، فربما ظلم ثمنها، وكان آخر من ظلم بها رجل من زبيد4، فقدم مكة بسلعةله؛ فباعها من العاص بن وائل، فظلمه ثمانها، فطاف في الأحلاف: عبد الدار، وجمح، وسهم، ومخزوم، فسألهم أن يعينوه على العاص بن وائل، فزجروه وتجهموه، وأبوا أن يغلبوه

_ 1 "الشخب": ما خرج من الضرع من لبن، واللقحة: الناقة القريبة العهد بالنتاج وتكون عادة غزيرة اللبن. 2 الروض الأنف 1/ 157. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 190-195. 4 في الأصول: "من بن يزبيد: والمثيب عن سيرة ابن هشام 1/ 259، والسيرة الشامية 2/ 208، "زبيد".

على العاص؛ فلما نظر إلى سلعته قد حيل دونها، رقي على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتها، فصاح بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة، نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يال الرجال وبين الحجر والحجر هل محضر من بني سهم بخفرته ... وعادل أم ضلال مال معتمر إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاخر الغدر فقال الزبير بن عبد المطلب: إن هذا الأمر ما ينبغي لنا أن نسمك عنه؛ فطاف في بني هاشم، وزهرة، وأسد، وتيم، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وتحالفوا بالله القائل، لنكون يدا للمظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة، ومارسا حراء وثبير في مكانهما، وعلى التأسي في المعاش: ثم نهضوا إلى العاص بن وائل فنزعوا سلعة الزبيدي، ودفعوها إليه، فقالت قريش: إنه قد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، فسمي: حلف الفضول، فقال الزبير بن عبد المطلب: حلفت لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنا جميعا أهل دار نسميه الفضول إذا عقدنا ... مقربة الغريب لذي الجوار ويعلم من حوالي البيت أنا ... أباة الضيم نمنع كل عار1 إذا لام الغدار لنا حراما ... أقمنا بالسيوف ذا الازورار قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثني عمرو بن أبي بكر قال: كان يقال: كان في جرهم مثل هذا الحلف؛ فمشى فيه رجال، منهم فضل، وفضال، وفضالة، فسموه حلف الفضول، وقال: الزبير بن عبد المطلب: إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... أن لا يقيم ببطن مكة ظالم أمر عليه تعاقدوا2 وتواثقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم3 وقد بان بما ذكرناه من هذه الأخبار المتعلقة بحلف الفضول فوائد كثيرة تتعلق بذلك؛ وإنما سبب تسميته بحلف الفضول، كون الذين تحالفوا عليه تحالفوا على حلف مثله، سبق إليه جماعة من جرهم، يقال لكم منهم: الفضل، أو ما يقرب من معناه.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 195، إتحاف الورى 1/ 121، الروض الأنف 1/ 156، السيرة لابن كثير 1/ 259. 2 في الروض الأنف 1/ 157، وإتحاف الورى 1/ 121: "تعاهدوا". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 194-195.

وأشار السهيلي إلى أن تسميته بحلف الفضول؛ لكون الذين تحالفوا عليه تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها؛ لأنه قال، بعد أن حكي عن ابن قتيبة: إن سبب تسميته أن جماعة من جرهم يقال لأحدهم الفضل بن فضالة، والثاني الفضل بن وداعة، والثالث فضيل بن الحارث، ومن تبعهم سبقوا قريشا إلى مثل هذا الحلف. والذي قاله ابن قتيبة حسن؛ ولكن في الحديث ما هو أقوى منه وأولى. روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وأن لا يعين ظالم مظلوما". ورواه في مسنده الحارث بن عبد الله بن أبي أسامة التميمي. وقد بين هذا الحديث: لم سمي حلف الفضول. وكان حلف الفضول بعد الفجار؛ وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب1، والفضول جمع فضل ... انتهى.

_ 1 الروض الأنف 1/ 155-156.

ذكر شيء من خبر ابن جدعان الذي كان في داره حلف الفضول

ذكر شيء من خبر ابن جدعان الذي كان في داره حلف الفضول: هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي التيمي المكي، يكنى أبا زهير، من رهط أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وكان من رؤساء قريش وأجوادهم، وله في الجود أخبار مشهورة؛ منها: أنه كانت له جفنة للأضياف يستظل بظلها في الهاجرة؛ لأن في "غريب الحديث" لابن قتيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أستظل فيها بظل جفنة عبد الله بن جدعان بمة في الهاجرة". قال ابن قتيبة: كانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير، وسقط فيها صبي فغرق، أي مات فيها1. ومنها على ما قال هشام بن الكلبي: كان له مناديان يناديان؛ أحدهما بأسفل مكة، والآخر بأعلى مكة، وكان المناديان سفيان بن عبد الأسد، وأبو قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم فليأت دار ابن جدعان. وينادي الآخر: ألا من أراد الفالوذج فليأت دار ابن جدعان وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة؛ ذكر هذا الخبر عن ابن الكلبي الفاكهي في "أخبار مكة"2.

_ 1 الروض الأنف 1/ 158. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 169.

ومنها: أن أمية بن أبي الصلت1 قبل أن يمدح ابن جدعان: كان قد أتى بني الديان من بني الحارث بن كعب، فرأى طعام بني عبد الديان2 منهم لباب البر والشهد والسمن، وكان ابن جدعان التمر والسويق ويسقي اللبن، فقال، أمية: ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديان البر يلبك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان فبلغ شعره عبد الله بن جدعان؛ فأرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن، وأمر مناديا ينادي على الكعبة: ألا هلموا إلى جفنه عبد الله بن جدعان، فقال أمية عند ذلك: له داع بمكة مشمعل3 ... وآخر فوق كعبتها ينادي إلى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد4 وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك سريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشريته، ونفاه أبو وحلف أن لا يأويه أبدا، لما أثقل به من الغرم. وحمله من الديات، فخرج في شعاب مكة حائرا يتمنى الموت ينزل به، فرأى شقا في الجبل، فظن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح؛ فلم ير شيئا، فدخل فيه، فإذا فيه ثعبان عظيم، له عينان تقدان كالسراجين، فحمل عليه الثعبان. فأخرج له فانسابت عيناه مستديرتان ينظران نحو بيت، فخطا خطوة، فصفر به الثعبان، وأقبل عليه كالسهم، فأخرج له، فانساب عنه قدما لا ينظر إليه، فوقع في نفسه أن مصنوع، فأمسكه بيده، فإذا هو مصنوع من ذهب، وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه، ودخل البيت، فإذا جثث على سرر طوال لم ير مثله طويلا وعظما، وعند رؤوسهم لوح من فضة، فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم، وآخرهم موتا الحارث بن مضاض صاحب الغربة الطويلة، وإذا عليهم ثياب لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طوال الزمن، وشعر مكتوب في اللوح، فيه عظات، آخر بيت منه: صاح هل رأيت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب

_ 1 شاعر جاهلي، طلب النبوة، وكان يحدث في شعره بأحاديث خلق الكون وقصص الأنبياء، ورثى قتلى بدر، وتوفي عام 9هـ. 2 في الروض الأنف 1/ 158: "المدان". 3 مشمعل: بعيد الصوت أو سريع. 4 الروح: جمع رواح، وهي الجفان الكبيرة، الشيزى: نوع من الخشب تتخذ منه القصاع، اللباب: خالص الشيء يلبك: يخلط أو يعجن، الشهاد: نوع من العسل.

وقال ابن هشام: كان اللوح من رخام، وكان فيه: أنا ثعلبة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد يا ليل بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله، عشت خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك؛ فلم يكن ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب: قد قطعت البلاد في طلب الثر ... وة والمجد قالص1 الأثواب وسريت البلاد قفرا لقفر ... بضماني2 وقوتي واكتسابي فأًصاب الردى بنات فؤادي ... بسهام من المنايا صباب فانقضت شدلي وأقصر جهلي ... واسترحت عواذلي عن عتاب ودفعت السعادة بالحكم لما ... نزل الشيب في محل الشباب صاح هل رأيت أو سمعت براع ... در في الضرع ما قرى في الحلاب وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ، ثم علم على الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف. وذكر حديث كنز ابن جدعان موصلا بحديث الحارث بن مضاض: ابن هشام في غير هذا الكتاب: ووقع لنا في كتاب "ري العاطش وأنس الواحش" لأحمد بن عمار، أن ابن جدعان حرم في الجاهلية، بعد أن كان مغرى بها؛ وذلك أنه سكر فتناول القمر ليأخذه، فأخبر بذلك حين صحا، فحلف لا يشربها أبدا، ولما كبر وهرم أراد بنو تيم أن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه لطمه لطمة خفيفة ثم قال: قم فانشد لطمتك، واطلب ديتها؛ فإذا فعل ذلك أعطته بنو تيم من مال ابن جدعان حتى يرضى ... انتهى من كتاب السهيلي3. وذلك جميع ما ذكرناه من خبر ابن جدعان خلا ما ذكرناه من خبره عن ابن الكلبي. وفي مسلم أن عائشة -رضي الله عنها- قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف؛ فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، إنه لا يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" 4 ... انتهى.

_ 1 قالص الأثواب: القصير منها. 2 كاذ في الأصل، وفي الروض الأنف 1/ 159: "بقائي". 3 الروض الأنف 1/ 158-160. 4 أخرجه مسلم "الإيمان، 365".

وذكر الفاكهي في وفاة ابن جدعان هذا خبرا غريبا؛ لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بما نصه: "ذكر موت أهل الشرف من قريش، بمكة ومراثيهم"، ثم هلك عبد الله بن جدعان بن عمرو التيمي، فبكته الجن والإنس، فأما بكاء الجن: فحدثني إبراهيم بن يوسف المكي، قال: حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج قال: إن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- كان يحدث أن النباش بن زرارة التميمي -وكان حليفا لقريش- قال: خرجنا إلى الشام تجارا في الجاهلية وعبد الله بن جدعان صبي حين خرجنا؛ فلما سرنا نحوا من خمس عشرة ليلة، نزلنا ذات ليلة واشتهينا أن نصبح بذلك المكان. قال: فقام أصحابي، وأصابني أرق شديد، فإذا هاتف يهتف يقول: ألا هلك الهلوك غيث بن فهر ... وذو العز والمج التليد وذو الفخر قال: فأجبته فقلت: ألا أيها الناعي أخا المجد والذكر ... من المرء تنعاه لنا من بني فهر؟ فأجابه الهاتف فقال: نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى ... وذا الحسب المعدود والمنصب الفخر قال: فأجبته فقلت: لعمري لقد نوهت بالسيد الذي ... له الفضل معلوم على ولد النضر فأخبرنا أنا علمت وفاته ... فإنك قد أخبرت جلا من الأمر فأجابه الهاتف فقال: مررت بنسوان يخمشن أوجها ... عليه صياحا بين زمزم والحجر قال فأجبته فقلت: متى إنما عهدي به منذ جمعة ... وستة أيام لغرة ذا الشهر قال: فأجابه الهاتف فقال: ثوى منذ أيام ثلاث كوامل ... مع الصبح أو في الصبح في وضح الفجر قال: فاستيقظ الرفقة وهي تتراجع بنعي ابن جدعان، وقالوا: إن كان أحد نعي لعز وشرف فقد نعي ابن جدعان؛ فقال الجني: أرى الأيام لا تبقي عزيزا ... لعزته ولا تبقي ذليلا فأجبته فقلت: ولا تبقي من الثقلين حيا ... ولا تبقي الجبال ولا السهولا

فقال الجني: صدقت ... انتهى1. وذكر الهاتف شيئا من رثاء الإنس لابن جدعان2.

_ 1 هذه الرواية من أحاديث الأدب الموضوعة. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 196-198.

ذكر شيء من خبر أجواد قريش في الجاهلية

ذكر شيء من خبر أجواد قريش في الجاهلية: كان في قريش في الجاهلية، أجواد مع ابن جدعان، لهم في الجود أخبار مشهورة؛ ويقال لبعضهم: أزواد الركب؛ لكفايتهم من معهم المؤنة، على ما ذكر ابن الكلبي وغيره. وفيما نقل الفاكهي وغيره. ونص ما ذكر الفاكهي: "ذكر أزواد الركب من قريش". حدثنا حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن الكلبي، قال: وكانوا إذا سافروا لم يختبز معهم أحدا، ولم يطبخ إلا الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ومسافر بن أبي عمرو، وابن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وأبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وزمعة بن عبد المطلب بن أسد ... انتهى1.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198.

ذكر الحكام من قريش بمكة في الجاهلية

ذكر الحكام من قريش بمكة في الجاهلية: هؤلاء الحكام ذكرهم الفاكهي؛ لأنه قال: "ذكرالحكام من قريش بمكة". حدثنا محمد بن علي النجار الصنعاني قال: حدثنا عبد الرزاق -هو1 ابن جريج- قال: أخبرني بشير بن تميم، أن الحارث2 بن عبيد بن عمرو بن مخزوم كان حكم قريش في الجاهلية، وكان أول من حكم قريشا في الجاهلية بالقسامة والدية؛ حكم بالقسامة في رجل، وبمائة من الإبل في رجل، وكان عقل أهل الجاهلية الغنم. وحدثني الحسن بن الأزدي قال: حدثنا محمد أبو جعفر، عن الكلبي في الحكام من قريش قال: فمن بني هاشم: عبد المطلب بن هاشم، والزبير، وأبو طالب ابنا عبد المطلب، ومن بني أمية: حرب بن أمية، أبو سفيان بن حرب، ومن بني زهرة: العلاء بن الحارثة الثقفي، حليف بني زهرة، ومن بني مخزوم، العدل، وهو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. ومن بني سهم: قيس بن عدي بن سعد بن

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198: "عن ابن جريج". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 198: "ابن الحارث".

ذكر تملك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن كلاب القرشي الأسدي على قريش بمكة وشيء من خبره

ذكر تملك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن كلاب القرشي الأسدي على قريش بمكة وشيء من خبره: قال الزبير بن بكار فيما رويناه عنه: حدثنا علي بن صالح، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة، عن عروة بن الزبير، قال: خرج عثمان بن الحويرث، وكان يطمع أن يملك قريشا، وكان بمن أظرف قريش وأعقلها، حتى قدم على قيصر، وقد رأى موضع حاجتهم إليه ومتجرهم من بلاده، فذكر له مكة ورغبة فيها. وقال: تكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء؛ فملكه عليهم وكتب له إليهم، فلما قدم عليهم قال: يا قوم إن قيصر من قد علمتم، أموالكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه. وقد ملكني عليكم؛ وإنما أنا ابن عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والإهاب، فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك؟ أن يمنع منكم الشام، فلا تتجروا به، ويقطع مرفقكم منه؛ فلما قال لهم ذلك خافوا قيصر، وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فأجمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج عشية، وفارقوه على ذلك: فلما طافوا عشية، بعث الله تعالى عليهم ابن عمه أبا زمعة الأسود بن المطلب نب أسد، فصاح على أحفل ما كانت قريش في الطواف، وقال: عباد الله ملك بتهامة، فانحاشوا انحياش حمر الوحش، ثم قالوا: صدقت، واللات والعزى ما كان بتهامة ملك قط؛ فأسقطت قريش عما كانت قالت له، ولحق بقيصر ليعلمه. وقال الزبير: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحزامي عن أبيه قال: قال الأسود بن عبد المطلب حين أرادت قريش أن تملك عثمان بن الحويرث عليها: إن قريشا لقاح لا تملك ... انتهى باختصار. ثم روى الزبير بسنده: أن قيصر حمل عثمان على بغلة، عليها سرج عليه الذهب، حين ملكه، قال الزبير: قال عمي: وكان عثمان بن الحويرث حين قدم مكة بكتاب قيصر مختوم في أسفله بالذهب ... انتهى. وذكر الزبير خبرا فيما انتهى إليه أمر عثمان بن الحويرث، وملخص ذلك: أنه خرج إلى قيصر بالشام، فسأل تجار قريش بالشام عمرو بن جفنة الغساني أن يفسد على عثمان عند قيصر، فسأل عمرو في ذلك ترجمان قيصر فأخبر الترجمان قيصر عن عثمان حتى حضر عثمان، وترجم عنه بأن عثمان يشتم الملك، فأمر قيصر بإخراج عثمان، ثم تحيل

عليه عثمان حتى عرف من أين أتى ودخل على قيصر وعرفه ما يقتضي أن الترجمان كذب عليه؛ فكتب قيصر إلى عمرو بن جفنة يأمره أن يحبس لعثمان من أراد حبسه من تجار قريش بالشام، ففعل ذلك عمرو، ثم سم عثمان فمات بالشام، وذكرنا هذا الخبر بنصه في أصل هذا الكتاب، والله أعلم.

الباب السادس والثلاثون

الباب السادس والثلاثون: ذكر شيء من خبر فتح مكة: قال ابن إسحاق في سيرته "تهذيب ابن هشام": ورأيته عن زياد البكائي عنه في أخبار سنة ثمان من الهجرة قال: "ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثة إلى مؤتة جمادى الآخر ورجبا، ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدث على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير1، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة، أن رجلا من بني الحضرمي واسمه مالك بن عباد، وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن- خرج تاجرا؛ فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه؛ فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي -وهم منخر بن كنانة- وأشرافهم: سلمى، وكلثوم، وذؤيب، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم. قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين ونودي دية لفضلهم فينا2. قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به؛ فلما كان صلح الحدييبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وغيرهم من علمائنا: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده

_ 1 الوتير ماء بأسفل مكة لخزاعة. 2 معجم البلدان 5/ 360، ومعجم ما استعجم 4/ 1368.

فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش، وعهدها فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم1. قال ابن إسحاق: فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرا بأولئك النفر الذين أصابوا منهم من بني الأسود بن رزن؛ فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم، وليس كل بني بكر تابعه حتى أتى خزاعة وهم على الوتير -ماء لهم- فأصابوا رجلا منهم، وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم؛ فلما انتهوا إلى الحرم، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم؛ إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم؛ فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلا يقال له منبه، وكان منبه رجلا معوزا2 خرج هو ورجل من قومه يقال له تميم بن أسد؛ فقال منبه: يا تميم انج بنفسك، فأما أنا هوالله إني لميت، قتلوني أو تركوني. لقد أنبت فؤادي3. فانطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه، فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له: رافع، فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره عن منبه، فذكر أبياتا له أولها: لما رأيت بني نقاثة أقبلوا ... يغشون كل وتيرة وحجاب الأبيات. وذكر أيضا أبياتا للأخزر بن لعط الديلي، وأبياتا لبديل بن عباد، ويقال له: بديل بن حزم، وبيتين لحسان بن ثابت. ثم قال ابن إسحاق: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان في ذلك مما هاج فتح مكة؛ فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، فقال: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدا وكما والدا ... ثم أسلمنا فلم ننزع يدا

_ 1 السيرة لابن هشام 4/ 24، وتاريخ الطبري 4/ 152. 2 كذا في الأصل، وفي السيرة هشام 4/ 25: "مفؤودا" أي ضعيف الفؤاد. 3 "أنبت فؤادي" أي انقطع. والبيت: القطع.

وانصر -هداك الله- نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول قد تجردا ... إن كان شر وجهه تربدا1 في فيلق كالبحر يجري سرمدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا يقول: قتلنا وقد أسلمنا قال ابن هشام: ويروى: فانصر هداك الله نصرا أبدا قال ابن هشام ويروي: نحن ولدناك فكنت ولدا قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم"، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان في السماء فقال: "إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب". ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فأخبروه بما أصيب منهم، ومظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأنكم بأبي سفيان وقد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة"، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه، حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء قال: "من أين أقبلت يا بديل؟ "، وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي، قال: "أو ما جئت محمدا؟ " قال: لا؛ فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى؛ فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها قفته؛ فرأى فيه النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه. فقال: يا بنية ما أرى؟ يا بنية أرغبت في هذا الفراش، أم رغبت به عني؟

_ 1 تربدا: تعيرا.

قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس؛ فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: والله يا بنية لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا. ثم ذهب إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكلمه؛ فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها حسن بن علي -رضي الله عنه، غلام يدب بين يديها؛ فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة -رضي الله عنها- فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا أن يجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟. قالت: والله ما بلغ بني ذلك وأن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا على شيئا؟ قال: لا، والله ما أظنه؛ ولكني لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، وقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق؛ فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد على شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة -رضي الله عنه- فلم أجد فيه حدا، ثم جئت أبن الخطاب -رضي الله عنه- فوجدته أدنى العدو. ثم قال ابن هشام: أعدى العدو. قال ابن إسحاق: قال: ثم أتيت عليا -رضي الله عنه- فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني شيئا، أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت. قالوا: فهل أجاز ذلك لك محمد؟ قال: لا، قالوا: يلك، والله أن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت: قال: لا والله لا وجدت غير ذلك. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، فأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر -رضي الله عنه- على ابنته عائشة -رضي الله عنها- وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. قال -رضي الله عنه: فأين ترينه يريد؟ قالت -رضي الله عنها: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالتهيؤ والجد: وقال: "اللهم خذ العيون

والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها"، فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت -رضي الله عنه- بحرض الناس ويذكر مصاب رجال خزاعة: عناني ولم أشهد ببطحاء مكة ... رجال بين كعب تحز رقابها بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ... وقتلى كثير لم تجن ثيابها ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ... سهيل بن عمرو حرها1 وعقابها وصفوان عودا خر من شعر إسته ... فهذا أوان الحرب شد عصانها ولا ناسيا يا ابن أم مجالد ... إذا اختلفت صرفا وأعضل نابها ولا تجزعوا منا فإن سيوفنا ... لها وقعة بالموت يفتح بابها قال ابن هشام: قول حسان: بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم يعين قريشا، وابن أم مجالد عكرمة بن أبي جهل2. قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة -يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره: أنها سارة، مولاة لبني عبد المطلب- وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا؛ فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم، فخرجا حتى أدركاها بالخليفة -خليفة بني أحمد فاستنزلاها بالخليفة، فالتمساه في رحلها؛ فلم يجدا شيئا، فقال لها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض عني، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: "يا حاطب ما حملك علي هذا؟ " فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ماغيرت ولا بدلت، ولكني كنت أمرا ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد أهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: يا رسول الله دعني فلأضربن عنقه، فإن الرجل قد نافق. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع

_ 1 في السيرة لابن هشام 4/ 87: "وخزها". 2 السيرة لابن هشام 4/ 84-88.

إلى أصحاب بدر يوم بدر؛ فقال: "اعلموا ما شئتم، فقد غفرت لكم"؛ فأنزل الله تعالى في حاطب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 1-4] إلى آخر القصة1. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف علي المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري -رضي الله عنه. وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه؛ حتى إذا كانوا بالكديد -بين عسفان وأمج- أفطر. ثم مضى حتى نزل مر الظهران، في عشرة آلاف من المسلمي؛ فصحت معهم، وبعضهم يقول: ألفت سليم وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار؛ فلم يتخلف عنه صلى الله عليه وسلم، منهم أحد؛ فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرون ما هو فاعل؟ وخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به، وقد كان العباس بنعبد المطلب -رضي الله عنه- لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق- قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكره ابن شهاب الزهري. ثم قال ابن إسحاق بعد أن ذكر خبر إسلام أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أمية بن المغيرة المخزومي، وشعرا لأبي سفيان في إسلامه: ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فقلت: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها، حتى جئت الأراك فقلت لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فخرجهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه، قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له؛ إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان. وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، قال: يقول أبو سفيان

_ 1 أخرجه البخاري "4274".

-رضي الله عنه: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: ويحك أبا سفيان! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله! قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمنه لك؛ فركب خلفي ورجع صاحباه. فقال: فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسبقته بما تبسق الدابة البطيئة الرجل البطيء، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: فقلت يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دوني. قال: فلما أكثر عمر -رضي الله عنه- في شأنه قلت: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت له هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب وأسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس إلى رحلك؛ فإذا أصبحت فأتني به" فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي. فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ " قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد، قال صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن أن تعلم أني رسول الله؟ " قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس -رضي الله عنه: ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق وأسلم. قال العباس -رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا. قال صلى الله عليه وسلم: "نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"؛ فلما ذهب لينصرف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله تعالى،

فيراها"، قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي؛ حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه، قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم. فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم ترم القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفذت القبائل، ما ترم قبيلة إلا سألني عنها؛ فإذا أخبرته بهم قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء. قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها، قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار. لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قل: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذا. قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس1، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله؛ وما يغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوي2 وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة3 حمراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله -عز وجل- بحين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرجل. ثم قال بعد أن ذكر شيئا من خبر أبي قحافة -رضي الله عنه- وإسلامه: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير شيبة، ومناشدة أبي بكر -رضي الله عنه- الناس في طوق أخته. وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى أمر الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن يدخل بفي الناس من كذا، وكان الزبير -رضي الله

_ 1 في الأصل: "زق السمن"، والدسم: الكثير والودك. والأحمس: الذي لا خير عنده: من قولهم: عام أحمس إذا لم يكن منه مطرا. 2 ذي طوى بئر بأسفل مكة من ناحية الشمال، وهو بمحلة جرول معروف إلى الآن يغسل عنده حاج المغرب، وبعض الحجاج الذين على مذهب مالك عند دخولهم مكة. 3 الاعتجاز: التعميم بغير ذؤابة. والحبرة: ضرب من ثياب اليمن.

عنه -على المجنبة اليسرى. وأمر سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أن يدخل في بعض الناس من كذا. قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل المعلم أن سعدا -رضي الله عنه- حين وجه داخلا، قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين، قال ابن هشام: هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. فقال: يا رسول الله، اسمع ما قال لسعد بن عبادة، ما نأمن أن تكون له في قريش صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "أدركه، فخذ الراية، فكن أنت الذي تدخل بها". قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح في حديثه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم، وسليم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل من العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- بالصف من المسلمين، ينصب وضربت له هناك قبة. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، كانوا قد جمعوا ناسا بالخندقة2 ليقاتلوا؛ وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلح منه؛ فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: بمحمد وأصحابه. قالت: والله ما أراه يقوم بمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال: إن يقبلون اليوم فما لي عله ... هذا سلاح كامل وآلة3 وذو غرارين سريع السلة ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة؛ فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر -أحد بني محارب بن فهر- وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بن منقذ، وكانا في خيل خلاد بن الوليد -رضي الله عنه، فشذا عنه، فسلكا طريقا غير طريقه، فقتلا جميعا، قتل خنيس بن خالد قبل كرز بن جابر، فجعله كرز بن جابر بين رجليه، ثم قاتل

_ 1 جبل أذاخر: هو الجبل المشرف على المعابدة من ناحية الشمال. 2 جبل الخندمة: هو الجبل المشرف على سوق الليل، والمتصل بجبل أبي قبيس. 3 الآلة: جمع أداة الحرب.

عنه حتى قتل، وهو يرتجز ويقول: لقد علمت صفراء من بني فهر ... نقية الوجه نقية الصدر لأضربن اليوم عن أبي صخر قال ابن هشام: وكان خنيس بن خالد من خزاعة. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر قالا: وكان خنيس يكنى بأبي صخر. وأصيب من جهينة، سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثنى عشر، أو ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا، فخرج حماس منهزما، حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته، أغلقي علي بابي قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالمؤتمة1 ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ... ضربا فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت2 حولنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر قوله: كالمؤتمة: وتروي للرعاش الهذلي هذه الأبيات. وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وحنين، والطائف شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى امرأته من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم، أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم ابن سعد أخو بني عامر بن لؤي: وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فارتد مشركا راجعا إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة، فاستأمن له؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صمت طويلا، ثم قال: "نعم" فلما انصرف عنه عثمان -رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حول من أصحابه: "لقد صمت ليقوم بعضكم

_ 1 "المؤتمة": الثكلى. 2 النهيت: زئير الأسد.

فيضرب عنقه"؛ فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا، إن النبي، لا يقتل بالإشارة". قال ابن هشام: ثم أسلم بعد؛ فولاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعض أعماله، ثم ولاه عثمان -رضي الله عنه- بعد عمر -رضي الله عنهم. قال ابن إسحاق: وعبد الله بن خطل من بني تيم بن غالب؛ وإنما أمر بقتله إنه كان مسلما، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعص معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه، وكان مسلما، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا فيصنع له طعاما، فنام فاستيقظ، ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله. ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان: فرتني وصاحبتها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه. والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، وكان ممن يؤذيه بمكة. قال ابن هشام: وكان العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- حمل فاطمة، وأم كلثوم، بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بهما المدينة؛ فنخس بهما الحويرث بن نقيذ، فرمي بهما إلى الأرض. قال ابن إسحاق: ومقيس بن صبابة؛ وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركا. وسارة مولاة لبني عبد المطلب، وعكرمة بن أبي جهل، وكانت سارة ممن يؤذيه بمكة. وأما عكرمة؛ فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، فخرجت في طلبه، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن حريث المخزومي، وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه. وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله -رجل من قومه- فقالت ابنه مقيس في قتله: لعمري قد أخزي نميله رهطه ... وفجع أضياف الشقا بمقيس فلله عينا من رأى مثل مقيس ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس وأما قينتا ابن خطل، فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأمنها. وأما سارة فاستؤمن لها فأمنها. ثم بقيت حتى أوطأها رجل من

الناس فرسا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالأبطح، فقتلها. وأما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي هند عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب أن أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها- قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم -وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي- قالت: فدخل علي علي بن أبي طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة، وإن فيها لأثرا لعجن، وفاطمة ابنته تستره بثوبه؛ فلما اغتسل صلى الله عليه وسلم أخذ ثوبه فتوشح به. ثم صلى ثمان ركعات في الضحى، ثم انصرف إلي، فقال: "مرحبا وأهلا بأم هانئ، ما جاء بك؟ " فأخبرته خبر الرجلين، وخبر علي -رضي الله عنه- فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أجزنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما". قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به وسعى على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده؛ فلما قضي طوافة، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده، ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة، وقد استكف له الناس في المسجد. قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على باب الكعبة، فقال: "لاإله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة، أو دم، أو مال، يدعى به؛ فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا؛ ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب". ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] الآية كلها. ثم قال صلى الله عليه وسلم "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ " قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فقام إليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجمع لنا الحجابة مع السقاية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين عثمان بن أبي طلحة؟ " فدعي له، فقال صلى الله عليه وسلم "هاك مفتاحك يا عثمان، إن اليوم يوم بر ووفاء".

قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي -رضي الله عنه- فلا أعطيكم ما ترزون، لا ما تزرون. قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: "قاتلهم الله قد جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم، بالأزلام؟ " {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران] . ثم أمر صلى الله عليه وسلم بتلك الصورة كلها فطمست، قال ابن هشام: وحدثني أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال رضي الله عنه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف بلال؛ فدخل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على بلال فسأله: أين صلى الله عليه وسلم ولم يسأله كم صلى. فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا دخل البيت مشي قبل وجهه وجعل الباب قبل ظهره حتى يكون بينه وبين الجدار ثلاث أذرع، ثم يصلي بنواحي الموضع الذي قال له بلال -رضي الله عنه. وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال رضي الله عنه فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد بن الحارث بن هشام -رضي الله عنهم- جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد: لقدج أكرم أسيد ألا يكون سمع هذا فسمع منه مايغيظه. وقال الحارث بن هشام: أما والله لو علم أنه محق لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصاة. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد علمت الذي قلتم"، ثم ذكر ذلك لهم. فقال الحارث وعتاب رضي الله عنهما: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك. قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سندر الأسلمي عن رجل من قومه قال: كان معنا رجل يقال له أحمرا، وكان رجلا شجاعا، وكان إذا نام غط غطيطا منكرا لا يخفي مكانه، وكان إذا بات في جبة بات معتبرا؛ فإذا بيت الحي صرخوا يا أحمر، فيثور مثل الأسد لا يقوم لسبيله شيء، فأقبل أعرابي من هذيل يريدون حاضره، حتى إذا دنوا من الحاضر قال ابن الأثوع الهذلي: لا تعجلوا حتى انظر، فإن كان في الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم فإن له غطيطا لا يخفي. قال: فاسمع؛ فلما كان عام الفتح وكان العد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلي حتى ندخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس، وهو على شركه، فرأته خزاعة

فعرفوه، فأحاطوا به، وهو إلى جنب جدار من جدر مكة، يقولون: أنت قاتل. قال: نعم، أنا قاتل أحمر. فعندئذ أقبل خراش بن أمية مشتملا على السيف؛ فقال هكذا عن الرجل، والله ما نظنه إلا أنه يريد أن يفرج الناس عنه فلما تفرجنا عنه حمل عليه فطنه بالسيف في بطنه؛ فوالله لكأني أنظر إليه وحوشته تسيل من بطنه، وإن عيينه ليريقان في رأسه وهو يقول: قد فعلتموها يا معشر خزاعة حتى أفجعت فوقع؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل إن نفع قتلتم قتيلا لأدينه". قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير، جئته فقلت له: يا هذا، إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة؛ فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رج لمن هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا فقال: "أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض؛ فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا. لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غصبا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس؛ فليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل فيها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله، ولم يحلها لكم، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، قد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه؛ فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله" 1. ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتله خزاعة؛ فقال عمرو لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية، قال أبو شريح: إني كنت شاهدا، وكنت غائبا، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك، فأنت وشأنك. قال ابن هشام: وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: جندب بن الأكوع، قتلته بنو كعب، فواده مائة ناقة. قال ابن هشام: وبلغني عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار؛ فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه ولده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: "ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل صلى الله عليه وسلم بهم حتى أخبروه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم".

_ 1 أخرجه البخاري "4295".

وحدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته؛ فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام، ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] . فما أشار صلى الله عليه وسلم إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعي: وفي الأصنام معتبر وعلم لمن يرجو الثواب أو العقابا قال ابن هشام: وحدثني أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالبيت عام الفتح؛ فلما دنى منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضالة؟ " قال: نعم، فضالة يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "ماذا كنت تحدث به نفسك؟ " قال: لا شيء، أذكر الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "استغفر الله" ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده من صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. قال فضالة -رضي الله عنه-: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها؛ فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا. وانبعث فضالة يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى علي الله والإسلام كوما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الإصنام لرأيت دين الله أصبح بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام ثم قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بني سليم سبعمائة. ويقول بعضهم: آلأف، ومن بني غفار أربعمائة. ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار، وحلفائهم، وطوائف العرب، من بني تميم، وقيس، وأسد1. ثم قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة. قال ابن إسحاق: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان بسنة ثمان ... انتهى2، باختصار المواضع من إنباء خبر فتح مكة المشار إليه، ومن شعر تميم بن أسد، في اعتذاره، من فراره عن منبه، وشعر الأخرز بن لعيط الديلي، وما كان بين كنانة

_ 1 سيرة ابن هشام 4/ 95-106. 2 السيرة 4/ 13.

وخزاعة في تلك الحرب، وشعر لبديل بن عبد مناة، ويقال: له بديل بن أم صرم، أجاب به الأخرز بن لعيط، وشعر حسان بن ثابت، -رضي الله عنه- في المعنى1. وخبر إسلام أبي سفيان بن الحارث بنعبد المطلب في إسلامه2 وخبر أبي قحافة والد أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- يوم الفتح وإسلامه3، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير شيبته، ومناشدة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في طوق أخته، كما سبق بيانه، وغير ذلك من الأشعار التي استشهد بها ابن هشام على بعض ما فسره من الشعر. واختصرنا أيضا من خبر الفتح ما قيل من الأشعار في الفتح، وغيره ذلك.

_ 1 السيرة 4/ 85. 2 السيرة 4/ 88 و89. 3 السيرة 4/ 91.

ذكر فوائد تتعلق بخبر فتح مكة

ذكر فوائد تتعلق بخبر فتح مكة: هذه الفوائد بعضها يخالف ما ذكرناه عن ابن إسحاق وابن هشام من خبر الفتح، وبعضها يوضح بعض أبهمه ابن إسحاق، وابن هشام، في ذلك. منها: أن موسى بن عقبة ذكر في "مغازيه" ما يقتضي أن إغارة بني كنانة على خزاعة التي هي سبب فتح مكة كانت بعرفة؛ لأنه قال فيما رويناه عنه في "مغازيه" فتح مكة: ثم إن بني نفاثة من بني الديل، أغاروا على بين كعب وهم بعرفة ... انتهى. وهذا يخالف ما ذكره ابن إسحاق؛ لأنه قال: ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على مائهم بأسفل مكة، يقال له: الوتير ... انتهى. وإذا كان الوتير بأسفل مكة، كما هو مقتضى هذا الخبر، فهو غير عرفة، والله أعلم بالصواب. وأفاد السهيلي سبب تسميته الوتير؛ لأنه قال: والوتير في اللغة الورد الأبيض، وقد يكون منه بريئا، فيحتمل أن يكون هذا الماء سمي به1 ... انتهى. ولا منافاة بين قول ابن عقبة: "ثم إن بني نفاثة من بني الديل أغاروا على بني كعب" وبين قول ابن إسحاق: "ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة" لأن بني الديل الذي منه بنو نفاثة، هو الدول بن بكر بن كنانة، على ما ذكر ابن البطاح عن أبي اليقظان، كما حكي عنه الحازمي؛ ويدل لذلك قول ابن إسحاق فيما بعد: فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل ... انتهى. وذكر ابن إسحاق ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، من نسبة هذه الإغارة إلى بني نفاثة؛ لأنه أنشد أبياتا لتميم بن أسد أولها: لما رأيت بني نفاثة أقبلوا ... يغشون كل وتيرة وحجاب

_ 1 الروض الأنف 4/ 197.

ومنها: أن ابن عقبة بين البيت من خزاعة؛ لأنه قال فيما رويناه عنه: فأغارت بنو الديل على بني عمرو وعامتهم فيما زعموا؛ نساء وصبيانا وضعفه الرجال، فبيوتهم وقتلوا منهم، حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء بمكة ... انتهى. وبنو عمرو هؤلاء من بني كعب؛ لأن ابن عقبة قال فيما سبق: ثم إن بني نفاثة من بني الديل أغاروا على بني كعب ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين من رفد كنانة من قريش، وقاتل معهم؛ لأنه قال: ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معه من قريش من قاتل بالليل مستخفيا ... انتهى. وقد بين ذلك ابن عقبة؛ لأنه قال: ويذكر أن ممن أعانهم من قريش: صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو ... انتهى. وبين ذلك ابن سعد أيضا، وأفاد في ذلك ما لم يفده ابن عقبة؛ لأنا روينا عن الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس في "سيرته" بعد ذكره لقول ابن إسحاق: ورفدت بني بكر قريشا بالسلاح، ذكر ابن سعد منهم: صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف ... انتهى. ولا منافاة بين ما ذكره ابن عقبة وابن سعد فيمنأعان من قريش بني بكر لإمكان أن يكون الذين ذكرهم ابن عقبة وابن سعد أعانوا بن بكر، وذكر ابن عقبة بعضهم، وابن سعد بعضهم، ويكون المعين لبني بكر من قريش خمسة نفر، على مقتضى ما ذكر ابن عقبة وابن سعد، والله أعلم. ومنها أن قريشا رفدت بني كنانة بدقيق، أفاد ذلك ابنه عقبة؛ لأنه قال: وأعانتهم قريش بالسلاح والدقيق ... انتهى. وهذا لا يفهم مما ذكره ابن إسحاق. ومنها: أن الفاكهي ذكر خبرا يوهم أن سبب فتح مكة غير ما سبق؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: وكانت خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأصابت بنو بكر منهم قتيلا: فقالت بنو بكر لقريش: لا تسلموا بني عمكم، فكلم بديل بن ورقاء قريشا فقالوا: لا تسلمه فركب بديل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يصدقه، وأرسل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم طليعة يستطلعهم، قال: فجاء به بديل بن ورقاء، فجعل يقف به على قريش ويكلمهم، فقالوا: قد عرفنا

إنما أنت مستطلع؛ فوالله لا نسلمهم. فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، فأنشأ حينئذ يتجهز لنصر حلفاته1. ومنها: أن ابن سعد ذكر أنه خرج مع عمرو بن سالم الخزاعي لإعلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعل كنانة، فيهم أربعون راكبًا؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحق؛ لأنه قال: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العهد والميثاق، بما استحلوا من خزاعة، كانوا في عقد وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي -أحد بني كعب- حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ... انهى. وكلام ابن سعد رويناه في "السيرة" لابن سيد الناس؛ لأنه قال: بعد أن ذكر كلام ابن إسحاق هذا بعد قوله: خرج عمرو بن سالم الخزاعي، قال ابن سعد: في أربعين راكبًا، قال ابن سيد الناس بعد ذكره لقول ابن إسحق فيما بعد: "ثم خرج بديل بن ورقاء وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم ... انتهى. قلت: لعل الأربعين راكبًا الذين ذكر ابن سعد قدومهم من خزاعة مع عمرو سالم هو هؤلاء ... انتهى2. ومنها: أن ابن عقبة ذكر في جواب أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- لأبي سفيان بن حرب -رضي الله عنه- حين سألهما أن يكلما له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء له -غير ما ذكره ابن إسحق؛ لأنه -أعني ابن عقبة- قال: فخرج -يعنى أبو سفيان- من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتي أبا بكر -رضي الله عنه- فقال: جدد العقد، وزد في المدة؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه- جواري في جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. ثم خرج فأتي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكلمه؛ فقال عمر -رضي الله عنه: ما كان من حلفنا جديدًا فأخلقه الله، وما كان منه متينًا قطعه الله، وما كان منه مقطوعًا فلا وصله الله. فقال أبو سفيان: جزاك الله من ذي رحم شرًا ... انتهى. وإنما كان هذا مخالفًا لما ذكره ابن إسحق من جواب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- لأبي سفيان؛ لأنه قال: ثم خرج -يعني أبو سفيان- حتى أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلمه، فلم يرد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فكلمه في أن يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فقال: ما أنا لفاعل، ثم أتي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكلمه

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 207. 2 عيون الأثر: 2/ 165.

فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ... انتهى. ومخالفة هذا لما ذكره ابن عقبة ظاهرة؛ لأن ابن عقبة جعل جواب أبي بكر جواب عمر الذي ذكره ابن إسحق وإن اختلف لفظهما، فالمعنى واحد. وجعل جواب عمر -رضي الله عنه- غير ما ذكره ابن إسحق، والله أعلم بالصواب. وذكر الفاكهي خبرًا فيه ما يدل لما ذكره ابن عقبة من جواب عمر لأبي سفيان -رضي الله عنه1. ومنها: أن كلام ابن إسحق يقتضي أن أبا سفيان بعد جواب عمر -رضي الله عنه- له لما ذكره، سأل عليًا بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يجير بين الناس، وأن عليًا -رضي الله عنه- أجابه بعد الاستطاعة، وأن أبا سفيان سأل بعد ذلك فاطمة الزهراء ابنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تأمر ابنها الحسن بن علي -رضي الله عنه- أن يجير بين الناس، وأن فاطمة -رضي الله عنها- أجابته أن ابنها ما بلغ أن يجير بين الناس، وما أحد يجير على رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ وذلك يخالف ما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال بعد ذكره لجواب عمر -رضي الله عنه- بما سبق: ثم دخل على عثمان -رضي الله عنه- فقال عثمان -رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أتبع أشراف قريش والأنصار فكلمهم، فكل يقول: عقدنا في عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما أيس مما عندهم دخل على فاطمة ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمها، فقالت: إنا أنا امرأة؛ وإنما ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال: فأمري أحد ابنتيك، فقالت: إنهما صبيان ليس مثلهما يجير. قال: فكلمي عليًا، قالت: أنت تكلمه، فكلم عليًا -رضي الله عنه، فقال: يا أبا سفيان، إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله يقتات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجوار ... انتهى. ووجه مخالفة هذا لما ذكره ابن إسحق أنه يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- كلم عثمان، ثم أشراف قريش، والأنصار، ثم فاطمة -رضي الله عنها، أن يجيروا قبل أن يكلم عليًا في ذلك، وكلام ابن إسحاق يقتضي خلافه، والله أعلم. وذكر الفاكهي خبرًا فيه ما يدل لما ذكره ابن عقبة من سؤال أبي سفيان لفاطمة -رضي الله عنها، فيما يصلح به الإصلاح بين الناس. ومنها: أن الفاكهي ذكر خبرًا يوهم أن أبا سفيان لم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء له من تجديد الحلف والإصلاح بين الناس؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن إدريس بن عمر من كتابه، قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة ...

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 209.

فذكر خبرا يقتضي موادعة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ودخول خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخول بني بكر في صلح قريش، وما كان بين خزاعة وبني بكر بعد ذلك من القتال، وإعانة قريش لهم بالسلاح والطعام، وتخوف قريش أن يكونوا قد نقضوا، وإرسالهم أبا سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجدد الحلف، ويصلح بين الناس، وقدوم أبي سفيان إلى المدينة، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الحلف، ويصلح بين الناس، وقدوم أبي سفيان إلى المدينة، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أبو سفيان فيرجع راجيا بغير حاجة. قال: فأتى أبا بكر -رضي الله عنه- فقال: يا أبا بكر، جدد الحلف وأصلح بين الناس، أو قال: بين قومك؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه: الأمر إلى الله تعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال له فيما قال: إن أعانوا قوما على قوم وأمدوهم بسلاح وطعام ما إن يكونوا نقضوا1؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه: الأمر إلى الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم2 ... انتهى. ومنها: أن الفاكهي ذكر ما يوهم أن قدوم أبي سفيان بن حرب المدينة لتجديد الحلف والإصلاح بين الناس كان قبل قدوم وافد خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، لإعلامه بما كان من قتال بني بكر لهم، ومعاونة قريش عليهم؛ لأن في الخبر السابق بعد ذكر إتيان أبي سفيان لعمر، وقوله له نحوا مما قال لأبي بكر، وجواب عمر لأبي سفيان بنحو من جوابه الذي أجابه، على نحو ما ذكره ابن عقبة، وإتيانه لفاطمة -رضي الله عنها- له: ليس الأمر إلي، وإتيانه عليا -رضي الله عنه، له بالجيرة بين الناس: ثم انطلق -يعني أبو سفيان- حين3 قدم مكة، فأخبرهم بالذي صنع؛ فقالوا: ما رأينا كاليوم وافد عشيرة، والله ما أتيتنا اليوم بحرب فنحذر، ولا أتيتنا اليوم بصلح فنأمن، ارجع. قال: وقدم وافد خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي صنع القوم، ودعاه إلى النصر، وأنشد في ذلك شعرا4 ... انتهى. ومنها: أنابن عقبة ذكر ما يوهم أن بين خروج أبي سفيان إلى المدينة، وتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة مدة طويلة؛ لأنه قال بعد أن ذكر خروج أبي سفيان إلى مكة ووصوله إليها، وحلقه رأسه عند الصنمين اللذين عند الكعبة، ليرى الناس أنه على الدين الذي كان عليه؛ لأن الناس تحدثوا حين طال مكثه أنه قد أسلم، فمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما شاء الله أن يمكث، بعدما خرج من عنده أبو سفيان، ثم اعتد في الجهاد ... انتهى. وهذا لا يفهم من كلام ابن أسحاق، والله أعلم بالصواب.

_ 1 كذا بالأصل، وبأخبار مكة للفاكهي 5/ 209. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 208. 3 كذا في النسخ، والظاهر أنه: "حتى". 4 اخبار مكة للفاكهي 5/ 208-209.

ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع علي، الزبير بن العوام -رضي الله عنهما- لإحضار كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين بمكة، يخبرهم فيه بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. وذكر الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري في "المبهمات" خبر كتاب حاطب، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لطلب الكتاب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- وفي الخبر الذي ذكره الحافظ عبد الغني أمور لا تفهم من الخبر الذي ذكره ابن إسحاق في ذلك؛ فنذكره لمافيه من الفائدة. قال الحافظ عبد الغني بعد أن ذكر حديثين ليس فيهما بيان ما تعرف به المرأة التي حملت كتاب حاطب: هذه المرة الحاملة لكتاب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- هي أم سارة، مولاة لقريش، والحجة في ذلك ما حدثنا به يعقوب بن المبارك، أن محمد بن جعفر بن أعين حدثهم، قال: حدثنا الحسن بن بشر بن مسلم الكوفي سنة عشرين، قال: أخبرنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس -رضي الله عنه- قال: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة، إلا أربعة من الناس: عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة الكناني، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأم سارة، ثم قال بعد أن ذكر خبر ابن خطل، وابن أبي سرح، ومقيس بن صبابة: وأما أم سارة فإنها كانت مولاة لقريش، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئا ثم أتاها رجل فدفع إليها كتابا إلى أهل مكة، يتقرب بذلك إليهم ليحفظه في عياله، وكان له بها عياله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فبعث في أثرها عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- فلحقاها، ففتشاها، فلم يعثرا على شيء معها، فأقبلا راجعين؛ فقال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، ارجع بنا إليها، فرجعا إليها، فسلا سيفيهما، وقالا: والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن إلين الكتاب؛ فأنكرت. ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا ترادني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلا ذلك منها، فحلت عقاص رأسها، فأخرجت الكتاب من قرن من قرونها، فدفعته إليهما، فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعاه إليه ... انتهى باختصار. ومنها: أن كلام ابن إسحاق لا يفهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث يطلب كتاب حاطب مع علي -رضي الله عنه، غير الزبير بن العوام -رضي الله عنه، لقوله وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء، بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- ... انتهى. وذكر البخاري ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع علي والزبير -رضي الله عنهما- أبا مرثد؛ وذكر ذلك في كتاب "استتابه المرتدين" في باب ما جاء في المتأولين؛ لأنه روي عنه بسنده إلى أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، أنه

قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير وأبا مرثد، وكلنا فارس. قال "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ" 1. وذكر البخاري -أيضا- ما يفهم منه غير ما ذكر في هذا الباب؛ لأنه روي بسنده عن عبيد الله بن أبي رافع، سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد؛ فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ" ... فذكر القصة، وهذا الحديث أخرجه في باب غزوة الفتح من كتاب المغازي2. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن المرأة التي معها كتاب حاطب بن أبي بلتعة أخرجته لعلي -رضي الله عنه- ومن معه من قرون رأسها؛ فاستخرجت الكتاب منها، فدفته إليه ... انتهى. وذكر ابن إسحاق قبل ذلك ما يدل له، وذكر ابن عقبة ما يوافق ما ذكره ابن إسحاق، وذكر البخاري أيضا ما يوافق ذلك؛ لأن في الحديث الذي رواه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي -رضي الله عنه: فأخرجته من عقاصها3، وذكر البخاري ما يقتضي أنها أخرجته حجزتها4؛ لأن في الحديث الذي رواه في كتاب "استتابة المرتدين" الذي فيه ذكر أبي مرثد: "فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الصحيفة". وذكر مثل ذلك في الحديث الذي أخرجه في باب "فضل من شهد بدرا" من رواية أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي -رضي الله عنه- وفيه ذكر أبي مرثد -رضي الله عنه- وقوله في هذين الحديثين: أخرجته من حجزتها بكساء، يقتضي أنها أخرجته من وسطها؛ لأن الكساء لا يحتجز به في الرأس لكبره؛ وإنما يحتجز به في الجسد لستره البدن؛ وذلك يخالف ماذكره ابن إسحاق من أنها أخرجته من قرون رأسها، ويخالف أيضا ما ذكره البخاري من حديث عبيد اللهبن ألأبي رافع عن علي -رضي الله عنه. ومنها: أنه ابن إسحاق ذكر أن اسم المرأة التي حملت كتاب حاطب: سارة، وزعم لي غيره أنها مولاة لبعض بني عبد المطلب ... انتهى. وقد سبق في الحديث الذي

_ 1 روضة خاخ: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد "معجم البلدان 3/ ولعلها قرب الموضع المسمى بالحمراء في طريق المدينة-مكة". 2 أخرجه البخاري "4274". 3 العقاص: جمع عقصة أو عقيصة، وهي الضفيرة من الشعر إذا لوى وجعل قبل الرمانة أو لم تلو. 4 الحجزة: يقال: احتجز الرجل: إذا شد إزاره على وسطه، والحجزة: موضع الشد.

سبق ذكره عن الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، أن حاملة كتاب حاطب أم سارة، مولاة لقريش. وقد سبق ذكر ذلك قريبا. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم المرأة المزنية التي قيل إنها حملتة كتاب حاطب؛ لقوله: ثم أعطاه امرأة، يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ... انتهى. وقد بين ذلك الحافظ مغلطاي في "سيرته"؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: فكتب حاطب كتابا، وأرسله مع أم سارة المزنية حاملة كتاب حاطب، وفي هذا ما يفهم منه خلاف ما في الصحيحين. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر في الموضع الذي أدركت فيه المرأة حاملة كتاب حاطب فما يفهم منه خلاف ما في صحيح البخاري؛ لأن ابن إسحاق قال: فخرجا يعني عليا والزبير -رضي الله عنهما- حتى أدركاها بالخليفة خليفة1 بني أحمد ... انتهى. والذي في البخاري عن علي -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير والمقداد -رضي الله عنهما، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب"، قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة؛ فإذا نحن بالظعينة. انتهى باختصار، وذكر البقية من القصة. أخرج هذا الحديث في غزوة الفتح، وأخرج مثله في تفسير سورة الممتحنة، وفي "باب فضل من شهد بدرا" إلا أن في الحديث الذي أخرجه في هذا الباب2: أبا مرثد بدل المقداد، وأخرج مثل ما في هذا الباب في باب ما جاء في المتأولين في كتاب استتابة المرتدين؛ إلا أن أبا عوانة روى الحديث الذي أخرجه في "باب ماجاء في المتأولين" قال: حاج، بدل خاخ. ثم قال البخاري بعد تمام الحديث: خاخ أصح. ولكن كذا قال أبو عوانة: حاج وخاخ تصحيف، وهو موضع. وابن هشام يقول: خاخ ... انتهى. وخاخ الذي أشار إليه البخاري أنه أصح بخاءين معجمتين، وخاخ الذي أشار إلى أنها تصحيف بحاء مهملة وألف وجيم؛ ذكر ذلك الحافظ أبو ذر الهروي؛ لأنه قال في أثناء حديث أبي عوانة: حاج بحاء مهملة وجيم، كذا الرواية هنا، والصواب بخاءين معجمتين؛ هكذا وجدته منقولا عن أبي ذر بخط بعض المحققين. وذكر ابن عقبة: أن عليا والزبير -رضي الله عنهما- أدركا المرأة -حاملة كتاب حاطب- ببطن ريم3 لأنه قال: فانطلقا حتى أدركا المرأة ببطن ريم ... انتهى.

_ 1 الخليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال كما في ياقوت. 2 الحديث أخرجه البخاري "3985". 3 ريم: واد قرب المدينة.

وذكر القاضي عياض في "المشارق" أن ريم على أربعة برد من المدينة على ما قال مالك، وقيل: ثلاثين ميلا، كما في مصنف عبد الرزاق، وأن روضة خاخ موضع بحمراء الأسد من المدينة. وحكى العابدي أنه موضع قريب من مكة، والأول أصح1 ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر ما في كتاب حاطب من اللفظ الذي عبر به عن المعنى الذي أخبر به أهل مكة، وقد ذكر السهيلي شيئا في بيان ذلك؛ لأنه قال: "فضل في ذكر كتاب حاطب إلى قريش"، ثم قال: وقد قيل: إنه كان في الكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو صار إليكم وحده لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده2. وفي تفسير ابن سلام أنه كان في الكتاب الذي كتبه حاطب: إن محمدا قد نفر إما إليكم، وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم اليوم الذي خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لقوله: وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر مضين من شهر رمضان ... انتهى. وبين ذلك الحاكم النيسابوري فيما نقله عنه الحافظ مغلطاي في "سيرته"؛ لأنه قال: وخرج من المدينة في عشرة آلاف رجل، وقال الحاكم: في اثنى عشر، يوم الأربعاء، بعد العصر لعشر مضين من رمضان ... انتهى. وذكر الأزرقي عن الواقدي ما يوافق ما ذكره الحاكم، وسيأتي ذلك -إن شاء الله- فيما بعد، عند طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في خروجه إلى مكة حتى بلغ الكديد لقوله: فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه؛ حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر ... انتهى. وذكر الفاكهي خبرين يقتضيان خلاف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا أبو بشر برك بن خلف، قال: حدثنا ابن عدي، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح حتى بلغ عسفان3. وقال أيضا: حدثنا هارون بن موسى المروزي قال: حدثني إبراهيم، وحدثنا محمد بن يحيى الرماني: وحسين بن حسن المروزي، قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي

_ 1 المشارق 1/ 250، وفيه: وحكى الصابوني أنه موضع قريب من منى. 2 الروض الأنف 4/ 97. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210.

جميعا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح؛ فصام حتى بلغ كراعة الغميم1، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا صلى الله عليه وسلم بقدح من ماء بين الصلاتين فشربه، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعض الناس، وصام بعضهم. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناسا صاموا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أولئك العصاة" ثلاث مرات2 ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين الوقت الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه مر الظهران، وقد بين ذلك ابن سعد، مع أمرين آخرين لا يفهمهما كلام ابن إسحاق؛ لأن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس قال في "سيرته" فيما أخبرت به عنه: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران3، وقال ابن سعد: نزله عشاء؛ فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار. وجعل على الحرس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه4 ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أإن بديل بن ورقاء هو القائل لأبي سفيان لما تعجب مما رآه من النيران والعسكر بمر الظهران: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب. وكلام ابن عقبة يقتضي أن أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، قالوا ذلك. وأنهم قالوا في ذلك غيره؛ وذلك أرضا لا يفهم من كلام ابن إسحاق؛ لأن ابن عقبة قال: وبعثت قريش أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وخرج معهما بديل بن ورقاء، فاطلعوا على مر الظهران حتى بلغوا الأراك؛ وذلك عشاء، فإذا النيران والفساطيط، والعسكر، وسمعوا صهيل الخيل فراعهم ذلك، وفزعوا؛ فقالوا: هذه بنو كعب حمشتها5 الحرب ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: هؤلاء أكثر من بني كعب، ثم قالوا: فلعلكم هوازن انتجعوا أرضنا، ولا والله ما يعرف هذا أيضا ... انتهى. وذكر الفاكهي في الخبر الذي رواه عن محمد بن إدريس بن عمر -المشار إليه- ما يقتضي أن أبا سفيان لما سأل عن العسكر والنيران، قيل له في ذلك غير ما سبق؛ لأنه قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فارتحلوا؛ فسار حتى نزلوا مر، قال: وجاء أبو سفيان ليلا؛ فرأى العسكر والنيران، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: هذه تميم، أمحلت بلادها، وانتجعت بلادكم، قال: هؤلاء والله أكثر من أهل منى، أو قال: مثل أهل منى6 ... انتهى.

_ 1 كراع الغميم: بالضم، موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة "معجم البلدان 4/ 443"، ويقال له اليوم: كراع فقط، وهو موضع مشهور حتى الآن بهذا الاسم وهو في طريق مكة-المدينة. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210. 3 عيون الأثر 2/ 168. 4 الطبقات الكبرى 2/ 157. 5 حمشتها: حرضتها. 6 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210-211.

ومعنى قوله في هذا الخبر: هؤلاء والله أكثر من أهل منى: شبههم في الكثرة بالحجاج الذين ينزلوا بمنى، وليس المراد من ذلك أهل منى الذين هم سكانها دائما لقلتهم، والله أعلم. وفي البخاري ما يقتضي أن أبا سفيان شبه ما رآه من النيران بمر الظهران بنيران عرفة، وسيأتي ذلك قريبا، ومراد أبي سفيان بنيران عرفة النيران التي يوقدها الحجاج بعرفة لكثرتهم، والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان لم يعلم بخبر ما رأى بمر الظهران من العسكر إلا من العباس -رضي الله عنه؛ لأنه قال بعد أن ذكر خروج العباس -رضي الله عنه- عن العسكر رجاء أن يجد من يبعثه إلى أهل مكة ليعلمهم الخبر؛ حتى يخرجوا فيستأمنوا لأنفسهم، ومحاورة أبي سفيان وبديل فيما رأيا من النيران والعسكر، قال: فعرفت صوته -يعني أبا سفيان- فقلت: يا أبا حنظلة؛ فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟! قلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي، قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان. فأخبره العباس الخبر ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان لما علم من العباس -رضي الله عنه- بما رآه وتعجب منه من العسكر والنيران استشار العباس -رضي الله عنه- فيما يصنع؛ فأشار إليه العباس -رضي الله عنه- بأن يذهب معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنه له؛ ففعل أبو سفيان ذلك. وكلام ابن عقبة يقتضي أن أبا سفيان ومن معه أخذوا قهرا، وذهب بهم إلى العسكر فلقيهم العباس -رضي الله عنه- وأجارهم؛ لأنه قال: بعد أن ذكر قول أبي سفيان، وحكيم وبديل فيما رأوه من العسكر والنيران بمر الظهران: فبينما هم كذلك لم يشعروا حتى أخذهم نفر، كان بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش، نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟ فلما دخل بهم إلى العسكر، لقيهم العباس -رضي الله عنه- فأجارهم؛ فقال: يا أبا حنظلة ثكلتك أمك وعشريتك؛ هذا محمد رسول الله وجميع المؤمني، فأدخلوا فأسلموا ... انتهى. وفي هذا موافقة لما في الخبر الذي ذكره الفاكهي من أن أبا سفيان علم خبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير العباس -رضي الله عنه1.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 211.

وذكر البخاري ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، من أخذ حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان، وحكمي، وبديل؛ لأنه قال: "باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ ": حدثني عبيد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبلغ ذلك قريشا، خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة؛ فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بن عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك؛ فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1 ... انتهى باختصار. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يوهم أن حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، لم يحضرا مع أبي سفيان عند النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، لقوله بعد أن ذكر ركوب أبي سفيان خلف العباس -رضي الله عنه: ورجع صاحباه، وكلام ابن عقبة يقتضي أنهما حضرا مع أبي سفيان عند النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران؛ لأنه قال تلو قوله: فادخلوا، فأسلموا، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثوا عنده عامة الليل يحادثهم ويسألهم، ثم دعاهم إلى الإسلام؛ فقال: "اشهدوا أن لا إله إلا الله" فشهدوا، ثم قال: "اشهدوا أني محمد رسول الله"؛ فشهد حكيم وبديل -رضي الله عنه- انتهى. وذكر ابن عقبة في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن من دخل دار حكيم بن حزام، قال: ودار حكيم بأسفل مكة ... انتهى. ولعلها بالموضع المعروف بالحزامية، بقرب الخزورة، والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان إنما أسلم في صبيحة الليلة التي حضر فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم إن لا إله إلا الله؟ " إلى أن قال: فشهد شهادة الحق وأسلم ... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: فلما نودي للصلاة تبادر الناس ففزع أبو سفيان؛ فقال للعباس -رضي الله عنه: ما تريدون؟ قال: الصلاة، ورأى الناس يتلقون وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما رأيت ملكا قط كالليلة، ولا ملك كسرى، ولا ملك قيصر، ولا بني الأصفر2؛ فسأل العباس -رضي الله عنه- أن يدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخله، فقال: يا محمد قد استنصرت إلهي، واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من

_ 1 أخرجه البخاري "4280". 2 بنو الأصفر: وهم الروم وملكهم هو القيصر.

مرة إلا ظهرت علي؛ فلو كان إلاهي محقا، وإلهك مبطلا لقد غلبتك؛ فشهد أن محمدا رسول الله ... انتهى. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- أسلم ليلا؛ لأنه قال في الخبر الذي رواه عن ابن إدريس تلو قوله: فأخبره العباس -رضي الله عنه- الخبر، وانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة لم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا سفيان أسلم تسلم" قال: فكيف أصنع باللات والعزى؟ قال أيوب: فحدثني أبو الخليل عن سعد بن جبير، قال: فقال له عمر -رضي الله عنه- وهو خارج من القبة في عنقه السيف: اخرا عليها، أما والله لو كنت خارجا من القبة ما قلتها أبدا. فقال أبو سفيان: من هذا؟ قالوا: عمر، ثم رجع إلى حديث أيوب عن عكرمة، قال: فأسلم أبو سفيان -رضي الله عنه-، وانطلق به العباس -رضي الله عنه- إلى منزله، فلما أصبحوا ثار الناس لظهورهم، فقال أبو سفيان -رضي الله عنه-: يا أبا الفضل أو أسر الناس في بشيء؟ قال: لا، ولكنهم قاموا إلى الصلاة ... انتهى باختصار. ومنها: أن كلام بان إسحاق لا يفهم السبب الذي لأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس -رضي الله عنه- أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عنه خطم الخيل حتى تمر به جنود الله. وقد ذكر الفاكهي شيئا يدل على بيان سبب ذلك؛ لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن: حدثنا علي بن عاصم، عن حصين عن عبيد الله بن معبد الله، قال: فلما جعل أبو سفيان -رضي الله عنه- يساير العباس بن عبد المطلب رأى من الناس انتشارا، والناس في حوائجهم بحضرة عدوة. قال: فبهؤلاء يريد أن يغلبني ويقتلني محمد. قال: يا عباس أنبئني من خلق السماء؟ قال: الله، قال: فأنبئني من خلق الأرض؟ قال: الله. وجعل يسأله عن أشياء نحوها؛ فعرف أن الإسلام لم يدخل قلبه، فتخلف عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "ادع لي خالد بن الوليد"، فدعى له، وهو على مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "يا خالد"، قال: لبيك يا رسول الله، قال: "أضم إليك الخيل"؟ قال: نعم، فضم إليه الخيل قال: "ادعوا لي أبا عبيدة بن الجراح" فدعى له، فقال: "يا أبا عبيدة أضم إليك الناس؟ " قال: نعم. فضم إليه الناس، قال: وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضعفاء، وفي المشاة، وفي الردافي؛ فقال للعباس -رضي الله عنه- فوقف بأبي سفيان في المكان الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يحدثه إذ أقبل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في الخيل؛ فلما رآهم أبو سفيان -رضي الله عنه- في الخيل قال: يا عباس! أفي هؤلاء محمد؟ قال: لا، هذا خالد بن الوليد، هذا سيف الله. قال: فمضى خالد في خالد. ثم أقبل أبو عبيدة بالناس، فلما رآهم قال: يا عباس! أفي هؤلاء محمد؟ قال: لا، هذا أبو

عبيدة بن الجراح، هذا أمين الله على الناس. قال: فمضى أبو عبيدة في الناس، ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم في الردافي، والمشاة، وضعفاء الناس؛ فلما رآهم عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فقال: يا عباس! هذا محمد؟ قال: نعم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله -عز وجل- قد أرعبه، وأنه يسأل الأمان. قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" 1 ... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يدل لسبب حبس أبي سفيان، حتى تمر عليه جنود الله -عز وجل- وأفاد فيما ذكره بيان الموضع الذي حبس فيه؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحاق؛ لأنه قال: فلما توجهوا -يعني أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء- ذاهبين. قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس إني لا آمن أبا سفيان أن يرجع عن الإسلام، فيكفر، فاردده حتى يفقه ويرى من جنود الله تعالى معك"؛ فأدركه العباس -رضي الله عنه- فحبسه. فقال أبو سفيان -رضي الله عنه: أغدرا يا بني هاشم؛ قال: ستعلم أنا لسنا نغدر، ولكن لي إليك حاجة، فأصبح حتى تنظر إلى جنود الله، وإلى ما أعد الله للمشركين. فحبسهم بالغميم2 دون الأراك إلى مكة حتى أصبحوا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: لتصبح كل قبيلة قد ارتحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته، وتظهر ما معها من العدة، فأصبح الناس على ظهر، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه الكتائب؛ فمرت كتيبة على أبي سفيان -رضي الله عنه- فقال: يا عباس! أفي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قال: فمن هؤلاء؟ قال: قضاعة، ثم مرت القبائل على راياتها؛ فرأى أمرا عظيما رعبه الله به ... انتهى. وهذا يقتضي أن يكون الغميم دون مر الظهران إلى مكة؛ لأن أبا سفيان -رضي الله عنه- حبس بالغميم ليرى ما أعز الله -تعالى- به الإسلام من الجنود، والجنود مرت عليه بالغميم؛ بعد توجهها من مر الظهران إلى مكة، فيكون الغميم بين مر الظهران ومكة. وإنما ذكرنا ذلك؛ لأن كلام النووي يقتضي أن يكون بين مر الظهران وعسفان؛ لأنه قال: كراع الغميم -هو بضم الكاف- والغميم -بفتح الغين وكسر الميم- وهو واد بين مكة والمدينة، بينه وبين مكة مرتحلتين، وهو أمام عسفان بثمانية أميال، يضاف إليه هذا الكراع، وهو جبل أسود بطرف الحرة يمتد إليه، ونقل أن صاحب "المطالع" أنه بضم الغين وفتح الميم، ثم قال: قلت: هذا تصحيف ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 211-213. 2 الغميم: بفتح أوله وكسر ثانيه، كراع الغميم: إليه منسوب، وهو بجانب المراض، والمراض بين رابغ والحصفة "معجم ما استعجم 3/ 1006".

ومنها: أن ابن إسحاق ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي سفيان في كتيبة الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار؛ لأنه قال: بعد قوله فيقول: ما لي ولبني فلان؛ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار؛ وذلك يخالف ما في "صحيح البخاري"؛ لأن فيه أن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بنم عبادة -رضي الله عنه- ومعه الراية، قال: ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة أخرى هي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير -رضي الله عنه، كذا وقع عند جميع الرواة، وروى الحميدي في كتابه: هي أقل الكتائب، وهو الأظهر كما قال الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس على ما أخبرت به عنه في "سيرته"، ومنها نقلت ما ذكرناه عن البخاري والحميدي، وقوله في البخاري: ثم جاءت كتيبة، وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأخرج البخاري ذلك في الباب الذي ترجم عليه بقوله: "باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح"1. وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن كتيبة الأنصار حين مروا بأبي سفيان -رضي الله عنه- كانت مع سعد بن عبادة -رضي الله عنه؛ لأنه قال: ومرت الكتائب تتلو بعضها بعضا على أبي سفيان، وحكيم، وبديل، لا ترم عليهم كتيبة إلا سألوا عنها، حتى مرت كتيبة الأنصار، فيهم سعد بن عبادة ... انتهى. ووقع في نسختي من "مغازي" موسى بن عقبة: وابن حكيم، والصواب: وحكيم بإسقاط "بن"؛ لأن الكلام لا يستقيم إلا بإسقاط: "بن"، والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن المهاجرين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين مر بأبي سفيان -رضي الله عنه، وكلام ابن عقبة يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال بعد قوله السابق: رعبه الله به، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام -رضي الله عنه- على المهاجرين، وخيلهم ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- بعد أن أطلقه العباس -رضي الله عنه، أبلغ أهل مكة تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لمن دخل دار أبي سفيان، ومن أغلق عليه بابه، ومن دخل المسجد2.

_ 1 عيون الأثر 2/ 170. 2 كان ذلك إبقاء من الرسول العظيم على مجد زعيم ألقي السلاح، وهي حكمة جليلة، ودليل تسامح ما بعده من تسامح، وهذه هي شريعة الإسلام؛ فأين منها ما يصنعه الغرب من إعدام القواد المستسلمة، ومحاكمتهم والقضاء عليهم بلا هوادة ولا رحمة، ولقد أبقى الرسول على أبي سفيان وأبقى له ظلا ظليلا يلوذ به أتباعه وجنوده.

وذكر الفاكهي ما يقتضي أن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- هو الذي أبلغ ذلك قريشا؛ لأن في الخبر الذي رواه عن ابن العباس: فقال العباس -رضي الله عنه: يا رسول الله لو أذنت لي فأتيت أهل مكة فدعوتهم وأمنتهم، وجعلت لأبي سفيان شيئا يذكر به. قال: فانطلق العباس -رضي الله عنه- حتى ركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، ثم انطلق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا علي أبي، فإن عم الرجل صنو أبيه". قال: فانطلق العباس -رضي الله عنه، حتى قدم على أهل مكة فقال: يا أهل مكة أسلموا، تسلموا؛ قد استبطنتهم بأشهب بازل. قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبير -رضي الله عنه- من قبل أعلى مكة، وبعث خالد بن الوليد من قبل أسفل مكة؛ فقال لهم العباس -رضي الله عنه- من قبل أعلى مكة، وبعث خالد بن الوليد من قبل أسفل مكة، فقال لهم العباس -رضي الله عنه: هذا الزبير من قبل أعلى مكة، وخالد بن الوليد من قبل أسفل مكة، خالد وما خالد وخزاعة المخزعة الأنوف، قال: ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قال ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتراموا بشيء من النبل1 ... انتهى باختصار. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأسه يوم فتح مكة عمامة حمراء لأنه قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته محتجزا بشقة برد حبرة حمراء ... انتهى. وذكر الفاكهي ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال: حدثني أحمد بن عبيد عن عاصم بن مضرس الأنصاري، قال: أخبرن أبو بكر عمرو الضبي، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة معتجرا بعمامة سوداء، والعباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- كذلك ... انتهى باختصار. وقال الفاكهي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا بشير بن السري، حدثنا حماد بن أبي سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء ... انتهى. ولا يعارض ذلك حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر2، لإمكان أن تكون العمامة السوداء أو الشقة الحمراء المشار إليها هنا من فوق المغفر، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 213. 2 البخاري "4286"، الحميدي "1212"، أخبار مكة للفاكهي 5/ 215، 216.

ومنها: أن كلام ابن إسحاق موهم في بيان الموضع الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل منه إلى مكة يوم فتحها؛ لأنه قال: وحدثني ابن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء ... انتهى. ووجه الإبهام في كلام ابن إسحاق أنه لم يقل كداء التي أمر الزبير بالدخول منها بأعلى مكة، ولا بأسفلها، ولم يقل مثل ذلك في كدي التي أمر سعد بالدخول منها التي بأسفل مكة؛ فهو مخالف لما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كدي من أعلى مكة، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته، وأمره أن يغرزها بالحجون، ولا يبرح حيث أمره أن يغرزها، حتى يأتيه ... انتهى. ومنها: أن هشام ذكر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمع سعد بن عبادة حين قال: اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة وأن عمر -رضي الله عنه- أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وما نأمن أن يكون له في قريش صولة1. وذكر الأموي ما يخالف ذلك؛ لأن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس قال فيما أخبرت به عنه: وقال الأموي: وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بيد سعد بن عبادة؛ فلما مر بها على أبي سفيان -وكان قد أسلم أبو سفيان- فقال سعد إذ نظر إليه: اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الأنصار، حتى إذا حاذى أبا سفيان نادى: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟! فإنه زعم سعد ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا، أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم، وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: ما نأمن سعدا أن يكون منه قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله فيه قريشا" 2 ... انتهى. وهذا مخالف لما ذكره ابن هشام من وجهين: أحدهما: أن أبا سفيان أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقالة سعد.

_ 1 السيرة لابن هشام 4/ 406. 2 عيون الأثر 2/ 171.

والآخر: أن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن هما القائلان: ما نأمن أن يكون من سعد في قريش صولة. ووقوع ذلك منهما أقرب من وقوعه من عمر، لشدته في دين الله، والله أعلم. وذكر ابن عقبة ما يوافق ما ذكره الأموي من أن أبا سفيان سمع مقالة سعد وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، واستعطفه على قريش، وسيأتي ذلك قريبا، وفي "صحيح البخاري" مثل ذلك؛ لأن في حديث فتح مكة الذي ترجم عليه بقوله "باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ ": فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة1؟ ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يأخذ الراية من سعد، وأن يدل علي بها؛ لأنه قال بعد ذكر ما نسبه لعمر من الكلام السابق في حق سعد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "أدركه فخذ الراية؛ فكن أنت الذي تدخل بها". وهذا مخالف لما ذكر الأموي؛ لأنه قال بعد ذكره لما سبق، ولشعر قاله ضرار بن الخطاب الفهري في يوم فتح مكة، ليستعطف به النبي صلى الله عليه وسلم على قريش: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فنزع اللواء من يده، وجعله بيد قيس ابنه، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه؛ إذ صار إلى ابنه، قيس ... انتهى. وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره الأموي، لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن قال: حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، قال: حدثني طاوس وعامر، قالا: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم خالد بن الوليد -فذكر شيئا منخبره يأتي ذكره- ثم قال: ألا إن راية الأنصار في يد سعد بن عبادة، وقد مات سعد بن معاذ، وصار سعد بن عبادة سيد القوم، الراية في يده؛ فبينما هو واقف، والأنصار إذ نظر فلم ير حوله إلا الأنصار، فقال: اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة ودخل معهم من المهاجرين من لا يفطن له، فاتشد وهم لا يعلمون، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما سمع من سعد بن عبادة: فقال له: "أنت سمعته يقول هذا؟ قال: نعم، قال: "من هاهنا ادع إلى قيس بن سعد بن سعد بن عبادة"؛ فجاء الرسول وهو واقف مع أبيه، والراية في يد أبيه، وقال قيس: يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه؛ فقال: "يا قيس". قال: لبيك يا رسول الله، فقال: "اذهب فخذ الراية من سعد" قال: نعم يا رسول الله،

_ 1 البخاري "4280".

قال: فجاءه الأنصار حوله؛ فقال: أعطني الراية، قال: لا، لا أم لك. قال: أعطنيها ولا تحمق نفسك. قال: لا. إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا. قال: أمرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسمعا وطاعة، ودفع الراية إلى قيس ابنه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، والراية مع قيس بن عبادة ... انتهى. وذكر الفاكهي أيضا ما يخالف ما ذكرناه عنه؛ لأنه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن أبي ميسرة، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثتني أم عرزة، عن أمها عن جدها الزبير بن العوام قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لواء بن عبادة، ودخل مكة بلواءين ... انتهى1. ونقل ابن عقبة ما يوافق الخبر الذي رواه الفاكهي عن ابن أبي ميسرة؛ لأنه قال بعد عبادة في كتيبة الأنصار على أبي سفيان: فنادى -أي سعد- أبا سفيان؛ فقال: اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة فلما جاز به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، وقال أبو سفيان: أمرت بقومك أن يقتلوا، فإن سعد بن عبادة ومن معه حين مروا بي نادوني: اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستحل الحرمة وإني أنشد الله في قومك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فعزله وجعل الزبير مكانه على الأنصار مع المهاجرين؛ فسار الزبير بالناس حتى وقف بالحجون، وغرز راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى. فتحصل من هذه الأخبار فيمن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أخذها من سعد بن عبادة ثلاثة أقوال: أولها: أنه على بن أبي طالب -رضي الله عنه- عغلى مقتضى ما ذكره ابن إسحاق. وثانيها: أنه قيس بن سعد، على ما ذكره الأموي والفاكهي. وثالثها: أنه الزبير بن العوام على ما ذكره الفاكهي أيضا وابن عقبة. ومنها: أن ابن عقبة ذكره ما يقتضي أن سعدا كان قد أعطى رايته قبل أخذها لابنه قيس؛ لأنه قال: وبعث سعد بن عابدة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدفع سعد رايته إلى قيس بن سعد ... انتهى. وهذا لا يفهم من كلام ابن إسحاق.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 216.

ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين صفة راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقد بين ذلك الفاكهي؛ لأنه قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا شريك بن عبد الله النخعي، عن عمار الذهبي، عن ابن الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولواؤه أبيض. قال الحسن بن علي: يعني يوم الفتح ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يفهم أن أبا عبيدة بن الجراح كان يوم فتح مكة على المشاة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى. ويتأيد ذلك بما رويناه في "صحيح مسلم"1 من أن أبا عبيدة كان على البيادقة يعني الرجالة، وقد سبق ضبط البيادقة2 في الباب الأول، فأغنى عن إعادته. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أبا عبيدة لم يكن يوم الفتح -أي فتح مكة- على الرجالة إلا في الخبر الذي سبق ذكره عنه في بيان سبب حسب أبي سفيان حتى مر عليه جنود الله. قال: ادعوا إلى عبيدة بن الجراح، فدعى له، قال: يا أبا عبيدة ضم إليك الناس. قال: نعم، وضم إليه الناس، قال: وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضعفاء، وفي المشاة، وفي الردافى ... انتهى. ويتأيد ذلك في حيث المعنى بأن المقصود إرهاب أبي سفيان، وإرهابه بمرور أبي عبيدة ومعه غير المشاة؛ أقوى من إرهابه بمرور أبي عبيدة عليه والمشاة مع أبي عبيدة ... والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم فتحها من أذاخر3؛ لأنه قال: ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، ضربت هناكل قبته ... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية كداء بأعلى مكة؛ لأنه قال: ولما علا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنية كداء نظر إلى البارقة على الجبال، ثم فضض المشركين، فقال: "ما هذا؟ نهيت عن القتال"؛ فقال المهاجرون: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتل من قاتله، وما كان ليعصيك، ولا ليخالف أمرك، فهبط رسول الله من الثنية، فأجاز على الحجون ... انتهى. وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني معن بن عيسى، عن عبد الله بن عمر، عن

_ 1 صحيح مسلم "فتح مكة: 86". 2 "البيادقة" هم الرجالة من الجيش، وسموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم. 3 "أذاخر": جبل قريب من مكة في الشمال الغربي لها.

حفص، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، فقال: "كيف قال حسان بن ثابت يا أبا بكر؟ " فأنشده أبو بكر رضي الله عنه: عدمت ثنيتي إن لم يروها ... تثير النقع من كتفي كداء ينازعن الأعنة مشفعات ... يلطمهن بالخمر النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخلوا من حيث قال حسان"؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كداء أعلى مكة1 ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن عقبة يقتضي أن القصة التي ذكرها ابن إسحاق لحماش، وقعت لغيره؛ لأن ابن عقبة قال: فدخل رجل من هذيل -حين هزمت بنو بكر- على امرأته، فلامته وعجزته وعيرته بالفرار، فقال: وأنت لو رأيت يوم الخندق ... إذ فر صفوان وفر عكرمة ولحقتنا بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة قال: وقال ابن شهاب: قالها حماش أخو بني سعد بن ليث ... انتهى. وذكر ابن إسحاق أنه هذه الأبيات لبعض هذيل؛ لأنه قال: ويروي لخراش الهذلي. فاستفدنامن هذا الخلاف في صاحب هذه القصة، هل خراش أو غيره، والله أعلم بالصواب ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق خولف فيما ذكره من عدد من قتل من المشركين يوم فتح مكة؛ لأنه قال: وأصيب من المشركين ناس قريب من اثني عشر أو ثلاث عشر، ثم انهزموا ... انتهى. وقال ابن عقبة: واندفع خالد بن الوليد حين دخل من أسفل مكة فلقيته بنو بكر، فقاتلوا فهزموا، وقتل من بني بكر قريبا من عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا وقتلوا بالحزورة، حتى بلغ قتلهم باب المسجد ... انتهى. وقال ابن سعد: قتل أربعة وعشرون رجلا من قريش، وأربعة من هذيل. ذكر ذلك عن ابن سعد2 -هكذا- الحافظ أبو الفتح اليعمري في "سيرته" بعد ذكره لكلام ابن إسحاق في ذلك، فيما أخبرني به بعض مشايخنا عن الحافظ أبي الفتح3.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 214، 215. 2 الطبقات الكبرى 2/ 136. 3 عيون الأثر 2/ 173.

وذكر الفاكهي خبرا فيه ما يقتضي أن المقتولين من المشركين يوم فتح مكة سبعون رجلا، وذكر لذلك سببا؛ فاقتضى الحال ذكر ذلك لما فيه من الفائدة، لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن قال: حدثنا علي بن عصام، عن عطاء بن السائب، قال: حدثني طاوس وعامر، قالا: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فأنالهم شيئا من قتل. فجاء رجل من قريش فقال: يا رسول الله هذا خالد بن الوليد قد أسرع في القتل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار عنده: "يا فلان"، قال: لبيك يا رسول الله، قال: "ائت خالد بن الوليد، فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن لا تقتل بمكة أحدا"، فجاء الأنصار، فقال: يا خالد، إن رسول الله يأمرك أن تقتل من لقيت من الناس. فاندفع خالد، فقتل سبعين رجلا بمكة، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش، فقال: يا رسول الله هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم، قال: "ولم؟ "، قال: هذا خالد لا يلقى أحدا من الناس إلا قتله. قال: "ادع لي خالدا" فدعى له، قال: "يا خالد ألم أرسل إليك أن لا تقتل أحدا؟ "، قال: بل أرسلت إلي أن اقتل من قدرت عليه. قال: "ادع لي الأنصاري"، فدعى له، فقال: "ألم آمرك أن تأمر خالدا ألا يقتل أحدا؟ " قال: بلي، ولكنك أمرت وأراد الله غيره؛ فكان ما أراد الله. قال: "يا خالد"، قال: لبيك يا رسول الله. قال: "لا تقتل أحدا" ولم يقل للأنصاري شيئا ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يقتل يوم فتح مكة إلا من قاتل من المشركين؛ لأنه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر ... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر ... انتهى. وروينا في مسند ابن حنبل ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل غير من استثناه؛ لأنه قال: حدثنا يحيى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر"، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: "كفوا السلاح" 1 ... انتهى. وذكر الفاكهي أنه قال: حدثنا حسن بن حسين أن ابن أبي عدي قال: حدثنا حسن المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر" فأذن لهم حتى صلوا العصر، ثم أمرهم أن

_ 1 أخرجه أحمد 2/ 179.

يكفوا السلاح؛ حتى إذا كان الغد لقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر بالمزدلفة فقتله؛ فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا وظهره إلى الكعبة، فقال: "إن أعتى الناس على الله من عدا في الحرم، ومن قتل غير قاتله، ومن قتل بذحول الجاهلية" 1 ... انتهى باختصار. ومنها: أن ابن سعد -أحد بني عامر بن لؤي- الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، هو ابن أبي سرح؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحاق، ووقع في بعض نسخ سيرته تمسيته بعبد الله، وذلك لا يفهم أيضا أنه ابن أبي سرح، وقد ذكره عقبة بأوضح مما ذكره ابن إسحاق؛ لأنه قال: وأمرهم بقتل أربعة نفر: عبد الله بن سعد بن أبي سرح ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر في سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن أبي سرح، سوى ارتداده إلى الشرك بعد الإسلام، وكتابته الوحي للنبي صلى الله عليهة وسلم بأمره صلى الله عليه وسلم قبل الفتح، وهاجر، وكانت يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد مشركا إلى قرى بمكة، فقال لهم: إني كنت أصرف محمدا حيث ارتد، كان يملي عزيز حكيم، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم، كل صواب2 ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين أخوة الرضاع التي بين أبي سرح، وعثمان بن عفان، وبين ذلك أن عبد البر؛ لأنه قال تلو قوله كل صواب: فلما كان يوم الفتح، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، وقتل عبد الله بن خطل، ومقيس بن ضباعة، ولو وجدوا تحت أستار الكعبة؛ ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان -رضي الله عنه- وكان أخاه من الرضاعة، أرضعته أم عثمان رضي الله عنه2 ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق لا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم عن أحد من الحاضرين عنده، لما جاء ابن أبي سرح أنه يريد قتل ابن أبي سرح؛ لأنه قال: بعد أن ذكر مجيء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبر طويلا، ثم قال نعم؛ فلما انصرف عثمان -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله من أصحابه: "لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه" ... انتهى. وفي الخبر الذي سبق ذكره عن الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم عن بعض الحاضرين عنده، لما جاء ابن أبي سرح أنه يريد قتل ابن أبي سرح؛ لأنه في الخبر المذكور، ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن أبي سرح إذا رآه. وكان أخا عثمان -رضي الله عنه- من الرضاعة، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشفع

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 219. 2 السيرة لابن هشام 4/ 407.

له؛ فلما بصر به الأنصاري اشتمل السيف على عاتقه وخرج في طبله، فوجده في حلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهاب قتله، فجعل يتردد، ويكره أن يقدم عليه؛ لأنه في حلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فبايعه، ثم قال للأنصاري: "قد انتظرتك أن توفي بنذرك"، قال: يا رسول الله هبتك، أفلا أومأت إلي، قال: "إنه ليس لنبي أن يومئ" ... انتهى. وكان ابن أبي سرح فارس بني عامر بن لؤي معدودا فيهم، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان مجاب الدعوة، وله في ذلك خبر غريب؛ وذلك أن محمد بن حذيفة بن عقبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي نزع مصر من ولاية ابن أبي سرح هذا لما توجه أبن أبي سرح إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بالمدينة، ومنعه ابن حذيفة من دخول مصر لما عاد من المدينة فمضى إلى عسقلان1، وقيل: إلى الرملة2 ودعى ربه أن يجعل خاصة عمله صلاة الصبح، فتوضأ ثم صلى، قرأ في الركعة الأولى بأم القرآن، والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه، وذهب ليسلم عن يساره، فقبض الله روحه -على ما ذكر يزيد بن أبي حبيب وغيره- فيما حكاه ابن عبد البر في "الاستيعاب"، ومنه لخصت ما ذكرت من حاله. وذكر ابن عبد البر أنه لم يبايع لعلي ولا معاوية -رضي الله عنهما- وأنه توفي سنة ست أو سبع وثلاثين، وقيل: ست وثلاثين. ومنها: أن ابن إسحاق سمي ابن خطل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله عبد الله؛ لأنه قال: وعبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب ... انتهى. وقد اختلف في اسمه، فقيل: عبد الله، كما ذكر ابن إسحاق، وقيل اسمه: هلال ذكره الفاكهي في خبر يأتي ذكره، وذكره السهيلي؛ لأنه قال: وقد قيل في اسمه: هلال، قال: وقد قيل هلال كان أخاه، وكان يقال لهما: الخطلان، وهما من تيم بن غالب بن فهر3 ... انتهى. وقال ابن بشكوال في "المبهمات" لما تكلم على حديث قتل ابن خطل: اختلف في اسمه، فقيل عبد الله، وقيل: عبد العزى، وقيل: هلال، ذكر ذلك كله الدرقطني في "سننه". وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن اسمه: قيس؛ لأنه قال: وأمر بقتل قيس بن خطل يوم الفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى.

_ 1 "عسقلان": مدينة على ساحل البحر بفلسطين. 2 "الرملة": إحدى مدن فلسطين. 3 السيرة لابن هشام 4/ 410.

وذكر الفاكهي ما يقتضي أن اسمه: عبد العزيز؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، قال حدثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن الناس يوم الفتح، إلا أربعة منهم عبد العزيز بن خطل1 ... انتهى. ولعل عبد العزيز -كما في هذا الخبر- تصحيف من الناسخ، فإن عبد العزى يشبه في الصورة: عبد العزيز، والله أعلم. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن الذي قتل ابن خطل: سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، اشتركا في قتله، وذكر الفاكهي منا يخالف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن سليمان حدثنا زيد بن حباب، ثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد، حدثني جدي، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "أربعة لا أؤمنهم في حل ولا في حرم: الحارث بن نقيد، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وهلال بن خطل"، قال: فقتل علي -رضي الله عنه- الحارث بن نقيد، وقتل مقيس ابن عم له، وقتل هلال بن خطل الزبير بن العوام رضي الله عنه2 ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين الموضع الذي قتل فيه ابن خطل، وبين ذلك ابن جريج في الخبر الذي سبق ذكره قريبا من كتاب الفاكهي؛ لأن فيه وقتل ابن خطل، وهو آخذ بثياب الكعبة يتعوذ بها انتهى. وفي الصحيحين3 وغيرهما ما يشهد لما ذكره ابن جريج، وروينا مثل هذا في "مبهمات" الحافظ عبد الغني بن سعيد؛ لأن في الحديث الذي سبق في بيان حاملة كتاب حاطب: فأما عبد العزى فإنه قتل وهي آخذ بأستار الكعبة ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن الذي قتل مقيس بن صبابة: نميلة بن عبد الله، رجل من قومه. وذكر الفاكهي في الخبر الذي سبق ذكره قريبا عن ابن جريج خلاف ذلك؛ لأن فيه: وقتل مقيس بن صبابة سعيد بن حريث، أو عمر بن حريث. وأفاد في هذا الخبر موضع قتله؛ لأنه قال: وأما مقيس عند الردم ... انتهى. والمراد -والله أعلم- بالردم: ردم بني جمح الذي قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه، كمان سبق في باب ذكر الموضع الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الباب الحادي والعشرين من هذا الكتاب. وليس المراد بالردم الذي بأعلى مكة؛ لأنه لم يكن إلا في خلافة عمر بن الخطاب، عمل صونا للمسجد من السيل حين ذهب بالمقام عن موضعه.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 220. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 219. 3 البخاري "4286"، مسلم "الحج: 1357".

ومنها: أن كلام ابن ‘إسحاق يقتضي أن الرجل الذي قتله مقيس بن صبابة، وارتد بعد قتله، من الأنصار؛ لأنه قالك -لما ذكر الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم: ومقيس بن صبابة؛ وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركا ... انتهى. وذكر الحافظ عبد الغني بن سعيد، ما يخالف كلام ابن إسحاق هذا؛ لأنه قال في الخبر الذي سبق ذكره: وأما مقيس بن صبابة؛ فإنه كان له أخ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل خطأ؛ فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني فهر، ليأخذ له عقله من الفهري؛ فلما جمع له العقل رجل القهقري، فوثب مقيس وأخذ حجرا فجلد به رأسه، فقتله، ثم أقبل وهو يقول: شقى النفس من قد بات خاضع ... مسندا يضرح بثوبين وماء الأخادع وكانت هموم النفس من قبل قتله ... كذا تنسى وطاء المضاجع حللت به نذري وأدركت بغيتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع وفي حاشية كتاب الحافظ عبد الغني: ثارت به فهر وحملت عقله ... سراة بني النجار إن مات فارع ... انتهى. وفيما ذكره الحافظ عبد الغني من خبر مقيس ما لا يفهم مما ذكره ابن إسحاق. ومنها: أن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس ذكر هبار بن الأسود فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة هبارا هذا، وهو هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي. ولعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، لما صنع بزينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث بها زوجها أبا العاص بن الربيع إلى المدينة؛ وذلك أن هبارا تعرض لها في سفهاء من قريش فأهوى هبار إليها، ونخس دابتها، فسقطت عن دابتها وألقت ما في بطنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن وجدتم هبارا، فأحرقوه بالنار، ثم اقتلوه"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" فلم يوجد، ثم أسلم هبار وحسن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن سيد الناس في سبب قتل هبار ما ذكرناه بالمعنى؛ لأنه قال: وأما هبار بن الأسود فهو الذي عرض لزينب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ما سبق بالمعنى1. ومنها: أن الحافظ علاء الدين مغلطاي ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى من أمانه يوم الفتح جماعة غير الذي ذكرهم ابن إسحاق؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: ونادى

_ 1 عيون الأثر 2/ 176، 177.

منادية -عليه السلام: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، إلا من استثنى وهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم، وابن خطل قتله أبو برزة، وقينتان، فربما أسلمتا، وسارة، ويقال كانت مولاة عمرو بن صيفي، وهاشم، وأرنب، وقريبة قتلت، وعكرمة بن أبي جهل أسلم، والحويرث بن نقيذ قتله علي، ومقيس بن صبابة نميلة الليثي، وهبار بن الأسود أسلم، وكعب بن زهير أسلم، وهند بنت عتبة أسلمت، ووحشي بن حرب أسلم ... انتهى. وقد سبق التعريف بشيء من هؤلاء المستثنين إلا كعب بن زهير؛ فإنه ابن أبي سلمة المزني الشاعر المشهور صاحب: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول القصيدة المشهورة التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم. وهند بنت عتبة، وهي امرأة أبي سفيان أم معاوية بن أبي سفيان. ووحشي هو قاتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب. ولعل الأمر بقتل وشحي وهند لما فعلا بحمزة بن عبد المطلب؛ فإن وحشيا قتله، وهند بنت عتبة مقرت عن كبد حمزة فلاكتها؛ فلم تستطع أن تستسيغها، فلفظتها، وكانت هي ونسوة معها يجد عن الآذان والأنوف من قتلى المسلمين يوم أحد ... انتهى، والله أعلم. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم قينتي ابن خطل؛ وإنما اسم إحداهما، وأنه فرتني1، وبين ذلك ابن سيد الناس في غير موضع؛ لأنه قال: وأما قينتا ابن خطل فرتني وقريبة، فقتلت إحداهما، واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخرى، فأمنها، فعاشت مدة، ثم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم2. وقال أيضا عن ابن سيد الناس غير واحد من أشياخي. وذكر السهيلي أن اسم قينتي بن خطل فرتني، وسارة3، وهذا يخالف ما ذكره ابن سيد الناس، من أن اسم إحداهما قريبة، والأخرى فرتني، والله أعلم بالصواب. وسيأتي ذكر كلام السهيلي قريبا. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن إحدى قينتي ابن خطل قتلت، والأخرى لم تقتل؛ لأنه قال: وأما قينتا ابن خطل؛ فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فأمنها ... انتهى.

_ 1 السيرة لابن هشام 4/ 410. 2 عيون الأثر 2/ 177. 3 الروض الأنف 4/ 104.

وذكر السهيلي ما يقضي أنهما لم تقتلا وأنهما أمنتا. وسيأتي كلامه قريبا. ومنها: أن كلام أبن إسحاق يقتضي أن سارة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها؛ غير قينة ابن خطل، لأنه قال فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح: وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، ثم قال -بعد ما ذكر قينتي ابن خطل: وأما سارة فاستؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرسا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالأبطح، فقتلها1 ... انتهى. وذكر السهيلي ما يقتضي أن سارة هذه إحدى قينتي ابن خطل؛ لأنه قال: وأما القينتان اللتان أمر بقتلهما وهما سارة وفرتني، فقد أسلمت فرتني وأمنت سارة، وعاشت إلى زمن عمر بن الخطاب، ثم وطئها فرس فقتلها2 ... انتهى. وهذا هو كلام السهيلي الذي أشرنا إلى أنه يخالف ما ذكره ابن سيد الناس في قتل إحدى قينتي ابن خطل، وتأمين الأخرى، ويخالف ما ذكره ابن إسحاق أيضا في أن سارة إحدى قينتي ابن خطل، وأنها التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، ولا أعلم له سلفا فيما ذكره، والله أعلم. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين قينة ابن خطل اليت استؤمن لها رسول الله، وقد بين ذلك الحافظ مغلطاي؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه في ذكر المستثنين من الأمان يوم الفتح: وابن خطل قتله أبو برزة الأسلمي، وقينته فرتنا أسلمت، ثم قال: وقريبة قتلت ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر سارة فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح. وذكر الفاكهي عن ابن جريج ما يقتضي أنها أم سارة. وذكر الحافظ عبد الغني سعيد المصري في "مبهماته" ما يوافق ما ذكره الفاكهي عن ابن جريج كما سبق، وسيأتي ذكر ما ذكره الفاكهي في ذلك. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن سارة لم تقتل في زمن الفتح، وذكر الفاكهي عن ابن جريج: أن أم سارة قتلت في الفتح، فإن كانت أم سارة التي ذكرها ابن جريج هي سارة التي ذكرها ابن إسحاق؛ فقد خولف ابن إسحاق في اسمها وحياتها في زمن الفتح. وإن كانت أم سارة التي ذكرها ابن جريج غير سارة التي ذكرها ابن إسحاق، فيكون ابن إسحاق قد ترك بعض من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، ويستفاد ذلك من كلام ابن جريج لا من كلام ابن إسحاق، والأول هو الظاهر، والله أعلم، وإذا كان كذلك فيستفاد من الخبر الذي ذكره الفاكهي عن ابن جريج فائدة لا تفهم من كلام ابن إسحاق، وهي سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أم سارة.

_ 1 السيرة لابن هشام 4/ 410، 411. 2 الروض الأنف 4/ 104.

ويظهر ذلك مع ما أشرنا إليه أولا بذكر الخبر الذي ذكره الفاكهي؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بنعبد الرحمن، حدثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن الناس يوم فتح مكة؛ إلا أربعة: عبد العزيز بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة قينة لبني هاشم كانت تدعو على النبي صلى الله عليه وسلم حين تصبح وحين تمسي؛ فأما أم سارة فقتلت ... انتهى باختصار. وذكر الحافظ عبد الغني بنسعدي أن سبب قتل أم سارة حملها كتاب حاطب بن سبق ذكرنا له عنه؛ لأن فيه: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة، إلا أربعة فذكرهم، منهم أم سارة، ثم قال: وأما أم سارة فإنها كانت مولاة لقريش؛ فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئا، ثم أتاها رجل يدفع إليها كتابا إلى أهل مكة يتقرب بذلك إليهم ليحفظ في عياله، وكان له بها عيال، فأخبر جبريل -عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فذكر بقية الخبر السابق، وهذا يخالف ابن جريج في سبب قتل أم سارة، والله أعلم بالصواب. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث بن نقيذ، سوى أنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة -لقوله بعد ذكره للحويرث: وكان ممن يؤذيه بمكة1. وذكر السهيلي ما يقتضي أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث له سبب آخر؛ لأنه قال: وأم الحويرث بن نقيذ الذي أمر بقتله مع ابن خطل، فهو الذي نخس بزنيب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أدركها هو وهبار بن الأسود، فسقطت عن دابتها، وألقت جنينها2 ... انتهى. وذكر ابن هشام ما يقتضي أن سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث، كونه نخس بفاطمة وأم كلثوم ابنتي النبي، ورمى بهما إلى أرض، لما بعثها العباس من مكة إلى المدينة؛ لأنه ذكر كلاما معناه هذا، بعد قول ابن إسحاق في شأن الحويرث بن نقيذ: وكان ممن يؤذيه بمكة، والمعروف أن المشركين عرضوا لزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، لا لأختيها فاطمة وأم كلثوم؛ فيكون الحويرث نخس بزينب، لا بفاطمة وأم كلثوم، والله أعلم بالصواب. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن الثماني ركعات التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكةى، على ما ذكر ت أم هانئ من الضحى.

_ 1 السيرة لابن هشام 4/ 411. 2 الروض الأنف 4/ 104.

وذكر السهيلي ما يقتضي أنها صلاة الفتح؛ لأنه قال: فصل: ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ، وهي صلاة الفتح، يعرف ذلك عند أهل العلم، وكان الأمراء يصلونها إذا افتتحوا بلدا، قال الطبري1: صلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- حين افتتح المدائن، ودخل إيوان كسرى قال: فصلى فيه صلاة الفتح. قال: ويه ثمان ركعات، لا يفصل بينها، ولا تصلي بإمام؛ فبين الطبري سنة هذه الصلاة وصفتها. ومن سننها أيضا أن لا يجهر فيها بالقراءة، والأصل ما تقدم في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ؛ وذلك ضحى2. انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين ما كان من حال فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم مع أم هانئ، وقد بين ذلك الفاكهي في خبر ذكره؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي طالب تقول: لما كان يوم الفتح، أتاني حموان لي؛ فأمنتهما، فجاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يريد أن يقتلهما، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت فاطمة، وكانت أشد علي من علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقالت: لم تؤمنين المشركين وتجيرينهم؟ فبينما أنا عندها إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه رهجة الغبار، فقلت: يا رسول الله إني أمنت حموين لي، وإن ابن أمي علي بن أبي طالب يريد قتلهما. فقال: "ما كان ذلك له، قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت" ... انتهى باختصار. ومنها: أن ابن هشام، قال في تفسير الرجلين اللذين أجارتهما أم هانئ يوم الفتح: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة3 ... انتهى. وقد تقدم قوله بأن الذي أجارته أم هانئ هو ابنها جعدة بن هبيرة، حكاه السهيلي2 وغيره، وفيه بعد لقولها في السيرة: وفر إلي رجلان من أحماي من بني مخزوم، ومرداهم بقولها: أحماي بسط العذر لها في إجازتها لهما، ولو كان المجار ابنها لقالت ابني، فإنه أولى في بسط العذر لها في ذلك، ولا يعارض ذلك قول ابن عبد البر. وفي حديث مالك وغيره أن الذي أجارته بعض بني زوجها هبيرة بن أبي وهب لإمكان أن يكون ابن زوجها الذي أجارته من غيرها، والله أعلم.

_ 1 تاريخ الطبري 4/ 16. 2 الروض الأنف 4/ 103. 3 السيرة لابن هشام 4/ 411.

وممن ذكر أن أحد الرجلين اللذين أجارتهما أم هانئ -رضي الله عنه- الحارث ابن هشام: الزبير بن بكار وغيره. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم اليوم الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة، بعد أن فتح الله عليه مكة، وذكر الأزرقي عن الواقدي ما يبين ذلك؛ لأنه قال: حدثني جدي عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الجمعة لعشر ليال بقين من شهر رمضان، فبث السرايا في كل وجه ... انتهى. وإذا كان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في اليوم المشار إليه؛ فهو اليوم الذي طاف فيه بالكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالكعبة يوم دخل مكة في الفتح، على ما هو مقتضى الأخبار الواردة في ذلك، وخحرجح مغلطاي في "سيرته" بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالكعبة يوم الجمعة، لعشر بقين من رمضان؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: وطاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان ... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق روى بسنده إلى صفية بنت شيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نزل مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت؛ فطاف به سبعا على راحلته1، وهذا ليس فيه بيان ما تعرف به الراحلة التي طاف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدة رواحل وهي: العطباء، والقصواء، والجدعاء، وإن كان قيل في الجميع إنهن واحدة، وقد بين ذلك ابن عمر -رضي الله عنه- في حديثه في دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم فتح مكة، وصلاته فيما، على ما رويناه عنه في الصحيحين وغيرهما؛ وفي لفظ البخاري فيه: حدثنا شريح بن النعمان قال: حدثنا فليح، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وهو مردف أسامة -رضي الله عنه- على القصواء، ومعه بلال، وعثمان بن طلحة؛ حتى أناخ عند البيت، ثم قال لعثمان: "ائتنا بالمفتاح" فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة، وبلال، وعثمان -رضي الله عنهم، ثم أغلقوا عليهم الباب، فمكث نهارا طويلا2 ... انتهى باختصار. ومنها: أن ما ذكره ابن إسحاق في طواف النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته، لقوله فيه: فطاف به سبعا على راحلته. وقد روينا في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ما يخالف ذلك في صحيح مسلم وغيره. ولفظ مسلم: أخبرنا ابن عمر قال: أنبأنا سفيان، عن أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، على ناقة

_ 1 السيرة لابن هشام 4/ 46. 2 أخرجه البخاري "4289".

أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم عاد عثمان بن طلحة؛ فقال: "ائتني بالمفتاح" فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبي. فأعطته إياه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب، قال: ثم ذكر مثل حديث حماد بن زيد ... انتهى. توفي حديث ابن عمر السابق قريبا من "صحيح البخاري" ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته وذلك يوافق ماذكره ابن إسحاق والله أعلم بالصواب، وحديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق من "صحيح مسلم" أخرجه الأزرقي في تاريخه عن جده، عن سفيان بن عيينة عن أيوب1 من غير إحالة في نفسه، على خلاف ما صنع مسلم. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة بسبب مفتاح الكعبة، وليس في كلامه ما يبينم هل هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم أو برسول إلى عثمان -رضي الله عنه-، لقوله ابن إسحاق: فلما قضي طوافه دعا عثمان بن طلحة ... انتهى. وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق قريبا من "صحيح البخاري" ما يدل على أنه دعاه بنفسه لقوله فيه: ثم قال صلى الله عليه وسلم لعثمان: "ائتنا بالمفتاح". وذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في ذلك إلى عثمان -رضي الله عنه- بلالا، ثم أبا بكر -رضي الله عنه-، وعمر -رضي الله عنه-، لما أبطأ عثمان -رضي الله عنه، لأنه قال: حدثني جدي، عن محمد بن إدريس عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، بعدما طاف على راحلته، فجلس ناحية من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة -رضي الله عنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: "قل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن تأتيه بمفتاح الكعبة". فجاء بلال إلى عثمان -رضي الله عنه-: نعم، فخرج إلى أمه "سلافة بنت سعد" بن سعيد الأنصارية، ورجع بلال -رضي الله عنه- مع الناس؛ فقال عثمان لأمه، والمفتاح يومئذ عندها: يا أمه أعطيني المفتاح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلي، وأمرني أن آتي به إليه. فقالت له: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب بمأثرة قومك على يديك. قال: والله لتدفعنه أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجرها وقالت: أي رجل يدخل يده هاهنا؛ فبينما هما على ذلك، إذ سمعت سوت أبي بكر -رضي الله عنهما- في الدار، وعمر -رضي الله عنه- رافع

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 268.

صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان اخرج، فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح، فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أن تأخذه تيم أو عدي، فأخذه عثمان، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناوله إياه؛ فلما ناوله إياه فتح الكعبة1 ... انتهى باختصار. وذكر الواحدي في تفسيره "الوسيط" وكتابه "أسباب النزول" ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى عثمان بن طلحة، ليأخذ منه مفتاح الكعبة في يوم فتح مكة، ولكن كلام والواحدي يقتضي أن عثمان -رضي الله عنه- لم يكن حين أخذ ذلك منه مسلما، وهو يخالف ما ذكره العلماء بهذا الشأن، من أنه كان مسلما. وفي طلب بنفسه المفتاح من عثمان -رضي الله عنه-، والله أعلم. ومنها: أن ما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح الكعبة، يوم فتح مكة؛ وإنما فتحت له، لقوله: فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها2. وفي حديث ابن عمر السابق من "صحيح مسلم" ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح الكعبة بنفسه في يوم الفتح لقوله فيه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدفعه إليه ففتح الباب. وفي الخبر السابق من تاريخ الأزرقي عن الواقدي ما يوافق ذلك، لقوله فيه: فلما ناوله إياه فتح الكعبة. وبوب المحب الطبري في "القرى" على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المشار إليه بقوله: "ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح البيت بنفسه" ... انتهى؛ ولكن في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق في "صحيح البخاري" ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأن فيه قال لعثمان: "ائتنا بالمفتاح" فجاءه بالمفتاح، ففتح له، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى. وهذا يوافق ما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم بالصواب. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وليس فيما ذكره ما يبين هل طال مكثه صلى الله عليه وسلم فيه أو قصر، ولا هل كان البيت مغلقا أو مفتوحا؟ ولا هل كان على الباب أحذ يذب الناس أم لا؟ فأما طول مكثه صلى الله عليه وسلم في البيت وإغلاق بابه في يوم الفتح ففي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق من "صحيح البخاري" ما يقتضي ذلك لقوله فيه: ثم أغلقوا عليهم الباب فمكث نهارا طويلا. وفي حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أيضا ما يدل لإغلاق الباب؛ لأن في "سنن النسائي" من حديثه، أنه دخل هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر لإغلاقه الباب؛ لأن في "سنن النسائي" من حديثه، أنه دخل هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالا -رضي الله عنه- فأجاف الباب3 ... انتهى باختصار. وحديث أسامة هذا يقتضي أن بلالا -رضي الله عنه- هو الذي أجاف الباب؛

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 226. 2 سيرة ابن هشام 4/ 46. 3 أخرجه النسائي في سننه 5/ 219.

وفي "صحيح مسلم" ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وحدثني حميد بن مسعدة قال: حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- قال: حدثنا عبد الله بن عوف، عن نافع، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنه انتهى إلى الكعبة، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم، وبلال، وأسامة -رضي الله عنهما، وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب قال كم فمكثوا فيه مليا1 ... انتهى باختصار. وقد سبق بكماله في "الباب التاسع"2 من هذا الكتاب، وهذا الحديث وإن تكلم الدارقطني في رواية مسلم له؛ فإنما ذلك لأن فيه منا يقتضي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- سأل بلالا وأسامة -رضي الله عنهم- عن موضوع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، قالوا هاهنا؛ وذلك يقتضي إثبات أسامة -رضي الله عنه- لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، في الكعبة يوم فتح مكة، وفي الصحيح عنه ما يخالف ذلك. والوهم في ذلك من ابن عون، والله أعلم. وقد أخرج النسائي حديث ابن عون عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث بن ابن عون3. وأما وقوف أحد على باب البيت والنبي صلى الله عليه وسلم داخلها يوم الفتح لذب الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الواقدي ما يقتضيه؛ لأن في الخبر الذي سبق ذكره عنه في "تاريخ الأزرقي" بعد ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم البيت وصلاته فيه: قالوا: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يذب الناس عن الباب، حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم4 ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق ليس فيه بيان الموضع الذي جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بعد طوافه بالبيت، ودخوله بالبيت، ودخوله إليه، وخروجه منه، وخطيته على بابه، لأنه قال بعد ذكره لذلك، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد5 ... انتهى. وهذا يقتضي أن يكون جلس في مؤخر المسجد أو في مقدمه، وقد أفاد في ذلك ابن عقبة ما لم يفده كلام ابن إسحاق مع أمور أخرى صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في هذا اليوم لم يذكرها ابن إسحاق؛ فنذكر كلام ابن عقبة لما فيه من الفائدة، ونص كلامه قال: فلما قضى صلى الله عليه وسلم طوافه، وأخرجت الراحلة: سجد سجدتين، ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها، وقال: "لولا أن يغلب بنو عبد المطلب على سقايتهم لنزعت منها بيدي" ثم انصرف في ناحية المسجد قريبا من مقام إبراهيم، وكان زعموا المقام لاصقا بالكعبة، فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسجل من زمزم، فشرب

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه. 2 راجع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، حين الفتح، في الباب التاسع من كتاب الحج في صحيح مسلم. 3 أخرجه النسائي في سننه 6/ 52. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 266، 267. 5 السيرة لابن هشام 4/ 46.

وتوضأ، والمسلمون يتبادرون في وضوء ويصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون إليهم ويتعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط بلغ هذا ولا شبيها به ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية، لأنه قال: فقام إليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة، مع السقاية صلى الله عليك وسلم1 ... انتهى. وذكر الواقدي ما يخالف ذلك لأن الأزرقي قال: وحدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية من المسجد، فجلس، وكان قد قبض السقاية من العباس -رضي الله عنه- وقبض المفتاح من عثمان بن طلحة -رضي الله عنه، فلما جلس بسط العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- يده فقال: بأبي وأمي يا رسول الله، أجمع لنا الحجابة، والسقاية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما ترزؤون فيه، ولا أعطيكم ما ترزؤون منه" 2 ... انتهى باختصار من أول الخبر وآخره، وقد روينا عن ابن إسحاق في "تاريخ الأزرقي" ما يوافق ما ذكره الواقدي، وقد سبق ذلك في خبر ولاية قصي. ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر سببا لرد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة، ولا لأخذه منه، وقد ذكر الأزرقي ما يدل للأمرين؛ لأنه قال: وأخبرني جدي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج؟، عن مجاهد في قوله الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة -رضي الله عنه، حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، ودخل به الكعبة يوم الفتح، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، وقال صلى الله عليه وسلم: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله، لا ينتزعها منكم إلا ظالم" 3 ... انتهى باختصار. فهذا يبين سبب دفع المفتاح إلى عثمان -رضي الله عنه، وأما سبب أخذه فقال: الأزرقي فيه: وحدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن أشياخه، فذكر خبرا فيه ما سبق من خروج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت يوم الفتح والمفتاح في يده، وقول العباس -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم: أجمع لنا بين الحجابة والسقاية. وقول للعباس -رضي الله عنه: "أعطيكم ما ترزؤون عنه ولا أعطيكم ما ترزؤون منه" ثم قال: "ادع لي عثمان"، فقام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقال: ادع لي

_ 1 السيرة لابن هشام 42/ 48، والحديث أخرجه. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 2565. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 256.

عثمان؛ فقام عثمان بن طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن طلحة -رضي الله عنه- يوما وهو بمكة يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان -رضي الله عنه- المفتاح؛ فقال صلى الله عليه وسلم "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت" فقال عثمان: لقد هلكت قريش إذا وذلت؛ فقالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل عمرت وعزت بومئذ يا عثمان" فقال عثمان -رضي الله عنه: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أخذه المفتاح، فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم، وما كان قال لي، فأقبلت، فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر1 ... انتهى باختصار. فبان منها سبب رد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة وأخذه منه في يوم الفتح. وذكر محمد بن سعيد -كاتب الواقدي- سبب أخذ المفتاح من عثمان -رضي الله عنه، وفيه ما يقتضي أن الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان من المقال كان عند إرادة النبي صلى الله عليه وسلم دخول البيت في الجاهلية، فيه فائدة أخرى ليست في الخبر الذي ذكره الواقدي، وهذا الخبر رويناه في "السيرة" للحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس اليعمري، فيما أخبرني به غير واحد من أشياخي عنه، ولفظه في السيرة المذكورة: وروينا عن عثمان بن طلحة من طريق ابن سعد قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت عليه، ونلت منه، وحلم عني، ثم قال: "يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت" فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل عمرت وعزت يومئذ"، ودخل الكعبة؛ فوقعت كلمته صلى الله عليه وسلم مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له يوم الفتح: "يا عثمان ائتني بالمفتاح"؛ فأتيته به، فأخذه مني، ثم دفعه إلي وقال: "خذوها تالدة خالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إنا الله استأمنكم على بيته؛ فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف"، قال عثمان: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ألم يكن إلى ما قلته لك؟ " قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت؛ فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله2. ومنها: أن ابن هشام ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، وفيه الصور؛ لأنه قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل إلى البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم3، إلى آخر كلامه السابق، وروينا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأن البخاري قال فيما رويناه عنه: حدثني إسحاق قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أيوب عن عكرمة عن أبن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 267. 2 عيون الأثر 2/ 178، 179. 3 السيرة لابن هشام 4/ 48.

وفيه الآلهة، فأمر بها فاخرجت وأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيل، وفي أيديهما الأزلام؛ فقال: "قاتلهم الله، لقد علموا أنهما ما استقسما بها قط"، ثم دخل فكبر في نواحي البيت، وخرج ولم يصل، تابعه معمر عن أيوب، قال وهب: حدثني أيوب عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم1. ومنها: أن ابن هشام ذكر ما يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وأنه صلى فيها على ما روى ابن عمر عن بلال -رضي الله عنهم- ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل فيها لما دخلها يوم الفتح، وقد سبق ذلك في الباب التاسع من هذا الكتاب، مع ما قيل من ترجيح رواية بلال -رضي الله عنه- على رواية من خالفه؛ لكونه أثبت ما لم يثبته غيره، وما قيل من الجمع بين هذا الاختلاف ما فيه كفاية فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن أبا سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام حين أذن بلال يوم الفتح كانوا جلوسا بفناء الكعبة لقوله: وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة2. ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أبي سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام، فأخبرهم بما قالوا حين سمعوا أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة؛ لأن في خبر ابن هشام: فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "قد علمت الذي قلتم"، ثم ذكر ذلك لهم3. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن أبا سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو حين أذن بلال -رضي الله عنه- فوق الكعبة يوم الفتح، كانوا جلوسا في الحجر، ويقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله بقولهم وهو بالصفا، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم واستدعاهم إليه؛ فلما حضروا إليه أخبرهم بما قالوا؛ وذلك يخالف ما ذكره ابن هشام في موضع جلوس من سمع أذان بلال، ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ونص الخبر الذي ذكره الفاكهي: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، ثم خرج يسعى بين الصفا والمروة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن

_ 1 أخرجه البخاري "4288". 2 السيرة لابن هشام 2/ 49. 3 السيرة لابن هشام 22/ 49.

عمرو مختبئون في الحجر، فرقي بلال على ظهر الكعبة فأذن بالصلاة ففزع الصبيان، وخرج النساء، وسمعوا شيئا هالهم؛ فقال صفوان بن أمية: لو أن لهذا العبد أحدا. وقال عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أسيدا أن لا يرى هذا اليوم، وما أسيد قبل ذلك بيسير. قال: وقال سهيل بن عمرو: إنك ظان هذا لغير الله فسيغير، وإن كان من الله ليمضينه. قال: وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لظننت هذا الحصى ستخبر عني قال: فأوحى الله -تعالى- إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقولهم -وهو على الصفا يدعو- فقال صلى الله عليه وسلم: "علي بالرهط" فلانا، وفلانا، وفلانا، هم في الحجر، قال ذلك لرج من الأنصار؛ فقال الأنصاري: أنا لا أعرفهم يا رسول الله، فابعث معنا من يعرفهم من المهاجرين، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يذكر العهد الذي كان له، ويخاف العذاب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان: "قلت كذا وكذا" الكلام الذي قال: وقال لعتاب: قال: فعرفهم بالذي قالوا؛ فحسن إسلام عتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وفزع أبو سفيان، وكاد أن يقع، فقال أبو سفيان، أما أن فأسلمت، فأسلم يومئذ، فحسن إسلامه1 ... انتهى. وهذا الخبر يقتضي أن صفوان بن أمية -رضي الله عنه- كان جالسا بالحجر يوم فتح مكة، وسمع أذان بلال -رضي الله عنه- على ظهر الكعبة يوم الفتح، وهذا لا يصح؛ لأن صفوان فر إلى جدة ليركب منها البحر، ولم يرجع إلى مكة إلا بعد أن استأمن له عمير بن وهب وابن عمه، وذهاب عمير إليه بأمان النبي صلى الله عليه وسلم له، ورجوعه مع عمير إلى مكة لا يكون في يوم واحد. وفي "مغازي" ابن عقبة ما يقتضي أن صفوان سأل عميرا حين جاءه، وأخبره بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم: أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبتأمينه من النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يعرفه، وأن عميرا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول صفوان، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم برد حبرة كان معتجرا به حين دخل مكة، فذاهب عيمر إلى صفوان، فاطمأنت نفسه، وأقبل مع عمير حتى دخل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى بالمعنى. ومثل هذا لا يكون يوم ولا في نصف يوم؛ فإن مقتضى الخبر الذي ذكره الفاكهي على تقدير صحة كون صفوان في الحجر حين سمع أذان بلال على الكعبة، أن يكون ذهاب عمير إلى صفوان ومجيئه معه في نصف يوم؛ لأن صفوان لم يقل ما قال إلا حين سمع أذان بلال -رضي الله عنه- للظهر على الكعبة.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 222.

وذكر الأزرقي خبر أذان بلال -رضي الله عنه- على ظهر الكعبة في يوم الفتح، وفيه ما يخالف بعض ما ذكره الفاكهي فيه، وفيه ما يخالف ما ذكره ابن هشام في كون عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- قال شيئا في أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة. وفيه ما يوافق ما ذكره ابن هشام في كون النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي سفيان، ومن معه فأخبرهم بقولهم في أذان بلال -رضي الله عنه؛ وذلك يخالف ما ذكره الفاكهي من أن النبي صلى الله عليه وسلم استدعاهم إلى الصفا، وأخبرهم بما قالوا. وفي الخبر الذي ذكره الأزرقي في أذان بلال -رضي الله عنه- غير ما في الخبر الذي ذكره الفاكهي، فنذكره لما في ذلك من الفائدة، ولفظه: وأخبرني جدي، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن الواقدي، عن أشياخه قال: وحانت1 الظهر يوم الفتح؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة، وقريش فوق رءوس الجبال، وقد اصفرت وجوههم، وتغيبوا خوفا من أن يقتلوا، ومنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أمن، وأذن بلال، ورفع صوته كأشد مايكون؛ فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله، تقول جويرة بنتأ [ي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلي، ووالله ما نحب من قتل الأحبة أبدا، ولقد جاء إلى أبي الذي كان جاء إلى محمد من النبوة فردها، ولم يرد خلاف قومه، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم، وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم، وقال الحارث بن هشام: واثكلاه، ليتني مت قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة. وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجلل، أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بيت أبي طلحة، وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطا لله تعالى فيستغيرهالله تعالى، وقال: أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئا؛ لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصى. فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم؛ فأقبل صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم فقال: "أما أنت يا فلان فقلت: كذا، وأما أنت يا فلان فقلت: كذا"؛ فقال أبو سفيان: أما أن يا رسول الله فما قلت شيئا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم2 ... انتهى باختصار. وفي الخبر من المخالفة لما ذكره الفاكهي وابن هشام ما فيه؛ منه أن "خالد بن أسيد" هو القائل لما سمع أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم، الخبر الذي ذكره ابن هشام والفاكهي يقتضي أن قائل ذلك عتاب بن أسيد، أخو خالد بن أسيد، وهو الذي أسلم عام الفتح3، على ما ذكر عبد البر4، وهو معدود في المؤلفة

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي 1/: "جاءت". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 274، 275. 3 السيرة لابن هشام 4/ 49. 4 الاستيعاب 3/ 153، 154.

قلوبهم1، وذكر في ترجمة أخيه عتاب ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وأما خالد بن أسيد، فذكر محمد بن إسحاق السراج، قال: سمعت عبد العزيز بن معاوية، من ولد عتاب بن أسيد -ونسبه إلى عتاب بن أسيد- يقول: مات خالد بن أسيد، وهو أخو عتاب بن أسيد لأبيه وأمه، يوم فتح مكة، قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا شريح الخزاعي ذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الفتح لعمرو بن الزبير بن العوام، لما قدم لقتال أخيه عبد الله بمكة؛ لأنه قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير جئته ... انتهى. وهذا وهم من ابن هشام على ما ذكر السهيلي2، قال: وصوابه عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وهو الأشدق، ثم قال عند استدلاله على ذلك: فالصواب إذا عمرو بن سعيد، لا عمرو بن الزبير، وكذا رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق، وهكذا وقع في الصحيحين، ذكر هذا التنبيه على ابن هشام: أبو عمرو -رحمه الله- في كتاب "الأجوبة عن المسائل المستغربة"، وهي مسائل من كتاب "الجامع" للبخاري، تكلم عليها في ذلك الكتاب؛ وإنما دخل الوهم على ابن هشام أو على البكائي في روايته، من أجل أن عمرو بن الزوبر كان معاديا لأخيه عبد الله، ومعينا لبني أمية عليه في تلك الفتنة، والله أعلم ... انتهى.؟ ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن فضالة بن عمير الليثي هو القائل للأبيات التي أولها: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام3 وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن قائل ذلك غير فضالة؛ لأنه قال: حدثني حسن بن حسين قال: حدثنا محمد بن أبي السري، عن هشام بن الكلبي، عن أبي عوانة، قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، أشار إلى الأصنام فخرت لوجهها؛ فقال في ذلك رجل يقال له: راشد أبياتا، قال أبو سعيد: هو راشد بن عبد ربه السلمي: قالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا ... يأبى علي الله والإسلام لو ما شهدت محمدا، وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى ساطعا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام4 ... انتهى.

_ 1 الاستيعاب 2/ 410. 2 الروض الأنف 4/ 115. 3 السيرة لابن هشام 4/ 35، وعيون الأثر 2/ 242. 4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 223.

وذكر الفاكهي في موضع آخر قبل هذا بيسير، ما يقتضي أن هذه الأبيات لفضالة الليثي، كما هو مقتضى كلام ابن إسحاق، ونص ما ذكره الفاكهي في ذلك: وقال فضالة بن عمير بن الملوح الليثي يذكر كسر الأصنام يومئذ: لو ما رأيت محمدا وجنوده ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أصبح بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام1 ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن عدد من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، بعض القبائل التي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه في هذا الموطن: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف2، ثم فصلهم. وذكر موسى بن عقبة ما يخالف ما ذكره ابن إسحاق في عدد المسلمين يوم الفتح؛ لأنه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقال: في اثني عشر ألفا. ونقل مغلطاي في "سيرته" عن الحاكم ما يوافق ما ذكره ابن عقبة جزما؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف رجل، وقال الحاكم: اثني عشر ... انتهى. وذكر الفاكهي عن سعيد بن المسيب ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، في عدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لفتح مكة، وسيأتي إن شاء الله تعالى هذا الخبر قريبا في محل يناسبه. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر في عدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من مزينة في فتح مكة، أنهم ألف وثلاثة نفر3، وذكر ابن عقبة ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: ويقال: كان معه يوم حنين من مزينة ألف رجل وثمانية نفر ... انتهى. ويبعد أن يقال: محمل كلام ابن إسحاق على من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفتح، وكلام ابن عقبة على من كان معه في حنين؛ لأن الذين كانوا في حنين هم الذين كانوا في الفتح؛ والله أعلم. ولعل الثمانية في قول ابن عقبة مصحفة بدل ثلاثة؛ فإن ذلك متقارب في النسبة، والله أعلم. ومنا: أن ابن إسحاق لم يذكر جهينة في القبائل الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وذكرهم ابن عقبة فيهم؛ لأنه قال بعد قوله: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما يقال- في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، ومن طوائف العرب، من أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، ومن بني سليم، وقادوا الخيل ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 223. 2 السيرة لابن هشام 4/ 56. 3 السيرة لابن هشام 4/ 56.

ومنها: أن كلام ابن إسحاق ليس فيه بيان لعدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين في فتح مكة. وذكر الفاكهي خبرا يبين ذلك؛ لأنه قال في "أخبار مكة": حدثنا حسين، حدثنا الثقفي قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت ابن المسيب يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة بثمانية آلاف أو عشرة آلاف، ومن أهل مكة بألفين1 ... انتهى. وهذا هو الخبر الذي أشرنا آنفا أن الفاكهي ذكره، والله أعلم ليلة يقصر الصلاة2 ... انتهى. وقد حدث الحافظ علاء الدين مغلطاي في "سيرته" عن الخلاف في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها، ما لم أر مثله مجموعا في غير "سيرته"، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه، بعد أن ذكر خبر فتح مكة، قال: قال البخاري: وأقام بها خمس عشرة ليلة، وفي رواية: تسع عشرة، وفي أبي داود: سبع عشرة، وفي "الترمذي" ثمان عشرة، وفي "الإكليل": أصحها بضع عشرة، يصلي ركعتين ... انتهى. ورأيت أنا في ذلك غير ما ذكره ابن إسحاق ومغلطاي، وذللاك في كتاب الفاكهي، ونذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكره الفاكهي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الطبري قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن يحيى بن إسحاق قال: سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن قصر الصلاة، فقال: سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة؛ فصلى بنا ركعتين حتى وصلنا؛ فسألته: هل أقام؟ قال: نعم أقمنا بمكة عشرا -يعني زمان الفتح3 ... انتهى. والذي نقله مغلطاي عن "الإكليل" هو في "مغازي" موسى بن عقبة؛ لأنه قال: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشر ليلة ... انتهى. وقد بينا فيما يتعلق بخبر الفتح الذي ذكره ابن إسحاق، وابن هشام، فوائد كثيرة، لا يوجد مجموعها في كتاب. وتتعلق بخبر الفتح المشار إليه مسائل كثيرة من الفقه واللغة العربية، تركنا ذكرها؛ لكونها غير مقصودة بالذكر في هذا التأليف، وخيفة من التطويل، ونسأله الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.

_ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 2323. 2 السيرة لابن هشام 4/ 70. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 224.

الباب السابع والثلاثون

الباب السابع والثلاثون: في ذكر شيء من ولاة مكة المشرفة في الإسلام: لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، استخلف عليها عتاب بن أسيد -بفتح الهمزة- ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي، عند مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين1 في العشر الأوسط من شوال سنة ثمان من الهجرة؛ لأن ابن إسحاق، قال لما ذكر غزوة حنين: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، على مكة، أمير على من تخلف عنه من الناس2 ... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يوهم خلاف ما ذكره ابن إسحاق في تأميره عتابا -رضي الله عنه؛ لأنه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى حنين استخلف معاذ بن جبل الأنصاري، ثم السلمي -رضي الله عنه- على أهل مكة، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس القرآن، ويفقههم في الدين، ثم قال: ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدا إلى المدينة، وخلف معاذ بن جبل -رضي الله عنه- في أهل مكة ... انتهى. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن الطبري ما يوهم خلاف ذلك أيضا؛ لأنه قال: هبيرة شبل بن العجلان بن عتاب الثقفي، هو أول من صلى بمكة جماعة بعد الفتح؛ أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكان إسلامه بالحديبية واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة؛ إذ سار إلى الطائف فيما ذكره الطبري3 ... انتهى.

_ 1 حنين: واد قريب من مكة معروف إلى الآن بهذا الاسم، ومن وادي حنين تأتي عين زبيدة إلى مكة؛ لأن المياه تجتمع فيه لانخفاضه وإحاطة الجبال به. 2 السيرة لابن هشام 4/ 74. 3 الاستيعاب 3/ 615، 616.

وذكر ابن ماكولا نحو ما ذكره ابن عبد البير، وعزاه إلى الكلبي1. وذكر ابن عبد البر ما يوافق ما ذكره ابن إسحاق في ترجمة عتاب -رضي الله عنه. وما ذكره ابن إسحاق، في تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة هو المعروف؛ لكون جماعة من أهل الأخبار ذكروا ذلك، وسيأتي ذلك عن بعضهم2. وسبق ما يدل لذلك في باب فضل أهل مكة وهو الباب السادس. وذكر مغلطاي ما يوضح تاريخ تأميره صلى الله عليه وسلم لعتاب على مكة، أكثر مما سبق؛ لأنه قال في "سيرته": ثم خرج صلى الله عليه وسلم لست ليال خلون من شوال، ويقال: لليلتين بقيتا من رمضان إلى حنين ... انتهى. وأفاد السهيلي شيئا يستغرق في سبب تولية النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة؛ لأنه قال: وقال أهل التعبير: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أسيد بن أبي العيص واليا على مكة مسلما، فمات على الكفر، وكانت الرؤيا لولدة عتاب حين أسلم، فولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وهو ابن أحد وعشرين سنة ... انتهى. وذكر الأزرقي ما يوهم أن لتولية النبي صلى الله عليه وسلم عتابا -رضي الله عنه- على مكة سببا غير السبب الذي ذكر السهيلي؛ لأنه قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيت أسيدا في الجنة وأنى يدخل أسيد الجنة"؛ فعرض له عتاب بن أسيد فقال: "هذا الذي رأيت، ادعوه لي" فدعى له، فاستعلمه صلى الله عليه وسلم يومئذ على مكة، ثم قال لعتاب: "أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيرا، يقولها ثلاثا" 3 ... انتهى. ويمكن أن يجمع بين ما قال ابن إسحاق وغيره، من تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة، وبين ما ذكره عقبة والطبري، بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل عتابا -رضي الله عنه- أمير مكة، ومعاذ -رضي الله عنه- في الإمامة "هبيرة" المذكور، ولا يعارض ذلك ما قيل في ترجمة هبيرة -رضي الله عنه- من أنه أول من صلى بمكة جماعة بعد الفتح، لإمكان أن يكون حان وقت الصلاة وهبيرة حاضر من الناس، ومعاذ -رضي الله عنه- غير حاضر، لشغل عرض له، فبادر هبيرة -رضي الله عنه- فصلى بالناس، لتحصيل فضيلة أول الوقت، والله أعلم.

_ 1 الإكمال لابن ماكولا 5/ 25. 2 الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار "ص: 333". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 151، وأبو يعلى 1/ 185، والإصابة 4/ 430، والبيهقي في السنن 5/ 339.

ويحتمل أن هبيرة -رضي الله عنه- كان يصلي بالناس قبل معاذ -رضي الله عنه، ثم يصلي معاذ بمن لم يدرك الصلاة خلف هبيرة والله أعلم. وأهل أولى من جعل الأخبار متعارضة في ولاية عتاب. وكان من أمره في ولاية مكة ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتابا على مكة، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب عامله على مكة ... انتهى. وذكر ابن عبد البر ما ذكره الزبير، وزاد عليه في مدة ولايته؛ لأنه قال: أسلم يوم فتح مكة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة يوم الفتح، في حين خروجه إلى حنين؛ فأقام للناس الحج في تلك السنة، وهي سنة ثمان. وحج المشركون على ما كانوا عليه. ثم قال: فلم يزل عتاب أمير على مكة، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره أبو بكر -رضي الله عنه؛ فلم يزل عليها إلى أن مات، وكانت وفاته فيما ذكر الواقدي يوم مات أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وقال محمد بن سلام وغيره: جاء نعي أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى مكة يوم دفن عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- بها ... انتهى. وذكر ابن عبد البر ما يخالف ما ذكره في ولاية عتاب على مكة، في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه؛ لأنه قال في ترجمة الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي الهاشمي، بعد أن ذكر شيئا من حاله عن مصعب الزبيري، والواقدي، وقال غيرهما: ولي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الحارث بن نوفل -رضي الله عنه- مكة، ثم انتقل إلى البصرة من المدينة1 ... انتهى باختصار. ورأيت في "مختصر تاريخ ابن جرير" أن عتاب بن أسيد كان على مكة في سنة أربع عشرة2، وخمس عشرة3، وست عشرة4، وسبع عشرة5، وثمان عشرة6، وتسع عشرة، وكل ذلك وهم، ذكرناه للتنبيه عليه، والله أعلم. ورأيت في "تاريخ ابن الأثير" ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة أربع عشرة7، وخمس عشرة8، وكل ذلك وهم ذكرناه للتنبيه عليه، والله أعلم.

_ 1 الاستيعاب 3/ 397. 2 تاريخ الطبري 3/ 597، إتحاف الورى 2/ 5، البداية والنهاية 2/ 207. 3 تاريخ الطبري 3/ 623، إتحاف الورى 2/ 6. 4 تاريخ الطبري 4/ 94، إتحاف الورى 2/ 6. 5 تاريخ الطبري 4/ 94، إتحاف الورى 2/ 9. 6 تاريخ الطبري 4/ 160، إتحاف الورى 2/ 10، البداية والنهاية 2/ 238. 7 الكامل لابن الأثير 2/ 489. 8 الكامل لابن الأثير 2/ 508.

وممن ولي مكة في خلافة الصديق -رضي الله عنه: المحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، في سفرة سافرها عتاب، على ما ذكر ابن عبد البر1 رحمه الله. ثم وليها المحرز المذكور لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه، في أول ولاية عمر -رضي الله عنه، على ما ذكر ابن عبد البر أيضا، وذكر ابن حزم ولايته على مكة لعمر رضي الله عنه. وذكر الزبير بن بكار ولايته على مكة بعد عتاب -رضي الله عنه. ثم ولي مكة في خلافة عمر -رضي الله عنه: قنفذ بن عمير بن جدعان التيمي، بعد عزل المحرز، على ما ذكر ابن عبد البر2. ثم وليها نافع بن عبد الحارث الخزاعي، بعد عزل قنفذ، على ما ذكر ابن عبد البر أيضا3. ثم وليها لعمر -رضي الله عنه: خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي بعد عزل نافع. ورأيت في "الكامل" لابن الأثير ما يقتضي أن نافع بن عبد الحارث كان على مكة في سنة ثلاث وعشرين4، ولا أدري هل هذه السنة أول ولايته بمكة؟ ولا متى انقضت ولايته عنها، والله أعلم. وممن ولي مكة في خلافة عمر -رضي الله عنه: طارق بن المرتفع5 بن الحارث بن عبد مناة، على ما ذكره الفاكهي؛ وعبد الرحمن بن أبزي الخزاعي6 مولى خزاعة، نيابة عن مولاة نافع بن عبد الحارث، لما لقي نافع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعسفان7، وأنكر عمر -رضي الله عنه: إنه قارئ، لكتاب الله، عالم بالفرائض، وفي رواية: أن نافعا قال لعمر -رضي الله عنه- لما أنكر عليه استخلافه عليه استخلافه ابن أبزى هذا على أهل مكة: إني وجدته أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بدين الله تعالى، ولذلك سكن غيظ عمر

_ 1 الاستيعاب 3/ 483. 2 جمهرة أنساب العرب "ص: 78". 3 الاستيعاب 3/ 280، وأخبار مكة للفاكهي 3/ 164. 4 الكامل لابن الأثير 3/ 77، وإتحاف الورى 2/ 131. 5 يجعل المؤرخون قبله: أحمد بن خالد بن العاص "ص: 82". الرحلة الحجازية، وكما ذكر هنا. 6 تاريخ الخليفة "ص: 153". 7 عسفان: ماء في طريق مكة المدينة بعد مر الظهران، ويعرف بهذا الاسم إلى الآن.

-رضي الله عنه- على نافع، وخبر توليته لابن أبزى، وما كان ببنه وبين عمر من المقال المشار إليه مذكور في تاريخ الأزرقي وغيره1. وممن ولي مكة لعمر -رضي الله عنه- على ما قيل: الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب القرشي الهاشمي المقدم ذكره؛ لأنا الزبير، قال في ترجمته: وذكر أن أبا بكر -رضي الله عنهما- استعمله على مكة2 ... انتهى. ورأيت في "تاريخ الإسلام" للذهبي ما يقتضي الجزم بولاية الحارث هذا على مكة لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما؛ لأنه قال في ترجمته: له صحبة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض صدقات مكة، وبعض أعمال مكة، ثم استعمله أبو بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم- على مكة1 ... انتهى، والله أعلم بالصواب. ثم ولي مكة: علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي؛ ولاه عليها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين ولي الخلافة، على ما ذكر ابن عبد البر3. وذكر ابن حزم ولايته على مكة لعثمان -رضي الله عنه، ولم يقل كما قال ابن عبد البر أنه ولاه مكة حين ولي الخلافة، ثم ولي مكة خالد بن العاص المخزومي المقدم ذكره لعثمان أيضا، على ما ذكره ابن عبد البر، ذكر ما يقتضي أنه أقام على ولاية مكة إلى أن عزله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وسيأتي هذا قريبا. وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه: الحارث بن نوفل السابق ذكره، كما ذكره الذهبي. وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه- فيما ذكر الفاكهي: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشي ابن أخي عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- المقدم ذكره4. وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه: عبد الله بن عامر الحضرمي على ما ذكره ابن الأثير5، وذكر أنه كان عامل عثمان -رضي الله عنه- على مكة في سنة خمس وثلاثين.

_ 1 تاريخ الإسلام 2/ 26. 2 الاستيعاب 1/ 297، وفيه يذكر عبد البر ولاية الحارث بن نوفل في عهد أبي بكر فقط. 3 الاستيعاب 2/ 26. 4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 164. 5 ابن الأثير 3/ 207، إتحاف الورى 2/ 23.

وذكر في أخبار هذه السنة ما يشعر أنه كان على مكة وقت قتل عثمان -رضي الله عنه؛ لأنه ذكر أن عائشة -رضي الله عنها، لما توجهت من مكة عبد الحج في هذ السنة، بلغها قتل عثمان -رضي الله عنه، فرجعت إلى مكة وحرضت على الطلب بدمه؛ فقال لها عبد الله بن عامر العامري الحضرمي، وكان عامل عثمان -رضي الله عنه- على مكة: ها أنذا أول طالب؛ فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك ... انتهى بالمعنى، وهذا يشعر بخلاف ما ذكره ابن عبد البر من أن خالد بن العاص لم يزل على مكة إل أن عزله علي -رضي الله عنه- في أول خلافته. وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه- على ما قيل: نافع بن عبد الحارث الخزاعي السابق ذكره؛ لأن الزبير ذكر أنه كان على مكة في سنة ثلاث وعشرين عاملا لعمر -رضي الله عنه، وأن عمر -رضي الله عنه- لما طعن في هذه السنة أوصى أن تقر عماله سنة، فأقر عثمان -رضي الله عنه- عمال عمر -رضي الله عنه- سنة على ما قيل؛ فعلى هذا يكون نافع عاملا على مكة لعثمان -رضي الله عنه، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: أبو قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحارث بن ربعي، وقيل: النعمان بن ربعي، وقيل غير ذلك. ثم قثم العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، بعد عزل أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، على ما ذكر ابن عبد البر1؛ لأنه قال في ترجمة قثم هذا: وكان قثم بن العباس واليا لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على مكة، وذلك أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما ولي الخلافة، عزل خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي عن مكة، وولاها أبا قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، ثم عزله وولي قثم بن العباس -رضي الله عنهما، فلم يزل واليا عليها حتى قتل على بن أبي طالب -رضي الله عنه، هذا قول خليفة2 ... انتهى. وذكر ابن الأثير ما يوافق ما ذكره خليفة في ولاية قثم -رضي الله عنه- لمكة، في خلافة علي -رضي الله عنه، وذكر ما يقتضي أن ولايته في سنة ست وثلاثين، وأنه ولي مع مكة الطائف، وما اتصل بمكة3.

_ 1 الاستيعاب 3/ 275، إتحاف الورى 2/ 28. 2 تاريخ خليفة: "ص: 201". 3 أسد الغابة 1/ 213، تهذيب الأسماء للنووي 2/ 59، سير أعلام النبلاء 3/ 292، والإصابة 3/ 219، جمهرة أنساب العرب "ص: 18".

وممن ولي مكة لعلي -رضي الله عنه، على ما قيل: معبد بن العباس بن العباس بن عبد المطلب أخو قثم السابق؛ ذكر ذلك ابن حزم في "الجمهرة"1؛ لأنه قال لما ذكر أولاد العباس: ومعبد ولي مكة لعلي -رضي الله عنه- وقال قبل ذلك: وقثم ولي المدينة لعلي؛ وما ذكره ابن حزم في بيان معبد يخالف ما ذكره خليفة، وأما ما ذكره في شأن قثم فلا؛ لإمكان أن يكون علي -رضي الله عنه- جمع لقثم بين ولاية المدينة ومكة. ويصح تعريفه بأنه ولي المدينة، والله أعلم. ورأيت في نسخه من "الثقات" لابن حبان ما صورته: قتادة بن ربعي له صحبة، كان عمل علي -رضي الله عنه- بمكة ... انتهى، وهذا -والله أعلم- أبو قتادة السابق ذكره، وسقط في النسخة التي رأيتها من "الثقات"، وإنما ذكرنا ذلك؛ لأن أبا قتادة ولي مكة لعلي -رضي الله عنه- كما سبق. ولم أر في الصحابة من اسمه قتادة بن ربعي، والله أعلم. ورأيت في "الكامل" لابن الأثير في أخبار سنة ست وثلاثين ذكر وفاة المحرز بن حارثة السابق، ثم قال: واستعمله علي -رضي الله عنه- على مكة، ثم عزله ... انتهى، وعلي تصحيف؛ لأن عمر -رضي الله عنه- الذي ولاه وعزله كما سبق2، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- جماعة، لا أعرف من أولهم في الولاية، منهم: عتبة بن أبي سفيان بن حرب الأموي3، وولايته على مكة لمعاوية ذكرها الفاكهي. ومنهم: خالد بن العاص بن هشام المخزومي المقدم ذكره، ورأيت في "الكامل"4 لابن الأثير أنه ولي مكة في سنة اثنتين وأربعين، وذكر ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة ثلاث وأربعين أيضا. ورأيت في "مختصر ابن جرير الطبري"5، ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة ثلاث وأربعين أيضا. ورأيت في "مختصر ابن جرير الطبري"6 ما يقتضي أنه كزان على مكة في سنة خمس وأربعين، وفي ست وسبع وثمان وأربعين، وفي سنة ثلاث وأربعين أيضا. ومنهم: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي أبو عبد الملك، على ما ذكر ابن عبد البر؛ لأنه قال في ترجمته: وكان معاوية لما صار الأمر إليه ولاه المدينة، ثم جمع له إلى المدينة: مكة، والطائف. ثم عزله عن المدينة،

_ 1 جمهرة أنساب العرب "ص: 18". 2 الكامل لابن الأثير 3/ 263، وفيه: "الخليفة عمر". 3 تاريخ خليفة؛ ص: 205 و208. 4 الكامل لابن الأثير 3/ 420. 5 تاريخ الطبري 5/ 172، 211. 6 تاريخ الطبري 5/ 172، 211.

سنة ثمان وأربعين1، انتهى. وفي هذا إشعار بأن ولايته لمكة قبل سنة ثمان وأربعين، والله أعلم. ومنهم: سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، الأموي، أبو عثمان، ويقال: أبو عبد الرحمن، أحد أشراف قريش وأجودها، وفصحائها، ذكر ما يدل على لولايته على مكة صاحب "العقد" ابن عبد ربه؛ لأنه قال في الفضل الذي ذكره فيه الخطب عن العتبي، قال: استعمل سعيد بن العاص وهو والي المدينة ابنه عمرو بن سعيد على مكة2 ... انتهى. ومنهم: عمر بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص القرشي الأموي المعروف بالأشدق3، ولد سعيد المقدم ذكره، وولايته على مكة لمعاوية4 ذكرها الفاكهي، وذكر ما يقتضي أنها في حياة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما. وعلى هذا فتكون ولايته في أوائل عشرة الستين من الهجرة؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- مات في سنة ثلاث وخمسين من الهجرة في قول الأكثرين5، والله أعلم. وولايته لمعاوية على مكة ذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة ستين من الهجرة: لما ولي يزيد بن معاوية، كان على مكة: عمرو بن سعيد بن العاص6 ... انتهى. وممن ولي مكة لمعاوية: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص القرشي المقدم ذكره. وولايته على مكة لمعاوية ذكرها الفاكهي، وذكر الأزرقي ما يفهم ذلك، ويفهم تاريخ ولايته؛ لأنه ذكر خبرا فيه ما يقتضي أن معاوية بن أبي سفيان اشترى دار الندوة من بعض بني عبد الدار؛ فجاء شيبة بن عثمان فقال له: إن لي فيها حقا، فأخذتها بالشفعة، فقال له معاوية -رضي الله عنه- دار الندوة، وخرج من بابها الآخر، مسافرا وشيبة لا يشعر به، وفيه بعهد ذلك ما نصه: خرج إليه والي مكة عبد الله بن خالد بن أسيد، فقام إليه شيبة وقال: فأين أمير المؤمنين؟ قال: راح إلى الشام، قال شيبة: والله لا كلمته أبدا7 ... انتهى.

_ 1 الاستيعاب 3/ 426. 2 العقد الفريد 4/ 133. 3 لقب بالأشدق لفصاحته وبلاغته وقوة عارضته في الخطابة. 4 تاريخ خليفة "ص: 229". 5 تاريخ خليفة "ص: 219". 6 الكامل لابن الأثير 4/ 6، إتحاف الورى 2/ 53، مروج الذهب 4/ 398، البداية والنهاية 8/ 171، العقد الفريد 6/ 389، أخبار مكة للفاكهي 3/ 178. 7 أخبار مكة للأزرقي 1/ 269، 270.

وكانت هذه القصة في حجة معاوية -رضي الله عنه- الأولى؛ لأن في الخبر المشار إليه: فلما حج معاوية -رضي الله عنه- حجته الثانية؛ فذكر قصة بني شيبة ومعاوية -رضي الله عنه، وملخصها أنه لم يفتح له الكعبة لمنا سأله معاوية -رضي الله عنه- في ذلك، وبعث إليه حفيده شيبة بن جبير بن شيبة بين عثمان، ففتح له الكعبة، وكانت حجة معاوية -رضي الله عنه- الأولى سنة أربع وأربعين، على ما ذكر العتيقي في "أمراء الموسم". وحجته الثانية في سنة خمسين على ما ذكر العتيقي أيضا، وقيل في حجته الثانية غير ذلك. فاستفدنا مما ذكر العتيقي في حجة معاوية -رضي الله عنه- الأولى: أن عبد الله بن خالد بن أسيد كان على مكة في سنة أربع وأربعين1، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة يزيد بن معاوية يزيد بن معاوية بن أبي سفيان جماعة، وهم: عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق المقدم ذكره، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية القرشي الأموي، وعثمان بن محمد بن أبي سفيان بن حرب الأموي، والحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي المقدم ذكر والده، وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي ابن أخي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، ويحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي. فأما ولاية عمرو بن سعيد الأشدق فذكرها ابن جرير2؛ لأنه ذكر في أخبار سنة ستين من الهجرة، أن عمرو بن سعيد حج بالناس فيها، وهو على مكة والمدينة، وأن يزيد بن معاوية ولاه بالمدينة، بعد أن عزل عنها الوليد بن عتبة، في شهر رمضان، وذكر ابن الأثير مثل ما ذكر ابن جرير بالمعنى، وذكر أن عمرو بن سعيد قدم المدينة لما بينهما من العداوة، وأنيس بن عمرو الأسلمي، في جيش نحو ألفي رجل؛ فقتل أنيس بذي طوى قتله أصحاب ابن الزبير بمكة، وأسروا عمرو بن الزبير، فأقاد منه أخوه عبد الله الناس بالضرب، كما صنع بهم في المدينة، حتى مات عمرو تحت السياط3. وأما ولاية الوليد بن عتبة فذكرها ابن الأثير4 وذكر سببها، وملخص ذلك: أن يزيد أتهم عمرو بن سعيد بمداهنة ابن الزبير؛ فإنه أظهر العصيان على يزيد بعد قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- بالعراق وبويع بعد ذلك ابن الزبير بمكة. وقيل

_ 1 إتحاف الورى 233، العقد الثمين 5/ 133، الجامع اللطيف "ص: 286". 2 تاريخ الطبري 5/ 343. 3 الكامل لابن الأثير 4/ 18، 19. 4 الكامل لابن الأثير 4/ 98، مآثر الإنافة 1/ 121.

ليزيد: لو شاء عمرو بن سعيد سرح إليك ابن الزبير؛ فعزل يزيد عمرا وولي مكانه الوليد، فقدم الوليد مكة، وأقام يريد غرة ابن الزبير، فلا يجده إلا محترزا ممتنعا، وكان ذلك في سنة إحدى وستين، وذكر ابن جرير نحو ذلك مختصرا بالمعنى. وأما ولاية عثمان فذكرها ابن الأثير وذكر سببها، وملخص ذلك أن الزبير كتب إلى يزيد في أمر الوليد يقول له: إنك بعثت إلينا رجلا أخرق، لا يتجه لرشد، ولا يرعوي لعظة1؛ فلو بعثتن رجلا سهل الخلق، رجوت أن يسهل من المور ما استوعر منها، وأن يجمع مال تفرق؛ فعزل يزيد الوليد وولي عثمان، وذلك في سنة اثنتين وستين2. وذكر ابن جرير نحو ذلك مختصرا بالمعنى3. وأما ولاية الحارث بن خالد وعبد الرحمن بن يزيد المذكورين، فذكر خليفة بن خياط فيما حكي عنه الحافظ أبو الحجاج المزي في "تهذيبه" أن يزيد لما عزل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عن مكة، ولاها الحارث بن خالد، ثم عزله، وولي عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، ثم عزل عبد الرحمن وأعاد الحارث فمنعه ابن الزبير الصلاة، فصلى بالناس مصعب بن عبد الرحمن بن عوف4 ... انتهى. وأما ولاية يحيى بن حكيم5 فذكرها الزبير بن بكار مع ولاية الحارث أيضا؛ لأنه قال: فولد حكيم بن صفوان يحيى بن حكيم6 ولي مكة ليزيد بن معاوية وكان عبد الله بن الزبير مقيما معه بمكة، لم يعرض له يحيى بن حكيم؛ فكتب الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يذكر له مداهنة يحيى بن حكيم لعبد الله بن الزبير، فعزل يزيد، يحيى بن حكيم، وولي الحارث بن خالد مكة، فلم يدعه "ابن الزبير" يصلي بالناس، وكان الحارث يصلي في جوف داره بمواليه ومن أطاعه من أهله، وكان مصعب بن عبد الرحمن يصلي بالناس في المسجد الحرام، بأمر عبد الله بن الزبير، فلم يزل كذلك حتى وجه يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير: مسلم7 بن عقبة، فبويع عبد الله بن الزبير بالخلافة بالنسا بمكة8 ... انتهى. ثم ولي مكة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-، بعد أن لقي في ذلك عناء شديدا، سببه أن يزيد بن معاوية لما طرد أهل المدينة عامله عثمان بن محمد بن أبي

_ 1 الكامل لابن الأثير 4/ 102. 2 الكامل لابن الأثير 4/ 102، إتحاف الورى 257، تاريخ الطبري 5/ 479. 3 تاريخ الطبري 5/ 479. 4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 181، والعقد الثمين 4/ 268. 5 إتحاف الورى 2/ 57، والعقد الثمين 7/ 434. 6 هكذا في جميع النسخ. 7 تاريخ الطبري 5/ 484. 8 نسب قريش "ص: 39".

سفيان وغيره من بني أمية، إلى ولد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بعث إليهم مسلم بن عقبة المري، وسمي مسرفا لإسرافه في القتل بالمدينة. وبعث معه اثني عشر ألفا، فيهم: الحصين بن نمير السكوني، وقيل: الكندي، ليكون على العسكر إن عرض لمسلم موت؛ فإنه كان عليلا؛ في بطنه الماء الأصفر، وأمر يزيد مسرفا إذا بلغ المدينة أن يدعوا أهلها ثلاثا، فإن أجابوه وإلا قاتلهم، فإذا ظهر عليهم أباحها ثلاثا، ثم يكف عن الناس ويسير إلى مكة لقتال ابن الزبير؛ فلما بلغ "مسلم" المدينة بمن معه، التقى مع أهلها بظاهر المدينة، فاقتتلوا، فقتل من أولاد المهاجرين ما يزيد عن ثلاثمائة نفر وجماعة من الصحابة، ودخل المدينة وأباحها ثلاثا، وكانت الوقعة بمكان يقال له: الحرة، وأقام لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، ثم سار إلأى مكة؛ فلما كان بالمشلل1 مات، وقيل مات بثنية هرشي2، بعد أن قدم على عسكره: "الحصين بن نمير"، فسار "الحصين" حتى بلغ مكة، لأربع بقين من المحرم سنة أربع وستين، وقد بايع أهل مكة والحجاز وغيرهم ابن الزبير، وأجمعوا عليه، وانضم إليه من انهزم من أهل المدينة، وكان قد بلغه خبر أهل المدينة مع مسلم هلال المحرم سنة أربع وستين، مع المسور بن مخرمة، فلحقه منهن أمر عظيم، واعتد هو وأصحابه واستعدوا للقتال، وقاتلوا الحصين أياما، وتحصن ابن الزبير وأصحابه في المسجد وحول الكعبة، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد خياما ورقاقا يكتنون بها من حجارة المنجنيق، ويستظلون فيها من الشمس، وكان الحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أبي قبيس، وعلى الأحمر؛ فكان يمريهم بالحجارة، وتصيب الحجارة الكعبة فتوهنت، ودامت الحرب بينهم إلى أن فرج الله على ابن الزبير وأصحابه، بوصول نعي يزيد معاوية، وكان وصول نعيه ليلة الثلاثاء، لثلاث مضين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، وبلغ نعيه ابن الزبير قبل أن يبلغ الحصين، وبعث إلى الحصين من يعلمه بذلك، ويحسن له ترك القتال، ويعظم إليه أمر الحرام، وما أصاب الكعبة؛ فمال إلى ذلك، وأدبر إلى الشام لخمس ليال خلون من ربيع الآخر سنة أربع وستين، بعد أن اجتمع بابن الزبير في الليلة التي تلي اليوم الذي بلغه فيه نعي يزيد، وسأله ابن الزبير في أن يبايع له هو ومن معه من أهل الشام، على أن يذهب معهم أبن الزبير إلى الشام ويؤمن النساء، ويهدر الدماء التي كانت بينهم وبين أهل الحرم، فأبى ابن الزبير ذلك3.

_ 1 المشلل: قبل "قديد" بثلاثة أيام، وهي التي كانت عندها مناة الطاغية في الجاهلية "مناسك الحربي ص: 458". 2 مدينة بينها وبين ودان خمسة أميال "المرجع السابق ص: 554". 3 تاريخ الطبري 5/ 502.

وبويع ابن الزبير بعد رحيل الحصين عن مكة بالخلافة بالحرمين، ثم بويع بها في العراق، واليمن، وغير ذلك، حتى كاد تجتمع الأمة عليه؛ فولي في البلاد التي بويع له فيها العمال، ودامت ولايته على مكة إلى أن قتله الحجاج -قاتله الله- في جمادى الأولى، وقيل: يوم الثلاثاء من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، عن ثلاث وسبعين سنة، وبعد أن حاصره الحجاج بمن معه أزيد من نصف سنة، وهو ينتصف منهم، ويفضل عليهم في الغلب؛ لأنه كان نهاية في الشجاعة، وكذا في العبادة. وكان في اليوم الذي قتل فيه حمل على أهل الشام لما دخلوا عليه في أبواب المسجد، حتى أبلغهم الحجون. ولم يقتل حتى أدهش بآجرة رمي به وجهه ودمي؛ فعند ذلك تعاونوا عليه تعاونوا عليه وقتلوه. ولم يقتل إلا بعد أنلم يبق معه من أصحابه إلا اليسير لميلهم، عنه إلى الحجاج، وأخذهم الأمان من الحجاج، وكان ممن فعل ذلك ابناه: حمزة: وحبيب. وكان ابتداء حصار الحجاج له في ذي القعدة سنة اثنين وسبعين، وكان الحجاج في حال محاصرته لابن الزبير يرمي الكعبة بالمنجنيق من أبي قبيس، لكون ابن الزبير كان مكتنا في المسجد، وكان الحجاج نازلا ببئر ميمون، ومعه طارق بن عمرومولى عثمان، وكان عبد الملك قد أمد الحجاج بطارق، لما سأله النجدة على ابن الزبير؛ فقدم طارق في ذي الحجة، ومعه خمسة آلاف. وكان مع الحجاج ألفان -وقيل: ثلاثة- من أهل الشام، وكان الحجاج لما وصل من عند عبد الملك نزل الطائف؛ فكان يبعث منه خيلا إلى عرفة، ويبعث ابن الزبير خيلا إلى عرفة، فيقتتلون بها، فتهزم خيل ابن الزبير، وتعود خيل الحجاج بالظفر، ثم استأذن عبد الملك في منازلة ابن الزبير، فأذن له؛ فكان من الأمر ما كان. وكان حصار الحجاج لابن الزبير ستة أشهر وسبع عشرة ليلة، على ما ذكر ابن جرير1، وصلب ابن الزبير بعد قتله منكسا على الثنية اليمنى بالحجون، وبعث رأسه إلى عبد الملك بن مروان، فطيف به في البلدان. وولي مكة لابن الزبير في خلافته الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، على ما ذكر ابن عبد البر؛ لأنه قال في ترجمته: واستعمل ابن الزبير الحارث بن حاطب على مكة سنة ست وستين. وقيل: إنه كان يلي المساعي أيام مروان2 ... انتهى. ثم ولي مكة لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير جماعة، وهم: ابنه مسلمة بن عبد الملك، والحجاج بن يوسف الثقفي، والحارث بن خالد المخزومي -المقدم ذكره- وخالد بن عبد الله القسري، وعبد الله بن سفيان المخزومي،

_ 1 تاريخ الطبري 6/ 187. 2 تاريخ الطبري 6/ 195، 201، 202.

وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي، ونافع بن علقمة الكناني، ويحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي. فأما ولاية الحجاج: فمشهورة، ذكرها غير واحد، ودامت إلى سنة خمس وسبعين. وولي مع مكة: المدينة، والحجاز، وقد ذكر ابن جرير ما يدل لذلك، ولمنتهى ولايته على الحجاز؛ لأنه ذكر في أخبار سنة أربع وسبعين أنه كان ولي على مكة والمدينة، وذكر في أخبار سنة خمس وسبعين أنه ولي العراق، وعزل عن الحجار، وذكر أنه انصرف إلى المدينة في صفر من سنة أربع وسبعين، وأقام بها ثلاثة أشهر، وأنه حج بالنسا في هذه السنة1. وأما ولاية الحارث بن خالد المخزومي؛ فذكر الزبير بن بكار ما يشهد بذلك؛ لأنه قال بعد أن ذكر تولية يزيد بن معاوية له على مكة، ومنع ابن الزبير له من الصلاة: ولم يزل معتزلا لابن الزبير حتى ولي عبد الملك بن مروان؛ فولاه مكة ثم عزله، فقدم عليه في دمشق، ولم ير عنده ما يحب فانصرف عنه، وقال في ذلك شعرا2 ... انتهى. وأما ولاية خالد بن عبد الله القسري: ففي "تاريخ الأزرقي" ما يدل لذلك؛ لأنه روى بسنده أن جده عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني كان يضع على طرف دالره مصباحا عظيما، فيضيء لأهل الطواف وأعلى المسجد، ثم قال: فلم يزل ذلك المصباح على حرف الدار، حتى كان خالد بن عبد الله القسري؛ فوضع مصباح زمزم مقابل الركن الأسود في خلافة عبد الملك بن مروان، فمنعنا أن نضع ذلك المصباح3. وذكر في الترجمة التي ترجم عليها: "أول من أدار الصفوف حول الكعبة" ما يدل لذلك؛ لأنه روى فيها عن جده، عن عبد الرحمن بن حسن الأزرقي قال: فلما ولي خالد بن عبد الله القسري لعبد الملك بن مروان، فذكر إدارته للصفوف، والمعروف أن خالدا ولي مكة للوليد، وسليمان، ولدى عبد الملك بن مروان، والله أعلم. ويبعد أن يقال: لعل الأزرقي سها فيما ذكره من ولاية خالد لعبد الملك، لكونه كرر ذلك في غير موضع4، والله أعلم. وخالد القسري هو الذي حفر البئر التي ساق منها الماء، حتى أخرجه في المسجد الحرام عند زمزم، ليضاهي به زمزم، وحكي عنه في تفضيله على زمزم، وتفضيل الخليفة الذي أمره بذلك ما يستشبع ذكره، وقيل: إن ذلك لا يصح عنه، والله أعلم.

_ 1 الاستيعاب 1/ 29، درر الفرائد: "ص: 200"، إتحاف الورى "2/ 104". 2 نسب قريش "ص: 313". 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 287، أخبار مكة للفاكهي 3/ 167. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 20.

وأما ولاية عبد الله بن سفيان المخزومي: فذكر الأزرقي ما يدل لها؛ لأنه قال لما ذكر سيل الجحاف: وكان سيل الجحاف سنة ثمانين في خلافة عبد الملك، وذكر خبرا فيه؛ فكتب في ذلك إلى عبد الملك بن مروان، ففزع لذلك، وبعث بمال عظيم، وكتب عامله على مكة عبد الله بن سفيان المخزومي -ويقال: بل كان عامله الحارث بن خالد المخزومي- يأمره بعمل ضفائر الدور الشارعة على الوادي1 ... انتهى. وما عرفت نسب عبد الله بن سفيان هذا؛ إلا أني لم أر له ذكرا في غير تاريخ الأزرقي2، وعلى ما ذكر في تاريخ الجحاف، وكتابة عبد الملك لعامله على مكة عبد الله أو الحارث المشار إليهما، بكون ولاية من كان واليا عبد الملك لعامله على مكة عبد الله أو الحارث المشار إليهما بكون ولاية من كان واليا فيهما في سنة ثمانين، وفي التي بعدها؛ لأن سيل الجحاف كان في زمن الحج، وما يصل خبره لعبد الملك، ويصل أمره ببناء ضفائر الدور إلا في سنة إحدى وثمانين، والله أعلم. وأمام ولاية عبد العزيز فذكرها الزبير بن بكار؛ لأنه قال: واستعمل عبد الملك بن مروان عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، على مكة3 ... انتهى. ورأيت في كتاب "الكمال" لعبد الغني المقدسي، ما يوافق ذلك؛ ولكنه لم يحكه إلا بصيغة التمريض؛ لأنه قال: ولي مكة لسليمان بن عبد الملك، قيل: إنه وليها لعبد الملك أيضا ... انتهى. وأما ولاية نافع بن علقمة الكناني، ويحيى بن الحكم؛ فذكر الزبير بن بكار ما يشهد لذلك4، وفي ذلك طول اختصرناه، ولأنا في الغالب لا نستدل إلا على ما يستغرب، أو يقع فيه اختلاف، وولاية مسلمة بن عبد الملك حكاها ابن قتيبة في "الإمامة والسياسة"5، وكلامه صريح في أنه وليها لأبيه، وأن خالدا القسري وليها أيضا لعبد الملك6؛ لأنه قال: وذكروا أن مسلمة بن عبد الملك كان واليا على مكة؛ فبينا هو يخطب على المنبر، إذ أقبل خالد بن عبد الله القسري من الشام واليا عليها، فدخل المسجد؛ فلما قضي مسلمة خطبته صعد خالد المنبر، فلما ارتقى في الدرجة الثانية تحت مسلمة أخرج طومارا ففضه، ثم قرأه الناس فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أهل مكة، أما بعد فإني وليت عليكم خالد بن عبد الله القسري، فاسمعوا له وأطيعوا، ولا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلا؛ فإنما هو القتل لا غيره، وقد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير والسلام".

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 169. 2 له ذكر في فتوح البلدان للبلاذري 1/ 62. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 169. 4 نسب قريش "ص 283"، تاريخ خليفة "ص 310"، أخبار مكة للفاكهي 3/ 171. 5 الإمامة والسياسة لابن قتيبة 2/ 44. 6 انظر تاريخ خليفة "ص: 311".

ثم التفت إليهم خالد فقال: والذي يحلف به، ويحج إليه، لا أجده في دار أحد إلا قتلته، وهدمت داره، ودار كل من جاوره، واستبحت حرمه. وقد أجلت لكم فيه ثلاثة أيام، ثم نزل ودعا مسلمة برواحله، ولحق بالشام. فأتى رجل إلى خالد، فقال له: إن سعيد بن جبير بوادي كذا، من أودية مكة، مختفيا بمكان كذا؛ فأرسل خالد في طلبه، فأتاه الرسول، فلما نظر إليه قال لي: إنني أمرت بأخذك، وأتيت لأذهب بك، وأعوذ بالله من ذلك، فألحق بأي بلد شئت. وأنا معك. فقال سعيد بن جبير: ألك هاهنا أهل وولد؟ قال: نعم قال: إنهم يؤخذون بعدك، وينالهم من المكروه مثل الذي كان ينالني. قال: وإني أكلهم إلى الله -عز وجل، قال سعيد: لا يكون هذا؟ فأتى به إلى خالد فشدجه وثاقا ثم بعث به إلى الحجاج؛ فقال له رجل من أهل الشام: إن الحجاج قد أنذر به وأشعر قبلك، فما عرض له، فلو جعلته بينك وبين الله تعالى، لكان أزكى من كل عمر يتقرب به إلى الله -عز وجل. قال خالد -وظهره إلى الكعبة وقد استند إليها: والله لو علمت أن عبد الملك لا يرضى إلا بنقض هذا البيت حجرا لنقضته في مرضاته. وممن ولي مكة لعبد الملك بن مروان فيما أظن: هشام بن إسماعيل المخزومي؛ لأن الفاكهي ذكر ما يدل لولايته لها؛ إلا أنه لم يصرح بأنه ولي مكة لعبد الملك بن مروان، وولايته لها؛ إلا أنه لم يصرح بأنه ولي مكة لعبد الملك بن مروان، وولايته لها لا يبعد أن تكون في زمن عبد الملك بن مروان؛ لأنه ولي المدينة له، وحج في خلاته عدة سنين، وإذا كان ولي ذلك لعبد الملك فولايته على مكة لعبد الملك أقرب من ولايته عليها لغيره1، والله أعلم. وممن ولي مكة لعبد الملك بن مروان فيما أظن: إبان بن عثمان بن عفان2 -رضي الله عنهما، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة الوليد بن عبد الملكبن مروان رجلان فيما علمت: الإمام العادل عمر بن عبد العزيز3 بنمروان بن الحكم الأموي -رضي الله عنه، ثم خالد بن عبد الله القسري. فأما ولاية عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- فقد ذكرها جماعة منهم: ابن كثير، وأفاد فيما ذكره تاريخ ابتدائها؛ لأنه قال في ترجمته: قالوا: ولما مات عبد الملك حزن عليه ولبس المسموح تحت ثيابه سبعين يوما. وولي الوليد، فعاملهما كان يعامله به، وولاه المدينة ومكة والطائف من سنة ست وثمانين، إلى سنة ثلاث وتسعين4 ...

_ 1 تاريخ خليفة "ص: 311". 2 تاريخ خليفة "ص: 298، 299". 3 كانت توليته لمكة عام 87هـ "تاريخ خليفة ص: 301". 4 البداية والنهاية 9/ 194.

انتهى. وقيل: إن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- عزل عن مكة في سنة تسع وثمانين وقيل: سنة إحدى وتسعين. وأما ولاية خالد القسري: فاختلف في أولها، للخلاف في تاريخ عزل عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-1 ودامت ولايته إلى أن مات الوليد بن عبد الملك، وكان موته في جمادى الآخر سنة ست وتسعين2. ثم ولي مكة في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان ثلاثة نفر: خالد القسري، ثم طلحة بن داود الحضرمي، ثم عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي. فأما ولاية خالد القسري لسليمان: فقد ذكر الأزرقي ما يدل لها3، وكذلك الزبير بن بكار، وما ذكره في ذلك أصح مما ذكره الأزرقي؛ لأنه قال: وحدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: إن خالد بن عبد الله القسري أخاف عبد الله الأصغر بن شيبة بن عثمان، وهو الأعجم؛ فهرب منه، فاستجار بسليمان بن عبد الملك، قال محمد بن الضحاك: عن أبيه، وخالد بن عبد الله يومئذ والي لسليمان بن عبد الملك على مكة، فكتب سليمان بن عبد الملك إلى خالد بن عبد الله ألا يهيجه، وأخبره أنه قد آمنه؛ فجاء بالكتاب، فأخذ الكتاب ووضعه ولم يفتحه، وأمر به فبرز فجلده، ثم فتح الكتاب؛ فقال: لو كنت قرأته ما جلدتك، فرجع عبد الله إلى سليمان، فأخبره الخبر، فأمر الكتاب -في خالد- أن تقطع يده، فكلمه فيه يزيد بن المهلب وقبل يده، وكتب مع عبد الله: إن كان خالد قرأ الكتاب، ثم جلده قطعت يده، وإن كان جلده قبل أن يقرأ الكتاب أقيد منه، فأقيد منه عبد الله4 ... انتهى باختصار. ولعل فعل خالد هذا سبب عزل سليمان له، وكان عزله في سنة ست وتسعين كما سيأتي بيانه. وأما ولاية طلحة: فذكرها ابن جرير؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وتسعين من الهجرة: وعزل سليمان بن عبد الملك خالد بن عبد الله الفسري عن مكة، وولاها طلحة بن داود الحضرمي5، وذكر ابن جرير أيضا منا يدل على خلاف ما ذكره في تاريخ ولاية طلحة؛ لأنه قال في أخبار سنة سبع وتسعين: وفي هذه السنة قال الواقدي: حدثني

_ 1 جزم خليفة في تاريخه "ص: 302" والذهبي في تاريخ الإسلام 5/ 64: أنه ولي سنة 89هـ. 2 تاريخه خليفة "ص: 310". 3 أخبار مكة 1/ 287، ومآثر الإنافة 1/ 137. 4 نسب قريش "ص: 253"، إتحاف الورى 2/ 124، العقد الثمين 4/ 27. 5 تاريخ الطبري 6/ 522، الجامع اللطيف "ص: 288"، إتحاف الورى 2/ 129.

إبراهيم بن نافع عن ابن أبي مليكة قال: لما صدر سليمان بن عبد الملك من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستة أشهر1 ... انتهى. وأما ولاية عبد العزيز بن عبد الله بن خالد: فكذرها ابن جرير، وحكى خلافا في ابتدائها؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وتسعين، بعد أن ذكر ما سبق في عزل سليمان لخالد وتوليته طلحة، وحكي عن ابن أبي معشر أنه قال: كان الأمير على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد2، وقال في أخبار سنة سبع وتسعين، بعد أن حكى عن الواقدي ما سبق في عزله طلحة: فولي عليها عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان عبد العزيز على مكة في سنة ثمان وتسعين، على ما ذكر ابن جرير أيضا3. ثم ولي مكة لعمر بن عبد العزيز بن مروان -رضي الله عنه- في خلافته: عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد المذكور على مقتضى ما ذكر ابن جرير؛ لأنه ذكر في أخبار سنة تسع وتسعين أن عامل عمر بن عبد العزيز على مة في هذه السنة: عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد4، وذكر في أخبار سنة مائة5 ما يقتضي أنه كان والي مكة. وذكر الأزرقي ما يقتضي ذلك أيضا؛ لأنه روى عن أحمد بن ميسرة عن عبد الحميد بن أبي رواد عن أبيه قال: قدمت مكة سنة مائة وعليها عبد العزيز بن عبد الله أميرا فقدم كتابا من عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- ينهى عن كراء بيوت مكة، ويأمر بتسوية بيوت منى. قال: فجعل الناس يدسون إليهم الكراء سراء ويسكنون6 ... انتهى. وولي مكة لعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- على ما قبل: محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، على ما ذكر ابن حبان، فيما حكي عنه الذهبي في "تذهيب مختصر التذهيب"7، وعروة بن عياض بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي8، على ما ذكر صاحب الكمال. ووجدت ذلك بخط الذهبي في ترجمته في "تاريخ الإسلام"، وعبد الله بن

_ 1 تاريخ الطبري 6/ 529، الكامل لابن الأثير 5/ 26. 2 تاريخ الطبري 6/ 522، الكامل لابن الأثير 5/ 20، مآثر الإنافة 1/ 144. 3 تاريخ الطبري 6/ 529، الكامل 5/ 10، إتحاف الورى 2/ 132، العقد الفريد 5/ 450. 4 تاريخ الطبري 6/ 554، الكامل 5/ 36. 5 كذا في الأصل، والصحيح سنة إحدى ومائة كما في تاريخ الطبري 6/ 589. 6 أخبار مكة للأزرقي 2/ 163، 164. 7 تهذيب التهذيب لابن حجر 9/ 236. 8 انظر ترجمة في التاريخ الكبير للبخاري 7/ 32 رقم 140، الجرح والتعديل 6/ 369 رقم 2208، تهذيب التهذيب 7/ 186 رقم 356.

قيس بن مخرمة بن المطلب، القرشي1، وعثمان بن عبد الله بن سراقة العدوي، وولايتها ذكرها الفاكهي. وفي ولايتهما وولاية الذين من قبلهما على مكة لعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- في خلافته نظر، لما ذكره ابن جرير2 من أن عبد العزيز بن عبد الله كان عامل مكة لعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- مدة خلافته كما سبق، ولعل المذكورين ولوا مكة لعمر -رضي الله عنه- في زمن ولايته لها عن الوليد بن عبد الملك في المدة التي كان يقيمها بالمدينة؛ فإنها كانت في ولايته أيضا، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان جماعة أولهم: عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد المذكور؛ لأن ابن جرير ذكر أنه كان على مكة في سنة إحدى ومائة وذكر ذلك ابن الأثير، وذكر أنه كان على مكة في السنة اثنين ومائة3. ثم عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس القرشي الفهري، مع المدينة، وولايته بمكة في سنة ثلاثة ومائة، وللمدينة في سنة إحدى ومائة4. ثم ولي مكة عبد الواحد بن عبد الله النصري بالنون من بني نصر بن معاوية -بعد عزل عبد الرحمن بن الضحاك في سنة أربع ومائة مع الطائف والمدينة5. ثم ولي مكة في خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان جماعة، أولهم: عبد الواحد المذكور، ومدة ولايته لذلك في خلافة يزيد وهشام سنة وثمانية أشهر، على ما ذكر ابن الأثير6. ثم ولي مكة بعده إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن عبد الملك في سنة ستة ومائة. وولي مع ذلك الطائف والمدينة، ودامت ولايته على مكة إلى سنة ثلاث عشرة، وقيل: سنة أربع عشرة ومائة7.

_ 1 انظر: التاريخ الكبير 5/ 172، رقم 547، الجرح والتعديل 5/ 139 رقم 1650، تهذيب التهذيب 5/ 626، أخبار مكة للفاكهي 3/ 178، العقد الفريد 5/ 232. 2 تاريخ الطبري 6/ 554، الكامل 5/ 43. 3 الكامل لابن الأثير 5/ 102، تاريخ الطبري 6/ 589، 618. 4 تاريخ الطبري 7/ 12، تاريخ خليفة "ص: 332"، الكامل لابن الأثير 5/ 105، إتحاف الورى 2/ 136، العقد الفريد 5/ 359. 5 تاريخ خليفة "ص: 332"، الكامل لابن الأثير 5/ 13، العقد الفريد 5/ 359، وإتحاف الورى 2/ 137، البداية والنهاية 9/ 229. 6 الكامل لابن الأثير 2/ 138، البداية والنهاية 9/ 234. 7 الكامل لابن الأثير 2/ 148، مآثر الإنافة 1/ 154.

ثم ولي مكة بعده أخوه محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، ودامت ولايته إلى سنة خمس وعشرين على ما قيل1. وممن ولي مكة لهشام بن عبد الملك بن مروان: نافع بن علقمة الكناني، ذكر ولايته الفاكهي، وذكر أنه وليها لأبيه. وممن وليها في خلافة عبد الملك بن مروان، أو في خلافه أحد من أولاده الأربعة: أبو حراب محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر الأموي، ذكر ولايته على مكة الفاكهي، وهكذا نسبه، وذكر ما يقتضي أنه كان واليا على مكة في زمن عطاء بن أبي رباح. ثم ولي مكة في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان -بعد عزل محمد بن هشام خال الوليد المذكور- يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي، مع الطائف والمدينة في سنة خمس وعشرين2، ودامت إلى انقضاء خلافة الوليد بن يزيد، سنة ست وعشرين. ثم ولي مكة في خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان3، فيما أظن، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة مروان -المعروف بالحمار- ابن محمد بن مروان الأموي خاتمة خلفاء بني أمية: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان، ودامت ولايته إلى أن حج بالناس في سنة ثمان وعشرين4. ثم ولي مكة بعده عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان، مع المدينة والطائف في سنة تسع وعشرين، ودامت ولايته إلى أن حج بالناس في هذه السنة5. ثم ولي مكة بعد الحج من هذه السنة أبو حمزة الإباضي الخارجي، واسمه المختار بن عوف، تغلب على مكة، وذلك أن عبد الله بن يحيى الأعور الكندي المسمى

_ 1 الكامل لابن الأثير 5/ 179، 275، تاريخ خليفة "ص: 357"، إتحاف الورى "2/ 155"، درر الفرائد "ص: 208"، أخبار مكة للفاكهي 3/ 182. 2 تاريخ الطبري 7/ 226، الكامل لابن الأثير 5/ 273. 3 تاريخ خليفة "ص: 370"، إتحاف الورى 2/ 157. 4 تاريخ خليفة "ص: 384"، الكامل لابن الأثير 5/ 340، إتحاف الورى 2/ 158، درر الفرائد "ص: 208". 5 تاريخ خليفة "ص: 385"، الكامل لابن الأثير 5/ 376، إتحاف الورى 2/ 159، مآثر الإنافة 1/ 166.

طالب الحق بعد أن ملك حضرموت1 وصنعاء وظفار، وطرد عنها عامل مروان: القاسم بن عمر الثقفي، بعث إلى مكة أبا حمزة الخارجي -المذكور- في عشرة آلاف؛ فخاف منهم عبد الواحد بن سليمان والي مكة، وخذله أهلها؛ ففارقها في النفر الأول، وقصد المدينة، فغلب أبو حمزة على مكة، ثم سار منها بعد أن استخلف عليها أبرهة بن الصباح الحميري؛ فلقي بقديد الجيش الذي انفذه عبد الواحد بن سليمان القتال أبي حمزة، فظفر أبو حمزة؛ وذلك في صفر من سنة ثلاثين، وسار إلى المدينة فدخلها، وقتل بها جماعة، منهم أربعون رجلا من بني عبد العزى، ولما بلغ مروان خبره جهز إليه عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، في أربعة آلاف فارس؛ فسار ابن عطية حتى لقي بوادي القرى2 بلجا، وهو على مقدمة أبي حمزة؛ فقتل بلجا وعاة أصحابه، ثم سار ابن عطية يطلب أبا حمزة؛ فأدركه بمكة بالأبطح، ومع أبي حمزة خمسة عشرة ألفا، ففرق عليه ابن عطية الخيل، من أسفل مكة ومن أعلاها، ومن قبل منى، فاقتتلوا إلى نصف النهار، فقتل أبرهة بن الصباح عند بئر ميمون، وقتل أبو حمزة، وقتل خلق من جيشه؛ هذا ملخص بالمعنى مما ذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" نقلا عن خليفةبن خياط3 في خبر أبي حمزة. وفي تاريخ ابن الأثير ما يخالف ذلك، في مواضع: منها: أنه كان مع أبي حمزة لما وافى عرفة سبعمائة رجل4. ومنها: أنه كان ما يقتضي أن أبا حمزة لقي ابن عطية بوادي القرى، وأنه قتل في الواقعة التي بوادي القرى5، والله أعلم. وذكر ابن الأثير أن ابن عطية لما سار إلى اليمن لقتال طالب الحق، استخلف على مكة رجلا من أهل الشام6، ولم يسمه، ورأيت في مختصر تاريخ ابن جرير أن هذا الرجل يقال له ابن ماعز7، وهذا يقتضي أن يكون عبد الملك بن محمد السعدي المذكور ولي مكة لمروان، ولا يبعد أن يجعل ذلك مروان لعبد الملك، إذا نزع من أبي حمزة ما تغلب عليه، وقد يسر الله ذلك لابن عطية، وكان من أمره بعد مسيرة من مكة لقتال طالب الحق، أنهما، فقتل طالب الحق، وبعث عبد الملك برأسه إلى مروان،

_ 1 حضرموت: مدينة شهيرة باليمن. وهي إحدى محافظاتها الكبرى الآن، وهي تقع في جنوب اليمن. 2 وادي القرى: واد من أودية الحجاز المشهورة ويقع في الشمال بعد المدينة متجها إلى الشام، وهو كثير القرى والآبار والمزارع، ولذلك قيل وادي القرى. 3 تاريخ خليفة "ص 384 - 387". 4 الكامل لابن الأثير 5/ 373. 5 الكامل لابن الأثير 5/ 391. 6 الكامل لابن الأثير 5/ 392. 7 تاريخ الطبري 7/ 399.

وكتب مروان لعبد الملك كتابا بالقدوم إلى مكة لإقامة الحج والناس؛ فسار في نفر قليل، فخرج عليه بعض العرب، فقتلوه بعد أن أظهر لهم كتاب مروان بتأميره على الحج؛ فلم يقبلوا ذلك منه، وقالوا له ولمن معه: إنما أنتم لصوص1. وولي مكة لمروان: الوليد بن عروة السعدي ابن أخي عبد الملك على ما ذكر ابن جرير2، وذكر أنه كان على مكة في سنة إحدى وثلاثين ومائة، وعلى الطائف والمدينة من قبل عمه، وهذا لا يعارض ما سبق من أن عمه، قتل في سنة ثلاثين لإمكان أن يكون كتب إليه من اليمن بولاية ذلك، وأقره مروان على ذلك بعد قتل عمه، والله أعلم. وذكر ابن الأثير ما يقتضي أن محمد بن عبد الملك بن مروان كان يلي مكة والمدينة والطائف في سنة ثلاثين ومائة، وأنه حج بالناس فيها3، ولم أر في مختصر تاريخ ابن جرير ولايته لذلك؛ وإنما فيه أنه حج بالناس في سنة ثلاثين ومائة4، على أن النسخة التي رأيت فيها ذلك من تاريخ ابن الأثير لا تخلو من سقم، والله أعلم بالصواب. ورأيت في نسخة من تاريخ ابن الأثير اضطرابا في اسم ابن أخي عبد الملك الذي ولي مكة، كما سبق ذكره، هل هو الوليد بن عروة5 أو هو عروة بن الوليد؟ والصواب: الوليد، كما ذكر ابن جرير والعتيقي في "أمراء الموسم"، والله أعلم.

_ 1 العقد الثمين 7/ 158، إتحاف الورى 2/ 163. 2 تاريخ الطبري 7/ 411، الكامل لابن الأثير 5/ 402، إتحاف الورى 2/ 165، العقد الثمين 5/ 512. 3 الكامل لابن الأثير 5/ 393. 4 تاريخ الطبري 7/ 410. 5 الكامل لابن الأثير 5/ 394، تاريخ خليفه "ص: 398".

الدولة العباسية

الدولة العباسية: ثم ولي مكة في خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أول خلفاء بني العباس: عمه داود بن علي بن عبد الله العباس، في سنة اثنين وثلاثين ومائة، وولاه مع مكة: المدينة واليمن، واليمامة1، ودامت ولايته حتى مات في سنة ثلاث وثلاثين في ربيع الأول بالمدينة، بعد أن قتل من ظفر به بني أمية بمكة والمدينة2.

_ 1 اليمامة: منطقة في نجد بينها وبين البحرين عشرة أيام، وبها كانت منازل طسم، وجدس، وبها كانت دعوة مسيلة الكذب، وفتحها خالد بن الوليد في زمن أبي بكر الصديق، وبها قتل مسيلمة الكذاب، وعادت إلى الإسلام، ويقال: إنها كانت من مخاليف مكة -أي محلقاتها- وكان يضم إلى حكام مكة حكم اليمامة. 2 تاريخ خليفة "ص: 410"، الكامل لابن الأثير 5/ 445، إتحاف الورى 2/ 170.

ثم ولي مكة بعد داود: زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي، خال السفاح، مع الطائف، والمدينة، واليمامة، ودامت ولايته إلى سنة ست وثلاثين ومائة، على ما يقتضيه كلام ابن الأثير1. ثم ولي مكة بعده: العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، في سنة ست وثلاثين ومائة للسفاح، على ما ذكر ابن الأثير2، وذكر ما يقتضي أن ولايته دامت على مكة حتى مات السفاح، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذلك. وذكر ابن حزم أنه ولي مكة للسفاح وقال: كان رجلا صالحا3 ... انتهى. وممن ولي مكة للسفاح: عمر بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي4، على ما ذكر ابن حزم في "الجمهرة"؛ وذلك غير ملائم لما ذكره ابن الأثير5، من كون زياد بن عبيد الله الحارثي دامت ولايته على مكة إلى سنة ست وثلاثين، وأن العباس بن عبد الله بن معبد وليها بعده حتى مات السفاح، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أخي السفاح: العباس بن عبد الله بن معبد المذكور؛ لأن ابن الأثير قال في أخبار سنة سبع وثلاثين: وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، ومات العباس بعد انقضاء الموسم6. ثم ولي مكة بعده زياد بن عبيد الله الحارث المقدم ذكره، على ما ذكر ابن الأثير وغيره، مع المدينة، والطائف، ودامت ولايته إلى سنة إحدى وأربعين ومائة7، وهو الذي تولى للمنصور عمارة ما زاده في المسجد الحرام8. ثم ولي مكة بعد عزل زياد: الهيثم بن معاوية العتكي الخراساني مع الطائف، في سنة إحدى وأربعين، ودامت ولايته إلى سنة ثلاث وأربعين9.

_ 1 الكامل لابن الأثير 5/ 448، 449، إتحاف الورى 2/ 171. 2 الكامل لابن الأثير 5/ 463، 483، إتحاف الورى 2/ 171. 3 جمهرة أنساب العرب "ص: 18". 4 ولي علي الكوفة في عهد مروان بن محمد الأموي، وولي على اليمن في عهد أبي العباس "تاريخ خليفة ص: 406، 413". 5 الكامل لابن الأثير 5/ 486. 6 الكامل لابن الأثير 5/ 483. 7 الكامل لابن الأثير 5/ 483-501، أخبار مكة للفاكهي 3/ 174. 8 أخبار مكة للأزرقي 1/ 313. 9 الكامل لابن الأثير 5/ 507، 512، إتحاف الورى 2/ 179، أخبار مكة للفاكهي 3/ 174، العقد الفريد 4/ 224.

ثم ولي مكة بعد عزله: السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب مع الطائف؛ فسار "السري" إلى مكة ودامت ولايته عليها إلى سنة خمس وأربعين ومائة. ثم ولي مكة بعده بالتغلب محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي الجعفري؛ لأن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بالنفس الزكية لما ثار في سنة خمسة وأربعين بالمدينة، وغلب عليها، استعمل محمدًا هذا على مكة، والقاسم بن إسحاق على اليمن، فسار إلى مكة، فخرج محمد إليها السري بن عبد الله المقدم ذكره، فلقيهما ببطن أذاخر1 فهزماه، ودخل محمد مكة وقام بها يسيرا، فأتاه كتاب محمد بن عبد الله بن الحسن يأمره بالمسير إليه فيمن معه، ويخبره بمسير عيسى بن موسى إليه لمحاربته، فسار إليه من مكة هو القاسم، فبلغه بنواحي "قديد" قتل محمد النفس الزكية، فهرب هو وأصحابه وتفرقوا، فلحق محمد بن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله أخي محمد بن عبد الله، فأقام عنده حتى قتل إبراهيم، ذكر هذا بالمعنى ابن الأثير2. ورأيت في كتاب "النسب" للزبير بن بكار ما يقتضي أن الذي ولاه محمد بن عبد الله بن الحسن على مكة: حسن بن معاوية والد محمد بن حسن المقدم ذكره، والله أعلم بالصواب. ثم ولي السري مكة، ودامت ولايته عليها إلى سنة ست وأربعين ومائة3. ثم ولي مكة بعده: عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس العباسي، عم المنصور والسفاح، وولي مع ذلك الطائف، ودامت ولايته إلى سنة تسع واربعين ومائة4، وقيل: إلى سنة خمسين5، وقيل: إنه كان على مكة في سنة سبع وخمسين6، وهذا إن صح فهو ولاية ثانية لعبد الصمد على مكة، والله أعلم. ثم ولي مكة بعد عبد الصمد: محمد بن إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي، ودامت ولايته في غالب الظن إلى سنة ثمان وخمسين7. ثم ولي مكة في خلافة المهدي، محمد بن المنصور العباسي: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، مع الطائف، بوصية من المنصور8.

_ 1 أذاخر: الثنية العليا لمكة؛ ولا يزال معروفا بهذا الاسم. 2 الكامل لابن الأثير 5/ 542، إتحاف الورى 2/ 186. 3 الكامل لابن الأثير 5/ 572، 576، إتحاف الورى 2/ 187. 4 الكامل لابن الأثير 5/ 590، إتحاف الورى 2/ 187. 5 الكامل لابن الأثير 5/ 594. 6 الكامل لابن الأثير 6/ 13. 7 الكامل لابن الأثير 6/ 35، إتحاف الورى 2/ 190، مروج الذهب 4/ 402. 8 الكامل لابن الأثير 6/ 36، إتحاف الورى 2/ 193.

ثم ولي مكة: جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس العباس مع الطائف، وكان على ذلك في سنة إحدى وستين1، وفي سنة ثلاث وستين كان على المدينة2 في هذه السنة. ثم ولي مكة عبيد الله3 بن قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب مع الطائف، وكان واليا لذلك في سنة ست وستين، وفي سنة تسع وستين4. وممن ولي مكة في خلافة المهدي: محمد بن إبراهيم الإمام العباسي المقدم ذكره، ذكر ولايته على مكة للمهدي: الفاكهي. وممن ولي مكة في خلافة المهدي -فيما أظن والله أعلم: قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، والد عبيد الله المذكور؛ لأن ابن حزم قال في "الجمهرة" لما ذكر أولاد عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فمن ولده: قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ولي مكة واليمامة، وابنه عبيد الله5 بن قثم ولي مكة للرشيد6 ... انتهى. وإنما ظننا أن ولاية "قثم" في خلافة المهدي؛ لأن ابن الأثير ذكر في كل سنة من خلافة السفاح والمنصور من كان والي مكة، ولم يذكر ولاية قثم هذا في سنة من سنتين خلافة العباس والمنصور. وذكر ابن الأثير أيضا ولاة مكة في زمن الرشيد، في ترجمته ترجم عليها بقوله: ذكر ولاة مكة7، وسردهم كما سيأتي ذكره، ولم يذكر قثم المذكور، فغلب على الظن أنه ولي مكة في خلافة المهدي؛ لأنه لم يذكر في كل سنة من خلافته من ولي فيها مكة؛ وإنما ذكر ذلك في بعض السنين ولم يذكر ولاتها في خلافته جملة، كما ذكرها جملة في خلافة الرشيد، ويحتمل أن يكون وليها في خلافة المهدي قبل ابنه عبيد الله بن قثم أو بعده، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة الهادي موسى بن المهدي العباس: عبيد الله بن قثم بن العباس المقدم ذكره، على مقتضى ما ذكر ابن جرير؛ لأنه قال في أخبار سنة تسع

_ 1 الكامل لابن الأثير 6/ 56، إتحاف الورى 2/ 206، تاريخ الطبري 9/ 341. 2 كان جعفر بن سليمان واليا على مكة والمدينة والطائف واليمامة، الكامل لابن الأثير 6/. 3 جمرة أنساب العرب لابن حزم "ص19"، الكامل لابن الأثير 6/ 73. 4 الكامل لابن الأثير 6/ 94، إتحاف الورى 2/ 216، تاريخ الطبري 8/ 10. 5 الرحلة الحجازية "ص: 83"، إتحاف الورى 2/ 216. 6 جمهرة أنساب العرب "ص: 19". 7 الكامل لابن الأثير 6/ 214.

وستين وهي السنة التي في أولها أفضت الخلافة إلى الهادي، بعد أن ذكر من كان فيها علي ولاية المدينة وعلى مكة، والطائف عبيد الله بن قثم1 ... انتهى. وولي مكة في خلافة الهادي بالتغلب: الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني؛ لأنه ثار بالمدينة، وفتك بهم فيها من جماعة الهادي، ونهبوا بيت المال بالمدينة، وبويع على كتاب الله -تعالى- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وخرج هو وأصحابه إلى مكة لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وستين. ولما بلغوا مكة أمر الحسين فنودي فيها: أيما عبد أتانا فهو حر؛ فأتاه العبيد. وكان الهادي لما انتهى إليه خبره كتب إلى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن رجال من أهل بيته، ومعه خيل وسلاح، فقدموا مكة وطافوا وسعوا وحلوا من العمرة، وعسكروا بذي طوى، وانضم إليهم من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم، والتقوا مع الحسين وأصحابه؛ فقتل الحسين في أزيد من مائة من أصحابه، وانهزم بعضهم إلى مصر وغيرها، وكانت القتال في يوم التروية بفخ، ظاهر مكة2. وقبر الحسين هذا معروف إلى الآن في قبة تكون على يمين الداخل إلى مكة، ويسار الخارج منها، بقرب الموضع المعروف بالزاهر، وحمل رأسه بعد قتله إلى الهادي؛ فلم يعجبه ذلك وقال: كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت، إن أقل ما أجزيكم أن أحرمكم جوائزكم، فلم يعطهم شيئا. وكان الحسين شجاعا كريما، قدم على المهدي فأعطاه أربعين آلاف دينار، ففرقها في الناس ببغداد، والكوفة، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلا فروة ما تحتها قميص؛ فالله -تعالى- يرحمه ويغفر له. وممن ولي مكة في خلافة الهادي أو الخلافة أخيه الرشيد: محمد بن عبد الرحمن السفياني، وولايته لأمر مكة ذكرها الفاكهي؛ لأنه قال: وكان ممن ولي مكة بعد ذلك محمد بن عبد الرحمن السفياني، كان على قضاء مكة وإمارتها ... انتهى. وذكر الزبير بن بكار أن الهادي استقصاه على مكة، وأن الرشيد أقره حتى صرفه المأمون، فولاه قضاء بغداد شهرا ثم صرفه3 ... انتهى. ولعل محمد بن عبد الرحمن السفياني هذا ولي إمرة مكة مع قضائها في زمن الأخوين: الهادي والرشيد، أو في زمن أحدهما، والله أعلم.

_ 1 تاريخ الطبري 8/ 204. 2 تاريخ الطبري 8/ 192-203. 3 نسب قريش "ص: 338".

ثم ولي مكة في خلافة الرشيد هارون بن المهدي العباسي جماعة، ذكرهم ابن الأثير من غير ترتيب في الأسماء ولا في الولاية، ولا رفع في أنسابهم، ونحن نذكرهم مرتبين في الأسماء، ونوضح في أنسابهم ما لم يوضحه ابن الأثير وهم: أحمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس، وحماد البربري، وسليمان بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، والعباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والعباس بن محمد بن إبراهيم الإمام، وعبد الله بن محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، وعبيد الله بن قثم بن العباس المقدم ذكره، وعبيد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام وعلي بن موسى بن عيسى أخو العباس، والفضل بن العباس بن محمد بن عبد الله بن عباس، ومحمد بن إبراهيم الإمام، ومحمد بن عبد اللهبن سعيد بن المغيرة بن عمرو بن عثمان بن عفان العثماني، وموسى بن عيسى بن موسى بن محمد بنعلي والد العباس وعلى المقدم ذكرهما1. ولم يذكر ابن الأثير في تاريخه ولاية ولاة مكة الذين ذكرهم، إلا ولاية عبيد الله بن قثم؛ ذكر أنه كان على مكة سنة سبعين2؛ وإلا ولاية حماد البربري، والفضل بن العباس، وتاريخ ولاية حماد سنة أربع وثمانين3، وتاريخ ولاية الفضل سنة إحدى وتسعين4، وذكر أن الرشيد ولى حمادا اليمن مع مكة. ورأيت في تاريخ ابن جرير5 وابن كثير6 ما يقتضي أن ولاية محمد بن إبراهيم الإمام في خلافة الرشيد سنة ثمان وسبعين ومائة. ورأيت في "أخبار مكة" للفاكهي ما يقتضي أن العثماني كان واليا على مكة للرشيد سنة ست وثمانين، وأن ولاية سليمان بن جعفر بن سليمان لمكة في هذه السنة بعد عزل العثماني. وولي مكة في خلافة الأمين محمد بن هارون الرشيد العباسي7: داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، العباسي، وكان على مكة في سنة ثلاث وتسعين8، ودامت ولايته إلى انقضاء خلافة الأمين.

_ 1 الكامل لابن الأثير 6/ 214. 2 الكامل لابن الأثير 6/ 109. 3 الكامل لابن الأثير 6/ 166. 4 الكامل لابن الأثير 6/ 206، إتحاف الورى 2/ 247، درر الفرائد "ص 223"، المحبر "ص: 39". 5 تاريخ الطبري 8/ 260. 6 البداية والنهاية 10/ 173. 7 كانت خلافة خمسة أعوام، بدأت بوفاة والده عام 193هـ، وامتدت حتى مقتله عام 198هـ. 8 الكامل لابن الأثير 6/ 226، إتحاف الورى 2/ 248، المحبر "ص: 39"، درر الفرائد "ص: 223".

وولي للأمين المدينة أيضا، وهو الذي تولى خلع الأمين بمكة سنة ست وتسعين1. وولي مكة في خلافة المأمون عبد الله بن هارون الرشيد العباسي2: داود بن عيسى المذكور؛ لأنه لما خلع الأمين في رجب سنة ست وتسعين لنقضه العهد الذي كان عهده الرشيد بينه وبينأخيه المأمون، بايع للمأمون بالحرمين، وسار إلى المأمون حتى أعلمه بذلك، وتبصر به المأمون وتيمن ببركة مكة والمدينة، واستعمل عليهما داود، وأضاف إليه ولاية عك، وأعطاه خمسمائة ألف درهم معونة له، وسار إلى مكة، ودامت ولايته عليها إلى أن كان وقت الوقوف من سنة تسع وتسعين ومائة، ثم فارق مكة متخوفا من الحسين بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بالأفطس مع قدرة داود على الدفع والقتال3. وولي مكة بعد خروج داود منها: الحسين الأفطس المذكور بالتغلب؛ لأن أبا السرايا السري بن منصور الشيباني داعية ابن طباطبا بعد استيلائه على الكوفة، وضربه بها الدراهم، وبعثه الجيوش إلى البصرة وواسط ونواحيها، ولي الحسين -المذكور- مكة وجعل إليه الموسم، ووجه أبو السرايا أيضا واليا على المدينة، وواليا على اليمن، ولما بلغ داود بن عيسى توجيه أبي السرايا للحسين فارق مكة هو ومن بها من شيعة بني العباس وقت الحج. وكان الحسين حين بلغ سرف4 تخوف من دخول مكة، حتى بلغه خلوها من ابن العباس؛ فدخلها في عشرة أنفس، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة فوقفوا ليلا، ثم رجعوا إلى مزدلفة، فصلى حسين بالناس الصبح، وأقام بمنى أيام الحج، ثم صار إلى مكة. فلما كان مستهل المحرم من سنة مائتين نزع الحسين كسوة الكعبة، وكساها الكسوة التي أنفذها معه أبو السرايا، وكانت كسوتين من قز رقيق، إحداهما صفراء، والأخرى بيضاء. وأخذ ما في خزانة الكعبة، فقسمه مع كسوتها على أصحابه، وهرب الناس من مكة؛ لأن أصحاب الحسين كانوا يأخذون أموال الناس بحجة أنها ودائع لبني

_ 1 الكامل لابن الأثير 6/ 226، إتحاف الورى 2/ 206. 2 امتدت خلافة المأمون عشرين عاما من عام 198هـ- وهو العام الذي قتل فيه أخوه- حتى عام 218هـ، وكان قائد الجيش للمأمون طارق بن الحسين، وهو الذي تولى قتل الأمين. 3 الكامل لابن الأثير 6/ 307، إتحاف الورى 2/ 257. 4 سرف: موضع معروف بقرب مكة، وفيه توفيت السيدة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

العباس، ودامت ولاية الحسين على مكة إلى أن بلغه قتل أبي السرايا في سنة مائتين1. وذكر العتيقي في "أمراء الموسم" ما يقتضي أن الحسن الأفطس ولي مكة قبل التروية؛ لأنه قال: وكان أمير الموسم سنة تسع وتسعين محمد بن داود بن عيسى بن موسى؛ فلما كان بمنى قبل التروية بيوم، وثب ابن الأفطس العلوي بمكة، وغلب عليها، وصار إلى منى؛ فتنحى عنه محمد بن داود، ولم يمض إلى عرفة، ومضى الناس أإلى عرفات بغير إمام، ودفعوا بغير إمام، وأقام الأفطس الموقف ليلا؛ فوقف، ثم صار إلى المزدلفة، فصلى بالناس صلاة الفجر، ووقف بهم عند المشعر، ودفع بهم غداة جمع، وصار إلى منى ... انتهى. وإنما ذكرنا ما ذكر العتيقي لمخالفته ما ذكرناه قبل في وقت استيلاء الحسين على مكة؛ فإن الذي ذكرناه قبل يقتضيانه لم يدخله مكة إلا ليلة عرفة، والله أعلم. ثم ولي مكة بعد الأطلس: محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بالديباجة، لجمال وجهه؛ وسبب ذلك: أن حسينا الأفطس لما بلغه قتل أبي السرايا، رأى أن الناس تغيروا عليه لقبح سيرته وسيرة أصحابه؛ فأتى هو وأصحابه إلى محمد بن جعفر المذكور، وسألوه في المبايعة به بالخلافة؛ فكره محمد ذلك، فاستعانوا عليه باتبنه علي، ولم يزالوا به حتى بايعوه بالخلافة في ربيع ألأول سنة مائتين، وجمعوا الناس على بيعته طوعا وكرها، وسموا أمير المؤمنين، فبقي شهورا ليس له من الأمر شي، وابنه علي وحسين الأفطس وجماعتهم على أقبح سيرة، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى قدم إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فارا من إبراهيم بن موسى بن جعفر، فنزل المشاش، واجتمع إليه جماعة من أهل مكة هربوا من العلويين، واجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفرا، وجمعوا الناس من الأعراب وغيرهم، وحفروا خندقا؛ فقالتهم إسحاق، ثم كره القتال؛ فسار نحو العراق فلقيه الجند الذي أنفذهم هرثمة إلى مكة، وكان فيهم الجلودي، وورقاء بن جميل، فقال لإسحاق: ارجع معنا، ونحن نكفيك القتال، فرجع معهم ولقيهم الطالبيون ببئر ميمون، وكان قد اجتمع إلى محمد غوغاء أهل مكة وسودان البادية والأعراب، فالتقى الفريقان، فقتل جماع، ثم تحاجزوا، ثم التقوا من الغد، فانهزم العلويون ومن معهم، وطلب الديباجة الأمان، فأجلوه ثلاثا، ثم نزح عن مكة، وتفرق كل قوم من الطالبين من ناحية، ودخل العباسيون مكة في جمادى الآخرة سنة مائتين، وتوجه ممج بن جعفر نحو بلاد

_ 1 الكامل لابن الأثير 6/ 306-311، إتحاف الورى 2/ 262.

جهينة، فجمع بها، وقاتل والي المدينة هارون بن المسيب عند الشجرة1 وغيرها مرات، وانهز محمد بن جعفر بعد أن فقئت عينه بنشابة، وقتل من أصحابه خلق كثير، ورجع إلى موضعه، ثم طلب الأمان من "الجلودي" ومن ورقاء؛ فأمناه، وضمن له ورقا عن المأمون وعن الفضل2 الأمان، فقبل والي مكة لعشر بقين من ذي الحجة سنة مائتين؛ فصعد به "الجلودي" المنبر بمكة والجلودي فوقه في المنبر، وعليه قباء أسود، فاعتذر من خروجه، بأنه بلغه موت المأمون، وقد صح عنده الآن حياته، وخلع نفسه واستغفر، ثم سار إلى العراق حتى بلغ المأمون بمرو، فعفا عنه، وبقي قليلا، ثم مات فجأة بجرجان؛ فصلى عليه المأمون، ونزل في لحده وقال: هذه رحم قطعت من سنين، وكان موته في شعبان سنة ثلاث ومائتين، وسبب موته -على ما قبل- أنه جامع ودخل الحمام وافتصد في يوم واحد3. وولي مكة في خلافة المأمون بعد هزيمة الطالبيين: عيسى بن يزيد الجلودي؛ لأن في خبر الديباجة الذي حكاه الذهبي في "تاريخ الإسلام" أن عيسى الجلودي لما خرج بالديباجة إلى العراق استخلف على مكة ابنة محمدا ... انتهى بالمعنى. وذكر ابن حزم في "الجمهرة"4 ما يدل لولاية الجلودي على مكة؛ لأنه ذكر أن يزيد بن محمد بن حنظلة المخزومي، استخلفه عيسى بن يزيد الجلودي على مكة؛ فدخلها عنوة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وقتل يزيد بن محمد ... انتهى. فاستفدنا من هذا ولاية الجلودي على مكة، ونيابة ابن حنظلة له وقتله، وكان قتله في سنة اثنتين ومائتين، وإن كان إبراهيم بن موسى المذكور واليا على مكة في هذه السنة، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى، والله أعلم5. وولي مكة بعد عزل الجلودي: هارون بن المسيب؛ لأني نقلت من كتاب "مقاتل الطالبيين"، عن أبي العباس أحمد بن عبد الله بن عمار الثقفي، فيما رواه من كتاب هارون بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الواحد بن

_ 1 الشجرة: مكان قرب المدينة المنوة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرم منه إذا أراد الحج أو العمرة، وهي غير شجرة البيعة المذكورة في القرآن الكريم؛ فإن هذه الشجرة في الحديبية قريبا من مكة المكرمة في الطريق إلى جدة. 2 هو الفضل بن سهل وزير الخليفة العباسي "المأمون بن هارون الرشيد". 3 تاريخ الطبري 8/ 539، الكامل لابن الأثير 6/ 312، 313، الوافي بالوفيات 2/ 191، شذرات الذهب 2/ 7، إتحاف الورى 2/ 266. 4 جمهرة أنساب العرب "ص: 143". 5 تاريخ الطبري.

النصر بن القاسم مولى عبد الصمد بن علي: أن عيسى بن يزيد الجلودي أقام بمكة وهي مستقيمة له والمدينة، حتى قدوم هارون بن المسيب واليا على الحرمين؛ فبدأ بمكة، فصرف الجلودي عنها، وحج بالناس وانصرف إلى المدينة فأقام سنة ... انتهى. وولي مكة للمأمون: حمدون بن علي بن عيسى بن ماهان، على ما ذكر الأزرقي1؛ لأنه في أخبار سيولة مكة: وجاء سيل في سنة اثنتين ومائتين، في خلافة المأمون، وعلى مكة يزيد بن محمد بن حنظلة2 خليفة لحمدون بن علي بن عيسى بن ماهان ... انتهى. ولا تعارض بين ما ذكره ابن حزم من ولاية حنظلة للجلودي، وبين ما ذكره الأزرقي من ولاية ابن حنظلة لابن ماهان؛ لإمكان أن يكون وليها للجلودي ولابن ماهان، الله أعلم. ولا معارضة أيضا بين ما ذكره الذهبي من ولاية محمد بن الجلودي، على مكة لأبيه، وبين ما ذكره ابن حزم من ولاية حنظلة على مكة للجلودي؛ لإمكان أن يكون الجلودي ولي مكة لابنه ولابن حنظلة، والله أعلم. وولي مكة للمأمون: إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، هكذا نسبه العتيقي، وذكر أنه حج بالناس سنة اثنتين ومائيتن، وهو أمير مكة للمأمون، وأخوه علي بن عيسى الرضا ولي عهد المأمون3 ... انتهى. ولا معارضة بين ما ذكره العتيقي من أن إبراهيم من أن إبراهيم كان على مكة في سنة اثنتين ومائتين، وبين ما ذكره الأزرقي من أن ابن حنظلة كان على مكة في سنة اثنتين ومائتين خليفة لحمدون بن علي4، لإمكان أن يكون "حمدون" كان على مكة في أول سنة اثنتين ومائتين، وإبراهيم كان على مكة في آخر هذه السنة5، والله أعلم. وولي مكة للمأمون: عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، مع المدينة، في سنة أربع ومائتين، وكان على مكة والمدينة أيضا في سنة خمس، وسنة ست ومائتين6، ولعل ولايته دامت إلى سنة تسع.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 226، إتحاف الورى 2/ 278. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 170. 3 الكامل لابن الأثير 6/ 309-313. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 226، إتحاف الورى 2/ 279. 5 أو أن إبراهيم كان متغلبا لا متوليا من قبل خليفة. 6 الكامل لابن الأثير 2/ 280، إتحاف الورى 2/ 280، البداية والنهاية 10/ 25.

ثم ولي مكة: صالح بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي في سنة عشرة ومائتين1، ودامت -ولايته -فيما أظن- إلى أن حج بالناس في سنة اثنتي عشرة ومائتين، والله أعلم. ثم وليها بعده -فيما أظن- سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي؛ لأن يعقوب بن سفيان ذكر أنه ولي مكة والمدينة سنة أربع عشرة ومائتين، وكان ابنه علي مكة مرة، وعلى المدينة مرة، وكان هو وأبوه يتداولان العمل على المدينة ومكة2 ... انتهى. وولي مكة في خلافة المأمون: محمد بن سليمان المذكور؛ لأن الأزرقي قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في أول من استصبح حول الكعبة": فلم يزل مصباح زمزم على عمود طويل مقابل الركن الأسود الذي وضعه خالد القسري؛ فلما كان محمد بن سليمان بن مكة في خلافة المأمون في سنة ست عشرة ومائتين وضع عمودا طويلا مقابله بحذاء الركن الغربي3 ... انتهى. والظاهر أنه ابن سليمان بن المذكور لقرب ولايتهما، ولتأخر ولاية محمد بن سليمان الزيني على مكة؛ فإنه لم يليها إلا في آخر خلافة المتوكل فيما علمت، ولا هو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس الذي أمره الهادي على حرب الحسين صاحب فخ؛ لكونه مات سنة ثلاث وسبعين ومائة، على ما ذكره المسيحي وغيره، والله أعلم. وممن ولي مكة للمأمون: عبيد الله بن عبد الله بن حسن بن جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، ذكر ولايته عليها الزبير بن بكار، أفادني ذلك بعض أصحابنا المعتمدين. وممن ولي مكة للمأمون: الحسن بن سهل أخو الفضل بن سهل؛ إلا أنه لم يباشر ذلك بنفسه، وإنما عقدت له عليها الولاية؛ لأن المأمون في سنة ثمان وتسعين بعد أن قتل الأمين استعمل الحسن بن سهل على كل ما افتتحه طاهر بن الحسين، من كور الجبال، والعراق، وفارس، والأهواز، والحجاز، واليمن، على ما ذكر ابن الأثير4 وغيره.

_ 1 يجعل صاحب مرآة الحرمين، وصاحب الرحلة الحجازية "ص 83" أن بدء ولايته كان عام "218هـ"، وجعلها ابن فهد سنة "210هـ"، انظر إتحاف الورى 2/ 284. 2 المعرفة والتاريخ 1/ 199، 200، إتحاف الورى 2/ 287. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 287، إتحاف الورى 2/ 288. 4 الكامل لابن الأثير 6/ 297.

وولي مكة في خلافة المعتصم محمد بن هارون الرشيد العباسي: صالح بن العباس المذكور، وكان على مكة في سنة تسع عشر ومائتين1، على ما ذكره الفاكهي. ثم وليها: محمد بن داود عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي الملقب ترنجة، في سنة اثنين وعشرين ومائتين2، ولعل ولايته دامت إلى أثناء خلافة المتوكل، والله أعلم. وممن ولي مكة في خلافة المعتصم: أشناس التركي أحد كبار قواد المعتصم؛ لأن ابن الأثير ذكر في أخبار سنة ست وعشرين ومائتين "أشناس" لما أراد الحج في هذه السنة جعل إليه المعتصم ولاية كل بلد يدخلها؛ فحج فيها، واستناب على الحج بالناس: محمد بن داود -يعني السابق ذكره- ودعى لأشناس على منابر الحرمين وغيرهما من البلاد التي اجتاز بها، حتى عاد إلى سامرا3 ... انتهى. وذكر ابن الأثير أيضا أن "أشناس" هذا مات في سنة ثلاثين ومائتين4. وولي مكة في خلافة المتوكل، أبي الفضل جعفر بن الواثق، هارون بن المعتصم: علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور العباسي سنة ثمان وثلاثين، ودامت ولايته إلى أن توفي سنة تسع وثلاثين؛ هكذا ذكر ابتداء ولايته وانتهاءها بوفاته: المسبحي في تاريخه، وذكر ابن الأثير ما يقتضي أنه لم يكن واليا على مكة سنة ثمان وثلاثين، والله أعلم. وذكر ابن الأثير أيضا ولايته في سنة تسع وثلاثين5. ثم ولي بعده عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى العباسي المقدم ذكر والده؛ وذلك في سنة تسع وثلاثين، على ما ذكر المسجي، وذكر أن عبد الله حج بالناس سنة تسع وثلاثين6، ودامت ولايته إلى آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، على متقضى ما ذكر ابن الأثير7.

_ 1 تاريخ خليفة "ص: 476"، إتحاف الورى 2/ 289، المحبر "ص: 42"، درر الفرائد "ص: 226"، مروج الذهب 4/ 405. 2 تاريخ خليفة "ص: 476"، المحبر "ص: 42"، درر الفرائد "ص: 227". 3 الكامل لابن الأثير 6/ 521، المحبر "ص: 42"، مروج الذهب 4/ 405، إتحاف الورى 2/ 296. 4 الكامل لابن الأثير 7/ 18. 5 ذكر ابن الأثير 7/ 72 في سنة "237هـ" ولم يذكره في السنتين التاليتين، وذكره ابن فهد في سنة "237هـ" 8/ 313. 6 كلام ابن الأثير 7/ 72، وابن فهد 2/ 313، يفيد أنه كان واليا سنة "239هـ". 7 الكامل لابن الأثير 7/ 80.

وذكر ابن جرير ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة اثنتين وأربعين ومائتين1. ثم ولي مكة بعده عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي سنة اثنتين وأربعين على ما ذكر ابن الأثير، وذكر ذلك ابن كثير، وذكر أنه حج بالناس سنة ثلاث وأربعين، وهو نائب مكة2 انتهى. وولي مكة بعده محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام المعروف بالزينبي، على ما ذكر ابن جرير؛ لأنه ذكر أنه حج بالناس سنة خمس وأربعين، وهو والي مكة3. وولي مكة في خلافة المتوكي ابنه المنتصر محمد، الذي ولي الخلافة بعد أبيه؛ لأن أباه ولاه الحرمين، والطائف، واليمن، في رمضان ثلاث وثلاثين ومائتين، ثم عقد له على ذلك وغيره في سنة خمس وثلاثين4، وما أظنه باشر ولاية مكة، والله تعالى أعلم. وممن ولي مكة في خلافة المتوكل: إيتاخ الخزري مولى المعتصم، وأحد كبار قواد المتوكل؛ لأن ابن الأثير ذكر في أخبار سنة أربع وثلاثين ومائتين: وضع على إيتاخ من حسن له الحج، فاستأذن فيه المتوكل، فأذن له وصيره أمير كل بلد يدخله، وخلع عليه، ثم قال: وقيل: إن هذه القضية كانت سنة ثلاث وثلاثين5. ثم ذكر في أخبار سنة خمس وثلاثين، أنه لما عاد من الحج احتيل عليه حتى قبض عليه، ومات في جمادى الآخر من هذه السنة6. وولي مكة في خلافة المنتصر محمد بن المتوكل المذكور: محمد بن سليمان الزينبي المقدم ذكره، فيما أظن، والله أعلم. وولي مكة في خلافة المستعين أبي العباس أحمد بن المعتصم العباسي عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام -السابق ذكره- وكان على مكة في سنة تسع وأربعين، على ما ذكر ابن جرير وابن الأثير7.

_ 1 لم يذكره الطبري في حوادي سنة "242هـ" وإنما ذكره في حوادث سنة "241هـ" وذكره ابن فهد 2/ 323 في حوادث سنة "242هـ". 2 البداية والنهاية 10/ 344، تاريخ الطبري 9/ 209. 3 الكامل لابن الأثير 7/ 43، إتحاف الورى 2/ 325، المحبر "ص: 43"، درر الفرائد "ص: 229". 4 الكامل لابن الأثير 7/ 47، إتحاف الورى 2/ 301. 5 الكامل لابن الأثير 7/ 43. 6 الكامل لابن الأثير 7/ 47. 7 تاريخ الطبري 9/ 265، الكامل لابن الأثير 7/ 125.

ثم وليها بعده: جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى بن محمد وعلي بن عبد الله بن عباس العباسي المعروف بشاشان؛ وذلك في سنة خمسين ومائتين، ودامت ولايته إلى سنة إحدى وخمسين1. ثم وليها بعده في هذه السنة بالتغلب: إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ لأنه ظهر بمكة، وهرب منه عاملها جعفر المذكور، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة ونهب منزل جعفر ومنازل أصحاب السلطان، وأخذ من الناس نحو مائتي ألف دينار، وأخذ كسوة الكعبة، وما في الكعبة، وخزائنها من الأموال، وما حمل من المال لإصلاح العين، ونهب مكة، وأحرق بعضها، ثم خرج منا بعد مقامه فيها خمسين يوما، في شهر ربيع الأول إلى المدينة؛ فتوارى عنه عاملها، ثم رجع إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى مات أهلها جوعا وعطشا، وبلغ الخبر ثلاث أواق بدرهم، ولقي أهل مكة منه كل بلاء، ثم سار إلى جدة بعد أن أقام سبعة وخمسين يوما؛ فحبس عن الناس فأفسد فيه كثيرا، وكان من أمره بعرفة ما سنذكره بعد -إن شاء الله، وبعد انفصاله من الموقف بعرفة سار إلى جدة، وأفنى أموالها. وما ذكرناه من خبره لخصناه بالمعنى من تاريخ ابن جرير وابن الأثير2، وفيه ما يقتضي أن ظهور إسماعيل بمكة كان في صفر من سنة إحدى وخمسين ومائتين؛ لأن فيه أنه خرج من مكة إلى المدينة في ربيع الأول بعد خمسين يوما، وذكر ابن حزم في "الجمهرة" ما يقتضي أنه ظهر بمكة في ربيع الأول، وذكر أنه مات في آخر سنة اثنتين وخمسين بالجدري، عن اثنين وعشرين سنة3. وذكر المسعودي ما يقتضي أن ظهوره كان سنة اثنتين وخمسين4. وولي مكة في خلافة المستعين: ابنه العباس؛ لأن المسعودي ذكر في أخبار سنة تسعه وأربعين ومائتين، أن المستعين: عقد لابنه العباس على مكة والمدينة والبصرة والكوفة، وعزم على البيعة له، فأخرها لصغر سنه ... انتهى5 بالمعنى.

_ 1 تاريخ الطبري 9/ 277، الكامل لابن الأثير 7/ 134، 165، إتحاف الورى 2/ 328، البداية والنهاية 11/ 6، مروج الذهب 4/ 406. 2 الكامل لابن الأثير 7/ 165، 166، تاريخ الطبري 9/ 346، 347، إتحاف الورى 2/ 1329، البداية والنهاية 11/ 9، العقد الفريد 3/ 312. 3 جمهرة أنساب العرب "ص: 46"، إتحاف الورى 2/ 331، العقد الفريد 3/ 313. 4 مروج الذهب 4/ 176، وفيه يسميه: "يوسف بن إسماعيل". 5 مروج الذهب 4/ 154.

وولي مكة في خلافة المستعين أيضا: محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين؛ لأن ابن الأثير ذكر في أخبار سنة ثمان وأربعين، أن المستعين عقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر على العراق، وجعل إليه الحرمين، والشرطة، ومعادن السواد، وأفرده به1 ... انتهى. وولي مكة في خلافة المعتز2 محمد، وقيل: طلحة، وقيل: الزبير بن المتوكل العباسي: عيسى بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، على ما ذكر ابن حزم3، وهكذا نسبه، وهو: عيسى بن محمد المخزومي الذي ذكر ابن الأثير أن المعتز أنفذه مع محمد بن العلوي، ولعل المعز ولي عيسى مكة في السنة التي بعثه فيها إلى مكة، وهي سنة إحدى وخمسين4 والله أعلم. وما عرفت إلى متى دامت ولايته على مكة. وذكر الفاكهي ولاية عيسى هذا لمكة، وأنه كان واليا عليها في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وفي سنة أربع وخمسين ومائتين، وذكر الفاكهي ما يقتضي أنه ولي مكة مرتين5. وممن ولي مكة في خلافة المعتز، أو في خلافة المهتدي، محمد بن الواثق العباسي6 أو في خلافة المعتمد العباسي7: محمد بن أحمد المنصوري؛ هكذا رأيته مذكورا في كتاب الفاكهي؛ وذكر ما يدل لولايته على مكة؛ لأنه قال في الأوليات التي اتفقت بمكة: وأول من استصبح في المسجد الحرام في القناديل في الصحن: محمد بن أحمد المنصوري، جعل عمدا من خشب في وسط المسجد، وجعل بينهما جبالا، وجعل فيها قناديل يستصبح بها؛ فكان ذلك في ولايته، حتى عزل محمد بن أحمد، فعلقها عيسى بن محمد في إمارته الأخيرة ... انتهى. وذكر العتيقي: محمد بن أحمد هذا، ووقع خلاف في نسبه؛ لأنه قال: وحج بالناس سنة ثلاث وخمسين ومائتين: محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور يعرف

_ 1 الكامل لابن الأثير 7/ 118. 2 كانت خلافة المعتز بن المتوكل ثلاث سنوات من "252-255 هـ". 3 جمهرة أنساب العرب "ص: 149". 4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 240. 5 الكامل لابن الأثير 7/ 166، إتحاف الورى 2/ 330. 6 الكامل لابن الأثير، إتحاف الورى 2/ 330. 7 كانت خلافة المهتدي من "255 - 256 هـ".

بكعب البقر1، وقال بعد ذلك: وحج بالناس سنة ست وخمسين: محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وقال أيضا: وحج بالناس سنة سبع وخمسين ومائين: محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور كعب البقر ... انتهى. فاستفدنا مما ذكره العتيقي في نسبه وحجة بالناس في هذه السنين، ولعله كان في إحداها واليا على مكة، والله أعلم. وما ذكرناه عن ابن الأثير من كون المعتز بعثه مع عيسى بن محمد المخزومي لحرب إسماعيل بن العلوي، يقتضي أنه محمد بن إسماعيل بن عيسى، ولعل إسماعيل تصحف بأحمد، فإن النسخة التي رأيت فيها ذلك من تاريخ ابن الأثير كثيرة السقم، والله أعلم. وممن ولي مكة في خلافة المهتدي محمد بن الواثق العباسي: علي بن الحسن الهاشمي، على ما ذكر الفاكهي، ولم يزد في ذكره على اسمه واسم أبيه، وذكر في غير موضع أنه هاشمي؛ وذكر الفاكهي أنه ولي مكة في سنة ست وخمسين ومائتين، وذكر ما يقتضي أنه كان واليا على مكة في الحرم وصفر، وفي شهر ربيع الأول منها، وأنه في ولايته حلى المقام وزاد من عنده في حليته2. وذكر في الأوليات بمكة أنه أول من فرق بين الرجال والنساء في جلوسهم في المسجد الحرام، أمر الجبال فربط بين الأساطين التي تقعد عندها النساء؛ فكن يقعدن دون الحبال، إذا جلس في المسجد الحرام، والرجال من وراء الحبال3 ... انتهى. وولي مكة في خلافة المعتمد أحمد بن المتوكل العباسي جماعة؛ وهم: أخوه أبو أحمد الموفق، واسمه طلحة، وقيل: محمد بن المتوكل العباسي، وإبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي الملقب برية، وأحمد بن طولون صاحب مصر، ومحمد بن أبي الساج، وأخوه يوسف بن أبي الساج، ومحمد بن عيسى بن محمد بن إسماعيل المخزومي أبو المغيرة ولد عيسى المقدم ذكره، وأبو عيسى محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الوهاب بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي، والفضل بن العباسي بن الحسين بن إسماعيل بن محمد العباسي.

_ 1 إتحاف الورى 4/ 334 و335، مروج الذهب 4/ 6، درر الفرائد "ص: 230، 231".؟ 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 477، والعقد الفريد 6/ 152. 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 242.

فأما ولاية الموافق: فذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة سبع وخمسين ومائيتن: لما اشتد أمر الزنج وعظم شرهم وأفسدوا في البلاد، أرسل "المعتمد على الله" مكة والحرمين واليمن1ض، انتهى باختصار لبعض ما ذكره من البلاد؛ وإنما ذكرنا كلامه بنصه؛ لإفادته ولاية الموفق للحرمين ولما فيه من إحضاره من مكة فإنه يبعد أن يكون فيها وولايتها لغيره، والله أعلم. وأما ولاية إبراهيم الملقب برية فذكرها ابن الأثير، وذكر أنه كان على مكة في سنة ستين ومائتين2 ولعله كان عليها في التي قبلها، وذكر ابن الأثير أنه رحل من مكة للغلاء الذي كان بها في سنة إحدى وستين، لما جلا الناس عنها لغلائها. وأما ولاية ابن طولون فذكر ابن جرير ما يدل لها، ولولاية هارون بن محمد المذكور؛ لأنه قال في أخبار سنة تسع وستين ومائتين: وفي ذي الحجة كانت وقعة بين قائدين، وجههما أحمد بن طولون في أربعمائة وسبعين فارسا وألفي راجل، فوافيا مكة لليلتين بقيتا من ذي القعدة؛ فأعطوا الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤساء سبعة، وهارون بن محمد عامل مكة، فوافاه جعفر بن الباغمردي3 لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو مائتي فارس، وكان هارون في مائة وعشرين فارسا، ومائتي أسود، يقوى بهم، فالتقوا وأصحاب ابن طولون؛ فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة نحو مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال، وأخذت دوابهم وأموالهم، وأمن جعفر المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام بلعن أحمد بن طولون، وسلم الناس أموال التجار4 ... انتهى. وذكر ابن الأثير نحو ذلك مختصرا، وأفاد فيما ذكره أن هارون حين وافاه المصريون كان ببستان ابن عامر، قد فارق مكة خوفا من المصريين5 ... انتهى. وبستان ابن عامر هو نخلة6 التي هي من عمل مكة؛ لأن أبا الفتح ابن سيد الناس قال في سيرته لما ذكر سرية عبد الله بن جحش: وذكر -يعني ابن سعد- أن النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 الكامل لابن الأثير 7/ 241، وإتحاف الورى 2/ 335، البداية والنهاية 11/ 28، العقد الفريد 5/ 67. 2 الكامل لابن الأثير 7/ 272، إتحاف الورى 2/ 336. 3 في إتحاف الورى 2/ 336: "الباغمردي". 4 تاريخ الطبري 9/ 652، إتحاف الورى 3/ 343. 5 الكامل لابن الأثير 7/ 395. 6 نخلة: اسم لثلاثة مواضع: نخلة القصوى، ونخلة الشمالية، ونخلة اليمانية، والمقصود هنا: نخلة الشمالية، وهي قريبة من مر الظهران، وكلها قريبة من مكة.

بعث عبد الله بن جحش -رضي الله عنه- في اثنى عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان بعيرا إلى بطن نخلة. وهو بستان ابن عامر ... انتهى. أخبرني بذلك عن ابن سيد الناس غير واحد من أشياخي عنه1. وأما ولاية محمد بن أبي الساج: فذكرها ابن جرير؛ لأنه في أخبار سنة ست وستين ومائتين: وفي شهر ربيع الآخر أبو الساج بجنديسابور، وولي ابنه محمد الحرمين وطريق مكة ... انتهى. وهكذا وجدته في مختصر تاريخ ابن جرير2. وذكر ابن حمدون في "تذكرته" وابن الأثير3 في "كامله" ولاية محمد بن أبي الساج، كما ذكر في التاريخ المذكور، وذكر أن عمرو بن الليث الصفار ولاه ذلك، ولعل الصفار لم يفعل ذلك إلا بعد أن جعل إليه ذلك الخليفة المعتمد، أو أخوه أبو أحمد الموفق، والله أعلم. وهذا يدل على ولاية عمرو بن الليث لمكة، والله أعلم. وأما ولاية أخيه يوسف بن أبي الساج: فذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة إحدى وسبعين ومائتين: وفيها عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة، وطريق مكة؛ فوثب يوسف بن أبي الساج -وهو والي مكة- على بدر غلام الطائي، وكان أمير على الحجاج؛ فحاربه وأسره؛ فثار الجند والحاج بيوسف فقاتلوه، واستنقذوا بدرا، وأسروا يوسف وحملوه إلى بغداد، وكانت الموقعة بينهم على أبواب المسجد الحرام4 ... انتهى. وأما ولاية أبي المغيرة، وأبي عيسى المخزوميين، فذكرهما ابن حزم؛ لأنه قال بعد أن ذكر نسب أبي المغيرة، وأبي عيسى: وكان المعتمد قد ولي أبا عيسى هذا مكة، ثم عزله بأبي المغيرة المذكور، فتحاربا فقتل أبو عيسى، ودخل أبو المغيرة مكة ورأس أبي عيسى بين يديه5 ... انتهى. ولم أدر متى كانت ولاية أبي عيسى؟ وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أبا عيسى محمد بن يحيى المخزومي ولي مكة نيابة عن الفضل بن العباس؛ فقال شاعر من أهل مكة: أتعجبون يا بني المغيرة فيه ... فبنو حفص منكم أمراء انتهى.

_ 1 عيون الأثر 1/ 259. 2 تاريخ الطبري 9/ 549. 3 الكامل لابن الأثير 7/ 333. 4 الكامل لابن الأثير 7/ 417، إتحاف الورى 2/ 344. 5 جمهرة أنساب العرب "ص: 149".

لأنه قال: وكان محمد بن يحيى المخزومي واليها، واستخلفه عليها الفضل بن عباس. ولا مانع من أن يكون أبو عيسى ولي مكة عن الفضل بن عباس نيابة، كما ذكر الفاكهي، وعن المعتمد استقلالا، كما ذكر ابن حزم، والله أعلم. وأما ولاية أبي المغيرة؛ فرأيت في كتاب الفاكهي ما يقتضي أنه كان أميرا على مكة في سنة ثلاث وستين ومائتين؛ لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "تجريد الكعبة": فكانت الكسوة على الكعبة على ما وصفنا، حتى كانت سنة ثلاث وستين، فورد كتاب من أبي أحمد الموفق بالله على محمد بن عيسى وهو يومئذ على مكة، يأمره بتجريد الكعبة؛ فقرأ الكتاب في درا الإمارة لتسع ليال بقين من ذي الحجة1 ... انتهى. وما ذكرناه من كلام الفاكهي يشعر بأن أبا المغيرة ولي مكة عن أبي أحمد الموفق، وذكر ابن الأثير ما يدل على أنه وليها بعد ذلك لصاحب الزنج؛ لأن ابن الأثير قال في أخبار سنة خمس وستين ومائتين: وفيها كانت موافاة أبي المغيرة عيسى بن محمد المخزومي إلى مكة لصاحب الزنج2 ... انتهى. وما ذكر ابن الأثير في اسم أبي المغيرة وأبيه عكس ما ذكره ابن حزم في ذلك، ولعله سقط من كتاب ابن الأثير "ابن" بين أبو المغيرة وعيسى؛ وبذلك يتفق ما ذكره مع ما ذكره ابن حزم3، والله أعلم. وصاحب الزنج هو علي بن أحمد العلوي -بزعمه- لأنه كان ينتمي إلى يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ممن أكثر في الأرض الفساد، وأخباره في ذلك مشهورة. وذكر ابن الأثير شيئا من حال أبي المغيرة؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وستين وفيها قدم محمد بن أبي الساج مكة، فحاربه ابن المخزومي، فهزمه محمد، واستباح ماله؛ وذلك يوم الترويه4 ... انتهى. وقال أيضا في أخبار سنة ثمان وستين: وفيها سار أبو المغيرة إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد الهاشمي، فجمع هارون جمعا احتمى بهم؛ فصار المخزومي إلى مشاش فغور ماءها، وأتى جدة فنهب الطعام وأحرق بيوت أهلها، وصار الخبز في مكة

_ 1 الكامل لابن الأثير 7/ 328، إتحاف الورى 2/ 340. 2 الكامل لابن الأثير 7/ 328، إتحاف الورى 2/ 240. 3 جمهرة أنساب العرب "ص: 149". 4 الكامل لابن الأثير 7/ 336، إتحاف الورى 2/ 341، البداية والنهاية 11/ 39.

أوقيتين بدرهم، ثم قال: وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق1: وقال في أخبار سنة تسع وستين: وفيها وجه ابن أبي الساج جيشا بعدما انصرف من مكة، فسيره إلى جدة، وأخذ المخزومي مركبين فيهما مال وسلاح2 ... انتهى. وأما ولاية هارون بن محمد بن إسحاق العباسي فسبق ما يدل لها من كلام ابن جرير3 وابن الأثير، وذكرها ابن حزم4، وأفاد في ذلك مالم يفده غيره؛ لأنه قال بعد إن نسبه كما سبق ذكره: ولي المدينة ومكة، وحج بالناس من سنة ثلاث وستين ومائتين، إلى سنة ثمان وسبعين ولاء، ثم هرب من مكة عند الفتنة، فنزل مصر ومات به، وألف نسب العباسيين وغير ذلك ... انتهى. وما ذكره ابن حزم من أنه حج بالناس من سنة ثلاث وستين ومائتين، إلى سنة ثمان وسبعين ولاء ذكر مثله "العتيقي" في "أمراء الموسم"؛ إلا أنه ذكر أن أول حجاته سنة أربع وستين. وذكر ابن الأثير ما يوافق ما ذكره ابن حزم والعتيقي في بعض ذلك؛ لأنه ذكر أن هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي حج بالناس سنة ثمان وستين5. وأما ولاية الفضل بن العباس فذكرها الفاكهي6، وذكر أنه كان واليا على مكة سنة ثلاث وستين ومائتين، واقتصر في نسبه على الفضل بن العباس، وما ذكرناه في نسبه ذكره العتيقي، وذكر أنه حج بالناس سنة ثمان وخمسين ومائتين، إلى آخر سنة ثلاث وستين ولاء؛ إلا سنة ستين فذكر فيها غيره. ثم ولي مكة في خلافة المعتضد، أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن المتوكل العباسي7، وفي خلافة أولاده المكتفي أبي محمد علي8، والمقتدر أبي الفضل جعفر والقاهر أبي منصور محمد9، وفي خلافة الراضي أبي العباس أحمد بن المقتدر10 وفي خلافة المتقي11 أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر، وفي خلافة المستكفي عبد الله بن المكتفي على بن المعتضد12، وفي خلافة المطيع أبي القاسم الفضل بن

_ 1 الكامل لابن الأثير 7/ 372، 373. 2 الكامل لابن الأثير 7/ 396. 3 تاريخ الطبري 9/ 541 و10/ 8-18، وفيه أنه حج بالناس 16سنة من "264 - 279 هـ"، الكامل لابن الأثير 7/ 321 و302، 337. 4 جمهرة أنساب العرب "ص: 33". 5 الكامل لابن الأثير 7/ 373. 6 أخبار مكة للفاكهي 3/ 184. 7 تولي الخلافة بعد موت المعتمد "279 - 289 هـ". 8 تولى الخلافة في الفترة "289-295هـ". 9 تولى الخلافة في الفترة "320 - 322 هـ". 10 تولى الخلافة في الفترة "322 - 328 هـ". 11 تولى الخلافة في الفترة "328 - 333 هـ". 12 تولى الخلافة في الفترة "333 - 334 هـ".

المقتدر العباسي جماعة، ما عرفت منهم غير عج بن حاج، ومؤنس المظفر، وابن ملاحظ. وما عرفته بغير هذا، وابن مخلبة أو ابن محارب على الشك مني، ومحمد بن طفج الأخشد صاحب مصر، وابنيه أبي القاسم أو نجور، ومعنى أونجور: محمود، وأبي الحسن علي، والقاضي أبي جعفر محمد بن الحسن عبد العزيز العباسي، قاضي مصر. فأما ولاية عج بن حاج فذكرها إسحاق بن أحمد الخزاعي راوي تاريخ الأزرقي، في خبر زيادة دار الندوة، وترجم على ذلك بقوله: "باب ذكر بناء المسجد الجديد" الذي كان دار الندوة، وأضيف إلى المسجد الكبير: لأنه قال بعد أن ذكر أن المستعمل على بريد مكة في ذلك إلى الوزير عبيد الله بن سليمان في سنة إحدى وثمانين ومائتين: وسرح ذلك الأمير بمكة عج بن حاج، مولي أمير المؤمنين1 ... انتهى. وذكر ابن الأثير ما يدل على أنه كان واليا على مكة في سنة خمس وتسعين ومائتين؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: وفي هذه السنة كانت وقعة بين "عج بن حاج" وبين الأجناد بمنى ثاني عشر ذي الحجة، فقتل منهم جماعة؛ لأنهم طلبوا جائزة بيعة المقتدر، وهرب الناس إلى بستان ابن عامر2 ... انتهى. وأما ولاية "مؤنس"، فذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة ثلاثمائة: وفيها قلد مؤنس المظفر الحرمين والثغور3.... انتهى. وأما ولاية "ابن ملاحظ" فذكر النسابة أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني في كتابه "الإكليل" ما يدل لها؛ لأنه قال: في أخبار بني حرب بالحجاز ما نصه: قال أبو جعفر بن المخائي: فمن أيام بني حرب في وقتنا وقبله بمديدة: "يوم الحرة"، ثم قال: ومنها "يوم شرف الإباية" يوم سار إليهم ابن ملاحظ وهو سلطان مكة؛ فقتلوا أصحابه وأسروه؛ فأقام عندهم وقتا، ثم منوا عليه وخلوا سبيله ... انتهى. وما عرفت اسم ابن ملاحظ المذكور، ولا متى كانت ولايته على مكة؛ غير أني أظن أنه كان على ولايتها بعد سنة ثلاثمائة، أو قبلها بقليل، ومؤلف هذا الكتاب الهمداني النسابة كان حيا فسن اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وعاش بعدها إلى سنةتسع وعشرين، فيما أحسب، والله أعلم.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 111، إتحاف الورى 2/ 348. 2 الكامل لابن الأثير 8/ 11، 12، إتحاف الورى 2/ 360. 3 الكامل لابن الأثير 8/ 75.

وأما ولاية "ابن مخلف": فذكرها ابن الأثير؛ لأنه قال لما ذكر ما فعله أبو طاهر القرمطي من القبائح بمكة في سنة سبع عشرة وثلاثمائة: فخرج إليه ابن مخلب أمير مكة في جماعة من الأشراف، فسألوه في أموالهم؛ فلم يشفهم، فقاتلوه، فقتلهم أجمعين1. وأما ولاية "ابن محارب": فذكرها الذهبي؛ لأنه قال لما ذكر خبر أبي طاهر وما فعل بمكة: وقتل ابن محارب أمير مكة ... انتهى؛ هكذا قال: في "تاريخ الإسلام"2. وقال في "العبر"3: وقتل أمير مكة ابن محارب ... انتهى. وأظن -والله أعلم- أن ابن مخلب4 أصوب؛ لأني وجدت في "تاريخ المسبحي" ما نصه في أخبار سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة: وفيها التقى محمد بن إسماعيل بن مخلب متولي معونة الحجاز مع أحمد بن الحسين الحسني ... انتهى. نقلت ذلك من خط الرشيد بن الزكي المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي، والظاهر أن أمير مكة الذي سماه ابن الأثير "ابن مخلب" من أقارب ابن مخلب هذا، والله أعلم. وأما ولاية الأخشيدية فذكرها النويري في تاريخه5؛ لأنه ذكر أن "المتقي" الخليفة العباس ولي "محمج بن طغج" الحرمين، ومصر، والشام في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وعقد لولديه: "أبي القاسم أو نجور"، وأبي الحسن علي -المقدم ذكرهما- من بعده على ذلك؛ على أن يكفلهما خادمه كافرو الخصي المعروف بالإخشيدي. وذكر المسبحي مايدل لذلك لأنه ذكر في أخبار سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة: أنه حج جماعة من أعيان المصريين في هذه السنة، ثم قال: ووقع الخلف بين المصريين والعراقيين في ذي الحجة منها بمكة، في إقامة الدعوة لمعز الدولة ولأخيه ركن الدولة، ولولده عز الدولة، بعد المطيع. ومنعه من ذلك المصريون، وتمسكوا بعقد المتقي للإخشيد، ولوده بعده، من غير واسطة بينه وبين المطيع، وكثر الحكايات في شرح ما جرى بينهم6 ... انتهى.

_ 1 الكامل لابن الأثير 8/ 207، 208. 2 تاريخ الإسلام للذهبي 1/ 192، حوادث سنة "317هـ". 3 العبر 2/ 167. 4 في تجارب الأمم 1/ 201، "ابن مجلب" وفي دول الإسلام للذهبي 1/ 192: "ابن محارب" ولم يصرح الهمداني في تكملة تاريخ الطبري "ص: 62" باسمه، وفي إتحاف الورى 2/ 383: "ابن مجلب". 5 نهاية الإرب 23/ 88 وما بعدها. 6 إتحاف الورى 2/ 298، درر الفرائد "ص: 243"، حسن الصفا والابتهاج "ص: 109".

وذكر العتيقي في "أمراء الموسم" ما يدل لذلك؛ لأنه قال: وحج بالنسا سنة سبع وأربعين: محمد بن عبد الله بن العلوي، وعلى الصلاة: عمر بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، ومضى إلى مصر في هذه السنة، ومات بالقرب منها ودفن بها، وقلده بعده الصلاة: عبد العزيز وعبد السميع ابنا عمر بن الحسن بن عبد العزيز مكان أبيهما بمصر، والحرمين1 ... انتهى. ووجه الدلالة من هذا على ولاية الإخشيدية للحرمين أن تقليدهم الصلاة فيهما يقتضي أنهما في ولايتهم، وهو كذلك، بدليل ما حكي من عقد المتقي لهم الولاية على ذلك، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ما يدل لولايتهم على مكة، وما عرفت من كان يباشر للإخشيدية ولاية مكة، ولا من باشر ذلك لمؤنس، والله -سبحانه- أعلم. وأما ولاية القاضي أبي جعفر محمد بن الحسن بن عبد العزيز العباسي فذكرها بعض مؤرخي مصر في كتاب له ذكر فيه مصر وقضاتها2 ووزراءها وأخبار النيل، وغير ذلك، ورتبه على ترتيب السنين وجعل في كل سنة جداول تحتوي على المشار إليهم، فذكر في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة: أن قاضي مصر في هذه السنة كان أبا جعفر محمد بن الحسن بن عبد العزيز العباسي، إلى أن عزل وولي إمارة مكة. وهذا يشعر بأن محمد بن الحسن المذكور باشر ولاية مكة لعلي بن الإخشيد، والله أعلم. ثم ولي مكة في زمن الإخشيدية بالتغلب: جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني، على ما ذكر بن حزم في "الجمهرة"؛ لأنه قال بعد أن نسبه "هكذا: الذي غلب على مكة أيام الإخشيدية وولده إلى اليوم ولاة مكة"3 ... انتهى. ولعل ولاية جعفر هذا لمكة بعد موت كافور الإخشيدي قبل أخذ العبيديين لمصر من الإخشيدية؛ فإن دولتهم لم تتلاش إلا بعد موت كافور، وكان موت كافور في جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وقيل: في سنة سبع وخمسين، فتكون ولاية جعفر في إحدى هاتين السنتين، أو في سنة ثمان وخمسين، فإن فيها: كان انقضاء دولة الإخشيدية على يد القائد "جوهر" مولى "المعز" العبيدي صاحب المغرب، ولا تخرج ولاية جعفر على أن تكون في هذه السنة، أو في إحدى السنتين قبلها، على تقدير موت كافور في سنة ست وخمسين، لقول ابن حزم: إن جعفرا غلب على مكة أيام الإخشدية،

_ 1 إتحاف الورى 2/ 400. 2 يقصد بذلك كتاب "الولاة والقضاة" للمؤرخ المصري المشهور محمد بن يوسف الكندي "283 - 305هـ". 3 جمهرة أنساب العرب ص: 47.

وتصدق على ما بعد موت كافور، وحصول مصر للمغاربة في سنة ثمان وخمسين إنها: أيام الإخشيدية، ويبعد أن يلي جعفر مكة، في أيام كافور لعظم أمره، وقد رأيت في بعض التواريخ ما يدل على أنه كان يدعى له على المنابر بمكة، والله أعلم. وذكر شيخنا ابن خلدون1 في نسب جعفر هذا ما ذكره ابن حزم في نسبه، وحكى في نسبه وجها آخر، وهو أنه من ولد "محمد" القائم بالمدينة أيام المأمون بن سليمان بن داود بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وذكر نسب جعفر إلى محمد بن سليمان، فقال: جعفر بن أبي هاشم الحسن بن محمد بن سليمان، وذكر أن محمد بن سليمان من ولد محمد بن سليمان القائم بالمدينة أيام المأمون، وكلامه يقضي ترجيح هذه المقالة في نسب جعفر، وفي ذلك نظر، والله أعلم. وذكر أن جعفر هذا: دعا للمعز العبيدي لما استولى له خادمه جوهر على مصر. ثم ولي مكة بعد جعفر هذا: ابنه عيسى، على ما ذكر شيخنا ابن خلدون. وذكر أن في أيامه حصر جيش العزيز بن المعز العبيدي مكة، وضيقوا على أهلها كثيرا لمالم يخطبوا للعزيز بعد موت أبيه، ودامت ولايته على مكة، إلى سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، على ما ذكر ابن خلدون؛ وذكر ابن حزم في "الجمهرة"2 ما يفهم أنه ولي مكمة في الجملة. ثم ولي مكة بعده: أخوه أبو الفتوح الحسن بن جعفر الحسني، على ما ذكر شيخنا ابن خلدون، وذكر أنه ملك المدينة وأزال عنها إمرة بني المهنا الحسيني في سنة تسعين وثلاثمائة، بأمر الحاكم العبيدي: وولاية أبي الفتوح لمكة مشهورة؛ وإنما عزوناها لابن خلدون؛ لإفادته تاريخ ابتداء دولته لها بها بعد أخيه عيسى، ولم أر ذلك لغيره3 وكذا ما ذكره في ملكه للمدينة4، والله أعلم. ودامت ولاية أبي الفتوح على مكة -فيما علمته- إلى أن مات في سنة ثلاثين وأربعمائة؛ إلا أن الحاكم العبيدي ولي ابن عم أبي الفتوح في المدة التي خرج فيها أبو الفتوح عن طاعة الحاكم، ثم أعاد أبو الفتوح إلى إمرة مكة لما رجع إلى طاعته. وكان سبب عصيانه أن الوزير "أبا القاسم بن المغرب" لما قتل الحاكم أباه، هرب من الحاكم واستجار ببعض آل الجراح؛ فبعث الحاكم إليهم من حاربهم، فكان الظفر لآل الجراح، فعند ذلك حسن لهم الوزير مبايعة أبي الفتوح بالخلافة، فمالوا إلى ذلك، فقصد

_ 1 العبر وديوان المبتدأ والخبر - ابن خلدون 3/ 244. 2 جمهرة أنساب العرب ص: 47. 3 راجع الجمهرة ص: 47. 4 إتحاف الورى 2/ 423، العقد الثمين 4/ 69.

أبو القاسم أبا الفتوح، وحسن له طلب الخلافة؛ فاعتذر له أبو الفتوح بقلة ذات يده، فحسن أبو القاسم لأبي الفتوح أخذ ما في الكعبة المعظمة من المال؛ فأخذ أبو الفتوح ذلك مع مال عظيم لبعض التجار، مات بجدة، وخطب لنفسه، وبايعه بالخلافة شيوخ الحسينيين وغيرهم بالحرمين، وتلقب بالراشد، وخرج من مكة إلى الرملة قاصدا آل الجراح في جماعة من بني عمه، وألف عبد أسود -على ما قيل، ومعه سيفه، زعم أنه ذو الفقار، وقضيب زعم أنه قضيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما قرب من الرملة تلقاه العرب وقبلوا له الأرض، وسلموا إليه بالخلافة، ونزل الرملة، ونادى بالعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانزعج الحاكم لذلك، وما وسعه إلا الخضوع لآل الجراح، فاستمال حسان بن مفرج من آل الجراح، وبذل له ولإخوته أموال جزيلة جدا، فتخلوا عن أبي الفتوح، فعرف أبو الفتوح ذلك، فاستجار بمفرج -والد حسان- من الحاكم، فكتب "مفرج" إلى الحاكم فرده إلى مكة، وكان الحاكم قد ولي الحرمين لابن عم أبي الفتوح، وأنفذ له ولشيوخ بني حسن أموالا، وكان عصيان أبي الفتوح في سنة إحدى وأربعمائة1، على ما ذكر صاحب "المرآة" وغيره. ورأيت في تاريخ بعض شيوخنا أن ذلك في سنة اثنتين وأربعمائة، ورأيت في تاريخ النويري ما يشهد لذلك، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- قريبا؛ وإنما نبهنا على ذلك؛ لأن الذهبي ذكر في "تاريخ الإسلام"2 أن ذلك في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وذلك وهم بلا ريب؛ لأن الحاكم لم يل الخلافة إلا في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، كما ذكر الذهبي وغيره. ووجدت في بعض التواريخ أن ابن عم أبي الفتوح الذي ولاه الحاكم الحرمين يقال له: أبو الطيب، ولعله والله أعلم: أبو الطيب بن عبد الرحمن بن قاسم بن أبي الفاتك بن داود بن سليمان بن عبيد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني؛ هكذا رأيت أبا الطيب هذا منسوبا في حجر بالمعلاة، مكتوب فيه أنه قبر يحيى ابن الأمير المؤيد ابن الأمير قاسم بن غانم بن حمزة بن وهاس بن أبي الطيب، وساق بقية النسب كما سبق. وذكر ابن حزم في "الجمهرة" أبا الطيب هذا، وساق نسبه كما ذكرناه؛ إلا أنه أسقط في النسخة التي رأيتها من "الجمهرة" قاسما بين عبد الرحمن وأبي الفاتك، وسمي أبا الفاتك عبد الله، وذكر فيها أن لعبد الرحمن هذا اثنين وعشرين ذكرا، فذكرهم، وذكر أبا الطيب فيهم، ثم قال: سكنوا كلهم أذنه3، حاشا نعمة، وعبد الحميد،

_ 1 اتعاظ الحناف 2/ 87. 2 حوادث سنة 381 هـ ص 300. 3 أذنة: جبال شمالي شرقي الحجاز.

وعبد الحكيم؛ فإنهم سكنوا أمج1 بقرب مكة2 ... انتهى. ولعل سكناهم أذنه للخوف من أبي الفتوح، بسبب تأمر أبي الطيب بعده، وأستبعد -والله أعلم- أن يكون الذي ولاه الحاكم عوض أبي الفتوح: أبا الطيب بن عبد الرحمن، لكون ابن حزم لم يذكر لأبي الطيب بن عبد الرحمن ولايته، والله أعلم. ورأيت في تاريخ النويري ما يقتضي أن أبا الفتوح لما عصى على الحاكم خرج عليه بمكة إخوة؛ لأنه حكى أن أبا الفتوح لما بلغه استمالة الحاكم لآل الجراح، قال لهم: إن أخي قد خرج بمكة، وأخاف أن يستأصل ملكي بها، فأعادوه إلى مكة في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة ... انتهى ... وهذا هو الذي ذكرنا أنه يشهد لمن قال: إن تاريخ عصيان أبي الفتوح سنة اثنين، والله أعلم. وولي مكة بعد أبي الفتوح ابنه شكر بن أبي الفتوح، ودامت ولايته فيما علمت إلى أن مات سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وذكر شيخنا ابن خلدون أنه حارب أهل المدينة وملكها في بعض حروبه، وجمع بين الحرمين. قال: وذكر البيهقي وغيره: أنه ملك الحجاز ثلاثا وعشرين سنة ... انتهى. وذكر ابن حزم في "الجمهرة" ما يفهم في الجملة ولاية أبي الفتوح، وابنه شكر مكة، وذكر ما يقتضي أن عقبهم انقرض، وأن مكة وليها بعد شكر عبد كان له؛ لأنه قال: وقد انقرض عقب جعفر المذكور؛ لأن أبا الفتوح لم يكن له ولد إلا شكر، ومات "شكر" ولم يولد له قط، وصار أمر مكة إلى عبد كان له3 ... انتهى. وذكر صاحب "المرآة" عن محمد بن هلال الصابي ما يقتضي أن لشكر بنتا، وسيأتي ذلك قريبا، وهو يخالف ما ذكره ابن حزم، والله أعلم. وولي مكة بعد "شكر" بنو أبي الطيب الحسنيون، ثم علي بن محمد الصليحي صاحب اليمن، ثم أبو هاشم محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسبن بن علي بن أبي طالب الحسني؛ لأن صاحب "المرآة" قال في أخبار سنة خمس وخمسين وأربعمائة: وفيها دخل الصليحي إلى مكة، واستعمل الجميل مع أهلها، وأظهر العدل والإحسان والأمن، وطابت قلوب الناس، ورخصت الأسعار، وكثرت له الأدعية.

_ 1 أمج: بلد من أعراض المدينة "مراصد الاطلاع 1/ 115". 2 جمهرة أنساب العرب ص: 47. 3 الجمهرة ص47، إتحاف الورى 2/ 467، درر الفرائد "ص: 255".

ثم قال: وكسا البيت ثيابا بيضا، ورد بني شيبة عن قبيح أفاعلهم، ورد إلى البيت من الحلي ما كان بنو أبي الطيب الحسنيون أخذوه لما ملكوا بعد "شكر". وكانوا قد غيروا في البيت الميزاب. ثم قال: بعد أن نقل عن محمد بن هلال الصابي بعض ما ذكره من دخول الصليحي إلى مكة، وما فعله من الجميل فيها: وأقام إلى يوم عاشوراء وراسله الحسنيون، وكانوا قد أنفذوا من مكة: أخرج من بلدنا ورتب منا من تختاره، فرتب محمد بن أبي هاشم في الإمارة، ورجع إلى اليمن1. ومحمد بن أبي هاشم صهر "شكر" على ابنته، وأمره على الجماعة وأصلح، بين العشائر، واستخدم له العساكر، وأعطاه مالا، وخمسين فرسا وسلاحا. ثم قال: وفي رواية: أنه أقام بمكة إلى ربيع الأول؛ فوقع في أصحابه الوباء، فمات منهم سبعمائة رجل. ثم عاد إلى اليمن؛ لأن العلويين جمعوا عليه، ولم يبق معه إلا نفر يسير، فسار إلى اليمن، وأقام محمد بن أبي هاشم بمكة نائبا عنه؛ فقصده الحسنيون بنو سليمان مع حمزة بن أبي وهاس؛ فلم يكن له بهم طاقة بحرهم وخرج من مكة فتبعو، فرجع فضرب واحدا منهم ضربة فقطع ذراعه وفرسه وجسده، ووصل إلى الأرض، فدهشوا ورجعوا عنه، وكان تحته فرس تسمى دنانير لا تكل ولا تمل، وليس له في الدنيا شبيه. ومضى إلى وادي الينبع، وقطع الطريق عن مكة والقافلة، ونهب بنو سليمان مكة، ومنع الصليحي الحج من اليمن، فغلت الأسعار وزادت البلية ... انتهى2. ولعل بني أبي الطيب -المشار إليه في هذا الخبر- من أولاد الطيب الذي ذكرنا نسبه، ولعله حمزة بن أبي وهاس -المذكور في هذا الخبر أيضا -حفيد أبي الطيب المشار إليه؛ لأن ذلك يوافق ما في الحجر الذي رأيته بالمعلاة، والله أعلم. وهذا الذي ذكره صاحب "المرآة" يتضمن ولاية ابن أبي الطيب لمكة بعد "شكر"، ثم ولاية "الصليحي" لها، ثم ولاية ابن أبي وهاس. وذكر شيخنا ابن خلدون ما يقتضي أن ابن أبي هاشم ولي مكة في سنة أربع وخمسين، بعد أن قاتل السليمانيين قوم شكر وغلبهم ونفاهم عن الحجاز3، والله أعلم بذلك. وعاد إلى أبي هاشم بعد خروجه من مكة إلى إمرتها، ودامت ولايته عليها فيما أحسب إلى أن مات في سنة سبع وثمانين وأربعمائة4؛ إلا أنه خرج منها هاربا من

_ 1 اتعاظ الحنفا 2/ 268، 269. 2 إتحاف الورى 2/ 468، العقد الثمين 6/ 238، النجوم الزاهرة 5/ 72، البداية والنهاية 12/ 89. 3 العبر 4/ 103. 4 إتحاف الورى 2/ 487، العقد الثمين 1/ 439.

التركمان الذين استولوا عليها في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، كما ذكر ابن الأثير1 وغيره. ورأيت في تاريخ ابن الأثير أن هؤلاء التركمان طلبوا من ابن أبي هاشم أموال الكعبة التي أخذها، وأنهم نهبوا مكة، وكانت فتنة عظيمة2 ... انتهى بالمعنى. وهو أول من أعاد الخطبة العباسية بمكة، بعد قطعها من الحجاز نحو مائة سنة، ونال بسبب ذلك مالا عظيما من السلطان "ألب أرسلان" السلجوقي؛ فإنه خطب له بمكة بعد القائم الخليفة العباسي، وصار بعد ذلك يخطب حينا للمقتدي عبد الله بن محمد الذخيرة ابن القائم عبد الله العباسي، وحينا للمستنصر العبيدي صاحب مصر، ويقدم في ذلك من تكون صلته أعظم، ولعل ذلك من سبب إرسال التركمان إليه. وذكر شيخنا ابن خلدون أن مدة إمرته على مكة ثلاثون سنة، وأنه ملك المدينة، والله أعلم بذلك. وقد بالغ ابن الأثير في ذم ابن أبي هاشم هذا؛ لأنه قال -لما ذكر وفاته: ولم يكن له ما يمدح به ... انتهى. ولعل ذلك لنهبه الحاج في سنة ست وثمانين، وقتله منهم خلقا كثيرا، على ما ذكر ابن الأثير، ولأخذه لحلي الكعبة في سنة اثنتين وستين3 والله أعلم. وولي مكة بعده: ابنه قاسم بن محمد مدة يسيرة. ثم وليها بعده، أصبهبذ بن سرتكين4؛ لأنه في هذه السنة استولى على مكة عنوة. وهرب منها قاسم المذكور، وأقام به أصبهبذ إلى شوال سنة سبع وثمانين، ثم إن قاسما جمع عسكرا، وكسر أصبهبذ بعسفان؛ فانهزم أصبهبذ ومضى إلى الشام، ودخل قاسم مكة5، ودامت ولايته عليها فيما علمت حتى مات سنة ثمان عشرة وخمسمائة، هكذا ذكر وفاته ابن الأثير وغيره. ووجدت بخطي فيما نقلته من "تاريخ الإسلام" للذهبي أنه توفي سنة ثمان عشرة، ووجدت ذلك بخطي أيضا فيما نقلته من تاريخ شيخنا ابن خلدون6. وقال شيخنا ابن خلدون: في ترجمته: واستمرت إمرته ثلاثين سنة على الاضطراب ... انتهى.

_ 1 الكامل لابن الأثير 10/ 200، إتحاف الورى 21/ 485، العقد الثمين 1/ 442. 2 الكامل لابن الأثير 10/ 225. 3 الكامل لابن الأثير 10/ 239، دول الإسلام 2/ 15، إتحاف الورى 2/ 486، النجوم الزاهرة 5/ 138. 4 هكذا في النجوم الزاهرة 2/ 487. 5 إتحاف الورى 2/ 487، الكامل لابن الأثير 10/ 329، العقد الثمين 1/ 439. 6 ذكر ابن الأثير 10/ 617، وفاته في سنة "517هـ" وقيل: فيها أو التي بعدها، إتحاف الورى 2/ 498.

وولي مكة بعده ابنه "فليته بن قاسم"؛ هكذا سماه ابن الأثير وغيره، وسماه الذهبي في "تاريخ الإسلام" أبوفليتة، في موضعين من تاريخه، ودامت حتى مات في سنة سبع وعشرين وخمسمائة1. وولي مكة بعده هاشم بن فليتة، ودامت ولايته حتى مات في سنة تسع وأربعين وخمسمائة؛ لأن ابن خلكان ذكر أن الفقيه "عمارة" الشاعر اليمني حج في هذه السنة، فسيره قاسم بن هاشم بن فليتة صاحب مكة رسولا إلى الديار المصرية، فدخلها في شهر رضمان سنة خمسين2 ... انتهى. وهذا يقتضي أن هاشما توفي في هذه السنة؛ لأن قاسما ابنه إنما ولي بعده، فوجدت بخط بعض فقهاء المكيين ما يقتضي أن هاشما مات في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وأن قاسما ولي بعده، ولم يختلف عليه اثنان ... انتهى. ودامت ولاية قاسم بن هاشم بعد أبيه إلى سنة ست وخمسين؛ لأنه فارق مكة متخوفا من أمير الحاج العراقي وقت الموسم من هذه السنة لإساءة السيرة فيها. وولي مكة بعد عمه عيسى بن فليته3. ثم إن قاسما استولى على مكة في شهر رمضان سنة سبع وخمسين، وأقام بها أياما يسيرة، ثم قتل. ووجدت بخط بعض المكيين ما يقتضي أنه قتل سنة ست وخمسين، والله أعلم4. واستقر الأمر لعمه عيسى، ودامت ولاية عيسى فيما علمت على مكة، إلى أن مات سنة سبعين وخمسمائة؛ إلا أن أخاه مالك بن فليته كان نازعه في الإمرة، واستولى على مكة نحو نصف يوم؛ لأنه دخل مكة في يوم عاشوراء من سنة ست وستين وخمسمائة، وجرى بين عسكره وعسكر أخيه فتنة إلى وقت الزوال، ثم خرج مالك واصطلحوا بعد ذلك. فولي مكة بعد عيسى: ابنه داود بن عيسى بن فليته، بعهد من أبيه، ودامت ولايته إلى ليلة النصف من رجب سنة إحدى وسبعين5. فوليها بعده أخوه مكثر بن عيسى، ثم عزل مكثر في موسم هذه السنة، وجرى بينه وبين "طاشتكين" أمير الركب العراقي حرب شديدة في موسم هذه السنة، كان الظفر فيها للأمير "طاشتكين"6.

_ 1 الكامل لابن الأثير 10/ 617، إتحاف الورى 2/ 499. 2 وفيات الأعيان 3/ 432، إتحاف الورى 2/ 515، العقد الثمين 7/ 361. 3 الكامل لابن الأثير 1/ 279، إتحاف الورى 2/ 523، البداية والنهاية 12/ 242. 4 إتحاف الورى 2/ 524، العقد الثمين 7/ 35. 5 الكامل لابن الأثير 11/ 432، إتحاف الورى 2/ 536، العقد الثمين 7/ 275. 6 الكامل لابن الأثير 11/ 432، إتحاف الورى 2/ 536.

ثم ولي مكة الأمير قاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، وكان الخليفة المستضيء قد عقد له عليها الولاية بعد عزله "مكثر"، وأقامت مكة في ولايته ثلاثة أيام، ثم إنه رأى من نفسه العجز عن القيام بإمرة مكة فولي أمير الحج فيها: داود بن عيسى، وشرط عليه أن يسقط جميع المكوس، وما عرفت إلى متى دامت ولاية داود هذا. وكان بعدها يتداول هو وأخوه "مكثر" إمرة مكة، ثم انفرد بها "مكثر" عشر سنين متوالية، آخرها سنة سبع وتسعين، على الخلاف في انقضاء دولة "مكثر"، وهو آخر أمراء مكة المعروفين بالهواشم ولاية. وولي مكة في ولايته، أو في أخيه داود: سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخو السطان صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ وذلك في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة؛ لأنه في هذه السنة قدم مكة، ومنع من الأذان في الحرم بحي على خير العمل، وقتل جماعة من العبيد كانوا يفسدون، وهرب منه أمير مكة إلى قلعته بأبي قبيس، وشرط على العبيد أن لا يؤذوا الحاج، وضرب الدنانير والدراهم فيها اسم أخيه السلطان صلاح الدين1. ثم وليها بعد "مكثر": أبو عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني الينبوعي في سبع وتسعين وخمسمائة، وقيل: إن ولايته لمكة في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وقيل: في نسة تسع وتسعين وخمسمائة2. ودامت ولايته إلى أن مات في سنة سبع عشرة، وقيل: وكانت ولايته ممتدة إلى ينبع3 وإلى "حلي"4، وكان يحارب صاحب المدينة، ويغلب كل منهما الآخر حينا. وولي مكة في زمن ولاية قتادة: "أقباش الناصري" فتى الخليفة الناصر لدين الله العباسي؛ إلا أنه لم يباشر إمرتها؛ وإنما مولاه عقد له على الحرمين وإمرة الحج لعظم مكانته عنده، وقتل بمكة بالمعلاة في السنة التي مات فيها قتادة.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 553، العقد الثمين 5/ 62، الفرائد "ص: 265". 2 إتحاف الورى 2/ 566. 3 ينبع: بلد حجازي على ساحل البحر الأحمر من جهة الشمال الغربي لمكة المكرمة، ويقال لها: ينبع البحر، وقريب منها في الداخل بلد يقال لها: ينبع النخل، وهي قرية غناء ذات عيون ومزارع، وقد كانت عامرة. وقال ياقوت في معجمة "5/ 450": قال الشريف بن مسلمة بن عباس الينبغي: عددت بها مائة وسبعين عينا. 4 حلي: بلد حجازي على ساحل البحر الأحمر من جهة الجنوب الغربي لمكة.

وولي مكة بعد قتادة: ابنه حسن بن قتادة، وقتل أصحاب أقباش الناصري لاتهامهم له بأنه وطأ راجح بن قتادة على أن يوليه مكة عوض حسن، ودامت ولاية حسن إلى سنة تسع عشر، وقيل: إلى سنة عشرين وستمائة1. ووليها بعده الملك المسعود، واسمه يوسف، ويلقب بأقشبيس ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب اليمن؛ لأنه سار إليها وحارب هو وحسن بن قتادة بالمسعى؛ فانهزم حسن وفارق مكة فيمن معه، ونهبها عسكر الملك المسعود إلى العصر، ودامت ولايته عليها إلى أن مات في سنة ست وعشرين وستمائة. ووليها نيابة عن الملك المسعود نور الدين عمر بن علي بن رسول الذي ولي السلطنة بعده ببلاد اليمن، وقصده حسن بن قتادة بجيش جاء به من ينبع؛ فخرج إليه نور الدين، وانكسر حسن. وولي مكة للملك المسعود الأمير حسام الدين ياقوت بن عبد الله الملكي المسعودي؛ لأني وجدت مكتوبا ببيع دار بمكة بأمر ياقوت المذكور، وترجم فيه بأمير الحاج والحرمين ومتولي الحرب بمكة ومدبر أحوال الجند بها والرعية، بالتولية الصحيحة الملكية المسعودية المتصلة بالأوامر الملكية الكاملية، وتاريخ المبيع ثالث جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وستمائة، فاستفدنا من هذا ولاية ياقوت لمكة في هذا التاريخ2. وولي مكة بعد الملك المسعود والده الملك الكامل، ودامت ولايته إلى شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين. ثم وليها نائب ابنه المسعود، ونائبه أيضا على اليمن: نور الدين بن عمر بن علي ابن رسول بعد أن بويع بالسلطنة في بلاد اليمن؛ لأنه بعث إلى مكة جيشا معهم راجح بن قتادة الحسني، فأخرجه من مكة متوليها للملك الكامل طغتكين، وهرب إلى ينبع، وعرف الملك الكامل بذلك، فجهز إليه جيشا كثيفا، مقدمهم الأمير فخر الدين ابن الشيخ علي -على ما قيل، ووصل طغتكين مع الجيش إلى مكة، فأخرجوا منها راجحا ومن معه من أهل اليمن، واستولى عليها طغتكين، وقيل: على الدرب كثيرا من أهل مكة؛ لخذلانهم له في النوبة الأولى، وكان استيلاؤه على مكة في رمضان من هذه السنة. وذكر ابن محفوظ ما يوهم أن أمير مكة من قبل الكامل الذي أخرجه عسكر صاحب اليمن، وأخرجهم هو منها في السنة المذكورة غير طغتكين؛ لأنه قال: وفي سنة تسع وعشرين وستمائة جهز الملك المنصور في أولها جيشا إلى مكة "وراجح" معه،

_ 1 إتحاف الورى 2/ 32، الذيل على الروضتين "ص: 123"، النجوم الزاهرة 6/ 251. 2 إتحاف الورى 3/ 44، العقد الثمين 7/ 425.

فأخذها، وكان فيها أمير الملك الكامل يسمى شجاع الدين الدغكيني1؛ فخرج هاربا إلى نخلة2، وتوجه منها إلى ينبع، وكان الملك الكامل توجه إليه بجيش، ثم جاء إلى مكة في رمضان؛ فأخذها من نواب الملك المنصور، وقتل من أهل مكة ناسا كثيرا على الدرب، وكانت الكسرة على من بمكة ... انتهى. وهذا الذي ذكره ابن محفوظ في تسمية أمير مكة الكامل في هذا التاريخ وهم لتفرده به فيما علمت، والقصة واحدة، والصواب أنه الأمير طغتكين، فقد سماه طغتكين غير واحد، والله أعلم. وقيل: إن فخر الدين ابن الشيخ كان على مكة لما وصلها عسكر صاحب اليمن، في سنة تسع وعشرين، ثم وليها عسكر صاحب اليمن مع راجح بن قتادة بغير قتال في صفر سنة ثلاثين، ثم وليها في آخر هذه السنة عسكر الملك الكامل، وكان المقدم على عسكر الملك الكامل أميرا يقال له: الزاهد، وترك في مكة أميرا يقال له: ابن مجلي. ثم وليها في سنة إحدى وثلاثين عسكر الملك المنصور صاحب اليمن، مع راجح بن قتادة. ثم وليها عسكر الملك الكامل، وكان عسكرا كبيرا في ألف فارس، وقيل: سبعمائة، وقيل: خمسمائة فارس وخمسة من الأمراء، مقدمهم: الأمير جفريل، ودامت ولايته عليها للملك الكامل إلى سنة خمس وثلاثين. ثم وليها الملك المنصور في هذه السنة، وكان سار إليها بنفسه، ودخلها بعد أن فارقها جفريل ومن معه. وكان دخول المنصور إلى مكة في رجب، وكان معه ألف فارس على ما قيل، ودامت ولايته عليها إلى سنة سبع وثلاثين، وقرر فيها رتبة مائة وخمسين فارسا، وقدم عليهم: ابن الوليدي وابن التغري. ثم وليها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل صاحب مصر؛ لأنه جهز إليها ألف فارس مع الشريف شيحة صاحب المدينة، واستولوا على مكة بغير قتال في سنة سبع وثلاثين3. ثم وليها عسكر الملك المنصور، بعد أن هرب منها شيحة ومن معه، لما سمعوا بقدوم عسكر صاحب اليمن. ثم وليها عسكر الملك الصالح في سنة ثمان وثلاثين4.

_ 1 في إتحاف الورى 3/ 48: "الطغتكيني". 2 شفاء القلوب "ص: 365". 3 إتحاف الورى 3/ 56، العقد الثمين 6/ 346، غاية الأماني 1/ 242، العقود اللؤلؤية 1/ 64. 4 إتحاف الورى 3/ 57، العقود اللؤلؤية 1/ 69.

وممن وليها للملك الصالح: الأمير شهاب الدين أحمد التركماني. ثم وليها المك المنصور في سنة تسع وثلاثين، وسار إليها في هذه السنة بنفسه، ودخلها في رمضان بعد أن فارقها المصريون خوفا منه، ودامت ولايته عليها حتى مات. وأمر على مكة في هذه السنة مملوكة الأمير فخر الدين الشلاح، وابن فيروز، وجعل الشريف أبا سعد بن علي بن قتادة الحسني بالوادي مساعدا لعسكره، وكان قد استدعاه من ينبع وأحسن إليه، واشترى منه قلعة ينبع، وأمره بخرابها حتى لا يبقى قرارا للمصريين، واستمر مملوكة "الشلاح" على نيابة مكة إلى سنة ست وأربعين وستمائة، على ما ذكر بعض مؤرخي اليمن في عصرنا1. ووليها للمنصور في هذه السنة ابن المسيب، ووجدت بخط الميورقي أن ابن المسيب قدم مكة لعزل "الشلاح" في منتصف ربيع الأول سنة خمس وأربعين، وهذا يخالف ما سبق، والله أعلم2. وولي مكة بعد أبي المسيب: أبو سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني بعد قبضه على ابن المسيب في ذي القعدة، وقيل: في شوال سنة سبع وأربعين. ودامت ولايته إلى أن قتل لثلاث خلون من شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقيل: إنه قتل في رمضان منها3. ثم ولي مكة بعده أحد قتلته جماز بن حسن بن قتادة الحسني، ودامت ولايته إلى آخر يوم من ذي الحجة سنة إحدى وخمسين4. ثم وليها بعد جماز: عمه راجح بن قتادة الحسني الذي كان يليها مع عسكر صاحب اليمن، ودامت ولايته عليها إلى شهر ربيع الأول سنة اثنين وخمسين. ثم وليها بعد جماز: عمه راجح بن قتادة الحسني الذي كان يليها مع عسكر صاحب اليمن، ودامت ولايته عليها إلى شهر ربيع الأول سنة اثنين وخمسين. ثم وليها بعده: إدريس بن قتادة، وأبو نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة بعد قتال مات فيه ثلاثة نفر، ودامت ولايتهما عليها إلى الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وستمائة5.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 58، درر الفرائد "ص: 227، السلوك 1/ 2: 312. 2 إتحاف الورى 3/ 67، العقود اللؤلؤية 1/ 77. 3 إتحاف الورى 3/ 68، العقود اللؤلؤية 1/ 78. 4 إتحاف الورى 3/ 74، درر الفرائد "ص: 278". 5 إتحاف الورى 3/ 76، العقود اللؤلؤية 1/ 15.

ثم وليها: المبارز علي بن حسين بن برطاش؛ لأن الملك المظفر ابن الملك المنصور صاحب اليمن جهز بن برطاش إلى مكة في مائتي فارس، وتقاتل مع إدريس وأبي نمي ومن معهما؛ فكان الظفر لابن برطاش، ودامت ولايته عليها إلى يوم السبت لأربع ليال بقين من المحرم سنة ثلاث وخمسين وستمائة1. ثم وليها إدريس، وابن أخيه أبو نمي؛ لأنهم قاتلوا ابن برطاش في هذا التاريخ، وسفكت الدماء بالحجز من المسجد الحرام، وأسر ابن برطاش، ففدا نفسه، وخرج ابن برطاش ومن معه من مكة2. ثم وليها أبو نمي بمفرده في سنة أربع وخمسين، لما راح عمه إدريس إلى أخيه راجح بن قتادة. ثم عاد إدريس لمشاركة أبي نمي في الإمرة؛ لأن راجح بن قتادة جاء مع عمه إدريس، وأصلح بينه وبين أبي نمي على ذلك. ثم ولي مكة أولاد حسن بن قتادة، وأقاموا بها ستة أيام من سنة ست وخمسين، بعد أن لزموا إدريس بن قتادة3. ثم جاء أبو نمي وأخرجهم منها، ولم يقتل منهم أحدا، ودامت ولاية إدريس، وأبي نمي على مكة إلى سنة سبع وستين وستمائة. ثم انفرد فيها أبو نمي بالإمرة قليلا، ثم اصطلح مع إدريس، وعادا للإمرة في السنة المذكورة، ودامت ولايتهما إلى ربيع الأول سنة تسع وستين وستمائة. ثم انفرد بها إدريس أربعين يوما، ثم قتل بعدها في هذه السنة بخليص4. ووليها أبو نمي ودامت ولايته عليها إلى سنة سبعين وستمائة. ثم وليها في صفر منها: جماز بن شيحة صاحب المدينة، وغانم بن إدريس بن حسن بن قتادة صاحب ينبع. ثم وليها أبو نمي بعد أربعين يوما من سنة سبعين وستمائة، وأخرج منها المذكورين5 ودامت ولايته عليها إلى سنة سبع وثمانين وستمائة.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 77، العقد الثمين 6/ 152، غاية المرام 2/ 44. 2 إتحاف الورى 3/ 78، العقد الثمين 7/ 3، غاية المرام 2/ 47. 3 إتحاف الورى 3/ 80، السلوك 1/ 2: 412. 4 خليص: قرية قريبة من مكة في طريق المدينة المنورة، وانظر: إتحاف الورى 3/ 99، العقد الثمين 1/ 460، درر الفرائد "ص: 83". 5 إتحاف الورى 3/ 101، العقد الثمين 1/ 461 و7/ 3.

ثم وليها جماز بن شيحة صاحب المدينة، وأقام بها إلى آخر السنة وذلك مدة يسيرة. ثم وليها أبو نمي، ودامت ولايته عليها إلى قبل وفاته بيومين، وكانت وفاته يوم الأحد رابع صفر سنة إحدى وسبعمائة، وكانت إمرته على مكة خمسين سنة شريكا ومستقلا؛ وإمرته المستقلة تزيد على ثلاثين سنة يسيرا، وذكر صاحب "بهجة الزمن" أن إمرته أزيد من خمسين سنة، وفي ذلك نظر بيناه في ترجمته، ويظهر ذلك مما ذكرناه في تاريخ ابتداء ولايته. وأما إمرة عمه إدريس التي اشترك فيها مع أبي نمي فنحو ثمانية عشرة عاما، وإمرة عمه المستقلة أربعون يوما. وولي مكة في حال ولايتها للسلطان الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر، أمير يقال له: شمس الدين مروان نائب الأمير عز الدين جاندار ولاه الملك الظاهر بسؤال إدريس، وأبي نمي له في ذلك، ليرجع أمرهما إليه، ويكون الحل والعقد على يديه، على ما ذكره مؤلف سيرة الملك الظاهر1؛ وذلك في السنة التي حج فيها الملك الظاهر سنة سبع وستين وستمائة، وخرج مروان هذا من مكة سنة ثمان وستين. وولي مكة بعد أبي نمي ابناه: حميضة ورميثة ابنا أبي نمي في حياته، ودعي لهما على قبة زمزم يوم الجمعة ثاني صفر سنة إحدى وسبعمائة، قبل وفاة أبيهما بيومين، ودامت ولايتهما إلى موسم هذه السنة، ثم قبض عليهما2. وولي عوضهما أخواهما أبو الغيث3 وعطيفة4، وقيل: أبو الغيث، ومحمد بن إدريس بن قتادة الحسني، وكان المتولي لذلك الأمير بيبرس الجاشنكير الذي كان أستاذا للملك الناصر محمد بن قلاوون، وصار سلطانا بعده في آخره سنة ثمان وسبعمائة، بموافقة من حج معه من الأمراء في هذه السنة، تأديبا لحميضة ورميثة على إساءتهما إلى أخويهما: أبي الغيث وعطيفة. ثم عاد حميضة، ورميثة إلى إمرة مكة في سنة ثلاث وسبعمائة، وقيل: في سنة أربع وسبعمائة، بولاية من الملك الناصر صاحب مصر، ودامت ولايتهما إلى موسم سنة ثلاث عشر وسبعمائة، ثم وليها أبو الغيث بن أبي نمي بولاية من الملك الناصر، وجهز

_ 1 الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر "ص: 351 و352". 2 الدرر الكامنة 3/ 188، رقم 11، غاية المرام 2/ 53 و78 إتحاف الورى 3/ 134. 3 الدرر الكامنة 3/ 218، رقم 529، غاية المرام 2/ 113، إتحاف الورى 3/ 137. 4 الدرر الكامنة 3/ 455، رقم 2628، غاية المرام 2/ 113، إتحاف الورى 3/ 137.

له عسكرا مصر والشام، بعد أن عزل حميضة ورميثة لكثرة الشكوى إليه منهما، ولم يصل أبو الغيث العسكر المجهز له إلى مكة إلى بعد أن فارقها "حميضة" و"رميثة" ولم تطل ولاية أبي الغيث على مكة؛ لأنه لسوء تدبيره قصر في حق من جهز معه من العسكر، وضاق بهم؛ فكتب لهم بخطه باستغنائه عنهم، ففارقوه بعد شهرين؛ فلم يملك بعد أن فارقوه إلا جمعة حتى وصل إليه حميضة وحاربه، فغلب حميضة أبا الغيث، ولجأ إلى هذيل بنخلة1 مكسورا، وأرسل حميضة إلى السلطان الملك الناصر ليستعطفه، فلم يرض عنه، وأرسل أبو الغيث يستنصر السلطان فوعده بالنصر، ثم التقى الأخوان في رابع ذي الحجة سنة أربع عشرة، فأسر حميضة أبا الغيث، ثم قتله2، ودامت وليته على مكة إلى شعبان سنة خمس عشرة وسبعمائة. ثم وليها رميثة في هذه السنة3 بولاية من الملك الناصر وجهز معه عسكرا كثيرا، ولم يصلوا مكة إلا بعد أن فارقها حميض؛ فقصده إلى الخلف والخليف، وكان لجأ إليه يستحصن به؛ فلم يظفروا به، وانهزم إلى العراق، وقصد خربندا. ودامت ولاية "رميثة" إلى انقضاء الحج من سنة سبع عشرة، أو أول سنة ثمان عشرة. ثم وليها حميضة بعد رجوعه من العراق، وأخرج منها رميثة إلى نخلة بموافقة أهل مكة له على ذلك، ويقال: إن ذلك بموافقة "رميثة" أيضا، ويقال: إنه قطع خطبة الملك الناصر وخطب لصاحب العراق أبي سعيد خربندا، ولم تطل ولاية حميضة هذه؛ لأن الملك الناصر لما علم بفعله جهز إليه في ربيع الآخر سنة ثمان عشرة جيشا4. وأمرهم ألا يعودوا إلى بحميضة، فلم يظفروا به، ودام مهججا في البرية إلى أن قتل سنة عشرين وسبعمائة5، ولما انقضى الموسم من سنة ثمان عشرة قبض على مقدم العسكر الأمير بهادر الإبراهيمي لاتهامه بالتقصير في القبض على حميضة، وعلى رميثة، لاتهامه بأن ما يفعله أخوه من الشغب بموافقة، وحملهما إلى القاهرة. وولي مكة: عطيفة بن أبي نمي بولاية من ملك الناصر: وجهز معه عسكرا؛ وذلك في المحرم سنة تسع عشرة وسبعمائة6. ولما وصلوا إلى مكة كثر بها الأمن

_ 1 نخلة اليمانية: وهي جنوب مكة، وتمتد إلى الشامية، ونخلة اليمانية مشهورة عند أهل مكة، فيقولون: طريق اليمانية للذاهب إلى الطائف عن طريقها. 2 الدرر الكامنة 2/ 79، إتحاف الورى 3/ 153، درر الفرائد "ص: 294 و295". 3 الدرر الكامنة 2/ 111. 4 إتحاف الورى 3/ 159. 5 الدرر الكامنة 2/ 81، إتحاف الورى 3/ 168. 6 الدرر الكامنة 2/ 456، العقد الثمين 2/ 113، إتحاف الورى 3/ 163.

ودامت ولاية عجلان بمفرده إلى سنة ثمان وأربعين1. ثم وليها معه أخوه ثقبة، ودامت ولايته إلى سنة خمسين وسبعمائة، ثم استقل ثقبة بالإمرة في هذه السنة لما توجه فيها عجلان إلى مصر، ثم استولى عجلان على مكة في خامس شوال من سنة خمسين، ودامت ولايته إلى موسم سنة اثنين وخمسين. ثم وليها "ثقية" مع أخيه عجلان في موسم هذه السنة، بموافقة منهما على ذلك، وكان ثقبة قد وليها بمفرده في هذه السنة فلما وصلا إلى مكة في ذي القعدة من هذه السنة، لم يمكنه عجلان من البلاد؛ فأقام بخليص حتى جاء مع الحاج، وأصلح أمير الحاج بينه وبين أخيه على المشاركة في الإمرة2. ثم استقل "ثقبة" بالإمرة في أثناء سنة ثلاث وخمسين، بعد قبضة على أخيه "عجلان"، واستمر: "ثقبة" إلى أن قبض عليه في موسم سنة أربع وخمسين3. ووليها بعده أخوه عجلان، واستمر "عجلان" منفردا بالإمرة إلى أن اصطلح هو وأخوه "ثقبة" على الاشتراك فيها في تاسع عشر المحرم سنة سبع وخمسين4. ثم وليها عجلان بمفرده في موسم هذه السنة. ثم اشتركا في الإمراء في موسم سنة ثمان وخمسين، ودامت ولايتهما إلى أن عزلا في أثناء سنة ستين وسبعمائة بأخيهما "سند بن رميثة"، وابن عمهما "محم بن عطيفة ابن أبي نمي"، وجهز مع ابن عطيفة من مصر عسكرا فيه أربعة أمراء، مقدم الأمير جركتمر المارداني5 صاحب الحجاب بالقاهرة، وكان وصولهم مع ابن عطيفة إلى مكة في جمادى الآخر سنة ستين وسبعمائة، وكان سند باليمن مع إخوته؛ فوصل إلى مكة ولاءم الأمراء، ودامت ولايته وولايته ابن عطيفة إلى أن رحل الحاج من مكتة في سنة إحدى وستين وسبعمائة. ثم زالت ولاية ابن عطيفة بأثر ذلك، وسبب زوالها أن بعض بني حسن جرح بعض الترك الذين جهزهم الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون للإقامة بمكة، عوض "جركتمر" ومن معه من الأحرار، لتأييد سند وابن عطيفة في إمرة مكة؛ فغضب للتركي الأتراك، وغضب للحسني بنو حسن، وتخلى محمد بن عطيفة عن

_ 1 الدرر الكامنة 2/ 112، غاية المرام 2/ 137. 2 إتحاف الورى 3/ 253، السلوك للمقريزي 2/ 3: 839. 3 إتحاف الورى 3/ 257، درر الفرائد "ص: 260". 4 إتحاف الورى 3/ 269. 5 الدرر الكامنة 1/ 534.

الفريقين، وظن أن أمره بمكة يكون مستقيما، وإن لم يكن العسكر بن مقيما؛ فقدر أن الترك انكسروا، وفي المسجد حصروا، وبما خف من أموالهم رحلوا، فرحل ابن عطيفة في إثرهم لتخوفه في المقام بعدهم، بسبب ما كان بين ذوي عطيفة والقواد والقتل، وهكذا ذكر لي رحيل ابن عطيفة بعد العسكر من يعتمد على خبره من أهل مكة، ووجدت بخط بعض أصحابنا، فيما نقله من خط ابن محفوظ، ما نصه بعد ذكره لهذه الحادثة: وراحوا1 الأمراء، وقعد محمد بن عطيفة، وسند في البلاد ... انتهى، والله أعلم بصحة ذلك. وكان "ثقبة" جاء إلى مكة بإثر هذه الفتنة، واشترك مع أخيه "سند" في هذه الإمراء، إلى أن مات في شوال سنة اثنين وستين وسبعمائة2. وولي مكة في هذه السنة "عجلان"، وكان بمصر معتقلا؛ فأطلقه الأمير يلبغا المعروف بالخاسكي3، لما صار إليه تدبير المملكة، بعد قتل الملك الناصر حسن، وولي معه في الأمراء أخاه ثقبة، بسؤال عجلان، ووصل عجلان إلى مكة وثقبة عليل، ولم يدخل مكة حتى مات ثقبة؛ فولي معه في الإمراء ابنه أحمد بن عجلان4؛ وذلك في شوال سنة اثنتين وستين، وجعل له ربع المتحصل يصرفه في خاصة نفسه، وعلى عجلان كافية العسكر، ثم إن "سندا" استولى على "جده" ونازع في الإمراء، فلم يتم له أمر، واخترمته المنية، ودامت ولاية عجلان وابنه إلى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، ثم انفرد أحمد بن عجلان بالإمرة بسؤال أبيه له في ذلك على شروط شرطها، منها: أن لا يقطع اسمه في الخطبة، والدعاء على زمزم، فوفى له ابنه بذلك. واستمر أحمد منفردا بالإمرة، إلى أن وليها معه ابنه محمد بن أحمد بن عجلان في سنة ثمانين وسبعمائة بسؤال أبيه على ما بلغني؛ إلا أن أباه لم يظهر لولاية محمد أثرا لاستبداده بالإمرة؛ وذلك لصغر سن ابنه، ودامت ولايتهما إلى أن مات أحمد بن عجلان في حادي وعشرين شعبان سنة ثمان وثمانين. ثم استقل محمد بن أحمد بالإمرة، حتى قتل في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، وكان عمه كبيش يدبر له الأمر، ولما قتل هرب، وكان رأيه أن ابن أخيه لا يحضر لخدمة المحمل؛ فلم يسمع منه وحضر فقتل، ولكنه فاز بالشهادة،

_ 1 هذه لغة ضعيفة، والصواب أن يقال: وراح الأمراء. 2 الدرر الكامنة 1/ 531. 3 في ترجمته في الدرر الكامنة 4/ 438 رقم 1218. 4 الدرر الكامنة 1/ 201، غاية المرام 2/ 181.

ثم وليها بعد قتل محمد: عنان بن مغامس بن مريثة بن أبي نمي1، واستولى على جدة أيضا، ثم استولى على جدة كبيش بمن معه من العرب وغيرهم، ونبهت الأموال التي بجدة للحضارم والغلال التي فيها لبعض الدولة بمصر، والتف عليهم لطمع بعض أصحاب عنان، ثم انتقلوا إلى الوادي، وعات العبيد في الطرقات، وعنان مقيم بمكة. واشترك معه في الإمرة بنو عمه: أحمد بن ثقبة2، وعقيل بن مبارك بن رميتة3، ثم أشرك عنان في الأمرة: علي بن مبارك4، بعد مفارقته لكبيش ومن معه وملاءمته لعنان، وكان يدعى لهم معه على زمزم، ورأى أن ذلك تقوية لأمره؛ فكان الأمر بخلاف ذلك، لكثرة ماحصل عليه من الاختلاف، ونمى الخبر إلى السلطان بمصر، فعزل عنانا، وولي عوضة "علي بن عجلان بن رميثة"، ووصل الخبر بولايته في شعبان سنة تسع وثمانين، وتوجه "علي" مع "كبيش" وآل عجلان، ومن جمعوا إلى مكة؛ فلم يمكنهم منها عنان وأصحابه، واقتتلوا في التاسع والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين بأذاخر5. فتقل "كبيش" وغيره ممن معه، ورجع آل عجلان إلى الوادي، ودخل عنان وأصحابه مكة وأقاموا بها إلى أن كان الموسم من سنة تسع وثمانين، ثم فارقوها وقصدوا الزيمة6 من وادي نخلة، ودخل مكة "علي بن عجلان" وجماعته، وكان قد توجه بعد وقعة أذاخر إلى السلطان بمصر، فولاه نصف إمرة مكة، وولي عنانا النصف الآخر، بشرط حضور عنان إلى خدمة المحمل المصري، وبلغ عنان النصف الآخر؛ فلما كاد أن يصل إليه خوف من آل عجلان عنان، ففر وتبعه أصحابه إلى الزيمة، وبعد رحيل الحاج من مكة نزلوا الوادي وشاركوا "علي بن عجلان" في إمرة جدة، ثم سافر عنان إلى مصر في أثناء سنة تسعين، واعتقل بها في السنة التي بعدها واصطلح "علي بن عجلان" والأشراف، واستمر منفردا بالإمرة إلى أن شاركه فيها عنان في أثناء سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، بولاية من الملك الظاهر7 في ابتداء دولته الثانية، ووصل إلى مكة من القاهرة في نصف شعبان من السنة المذكورة، واصطلح مع آل عجلان، وكان معه القواد، ومع "علي" الشرفاء، وكانوا غير متمكنين من القيام بمصالح البلد كما ينبغي؛ لمعارضة بني حسن لهما في ذلك، ودامت ولايتهما8 على هذه الصفة إلى الرابع والعشرين من صفر سنة أربعة وتسعين وسبعمائة.

_ 1 ترجمته في الضوء اللامع 6/ 147، غاية المرام 2/ 200. 2 الضوء اللامع 1/ 266، غاية المرام 2/ 223. 3 الضوء اللامع 5/ 1049، غاية المرام 2/ 224. 4 الضوء اللامع 5/ 149، غاية المرام 2/ 225. 5 أذاخر اسم للجبل الذي بشرقي مكة، وخلف واد أذاخر. 6 الزيمة معروفة في طريق الطائف وبها بساتين ومزارع. 7 هو الظاهر برقوق أول المماليك في مصر. 8 غاية المرام 2/ 227.

ثم انفرد بها علي بن عجلان، وسبب ذلك أن بعض جماعته1 هم بالفتك بعنان في السمعي؛ فلم يظفروا به لفراره منهم، ولم يدخل مكة إلا أن استدعى هو، وعلي بن عجلان للحضور إلى السلطان بمصر، ودخلها ليتجهز منها بعد أن أخليت له من العبيد، وأقام بها مدة قصيرة، ثم خرج فتوجه إلى مصر، ولحقه علي بن عجلان، وترك بمكة أخاه محمد بن عجلان مع العبيد، وتخلف عنان بمصر، وجاء "علي" إلى مكة في موسم سنة أربع وتسعين منفردا بولاية مكة، ودامت ولايته عليها إلى أن استشهد في تاسع شوال سنة سبع وتسعين. وكان في غالب ولايته مغلوبا مع الأشراف، وسبب ذلك أنه بعد شهر من وصوله من مصر قبض على جماعة من أعيان الأشراف والقواد، ثم خودع فيهم؛ فأطلقهم، وصاروا يشوشون عليه، ويكلفون ما لا تصل قدرته إليه، وأفضى الحال من تشويشهم عليه إلى أن قل الزمان بمكة، "وجدة"، فقصد التجار "ينبع"، ولحق أهل مكة من ذلك شدة. ولما قتل بأمر مكة أخوه "محمد بن عجلان" مع العبيد، إلى أن وصل أخوه السيد الشريف حسن بن عجلان2 من الديار المصرية، بولاية مكة عوض أخيه، وكان قدم مصر في سنة سبع وتسعين مغاضبا لأخيه، فاعتقله السلطان، ثم رضي عنه وولاه مكة بعد قتل أخيه، ودخل مكة في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين، وضبط أحوال البلاد وحسم مواد الفساد، وأخذ بثأر أخيه من الأشراف في حرب كانت بينه وبينهم، بمكان من وادي مر، يقال له الزبادة، في يوم الثلاثاء خامس عشر من شوال من السنة المذكورة، وكان المقتولون من الأشراف وجماعتهم نحو أربعين نفرا، ولم يقتل من عسكر السيد حسن إلا واحدًا أو اثنان. واستمر مفردا بالولاية إلى أن اشترك معه فيها ابنه السيد بركات3؛ وذلك في سنة تسع وثمانمائة، ووصل توقيعه بذلك في موسم هذه السنة، وهو مؤرخ بشعبان منها. ثم سعي لابنه السيد شهاب الدين أحمد بن حسن4 في نصف الإمرة التي كانت معه، فأجيب إلى سؤاله، وولي نصف الإمرة شريكا لأخيه، وولي أبوهما نيابة السلطنة لجميع بلاد الحجاز؛ وذلك في ربيع الأول سنة إحدى عشر وثمانمائة، وجرى توقيعهم بذلك في أوائل النصف الثاني من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، وصار يدعى له

_ 1 غاية المرام 2/ 227. 2 الضوء اللامع 3/ 103- 105 رقم 417، غاية المرام 2/ 246. 3 الضوء اللامع 3/ 13، 14 رقم 50، غاية المرام 2/ 392. 4 الضوء اللامع 1/ 274، غاية المرام 2/ 467.

ولولديه في الخطبة بمكة، وعلى قبة زمزم، ويدعى للسيد حسن بمفرده في الخطبة بالمدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وسبب ذلك: أنه كان ولي المدينة عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة الحسني1، عوض أخيه ثابت بن نعير2؛ فإنه كان ولي إمرتها في هذه السنة، ومات ثابت في صفر من هذه السنة قبل وصوله توقيعه، واسشتمرت الخطبة باسم الشريفة حسن بالمدينة النبوية إلى أن عزل عنها "عجلان" بابن عمهم سليمان بن هبة الله بن جماز بن منصور3، في موسم سنة اثني عشرة وثمانمائة، وكان يقدم في الخطبة على عجلان. وفي هذه السنة أيضا عزل الشريف حسن وابناه عن ولايتهم، ولم يظهر لذلك أثر بمكة؛ لأن السلطان الملك الناصر4 فرج ابن الملك الظاهر برقوق أسرّ أمر عزلهم، ثم رضي عليهم بعد توجه الحجاج من القاهرة في هذه السنة؛ فأعادهم إلى ولايتهم، وبعث إليهم بتقليد وخلع بصحبة خادمه الحاج فيروز الشاقي5، وكتب إلى أمير الحج المصري يأمره بالكف عن محاربتهم؛ فأحمد الله -تعالى- الفتنة بذلك، وبدا من الشريف حسن بعد دخول الحجاج إلى مكة أمور محمودة، من حرصه على الكف عن إذاية الحجيج، ولولا ذلك لعظم عليهم البكاء والضجيج، والله يزيده توفيقا ويسهل له إلى كل خير طريقا. وتاريخ ولايتهم في هذه السنة: الثاني عشر من ذي القعدة الحرام، ووصل الخبر بها في آخر يوم من ذي القعدة، وولي السيد حسن المذكور تدبير الأمور والقيام بمصالح العسكر والبلاد، ودامت ولايته على ذلك إلى أثناء صفر سنة ثمان عشرة وثمانمائة. ثم ولي مكة بعد ذلك: السيد رميثة بن محمد بن عجلان بن رميثة6، وما دخل مكة ولا دعي له في الخطبة ولا على زمزم إلا في العشر الأول من ذي الحجة من السنة المذكورة، وكانت قراءة توقيعه في يوم دخوله إلى مكة، وهو مستهل ذي الحجة من السنة المذكورة، وتاريخه رابعه عشر من صفر؛ وصرح فيه بأنه ولي نيابة السلطنة بالحجاز

_ 1 الضوء اللامع 5/ 145 رقم 497. 2 الضوء اللامع 3/ 50، رقم 194. 3 الضوء اللامع 3/ 270 رقم 1022. 4 وفي عهد فرج وقع الحريق في المسجد الحرام في ليلة السبت لليلتين بقيتا من شوال عام 802هـ، وسببه ظهور نار من رباط رامشت الملاصق لباب الحزورة من أبواب المسجد من الجانب الغربي، ورامشت: هو الشيخ الصوفي الفارسي ابو القاسم إبراهيم بن الحسين، وقفه على الصوفية عام 529هـ، ولما احترق رباط رامشت عام 802هـ أعيد بناؤه وسمي رباط الخاص، وصار ما اختنق من المسجد، وقد أتى هذا الحريق على ثلث المسجد الحرام. ثم قدر الله تعالى عمارته. 5 الضوء اللامع 6/ 175 رقم 595. 6 الضوء اللامع 3/ 230 رقم 868، غاية المرام 2/ 374.

عوضا عن عمه، وإمرة مكة عوضا عن ابن عمه، والله -تعالى- يسدده وإلى الخير يرشده. ثم عزل عن ذلك في ثامن عشرين من رمضان من سنة تسع عشرة وثمانمائة، وولي عمه السيد الشريف حسن بن عجلان1 دون ولديه إمره مكة، ودخلها لابسا خلعة السلطان الملك المؤيد نصرة الله تعالى بالولاية، في بكرة يوم الأربعاء السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، وبإثر طوافه بالبيت قرئ توقيعه، وكان يوما مشهودا، وفي ليلة يوم الأربعاء المذكور فارق مكة السيد رميثة ومن معه بعد حرب شديدة كانت بينهم وبين عسكر السدي حسن بن عجلان بالمعلاة في يوم الثلاثاء خامس عشر من شوال ظهرت فيه عسكر السيد حسن بن عجلان بالمعلاة في يوم الثلاثاء خامس عشر من شوال، ظهرت فيه عسكر السيد حسن علي من عاداهم؛ لأنهم لما أقبلوا من الأبطح ودنوا من باب المعلاة أزالوا من كان على الباب وقربه من أصحاب رميثة بالرمي بالنشاب والأحجاب، وعمد بعضهم إلى باب المعلاة فدهنه وأوقد تحته النار، فاحترق حتى سقط إلى الأرض، وقصد بعضم طرف السور الذي يلي الجبل الشامي مما يلي المقبرة، فدخل منه جماعة من الترك وغيرهم، ورقوا موضعا مرتفعا من الجبل، ورموا منه بالنشاب وبالأحجار من كان داخل الدرب من أصحاب رميثة، فتعبوا لذلك كثيرا، ونقب بعضهم ما يلي الجبل الذي هم فيه من السور نقبا متسعا حتى اتصل بالأرض، ودخل منه جدماعة من الفرسان من عسكر السيد حسن إلى مكة، ولقيهم جماعة من أصحاب رميثة وقاتلوهم حتى أخرجوهم من السور، وقد حصل في الفريقين جراحات، وهي في أصحاب رميثة وقاتلوهم حتى أخرجوهم من السور، وقد حصل في الفريقين جراحات، وهي في أصحاب رميثة أكثر، وقصد بعض أصحاب حسن أصغر من القتال، وكان السيد حسن كارها للقتال رحمة منه لمن مع رميثة من القواد العجزة، ولو أرادوا الدخول إلى مكة بكل عسكره من الموضع الذي دخل منه بعض عسكره لقدر على ذلك، وأمضى الخيرة بترك القتال، وبإثر ذلك وصل إليه جماعة من الفقهاء والصالحين بمكة، ومعهم ربعات شريفة، وسألوه في كف عسكره عن القتال؛ فأجاب إلى ذلك على أن يخرج من عانده من مكة؛ فمضى الفقهاء إليهم وأخبروهم بذلك، فتأخروا عنه إلى جوف مكة بعد أن توثقوا ممن أضار من القتال، ودخل السيد حسن من السور بجميع عسكره، وخيم حول بركتي المعلاة، وأقام هناك حتى أصبح، وأمن المعاندين له خمسة أيام وتوجهوا في أثنائهم إلى جهة اليمن. وفي صغر من سنة عشرين وثمانمائة أتى السيد رميثة خاضعا لعمه واجتمعا بالشرف؛ فأكرم عمه وفادته، وتآلفا على الكرامة، فلله الحمد.

_ 1 الضوء اللامع 3/ 103 - 105 رقم 417.

ثم في أول سنة أربع وعشرين وثمانمائة فوضت إمرة مكة للسيد حسن بن عجلان وابنه السيد زين الدين بركات1، في أول دولة الملك المظفر أحمد ابن الملك المؤيد، وكتب عنه بذلك عهد شريف مؤرخ بمستهل صفر سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وجهز لهما تشريفتين من خزانته الشريفة، ووصل ذلك مع العهد لمكة في ثاني عشر ربيع الأول، وقرئ العهد بالمسجد الحرام بظل زمزم في الحطيم، بحضور القضاة والأعيان في بكرة يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول، وقرئ بعد ذلك كتاب السلطان الملك المظفر، وهو يتضمن الأخبار بوفاة والده وعهد إليه بالسلطنة ومبايعة أهل الحل والعقد له بذلك، بعد وفاة أبيه وجلوسه على تخت المملكة، وغير ذلك من الأمور التي تصنع للملوك، وتفويضه إمرة مكة للسيد حسن بن عجلان وابنه السيد بركات وبحثهما على مصالح الرعية والتجار، وغير ذلك من مصالح المسلمين بمكة، وتاريخه الرابع عشر من صفر، وفيه أن وفاة الملك المؤيد في يوم الاثنين ثاني المحرم، ولبس السيد بركات تشريفته، وطاف عقب ذلك بالكعبة الشريفة والمؤذن يدعو له على حسب العادة فوق زمزم، وخرج من باب الصفا فركب ودار في شوارع مكة، وكان أبوه إذ ذاك غائبا بناحية الواديين من اليمن، ودامت ولاية السيد حسن بن عجلان وابنه السيد بركات إلى أوائل سنة سبع وعشرين وثمانمائة. ثم ولي إمرة مكة السيد علي بن عنان بن مغامس بن رميثة الحسني2 بمفرده، وتوجه إليها من مصر صحبة اتلعسكر المنصور الأشرفي، واستولى على مكة بغير قتال؛ لأن السيد حسن وابنه وجماعتهم فارقوها، ودخل السيد علي بن عنان إلى مكة لابسا خلعه الولاية، ضحوة يوم الخميس سادس جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وطاف بالكعبة المعظمة سبعا، والمؤذن يدعو له على زمزم، وبعد فراغه من صلاة الطواف قرئ توقيعه بالولاية بظل زمزم، وفيه أنه ولي إمرة مكة عوض السيد حسن بن عجلان، وركب بعد ذلك من باب الصفا، ودار في شوارع مكة والخلعة عليه؛ ثم مضى في ثالث يوم إلى جدة لتنجيل3 ما وصل إليهما من الهند وغير ذلك، ورفق بالقادمين، ودعا بالعسكر المنصور إلى مكة في سابع جمادى الآخرة، وضربت باسمه السكة، وابتدأت الخطبة باسمه السكة، وابتدأت الخطبة باسمه في سابع جمادى الأولى. واستمر ابن عنان متوليا إلى أول ذي الحجة سنة ثمان وعشرين، وهي هذا التاريخ وصل السيد حسن بن عجلان إلى مكة المشرفة بأمان من صاحب مصر السلطان الأشرف برسباي، ودخل مكة لابسا خلعة الولاية في يوم الأربعاء ذي الحجة من السنة،

_ 1 الضوء اللامع 3/ 13 و14 رقم 50. 2 الضوء اللامع 5/ 272 و273 رقم 914. 3 التنجيل: إنزال التجارة من السفن إلى البر، وهي كلمة شائعة على ألسنة سكان جدة.

وفوضت إليه إمرة مكة، وخطبت له، وتوجه بعد الحج إلى مصر؛ فنال إكراما كثيرا، وقفرر في إمرة مكة في العشرين من جمادى الأولى سنة تسع وعشرين، وهو عليل، واستمر كذلك حتى وفي في سادس عشر جمادى الآخر من السنة المذكورة بالقاهرة بعد أن تجهز للسفر إلى مكة. ثم إن السلطان استدعى ولده السيد بركات بن حسن بن عجلان إلى مصر؛ فقدمها في ثالث عشرين من رمضان، فوصى إليه إمرة مكة عوضا عن أبيه في سادس وعشرين من رمضان من السنة، واستقر إخوة السيد إبراهيم1 نائبا عنه، وخلع عليهما تشريفتين، وتوجها إلى مكة في عاشر شوال من السنة؛ فوصلوا إليها في أوائل العشر الأوسط من ذي القعدة منها، وقرئ عهد الشريف بركات بالولاية وليس الخلعة. هذا ما علمناه من خبر ولاة مكة في الإسلام، وقد أوعينا في تحصيل ذلك الاجتهاد، وما ذكرناه من ذلك غير واف بكل المراد؛ لأنه خفي علينا جماعة من ولاة مكة، وخصوصًا ولاتها من زمن المعتمد وإلى ابتداء ولاية الأشراف في آخر خلافة المطيع العباسي، وخفي علينا كثير من تاريخ ابتداء ولاية كثير منهم وتاريخ انتهائها، ومع ذلك فهذا الذي ذكرناه من ولاة مكة ليس له في كتاب نظير والذي لم نذكره من الولاة هو اليسير، وسبب الإقلال في ذلك والتقصير ما ذكرناه من أنا لم نر مؤلفا في هذا المعنى نستضيء به، وذلك مع المقدور لعدم العناية بتدوين كل قضية من أحوال الولاة عند وقوعها. وقد شرحنا كثيرا من أحوالهم، وما أجملناه من أخبارهم في كتابنا المسمى "بالعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين"، وفي مختصره المسمى: "عجالة القرى للراغب في تاريخ أم القرى"؛ فمن أراد معرفة ذلك فليراجع أحد الكتابين؛ فإنه يعلم من حالهم أمورا كثيرا، وفي هذين الكتابين فوائد كثيرة مستغرفبة وأخبار مستعذبة. والحمد لله على التوفيق، ونسأله الهداية إلى أحسن طريق.

_ 1 الضوء اللامع 1/ 41.

الباب الثامن والثلاثون

الباب الثامن والثلاثون في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام ... الباب الثامن والثلاثون: في ذكر شيء من الحوادي المتعلقة بمكة في الإسلام: لا شك أن الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا، وخفي علينا كثير من ذلك، لعدم العناية بتدوينه في كل وقت، وقد سبق مما علمناه من ذلك أمور كثيرة في مواضع من هذا الكتاب؛ بعضها فيما يتعلق بسور مكة في الباب الأول من هذا الكتاب، وبعضها فيما يتعلق بأنصاب الحرم؛ وذلك في الباب الثالث من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالكعبة في الباب السابع، والباب الثامن من هذا الكتاب وبعضها في أخبار المقام؛ وذلك في الباب السادس عشر من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالحجر -بسكون الجيم- وذلك في الباب السابع عشر من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالمسجد الحرام؛ وذلك في الباب الثامن عشر، والتاسع عشر من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بزمزم وسقاية العباس؛ وذلك في الباب العشرين من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالأماكن المباركة بمكة وظاهرها؛ وذلك في الباب الحادي والعشرين من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بالأماكن التي لها تعلق بالمناسك؛ وذلك في الباب الثاني والعشرين من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقبة بالمآثر بمكة كالربط والمدارس وغير ذلك، وذلك في الباب الثالث والعشرين من هذا الكتاب، وبعضها في الأخبار المتعلقة بولاة مكة في الإسلام؛ وذلك في الباب السابع والثلاثين من هذا الكتاب، وبعضها يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأخبار المتعلقة بسيول مكة، وما كان فيها من الغلاء والرخص والوباء؛ وذلك في الباب التاسع والثلاثين من هذا الكتاب، وبعضها أيضا يأتي إن شاء الله تعالى في الأخبار المتعلقة بأسواق مكة؛ وذلك في الباب الأربعين من هذا الكتاب. والمقصود ذكره في هذا الباب وهو الباب الثامن والثلاثون: أخبار تتعلق بالحجاج، ولها تعلق بمكة أو باديتها، وحج جماعة من الخلفاء والملوك في حال خلافتهم وملكهم، ومن خطب له من الملوك

وغيرهم في خلافة بني العباس، وما جرى بسبب الخطبة بمكة بين ملوك مصر والعراق، وما أسقط من المكوسات المتعلقة بمكة، وراعينا في ذكر ذلك تاريخ وقوعه، لا مناسبة كل حادثة لما قبلها، مع مراعاتها للاختصار في جمع ما ذكرناه. فمن الأخبار المقصود ذكرها هنا: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حج بالناس سنة اثنتي عشرة من الهجرة1، وهو الذي حج بالناس سنة تسع من الهجرة2. ومنها: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حج بالناس في جميع خلافته إلا السنة الأولى منها، وي سنة ثلاثة عشرة، فحج بالناس فيها عبد الرحمن بن عوف الزهري- رضي الله عنه3 ومنها: أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حج بالناس في جميع خلافته إلا في السنة الأولى منها، وهي سنة أربع وعشرين4؛ فحج بالناس فيها عبد الرحمن بن عوف الزهري -رضي الله عنه- وإلا السنة الأخيرة وهي سنة خمس وثلاثين من الهجرة، حج بالناس فيها عبد الله بن عباس بن عبد المطلب -رضي الله عنهما5. ومنها: أنه في سنة تسع وثلاثين من الهجرة، كاد أن يقع بمكة قتال بين قثم بن العباس رضي الله عنه عامل مكة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين يزيد بن شجرة الرهاوي، الذي بعثه معاوية -رضي الله عنه- لإقامة الحج وأخذ البيعة له بمكة، ونفي عامل علي -رضي الله عنه- عنها، ثم وقع الصلح بينهما، على أن يعتزل كل منهما الصلاة بالناس، ويختار الناس من يصلي بهم ويحج بهم. فاختاروا شيبة بن عثمان الحجبي فصلى بهم وحج بهم6. ومنها: أنه في سنة أربعين من الهجرة وقف الناس بعرفة في اليوم الثامن، وضعوا في اليوم التاسع، على ما ذكر العتيقي في "أمراء الموسم"؛ لأنه قال: وأقام للناس الحج لسنة أربعين المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- بكتاب افتعله على لسان معاوية -رضي

_ 1 تاريخ الطبري 4/ 27، والكامل 2/ 168، والبداية والنهاية 6/ 353، ومروج الذهب 4/ 396، والذهب المسبوك "ص: 12، 13". 2 تاريخ الذهب 4/ 396، والمحبر "ص: 11 - 17". 3 تاريخ الطبري 4/ 82، وفي الكامل لابن الأثير 2/ 188، أن الذي حج بالناس في هذه السنة هو عمر بن الخطاب. 4 الكامل 3/ 33. 5 تاريخ الطبري 5/ 139، الكامل 3/ 73، البداية والنهاية 7/ 187. 6 الكامل 3/ 164، تاريخ الطبري 6/ 79، مروج الذهب 4/ 397.

الله عنه- أنه ولاه الموسم، ثم خشي أن يفطن لذلك؛ فوقف بالناس يوم التروية على أنه يوم عرفة، وضحوا يوم عرفة1 ... انتهى. ونقل الذهبي في "تاريخ الإسلام"، عن الليث بن سعد رضي الله عنه ما يدل لما ذكره العتيقي، وأفاد في ذلك ما لم يفده العتيقي؛ لأنه قال في أخبار سنة أربعين من الهجرة: حج بالناس المغيرة بن شعبة، ودعا لمعاوية رضي الله عنه، وقال الليث بن سعد رضي الله عنه: حج لمعاوية سنة أربعين؛ لأنه كان معتزلا بالطائف؛ فافعل كتابا عام الجماعة، فقدم الحج يوما خشية أن يجيء أمير، فتخلف عنه ابن عمر -رضي الله عنهما، وصار معظم الناس مع ابن عمر -رضي الله عنهما. قال الليث: قال نافع: فلقد رأيتنا ونحن غادون من منى، وقد استقبلونا مفيضين من جمع، فأقمنا بعدهم ليلة2 ... انتهى. وهذا إن صح عن المغيرة رضي الله عنه، فلعله صح عنده رؤية هلال ذي الحجة3 على وفق ما فعل، ولم يصح ذلك عند من خالفه، فتأخروا عنه لذلك، والله أعلم. ومنها أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- حج بالناس سنة أربع وأربعين من الهجرة4، وسنة خمسين5 منها على ما ذكر العتيقي. ومنها: أن عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنهما- حج بالناس تسع حجج ولاء؛ أولها سنة ثلاث وستين6، وآخرها سنة إحدى وسبعين7 على ما ذكر العتيقي، وكان في سنة اثنتين وسبعين محصورا، حصره الحجاج8. ومنها: أنه في سنة ست وستين من الهجرة، وقف بعرفة أربعة ألوية؛ لواء ابن الزبير على الجماعة، ولواء لابن عامر على الخوارج، ولواء محمد ابن الحنفية على الشيعة، ولواء أهل الشام من مضر لبني أمية، وذكر ذلك المسبحي قال: وحج بالناس عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما9.

_ 1 الكامل 3/ 174، مروج الذهب 4/ 398. 2 إتحاف الورى 2/ 31، 32. 3 إتحاف الورى 2/ 32، والكامل 3/ 174، وتاريخ الطبري 6/ 92. 4 تاريخ الطبري 6/ 123، الكامل 3/ 192، البداية والنهاية 8/ 28، الذهب المسبوك "ص: 24". 5 تاريخ الطبري 6/ 134، مروج الذهب 4/ 398، الكامل 3/ 202. 6 إتحاف الورى 2/ 58، العقد الثمين 5/ 353، 354، تاريخ الطبري 7/ 12، الكامل 4/ 52، مروج الذهب 4/ 398، المحبر "ص: 21". 7 تاريخ الطبري 7/ 190، المحبر "ص: 24". 8 تاريخ الطبري 7/ 195، الكامل 4/ 146، العقد الثمين 5/ 146، 147. 9 تاريخ الطبري 7/ 139، الكامل 4/ 109، إتحاف الورى 2/ 81، مروج الذهب 4/ 398.

ومنها: أن عبد الملك بن مروان حج بالناس في سنة خمس وسبعين1، وفي سنة ثمان وسبعين2، على ما ذكر العتيقي. ومنها: أن الوليد بن عبد الملك بن مروان حج بالناس سنة إحدى وتسعين3، وفي سنة خمس وتسعين4 على ما قيل. ومنها: أن سليمان بن عبد الملك بن مروان حج بالناس سنة تسع وتسعين5. ومنها: أن هشام بن عبد الملك بن مروان حج بالناس سنة ست ومائة6. ومنها: أنه في سنة تسع وعشرين ومائة؛ بينما الناس معرفة، ما شعروا إلا وقد طلعت عليهم أعلام وعمائم سود على رؤوس الرماح، ففزع الناس حين رأوهم، وسألوهم عن حالهم، فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان -وهو يومئذ على مكة والمدينة- وطلب منهم الهدنة؛ فقالوا نحن بحجنا أحق وعليه أشح، فصالحهم على أنهم جمعيا آمنون بعضهم من بعض بمنى في منزل السلطان، ونزل أبو حمزة الخارجي مقدم الفريق الآخر بقرن الثعالب7؛ فلما كان النفر الأول نفر فيه عبد الواحد وخلى مكة، فدخلها أبو حمزة8 بغير قتال، وكان من أمره ما سبق في باب الولاة بمكة9.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 130، تاريخ الطبري 7/ 210، الكامل 4/ 155، 156، مرآة الجنان 1/ 156. 2 تاريخ الطبري 7/ 281، المحبر "ص: 25"، دور الفرائد "ص: 202"، إتحاف الورى 2/ 108. 3 تاريخ الطبري 8/ 82، الكامل 4/ 227، المحبر "ص: 26"، الذهب المسبوك "ص: 31"، درر الفرائد "ص: 203". 4 الكامل 4/ 242، وفي تاريخ الطبري 8/ 96، ومروج الذهب 4/ 399: أن الذي حج بالناس في هذه السنة: "البشر بن الوليد بن عبد الملك". 5 الذي حج بالناس في هذا العام هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وينظر عن ذلك في: تاريخ الطبري 8/ 131، ومروج الذهب 4/ 399، والكامل 5/ 18، ودرر الفرائد "ص: 204"، وإتحاف الورى 2/ 134. 6 تاريخ الطبري 8/ 182، مروج الذهب 4/ 400، الكامل 5/ 52، البداية والنهاية 9/ 234، الذهب المسبوك "ص: 35". 7 قرن الثعالب: بلدة على بعد يوم وليلة من مكة، وهي ميقات أهل نجد، ويقال لها قرن المنازل. 8 هو: يحيى بن المختار بن عوف الخارجي الإباضي أحد زعماء الخوارج. 9 تاريخ الطبري 9/ 59، الكامل 5/ 151، العقد الثمين 7/ 153، إتحاف الورى 2/ 159 - 161.

ومنها: أن أبا جعفر المنصور -رضي الله عنه ثاني خلفاء بني العباس- حج بالناس، على ما ذكر العتيقي في سنة أربعين ومائة من الهجرة1، وفي سنة أربع وأربعين2، وفي سنة سبع وأربعين3، وفي سنة اثنتين وخمسين من الهجرة4، وهو الذي حج بالناس سنة ست وثلاثين، قبل أن تقضى إليه الخلافة5، وفيها أفضت إليه، وأراد الحج بالناس في سنة ثمان وخمسين ومائة من الهجرة؛ فحالت المنية بينه وبين ذلك، بعد أن كاد يدخل مكة، وكانت وفاته ببئر ميمون6 ظاهر مكة. ومنها: أن المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور العباسي حج بالناس سنة ستين ومائة7 من الهجرة، وفي سنة أربع وستين ومائة8 من الهجرة، وفي كل حجتيه يأمر بتوسعة المسجد الحرام؛ ففي الأولى جرد الكعبة مما عليها من الكسوة مخافة الثقل عليها، وكساها كسوة جديدة، وأنفق في حجته الأولى في الحرمين أموالا عظيمة، يقال عليها، وكساها كسوة جديدة، وأنفق في حجته الأولى في الحرمين أموالا عظيمة، يقال إنها ثلاثون ألف ألف درهم، وصل بها من العراق، وثلاثمائة ألف دينار وصلت إليه من مصر، ومائتا ألف دينار وصلت إليه من اليمن، ومائة ألف ثوب وخمسون ألف ثوب9. وما ذكرناه من حج المهدي مرتين، سنة ستين وفي سنة أربع وستين؛ ذكره الإمام الأزرقي في تاريخه9، وذكر أنه في كل منهما أمر بالزيادة في المسجد الحرام، ولم يذكر العتيقي إلا حجته الأولى، وذكر أنه في سنة وستين خرج إلى الحج، فرجح في العقبة لعله أصابته10. وهو أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة، وذلك في حجته الأولى. ومنها: أن هارون الرشيد بن المهدي العباسي حج بالناس -على ما ذكر العتيقي- تسع حجج متفرقة وذلك في سنة سبعين ومائة11، وسنة ثلاث وسبعين

_ 1 النجوم الزاهرة 1/ 340، تاريخ الطبري 9/ 173، الكامل 5/ 202، المحبر "ص: 53"، درر الفرائد "ص: 210"، الذهب المسبوك "ص: 37". 2 الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 91 - 95"، سمط النجوم العوالي 3/ 253 - 256. 3 تاريخ الطبري 9/ 275، مروج الذهب 4/ 401، الكامل 5/ 235. 4 الكامل 5/ 245، إتحاف الورى 2/ 1914. 5 تاريخ الطبري 9/ 159، 160، الكامل 5/ 189، درر الفرائد "ص: 109". 6 تاريخ الطبري 9/ 292، الكامل 6/ 8. 7 الكامل 6/ 18، تاريخ الخميس 2/ 33، مروج الذهب 4/ 204. 8 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78 - 80، الكامل 6/ 23، وفي مروج الذهب 4/ 402، والمحبر "ص: 37" أن الذي حج بالناس في هذه السنة هو: "صالح بن منصور". 9 أخبار مكة للأزرقي 2/ 74. 10 الكامل 6/ 23، درر الفرائد "ص: 217". 11 الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 111، 112"، إتحاف الورى 2/ 22.

ومائة1، وسنة أربع وسبعين ومائة2، وسنة خمس وسبعين ومائة3، وسنة سبع وسبعين ومائة4، وسنة تسع وسبعين ومائة5، وسنة إحدى وثمانين ومائة6، وسنة ست وثمانين ومائة7، وسنة ثمان وثمانين ومائة8، وذكر ابن الأثير حج الرشيد بالناس في هذه السنين، وذكر أنه في سنة سبعين قسم الحرمين عطاء كثيرا9، وأنه فيسنة ثلاث وسبعين أحرم بالحج من بغداد10، وأنه في سنة أربع وسبعين قسم في الناس مالا كثيرا11، وأنه في سنة تسع وسبعين مشى من مكة إلى منى إلى عرفات، وشهد المشاعر كلها ماشيا، وأنه اعتمر في رمضان هذه السنة شكرا لله12 تعالى على قتل الوليد بن طريف13، وعاد إلى المدينة؛ فأقام بها إلى وقت الحج، وحج بالناس، وفعل ما سبق14، وأنه في سنة ست وثمانين بلغ عطاؤه في الحرمين ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وجعل في الكعبة العهد الذي عهده بين ولديه الأمين والمأمون، بعد أن عهد عليهما في الكعبة العهد الذي عهده بين ولديه الأمين والمأمون، بعد أن عهد عليهما في الكعبة بالوفاء15 وأنه في سنة ثمان وثمانين قسم أموالا كثيرة، قال: وهي آخر حجة حجها في قول بعضهم، وهو آخر خليفة حج من العراق16. ومنها: أنه في سنة تسع وتسعين ومائة، وقف الناس بعرفة بلا إمام، وصلوا بلا خطبة؛ وسبب ذلك، أن أبا السرايا داعية ابن طباطبا17 بعث حسينا الأفطس للاستيلاء

_ 1 تاريخ الطبري 10/ 51، الكامل 6/ 43. 2 تاريخ الطبري 10/ 53، الكامل 6/ 43، القرى "ص: 58"، مروج الذهب 4/ 403. 3 العقد الثمين 4/ 347، إتحاف الورى 2/ 227. 4 تاريخ الطبري 10/ 62، الكامل 6/ 50، البداية والنهاية 10/ 171، مروج الذهب 4/ 403. 5 تاريخ الطبري 10/ 66، الكامل 6/ 53، الذهب المسبوك "ص: 49". 6 تاريخ الطبري 10/ 69، البداية والنهاية 10/ 177. 7 تاريخ الطبري 10/ 74، أخبار مكة للأزرقي 1/ 233. 8 تاريخ الطبري 10/ 94، الكامل 6/ 68، البداية والنهاية 10/ 194. 9 الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 111". 10 مروج الذهب 4/ 403، القرى "ص: 58"، الكامل 6/ 43. 11 مروج الذهب 4/ 403، القرى "ص: 58". 12 تاريخ الطبري 10/ 66، والكامل 6/ 53، الذهب المسبوك "ص: 49". 13 انظر أخباره في: الكامل 6/ 51، تاريخ الطبري 10/ 62، 65. 14 إتحاف الورى 2/ 230. 15 أخبار مكة للأزرقي 1/ 233. 16 المحبر "ص: 38"، تاريخ الطبري 10/ 95، الكامل 6/ 68، البداية والنهاية 10/ 200، إتحاف الورى 2/ 245. 17 هو أبو السرايا السري بن منصور الشيباني داعية ابن طباطبا العلوي المكي، أحد زعماء الشيعة ودعاتهم، توفي سنة "199هـ".

على مكة، وأقام الموسم بها1؛ فلما آن وقت الحج فارق مكة واليها داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ومن كان معه بها من شيعة بني العباس مع قدرته على القتال والدفع، وافتعل كتابا من المأمون بتولية ابنه محمد بن داود على صلاة الموسم، وقال له: أخرج فصل بالناس بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل الصبح ثم اركب دابتك فانزل طريق عرفة، وخذ على يسارك في شعب عمرو2 حتى تأخذ طريق المشاش حتى تلحقني ببستان ابن عامر؛ ففعل ذلك؛ فلما زالت الشمس يوم عرفة تدافع للصلاة قوم من أهل مكة، وقيل لقاضي مكة: اخطب بالناس وصل بهم، قال: فلمن أدعو وقد هرب هؤلاء وظل هؤلاء على الدخول؟ فقيل له: لا تدع أحد، فلم يفعل، وقدموا وقدموا رجلا فصلى بالناس الصلاتين بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا بعرفة، ثم دفعوا بغير إمام. ولما بلغ الأفطس خلو مكة من بني العباس؛ دخلها قبيل الغروب في نحو عشرة من أصحابه؛ فطافوا وسعو ومضوا إلى عرفة، فوقفوا بها ليلا، وأتوا مزدلفة، فصلى حسين بالناس فيها صلاة الفجر، ودفع إلى منى، وأقام بها أيام الحج، ثم أتى مكة ففعل فيها ما سبق ذكره في باب الولاة من الأفعال القبيحة3. ومنها: أنه في سنة مائتين من الهجرة نهب الحجاج بستان ابن عامر، وسبب ذلك: أن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق أخا علي بن موسى الكاظم، بعد استيلائه على اليمن في هذه السنة، وجه إلى اليمن رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب في جند ليحج بالناس؛ فسار العقيلي حتى أتى بستان ابن عامر، فبلغه أن أبا إسحاق المعتصم قد حج في جماعة من القواد فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان، وقد استعمله الحسن بن سهل على اليمن؛ فعلم العقيلي أنه لا يقوى بهم، فأقام ببستان ابن عامر، فاختار قافلة من الحاج، معهم كسوة الكعبة وطيبها، فأخذوا أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها، وقدم الحجاج مكة عراة منهوبين، فاستشار المعتصم أصحابه، قال الجلودي: أنا أكفيك ذلك، فرده، فانتخب مائة رجل وسار إلى العقيلي، فصبحهم فقاتلهم، فانهزموا، وأسر أكثرهم، وأخذ كسوة الكعبة، وأموال التجار إلا ما كان مع من هرب قبل ذلك، فأخذ الأسرى فضرب كل واحد منهم عشرة أسواط وأطلقهم، فرجعوا إلى اليمن يستطيعون الناس، فهلك أكثرهم في الطريق4 ... انتهى

_ 1 تاريخ الطبري 10/ 229، 230، الكامل 6/ 113، العقد الثمين 4/ 196 - 198. 2 هو أحد شعاب مكة، وهو ما يطلق عليه الملاوي العليا الممتدة إلى جهة منى، والذي يسيل منه شعب الملاوي اليوم. 3 تاريخ الطبري 10/ 229، 230، الكامل 2/ 181، 182، العقد الثمين 4/ 196 - 198. 4 تاريخ الطبري 10/ 233، الكامل 6/ 115.

وبستان ابن عامر1 هو ببطن نخلة كما سبق بيانه2. ومنها: أنه في سنة ثمان وعشرين ومائتين أصحاب الناس في الموقف حر شديد وأضر بهم. ثم أصابهم فيه برد، واشتد البرد عليهم بعد ساعة من ذلك الحر، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة، فقتلت جماعة من الحجاج3 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة إحدى وخمسين ومائتين لم يقف الناس بعرفة لا ليلا ولا نهارا، وقتل فيها خلق كثير، وسبب ذلك: أن إسماعيل بن يوسف العلوي -السابق ذكره في باب الولاة بمكة- بعد ظهوره بها في السنة، وما فعله فيها من الأفعال القبيحة بمكة والمدينة وجدة، ووافى الموقف بعرفة وبها محمد بن إسماعيل بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي، وكان المعتز وجههما إليهما، فقاتلهم إسماعيل، وقتل من الحجاج نحو ألف ومائة، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفلوا بعرفة لا ليلا ولا نهارا. ووقف إسماعيل وأصحابه4 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة اثنتين وستين ومائتين خاف الناس أن يبطل الحج، وسبب ذلك: أنه في هذه السنة وقع بين الجزارين والحناطين بمكة قتال يوم التروية، فخاف الناس أن يبطل الحج، ثم تحاجزوا إلى أن الحج الناس، وقتل منهم تسعة عشر رجلا5. ومنها: أنه في سنة تسع وستين ومائتين، وثب الأعراب على كسوة الكعبة وانتهبوها، فصار بعضهم إلى صاحب الزنج، وأصاب الحجاج فيها شدة شديدة6. ومنها: أنه في سنة تسع وستين ومائتين، كان قتال بين الحجاج المصريين أصحاب أحمد بن طولون، والعراقيين أصحاب أبي أحمد الموفق، وكان الظفر لأصحاب الموفق7. وقد سبق هذه الحادثة في باب الولاة مبسوطة. ومنها: أنه في سنة خمس وتسعين ومائتين كانت واقعة بين عج بن حاج8 وبين الأجناد بمنى، ثاني عشر ذي الحجة، فقتل منهم جماعة؛ لأنهم طالبوا جائزة بيعة المقتدر، وهرب الناس إلى بستان ابن عامر.

_ 1 هو بستان قريب من مزدلفة. 2 الكامل 6/ 115. 3 تاريخ الطبري 1/ 9، إتحاف الورى 2/ 298. 4 تاريخ الطبري 11/ 136، الكامل 7/ 58، البداية والنهاية 11/ 9، مروج الذهب 4/ 406، العقد الثمين 3/ 312. 5 تاريخ الطبري 11/ 243، الكامل 7/ 109، البداية والنهاية 11/ 35. 6 تاريخ الطبري 11/ 258، المنتظم 5/ 56، الكامل 7/ 120. 7 تاريخ الطبري 11/ 320، الكامل 7/ 142، إتحاف الورى 2/ 343. 8 هو أمير الترك.

وأصاب الحجاج في عودهم عطش عظيم، فمات جماعة، وحكي أن أحدهم كان يبول في كفة ثم يشربه1. ومنها: أنه في سنة أربع عشرة وثلاثمائة2، وفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة3، وفي سنة ست عشرة وثلاثمائة4, لم يحج إلى مكة أحد من العراق، على ما ذكر العتيقي في أخبار هذه الثلاث سنين، للخوف من القرمطي. وذكرها ما يقتضي أن الحج في هذه السنين لم يبطل من مكة، وذكر أنهم -يعني أهل مكة- حجوا في سنة أربع عشرة، على قلة من الناس خوف5 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة حج الناس من بغداد مع منصور الديلمي، وسلموا في طريق مكة من القرمطي، فوافدهم القرمطي مكة، وأسرف في قتلهم وأسرهم، وفعل في الكعبة ومكة أفعالا قبيحة، وقد ذكر أفعاله في هذه السنة جماعة من أهل الأخبار، منهم: أبو بكر عمر بن علي بن القاسم الذهبي في تاريخه، فيما حكاه عنه أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك"، وأفاد فيما ذكره ما لم يفده غيره، فاقتضى ذلك ذكرنا بنصه؛ وذلك أنه قال: إن أبا طاهر القرمطي عدو الله وافي مكة يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، في سبعمائة رجل من أصحابه، فقتل في المسجد الحرام نحوألف وسبعمائة من الرجال والنساء، وهم متعلقون بأستار الكعبة وردهم بهم زمزم، وفرش بهم المسجد وما يليه، وقتل في سكك مكة وشعابها من أهل خراسان والمغاربة وغيرهم زهاء ثلاثين ألفا، وسبى من النساء والصبيان مثل ذلك، وأقام بمكة ستة أيام ولم يقف أحد تلك السنة بعرفة، ولا وافى نسكا، وهي التي يقال لها سنة الحمامي. وأخذ حلي الكعبة، وهتك أستارها، وكان سدنة المسجد قد تقدموا إلى حمل المقام وتغييبه في بعض شعاب مكة، فتألم لفقده؛ إذ كان طلبه، فعاد عند ذلك عند الحجر الأسود فقلعه، وذكر من قلعه وتاريخ قلعه ما نقلناه عنه في أخبار الحجر الأسود. ثم قال: ولم يأخذ الميزاب، وكان من الذهب الأبريز، وسبب ذلك: أنه لم يقدر على قلعة أحد من القرامطة الذين على ظهر الكعبة، ورام خلعه شخص منهم؛ فأصيب من أبي قبيس بسهم في عجزة، فسقط فمات.

_ 1 تاريخ الطبري 1/ 406، الكامل 8/ 20، البداية والنهاية 11/ 108، المنتظم 6/ 82. 2 البداية والنهاية 11/ 154، النجوم الزاهرة 3/ 215، المنتظم 6/ 202. 3 إتحاف الورى 2/ 373، المنتظم 6/ 210. 4 إتحاف الورى 2/ 374، درر الفرائد "ص: 224". 5 مروج الذهب 4/ 407، درر الفرائد "ص: 234".

قال: ورمى الله القرمطي في جسده، وطال عذابه، حتى تقطعت أوصاله، وأراه الله تعالى عبرة في نفسه1 ... انتهى. وأما قول العتيقي في أخبار هذه السنة، ولم يحج أحد من العراق، ففيه نظر؛ لأنه إن أراد بالعراق عراق العجم، فهو يخالف مقتضى قول الذهبي السابق وقتل في سكك مكة وشعابها من أهل خراسان والمغاربة، وغيرهم زهاء ثلاثين ألفا ... انتهى. وهذا يدل لحج أهل خراسان؛ وهم من عراق العجم، وإن أراد عراق العرب؛ فهو يخالف ما ذكره ابن الأثير؛ لأنه قال: في أخبار سنة سبع عشرة وثلاثمائة: حج بالناس هذه السنة منصور الديلمي2، سار بهم من بغداد إلى مكة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية3، فذكر من أفعاله القبيحة بمكة بعض ما سبق ذكره4. ومنها: أنه في سنة تسع عشرة وثلاثمائة لم يحج ركب العراق. على ما ذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام"5. ومنها: أنه في سنة عشرين وثلاثمائة، بطل الحج من العراق، على ما ذكر العتيقي، والذهبي، وذكر العتيقي أن فيها حج ناس من أهل المغرب واليمن6. ومنها: أنه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة بطل الحج من بغداد، على ما ذكر العتيقي وابن الأثير، لاعتراض القرمطي يلهم في الطريق فيما بين القادسية والكوفة7. ومنها: أنه في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بطل الحج من ناحية العراق، على ما ذكر العتيقي8. ومنها: أنه في سنة خمس وعشرين بطل الحج من العراق، على ما ذكره العتيقي والذهبي9. ومنها: أنه في سنة ست وعشرين بطل الحج من العراق، على ما ذكره الذهبي، وأما العتيقي فقال في أخبار هذه السنة: وخرج من بغداد نفر يسير من الحجاج رجالة،

_ 1 البداية والنهاية 11/ 164، مرآة الجنان 2/ 274، تاريخ الخميس 2/ 350، الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 163". 2 المنتظم 6/ 223، إتحاف الورى 2/ 374. 3 دول الإسلام 1/ 192، تاريخ الخميس 2/ 350، النجوم الزاهرة 3/ 224، سمط النجوم العوالي 3/ 360. 4 دول الإسلام 1/ 192، تاريخ الخميس 2/ 350، النجوم الزاهرة 3/ 224، سمط النجوم العوالي 3/ 360. 5 دول الإسلام 1/ 194. 6 النجوم الزاهرة 3/ 232، إتحاف الورى 2/ 382، 283. 7 الكامل 8/ 108، البداية والنهاية 11/ 123. 8 درر الفرائد "ص: 241"، مروج الذهب 4/ 408، إتحاف الورى 2/ 368. 9 النجوم الزاهرة 3/ 260، مروج الذهب 4/ 408.

وقوم أكثروا من العرب، ونحروا في مكة، وحجوا وعادوا من طريق الشام، وعاد منهم قوم على طريق الجادة1 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، بطل الحج من العراق؛ لبعد المتقي عن العراق، واضطرب البلاد، على ما ذكر العتيقي2. ومنها: أنه في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة بطل الحج على ما ذكر العتيقي3. ومنها: أنه في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة4، وسنة سبع وثلاثين وثلاثمائة5، وسنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة6، لم يحج أحد من العراق، على ما ذكر الذهبي في "تاريح الإسلام"، وذكر العتيقي ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال: وحج بالناس في سنة خمس وثلاثين، وست وثلاثين، وسبع وثلاثين، وثمان وثلاثين، وتسع وثلاثين، عمر بن يحيى العلوي، بولاية السلطان له بذلك7 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة أو في التي قبلها كان بين الحجاج العراقيين والمصريين قتال بسبب الخطبة بمكة، على ما ذكر العتيقي؛ لأنه قال: وحج بالناس سنة أربعين وثلاثمائة، وسنة إحدى أربعين وثلاثمائة، أحمد بن الفضل بن عبد الملك من مكة، وعارضه أهل مصر مع عمر بن الحسن بن عبد العزيز، وصحت الصلاة لأحمد بن الفضل، وكان أمير الحاج في بغداد عمر بن يحيى العلوي، ووقع بين عمر بن يحيى العلوي وابن الحسين محمد بن عبيد الله العلوي -وكان حاجا- وبين المصريين للمنبر8 بعرفة. وأقام الحج عمر بن الحسن بن عبد العزيز بناحية بالأتراك والمصريين، وأقام لهم الحج9 ... انتهى. وذكر المسبحي ما يدل على أن هذه القصة كانت في سنة أربعين وثلاثمائة؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: وحج بالعراقيين أحمد بن الفضل بن عبد الملك الهاشمي أحمد، وحج بالمصريين أبو حفص عمر بن الحسن بن عبد العزيز وكانت سنة خلاف وفتنة حدثت بمكة ... انتهى.

_ 1 درر الفرائد "ص: 241". 2 درر الفرائد "ص: 242"، البداية والنهاية 11/ 207. 3 درر الفرائد "ص: 242". 4 النجوم الزاهرة 3/ 294. 5 إتحاف الورى 2/ 394. 6 النجوم الزاهرة 3/ 298، مرآة الجنان 2/ 326. 7 إتحاف الورى 2/ 393، 394. 8 النجوم الزاهرة 3/ 308، درر الفرائد "ص: 243". 9 حسن الصفا والابتهاج "ص: 109".

وذكر غيره ما يدل على أن ذلك في سنة إحدى وأربعين؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: وفيها كان حرب بينم أصحاب معز الدولة، وأصحاب ابن طغج، وكان الظفر لأصحاب معز الدين ... انتهى. ووقع مثل ذلك في سنة اثنتين وأربعين، وفي سنة ثلاث وأربعين، على ما ذكر ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة اثنتين وأربعين: فيها سير الحجاج الشريفان أبو الحسن محمد بن عبد الله، وأبو عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويان؛ فجرى بينهما وبين عساكر المصريين من أصحاب ابن طغج حرب شديد، فكان الظفر لهما، فخطب لمعز الدولة بمكة؛ فلما خرجا من مكة لحقهما عساكر مصر، فقاتلهما فظفر بهم أيضا1. وقال في أخبار سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة: فيها وقعت الحرب بمكة بين أصحاب معز الدولة، وأصحاب ابن طغج من المصريين؛ فكانت الغلبة لأصحاب معز الدولة، فخطب بمكة والحجاز لركن الدولة، ومعز الدولة، وولده عز الدولة بختيار، وبعدهم لابن طفج2 ... انتهى. وذكر المسبحي ما كان بين الفريقين في سنة ثلاث وأربعين، وذكر ذلك غيره، وأفاد في ذلك غير ما سبق؛ لأنه قال: في أخبار سنة ثلاث وأربعين: وكان بها أيضا حرب عظيمة بين أصحاب معز الدولة بن بويه والإخشيد بن محمد بن طغج صاحب الديار المصرية، ومنع أصحاب معز الدولة أصحاب الإخشيد من الصلاة بمنى والخطبة، ومنع أصحاب الإخشيد أصحاب معز الدولة من الدخول إلى مكة، والطواف3 ... انتهى باختصار. ومنها: أنه كان يدعى على المنابر بمكة والحجاز جميعة لكافور الإخشيدي صاحب مصر، ذكر هذه الحادية الملك المؤيد صاحب حماة4، والظاهر أن الدعاء لكافور بمكة كان في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة؛ لأنه ولي السلطنة في هذه السنة بعد موت ابن أستاذه "علي بن محمد بن طغج الإخشيدي"، وكان هو المتولي لتدبير المملكة في سلطنة

_ 1 المنتظم 6/ 372، الكامل 8/ 182، درر الفرائد "ص: 243". 2 درر الفرائد "ص: 243"، حسن الصفا والابتهاج "ص: 109"، وابن طغج هو: الأمير أنوجور بن محمد بن طغج الإخشيد الفرغاني التركي، تولى بعد أبيه سنة 334 بعهد من الخليفة المطيع لله على مصر، وعلى كل ما كان لأبيه من الولاة، ومات سنة 349هـ "انظر ترجمته في: النجوم الزاهرة 3/ 291 - 293". 3 درر الفرائد "ص: 243"، حسن الصفا والابتهاج "ص: 109". 4 المختصر في أخبار البشر 2/ 107.

ابن أستاذه المذكور، وسلطنة أخيه أبي القاسم، "أونجور" ومعناه بالعربي: محمود بن محمد بن طغج، ولعله كان يدعى لكافور في حال سلطنة المذكورين، لتوليه تدبير المملكة لهما، والله أعلم. ومنها: أنه في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة لم يحج أحد من الشام ولا من مصر، على ما ذكر الذهبي1. ومنها: أنه في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة خطب للمعز بن تميم بعد ابن المنصور العبيدي صاحب مصر؛ بمكة والمدينة واليمن، وبطلت الخطبة لبني العباس، وفرق فيه قائد حج مصر أموالا عظيمة في الحرمين؛ ذكر ذلك كله صاحب "المرآة" وذكر أن نقيب الطالبيين2 حج بالناس من بغداد فيها3. ومنها -على ما قال ابن الأثير في أخبار سنة تسع وخمسين وثلاثمائة: وفيها كان الخطبة بمكة للمطيع لله، والقرامطة الهجريين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلوي، وخطب أبو أحمد الموسوي -والد الشريف الرضي- خارج المدينة للمطيع لله4. وذكر صاحب "المرآة" أن فيها خطب للمطيع وللهجريين بعده بمكة، وأن الفاعل لذلك أبو أحمد النقيب الموسوي، وذكر أنه حد بالناس في سنة ستين وثلاثمائة، وهذا يخالف ما ذكره العتيقي من انقطاع الحج في هذه السنة، وفي سنة تسع وخمسين؛ لأنه قال: وبطل الحج من العراق سنة تسع وخمسين، وسنة ستين وثلاثمائة من العراق والمشرق، فلم يحج أحد من هذه الجهات، لاختلاف كان وقع من جهة القرامطة5 ... انتهى. ودامت الخطبة للمطيع بمكة والحجاز فيما علمت إلى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. ومنها: أنه في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة خطب للمعز لدين الله صاحب مصر، بمكة والمدينة في الموسم6.

_ 1 دول الإسلام 1/ 221، إتحاف الورى 2/ 405، النجوم الزاهرة 4/ 18، تاريخ الخلفاء "ص: 401". 2 هو أبو أحمد بن الحسين بن موسى "انظر ترجمته في النجوم الزاهرة 4/ 26". 3 إتحاف الورى 2/ 406، درر الفرائد "ص: 244". 4 المنتظم 7/ 53، الكامل 8/ 22، البداية والنهاية 11/ 268، درر الفرائد "ص: 245". 5 إتحاف الورى 2/ 406، 408 درر الفرائد "ص: 345". 6 المنتظم 7/ 75، الكامل 8/ 233، البداية والنهاية 11/ 277، مرآة الجنان 2/ 379، تاريخ الخلفاء "ص: 406".

وفيها: خرج بنو هلال وجمع من العربل على الحجاج، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وضاق الوقت وبطل الحج، ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي والد الرضي على طريق المدينة، فتم حجهم ... انتهى من تاريخ ابن الأثير1. ومنها: أنه في سنة أربع وستين وثلاثمائة بطل الحج من العراق مع توجههم منه؛ لأنهم قدروا أنهم لا يدركون الحج لأمر عرض لهم في الطريق، فعدلوا إلى المدينة المنورة، فوقفوا بها. ذكر ذلك بالمعنى ابن الأثير2. وأما العتيقي فقال في أخبار هذه السنة: وحج بالناس سنة أربع وستين وثلاثمائة ابن القمر صاحب القرامطة3 ... انتهى. ومنها -على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة خمس وستين وثلاثمائة، من ناحية العراق والمشرق، لاضطراب أمور البلاد4 ... انتهى. وفي هذه السنة -وهي خمس وستين- على ما ذكر صاحب "المرآة" حج بالناس علوي من جهة العزيز بن المعز العبيدي صاحب مصر، وخطب فيها بمكة والمدينة للعزيز5 ... انتهى. وذكر غيره ما يوافق ذلك، وأن العزيز أرسل جيشا في هذه السنة، فحصروا مكة وضيقوا على أهلها6. ومنها: أنه في سنة ست وستين وثلاثمائة حجت جميلة بنت ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان حجا يضرب به المثل في التجمل وأفعال البر؛ لأنه كان معها أربعمائة محمل على لون واحد، ولم يعلم الناس في أيها كانت، وكست المجاورين في الحرمين، وأنفقت فيهم الأموال العظيمة، ولما شاهدت الكعبة نثرت عليها عشرة آلاف دينار من ضرب أبيها ... انتهى بالمعنى من "المرآة"7. وقد ذكر حج هذه المرأة جماعة من أهل الأخبار، منهم الذهبي؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وستين: وفيها حجت جميلة بنت الملك ناصر حمدان، وصار حجها يضرب به المثل، فإنها أغنت المجاورين، وقيل: كان معها أربعمائة محمل، لا يدري في أيها هي، لكونهن في الحسن والزينة نسبة8، ونثرت على الكعبة لما دخلتها عشرة آلاف دينار9 ... انتهى.

_ 1 الكامل 8/ 233. 2 الكامل 8/ 239. 3 إتحاف الورى 2/ 412. 4 إتحاف الورى 2/ 413، درر الفرائد "ص: 246". 5 الكامل 8/ 241، المنتظم 7/ 80، المختصر في أخبار البشر 2/ 116، البداية والنهاية 11/ 283. 6 إتحاف الورى 2/ 413. 7 مرآة الجنان 2/ 385، أعلام النساء 1/ 214. 8 المنتظم 7/ 84، النجوم الزاهرة 4/ 126. 9 البداية والنهاية 11/ 287، دول الإسلام 1/ 227.

وقال غيره في ذكر حجها: أنه كان معها عشرة آلاف جمل، وألف عجوز، ولم يحوج الناس إلى مأكول ولا مشروب، وحج معها الناس من أقطار الأرض، وأنفقت بمكة عشرين ألف دينار، وزوجت كل علوي وعلوية، وأنفقت بالمدينة مثلها. ثم قال: ويقال: إنها أنفقت في هذه الحجة ألف ألف دينار، ومائة وخمسين ألف دينار، ولما رجعت إلى بغداد صادرها عضد الدولة بن بويه، واستصفى أموالها، ثم أراد حملها إليه، فخرجت مع رسله، وتحيلت حتى ألفت نفسها في دجلة، وكانت من أزهد الناس وأعبدهم وأجراهم دمعة؛ فكانت تقوم نافلة الليل، وتسمع العظات وتكثر الصدقات1 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة سبع وستين -على ما قال ابن الأثير: سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر وإفريقية أميرا على الموسم ليحج بالناس، وكانت الخطبة له بمكة، وكان الأمير على الموسم باديس بن زيري أخا يوسف بلكين خليفته بإفريقية؛ فلما وصل إلى مكة أتاه اللصوص بها، فقالوا له: نقبل الموسم منكم بخمسين ألف درهم ولا تتعرض لنا، فقال لهم: أفعل ذلك اجمعوا إلي أًصحابهم حتى يكون العقد مع جميعكم، فاجتمعوا -وكانوا نيفا وثلاثين رجلا- فقال: هل بقي منكم أحد؟ فحلفوا له أنه لم يبق منهم أحد، فقطع أيديهم كلهم2 ... انتهى ومنها: أنه في سنة سبعين وثلاثمائة خطب مكة والمدينة لصاحب مصر العزيز العبيدي دون الطائع العباسي على ما ذكر صابح "الرآة" وابن الأثير؛ إلا أنه لم يقل دون الطائع3. ومنها، على ما قال صاحب "المرآة" في أخبار سنة ثمانين وثلاثمائة: حج بالناس أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبيد الله العلوي نيابة عن الشريف أبي أحمد الموسوي4، وكان لهم من سنة إحدى وسبعين لم يحج أحد من العراق، بسبب الفتن والخلف من العراقيين والمصريين، وقيل: إنهم حجوا في سنة اثنتين وسبعين مع أبي الفتح العلوي، وفي سنة يثمان وسبعين وثلاثمائة، والله أعلم. وذكر العتيقي ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وحج بالناس سنة اثنتين وسبعين وثلاث وأربع وخمس وست وسبع وثمان وتسع وسبعين، وسنة ثمان وثلاثمائة: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى بن عبيد الله العلوي ... انتهى.

_ 1 البداية والنهاية 11/ 287، مرآة الجنان 2/ 385. 2 الكامل 8/ 251، البداية والنهاية 11/ 291، إتحاف الورى 2/ 416. 3 المنتظم 7/ 105، الكامل 9/ 4، النجوم الزاهرة 4/ 178. 4 المنتظم 7/ 153، الكامل 9/ 29، النجوم الزاهرة 4/ 157.

ومنها: أنه في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة لم يحج من العراق ولا من الشام أحد، على ما قال ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: فيها عاد الحاج من الثعلبية1، ولم يحج من الشام والعراق أحد، وسبب عودهم أن الأصفر أمير العرب اعترضهم وقال: إن الدراهم التي أرسلها السلطان عام أول كانت نقر مطلية وأريد العوض، وطالب المخاطبة والمراسلة، فضاق الوقت على الحجاج فرجعوا2 ... انتهى. وأما الذهبي فقال في أخبار هذه السنة: لم يحج من العراق ولا من الشام ولا من اليمن أحد على العادة، وحج الناس من مصر ... انتهى. وأما الذهبي فقال في أخبار هذه السنة: لم يحج من العراق ولا من الشام ولا من اليمن أحد على العادة، وحج الناس من مصر ... انتهى. ومنها: أنه في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة بطل الحج -على ما قال العتيقي؛ لأنه قال: وبطل الحج سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، لبعد السلطان منها واختلاف بين العرب3. ومنها: أنه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، لبعد السلطان منها واختلاف بين العرب4. ومنها: أنه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة لم يحج من العراق أحد، خوفا من الأصفر قال: وبطل الحج سنة اثنين وتسعين وثلاثمائة، لبعد السلطان منها واختلاف بين العرب5. ومنها: أنه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة لم يحج من العراق أحد، خوفا من الأصفر الأعرابي؛ ذكر ذلك هكذا صاحب "المرآة" وغيره6. وذكر العتيقي ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وحج بالناس سنة ثلاث وتسعين وأربع وتسعين أبو الحارث بن محمد بنعمر بن يحيى العلوي ... انتهى. ومنها: أنه في سنة ست وتسعين وثلاثمائة خطب بمكة والمدينة للحاكم صاحب مصر على جاري7 العادة، وأمر الناس بالحرمين بالقيام عند ذكره، وكذلك كانت عادتهم بمصر والشام8. ومنها: أنه في سنة سبع سبع وتسعين، وثلاثمائة لم يحج الركب العراقي مع توجههم؛ لاعتراض ابن الجراح لهم بالثعلبية ومطالبته لهم بالمال، فرجعوا إلى بغداد لضيق الوقت عليهم. وحج الناس من مصر، وبعث الحاكم كسوة الكعبة وما لا لأهل الحرمين، وذكر ذلك صاحب "المرآة" وغيره9.

_ 1 الثعلبية: من منازل الحج بطريق مكة بعد الشقوق وقبل الخزيمة، وهي على ثلثي الطريق. 2 درر الفرائد "ص: 247". 3 المنتظم 7/ 219، البداية والنهاية 1/ 330. 4 نفسه. 5 نفسه. 6 النجوم الزاهرة 4/ 207، البداية والنهاية 11/ 332. 7 النجوم الزاهرة 4/ 210، المنتظم 7/ 227. 8 إتحاف الورى 2/ 432. 9 المنتظم 7/ 234، الكامل 9/ 76، دول الإسلام 1/ 238، البداية والنهاية 1/ 337، إتحاف الورى 2/ 432، 433.

ومنها أنه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة لم يحجد من العراق أحد، على ما ذكر صاحب "المرآة"1. ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج من العراق سنة إحدى وأربعمائة، ورجع الحجاج من بغداد2. ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة ثلاث وأربعمائة لمسير رجل من القرامطة يعرف بابن عيسى المنتفقي والناير الخويلدي، وجماعة من العرب إلى ظاهر الكوفة، فحاصروها وانصرفوا، وقد فات الحجاج المسير فعادوا من الكوفة إلى بغداد3 ... انتهى. ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة ست وأربعمائة لخراب الطريق واستيلاء العرب عليه؛ قال: وبطل الحج سنة سبع وأربعمائة بتأخر أهل خراسان4 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة ثمان وأربعمائة لم يحج أحد من العراق، على ما ذكره صاحب "المرآة" وغيره5. ومنها على ما قال العتيقي" وبطل الحج في سنة تسعه وأربعمائة فخرجوا من بغداد مع عمر بن مسلم؛ فاعترضتهم العرب فيما بين القصر والحاجر، والتمسوا منهم زيادة مع عمر بن مسلم، فاعترضتهم العرب فيما بين القصر والحاجر، والتمسوا منهم زيادة على رسومهم، فرجعوا من القصر، وبطل الحج في هذه السنة6. وبطل الحج في سنة عشرة وأربعمائة بتأخر ورود أهل خراسان عن الحضور في هذه السنة في الحج7. وفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة بتأخر ورود أهل خراسان في هذه السنة ... انتهى. وذكر صاحب "المرآة" ما يوافق ذلك. ومنها: على ما قال العتيقي وبطل الحج في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، بتأخر ورود أهل خراسان8 ... انتهى.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 433، درر الفرائد "ص: 250". 2 دول الإسلام 1/ 240، النجوم الزاهرة 4/ 227. 3 النجوم الزاهرة 4/ 232، المنتظم 7/ 260، درر الفرائد "ص: 251". 4 البداية والنهاية 12/ 2، إتحاف الورى 2/ 443. 5 البداية والنهاية 12/ 6، إتحاف الورى 2/ 444، النجوم الزاهرة 4/ 242. 6 النجوم الزاهرة 4/ 242، درر الفرائد "ص: 252". 7 المنتظم 7/ 293، الكامل 9/ 121، النجوم الزاهرة 4/. 8 إتحاف الورى 2/ 450.

ومنها: أنه في سنة أربع عشرة وأربعمائة كان بمكة فتنة، قتل فيها جماعة من الحجاج المصريين ونهبوا بسبببها، وتجرأ بعض الملاحدة على الحجر الأسود فضربه بدبوس، وقد ذكر هذه الحادثة جماعة من أهل الأخبار، منهم ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار سنة أربع عشرة وأربعمائة: ذكر الفتنة بمكة في هذه السنة، كان يوم النفر الأول يوم الجمعة؛ فقام رجل من مصر بإحدى يديه سيف مسلول، وبالأخرى دبوس، بعدما فرغ الإمام من الصلاة فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود فاستلمه، فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس، وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا؛ فإني أريد أن أهدم البيت، فخاف أكثر الحاضرين وترجعوا عنه وكاد يفلت، فثار به وأحرقوا، فثارت الفتنة، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلا، غير ما أخفى منهم، وألح الناس ذلك اليوم على المغاربة من القتلى أكثر من عشرين رجلا؛ غير ما أخفى منهم، وألح الناس ذلك اليوم فلما كان الغد ماج الناس واضطربوا، وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل، وقالوا: نحن مائة رجل؛ فضربت أعناق هؤلاء الأربعة1 ... انتهى باختصار لما يتعلق بأمر الحجر الأسود. وذكر الذهبي2 هذه الحادثة في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ونقل ذلك عن ابن الأثير عن محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي، وذكر القصة بمعنى ما ذكر ابن الأثير، وزيادة منها: أنه كان على باب المسجد عشرة من الفرسان، على أن ينصروا الذي ضرب الحجر، وأنه كان أحمر أشقر تام القامة جسيما، ونقل عن هلال بن المحسن أن الضارب للحجر كان من استغواهم الحاكم العبيدي صاحب مصر، وأفسد أديانهم على ما قيل ... انتهى. وذر بعضهم ما يوهم أن هذه الحادثة اتفقت في سنة نيف وستين وأربعمائة، وهذا وهم قطعا، وفي الخبر الذي فيه ذلك أن القاتل للرجل الضارب للحجر رجل من أهل اليمن من السكاسك؛ فالله تعالى يثيبه. ومنها على ما قال العتيقي: إن الحج بطل من العراق، لتأخر أهل خراسان في سنة خمس عشرة، وفيما بعدها إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة؛ إلا أنه قال في سنة إحدى وعشرين: حج من الكوفة قوم من العرب في قافلة كبيرة، ورجعوا سالمين إلى الكوفة في

_ 1 الكامل 9/ 128، درر الفرائد "ص: 253"، وفي دول الإسلام 1/ 46، المنتظم 8/ 8، 9، والبداية والنهاية 12/ 13، وفي النجوم الزاهرة 4/ 250، وإتحاف الورى 2/ 448: أن ذلك كان سنة "413هـ". 2 دول الإسلام 1/ 46.

آخر المحرم، وقال في سنة اثنتين وعشرين: وحج من الكوفة قوم من الرجالة، ومات منهم خلق عظيم في الطريق: وذكر الذهبي: مايوافق ذلك؛ إلا أنه لم يذكر شيئا في سنة خمس عشرة، ولا في سنة اثنتين وعشرين. ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، لتأخر ورود أهل خراسان، وكان وصولهم إلى بغداد سلخ شوال، وتأخروا عن الخروج، وأقاموا إلى سلخ ذي العقدة، ورجعوا إلى خراسان وحج قوم من الرجالة سيرا1 ... انتهى. وقال الذهبي في أخبار هذه السنة: ورد من مصر كسوة للكعبة، وأموال للصدقة وصلات لأمير مكة، ولم يحج ركب العراق لفساد الطريق2 ... انتهى. وقال ابن الأثير في أخبار هذه السنة: خرجت العرب على حجاج البصرة فأخذوهم ونهبوهم، وحج الناس من سائر البلاد إلا من العراق3. ومنها على ما قال العتيقي: وبطل الحج في سنة أربع وعشرين وأربعمائة؛ لتأخر أهل خراسان في هذه السنة، وخرج نفر يسير من الرجالة، وعمر الطريق، وقال: وبطل الحج في سنة خمس وعشرين وأربعمائة لتأخر أهل خراسان ... انتهى. وقال الذهبي في أخبار سنة خمس وعشرين وأربعمائة، لم يحج العراقيون ولا المصريون خوفا من البادية، وحج أهل البصرة مع من يخفرهم؛ فغدروا بهم ونهبوهم4 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة ست وعشرين وأربعمائة، لم يحج أحد من أهل العراق وخراسان5. ومنها: أنه في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، لم يحج أحد من أهل العراق؛ لفساد البلاد واختلاف الكلمة. وذكر هاتين الحادثتين هكذا ابن كثير6. ومنها: أنه في سنة ثلاثين وأربعمائة، لم يحج فيها من العراق ومصر والشام أحد؛ ذكر ذلك هكذا الذهبي في "تاريخ الإسلام"، وأما ابن كثير فقال في أخبار هذه السنة: لم يحج فيها أحد من أهل العراق وخراسان7 ... انتهى.

_ 1 المنتظم 8/ 96، الكامل 9/ 160. 2 المنتظم 8/ 76، النجوم الزاهرة 4/ 276، إتحاف الورى 2/ 457. 3 الكامل 9/ 160. 4 البداية والنهاية 12/ 36، إتحاف الورى 2/ 457. 5 المنتظم 8/ 83، الكامل 9/ 166، البداية والنهاية 12/ 37. 6 البداية والنهاية 12/ 40، إتحاف الورى 2/ 458. 7 البداية والنهاية 12/ 45، إتحاف الورى 2/ 459، المنتظم 8/ 100.

ومنها: أنه في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، لم يحج فيها أحد من أهل العراق1. ومنها: أنه في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة لم يحج فيها أحد، ولا في اللواتي قبلها. ومنها: أنه في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة لم يحج أهل العراق في هذا العام2. ومنها: أنه في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة لم يحج أحد من ركب العراق في هذا العام3. ومنها: أنه في سنة أربعين وأربعمائة لم يحج أحد من أهل العراق؛ ذكر هذه الخمس حوادث هكذا ابن كثير4، وذكر ما يقتضي لم يحج أحد من أهل العراق في سنة إحدى وأربعين5، وكذلك عام ثلاثة وأربعين6، وكذلك عام ستة وأربعين7، وكذلك عام ثمانية وأربعين8. ومنها: أنه في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة لم يحج أحد من أهل العراق في هذه السنة9. وكذلك سنة اثنتين وخمسين؛ غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة، وذهبوا مع طائفة من الحضر10. ومنها: أنه في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة لم يحج أحد في هذه السنة، ذكر هذه الحادثة هكذا ابن كثير11، وذكر اللتين قبلها كما ذكرناه. ومنها: أنه في سنة خمس وخمسين وأربعمائة حج علي بن محمد الصليحي صاحب اليمن، وملك فيها مكة، وفعل فيها أفعالا جميلة من العدل والإحسان، ومنع المفسدين12. قال محمد بن هلال الصابي: وورد في صفر -يعني سنة ست وخمسين من الحج- من ذكر دخول الصليحي مكة في سادس ذي الحجة، واستعماله الجميل مع

_ 1 البداية والنهاية 12/ 49، إتحاف الورى 2/ 459. 2 البداية والنهاية 12/ 54، النجوم الزاهرة 5/ 40، درر الفرائد "ص: 254". 3 البداية والنهاية 12/ 56، إتحاف الورى 2/ 262. 4 البداية والنهاية 12/ 57، إتحاف الورى 2/ 262. 5 البداية والنهاية 12/ 59. 6 النجوم الزاهرة 5/ 51، حسن الصفا والابتهاج "ص: 113". 7 البداية والنهاية 12/ 65، درر الفرائد "ص: 254". 8 إتحاف الورى 2/ 465. 9 البداية والنهاية 12/ 84. 10 البداية والنهاية 12/ 85. 11 البداية والنهاية 12/ 87. 12 البداية والنهاية 12/ 89، النجوم الزاهرة 5/ 72، الكامل 10/ 11، المنتظم 8/ 232، العقد الثمين 6/ 238.

أهلها، وإظهاره العدل فيها، وأن الحجاج كانوا آمنين أمنا لم يعهدوا مثله؛ لإقامة السياسة والهيبة حتى كانوا يعتمرون ليلا ونهارا وأموالهم محفوظة، ورحالهم محروسة. ويقدم بجلب الأقوات، فرخصت الأسعار وانتشرت له الألسن بالشكر، وأقام إلى يوم عاشوراء، ثم قال: وفي رواية: أقام بمكة إلى ربيع الأول. وذكر ما سبق من تأميره مكة لمحمد بن أبي هاشم المقدم ذكره1 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة اثنين وستين وأربعمائة أعيدت الخطبة العباسية بمكة، وخطب فيها بمكة للسلطان ألب أرسلان السلجوقي مع "القائم" الخليفة العباسي، والفاعل لذلك محمد بن أبي هاشم أمير مكة، على ما ذكر غير واحد من أهل الأخبار؛ منهم ابن الأثير؛ لأنه قال: في أخبار سنة اثنتين وستين وأربعمائة: وفيها ورد رسول لصاحب مكة محمد بن أبي هاشم ومعه ولده إلى السلطان ألب أرسلان، بخبره بإقامة الخطبة للخليفة "القائم" وللسلطان بمكة، وإسقاط خطبة العلوي صاحب مصر، وترك الأذان بحي على خير العمر، فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعا نفيسة، وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار، وقال: لو فعل أمير المدينة منها كذلك أعطيته عشرين ألف دينار، وكل سنة خمسة آلاف دينار2 ... انتهى. وذكر ابن كثير ما يقتضي أن الخطبة العباسية أعيدت بمكة قبل هذا التاريخ؛ لأنه قال: في أخبار سنة تسع وخمسين وأربعمائة: حج بالناس أبو الغنائم النقيب، وخطب بمكة للقائم بأمر الله العباسي3 ... انتهى. وذكر بعض مشايخنا في تاريخه ما يقتضي أن ذلك وقع في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، بإشارة النقيب أبي الغنائم، محمد بن أبي هاشم، فعزله أهله على ما فعل، لقطع الميرة من مصر عن مكة ... انتهى بالمعنى. فهذه ثلاثة أقوال في ابتداء الخطبة العباسية بمكة، والله أعلم بالصواب. ومنها: أنه في سنة سبع وستين قطعت الخطبة العباسية بمكة، وأعيدت خطبة المستنصر صاحب مصر؛ لإرساله هدية جليلة لابن أبي هاشم، وذكر ذلك ابن الأثير بالمعنى، قال: وكانت مدة الخطبة العباسية بمكة أربع سنين وخمسة أشهر4 ... انتهى. وذكر ابن الأثير إعادة الخطبة للمستنصر في ذي الحجة من هذه السنة.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 469، 470. 2 الكامل 10/ 22، النجوم الزاهرة 5/ 84، تاريخ الخلفاء "ص: 421"، العقد الثمين 1/ 440. 3 تاريخ الخلفاء "ص: 421"، إتحاف الورى 2/ 471. 4 إتحاف الورى 2/ 470.

ومنها: أنه في سنة ثمان وستين وأربعمائة أعيدت الخطبة العباسية في ذي الحجة منها، على ما ذكر ابن الأثير وابن كثير؛ إلا أنه لم يقل في ذي الحجة1. ومنها: كانت بمكة فتنة بين أمير الحجاج العراقي خليع2 التركي، مقطع الكوفة، وبين بعض العبيد؛ لأنه لما حج في هذه السنة نزل في بعض دور مكة، فكبسه بعض العبيد، فقتل منهم مقتله عظيمة، وهزمهم هزيمة شنيعة، وكان بعد ذلك ينزل بالزاهر، ذكر هذه الحادثة بمعنى ما ذكرناه ابن الساعي، فيما نقله عنه ابن كثير3. ومنها: أنه في سنة سبعين وأربعمائة أرسل وزير الخليفة العباسي من بغداد منبرا هائلا، عمله لتقام عليه الخطبة العباسية بمكة؛ فلما وصل المنبر إليها إذا الخطبة قد أعيدت للمصريين، فكر ذلك المنبر وحرق، ذكر ذلك ابن الجوزي بمعنى ما ذكرناه، وذكر ذلك غيره4. ومنها: أنه في سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قطعت خطبة المصريين بمكة وخطب فيها للمقتدي والسلطان5. ومنها أنه في سنة تسع وسبعين وأربعمائة قطعت خطبة المصريين من مكة والمدينة؛ ذكر هاتين الحادثتين هكذا ابن كثير6. ومنها: أنه في سنة خمس وثمانين وأربعمائة خطب بمكة للسلطان محمد بن السلطان ملك شاة السلجوقي، من بعد وفاة والده، وخطب له أيضا بالمدينة، وفي جميع ممالك أبيه7. ومنها: أنه في سنة ست وثمانين وأربعمائة -على ما قال ابن الأثير في أخبار هذه السنة- انقطع الحاج من العراق لأسباب أوجبت ذلك، وسار الحاج من دمشق مع أمير أقامه تاج الدولة تتش صاحبها؛ فلما قضوا حجهم وعادوا سائرين؛ سير أمير مكة -وهو محمد بن أبي هاشم- عسكرا فلحقوهم بالقرب من مكة ونهبوا كثيرًا من أموالهم وجمالهم فعادوا إليها أخبروه، وسألوه أن يعيد إليهم ما أخذ منهم، وشكوا إليه بعد

_ 1 المنتظم 8/ 298، الكامل 10/ 36، إتحاف الورى 2/ 478. 2 في البداية والنهاية 12/ 113، والنجوم الزاهرة 5/ 123: "جنغل التركي". 3 البداية والنهاية 12/ 113. 4 المنتظم 8/ 311، البداية والنهاية 12/ 117. 5 المنتظم 8/ 323، البداية والنهاية 12/ 120. 6 الكامل 10/ 59، البداية والنهاية 12/ 131، تاريخ الخلفاء "ص: 425"، المنتظم 9/ 27. 7 البداية والنهاية 12/ 139، إتحاف الورى 2/ 486.

ديارهم؛ فأعاد بعض ما أخذه منهم، فلما أيسوا منه ساروا من مكة عائدين على أقبح صورة ... انتهى باختصار لما تم عليهم من البلاء في عودهم من العرب، وأهلك الله ابن أبي هاشم في السنة التي بعد هذه السنة1. ومنها: أنه في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة لم يحج أحد من الناس، لاختلاف السلاطين2. ومنها: أنه في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة لم يحج أحد من أهل العراق فيها؛ ذكر هاتين الحادثتين هكذا ابن كثير3. ومنها: أنه في سنة تسع وثمانين وأربعمائة ذهب للحجاج، وهم نازلون بقرب وادي نخلة كثيرا من الأموال والدواب والأزواد؛ وذلك أنه أصابهم سيل عظيم فأغرقهم، ولم ينج منهم إلا من تعلق بالجبال4. ومنها: أنه في سنة ست عشرة وخمسمائة لم يحج الركب العراقي، على ما وجدت بخط بعض المكيين5. وأما ابن كثير فقال: وفي سنة ست عشرة وخمسمائة حج الناس، وفيه نظر6. ومنها: أنه في سنته ثلاثين وخمسمائة لم يحج الركب العراقي على ما وجدت بخط بعض المكيين7. ومنها: أنه في سنة ثلاثين وخمسمائة لم يحج الركب العراقي، على ما وجدت في "المرآة"8. ومنها: أنه في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة نهب أصحاب هاشم بن فليتة أمير مكة الحجاج وهم في المسجد الحرام يطوفون ويصلون، ولم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة؛ وذلك لوحشة بين أمير مكة وبين أمير الحاج. ذكر هذه الحادثة بمعنى ما ذكرنا ابن الأثير وغيره9.

_ 1 الكامل 10/ 83، النجوم الزاهرة 5/ 138، درر الفرائد "ص: 257". 2 البداية والنهاية ي12/ 147، إتحاف الورى 2/ 487، درر الفرائد "ص: 258". 3 البداية والنهاية 12/ 149، إتحاف الورى 2/ 488، درر الفرائد "ص: 58". 4 البداية والنهاية 12/ 53، إتحاف الورى 2/ 488، درر الفرائد "ص: 258". 5 إتحاف الورى 2/ 498. 6 البداية والنهاية 12/ 188.؟ 7 إتحاف الورى 2/ 505، حسن الصفا "ص: 16". 8 إتحاف الورى 2/ 506. 9 الكامل 11/ 42، البداية والنهاية 12/ 219، العقد الثمين 1/ 326.

ومنها: أنه في سنة أربع وأربعين وخمسمائة أقام الحجاج بمكة إلى انسلاخ ذي الحجة من هذه السنة، ونهبهم العرب بعد رحيلهم من مكة في ثالث عشر المحرم سنة خمس وأربعين1. ومنها: أنه في سنة ست وخمسين وخمسمائة حج السلطان نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد صاحب دمشق وغيرها2. ومنها: أنه في سنة سبع وخمسين وخمسمائة كانت فيها فتنة بين أهل مكة والحاج العراقي؛ سبببها أن جماعة من عبيد مكة أفسدوا في الحاج بمنى؛ فنفر عليهم بعض أصحاب أمير الحاج برغش فقتلوا منهم جماعة، ورجع من سلم إلى مكة، وجمعوا جموعا أغاروا على جمال الحاج، وأخذوا منها قريبا من ألف جمل؛ فنادى أمير الحاج في جنده فركبوا بسلاحهم، ووقع القتال بينهم، فقتل جماعة، ونهب جماعة من الحجاج وأهل مكة، فرجع أمير الحاج ولم يدخل مكة، ولم يقم الحاج بالزاهر غير يوم واحد، وعاد كثير من الناس رجالة لقلة الجمال، ولقوا شدة، ورجع بعضهم قبل إكمال حجة، وهم الذين لم يدخلوا مكة يوم النحر للطواف والسعي. ذكر هذه الحادثة هكذا ابن الأثير. وذكر صاحب "المنتظم" أن أمير مكة بعث إلى أمير الحاج يستعطفه ليرجع؛ فلم يفعل، ثم جاء أهل مكة بخرق الدم، فضربت لهم الطبول؛ ليعلم أنهم قد أطاعوا3 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة إحدى وستين وخمسمائة أطلق الحاج من غرامة المكس إكراما لصاحب عدن عمران بن محمد بن الزريع اليامي الهمداني؛ فإنه حمل إلى مكة في هذه السنة ميتا لكونه كان شديد الغرام إلى حج بيت الله الحرام واخترم الحمام، قبل بلوغ المرام، ووقف به بعرفات والمشعر الحرام، وصلي علي خلف المقام، ودفن بالمعلاة، في السنة المذكورة4، والله أعلم؟ ومنها: أنه في سنة خمس وستين وخمسمائة بات الحاج بعرفة إلى الصبح، وخاف الناس خوفا شديدا لما كان بين أمير مكة عيسى بن أخيه عيسى بن فليتة وأخيه ذلك، ولم يحج عيسى وحج مالك5.

_ 1 الكامل 11/ 60، المنتظم 10/ 138، المختصر في أخبار البشر 3/ 22، درر الفرائد "ص: 260، 261". 2 إتحاف الورى 2/ 524. 3 الكامل 11/ 116، المنتظم 10/ 202، العقد الثمين 6/ 468، إتحاف الورى 2/ 525. 4 البداية والنهاية 12/ 251، إتحاف الورى 2/ 528، 529. 5 العقد الثمين 6/ 466.

ومنها: أن السلطان نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد صاحب دمشق، خطب له بالحرمين واليمن، لما كان ملكها الملك المعظم توران شاه، أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ذكر هذه الحادثة الملك المؤيد صاحب حماة، وكان ملك توران شاه لليمن في سنة ثمان وستين وخمسمائة، فتكون الخطبة وللسلطان نور الدين بالحرمين في هذه السنة1. ومنها: أنه في سنة سبعين وخمسمائة بات الحاج العراقي بعرفة، ولم يبت بمزدلفة: ولم يصل إليها إلا في يوم عرفة، ولما دخل أمير الحاج العراقي طاشتكين للوداع، هم أهل مكة بكبسه؛ لمنازعة جرت بين بعض جماعة أمير الحاج وبعض أهل مكة. وسالمهم أمير الحاج إلى أن خرج إلى الزاهر، ثم حصل بين الفريقين قتال يسير بالزاهر بعد ذلك، قتل فيه من أصحاب أمير الحاج: رجلان: وجرح أناس من أهل الحجاز2. ومنها: أنه في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة لم يتمكن الحجاج العراقيون من إقامة غالب مناسك الحج؛ لفتنة كان بين أميرهم طاشتكين، وبين صاحب مكة مكثر بن عيسى، وكانت فتنة عظيمة اتفقت فيها أمور عجيبة، على ما ذكر غير واحد من أهل الأخبار، منهم ابن الأثير؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: في ذي الحجة كان بمكة حرب شديد بين أمير الحاج طاشتكين، وبين الأمير مكثر بن عيسى أمير مكة، وكان قد بنى قعلة على جبل أبي قبيس فلما سار الحاج من عرفات لم يبيتوا بالمزدلفة؛ وإنما اجتازوا بها، ولم يرموا الجمال إنما رمى بعضهم وهو سائر، ونزلوا الأبطح، فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربهم، وقتل من الفريقين. جماعة، وصاح الناس الغزاة إلى مكة، فهجموا عليها، فهرب أمير مكة مكثر، فصعد إلى القلعة التي بناها على جبل أبي قبيس، فحصروه بها، ففارقها وسار عن عكرمة، وولي أخوه داود الإمارة بها، ونهب كثير من الحاج بمكة، وأخذوا من أموال التجار المقيمين بها شيئا كثيرا، وأحرقوا دورا كثيرة. من أعجب ما جرى أن إنسانا زراقا ضرب دارتا فيها بقارورة نفط فأحرقها، وكانت لأيتام فأحرق ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب مبها مكانا آخر، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها، واحترق هو فيها، فبقي ثلاثة أيام يتعذب بالحريق، ثم مات ... انتهى.

_ 1 إتحاف الورى 2/ 534، العقد الثمين 1/ 188. 2 إتحاف الورى 2/ 535، 536، حسن الصفا "ص: 117".

وقد سبق في باب الولاة أن أمير المدينة قاسم بن مهنا الحسيني ولي مكة في هذه السنة بعد هرب مكثر؛ لكون الخليفة المستضيء العباسي عقد له الولاية على مكة، ولما رأى من نفسه العجز عن القيام بأمر مكة ولى فيها أمير الحاج أخا مكثر بن داود بن عيسى، وهذا لا يفهم من كلام ابن الأثير، بل يفهم منه أن الخليفة ولى داود، وما ذكرناه من ولاية الخليفة مكة لأمير المدينة ذكره ابن الجوزي. وكلام ابن الأثير يقتضي أن سبب عزل مكثر بناؤه القلعة على أبي قبيس، وما أظن سبب عزله إلا ما كان من تجرؤوا أهل مكة على أمير الحاج في السنة التي قبلها؛ فإنهم هموا فيها بكبسه فيها، وفعلوا معه ما أوجب غيظه. ووجدت بخط بعض المكيين أن الحجاج لما نزلوا الأبطح في هذه السنة تقاتلوا مع أهل مكة في يوم النحر، وثانية وثالثة، وفي اليوم الرابع سلم أمير مكة الحصن لأمير الحاج، فهدمه بعد ذلك، وذكر أنه لم يحج من أهل مكة إلا القليل، وذكر ما سبق من إحراق الدور بمكة ونهبها، وأن من الدور المنهوبة الدور التي على أطراف البلد من ناحية المعلاة1. ومنها: أنه في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة أسقط المكس عن الحجاج إلى مكة في البحر على طريق عيذاب على ما ذكر أبو شامة في "ذيل الروضتين"؛ لأنه قال في أخبار هذه السنة: كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس، بما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل ذلك حبس حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيرا لا يملك شيئا، فرأى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إسقاط ذلك، ويعوض عنه أمير مكة، فقرر معه أن يحمل إليه في كل عام مبلغ ثمانية آلاف أردب قمح إلى ساحل جدة، ووقف على ذلك وقوفا، وخلد بها إلى قيام الساعة معروفا، فانبسط لذلك النفوس، وزاد السرور، وزال البؤس، وصار يرسل أيضا للمجاورين بالحرمين من الفقهاء والشرفاء، ومدحه على ذلك ابن جبير بقصيدة أولها: رفعت مغارم مكس الحجاز ... بإنعامك الشامل الغامر وذكر ابن جبي في أخبار رحلته شيئا من أخبار مكة هذا المكس؛ فقال: إنه كان يؤخذ من كل إنسان سبعة دنانير مصرية ونصف، فإن عجز عن ذلك عوقب بأليم العذاب؛ من تعليقه بالاثنيين وغير ذلك، وكانوا يؤدون ذلك بعيذاب، فمن لم يؤدها ووصل جدة، ولم يعلم على اسمه علامة الأداء عذب بها أضعاف العذاب بعيذاب إن لم يؤد، وكانت هذه البلية في مدة دولة العبيديين، وجعلوها معلومة لأمير مكة، وأزالها الله تعالى على يد

_ 1 الكامل 11/ 176، المنتظم 10/ 260، العقد الثمين 4/ 354، إتحاف الورى 2/ 536.

السلطان صلاح الدين، وعوض أمير مكة عن ذلك ألفي دينار وألف أردب قمح، وإقطاعات بصعيد مصر وجهة اليمن1 ... انتهى بالمعنى. ومنها: أنه كان يخطب بمكة للسلطانة صلاح الدين يوسف بن أيوب، وما عرفت وقت ابتداء الخطبة له بمكة، وإنما ابن جبير ذكر في أخبار رحلته أنه كان يخطب بمكة للناصر العباسي2، ثم لمكثر صاحب مكة، ثم للسلطانم صلاح الدين3، وكانت رحلة ابن جبير سنة تسع وسبعين وخمسمائة4. ومنها: أنه في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ازدحم الحجاج في الكعبة فمات منهم أربعة وثلاثون نفرا ذكر هذه الحادثة ابن القادس، وابن البزوري في "ذيل المنتظم" لابن الجوزي5. ومنها: أنه في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة كانت بعرفة فتنة بين الحجاج العراقيين والشاميين استظهر فيها العراقيون على الشاميين، وقتل من الشاميين جماعة ونهبت أموالهم، وسبي نساؤهم إلا أنهن رددن عليهم، وجرح ابن المقدم -أمير الركب الشامي- جراحات أفضت به إلى الموت في يوم النحر، وسبب هذه الفتنة: أنه لم يسهل على طاشتكين أمير الركب العراقي ما قصده ابن المقدم من الدفع من عرفات قبله، فنهاه عن ذلك؛ فلم يقبل ابن المقدم ذلك، فأفضى الحال إلى قتال الفريقين، فكان ما جرى6. ومنها: على ما وجدت بخط ابن محفوظ في أخبار سنة سبع وستمائة كانت فيها وقعة عظيمة بمنى، بين الحاج العراقي وأهل مكة، وقتل فيها عبد للشريف قتادة يسمى بلالا، وهي مشهورة بسنة بلالا، وهي مشهورة بسنة بلال ... انتهى. ولم أر من ذكر هذه الحادثة بين العراقيين وأهل مكة في هذه السنة؛ وإنما رأيت في أخبار هذه السنة أن قتادة صاحب مكة نهب الحاج اليمنى، ولو وقع بينه وبين الفريقين فتنة لذكر ذلك7، والله أعلم.

_ 1 رحلة ابن جبير "ص: 30، 31"، الروضتين 2/ 3، 4، النجوم الزاهرة 6/ 78، العقد الثمين 1/ 189، 7/ 288. 2 هو الناصر بن المستضيء العباس "576 - 622هـ". 3 هو السلطان صلاح الدين الأيوبي. 4 رحلة ابن جبير "ص: 37". 5 إتحاف الورى 2/ 554، العقد الثمين 1/ 189. 6 الكامل 11/ 229، الروضتين 2/ 123، المختصر في أخبار البشر 3/ 73، النجوم الزاهرة 6/ 105، العقد الثمين 2/ 128. 7 إتحاف الورى 3/ 10، درر الفرائد "ص: 269".

ومنها: أنه في سنة ثمان وستمائة كان بمنى ومكة فتنة عظيمة، قتل فيها الحجاج العراقيون ونهبوا نهبا ذريعا. وقد ذكر هذه الحادثة جماعة من أهل الأخبار، ولم يشرحوا من أمرها مثل ما شرحه أبو شامة المقدسي في "ذيل الروضتين"، فاقتضى ذلك ذكرنا لما ذكره، ونتبع ذلك بما لم يذكره، ولما خولف فيه، ونصه ما ذكره أبو شامة في أخبار هذه السنة: فيها نهب الحاج العراقي، وكان حج بالناس من العراق علاء الدين محمد بن ياقوت نيابة عن أبيه ومعه ابن أبي فراس يفقهه ويدبره. وحج من الشام الصمصام إسماعيل أخو شاروخ النجمي على حاج دمشق، وعلى حاج المقدس: الشجاع علي بن سلار، وكانت ربعية خاتون أخت الملك العادل في الحاج؛ فلما كان يوم النحر بمنى بعد ما رمى الناس الجمرة، وثب الإسماعيلية على رجل شريف من بني عم قتادة أشبه الناس به؛ وظنوه إياه، فقتلوه عند الجمرة. ويقال: إن الذي قتله كان مع أم جلال الدين، وثار عبيد مكة والأشراف، وصعدوا على الجبلين بمنى، وهللوا وكبروا وضربوا الناس بالحجارة والنبل والمقاليع والنشاب، ونهبوا الناس يوم العيد والليلة واليوم الثاني، وقتل من الفريقين جماعة؛ فقال ابن أبي فراس لمحمد بن ياقوت: ارحلوا بنا إلى الزاهر منزلة الشاميين؛ فلما حملت الأثقال على الجمال حمل قتادة أمير مكة والعبيد، فأخذوا الجميع إلا القليل. وكانت ربيعة خاتون بالزاهر ومعها ابن السلار وأخو شاروخ أمير حاج الشام، فجاء محمد بن ياقوت أمير الحج العراقي، فدخل خيمة ربيعة خاتون مستجيرا بها، ومعه خاتون أم جلال الدين. فبعثت ربيعة خاتون مع أبن السلار إلى قتادة تقول له: ما ذنب الناس؟ قد قتلت القاتل وجعلت ذلك وسيلة إلى نهب المسلمين، واستحللت الدماء في الشهر الحرام في الحرم والمال، وقالت له: قد عرفت من نحن، والله لئن لم تنته لأفعلن وأفعلن؛ فجاء إليه ابن السلار فخوفه وهدده، وقال: ارجع عن هذا وإلا قصدك الخليفة من العراق، ونحن من الشام؛ فكف عنهم وطلب مائة ألف دينار وإلا قصدك الخليفة من العراق، ونحن من الشام، فكف عنهم وطلب مائة ألف دينار، فجمعوا له ثلاثين ألفا من أمير الحاج العراقي، ومن خاتون أم جلال الدين، وأقام الناس ثلاث أيام حول خيمة ربيعة خاتون، بين قتيل وجريح ومسلوب وجائع وعريان. وقال قتادة: ما فعل هذا إلا الخليفة، ولئن عاد يقرب أحد من بغداد إلى هنا لأقتلن الجميع. ويقال: إنه أخذ من المال والمتاع وغيره ما قيمته ألف ألف دينار، وأذن الناس في الدخول إلى مكة، فدخل الأصحاء والأقوياء، فطافوا وأي طواف، ومعظم الناس ما

دخل، ورحلوا إلى المدينة ودخول بغداد على غاية الفقر والذل والهوان، ولم ينتطح فيها عنزان1 ... انتهى. وأما قول أبي شامة: ولم ينتطح فيها عنزان، فسببه أن قتادة أرسل ولده، راجحا وجماعة من أصحابه إلى بغداد؛ فدخلوا ومعهم السيوف مسلولة، والأكفان، فقبلوا العتبة، واعتذروا مما جرى على الحاج، فقبل عذرهم، ووصل قتادة في سنة تسع وستمائة مع الركب العراقي مال وخلع، ولم يظهر له إنكار فيما تقدم من نهب الحاج؛ ولكنه استدرج باستدعائه بالحضور إلى بغداد فلم يفعل. وقال في ذلك أبياتا مشهورة, وذكر ابن الأثير ما يقتضي أن الحجاج العراقيين رحلوا من منى ونزلوا على الحجاج الشاميين بمنى، ثم رحلوا جميعا إلى الزاهر؛ لأنه قال بعد أن ذكر مبيت الحجاج بمنى بأسواء حال من خوف القتل والنهب في الليلة التي تلي يوم النحر: فقال بعض الناس لأمير الحاج: انتقل بالناس إلى منزلة حجاج الشام؛ فأمر الناس بالرحيل، ثم قال بعد أن ذكر نهبهم في حال رحلتهم: والتحق من سلم بحجاج الشام، فاجتمعوا بهم، ثم رحلوا إلى الزاهر ... انتهى. وهذا يخالف ما ذكره أبو شامة، فإن كلامه يقتضي أن العراقيين لما رحلوا من منى نزلوا على الشامين بالزاهر. وذكر ابن الأثير أن القاتل للشريف بمنى كان باطنيا2. وذكر ابن سعيد المغربي هذه الحادثة في تاريخه، وذكر فيها أن القاتل للشريف بمنى شخص مجهول، فظن الأشراف أنه خشيش3 فقتلوه. وذكر قتلهم للحجيج العراقيين ونهبهم لهم بمنى، ثم قال: وفعلوا مثل ذلك بمن كان الحاج في مكة، وذكر ما سبق في أخذ أهل مكة ثلاثين ألف دينار من الحجاج العراقيين على تمكينهم من دخول مكة، لطواف الإفاضة. وذكر ابن محفوظ هذه الحادثة، وذكر فيها أن القاتل للشريف بمنى خشيش، وأن المقتول يسمى هارون، ويكنى أبا عزيز، ثم قال: وخرج من كان بمكة من نواب الخليفة ومن المجاورين، مثقلين من مكة سائر الأقطار4 ... انتهى باختصار.

_ 1 الذيل على الروضتين "ص: 78، 79" والكامل 12/ 23، العقد الثمين 7/ 47 - 49، مرآة الجنان 4/ 15، البداية والنهاية 13/ 62. 2 الكامل 12/ 123. 3 الخشيش هو الدخيل بلغة العامة في الحجاز، وفي العقد الثمين 7/ 49: "أن الأشراف قتلوا القاتل بمنى وظنوا أنه حشيش" والحشيش هو من ينتسب إلى الطائفة الإسماعيلية الذين نشؤوا في قلعة "الموت". 4 الكامل 12/ 123.

ومنها: أنه في سنة إحدى عشرة وستمائة حج الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وتصدق في الحرمين بمال عظيم، وحمل النقطتين وزودهم وأحسن إليهم، وجدد البرك والمصانع، وراعى في حجة ما يطلب فعله، ومما فعله من ذلك: أنه باب بمنى ليلة عرفة وصلى بها الصلوات الخمس، ثم سار إلى عرفة، ولما وصل إلى مكة تلقاه قتادة وحضر في خدمته؛ فقال له المعظم: أين ننزل؟ فقال قتادة: هناك، وأشار بسوطه إلى الأبطح، فاستكثر ذلك منه المعظم؛ لأن صاحب المدينة أنزل المعظم في داره بالمدينة، وسلم إليه مفاتيح المدينة، وبالغ في خدمته والإهداء إليه، ولأجل ذلك أعان المعظم أمير المدينة بجيش حارب به قتادة1. ومنها: أنه كان يخطب بمكة للعادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر والشام، وأظن أن ذلك بعد ملك حفيده الملك المسعود ابن الملك الكامل ابن العادل لليمن، وكان ملكه لليمن في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وقيل: سنة إحدى عشرة وستمائة ومنها: أنه قس شنة تشع عشرة وستمائة، كان بمكة وقت الحج فتنة غلقت فيها أبواب مكة دون الحجاج، وقتل فيها أمير الحجاج العراقيين أقباش الناصري؛ وسبب ذلك: أنه لما حج في هذه السنة اجتمع به في عرفات راجح بن قتادة، وسأله أن يوليه إمرة مكة؛ لأن أباه مات في هذه السنة فلم يجبه أقباش، وكان مع أقباش خلع وتقليد لحسن بن قتادة، فظن حسن أن أقباش ولي أخاه، فأغلق أبواب مكة، ووقعت الفتنة بين لحسن بن قتادة، على رمح، فنصبه بالمسعى عند دار العباس، ثم رده إلى جسده ودفنوه بالمعلاة، وأراد حسن نهب الحاج العراقي، فمنعه أمير الحاج الشامي وخوفه من الأخوين: الكامل ملك مصر والمعظم ملك دمشق2، وذكر ما يدل على أن حسن لم يكن له علم بما صنعه أصحابه مع أقباش؛ لأنه قال: قلت: وكان في حاج الشامي في هذه السنة شيخنا فخر الدين أبو منصور بن عساكر؛ فأخبرني بعض الحجاج في ذلك العام أن حسن بن قتادة أمير مكة جاء إليه وهو نازل داخل مكة، فقال له: قد أخبرت أنك خير أهل الشام، فأريد أن تسير

_ 1 النجوم الزاهرة 6/ 211، درر الفرائد "ص: 272"، البداية والنهاية 13/ 67، الذيل على الروضتين "ص: 87" العقد الثمين 7/ 24، إتحاف الورى 3/ 19. 2 الذيل على الروضتين "ص: 132"، السلوك 1/ 1: 213، العقد الثمين 4/ 171، 7/ 493.

معي إلى داري فلعل بركات تزول هذه الشدة؛ فسار معه إلى داره جماعة من الدمشقيين، فأكلوها شيئا، فما استتم خروجهم من عنده حتى قتل أقباش، وزال ذلك الاستيحاش ... انتهى. وذكر ابن الأثير ما يقتضي أن هذه القضية كانت في سنة ثمان عشرة وستمائة1، وأن أقباش أجاب إلى تولية راجح؛ لأنه ذكر موت قتادة في هذه السنة، ثم قال بعد شرح شيء من حاله: فلما سار حجاج العراق كان الأمير عليهم مملوكا من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش، وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق كثير الحماية، فقصده راجع بن قتادة، وبذل له وللخليفة مالًا يساعده على مالك مكة، فأجابه إلى ذلك ووصلوا إلى مكة، فنزلوا بالزاهر، وتقدم إلى مكة مقاتلا لصاحبها حسن، وكان قد جمع جموع كثيرة من العرب وغيرها؛ فخرج إليه من مكة وقاتله، وتقدم أمير الحاج من بين عسكره منفردا، وصعد جبلا إدلالا بنفسه، وأنه لا يقدم أحد عليه، فاحتاط به أصحاب حسن وقتله، وعلقوا رأسه، فانهزم عسكر أمير الحاج، وأحاط أصحاب حسن بالحاج لينهبوهم؛ فأرسل إليهم حسن عمامته أمانا للحاج؛ فعاد أصحابه عنهم ولم ينهبوا منهم شيئا. وسكن الناس، وأذن لهم في دخول مكة، وفعل ما يريدون من الحج وغير ذلك، وأقاموا بمكة عشرة أيام، وعادوا فوصلوا إلى العراق سالمين، وعظم الأمر على الخليفة، فوصلته رسل حسن تعتذر وتطلب العفو منه، فأجيب إلى ذلك2. ومنها: أنه في سنة سبع وعشرة وستمائة لم يحج أحد من العجم بسبب التتار، على ما ذكره أبو شامة في "ذيل الروضتين"3. ومنها: أنه في سنة تسع عشرة وستمائة مات بالمسعى جماعة من الزحام؛ لكثرة الخلق الذين حجوا في هذه السنة من العراق والشام4. وفيها حج من اليمن صاحبها الملك المسعود، وبدا منه ما هو غير محمود، على ما ذكر أبو شامة؛ لأنه قال: قال أبو المظفر -يعني سبط ابن الجوزي: وحج بالناس من اليمن أقسيس بن الملك الكامل، ولقبه المسعود، في عسكر عظيم، فجاء إلى الجبل، وقد لبس هو وأصحابه السلاح، ومنع علم الخليفة أن يصعد به إلى الجبلِ، وأصعد علم أبيه الكامل وعلمه، وقال لأصحابه: إن أطلع البغاددة علم الخليفة فاكسروه وانهبوه، ووقفوا تحت الجبل من الظهر

_ 1 الكامل 12/ 170. 2 إتحاف الورى 3/ 43 - 36، مفرج الكروب 4/ 125. 3 إتحاف الورى 3/ 31، الذيل على الروضتين "ص: 122". 4 إتحاف الورى 3/ 37، الذيل على الروضتين "ص: 132".

إلى غروب الشمس يضربون الكوسات ويتعرضون للعراقي، وينادون: يا ثارات ابن المقدم؛ فأرسل ابن فراس أباه شيخا كبيرا إلى أقسيس، وأخبره بما يجب من طاعة الخليفة وما يلزمه في ذلك من الشناعة؛ فيقال إنه أن في صعود العلم قبيل الغروب، وقيل: لم يأذن، قال: وبدا من أقسيس هذا في تلك السنة جبروت عظيم، حكى لي شيخنا جمال الدين الحصيري قال: رأيت أقسيسا قد صعد على قبة زمزم، وهو يرمي حمام مكة بالبندق، قال فرأيت غلمانه في المسعى يضربون الناس بالسيوف في أرجلهم، ويقولون: اسعوا قليلا قليلا فإن السلطان نائم سكران في دار السلطنة التي بالمسعى، والدم يجري من سيقان الناس. قلت: واستولى أقسيس هذا على مكة وأعمالها، وأذل المفسدين فيها وشتت شملهم، وهو الذي بنى القبة على ماقام إبراهيم عليه السلام، وكثر الجلب إلى مكة من مصر واليمن في أيام، فرخصت الأسعار، ولعظم هيبته قلت الأشرار وأمنت الطرق والديار1 ... انتهى. وذكر ابن الأثير ما يقتضي أن حج الملك المسعود ومنعه من طلوع علم الخليفة كان في سنة ثمان عشرة وستمائة؛ بعد ذكره لشيء من خبر قتادة وابنه حسن، وخبر أقباش: وفي هذه السنة حج بحجاج الشام كريم الدين الخلاطي، وحضر الملك المسعودي صاحب اليمن مكة، ومنع أعلام الخيفة من الطلوع إلى جبل عرفات، ومنع حاج العراق من الدخول إلى مكة يوما واحدا، ثم بعد ذلك لبس خلعة الخليفة، واتفق الأمر، وفتح باب مكة، وحج الناس، وطابت قلوبهم2 ... انتهى. وهذ الذي ذكره ابن الأثير من منع الملك المسعودي للحاج العراقي من دخول مكة، لم أره لغيره، والله أعلم ... انتهى. ومنها: أن أبا شامة قال في أخبار سنة إحدى سنة إحدى وعشرين وستمائة: وهي أول السنين الأربع المتصلة التي وجدت الحج فيها هنيئا مريئا من رخص الأسعار، والأمن في الطرق الشامية وبالحرمين، أما في المدينة: فسببه أن أميرها كان من أتباع صاحب الشام الملك المعظم عيسى؛ فكان يدور الحرس على الحج الشامي ليلا وأما بمكة: فسببه أنها صارت في المملكة الكاملية المسعودية، فانقمع بها المفسد، وسهل على الحجاج أمر دخول الكعبة، فلم يزل بابها مفتوحا ليلا ونهارا مدة مقام الحج فيها، وكان الكامل قد

_ 1 إتحاف الورى 3/ 37، الذيل على الروضتين "ص: 132". 2 الكامل 12/ 170، العقد الثمين 4/ 170، مفرج الكروب 4/ 125.

أرضي بني شيبة سدنة الكعبة بمال أطلقه لهم عما كانوا يأخذونه بإغلاق الباب وفتحه لمن أرادوا، وكان الناس ينالون من ذلك شدة، ويزدحمون عند فتح الباب، ويتسلق بعضهم على رقاب بعض؛ لأن الباب مرتفع عن الأرض بنحو قامة رجل، فيقع بعضهم على بعض، فيموت وينكسر بعض، ويشج بعض، فزال ذلك عن الناس تلك السنة وما بعدها مدة بقاء مكة في المملكة الكاملية1 ... انتهى. ومنها: أنه كان يخبط بمكة للملك الكامل ابن الملك العادل صاحب الديار المصرية، وأظن أن ملك ابنه الملك المسعود مكة، وقد سبق أنه ملك مكة بعد أبيه المسعود، وما جرى بين عساكره وعساكر صاحب اليمن الملك المنصور نور الدين عمر علي بن رسول في أمر ولاية مكة، واستيلاء عسكر كل منهم عليها حينا، وكان يخطب لكل منهما في حال استيلاء عسكره على مكة، والله أعلم. ومنها: أنه في سنة خمس وعشرين وستمائة، وفي سنة ست وعشرين، وسبع وعشرين وستمائة، لم يحج أحد من الناس من الشام في هذه الثلاث سنين، على ما ذكر ابن كثير2. وذكر أبو شامة ما يدل لذلك؛ لأنه قال في أخبار سنة أربع وعشرين: وانقطع ركب الحج بعدها، بسبب ما وقع بالشام من الاختلاف والفتن3 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة أربع وعشرين، وستمائة حج ميافارقين4 سلطانها الشهاب غازي بن العادل بن أبي بكر بن أيوب، وكان ثقله على ستمائة جمل، على ما ذكر سبط ابن الجوزي5. ومنها: أنه في سنة تسع وعشرين وستمائة خطب بمكة للملك المنصور نور الدين صاحب اليمن، وهي أول سنة خطب له فيها بمكة، وكان يخطب له في المدة التي تكون في ولاية عسكره. ومنها: أنه في سنة إحدى وثلاثين وستمائة حج الملك المنصور نور الدين صاحب اليمن على النجب حجا هنيا، ورجا أن يصله بمكة تقليد من الخيلفة المستنصر بإرسال ذلك إليه إلى عرفة؛ فلم يصله ذلك في سنة حجه، ووصله في التي بعدها.

_ 1 الذيل على الروضتين "ص: 144، 143". 2 البداية والنهاية 13/ 127، الذيل على الروضتين "ص: 154، 158، 159"، إتحاف الورى 3/ 44، 46، 48. 3 الذيل على الروضتين "ص: 151". 4 هي أشهر مدن ديار بكر "بتركيا حاليا" "مراص الاطلاع 3/ 1341". 5 الذيل على الروضتين "ص: 159".

ومنها: أنه في سنة أربع وثلاثين وستمائة، على ما ذكر ابن البزوري، لم يحج فيها ركب العراق1، ولم يحج أيضا العراقيون خمس سنين متوالية بعد هذه السنة، من سنة خمس وثلاثين إلى سنة أربعين2، ذكر ذلك ابن البزوري في "ذيل المنتظم"، ووجدت بخط ابن محفوظ ما يقتضي أن الحجاج العراقيين لم يحجوا في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة؛ لأنه قال في أخبار سنة أربعين وستمائة: وحج العراقي في تلك السنة بعد أن أقام سبع سنين لم يحج ... انتهى. ولا يستقيم ما ذكره من أن العراقي لم يحج سبع سنين إلا بأن يكون انقطع من الحج سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. ومنها أنه في سنة سبع وثلاثين وستمائة خطب بمكة لصاحب مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل أخي الملك المسعود، وقد سبق ما مكان بين عسكره وعسكر صاحب اليمن المنصور من استيلاء كل من العسكرين على مكة حينا3. ومنها: أنه في سنة تسع وثلاثين وستمائة حج الملك المنصور نور الدين عمر بن علي ابن رسول صاحب اليمن، وصام رمضان في هذه السنة بمكة. وفيها أبطل السلطان نور الدين المذكور عن مكة سائر المكوسات والجبايات والمظالم، وكتب بذلك مربعة، وجعلت قبالة الحجر الأسود، ودام هذه المربعة إلى أن قعلها ابن المسيب لما ولي بمكة في سنة ست وأربعين وستمائة، وأعاد الجبايات والمكوس بمكة4. ومنها: أن في سنة أربع وأربعين وستمائة، وسنة خمس وأربعين وستمائة، لم يحج الحاج العراقي على ما وجدت بخط ابن محفوظ5. ومنها: على ما وجدت بخطه أن في سنة خمسين وستمائة، فيها حج العراقي6، ولم يذكر أنه حج فيما بين سنة خمس وأربعين وهذه السنة؛ وذلك مشعر بتخلف العراق عن الحج في هذه السنة، والله أعلم. ومنها: أنه في سنة اثنتين وخمسين وستمائة خطب بمكة لصاحب مصر الملك الأشرف موسى ابن الملك الناصر يوسف ابن الملك المسعود أقسيس ابن الملك الكامل،

_ 1 البداية والنهاية 13/ 145، السلوك 1/ 1: 255، مرآة الجنان 4/ 58، النجوم الزاهرة 6/ 296، شذرات الذهب 5/ 162، الذيل على الروضتين "ص: 165". 2 إتحاف الورى 2/ 55، 58، والسلوك 1/ 2: 312، وغاية الأماني 1/ 425. 3 العقود اللؤلؤية 1/ 64، غاية الأماني 1/ 424، إتحاف الورى 3/ 56، العقد الثمين 6/ 346. 4 العقود اللؤلؤية 1/ 96، السلوك 1/ 2: 313، العقد الثمين 6/ 347. 5 إتحاف الورى 3/ 64، 65، درر الفرائد "ص: 277"، البداية والنهاية 13/ 182. 6 العقد الثمين 4/ 176، السلوك س1/ 2: 385، دول الإسلام 5/ 157، البداية والنهاية 13/ 182.

ولأتابك الملك المعز أيبك التركماني الصالحي. وفيها تسلطن أيبك المذكور في شعبة 1. ومنها: أنه في سنة ثلاث وخمسين وستمائة كادت أن تقع الفتنة بين أهل مكة والركب العراقي، وسكن الفتنة الملك الناصر داود بن العظم عيسى صاحب الكرك، بعد أن ركب أمير الحاج العراقي بمن معه للقتال؛ لأن الناصر اجتمع بأمير مكة، وأحضره إلى أمير الحاج مذعنا بالطاعة، وقد حمل عمامته في عنقه، فرضي أمير الحاج وخلع عليه، وزاده على ما جرت به العادة من الرسم، وقضى الناس حجتهم، وهم داعون للمك الناصر شاكرون صنعه2. ومنها: على ما وجدت بخط الشيخ أبي العباس الميورقي أنه لم يحج سنة خمس وخمسين وستمائة من الآفاق ركب سوى حجاج الحجاز ... انتهى. وما عرفت المانع لحجاج مصر والشام من الحج في هذه السنة، وأما العراقيون، فالمانع لهم التتار؛ لإفسادهم فيها وقصدهم الاستيلاء على بغداد، وتم لهم ذلك في سنة ست وخمسين، وقتلوا الخليفة المستعصم وغيره من الأعيان وغيرهم، وأسرفوا في القتل، حتى قيل إن هولاكو ملك التتار أرم بعد القتلى، فبلغوا ألفًا وثمانمائة ألف، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكثر بعد هذه السنة انقطاع الحجاج العراقيين من الحج، ولا سيما في بقية هذا القرن، فإني لا أعلم من حجهم في ذلك إلا اليسير، كما سيأتي بيانه. ولم يبق للحجاج العراقيين تقدم في أمر الحج وفي مشاعره، كما كان لهم ذلك في زمن الخلفاء العباسيين؛ لأن التتار بعد إزالتهم للخلافة العباسية من بغداد لم تكن لهم ولاية على الحرمين، وصار التقدم في إقامة الحج بمشاعره لأمير الحاج المصري، لكون السلطان بالديار المصرية نافذ الأمر في الحرمين الشريفين، ويقوم بمصالحهم من كسوة البيت الحرام. وأول من قام بذلك بعد العباسيين والخلفاء من ملوك مصر الملك الظاهر بيبرس البندقدراي الصالحي3، وقام بذلك بعده ملوك مصر، إلا أن كسوة الكعبة، صارت تعمل من غلة4 قرية ظاهرة القاهرة، وقفها الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر، على كسوة الكعبة في كل سنة، ومع ذلك فيكتب في كسوة الكعبة اسم السلطان بمصر، وكان أمر بيبرس نافذا في الحجاز، وخطب له به، وكذلك غالب من بعده من ملوك مصر، والذي أشك في الخطبة لهم بمكة من

_ 1 العقد الثمين 1/ 191، إتحاف الورى 3/ 76. 2 النجوم الزاهرة 7/ 34، البداية والنهاية 13/ 186، درر الفرائد "ص: 279"، إتحاف الورى 3/ 78. 3 هو المؤسس الحقيقي لدولة المماليك البحرية في مصر والشام. 4 "غلة": هي خرقة تشد على رأس الإبريق، والغلة: ما يواري الإناء. والجمع: غلل. "المعجم الوسيط: 684".د

ملوك مصر بعد الظاهر بيبرس أبناءه: السعيد، وسلامش، والعادل كتبغا، ولاجين المنصوري، ويغلب على ظني أنه خطب لجميعهم غير سلامش؛ إلا أنه ربما قطعت خطبة بعضهم من مكة حينا، وخطب عوضه لصاحب اليمن، واتفق ذلك لصاحب مصر الأشرف خليل ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا يبعد أن يكون اتفق قبل ذلك للمنصور قلاوون وللظاهر بيبرس وابنه السعيد، والله تعالى أعلم، لاضطراب حال أبي نمي أمير مكة في الميل حينا إل صاحب اليمن، وحينا إلى صاحب مصر. وأما ملوك مصر بعد الأشراف خليل غير كتبغا ولاجين، فما علمت أن أحدا منهم انقطعت خطبته من مكة، إلا ما قيل من أن حميضة بن أبي نمي لما استولى على مكة بعد رجوعه من العراق، قطع خطبة الملك الناصر صاحب مصر، وخطب لملك العراق أبي سعيد بن خرابندة؛ وذلك في آخر سنة سبع عشرة، أو في أول سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وبضع ملوك مصر هؤلاء لم يخطب له بمكة، وهو المنصور عبد العزيز بن الملك الظاهر برقوق1، لقصر مدته؛ فإنها كانت سبعين يوما في مدة اختفاء أخيه الناصر فرج، وما اتفق أنه أرسل نجابا إلى مكة يخبر بولايته، وحتى يخطب له؛ ولكن وصل الخبر بذلك من غير نجاب له، فترك الخطيب الخطبة للناصر، وصار يدعو لصاحب مصر بها، فلما عاد الناصر إلى السلطنة صرح باسمه في الخطبة، وكان ذلك في النصف الأول من سنة ثمان وثمانمائة، وكان للملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي من نفوذ الكلمة بالحجاز ما لم يكن لأحد قبله من م لوك الترك بمصر، بسبب أن الملك الناصر المذكور أرهب أولاد أبي نمي بالولاية، والعزل لهم في أمر مكة، والقبض على بعضهم، وتجهيز العساكر غير مرة إلى مكة، والقبض على بعضهم، وتجهيز العساكر غير مرة إلى مكة لإصلاح أمرها، وتقوية من يوليه أمرها، وتم لملوك مصر بعد الملك الناصر مثل ما تم له من كثرة نفوذ أوامرهم بالحجاز، وانفردوا بالولاية فيه دون ملوك اليمن وغيرهم. ومنها: أنه في سنة تسع وخمسين وستمائة حج الملك المظفر يوسف ابن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي ابن رسول صاحب اليمن، وتصدق بصدقة جيدة عمت الناس، وغسل الكعبة بنفسه، وطيبها، ونثر عليها الذهب الفضة، وكسا البيت، وقام بما يطلب من مصالح الحرم وأهله، وهو أول من كسا البيت بعد الخلفاء العباسيين، وقام بمصالح الحرم، وتولى ذلك مع تولي ملوك مصر له في سنين، كان يخطب له في مكة في غالب مدة سلطنته، وخطب بمكة من بعده لذريته ملوك اليمن إلى تاريخه بعد ملوك مصر2.

_ 1 هو ثالث ملوك الجراسكة، وهو أخو الناصر فرج بن برقوق. 2 العقود اللؤلؤية 1/ 133 - 135، غاية الأمان 1/ 450، العقد الثمين 2/ 239.

ومنها على ما قال الميورقي: إنه لم ترفع راية لملك من الملوك سنة ستين، كسنة وخمس وخمسين وستمائة ... انتهى منقولا من خطه، وأراد بذلك وقت الوقوف بعرفة1. ومنها: أنه في سنة ست وستين وستمائة، على ما قال الظهير الكازروني في ذيله، أمن الصاحب عن طريق الحجاز، وتوجه الحاج من بغداد في أمن ... انتهى. وهذه السنة أول سنة حج فيها العراقيون بعد استيلاء التتار على بغداد فيما علمت2. ومنها: أنه في سنة سبع وستين وستمائة حج السلطان الظاهر بيبرس الصالحي صاحب مصر والشام، في ثلاثمائة مملوك وجماعة من أعيان الخليفة وغيرهم، وتصدق في الحرمين بمال عظيم، وأحسن إلى أمراء الحجاز؛ إلا أمير المدينة جماز بن شيحة وابن أخيه مالك بن منيف؛ لأنهما لم يواجهاه خوفا منه، وغسل الكعبة بنفسه، وزاد أميري مكة إدريس بن قتادة وأبا نمي جملة من المال والغلال في كل سنة بسبب تسبيل المسجد الحرام3. ومنها: على ما وجدت بخط ابن محفوظ أن في سنة سبع وستين وستمائة: لم يحج فيها أحد من مصر لا في البر ولا في البحر4 ... انتهى. ومنها: على ما قال الظهير الكازروني في أخبار سنة تسع وستين وستمائة: وحج الناس من بغداد5 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة أربع وسبعين وستمائة أقام الحجاج بمكة ثمانية عشر يوما، وبالمدينة عشرة أيام، وهذا شيء لم يعهد، ذكر هذه الحادثة ابن الجزري6. ومنها على ما وجدت بخط الميورقي: أنه في الخميس رابع عشر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة ازدحم الحجاج في خروجهم إلى العمرة من باب المسجد

_ 1 إتحاف الورى 2/ 87، العقد الثمين 1/ 192، درر الفرائد "ص: 280". 2 إتحاف الورى 3/ 92. 3 البداية والنهاية 13/ 254، 255، السلوك 1/ 2: 580، الذهب المسبوك "ص: 89، 93"، النجوم الزاهرة 7/ 146، إتحاف الورى 3/ 95. 4 إتحاف الورى 3/ 98. 5 العقد الثمين 1/ 192، السلوك 1/ 2، درر الفرائد "ص: 283". 6 إتحاف الورى 3/ 104، درر الفرائد "ص: 284"، السلوك 1/ 2: 624، تاريخ الملك الظاهر لابن شداد "ص: 137".

الحرام المعروف بباب العمرة؛ فمات بالزحمة جمع كثير يبلغون ثمانين نفرا، وقال لنا مكي: عدد خمسة وأربعين ميتا ... انتهى باختصار. ووجدت هذه الحادثة بخط غيره، وذكر أنها في ثالث عشر ذي الحجة، وأنها اتفقت حين خرج إلى العمرة من باب العمرة من المسجد الحرام1. ومنها: أنه في سنة ثماني وستمائة وقف الناس بعرفة يومين يوم الجمعة والسبت احتياطا، وذكر هذه الحادثة ابن الفركاح في "تاريخه"2. ومنها: أنه في سنة ثلاث وثمانين وستمائة كان بين أبي نمي صاحب مكة وأمير الحج المصري علم الدين الباشقردي كلام، أفضى إلى أن أغلق أبو نمي أبواب مكة، ولم يمكن أحدا من دخولها؛ فلما كان يوم التروية أحرق الحجاج باب المعلاة، ونقبوا السور، وهجموا على البلد؛ فهرب أبو نمير وجمعه، ودخل الناس مكة، ووقع الصلح بينهم وبينأه لمكة على يد صاحب بدر الدين السنجاري، وذكر بعضهم أن سبب هذه الفتنة أن بعض أمراء بني عقبة حج في هذه السنة، وكان بينهم وبين أبي نمي معاداة، فتخيل أبو نمير أنه إنما جاء ليأخذه معه؛ فغلق أبوابها ولم يمكن أحدا من دخولها؛ فكان ما ذكرناه، وقد ذكر هذه الحادثة ابن الفركاح تاج الدين مفتي الشام، بمعن ما ذكرناه مختصرا. وقال بعد ذكره لها: أإن من الحجاج في هذه السنة بدر الدين بن جماعة، وأنه له في ذلك؛ فقال: السنة ما أحج، ولا بد أن تقع في مكة فتنة. قال: وهذا من كراماته، نفعنا الله به3. ومنها:" أنه في سنة ثمان وثماني وستمائة، على ما ذكر ابن الفركاح، وصل من العراق ركب كبير، ولم يصل ركب اليمن؛ وإنما جاء منهم آحاد، ووقف الناس يومين يوم الجمعة ويوم السبت؛ لأنه ثبت عند القاضي جلال الدين ابن القاضي حسام الدين، وكان في الركب الشامي: أن أول الشهر كان يوم الخميس، ولم يوافقه الشيخ محب الدين الطبري شيخ مكة وفقيه الحجاز، وقال: كان أول الشهر الجمعة4 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة تسع وثمانين وستمائة -على ما قال ابن الفركاح- كانت فيها فتنة بين الحجاج وأهل مكة، وتقاتلوا في الحرم، وكان الأصل في ذلك أجناد من

_ 1 السلوك 1/ 2: 650، درر الفرائد "ص: 284"، إتحاف الورى 3/ 109، 110. 2 إتحاف الورى 3/ 113. 3 العقد الثمين 1/ 192، السلوك 1/ 3: 724، إتحاف الورى 3/ 116، 117. 4 إتحاف الورى 3/ 120، درر الفرائد "ص: 287".

المصريين، بسبب فرس؛ فانتهى الأمر إلى أن شهرت السيوف بالحرم الشريف، نحوا من عشرة آلاف سيف، ونهبت جماعة من الحجاج وجماعة الحجازيين، وقتل من الفريقين جمع كثير، قيل فوق أربعين نفسا، وجرح خلق كثير، ولو أراد الأمير أبو نمي أخذ الجميع أخذهم؛ ولكنه تثبت ... انتهى. وقال ابن الجزري في أخبار سنة تسع وثمانين وستمائة: وكان مع ركب الشام الأمير عبية أمير بني عقبة، وكان بينهع وبين أبي نمي صاحب مكة معاداة؛ فتخيل صاحب مكة أنه ما جاء إلا ليأخذ مكة شرفها الله، فغلق باب مكة ولم يمكن أحد من أصحاب عبية من الدخول إلى مكة، فاضطلعوا أصحاب عبية من جبال مكة، ودخلوا قهرا وأحرق المصريون باب مكة شرفها الله -عز وجل، ونهبوا من الدباغات الطاقات الأديم، وجرى كل قبيح من الفريقين، وقتل من الطائفتين جماعة، ثم إنهم راسلوا صاحب مكة واتفقوا معه، فدخلوا وطافوا وقضوا حجهم، ثم قال: والذي حج بالناس من مصر الأمير علم الدين سنجر الباشقيري ... انتهى. وإنما ذكرنا هذا لأنه يخالف ما ذكره ابن الفركاح في سبب الفتنة في هذه السنة، والله أعلم. وذكر ابن محفوظ ما يخالف ما ذكره ابن الجزري فيمن كان أمير الحاج في هذه السنة؛ لأنني وجدت بخطه سنة تسع وثمانين وستمائة حج أمير الحاج في هذه السنة، ولأنني وجدت بخطه أن في تسع وثمانين وستمائة حج أمير يقال له الفارقاني، ووقع بينه وبين أهل مكة قتال عند درب الثنية ... انتهى. ودرب الثنية هو درب الشبيكة بأسفل مكة1. ومنها: أن ابن محفوظ قالفي أخبار سنة اثنتين وتسعين وستمائة: ووقف الناس الاثنين والثلاثاء2 ... انتهى. ومنها على ما وجدت بخط ابن محفوظ في أخبار سنة ثلاث وتسعين وستمائة: وحصل بعرفة جفلة عظيمة شنيعة، وكان سببها أن بعض أولاد أبي نمي نهى مملوكا فأخطأ عليه المملوك، فجفل الناس3 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة أربع وتسعين حج فيها المجاهد أنس ابن السلطان مالك العادل كتبغا المنصوري صاحب الديار المصرية والشامية، وحج في خدمته جماعة من الأمراء

_ 1 درر الفرائد "ص: 286"، السلوك 1/ 3: 76، البداية والنهاية 13/ 317، إتحاف الورى 3/ 10. 2 السلوك 1/ 3/ 786. 3 إتحاف الورى 3/ 125، 126، درر الفرائد "ص: 288".

والأدر السلطانية1، وحصل بهم رفق كثير لأهل الحرمين، وشكر سيرة الملك أنس المذكور، وبذل المال لصاحب مكة وأتباعه، ويقال: إن الذي نال صاحب مكة منه نحو سبيعن ألف درهم2. وحجت في هذه السنة عمة صاحب ماردين3 مع الركب الشامي، وكان لها محمل كبير وسبيل كثير، وتصدق بمال كثير، وانتفع بها الحرمين وأمراء مكة والمدينة، وذكر هذه الحادثة بمعنى ما ذكرناه ابن الجزري وغيره4. ومنها: أنه في سنة سبع وتسعين وستمائة حج الخليفة أبو العباس أحمد ابن الأثير حسن بن علي بن أبي بكر ابن الخليفة المسترشد بالله العباسي الملقب بالحاكم، ثاني الخلفاء العباسيين بعد المستعصم، وأول من أقام بمصر من الخلفاء العباسيين، وحج معه عياله، وأعطاه صاحب مصر المنصور لاجين سبعمائة ألف درهم، وحج فيها أمير العرب منها بن عيسى بن منها، وشكر سيرته؛ لأنه تصدق بأشياء كثيرة، وحخمل المنقطعين وأطعم العيش للناس كافة5. ومنها: أنه في سنة ثمان وتسعين وستمائة حصل للحاج تشويش بعرفات وهوشة في نفس مكة، ونبه خلق كثيرون، وأخذت ثيابهم التي عليهم، وقتل خلق وجرح جماعة، وقيل إن المقتولين في هذه الفتنة أحد عشرة نفرا، وحصل لأبي نمي صاحب مكة من الجمال المنهوبة خمسمائة جمل، ذكره هذه الحادثة والتي قبلها بمعنى ما ذكرناه ابن الجزري6. ومنها: أنه في سنة تسع وتسعين وستمائة لم يحج أحد من الشام، وحج الناس من الديار المصرية، ذكر هذه الحادثة الجزري7. ومنها: أنه في سنة سبعمائة لم يحج فيها أحد من الشام؛ إلا أنه خرج عن دمشق جماعة إلى غزة، ومن غزة إلى إيلة، وصحبوا المصريين. ذكر ذلك البرزالي8.

_ 1 الأدر السلطانية: يراد بها حريم السلطان. 2 النجوم الزاهرة 8/ 58، البداية والنهاية 13/ 340، إتحاف الورى 3/ 127، درر الفرائد "ص: 288". 3 صاحب ماردين هو الملك السعيد شمس الدين داود ابن الملك المظفر فخر الدين ألب أرسلان "انظر ترجمته في النجوم الزاهرة 8/ 58". 4 إتحاف الورى 3/ 127، درر الفرائد "ص: 288". 5 العقد الثمين 1/ 193، إتحاف الورى 3/ 130. 6 درر الفرائد "ص: 289"، إتحاف الورى 3/ 131. 7 إتحاف الورى 3/ 131، درر الفرائد "ص: 289". 8 السلوك 1/ 3: 917، النجوم الزاهرة 8/ 146، درر الفرائد "ص: 289".

ومنها: أنه في سنة ثلاث وسبعمائة حج من مصر نائب السلطان بها الأمير سيف الدين سلار، وحج معه خمسة وعشرون أميرا، وتصدق سلار بصدقات كثيرة سد بها فاقة ذوي الحاجات، وانتفع بها المجاورون بمكة وأهلها الأشراف وغيرهم، وفعل بالمدينة مثل ذلك، وكان قد جهز للصدقة في البحر عشرة آلاف أردب قمح، وتصدق الأمراء الذين حجوا معه، وتوجهوا إلى المدينة ثم إلى القدس، وتوجهوا منه إلى مصر فدخلوها مع دخول الركب المصري؛ ذكر هذه الحادثة البرزالي بمعنى ما ذكرناه1. ومنها: أنه في سنة أربع وسبعمائة أبطل أمراء مكة حميصة ورميثة ابنا أبي نمي شيئا من المكوث في هذه السنة والتي قبلها2. ومنها: أنه في سنة خمس وسبعمائة حج من مصر ونواحي الغرب ومن بلاد العراق والعجم خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى3 ومنها: أنه في سنة خمس وسبعمائة كانت بمنى جفلة عظيمة، وحصل الحرب بين المصريين والحجازيين، وكان مقدم الركب المصري الأمير سيف الدين ألغيه، وكان كافر النفس مقداما على الجرائم، سفك من البشر جماعة، وجعل عوض نحر البدن نحرهم؛ ذكر هاتين الحادثتين هكذا صاحب "بهجة الزمن في تاريخ اليمن"، التاج عبد الباقي اليماني، وذكر هذه الحادثة التي في سنة أربع بمعنى ما ذكرناه3. وذكر البرزالي ما يقتضي أن الفتنة التي كانت بين المصريين والحجازيين في سنة خمس، على ما ذكر صاحب "البهجة"؛ لأنه قال في أخبار سنة ست وسبعمائة: فيها كان أمير الركب المصري سيف الدين ألغيه قفجق السلحدار، ثم قال: ووقع في أيام الحج بمنى، ونهب شيء: ثم تفاقم الأمر، ولم يحصل ذلك إلا بالسوق خاصة، وانطلق العسكر خلف من فعل ذلك، فلم يعلم، وهرب المكيون في الجبال، وانطلق معهم من السروز إلى ذيل الجبل، فحصل فيهم من العسكر، ووسط منهم نفر يسير عند الجمرة، لتسكين الأمر، وإظهار الهيبة والقدرة؛ فسكن الناس ولكن بقي عندهم خوف ووجل.

_ 1 السلوك 1/ 3: 954، البداية والنهاية 14/ 29. 2 العقد الثمين 4/ 234، 405، العقود اللؤلؤية 1/ 326. 3 إتحاف الورى 3/ 143، درر الفرائد "ص: 292".

ومنها: أنه في سنة تسع وسبعمائة لم يحج من الشام أحد على العامة إلا أن طائفة يسيرة من التجار وأهل الحجاز، خرجوا من دمشق إلى غزة، ومنها إلى إيله واجتمعوا بالمصريين وصحبوهم، ذكر هذه الحادثة البرزالي1. ومنها: أنه في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة حج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر، ومع خواص عكسره نحو أربعين أميرا؛ ذكر ذلك البرزالي. وذكر صاحب "بهجة الزمان": أن الملك الناصر -المذكور- حج في هذه السنة في مائة فارس وستة آلاف مملوك على الهجن، وسار من دمشق إلى مكة في اثنتين وعشرين يوما2 ... انتهى. ومنها: أنه في سنة ست عشرة وسبعمائة: حج فيها الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري نائب السلطنة المعظمة بالقاهرة، وتصدق بصدقات كثيرة بمكة والمدينة3. وحج أيضا في سنة عشرين وسبعمائة، ومشي فيها من مكة إلى عرفة، وحج أيضا في سنة ست وعشرين وسبعمائة4، ذكر ذلك ابن الجزري. ومنها: أنه في سنة تسع عشرة وسبعمائة حج الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي، وحج معه من الأمراء نحو الخمسين من المقدمين الطبلخانات والعشراوات وجماعة من أعيان دولته، وكان توجه من القاهرة في تاسع ذي القعدة، وتصد على أهل الحرمين، وأحسن وعمل معروفا كثيرا، وغسل الكعبة بيده؛ ذكر ذلك هذه الحادثة بمعنى ما ذكرناه5 البرزالي في تاريخه. ومنها: أنه في سنة عشرين وسبعمائة فعل الحاج سنة من سن الحج متروكة من قبل، وهي أنهم صلوا الصلوات الخمس من منى في يوم التروية وليلة التاسع، وأقاموا بمنى إلى أن أشرقت الشمس على ثبير، وتوجهوا إلى عرفة6؛ ذكر هذه الحادثة بمعنى قال: وهذه مكملة مائة جمعة وقفها المسلمون من الهجرة النبوية إلى الآن؛ ونرجو الله تعالى أن تكون ألوفا إلى يوم القيامة ... انتهى.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 146، درر الفرائد "ص: 293". 2 السلوك 2/ 1: 19، العقود اللؤلؤية 1/ 402، العقد الثمين 4/ 406. 3 النجوم الزاهرة 9/ 233، إتحاف الورى 3/ 156. 4 السلوك 2/ 1: 214، إتحاف الورى 3/ 170. 5 السلوك 2/ 1: 197، النجوم الزاهرة 9/ 59، درر الفرائد "ص: 297". 6 إتحاف الورى 3/ 170.

ومنها: أنه في سنة عشرين وسبعمائة -على ما قال البرزالي: حضر الموقف عالم كثير من جميع الأقاليم والبلاد، قال الشيخ رضي الله الطبري إمام المقام: من عمري أحج ولم أر مثل هذه الوقفة، قال: وفيها حضر الركب العراقي في محمل كثير، ومعهم محمل عليه ذهب كثير، وفيه لؤلؤ وجوهر، قوم بمائة تومان ذهبا، وحسبنا ذلك بمائتي ألف دينار وخمسين ألف دينار من الذهب المصري1 ... انتهى. وذكر ابن الجزري ذلك بالمعنى. ومنها: أنه في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة حج من دمشق نائبها الأمير تنكز الناصري2. ومنها: أنه في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة أبطل السلطان الملك الناصر المكس المتعلق بالمأكول فقط بمكة، وعوض صاحب مكة عطيفة عن ذلك ثلثي دمامين3 من صعيد مصر، وذكر ذلك البرزالي وابن الجزري4. ومنها: أنه في سنة أربع وعشرين وسبعمائة حج ملك التكرور موسى، وحضر للحج معه أكثر من خمسة عشر ألفا من التكاررة5. ومنها: أنه في سنة خمس وعشرين وسبعمائة وقف الناس بعرفة يوم السبت ويوم الأحد، بسبب الاختلاف في هلال ذي الحجة، وفيها رجع أكثر الركب المصري بسبب قلة الماء في المنازل؛ فلذلك قل الحج المصري، وحج العراقي وكان ركبا كبيرا، ذكر هذه الحوادث بمعنى ما ذكرناه البرزالي وابن الجزري6. ومنها: أنه في سنة سبع وعشرين وسبعمائة بات الحجاج الشاميون بمنى ليلة عرفة ولم يبت بها المصريون، وكان المصريون قليلا بالنسبة إلى العادة7. ومنها: أنه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة حج العراقيون ومعهم تابوت جوبان نائب أبي سعيد بن خرابندا ملك العراق؛ ليدفن بالتربة التي بناها بالمدينة عند باب

_ 1 العقد الثمين 6/ 96، 97، إتحاف الورى 3/ 172. 2 البداية والنهاية 14/ 100، درر الفرائد "ص: 299". 3 هي بلدة من مركز الأقصر بمحافظة قنا تقع على شاطئ الغربي للنيل "الخطط التوفيقية لعلي مبارك" 11/ 20. 4 السلوك 2/ 1: 236. 5 البداية والنهاية 14/ 112، مرآة الجنان 4/ 271، السلوك 2/ 1: 255، إتحاف الورى 3/ 178، درر الفرائد "ص: 300". 6 إتحاف الورى 3/ 181، درر الفرائد "ص: 300". 7 إتحاف الورى 3/ 185.

الرحمة؛ فلم يدفن بها لعدم تمكين أمير المدينة من ذلك، حتى يأذن فيه صاحب مصر، وأحضروا تابوته في الموقف بعرفة، ودخلوا مكة ليلا، وطافوا به حول البيت، ثم ذهبوا به إلى المدينة؛ فكان من أمره فيها ما ذكرناه1، ذكر الملك البرزالي بمعنى ما ذكرناه، وذكر أن الوقفة كانت يوم الجمعة باتفاق ... انتهى. وذكر ابن محفوظ أن قدوم الركب العراقي بجوبان كان في سنة سبع وعشرين، والله أعلم. ومنها: أنه في سنة ثلاثين وسبعمائة كانت فتنة عظيمة بين الحجاج المصريين وأهل مكة، وقد شرح قاضي مكة شهاب الدين الطبري شيئا من خبرها في كتاب كتبه إلى بعض أصحابه؛ لأن فيه: ونهى صدورها من حرام الله تعالى بعد توجه الركب السعيد على الحالة التي شاع ذكرها، ولا حيلة في القدرة، والله ما لأحد من أهل الأمر ذنب لا من هؤلاء ولا من هؤلاء؛ وإنما الذنب للغاغة والرعاع والعبيد والنفرية، على سبب مطالبة من أخدام الأشراف للعراقيين، بسبب عوائدهم، وحصلت ملالاة، وأوجبت معاداة؛ فقامت الهوسة والخطيب على المنبر، وكان السيد سيف الدين عند أمير الركب جالسا، فقام ليطفئ النوبة من ناحية، فانتفخت من نواحي، وقام الأمير سيف الدين يساعده، فاتسع الخرق وهاج الناس في بعضهم بعضا فمات من مات وفات من فات، ولزم الأشراف مكانهم بجياد، ولم يخرج منهم أحد إلى القتال إلا من انخلس من الفريقين. وذكر هذه الحادثة الحافظ علم الدين البرزالي، وشرح من أمرها ما لم يشرحه القاضي شهاب الدين الطبري؛ لأنه قال في أخباره سنة ثلاثين وسبعمائة: ووصل كتاب عفيف الدين الطبري يذكر فيه أمورا مما وقع للحجاج بمكة المشرفة، قال: وليس الخبر كالمعاينة، ولما كان يوم الجمعة عند طلوع الخطيب المنبر، حصلت شوشة ودخلت الخيل المسجد الحرام، وفيهم جماعة من بني حسن ملبين غائرين، وتفرق الناس وركب الأمراء من المصريين، وكانوا ينتظرون سماع الخطبة، فتركوها، وركب الناس بعضهم بعضا، ونهبت الأسواق، وقتل من الخلق جماعة من الحجاج وغيرهم، ونهبت الأموال وصلينا نحن الجمعة والسيوف تعمل، وطفت أنا ورفيقي طواف الوداع جريا، والقتل بين الترك والعبيد الحرامية من بني حسن، وخرج الناس إلى المنزلة، واستشهد من الأمراء سيف الدين ألدمر أمير جاندار وولده خليل، ومملوك لهم، وأمير عشرة يعرف بابن التاجي، وجماعة نسوة، وغيرهم من الرجال، وسلمنا من القتل، وكانت الخيل في إثرنا

_ 1 العقد الثمين 3/ 447، والدرر الكامنة 2/ 79، إتحاف الورى 3/ 185، وفيها أن ذلك كان سنة "727 هـ" أو في التي بعدها.

يضربون بالسيوف يمينا وشمالا، وما وصلنا إلى المنزلة وفي العين قطرة، ودخل الأمراء راجعين بعد الهرب إلى مكة لطلب بعض الثأر، وخرجوا فارين مرة أخرى، ثم بعد ساعة جاء الأمراء خائفين وبنو حسن وغلمانهم خلفهم؛ فلما أشرفوا على ثنية كداء من أسفل مكة، فأمر بالرحيل، ولولا أن سلم الله الناس كانوا نزلوا عليهمولم يبق من الحجاج مخبر، فوقف أمراء المصريين في وجوههم، وأمر بالرحيل، فأخطبت الناس، وجعل أكثر الناس يتركون ما ثقل من أحمالهم، ونهب الحاج بعضه بعضا، وكان في جملة من راح جمل محمل لنا فيه جميع ما رزقنا الله من نفقة وثياب وزاد، واحتسبناه وحمدنا الله على سلامة أنفسنا1 ... انتهى. وذكر النويري هذه الحادثة في تاريخه، وذكر فيها ما يوافق ما ذكره الطبري، ثم قال: ووقع الخبر بذلك بالقاهرةن يوم الجمعة يوم مقتله يعني سيف الدين ألدمر جاندار سوار، ثم وصل الخبر بذلك مع المبشرين في ثالث المحرم2. ومنها: أنه في سنة ثلاثين وسبعمائة -أيضا- حج الركب العراقي، ومعهم فيل، وما عرفت مقصد أبي سعيد بن خربندا ملك التتار بإرساله، وقد ذكر خبره البرزالي نقلا عن العفيف المطري؛ لأنه قال: بعد ما سبق ذكره من خبر الفتنة: وكان الركب العراقي ركبا صغيرا، ووصل معهم فيل، وقفوا به3 المواقف كلها، وتفاءل4 الناس منذ رأوه بالشر، فتم ما تم وحصل ما حصل، وكنا خائفين أن يقع بسببه شر، إذا وصل إلى المدينة، فوصل إلى أن بلغ الفريش الصغير قبيل البيداء التي ينزل منها إلى بئر الحرام من ذي الحليفة؛ فجعل كلما أراد أن يقدم رجلا تأخر مرة بعد مرة، قفضربوه وطردوه، وكل ذلك يأبى إلا الرجوع القهقرى، إلى أن سقط إلى الأرض ميتا في يوم الأحد الرابع والعشرين من ذي الحجة الحرام؛ وذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من غرائب العجائب، والحمد لله على ذلك، وقد ذكر خبره النويري في تاريخه، بمعنى ما ذكره المطري، وقال: وقيل: أنه أنصرف عليه من حين خروجه من العراق إلى أن مات زيادة على ثلاثين ألف درهم، وما علم مقصد أبي سعيد في إرساله ذلك ... انتهى5.

_ 1 النجوم الزاهرة 9/ 282، السلوك 2/ 2: 323: البداية والنهاية 14/ 149، العقد الثمين 3/ 327، إتحاف الورى 3/ 189. 2 السلوك 2/ 2: 323، درر الفرائد "ص: 302". 3 السلوك 2/ 2: 325، درر الفرائد "ص: 304". 4 كذا في الأصل، وفي السلوك 2/ 2: 325: "تشاءم" وهو الصحيح. 5 السلوك 2/ 2: 325، إتحاف الورى 3/ 192، 193.

ومنها: أنه في سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة حج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومعه نحو سبعين أميرا، وجماعة من أعيان الفقهاء وغيرهم بالقاهرة، وتصدق بعد حجة على أهل الحرم من المجاورين والفقهاء1. ومنها: أنه في سنة ست وثلاثين وسبعمائة لم يحج الركب العراقي في هذه السنة، لموت السلطان أبي سعيد بن خربندا ملك العراقيين، واختلاف الكلمة بعده، ودام انقطاع الحج من العراقيين سنين كثيرة على ما يأتي بيانه2 إن شاء الله تعالى. ومنها: أنه في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وقف الحجاج المصريون والشاميون بعرفة، يومين: يوم الجمعة ويوم السبت، ووقف أهل مكة السبت؛ ولكنهم حضروا عرفة ليلة السبت3. ومنها: أنه في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة حج صاحب اليمن الملك المجاهد على ابن مالك المؤيد داود بن المظفر، ولما حضر بعرفة كان في خدمته الأشراف والقواد، وحموه من أن يتعرض له المصريون بسوء، وأطلعوا علمه على جبل عرفة، وكان المصريون قد عزموا على منعه من ذلك، ومن نزول عرفة والوقوف عند الصخرات بها، وكان الأشراف والقواد في خدمته، إلى أن قضى مناسك الحج، وعم بصدقته أهل مكة، وكان دخوله إليها أول ذي الحجة، ورحل منها في العشرين من ذي الحجة، ورام أن يكسو الكعبة ويقلع بابها ويركب بابا من عنده؛ فلم يمكنه الأشراف من ذلك، فوجد عليهم في ذلك4. ومنها: أنه في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة حصل بين أمير الحاج المصري والأشراف قتال عظيم بعرفة، كان الظفر من يوم النفر الأول، ونزلوا بباب الشبيكة، وأقاموا به ليلة، ثم رحلوا في يوم النفر الثاني، ولم يعتمر أكثر الحجاج ولم يطوفوا طواف الوداع خوفا على أنفسهم، وتعرف هذه السنة بسنة المظلمة؛ لأن أهل مكة في نفرهم من عرفة سلكوا الطريق التي تخرجهم على البئر المعروفة بالمظلمة، وهي غير الطريق التي يسلكها الحجاج5.

_ 1 النجوم الزاهرة 9/ 104، والسلوك 2/ 2: 355. 2 إتحاف الورى 3/ 205، درر الفرائد "ص: 305". 3 إتحاف الورى 3/ 220، السلوك 2/ 3: 563، درر الفرائد "ص: 306". 4 العقود اللؤلؤية 2/ 70، 71، إتحاف الورى 3/ 220، 221. 5 السلوك 2/ 3: 636، العقد الثمين 2/ 146، إتحاف الورى 3/ 224، 225.

ومنها: أنه في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة حج العراقي بعد أن أقام إحدى عشر سنة لم يحج، وكان حاجا كثيرا، وكان حاج مصر والشام قليلا1. ومنها: أنه في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة حج الملك المجاهد صاحب اليمن وقبض عليه بمنى؛ وسبب ذلك أنه لم ينصف أمير مكة عجلان، ولا بني حسن، ولا أمير الحاج المصري "بزلار"، ولم يراع من المصريين إلا الأمير "طاز"؛ فأجمعوا عليه مع أمير مكة، وقصدوه في صبح اليوم الثالث من أيام منى إلى محطته، فقاتلهم أصحاب صاحب اليمن ساعة من نهار، ثم عظم عليهم الأمر باجتماع الناس عليهم للطمع في النهب، فنهب محطة المجاهد عن آخرها بما فيها من الخزائن، والخيول والبغال، والجمال، وغير ذلك، وكان من أسباب ذلك: عدم ظهوره للقتال، فإنه لم يركب، ولم ينصب علما ولا دق طبلا؛ وإنما صعد جبلا بمنى، فحصروه به إلى قرب غروب الشمس، ثم سلم نفسه بأمان، فأخذ سيفه وأركب بغلا واحتفظ به، وسافر مع المصريين تحت الحوطة، ولم يرم الجمار بمنى ولا ظهر بها، ولعله راعى في ترك القتال حرمة الزمان والمكان، وهما جديران بالاحترام، وكان من خبره بعد وصوله إلى مصر أن صاحبها الملك الناصر حسن بأن الملك الناصر محمد بن قلاوون أكرمه وسيره إلى بلده على طريق الحجاز، وفي خدمته بعض الأمراء؛ فلما كان بالدهناء قريبا من "ينبع" قبض عليه؛ لأن الأمير الذي في خدمته نقل عنه إلى الدولة بمصر ما أوجب تغير خاطرهم عليه، وذهب به إلى الكرك فاعتقل بها مع الأمير "بيبغاروس" الذي كان نائبا بالقاهرة، ثم أطلق بشفاعة الأمير يلبغا؛ لأنه كان أطلق قبله، وزار المجاهد القدس والخليل، وجاء إلى مصر فتوجه منها إلى بلاده على طريق عيذاب، فبلغ اليمن في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، ومنع الجلاب من السفر إلى مكة حنقا على أهلها2. ومنها: أنه في سنة خمس وخمسين وسبعمائة لم يحج الركب العراقي، وحج في التي بعدها، وهي سنة ست وخمسين وسبعمائة، وكان حاجا قليلا3. ومنها: أنه في سنة سبع وخمسين وسبعمائة وقف الناس بعرفة يومين، وحصل للناس في آخر اليوم مطر جيد سالت به الشعاب، فاستقى الحاج ودوابهم، وكان ذلك من الله رحمة لعباده، وكان الحاج العراقي في هذه السنة كثيرا لم يعهد أن مثله حج من العراق، وحج فيها بعض العجم، وتصدق بذهب كثير على أهل مكة والمدينة4.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 236، درر الفرائد "ص: 308". 2 النجوم الزاهرة 10/ 226، السلوك 2/ 3: 832، العقود اللؤلؤية 2/ 84، درر الفرائد "ص: 308". 3 إتحاف الورى 3/ 268. 4 إتحاف الورى 3/ 270.

ومنها: أنه في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة حج العراقي وكان حاج مصر والشام قليلا1. ومنها: أنه في سنة تسع وخمسين وسبعمائة رحل الحجاج جميعهم من منى وقت الظهر من يوم النفر الأول، وكان الحاج قليلا من مصر والشام والعراق2. ومنها: أنه في جمادى الآخرة أو رجب سنة ستين وسبعمائة أسقط المكس المأخوذ من المأكولات بمكة من الحب، والتمر، والغنم، والسمن، وغير ذلك، وارتفع من مكة الجور والظلم، وانتشر العدل والأمان؛ وذلك بسبب أن الملك الناصر حسن صاحب مصر جهز إلى مكة عسكرا لإصلاح أمرها وللإقامة بها مع من ولاة إمرة مكة وهما الشريفان محمد بن عطيفة بن أبي نمي، وسند بن رميثة بن أبي نمي، ودام هذا مدة مقام هذا العسكر بمكة؛ وذلك إلى آخر سنة إحدى وستين وسبعمائة3. ومنها: أنه في سنة ستين وسبعمائة -أيضا- وصل الركب العراقي، وكان وصوله قبل الوقت الذي يعهد فيه وصوله بيومين وهو الخامس من ذي الحجة. ومنها: أنه في سنة إحدة وستين وسبعمائة كان بمكة فتنة بين أهلها من بني الحسن وبين الترك الذين قدموا إلى مكة للإقامة بها في موسم هذه السنة عوض الترك الذين كانوا قدموا مكة في سنة ستين وسبعمائة، وسبب هذه القتنة أن بعض الأشراف من ذوي المعروفة بدار المضيف عند باب الصفا، فطالبهم بالكراء بعض الأشراف من ذوي "علي بن قتادة"، وحصل بينهما منازعات أفضى الحال فيها إلى أن ضرب التركي الشريف فقتله الشريف، فثار عليه الترك، فصاح، فحمى له بعض الشرفاء فثارت الفتنة، وقيل في سبب الفتنة: إن بعض الترك أرادوا النزول في دار المضيف؛ فعارضه في ذلك بعض ذوي "علي" وضربوهم، فشكوا ذلك إلى "ابن قراسنقر"، وكانوا من جماعته، وكان إذ ذاك يطوف بالبيت الحرام محرما بعمرة، فقطع طوافه ولبس السلاح وثارت الفتنة، وركب هذا اليوم، وقصد بنو حسن أجياد، واستولوا على إسطبل ابن "قراسنقر" أحد مقدمي الترك المقيمين بمكة، وحصروا المقدم الآخر وهو الأمير المعروف "قراسنقر" أحد مقدمي "دار الزباع" بأجياد، وقاتلوه حتى غلبوه، ونجا بنفسه من موضع في الدار، فاستجار ببعض نساء الأشراف، واجتمع الترك في المدرسة المجاهدية، وفي المسجد الحرام،

_ 1 إتحاف الورى 3/ 272. 2 إتحاف الورى 3/ 274، درر الفرائد "ص: 310". 3 العقد الثمين 2/ 141، 6/ 66.

وغلقوا أبوابه عليهم، وعملوا عند المدرسة المجاهدية جسرا من خشب يمنع بني حسن من قصدهم، وأزالوا الظلة التي على رأس الزقاق المقابل لباب أجياد، وقصدهم جماعة من بني حسن إلى جهة المجاهدين، فرموهم بالنشاب، ففر بنو حسن، ثم كر عليهم بعض من بني حسن ثانية، فقتل منهم جماعة منهم الشريف "مغامس بن رميثة"، ثم وصل الشريف "ثقبة بن رميثة" إلى مكة، بأثر الفتنة، فسكنها عن الترك، ووقع الاتفاق على أن ترحل الترك من مكة، فرحلوا بما خف من أموالهم. والتحقوا بالحجاج، فأدركوهم بينبع، وكانت هذه الفتنة بعد رحيل الحجاج من مكة بيوم أو يومين1. ومنها: أنه في سنة ست وستين وسبعمائة رسم السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر بإسقاط ما على الحج من المكوس بمكة في سائر ما يحمل إليها من المتاجر، سوى الكارم2 وتجار الهند وتجار العراق، وأسقط المكس المتعلق بالمأكولات، وبلغني أن المكس الذي كان يؤخذ من المأكولات بمكة مد حب جدي، وهو مدان مكيان من كل حلم حب يصل من جدة، ومد مكي وربع مكي من كل حمل حب يصل من وجهة الطائف وبجيلة3 وثمانية دنانير مسعودية على كل حمل من التمر اللبان4 الذي يصل إلى مكة، وثلاثة دنانير مسعودية على كل حمل ترم محشي5 يصل إلى مكة، وستة مسعودية على كل شاة يصل إليها، وسدس وثمن ما يباع بمكة من السمن والعسل والخضر؛ وذلك أنه يحصى ثمنها مسعودية، فإذا عرف أخذ على كل خمسة دنانير دينار مسعودية، ويؤخذ -أيضا- دينار مسعودية من ثمن السلة التمر إذا بيعت بالسوق من الثمار الذي باعها ليعيش منها، والمأخوذ على التمر أولا من جالبه إلى مكة، ويؤخذ شيء مما يباع في السوق من غير ما ذكرناه، وكان الناس يقاسون شدة؛ بحيث بلغني أن بعض الناس جلب شاة، فلم تساو المقدار المقرر عليها، فمسح بها في ذلك؛ فلم يقبل منه، فأزال الله -تعالى- جميع هذا الأشراف شعبان المذكور، بتنبيه بعض أهل الخير له على ذلك، وعوض صاحب مكة عن ذلك ثمانية وستين ألف درهم من بيت المال المعمور بالقاهرة، وألف أردب قمح، وقدر ذلك في دويان السلطان المذكور، وأمضى ذلك الولاة بالديار المصرية إلى تاريخه، وكتب خبر الإسقاط في أساطين بالمسجد الحرام في جهة باب الصفا وغيره، ولما وقعت

_ 1 السلوك 3/ 1: 48، العقد الثمين 2/ 141. 2 الكارم: هو نوع من الأحجار الكريمة. 3 قرية بالبادية حول الكعبة. 4 لعله يقصد الممحوس من التمر، وهو التمر الذي ذهب قشره من حرارة الشمس.

هذه الحسنة من الأمير يلبغا -المذكور- طابت بها نفس صاحب مكة -إذ ذاك- الشريف عجلان بن رميثة الحسن -رحمه الله- وعمل بها هو ومن عبده من أمراء مكة أثابهم الله تعالى1. ومنها: أنه في أثناء سنة عشر السبعين وسبعمائة -بتقديم السين، خطب بمكة للسلطان الشيخ أويس ابن الشيخ حسن الصغير صاحب بغداد وغيرها، بعد أن وصلت منه قناديل حسنة للكعبة، وهدية طائلة لأمير مكة عجلان، وهو الأمر لخطيب مكة بالخطبة له؛ فكان الخطيب إذ ذاك جدي لأبي، قاضي مكة أبي الفضل النويري، ثم تركت الخطبة لصاحب العراق، وماعرفت وقت ابتداء تركها، وخفي على كثير من خبر الحجاج العراقيين في عشر السبعين وسبعمائة، وفي عشر الثمانين وسبعمائة، وفي عشر التسعين وسبعمائة، ويغلب على ظني أن حجهم في هذه الأعشار أكثر من انقطاعهم عن الحج فيها، والله أعلم. ومنها: أنه في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة كان الحجاج من مصر في غاية القلة، بسب ما اتفق في عقبة إيلة من ثورة الترك على الملك الأشرف شعبان صاحب مصر، وكان قد توجه إلى الحج في هذه السنة في تجمل كثير، وفر إلى القاهرة؛ فتبعه الناس إلا نفرا يسيرا، وكان من خبره أنه دخل في القاهرة متخفيا؛ لأن الأمراء الذي تركهم بها سلطنوا ولده المنصور عليا، وظفروا به بعد مدة يسيرة، واستشهد -رحمة الله تعالى- في بقية السنة2. ومنها: أنه في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة حج محمل لصاحب اليمن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس ابن الملك المجاهد في البر، وأراد بعض الأمراء المصريين توهين حمرة هذا المحمل؛ فلم يمكنهم من ذلك صاحب مكة الشريف أحمد بن عجلان، وكان أمير الحج مع هذا المحمل ابن السنبلي، وليس هذا المحمل أول محمل حج من اليمن؛ فقد رأيت ما يدل على أن في السنة التي ولي فيها الملك المؤيد السلطنة ببلاد اليمن حج له محمل إلى مكة3. ومنها: أنه في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة كان بمكة فتنة في أيام الموسم، وحج الناس خائفين، وسبب هذه الفتنة أن بعض الباطنية قتل أمير مكة محمد بن أحمد بن عجلان عندما حضر لخدمة المحمل المصري على جاري عادات الأمراء -أي أمراء

_ 1 البداية والنهاية 14/ 309، إتحاف الورى 3/ 302. 2 النجوم الزاهرة 11/ 73، الذهب المسبوك "ص: 118"، بدائع الزهور 1/ 3: 171، السلوك 3/ 1: 272. 3 النجوم الزاهرة 11/ 196، السلوك 3/ 1: 374، إتحاف الورى 3/ 335.

الحجاز- وتولى بعده عنان بن مغامس بن رميثة إمرة مكة، وقصدها في جماعته، ومعه أمير الحج المارديني؛ فحاربهم من كان بمكة من ذوي عجلان زمنا يسيرا، ثم انهزموا، واستولى عنان ومن معه على مكة1. ومنها: أنه في سنة سبع وتسعين وسبعمائة كان بمكة قتل ونهب في الحجاج في يوم التروية، وفي ليلة عرفة بطريق عرفة، وسبب هذه الفتنة: أن بعض القواد اختطف شيئا في المسجد الحرام، واحتمى ببعض أصحابه؛ فجرى بينهم وبين الحجاج مقاولة بالمسجد الحرام أفضت إلى مقاتلته، فشهرت السيوف بالمسجد الحرام وصارت الفتنة به وفي خارج المسجد، ونهبت الأموال، وجاء أمير الحج الحلبي المعروف بابن الزين غائرا من الأبطح في خيل ورجل، فلقيه بعض القواد بأسفل مكة إلى جهة الشبيكة، وجرى بين الفريقين قتال كان الظفر فيه للقواد، وطمح الحرامية في الحجاج، فنهبوهم نهبا ذريعا في خروجهم إلى منى، وفي ليلة عرفة بالموضع المعروف بالمضيق بين عرفة ومزدلفة وقتلوهم، وتعدى النهب إلى أهل مكة واليمن، وحج الناس خائفين، ورحل الحجاج أجمع في يوم النفر الأول، وكان في هذه السنة قدم مع الحجاج الشاميين محمل من حلب، ولم يعهد مثل ذلك فيما علمت إلا في سنة سبع وثمانين وسبعمائة2، والله أعلم. وفيها حج العراقي عند انقطاعه مدة، وكان قدومه يوم الصعود، وكان حاجا قليلا جدا، يقال: إنه كان فيه خمسمائة جمل2. ومنها: أنه في سنة ثمانمائة حج لصاحب اليمن الملك الأشرف مع طواشي من جهته وفي خدمته الشريف محمد بن عجلان، وحج معه جماعة من أعيان التجار والفقهاء المكيين وغيرهم، وحصل للحجاج الذين كانوا مع المحمل اليمني عطش بقرب مكة، مات فيه جماعة منهم -رحمهم الله تعالى- ووقف بعرفة مع المحامل، وكانت الوقفة يوم الجمعة3. ومنها: أنه في سنة ثلاث وثمانمائة لم يحج من الشام أحد على الطريق المعتادة، وسبب ذلك أن تيمورلنك قصد البلاد الشامية في هذه السنة واستولى عليها وأخربها؛ وكان ما حصل من الخراب بدمشق أكثر من غيرها من البلاد الشامية بسبب إحراق التترية لها لما استولوا عليها، بعد أن فارقها الملك الناصر فرج،

_ 1 السلوك 3/ 2: 545، نزهة النفوس 1/ 132، بدائع الزهور 1/ 2: 370، العقد الثمين 3/ 53. 2 إتحاف الورى 3/ 395. 3 إتحاف الورى 3/ 408.

وقصد الديار المصرية لأمر اقتضاه الحال. والتترية منازلون لدمشق، وكان استيلاء التترية على دمشق بصورة أمان، والتزام من أهل دمشق لهم بمال يؤدونه؛ لأنهم بعد رحيل السلطان من دمشق حصروا القلعة بدمشق وأخربوا بعضها، وكادوا يستولون عليها؛ فاقتضى ذلك خروج الشاميين إليهم لطلب الأمان والتزامهم لهم بالمال؛ فلما صار بأيديهم ما التزموا لهم به من المال وأكثر منه بكثير، فارقوا البلد، بعد أن أحرقوها في ثالث شعبان من السنة المذكورة، ثم عمرت القلعة والجامع الأموي ومواضع حوله من البلد وظاهرها عمارة حسنة، وأكثر البلد متخرب إلى الآن؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله1. ومنها: أنه في سنة ست وثمانمائة حج الركب الشامي على طريقته المعتادة، ومعه محمل، وكان قد بطل من سنة ثلاث وثمانمائة، وحج الشامي في سنة سبع وثمانمائة كحجة في سنة ست بمحمل وعلى طريقته المعتادة2. ومنها: أنه في سنة سبع وثمانمائة حج العراقيون بمحمل من قبل متولى بغداد من أولاد تيمورلنك، ومات تيمورلنك في هذه السنة في سابع عشر شعبان منها، بعلة الإسهال القولنجي. ومنها: أنه في سنة ثمان وثمانمائة لم يحج الشاميون على طريقتهم المعتادة ولا حج لهم محمل؛ وإنما حج فيها من الشام تجار، جاؤوا من دمشق إلى غزة، ومنها إلى إيلة، ومنها إلى مكة3. ومنها: أنه في سنة تسع وثمانمائة، حج الشاميون بمحمل على طريقتهم المعتادة، وتخوف الناس أن يقع بين أميرهم وبين أمير الركب المصري قتال، فسلم الله، وسبب توقع القتال في هذه السنة؛ أن الأمير "جكم"4 بايع لنفسه بالسلطنة، وتلقب بالملك العادل، وخطب له بحبل وغيرها من البلاد الشامية؛ حتى أنه خطب له بدمشق -ولكن زمن الخطبة له بدمشق يسيرا دون شهر- وأعيدت الخطبة بها للملك الناصر، فرج ابن الملك الظاهر صاحب مصر، وضربت السكة باسم جكم، ورأيت دراهم مكتوبة عليها اسمه، وكان ذلك من الأمير جكم في هذه السنة أو في آخرها، أو في أول التي بعدها، وقتل من سهم أصابه على غفلة منه في حرب كانت بينه وبين بعض التركمان.

_ 1 القعد الثمين 4/ 96. 2 العقد الثمين 1/ 197، درر الفرائد "ص: 317". 3 العقد الثمين 1/ 197، درر الفرائد "ص: 317"، إتحاف الورى 3/ 449. 4 العقد الثمين 1/ 197، درر الفرائد "ص: 318".

ومنها: أنه في سنة عشر وثمانمائة نفر الحجاج جميعهم في النفر الأول، ولم يزر المدينة المنورة من الركب المصري إلا القليل، وسار معظمهم مع أمير الحاج إلى "ينبع"، وسبب ذلك: أن أمير الحج المصري تخوف من أهل الشام أن يقصدوا الحجاج بسوء من جهة "إيلة"، بسبب القبض بمكة على أمير الركب الشامي في هذه السنة، وكان صورة القبض عليه: أن المصريين تكلموا مع أمير مكة في القبض عليه؛ فقصده أمير مكة في المسجد الحرام بعد طوافه يوم قدومه بالبيت، وقيل سعيه، وأشار على أمير الحج الشامي بأن يمضي معه للسلام على أمير الحج المصري؛ فلم يجد بدا من الموافقة على ذلك؛ لانفراده عن عسكره؛ فسار إلى أمير الحج المصري، فقبض عليه وحج معه محتفظا به، وذهب به تحت الخوطة إلى مصر، وكانت الموافقة يوم الجمعة1. ومنها: أنه في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة كان بين بني حسن من أهل مكة وبين أمير الحاج المصري مشاجرة عظيمة، أفضت إلى قتله بعض الحجاج ونهبهم غير مرة، ولم يحج بسبب ذلك من أهل مكة إلا اليسير، وسبب هذه الفتنة: أن صاحب مصر الملك الناصر فرج انحرف على الشريف حسن بن عجلان نائب السلطنة ببلاد الحجاز؛ فعزله عن ذلك، وعزل ابنيه عن إمرة مكة، وأسر ذلك إلى أمير الحج المصري "بيسق"2؛ فاستعد للحرب، واستصحب معه أنواعا من السلاح والمكاحل والمدافع وغير ذلك، وورى بأن قصده بذلك الدخول إلى اليمن، وبلغ الشريف "حسن" ذلك في عاشر ذي القعدة من السنة المذكورة؛ فجمع أعراب مكة، وأهل الطائف و"ليه"3 وغيرهم من عرب الشرق، على ما كان معه من بني حسن من الأشراف والقواد، وعبيد أخيه أحمد بن عجلان وأولادهم وعوام مكة، وكان من معه على ما بلغني يزيدون على ستة آلاف نفر؛ منهم: أربعة آلاف من الأعراب الذين استنفرهم، واجتمع عنده من الخيل نحو ستمائة على ما بلغني، وكان يكره القتال مخافة أن يصيب الحجاج سوء من معرة الجيش، وأشار بعض جماعته بأن يرسل إلى أمير الحاج من يعظم عليه أمر الحرم وأهله، وأنه إذا كان قصده القتال، فليتقدم الحجيج قبله بيوم أو يتقدم هو قبلهم بيوم فيقع اللقاء؛ وبينما هم في المعركة فيم يؤدي هذه الرسالة إلى أمير الحاج إذ جاء الله بالفرج، وأزال الخاص بخدمته فيروز الساقي4 إلى مكة بخلع وتقاليد للسيد حسن -المذكور- وولديه، بعودهم إلى ولايتهم، ومنع أمير الحاج من التعرض لقتالهم، وكان وصول هذا الخبر إلى

_ 1 السلوك 4/ 1: 68. 2 هو يبسق الشيخي "انظر ترجمته في: الضوء اللامع 3/ 22، 23 رقم 114". 3 لية: بلدة من نواحي الطائف "معجم البلدان 5/ 30". 4 انظر ترجمته في أنباء الغمر 2/ 501.

مكة في تاسع من ذي القعدة، أو في اليوم الموفى ثلاثين منه، وقدم إلى مكة جماعة من الحجاج من الترك وغيرهم؛ فلقيهم الشريف حسن -بعسكره، وفي ليلة حسن جماعة الحجة بعث المقدم فيروز من يعلم بوصله في هذه السنة، فبعث الشريف حسن جماعة للقائه من باب الشبيكة، وكان هو قد قصد مكة من باب المعلاة، فلما رآه الموكلون بسرو باب المعلاة صاحوا وظنوه عدوا، فارتجت البلد، وظن الناس أن ما ذكر من خبر فيروز مكيدة، فقتل بعض من كان معه، ودخل البلد مكسورا، فطيب خاطره الشريف حسن، ووعده بكل جميل، وقرئ بحضوره التقليد الذي كان معه بعودة الشريف حسن وابنيه إلى ولايتهم، وسعى عند الشريف حسن في عدم التعرض لأمير الحاج؛ فأجاب إلى ذلك الشريف حسن، وشرط أن يسلم أمير الحج ما معه من السلاح وآلات الحرب، فأجاب أمير الحاج إلى ذلك بعد توقف، وشرط أن يكون برباط ربيع أجياد، إلى أن تنقضي أيام الموسم، ثم يتسلم ذلك، فأجيب إلى ما ذكر، ودخل الحجاج مكة في ثاني ذي الحجة وقت الظهر، ودخل أمير الحاج في ثالث ذي الحجة إلى مكة فطاف بالبيت، وتقدم إلى الشريف حسن بأجياد فأحسن لقاءه، وأقام بمكة إلى أن خرج منها في يوم التورية إلى متى بعد أن تقدمه طائفة من الحجاج، وبلغ الشريف حسن أن بعض ما جمعه من الأعراب عزموا على التعرض للحاج؛ فبعث إليهم من يزجرهم عن ذلك، فعصوا وتغلبوا على الحجيج، فقتلوا ونهبوا وعقروا الجمال عند المأزمين، وهو الموضع الذي تسميه الناس المضيق، وتوقف الشريف حسن هو وغالب من معه عن الحج، خيفة أن يقع بينهم وبين أمير الحج قتال، فيلحق الحجيج من ذلك مشقة، وحج ولد السيد أحمد بن حسن في نفر قليل من خواصه؛ وبسبب تخلفه عن الحج تخلف غالب أهل مكة. وكنت ممن يسر الله له الحج في هذا العام. ولما وصلنا إلى الموضع المعروف بالمأزمين: وجدنا الجمال في معقورة، وكدنا أن نرجع من الخوف، فقوى الله تعالى العزم السليم وله الحمد، وكان مما حملنا على العزم على الرجوع: أن بعض الأشراف لقينا قريبا من المزدلفة، وأخبرنا أن الحاج في أثرهم واصل، وسبب ذلك أن الحجاج لما خرجوا من مكة في يوم التروية لم ينزلوا بمنى، وساروا إلى عرفة فنزلوا بها، وثبت عند القاضي الحنفي بمكة أن هذا اليوم هو اليوم التاسع من ذي الحجة، وكان هذا اليوم يوم التروية على رؤية أهل مكة، فاقتضى رأي أمير الحاج أن يقيم بالناس يومين بعرفة، وأن يدفع في هذا اليوم إلى أن يبلغ الأعلام التي هي حد عرفة من جهة مكة، ويرجع إليها فيقيم اليوم الثاني؛ ففعل ذلك ورأى ذلك الشرفاء، فظنوا أن الحاج سائر إلى منى. وتعرض أهل الفساد للحاج في توجههم من عرفة إلى منى، ونهبوهم وقتلوهم وجرحوهم، وذلك في ليلة النحر، ولم نستطيع أن نبيت بالمزدلفة إلى الصباح، فرحلنا

منها بعد أن أقمنا بها مقاما تتأدى به السنة، ووقع بمنى في ليلة النحر قتل ونهب، وفي ضحى يوم النحر شاع بين الناس بمكة وصول الشريف علي بن مبارك بن رميثة من مصر، وكان يذكر أنه يلي مكة مع أمير الحج، فاضطرب الناس بمكة ومنى، ثم سكنوا لما لم يصح ذلك، وفي آخر هذا اليوم دخل أمير الحج إلى مكة؛ فطاف للإفاضة والوداع، وكان قد قدم للسعي في يوم الصعود، وخرج من فوره إلى منى، وفي يوم النفر الأول اضطرب الناس بمنى، وظنوا أن الفتنة قامت بها، ثم لم يظهر لذلك أثر، ثم رحل الحاج بأجمعهم في اليوم الثاني -أي في يوم النفر الثاني- فلما وصلوا إلى الأبطح؛ أمر أمير الحاج المصري بأن يسلك الحجاج المصريون شعب أذاخر، ويخرجون منه إلى وادي الزاهر؛ ففعلوا ذلك ووصل إليه بالزاهر ما كان أودعه من السلاح بمكة، ولولا مراعاة الشريف حسن في هذه الفتنة للحجيج، لكثر عليهم العويل مع الحزن الطويل، فالله تعالى بقية، ومن الشر يقيه1. ومنها: أنه في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة حج صاحب كاوة الملك المنصور حسن ابن المؤيد سليمان بن الحسن، وتصدق على أعيان أهل الحرم، وزار بعد الحج، وركب البحر من أثناء الطريق إلى بلاد اليمن ليتواصل منها إلى بلاده من عدن2. ومنها: أنه في سنة ثلاث عشر وثمانمائة أيضا، لم يحج العراقيون من بغداد بمحمل على العادة، وكانوا قد حجوا على هذه الصفة ست سنين متوالية، أولها سنة سبع وثمانمائة3، وآخرها سنة اثنتي عشرة وثمانمائة4، وسبب بطلان الحج في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة: أن فيها أو في التركماني5 فقتل السلطان أحمد، وقيل: إنه فقد، واستولى التركماني على بغداد، وقرأ يوسف التركماني5 فقتل السلطان أحمد، وقيل: إنه فقد، واستولى التركماني على بغداد، ولم يقع منهم عناية بتجهيز الحجاج بمحمل على العادة، ودام انقطاع الحجاج العراقيين من بغداد سنتين بعد سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وحج في هذه السنين من عراقي العجم جماعة على الطريق الحسا والقطيف6 بلا محمل.

_ 1 في نسخة شفاء الغرام طبعة أوروبا: "ومن السوء". 2 العقد الثمين 1/ 199، درر الفرائد "ص: 682". 3 إتحاف الورى 3/ 449، العقد الثمين 1/ 197. 4 إتحاف الورى 3/ 478، درر الفرائد "ص: 319". 5 هو: قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرخجا التركماني "انظر ترجمته في الضوء اللامع 6/ 216 رقم 733". 6 إتحاف الورى 3/ 482.

ومنها: أنه في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة أقام الحجاج المصريون والشاميون بمنى يوما ملفقا بعد يوم النفر الثاني، لرغبة التجار في ذلك، وكانت الوقفة في هذه السنة يوم الجمعة1. ومنها: أنه في يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وعشرة وثمانمائة خطب بمكة للإمام المستعين بالله أمير المؤمنين أبي الفضل المستكفي أبي الربيع سليمان ابن الحاكم أبي العباس أحمد -المقدم ذكره- العباسي؛ وذلك لما أقيم في مقام السلطنة بالديار المصرية والشامية، بعد قتل الملك الناصر فرج، ولم يتفق مثل ذلك لأحد من أبنائه الذين بويعوا بالخلافة بمصر بعد المستعصم؛ لأنه وإن خطب لمن قبله بديار مصر، فلم يكن لأحد منهم سكة، ولا يخرج عنه توقيع وغير ذلك إلا الإمام المستعين بالله2، إلى أن عهد بالسلطنة إلى مولانا السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ -نصره الله- في مستهل شهر شعبان في هذه السنة، وقبل الخطبة للخليفة بمكة بيومين قرئ كتابه بتفويضه إلى الملك المؤيد تدبير الأمور بالممالك الشريفة، ولقبه فيه ينظام الملك بعد أن ذكر فيه قتل الملك الناصر3 بسيف الشرع الشريف، وكان قتله في ليلة السبت سابع عشر صفر من هذه السنة بدمشق، ودعي للإمام المستعين بالله على زمزم بعهد المغرب من ليلة الخميس الحادي والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، عوض الملك الناصر، واستمر الدعاء له على زمزم في كل ليلة إلى أن وصل كتاب الملك المؤيد يتضمن مبايعة الخليفة، وأهل الحل والعقد من أهل الدولة وغيرهم له بالسلطنة في التاريخ المقدم ذكره، فترك الدعاء للخليفة المستعين بالله على زمزم ودعي له في الخطبة قبل الملك المؤيد دعاء مختصرا بالصلاح، ثم ترك الدعاء له في يوم الجمعة التاسع عشر من شوال سنة ست عشرة وثمانمائة4؛ لأن بعض من ولي الخطابة بمكة رأى ذلك، ثم أعيد الدعاء له في الخطب مختصرا، كما كان يفعل قبل الملك المؤيد في يوم الجمعة ثاني ذي الحجة من السنة المذكورة، لما عاد إلى الخطابة من كان يصنع ذلك، ثم ترك الدعاء له لما عاد إلى الخطابة من كان ترك الدعاء له؛ لأن الدعاء للخليفة لم يعهد بمكة فيما قيل في بعد المستعين، وحكي أيضا أن أخاه داود أقيم عوضه في الخلافة، ولقب بالمعتصم؛ وذلك في سنة سبع عشرة وثمانمائة، وفي ربيع الثاني منها ترك الدعاء في الخطبة بمكة للمستعين بالله، وأول جمعة دعي

_ 1 العقد الثمين 1/ 199، درر الفرائد "ص: 682"، إتحاف الورى 3/ 483. 2 النجوم الزاهرة 13/ 189 - 208، العقد الثمين 4/ 111. 3 هو السلطان فرج بن برقوق. 4 العقد الثمين 2/ 57، إتحاف الورى 3/ 510.

فيها بمكة للمؤيد يوم الجمعة السابع عشر من شوال سنة خمس عشرة وثمانمائة1؛ فالله تعالى يديم دولته ويعلي كلمته. ومنها: أنه في سنة ست عشرة وثمانمائة حج الناس من بغداد بمحمل على العادة، ومعهم ناس من خراسان، والذي جهز الحجاج من بغداد صاحبها "ابن قرا يوسف" ودعي له ولأبيه ولأخيه في المسجد الحرام في ليلة الجمعة سادس عشر ذي الحجة من السنة المذكورة، وبعد الفراغ من قراءة الختمة الشريفة التي جرت العادة بقراءتها، لأجل صاحب بغداد، وكانت الوقفة بالجمعة2. ومنها: أنه في سنة سبع عشرة وثمانمائة في يوم الجمعة خامس ذي الحجة حصل في المسجد الحرام فتنة عظيمة، انتهكت فيها حرمة المسجد كثيرا، لما حصل فيه القتال بالسلاح والخيل، وإراقة الدم فيه، وروث الخيل فيه وطول مقامها فيه؛ وسبب ذلك: أن أمير الحج المصري أدب بعض غلمان القواد المعروفين بالعمرة على حمل السلاح، لنهيه عن ذلك، وسجنه، فرغب مواليه في إطلاقه، فامتنع الأمير؛ فلما صليت الجمعة هاجم جماعة من القواد المسجد الحرام من باب إبراهيم راكبين خيولهم وبعضهم لابس لأمة الحرب، وبعضهم عار منها، وانتهوا إلى مقام الحنفية؛ فلقيهم الترك والحجاج واقتتلوا، فخرج أهل مكة من المسجد، فتبعهم الترك والحجاج، فقاتلوهم بسوق العلاقة بأسفل مكة؛ فظفر عليهم المصريون أيضا، وانتهب بعض العوام من المصريين السوق المذكور، والسوق الذي بالمسعى، وبعض بيوت المكيين؛ فلما كان آخر النهار أمر أمير الحجاج بتسمير أبواب المسجد، إلا باب بني شيبة، وباب الدريبة، والباب الذي عند المدرسة المجاهدية؛ لأن أمير الركب الأول ومن في أبواب المسجد الحرام كلها، خلا ما ذكر، وأدخلت خيل أمير المحمل إلى المسجد، وجعلت بالرواق الشرقي قريبا من منزله برباط الشرابي، وهو منزل أمير المحمل المصري في الغالب، وباتت الخيل في المسجد حتى الصباح، وأوقدت فيه مشاعل الأمير، ومشاعل المقامات الأربعة، وبات به جمع كثير من الحجاج المصريين في وجل كثير، ورام بعض القواد ومن انضم إليه نهب الحجيج الذين بالأبطح وخارج المسجد؛ فأبى ذلك الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة، وانضم في بكرة يوم السبت سادس ذي الحجة إلى القواد بموضع يقال له الطنبداوية بأسفل مكة قريبا منها، وحضر إليه في بكرة هذا اليوم جماعة من أعيان مكة والحجاج، فبدا منه ما يدل على كراهيته لما وقع من الفتنة ورغبته في إخمادها، وبعثهم بذلك إلى أمير المحمل،

_ 1 السلوك 4/ 1: 251، إتحاف الورى 3/ 497، العقد الثمين 4/ 112. 2 إتحاف الورى الورى 3/ 510.

فعرفوه بذلك، فبدا منه مثل ما بدا من صاحب مكة، وأجاب إلى ما سئل فيه من إطلاق الذي أدبه على أن يفصل صاحب مكة ما يحصل به الطمأنينة للحجاج من الحث على رعايتهم، وغير ذلك؛ فوافق على ذلك صاحب مكة، وبعث ولده السيد أحمد إلى أمير المحمل، فخلع عليه، وسكنت الخواطر بذلك، وباع الناس واشتروا، وحصل في الفريقين جراحات كثيرة، مات بها غير واحد من الفريقين، ولا أعلم أن المسجد الحرام انتهك نظير هذا الانتهاك من بعد الفتنة المعروفة بفتنة قندس، في آخر سنة إحدى وستين وسبعمائة إلى تاريخه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومنها: أنه في هذه السنة حصل اختلاف كثير في تعيين الوقفة؛ لأن جمعا كثيرا من القادمين إلى مكة في البر والبحر وبعضا من مكة، ذكروا أنهم رأوا هلال ذي الحجة ليلة الاثنين، ولم ير ذلك غالب أهل مكة ولا غالب الركب المصري؛ فوقع الاتفاق على أن الناس يخرجون إلى عرفة في بكرة يوم الثلاثاء من ذي الحجة على مقتضى رؤية الثلاثاء، ففعلوا ذلك، وصار معظم الحاج إلى عرفة من غير نزول بمنى؛ فبلغوها بعد دخول وقت العصر، وتخلف غالب المكيين بمكة إلى وقت الظهر، وتوجهوا إلى عرفة من غير نزول بمنى؛ فلما كانوا بالمأزمين: مأزمي عرفة -وتسمي الناس هذا الموضع: المضيق خرج عليهم بعض الحرامية، فقتلوا وجرحوا ونهبوا، وعقروا الجمال، وكنا بالقرب ممن أصابه هذا البلاء؛ فلطف الله تعالى، ولم يصبنا مثل الذي أصابهم، ووصلنا إلى عرفة، ووصل بعدنا إليها أناس آخرون، وأقمنا بها مع الحجاج بقية ليلة الأربعاء، ويوم الأربعاء حتى الغروب، ونفرنا مع الحجاج إلى المزدلفة، وبتنا بها إلى قريب الفجر، وسرنا إلى منى حتى انتهينا إليها في بكرة يوم الخميس. وحصل بمنى في ليلة الأربعاء وليلة الخميس نهب كثير وجراحات في الناس، ولم يحج في هذه السنة من أهل مكة إلا القليل. ونفر الحجاج أجمعهم في بكرة يوم النفر الثاني، ونزلوا قريبا من التنعيم، ولم يخرجوا بعد طوافهم للوداع إلا من باب المعلاة؛ لإغلاق باب الشبيكة دونهم، وسافر الأمير وأعيان الحاج وهم متأثرون لذلك ونسأل الله تعالى أن يحسن العاقبة. وفي هذه السنة حج ركب من بغداد بمحمل على العادة، ولم يعملوا في المسجد الحرام ختمة على العادة، لرحيلهم بأثر رحيل الحجاج المصريين والشاميين خوفا من زيادة الغرامة في المكس1. ومنها: أنه في سنة ثمان عشرة وثمانمائة أقام الحجاج بمنى حتى طلعت الشمس على ثبير من يوم عرفة، وصلوا بها الصلوات الخمس وأحيوا هذه السنة بعد إماتتها دهرا طويلا، والله يثبت الساعي في ذلك2 آمين.

_ 1 درر الفرائد "ص: 320". 2 إتحاف الورى 3/ 527.

ومن شعائر الحج التي ينبغي إحياؤها -أيضا- الخطبة بمنى، وهذه سنة متروكة من دهر طويل جدا، وكان خطيب مكة الفقيه سليمان بن خليل يفعلها بعد الرمي، وفعلها بعده خطيب مكة ابن الأعمى قبل الرمي؛ وذلك في يوم النفر من سنة تسع وستين وستمائة، على ما ذكر الشيخ أبو العباس الميورقي في تعاليقه -فيما ألفيته منقولا بخط بعض أصحابنا من خط الميورقي1، وفعلها القاضي شهاب الدين أحمد بن ظهيرة فيما بلغني، فعل ذلك في موسم سنة ست وثمانين وسبعمائة أو في سنة سبع وثمانين أو في كليهما، والله أعلم. وكان يذكر أن في موسم سنة ثماني عشرة وثمانمائة تقام هذه الشعيرة بمنى؛ فما تم ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وفي كتب أصحابنا المالكية ما يقتضي أن الخطبة بمنى تكون في اليوم الحادي عشر قبل النفر الأول، والله أعلم. وفيها -أعني سنة ثمان عشرة وثمانمائة: حج العراقيون بمحمل من بغداد على العادة، وجرى حالهم كالسنة التي قبلها، وكذلك سنة تسع عشرة وثمانمائة، وكذلك سنة عشرين وثمانمائة2. ولم يحج العراقيون من بغداد في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة3، ولعل سبب ذلك كما قيل من أن الملك شاة رخ بن تيمورلنك أخذ تبريز من قرا سنقر والد صاحب بغداد، أو الحرب الذي كان بين عسكر قرا سنقر، وعسكر حلب من بلاد الروم، وكان الظفر لعسكر حلب، وقتل ابن لقرا سنقر، قيل هو صاحب بغداد، وقيل غيره، وهو أصح، والله أعلم، وكانت هذه الحرب في أثناء سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وفيها كانت الوقعة بالجمعة اتفاقا، وكان يقال: إن الملك المؤيد صاحب مصر يحج فيها؛ فلم يتفق ذلك، ولعل سبب ذلك ما اتفق من إتيان عسكر قرا سنقر لحلب، والله أعلم. ولم يحج العراقيون بمحمل من بغداد على العادة في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ولا في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة4، ولا في سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة5. وفي آخرها هلك قرا سنقر بعد أن ثبت عند الحكام بمصر زندقته وزندقة ولد محمد شاه صاحب بغداد. وفيها قصد صاحب الشرق الملك شاه رخ بن تيمورلنك في عسكر كثير جدا لحربه.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 100. 2 درر الفرائد "ص: 320"، إتحاف الورى 3/ 535، 551. 3 السلوك 4/ 1: 478، إتحاف الورى 3/ 562. 4 درر الفرائد "ص: 221". 5 السلوك 4/ 1: 519.

ولم يحج العراقيون أيضا من بغداد في سنة أربع وعشرين وثمانمائة1، وحج فيها قفل من عقيل، وتوجه معهم من مكة جمع كثيرون من التجار؛ فنهبوا نبها فاحشا فيما بين وادي نخلة والطائف في النصف الثاني من ذي الحجة منها، ورجع كثير من المنهوبين لمكة، فألبت عليهم الخواطر، وباع الناهبون ما انتهبوا بأبخس الأثمان. ومنها: أنه في يوم الجمعة السادس عشر من شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وثمانمائة خطب بمكة للملك المظفر أحمد ابن الملك المؤيد أبي النصر شيخ، بعد مبايعته بالسلطنة وغيرها في يوم موت والده2، وقبل ذلك في حياة والده بعهد منه، ووصل منه تقليد إمرة مكة للسيد حسن بن عجلان وابنه السيد بركات3 فقرئ في الحطيم في رابع عشرة ربيع الأول4. ومنها: أنه في يوم الجمعة ثاني ذي الحجة، على مقتضى رؤية أهل مكة لهلال ذي الحجة، هو الثالث منه على مقتضى رؤية أهل مصر واليمن لهلال ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثمانمائة: خطب بمكة للملك الظاهر أبي الفتح ططر، الذي كان يدير دولة المظفر ابن الملك المؤيد، وكان قد سار به في العسكر لدمشق، ثم طلب وعاد منها لدمشق وبويع في يوم الجمعة تاسع عشر من شعبان من السنة المذكورة بالسلطنة، وخطب له بديار سنة خمس وعشرين وثمانمائة بالقاهرة، فسلطنته ثلاثة أشهر وخمسة أيام5. ومنها: أنه في سنة أربع وعشرين وثمانمائة: أقام الحجاج بمنى بقية يوم التروية، وليلة التاسع وإلى أن طلعت الشمس منه، ثم ساروا إلى عرفة مع المحمل المصري والشامي، ووقفت الناس يوم الجمعة6. ومنها: أنه في يوم الجمعة التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وثمانمائة خطب بمكة للملك الصالح أبي الخير محمد ابن الملك الظاهر أبي الفتح ططر7؛ لأن والده عهد له بالسلطنة في ثاني ذي الحجة من سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وأخذ له البيعة بالسلطنة على أهل الحل والعقد بمصر من الدولة وغيرهم،

_ 1 السلوك 4/ 2: 596، إتحاف الورى 3/ 582. 2 إتحاف الورى 3/ 580. 3 انظر ترجمته في الضوء اللامع 3/ 13، رقم 50. 4 العقد الثمين 1/ 201. 5 إتحاف الورى 3/ 581. 6 السلوك 4/ 2: 596. 7 كان قد تولي الملك في التاسع والعشرين من شعبان سنة "824هـ" بعد خلع المظفر أحمد بن المؤيد شيخ "انظر: بدائع الزهور 2/ 70".

وتمت البيعة له بعد أبيه، وله من العمر نحو عشرة أعوام -فيما قيل- وأما المظفر: فكان سنة لما بويع له بالسلطنة نحو سنتين فيما قيل، وقيل: نحو أربع سنين، والله أعلم. ومنها: أنه في يوم الجمعة الثامن عشر لجمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وثمانمائة خطب بمكة للملك الأشرف أبي النصر برسباي1 الذي كان يدير دولة الملك الصالح ابن الملك الظاهر، لتوليه السلطنة بديار مصر والشام عوض الملك الصالح، بعد خلعه في ثامن شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وقطعت الخطبة للملك الصالح بمكة2. ومنها: أنه في سنة ست وعشرين وثمانمائة بات الحجاج بمنى في ليلة التاسع إلى طلوع الفجر أو قربه، ثم ساروا إلى عرفة فبلغوها بعد طلوع الشمس بقليل، وسبب مبيتهم فيها: خوف النهب، فسلموا في ذهابهم ورجوعهم، لاعتناء الأمراء الذين حجوا في هذه السنة بحراستهم، أثابهم الله تعالى3. وهذا آخر ما قصدنا ذكره من الحوادث في هذا الباب، ونسأل الله -تعالى- أن يجزل لنا على ذلك الثواب، ولولا مراعاتنا للاختصار في ذكرها لطال شرح أمرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ 1 هو السلطان الملك الأشرف أبو النصر برسباي الدقماقي الظاهري "انظر ترجمته في: بدائع الزهور 2/ 81". 2 العقد الثمين 4/ 143. 3 العقد الثمين 4/ 146، 147، إتحاف الورى 3/ 595.

الباب التاسع والثلاثون

الباب التاسع والثلاثون: سيول مكة في الجاهلية: روينا بالسند المتدقم إلى الأزرقي قال: سيولة مكة في الجاهلية. حدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز قال: إن وادي مكة سال في الجاهلية سيلا عظيما وخزاعة تلي الكعبة، وأن ذلك السيل هجم على أهل مكة، ودخل المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، ورمي شجر بأسفل مكة، وجاء برجل وامرأة ميتين؛ فعرفت المرأة، كانت تسكن بأعلى مكة، يقال لها فارة، ولم يعرف الرجل، فبنت خزاعة حوالي البيت بناء وأدارته1 عليه، وأدخلوا الحجر فيه ليحصنوا البيت من السيل؛ فلم يزل ذلك البناء على حاله حتى بنت قريش الكعبة، فسمى ذلك السيل: سيل فارة، وسمعت أنها امرأة من بني بكر2. وبه قال الأزرقي: حدثني جدي عن سفيان عن عمرو بن دينار، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: حدثني أبي عن جده قال: جاء سيل في الجاهلية كسا ما بين الجبلين3 وبه قال الأزرقي.

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 166: "أدروه". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 166. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 103، وإسناده صحيح، ورواه الأزرقي في أخبار مكة 2/ 167.

سيول مكة في الإسلام

سيول مكة في الإسلام: قال الأزرقي: "سيول وادي مكة في الإسلام": حدثني جدي قال: وسال وادي مكة في الإسلام بأسيال عظام مشهورة عند أهل مكة؛ منها: سيل في خلافة عمر بن

الخطاب -رضي الله عنه- يقال له: سيل أم نهشل، أقبل السيل حتى دخل المسجد الحرام من الوادي ومن أعلى مكة من طريق الردم، وبين الدارين1، وكان ذلك السيل ذهب بأم نهشل بنت عبيد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس؛ حتى استخرجت منه بأسفل مكة؛ فمسي: سيل أم نهشل، واقتلع السيل المقام -مقام إبراهيم الخليل -عليه أفضل الصلاة والسلام- وذهب به حتى وجد بأسفل مكة، وعين مكانه الذي كان فيه، وأخذ فربط بلصق الكعبة بأستارها، وكتب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في ذلك فجاء فزعا، حتى رد المقام مكانه، ثم قال: فعمل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في تلك السنة الردم الذي يقال له: ردم عمر، وهو الردم الأعلى عند دار جحش بن رئاب، التي يقال لها: دار إبان بن عثمان إلى دار بيه؛ فبناه بالضفائر والصخر العظام، وكبسه، فسمعت جدي يذكر أنه لم يعله سيل منذ ردمه عمر -رضي الله عنه- إلى اليوم. وقد جاء من بعده أسيال عظام، كل ذلك لا يعلوه منها شيء2. قال الأزرقي: ذكر سيل الجحاف، وما جاء في ذلك، قال: وكان سبيل الجحاف في سنة ثمانين وفي خلافة عبد الملك بن مروان، صبح الحاج يوما، وكان يوم التروية، وهم آمنون قارون3، قد نزلوا إلى وادي مكة، واضطربوا الأبنية، ولم يكن عليهم من المطر إلا شيء يسير؛ إنما كانت السماء في صدر الوادي، وكان عليهم من ذلك رشاش4. قال الأزرقي: قال جدي: حدثني سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: لم يكن المطر عام الجحاف على مكة إلا شيئا يسيرا؛ وإنما كان شدته بأعلى الوادي، قال: فصبحبهم يوم التروية بالغبش قبل صلاة الصبح، فذهب بهم وبمتاعهم، ودخل المسجد وأحاط بالكعبة، وجاء دفعة واحدة، وهدم الدور على الشوارع وعلى الوادي، وقتل الهدم أناسا كثيرا، ورقي الناس في الجبال واعتصموا بها؛ فسمي ذلك الجحاف؛ وقال فيه عبد الله بن أبي عمار: ولم تر عيني مثل يوم الاثنين5 ... أكثر محزونا وأبكى للعين

_ 1 الدارين هما: دار أبو سفيان، ودار حنظلة بن أبي سفيان. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 167 و168، أخبار مكة للفاكهي 3/ 104، العقد الثمين 1/ 405، إتحاف الورى 2/ 7. 3 في أخبار مكة للأزرقي، وإتحاف الورى 2/ 108: "غارون" وهو تصيف. 4 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 168: "رشاس من ذلك". 5 هو اليوم الذي جاء فيه السيل، ذكر ذلك البلاذري 1/ 62.

إذ خرج المختبئات تسعين ... سواندا في الجبلين يرقين1 فكتب في ذلك إلى عبد الملك بن مروان، ففزع لذلك، وبعث بمال عظيم، وكتب إلى عامله على مكة عبد الله بن سفيان المخزومي -ويقال: بل كان عامله الحارث بن خالد المخزومي- يأمره بعمل شفائر الدور الشارعة على الوادي للناس من المال الذي بعث به، وعمل ردما على أفواه السكك تحصن بها درر الناس من السيول، وبعث رجلا "معد بن مهند" في عمل ذلك، وعمل ضفائر المسجد الحرام، وضفائر الدور في جنبتي الوادي؛ فكان من تلك الردم، الردم الذي يقال له ردم الحزامية على فوهة بخط الحزامية2، والردم الذي يقال له: ردم بني جمح، وليس لهم؛ ولكنه لبني قراد الفهريين، فغلب عليه ردم بني جمح، وله يقول الشاعر: سأملك عبرة وأفيض أخرى ... إذا جاوزت ردم بني قراد3 قال: فأمر عامله بالصخر العظام4، فنقلت له على العجل، وحفر الرباط دون دور الناس؛ فبناها به وأحكمها من المال الذي بعث به، قالوا: فكانت الخيل والثيران تجر ذلك العجل، حتى ربما أنفق في المسكن الصغير لبعض الناس مثل ثمنه مرات، ومن تلك الضفائر أشياء إلى اليوم قائمة على حالها من دار أبان بن عثمان التي هي ردم عمر -رضي الله عنه، وهلم جرا إلى دار ابن الخوار؛ فتلك الضفائر التي في رباط تلك الدور كلها، مما عمل من ذلك المال، ومن ردم بني جمح منحدرا في الشق الأيسر إلى أسفل مكة، وأشياء من ذلك المال، ومن ردم بني جمح منحدرا في الشق الأيسر إلى أسفل مكة، وأشياء من ذلك هي على حالها، وأما الضفائر دار أويس التي بأسفل مكة ببطح نحر الوادي: فقد اختلف علينا في أمرها؛ فقال بعضهم: هي من عمل عبد الملك، وقال آخرون: هي من عمل أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما، وهو أثبتهما عندنا5. وكان جاء بعد ذلك سيل يقال له سيل المخبل في سنة أربع وثمانين، وأصاب الناس عقبه مرض شديد في أجسادهم وألسنتهم، أصابهم منه شبه الخبل6، فسمي: المخبل7، وكان عظيما دخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة8.

_ 1 سواندا، وفي نسخة: شوادرا، وكذا في إتحاف الورى: شواردا في الجابين يرقين 2 خط الخزامية: يقع عند باب الوداع. 3 فتوح البلدان 1/ 62، 63. 4 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 169، إتحاف الورى 2/ 110: "بالصخر العظام". 5 أخبار مكة للأزرقي في 2/ 168، 170، إتحاف الورى 2/ 108، أخبار مكة للفاكهي 3/ 105. 6 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة للأزرقي. 7 في أخبار مكة للأزرقي: "سيل المخبل". 8 إتحاف مكة 2/ 111، أخبار مكة للأزرقي 2/ 169.

وكان بعد ذلك أيضا سيل عظيم -في سنة أربع وثمانين ومائة- وحماد البربري أمير على مكة -دخل المسجد الحرام، وذهب بالناس وأمتعتهم، وغرق الوادي في أثره في خلافة الرشيد هارون1. وجاء سيل في سنة اثنتين ومائيتين في خلافة المأمون، وعلى مكة: يزيد بن محمد بن حنظلة المخزومي، خليفة لحمدون بن علي بن عيسى بن ماهان؛ فدخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة، وكان دون الحجر الأسود بذراع، ورفع المقام عن مكانه؛ لما خيف عليه أن يذهب به السيل، وهدم دورا من دور الناس، وذهب بناس كثير، وأصاب الناس بعده مرض شديد من وباء وموت وفاش؛ فسمى ذلك السيل: سيل ابن حنظلة2. ثم جاء بعد ذلك في خلافة المأمون، هو أعظم من سيل ابن حنظلة في سنة ثمان ومائتين في شوال، جاء والناس غافلون؛ فامتلأ السد الذي بالثقبة3، فلما فاض انهدم السد، فجاء السيل الذي اجتمع فيه مع سيل السدرة، وسيل ما أقبل منى؛ فاجتمع ذلك كله، فجاء جملة، فاقتحم المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، وبلغ الحجر الأسود، ورفع المقام من مكانه لما خيف عليه أن يذهب به، فكبس المسجد الحرام والواغدي بالطين والبطحاء، وقلع صناديق الأسواق ومقاعدهم، وألقاها بأسفل مكة، وذهب بأناس كثيرين، وهدم دورا كثيرا مما أشرف على الوادي. وكان أمير مكة يومئذ: عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- وعلى بريد مكة وصوافيها: مبارك الطبري. وكان وافى تلك السنة للعمرة في شهر رمضان قوم من الحجاج من أهل خراسان وغيرهم كثير؛ فلما رأى الناس من الحجاج وأهل مكة ما في المسجد من الطين والتراب، اجتمع الناس فكانوا يعملون بأيديهم ويستأجرون من أموالهم؛ حتى كان النساء بالليل والعواتق يخرجن فينقلن التراب التماس الأجر والبركة؛ حتى رفع من المسجد الحرام ونقل ما فيه؛ فرفع ذلك إلى المأمون فأرسل بمال عظم، وأمر أن يعمر به في المسجد، ويبطح ويعزق وادي مكة، فعزق منه وادي مكة، وعمر المسجد الحرام وبطح، ثم لم يعزق وادي مكة، حتى كانت سنة سبع وثلاثين ومائتين؛ فأمرت أم أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله باثنتي عشرة ألف دينار لعزقه، فعزق بها عزقا مستوعبا4 ... انتهى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 170. 2 إتحاف الورى 2/ 279، أخبار مكة للأزرقي 2/ 170. 3 الثقبة -بالتحريك: جبل بين حراء ومكة وتحته مزارع "مراصد الاطلاع 1/ 279". 4 إتحاف الورى 2/ 282، أخبار مكة للأزرقي 2/ 271، أخبار مكة للفاكهي 3/ 109.

هذا ما ذكر الأزرقي من سيول وادي مكة في الجاهلية والإسلام1. وذكر الفاكهي2 السيول الذي ذكرها الأزرقي أخصر مما ذكره، وذكر أن في ذلك غير ما لم يذكره الأزرقي؛ لأنه ذكر أن السيل الذي يقال له "المخبل": كان في ولاية حماد البربري على مكة، وهذا لا يفهم من كلام الأزرقي. وذكر أن السيل الذي يقال له "سيل ابن حنظلة" كان عظيما امتلأ به الوادي وعلاه قيد رمح، وهذا أيضا لا يفهم من كلام الأزرقي. ونقل الفاكهي هذا عن ابن إسحاق عن ابن عباس. ومن أمطار مكة وسيولها التي كانت قبل الأزرقي ولم يذكرها، ما ذكره ابن جرير الطبري في تاريخه؛ لأن فيه: أخبار سنة ثمان وثمانين من الهجرة: وعن صالح بن كيسان قال: خرج عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- تلك السنة -يعني سنة ثمان وثمانين- ومعه نفر من قريش3 أرسل إليهم بصلات، وظهر للحمولة، وأحرموا معه من ذي الحليفة، وساق معه بدنا؛ فما كان بالشفير4 لقيهم نفر من قريش، منهم ابن أبي مليكة وغيره؛ فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش؛ وذلك أن المطر قل، فقال عمر -رضي الله عنه: فالمطلب هاهنا: تعالوا ندع الله -تعالى- قال: فرأيتهم دعوا، ودعا معهم عمر -رضي الله عنه؛ فألحوا في الدعاء، قال صالح: فلا والله إنا وصلنا إلى البيت ذلك اليوم إلا مع المطر، حتى كان مع الليل، وسكبت السماء، وجاء سيل الوادي؛ فجاء أمر، فخافه أهل مكة، ومطرت عرفة، ومنى، وجمع، فما كانت إلا عبرا5. قال: وكانت مكة تلك السنة مخصبة6 ... انتهى. وذكر ابن الأثير هذا بالمعنى مختصرا، وفيه: أنهم لقوا عمر -رضي الله عنه- بالتنعيم، ولعل الشفير الذي وقع فيما نقلناه من تاريخ ابن جرير تصحيف من الكاتب، والله -تعالى- أعلم7. ومنها: "سيل أبي شاكر" في ولاية هشام بن عبد الملك في سنة عشرين ومائة، وأبو شاكر المنسوب إليه هذا السيل هو: سلمة بن هشام بن عبد الملك. ولم يبين الفاكهي سبب تسمية هذا السيل بأبي شاكر؛ وذلك لأن أبا شاكر حج بالناس سنة تسع

_ 1 ذكر الأزرقي في مواضع متفرقة من كتابه عدة سيول أخرى منها: سيل وقع سنة "225هـ"، وآخر عام "240 هـ". 2 أخبار مكة الفاكهي 3/ 108. 3 عند الطبري 6/ 437: "بعده من قريش". 4 عند الطبري 6/ 437: "بالتنعيم". 5 العبر: الكثير من الشيء والسحاب السريع. 6 تاريخ الطبري 6/ 437 و438. 7 الكامل لابن الأثير 4/ 534، إتحاف الورى 2/ 113.

عشرة ومائة -على ما ذكر العتيقي وغيره- وجاء هذا السيل عقيب حج أبي شاكر؛ فسمي به، والله أعلم1. ومنها: سيل الأميري في خلافة المهدي العباسي سنة ستين ومائة، وكان هذا السيل ليومين بقيا من المحرم، وذكر هذين السيلين الفاكهي بمعنى ما ذكرناه2 والله سبحانه وتعالى أعلم. ومن أمطار مكة وسيولها في عصر الأزرقي أو بعده بقليل: سيل كان في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ودخل المسجد الحرام، وأحاط بالكعبة، وبلغ قريبا من الركن الأسود، ورمى بالدور بأسفل مكة، وذهب بأمتعة الناس وخرب منازلهم، وملأ المسجد الحرام حتى جر ما في المسجد من التراب بالعجل3. ومنها: في سنة اثنتين وستين ومائتين جاء سيل عظيم، ذهب بحصباء المسجد الحرام حتى عري منها4. ومنها: سيل في سنة ثلاث وستين ومائتين؛ وذلك أن مكة مطرت مطرا شديدا، حتى سال الوادي، ودخل السيل من أبواب المسجد، فامتلأ المسجد، ونبع الماء قريبا من الحجر الأسود، ورفع المقام من موضعه، وأدخل في الكعبة للخوف عليه من السيل5، ذكر هذه السيول الفاكهي بهذا اللفظ، غير قليل منه فبالمعنى. ومن أمطار مكة وسيولها بعد الأزرقي، ما ذكره إسحاق بن أحمد الخزاعي، راوي تاريخ الأزرقي، وأدخله فيه عقيب الخبر الذي فيه: أنه يأتي على زمزم زمان يكون أعذب من النيل والفرات؛ لأنه قال: وقد رأينا ذلك في سنة إحدى وثمانين ومائتين؛ وذلك أنه أصاب مكة أمطار كثيرة، وسال واديها بأسيال عظام في سنة تسع وسبعين، وسنة ثمانين ومائتين، فكثر ماء زمزم، وارتفع حتى كان قارب رأسها؛ فلم يكن بينه وبين شفتها العليا إلا سبع أذرع أو نحوها، وما رأيتها قط كذلك، ولا سمعت من يذكر أنه رآها كذلك، وعذبت جدا حتى كان ماؤها أعذب من مياه مكة التي يشربها أهلها6 ... انتهى. ومنها: ما ذكره المسعودي في تاريخه في أخبار سنة سبع وتسعين ومائتين، ونص كلامه: ورد الخبر إلى مدينة السلام بأن أركان البيت الحرام غرقت حتى جرى

_ 1 إتحاف الورى 2/ 153، أخبار مكة للأزرقي 2/ 311، أخبار مكة للفاكهي 3/ 170. 2 إتحاف الورى 2/ 203، العقد الثمين 1/ 206، أخبار مكة للفاكهي 3/ 108. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 311 ملحق سيول مكة رقم 216، إتحاف الورى 2/ 331، درر الفرائد "ص: 230"، أخبار مكة للفاكهي 3/ 113. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 312، إتحاف الورى 2/ 238. 5 إتحاف الورى 2/ 339. 6 إتحاف الورى 2/ 347، 348.

الغرق في الطواف، وفاضت بئر زمزم، وأن ذلك لم يعهد فيما سلف من الزمان1 ... انتهى. ومنها: أنه في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وقع بمكة مطر سبعة أيام، وسقطت منه الدور، وقد تضرر الناس من ذلك كثيرا2. ومنها على ما وجدت بخط الشيخ جمال الدين محمد بن أحمد بن البرهان الطبري: أنه في سنة تسع وأربعين وخمسمائة وقع بمكة مطر سال منه وادي إبراهيم، ونزل مع الماء برد بقدر البيض، وزن بميزان أخي زهير مائة درهم. ومنها على ما وجدت بخطه: أنه في سنة تسع وستين وخمسمائة وقع بمكة مطر وجاء سيل كبير إلى أن دخل من باب بني شيبة ودخل دار الإمارة ولم ير سيل قط قبله دخل دار الإمارة ... انتهى. ومنها على ما وجدت بخطه: أنه في سنة تسع وسبعين وخمسمائة كثرت الأمطار والسيول بمكة، وسال وادي إبراهيم خمس مرات. ومنها على ما وجدت بخطه: أنه في سنة تسع وستين وخمسمائة جاء سيل عظيم في يوم الاثنين الثامن من صفر ودخل الكعبة وأخذ ضرفتي3 باب إبراهيم، وحمل منابر الخطبة ودرجة الكعبة، ووصل الماء إلى فوق القناديل التي في وسط المسجد بكثير4 ... انتهى. ورأيت في نسخة في تاريخ الأزرقي في حاشية صورتها: جاء أسيل في يوم الاثنين لثمان خلون من صفر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، هدم دورا على حافتي وادي مكة ودخل المسجد الحرام وعلا الحجر الأسود، ذراعين، ودخل الكعبة فبلغ قريبا من الذراع، وأخذ ضرفتي باب إبراهيم، وسال بهما ... انتهى. وفي هذا زيادة على ما ذكر ابن البرهام؛ كون السيل بلغ في الكعبة قريبا من ذراع، وكونه أخذ ضرفتي باب إبراهيم، وكونه هدم دورا على جانبي وادي مكة. ومنها: سيل على رأس العشرين وستمائة؛ ذكر ذلك ابن مسدي في "معجم شيوخه"؛ لكون هذا السيل أذهب إثبات بعض شيوخه، وذكر أنه طم بمكة5.

_ 1 مروج الذهب 4/ 307. 2 إتحاف الورى 2/ 504، العقد الثمين 7/ 446. 3 الضرفة بالعامية المصرية: شق الباب حين يكون مقسما إلى قسمين، وبالشامية: درفة. 4 إتحاف الورى 2/ 563، العقد الثمين 1/ 207. 5 إتحاف الورى 3/ 37، العقد الثمين 1/ 207.

ومنها على ما وجدت بخط الشيخ أبي العباس الميورقي: أنه في منتصف ذي القعدة عام عشرين وستمائة أتى سيل عظيم قارب دخول بيت الله الحرام، ولم يدخله ... انتهى. ولعله السيل الذي ذكره ابن مسدي، والله أعلم. ومنها على ما وجدت بخطه: سيل في سنة إحدى وخمسين وستمائة. ومنها على ما وجدت بخطه -أيضا: أنه في ليلة نصف شعبان سنة تسع وستين وستمائة أتى سيل لم يسمع بمثله في هذه الإعصار، بأثر سيل في أول يوم الجمعة، يعني رابع عشر شعبان هذه السنة، ودخل البيت الله الحرام -شرفه الله تعالى- وألقى كل زبالة في المعلاة في الحرم -قدسه الله تعالى- قال لي الشيخ عبد الله بن محمد ابن الشيخ أبي العباس أحمد التونسي المعروف بالأعمى: لم يكن ليلة النصف من شعبان بالحرم أحد إلا أن الحرم بقي كالبحر، يموج منبره فيه، وما سمعت تلك الليلة مؤذنا؛ لأنه بقي الناس من خوف الهدم والغرق في أمر عظيم، حتى خشي أنه ينسى كثير من الناس الفرض؛ فكيف بصلاة ليلة النصف من شعبان المكرمة، قال: وتوهمت أنا أنه طرد لأهل مكة عن بيته؛ لأنهم كانوا قد استعدوا على العادة لصلاة نصف شعبان، وأخرجوا من صلاة الجمعة، فأتمها الإمام، ولم ير تلك الليلة طائف إلا ما سمع في السحر برجل يطوف بالعوم. فتعجب الناس من قوته وجسارته، قال القلعي: إن الحجر الأسود لا يستطاع إلا لمن كان عواما غطاسا، وقال الفقيه يعقوب القاضي: حمل سيل مكة عالما عظيما، وطاحت الدور على عالم أيضا1 ... انتهى. ومنها: سيل عظيم في ليلة الأربعاء سادس عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وسبعمائة؛ ذكره قاضي مكة شهاب الدين الطبري في كتاب كتبه لبعض أصحابه بعد الحج في هذه السنة، ونص المكتوب في الكتاب فيما يتعلق بهذا السيل: وجاء الناس سيل عظيم بلا مطر ليلة الأربعاء سادس عشر من ذي الحجة ملأ الفساقي التي عند المعلاة، وعند مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرب البساتين، وملأ الحرم، وأقام الماء فيه يومين، والعمل مستمر فيه يلزم الناس شغل مدة كثيرة2 ... انتهى. ومنها على ما ذكر البرزالي في "تاريخه": أن في آخر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وقع بمكة أمطار وصواعق، ووقعت صاعقة أبي قبيس فقتلت رجلا، ووقع في مسجد الخيف صاعقة فقتلت آخر، ووقع في الجعرانة صاعقة فقتلت رجلين3 ... انتهى.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 100، درر الفرائد "ص: 283"، العقد الثمين 1/ 207. 2 إتحاف الورى 3/ 193. 3 إتحاف الورى 3/ 200، درر الفرائد "ص: 305".

ومن أخبار الصواعق: صاعقة وقعت بمكة قبل سنة سبعمائة وبعد التسعين -بتقديم التاء- وستمائة هلك بها بعض مؤذني الحرم. ومنها: صاعقة وقعت في المسجد الحرام، فقتلت خمسة نفر؛ وذلك في سنة أربع وخمسين ومائة. ذكر ذلك الواقدي فيما حكاه الذهبي عنه1. ومنها على ما وجدت بخط ابن البرهان: أنه في ليلة الخميس العاشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة دخل سيل عظيم إلى المسجد الحرام، وبلغ في الكعبة شبرا وأربع أصابع ... انتهى. وقد ذكر هذا السيل ابن محفوظ في تاريخه؛ فقال: وفي تلك السنة يعني سنة ثمان وثلاثين جاء سيل وادي إبراهيم؛ حتى أنه دخل الحرم، فطلع في وسط الكعبة قدر ذراع، وبلغ الماء إلى القناديل التي بالأورقة، وبقيت المنابر منابر الخطبة ودرجة الكعبة كأنهم ترابا عظيما، وقعد الناس في تقويمه مدة ... انتهى. ورأيته مذكورا بأبسط من هذا في ورقة لا أعرف كاتبها، فرأيت أن أذكر ذلك أما فيه من الفائدة، ونص مكتوب: ولما كان عام ثمانين وثلاثين وسبعمائة -أحسن الله تقضية وعقباه- ليلة الخميس عاشر جمادى الأولى منه، الموافق خامس كانون الأول، قدر الله تعالى غيما، وردعوا مزعجة، وبروقا مخيفة، ومطر وابل كأفواه القرب على الملأ من علو، ثم وقعت السيول من كل جهة، وكان وبل بمكة -شرفها الله تعالى وحماها، وكان معظم السيل من جهة البطحاء؛ فدخل الحرم الشريف من جميع الأبواب التي تليه: من باب بني شيبة إلى باب إبراهيم، وحفر في الأبواب، وجعل حول الأعمدة في طريقه مقدار قامتين وأكثر ولو لم تكن أساسات الأعمدة محكمة لكان رمى بها وقلع من أبواب الحرم أماكن، وطاف بها الماء؛ فطاف بالمنابر كل واحدة إلى جهة، وبلغ عند الكعبة المعظمة قامة ووصل إلى قناديل من خلل الباب، وعلا الماء فوق عتبتها أكثر من نصف ذراع بل شبرين، ووصل إلى قناديل المطاف، وعبر في بعضها من فوقها فطفأه، وغرق بعض المجاورات من النساء اللواتي في المصاطب، وخرب بيوتا كثيرة، وغرق بعض أهلها، وبعضهم مات تحت الردم، وكان أمرا مهولا قدرة قادرة يقول للشيء كن فيكون -سبحانه وتعالى- ولو دام ذلك النوء إلى الصباح لكانت عرفت مكة، والعياذ بالله، وذكره أيضا: الشيخ عماد الدين بن كثير في "تاريخه" بما يقضي تعظيمه2.

_ 1 تاريخ الإسلام 6/ 106. 2 إتحاف الورى 3/ 212، ويعرف هذا السيل بسيل القناديل.

ولم يجئ مكة -فيما علمت- بعد هذا السيل سيل على نحو هذه الصفة؛ إلا سيل كان بمكة في سنة اثنتين وثمانمائة؛ وذلك أنه في آخر اليوم الثامن من جمادى الأول من هذه السنة، نشأت مخايل، واستهلت بالغيث ساعة بعد ساعة، وكان الحال هكذا في اليوم التاسع من هذا الشهر، وفي آخره اشتد استهلال الغيث، واستمر الحال على ذلك إلى بعد المغرب من ليلة الخميس عاشر الشهر المذكور؛ فصار المطر يصب كأفواه القرب، وما شعر الناس إلا سيل وادي إبراهيم قد هجم مكة؛ فلما حاذى وادي أجياد خالطه السيل الذي جاء منه، وصار ذلك بحرا زاخرا، فدخل السيل المسجد الحرام من غالب أبوابه، وعمه كله، وكان عمقه في المسجد خمسة أذرع، على ما ذكر لي بعض أصحابنا في كتابه؛ لأني كنت غائبا عن مكة في الرحلة الثانية منها. وذكر لي بعض مشايخنا أن عمقه في جهة باب إبراهيم فوق قامة وبسطة، وأنه علا على عتبة باب الكعبة المعظمة قدر ذراع أو أكثر فيما قيل، ودخلها السيل من شق بابها الشريف، واحتمل درجة الكعبة المعظمة قدر ذراع أو أكثر فيما قيل، ودخلها السيل من شق بابها الشريف، واحتمل درجة الكعبة المعظمة فألقاها عند باب إبراهيم، ولولا صد بعض العواميد لها لحملها إلى حيث ينتهي، وأخرب عمودين في المسجد الحرام عند باب العجلة، بما عليهما من العقود والسقف، ولولا ما لطف الله به من تصرفه من المسجد سريعا لأخرب المسجد؛ لأنه كان يقد الأرض قدا، وأخرب دورا كثيرة بمكة، وسقط بعضها على سكانها فماتوا، وجملة من استشهد بسببه -على ما قيل- نحو ستين نفرا، وأفسد للناس من الأمتعة شيئا كثيرا، وأفسد في المسجد مصاحف كثيرة، ولما أصبح الناس نادى لهم المؤذن لصلاة الصبح بالصلاة في بيوتهم؛ للمشقة العظيمة في المشي في الطرقات إلى المسجد الحرام؛ لأجل الوحل والطين، وامتلأ المسجد بذلك أيضا، وكذلك صنع المؤذن لصلاة الصبح يوم الجمعة، ولم يخطب الخطيب يوم الجمعة إلا في الجانب الشمالي من المسجد الحرام، لعدم تمكنه من الخطبة في الموضع الذي جرت العادة بخطبته فيه، وهو الركن الشامي لما في هذا الموضع من الوحل والطين. وبلغني أن ناسا مكثوا يومين لا يتمكنون من الطواف لأجل ذلك إلا بمشقة، وبالجملة فكان سيلا مهولا، فسبحان الفعال لما يريد1. ومن سيول مكة المهولة بعد هذا السيل: سيل يدانيه؛ لدخول المسجد الحرام، وارتفاعه فيه فوق الحجر الأسود حتى بلغ عتبة باب الكعبة الشريفة، وألقى درجتها عند منارة باب الحزورة، وكان هجم هذا السيل على المسجد الحرام عقيب صلاة الصبح، من يوم السبت سابع وعشرين من ذي الحجة سنة خمس وعشرين وثمانمائة، وكان المطر وقع بقوة عظيمة في آخر هذه الليلة؛ فلما كان وقت صلاة الصبح، صلى الإمام الشافعي

_ 1 إتحاف الورى 3/ 419، العقد الثمين 1/ 208.

بالناس أمام زيادة دار الندوة بالجانب الشامي من المسجد الحرام؛ لتعذر الصلاة عليه بمقام إبراهيم وما يليه هناك؛ فلما انقضت صلاته للصبح حمل الفراش الشمع ليوصله إلى القبة المعدة لذلك، بين سقاية العباس، وقبة زمزم؛ فإذا الماء في صحن المسجد يعلوه قليلا قليلا، ولم يتمكن من إيصال الشمع للقبة إلا بعسر، وكان بعض أهل السقاية بها؛ فدخل عليه الماء من بابها، ثم زاد فرقى على دكة هناك، ثم زاد فرقى على صندوق وضعه فوق الدكة، فبلغه الماء، فخاف وخرج من السقاية فارا إلى صوب الصفا، وما نجا إلا بجهد، وكان السيل قد دخل المسجد الحرام، وقل أن يعهد دخول الماء منه، وصار المسجد مغمورا بالماء الكثير المرتفع نحو القامة، وكان به خشب كالصندوق الكبير ليس له رأس يستره، كان فوق بعض الأساطين التي أزيلت في هذه السنة لعمارتها؛ فأخذه بعض الناس وركب فيه، وصار يقذف به، حتى أخرج به من السيل الجديد عند زمزم شخصا كان بالسيل متعلقا ببعض شبابيك السبيل خوفا من الغرق، لما دخل الماء السبيل، ووصلا فيه للمحل الذي أرادا، وفعل مثل ذلك بغير واحد، وما خرج السيل من المسجد حتى هدمت عتبة باب إبراهيم لعلوها، وألقى السيل في المسجد لأجله، وأفسد الناس أشياء كثيرة من المتاجر في الدرر التي بمسيل وادي مكة بناحية سوق الليل والصفا، والمسفلة، وما مات فيه أحد فيما علمناه ولكن مات في هذه الليلة أربعة نفر بمكان يقال له: "الطنبداوية" بأسفل مكة، بصاعقة وقعت عليهم هناك؛ فسبحان الفعال لما يريد. ومما تخرب بهذا السيل: موضع الدرب الجديد بسور باب المعلاة وألقاه للأرض، وما بين هذا الباب والباب القديم، وذلك ثمانية وعشرون ذرعا1. ومنها: سيل يقارب هذا السيل، دخل المسجد الحرام من أبوابه التي بالجانب اليماني، وقارب الحجر الأسود؛ زاده الله شرفا، وألقى بالمسجد من الأوساخ والزبل شيئا كثيرا، وذلك بعد المغرب من ليلة ثالث جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، عقيب مطر عظيم، وكان ابتداؤه بعد العصر من ثاني الشهر المذكور، وأخرب هذا السيل باب الماجن، وجانبًا كبيرًا من سورة، ثم عمر ذلك، والله أعلم2. ولا شك أن الأخبار في هذا المعنى كثيرة، ولكن لم نظفر منها إلا بهذه النبذة اليسيرة.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 588. 2 إتحاف الورى 3/ 607، السلوك للمقريزي: 4/ 2: 663، العقد الثمين 1/ 208.

ذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة على ترتيب ذلك في السنين

ذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة على ترتيب ذلك في السنين: فمن ذلك: أنه في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وقع بمكة غلاء، وأصاب الناس مجاعة شديدة، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد الذرة بعشرين درهما؛ ذكر ذلك صاحب الكامل1 ولم يبين مقدار المد، والله أعلم بذلك. ومن ذلك: أنه في سنة إحدى وخمسين ومائتين بلغ الخبز بمكة ثلاث أواق برهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء بثلاثة دراهم؛ ذكر ذلك صاحب الكامل أيضا2. ومن ذلك: أنه في سنة ستين ومائتين -على ما قال صاحب "الكامل" أيضا- اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام، فانجلى من أهل مكة الكثير، ورحل عنه عاملها3. ومن ذلك: أنه في سنة ست وستين ومائتين -على ما قال صاحب "الكامل" أيضا- عم الغلاء سائر بلاد الإسلام من الحجاز، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، وغير ذلك؛ إلا أنه لم يبلغ الشدة التي بالمدينة4. ومن ذلك: أنه في سنة ثمان وستين ومائتين -على ما قال صاحب "الكامل" أيضا- صار الخبز بمكة أوقيتين بدرهم، وذكر أن سبب ذلك أن أبا المغيرة المخزومي صار إلى مكة؛ فجمع عاملها جمعا احتمى بهم، فصار أبو المغيرة إلى المشاش -عين مكة- فغورها، وإلى جدة فنهب الطعام وأحرق بيوت أهلها، ثم ذكر ما سبق من سعر الخبز5. ومن ذلك: أنه في سنة أربعين وأربعمائة -على ما ذكر صاحب "الكامل"- كان الغلاء والوباء عاما في جميع البلاد، بمكة، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، ومصر، وغيرها من البلاد6. ومن ذلك: أنه في سنة سبع وأربعين وأربعمائة -على ما قال صاحب "الكامل" أيضا- كان بمكة غلاء شديد، بلغ الخبز عشرة أرطال بدينار مغربي، ثم تعذر وجوده،

_ 1 الكامل لابن الأثير 4/ 352، إتحاف الورى 2/ 91. 2 الكامل لابن الأثير 7/ 166، إتحاف الورى 2/ 330. 3 الكامل لابن الأثير 7/ 272، إتحاف الورى 2/ 336، وكان عامل مكة: إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الهاشمي المعروف ببرية. 4 الكامل لابن الأثير 7/ 336، إتحاف الورى 2/ 341. 5 الكامل لابن الأثير 7/ 372، إتحاف الورى 2/ 342. 6 الكامل لابن الأثير 8/ 552، إتحاف الورى 2/ 412.

فأشرف الناس والحجاج على الهلاك؛ فأرسل الله -عز وجل- عليهم من الجراد ما ملأ الأرض فتعوض الناس به، ثم عاد الحجاج فسهل الأمر على أهل مكة، قال: وكان سبب هذا الغلاء عدم زيادة النيل بمصر -على العادة- فلم يحمل منها الطعام إلى مكة1 ... انتهى. ومن ذلك: أنه في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة -على ما ذكر صاحب "الكامل"- عم الوباء والغلاء سائر البلدان من الشام، والجزيرة، والموصل، والحجاز، واليمن، وغيرها2. ومن ذلك: أنه في سنة سبع وستين وخمسمائة -على ما وجدت بخط جمال الدين بن البرهان الطبري- بلغ الحب بمكة خمسة أمداد بدينار، ولم يجئ مير، لا في رجل، ولا في شعبان، إلى أن وصلت جلبتان صدقة مشحونتان من عند صلاح الدين -رحمه الله- فأحيت المسلمين وفرجت عنهم3 ... انتهى. وما عرفت مقدار المد المشار إليه، هل هو مد الطائف، أو مد أهل بجيلة وما والاها، الذي يقال له الزبيدي، وهو الأقرب، لأنه مد المير المشار إليهم، وهم الجالبون للميرة إلى مكة، والله أعلم. ومقدار هذا المد: ربعية، وهي ربع الربع المكي الذي يكتال الناس به بمكة الآن، ويبعد كل البعد أن يكون المد المشار إليه في هذه الحادثة -وفيما يذكر من الحوادث- المد المكي لكثرته ويسارة الثمن عنه؛ إلا أن يكون المشار إليه ذهبا، وهو بعيد، والله أعلم. ومن ذلك: أنه في سبع تسع وستين وخمسمائة -على ما وجدت بخط ابن البرهان أيضا- بلغ الحب فيها صاعا بدينار، وصاعا إلا ربع، وأكل الناس الدم والجلود والعظام، ومات أكثر الناس؛ فلما كان الثامن والعشرون من جماد الآخرة، وجه الخليفة المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين بالصدقات لأهل مكة والمجاورين، وفرج عنهم، فرج الله عنه. ثم قال بعد أن ذكر المطر الذي كان بمكة في هذه السنة -وقد تقدم ذكره: وجاء شهر رجب الميرة، وابتاعوا الحب ثلاثة أصوع ومدين بدينار4 ... انتهى.

_ 1 الكامل لابن الأثير 9/ 614، إتحاف الورى 2/ 464، در الفرائد "ص: 254". 2 الكامل لابن الأثير 9/ 631، إتحاف الورى 2/ 464، البداية والنهاية 12/ 68، در الفرائد "ص255". 3 إتحاف الورى 2/ 533. 4 إتحاف الورى 2/ 534، در الفرائد "ص: 263".

والصاع هو الزبيدي -فيما أحسب- وهو ربع المد المكي. أو صاع طائفي؛ وهو نحو نصف المد المكي، وفيه بعد، وليس هو الصاع المكي بلا ريب؛ لكثرته ويسارة الثمن، والله أعلم. ومن ذلك: أنه على رأس سنة ستمائة، كان بمكة غلاء شديد ووباء، ذكر ذلك الشيخ أبو العباس الميورقي؛ لأني وجدت بخطه: أن القاضي عثمان بن عبد الواحد العسقلاني المكي، أخبره أنه ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة، قال: وهذا تاريخ غلاء مصر الكبير، بقي نحو سنتين، ثم كان بأثره غلاء الحجاز المعروف بحوطته نحو سنتين، ثم أمطر الله البلاد؛ فوقع وباء الميلة سنين أيضا على رأس الستمائة ... انتهى. ومن ذلك: أنه في سنة ثلاثين وستمائة، أو في التي بعدها كان بمكة غلاء يقال له: "غلاء ابن مجلى"؛ لأن الميورقي قال -فيما وجدت بخطه، بعد أن ذكر فتنة كانت بمكة في سنة تسع وعشرين وستمائة: ثم جاء غلاء ابن مجلى بأثر ذلك ... انتهى، ولم يبين الميورقي ابن مجلى هذا، وهو أمير كان بمكة من جهة الملك الكامل. ومن ذلك على ما قال ابن محفوظ: في سنة تسع وأربعين وستمائة: وقع بمكة غلاء عظيم، وأقام الغلاء سنة1 ... انتهى. ومن ذلك: أنه في عشر السبعين وستمائة، كان بمكة غلاء شديد، ذكر الميورقي؛ لأني وجد بخطه: فاشتد العلاء من آخر سنة ثلاث في الموسم، واستمر سنة أربع وستين، وتمادى إلى سنة خمس وستين ما لم يسمع بمثله في هذا العصر قط. قال: وسمعت علي بن الحسين يتذاكر مع مسعود بن جميل؛ فقالا: إن سنة الغلاء الكبير بالحجاز المعروفة بسنة حوطة، ما دامت، وذكر أن فوقها كان الميلة بالطائف والحجاز، على رأس الستمائة؛ فوجدت الغلاء الكبير؛ فلما فرغ كانت حوطة، وذكر لفي في هذا الغلاء سنة أربع وستين شيخ مصري أن هذا الغلاء اليوم في الحجاز مضاعف على الغلاء الذي الكبير الذي كان بمصر على قرب رأس الستمائة، أباد عالما من المصريين، وأكلوا فيه بعضهم بعضا. وكان يعجب من صبر أهل الحجاز، وعدم افتضاحهم وكثرة مروءتهم في هذه الشدة، فصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الإيمان في أهل الحجاز". ووجدت بخطه: وفي أواخر جمادى الآخرة سنة خمس وستين وستمائة في شهر تماز لطلوع الفجر بالفزع اشتد الخوف على البادية لتمام قحط السنين عليهم، وغلاء السعر بالطائف، وبلغ السعر في مكة: الشعير: ربع وثلثيه بدينار، وكان في رمضان.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 70، السلوك للمقريزي 1/ 2: 382.

وبخطه أيضا: الغلاء الدائم بالحجاز سنة ست وستين وستمائة. ووجدت بخطه: سنة سبع وستين وستمائة: رابع سنة من سنين جدب قحط الحجاز، وذكر حادثة في هذه السنة. ووجدت بخطه: وقعت زلزلة على نحو ثلث الليل بالطائف، وبغتهم غرة ربيع الأول سنة خامس قحط الحجاز سنة ثمان وستين وستمائة، ثم جاءت الميرة سنة تسع وستين في ليلة، وسنة سبعين. ومن ذلك: أنه في إحدى وسبعين وستمائة، كان بمكة فناء عظيم. قال الميورقي: وسمعت الفقيه جمال الدين محمد بن أبي بكر التونسي إمام بني عوف يقول: في آخر رجب سنة إحدى وسبعين وستمائة قال الزوار: خرج من مكة -شرفها الله تعالى- في يوم واحد اثنان وعشرون جنازة، وفي يوم خمسون جنازة، وعد أهل مكة ما بين العمرتين من أول رجب إلى سبع وعشرين من رجب نحو ألف جنازة1. ومن ذلك: أنه في سنة ست وسبعين وستمائة، كان الغلاء بمكة مستمرا2؛ لأجل الفتنة التي كانت بين صاحب مكة وصاحب المدينة، مع اتصال الجلاب من سواحل اليمن وعيذاب وسواكن؛ ذكر ذلك: زيد بن هاشم الحسني وزير المدينة النبوية في كتاب كتبه للميورقي، على ما وجدت بخطه فيه. ومن ذلك: أنه في سنة إحدى وتسعين وستمائة، على ما وجدت بخط ابن محفوظ: وكانت الحنطة ربعا بدينار ... انتهى. والربع المشار إليه هو الربع المد المكي في غالب الظن، والله أعلم3. ومن ذلك: أنه في سنة خمس وتسعين وستمائة -على ما وجدت بخط ابن الجزري الدمشقي في "تاريخه"- وصلت الأخبار بأن الغلاء كان بمكة والحجاز، وأن غرارة القمح بيعت بألف ومائتين درهما ... انتهى بالمعنى باختصار. ولم يبين ابن الجزري الغرارة المشارة إليها، ويحتمل أن تكون الغرارة الشامية، ومقدارها، غرارتان مكيتان، ونحو نصف غرارة، ويحتمل أن تكون الغرارة المكية، والأول أقرب، والله أعلم4.

_ 1 در الفرائد "ص: 284"، وإتحاف الورى 3/ 102. 2 إتحاف الورى 3/ 108. 3 إتحاف الورى 3/ 102، ودر الفرائد "ص: 287". 4 إتحاف الورى 3/ 128، والسلوك للمقريزي 1/ 3: 815.

ومن ذلك: أنه في سنة سبع وسبعمائة -على ما قال البرزالي في تاريخه: كان في وسط هذه السنة بمكة غلاء شديد بيعت غرارة الحنطة بألف وخمسمائة درهم، والذرة بأكثر من تسعمائة، وكان سبب الغلاء أن صاحب اليمن الملك المؤيد قطع الميرة عن مكة، لما بينه وبين صاحب مكة حميضة1 وميثة2 ابني أبي نمي، ولم يزل الحال شديدا إلى أن وصل الركب الرجبي؛ فنزل السعر، ثم ورد من اليمن السبلات بعد منعها، فعاش الناس، وكان وصول الركب الرجبي مكة في رمضان، وتوجهوا من القاهرة في سابع عشر من رجب، فكان فيه فوق ألفي جمل وراحلة، وكان الماء في هذه السنة يسيرا يحمل إليها من بطن مر، ومن أبي عروة وغيره، وسبب ذلك: قلة المطر بمكة سنين متوالية ... انتهى بالمعنى. والغرارة المشار إليها هي الغرارة الشامية في غالب ظني، والله أعلم3. ومن ذلك: أنه في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة -على ما قال البرزالي في "تاريخه": اشتد الغلاء بالحجاز وبمكة وما حولها؛ فبلغ القمح الأردب المصري مائتين وأربعين درهما، وأما التمر فعدم بالكلية، والأسمان تلاشت؛ حتى قيل إن السمن بلغت منهم كل أوقية خمسة دراهم، واللحم كذلك، المن بخمسه دراهم ... انتهى بالمعنى4. والوقية المشار إليها هي في غالب ظني الوقية المكية، ومقدارها رطلان مصريان ونصف رطل، ويقال: رطلان وثلث، والأول هو الذي عليه عمل الناس اليوم، والمن المشار إليه سبعة أرطال مصرية إلا ثلث، ويحتمل أن يكون المراد بالوقية الوقية الشامية، وهي خمسون درهما وفيه بعد، والله أعلم. والرطل المصري مائة وأربعة وأربعون درهما. ومن ذلك: أنه في سنة خمس وعشرين وسبعمائة بيع القمح الأردب في جدة ساحل مكة، بمبلغ ثمانية عشر وسبعة عشر درهما كاملية، والشعير بمبلغ اثني عشر، نقلت ذلك من خط ابن الجزري في "تاريخه"، وذكر أن المحدث شهاب الدين المعروف بابن القدسية أخبره بذلك، لما عاد من مجاورته بمكة في هذه السنة5. ومنها: أنه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة -على ما قال البرزالي في "تاريخه" نقلا عن كتاب عفيف الدين المطري- كانت مكة في غاية الطيبة والأمن والرخاء، القمح

_ 1 الدر الكامنة 2/ 78-81 ترجمة رقم 1627. 2 الدر الكامنة 2/ 111-112 ترجمة رقم 1728. 3 إتحاف الورى 3/ 144. 4 إتحاف الورى 3/ 173، ودرر الفرائد "ص: 299، 300"، والسلوك للمقريزي "2/ 1: 238". 5 إتحاف الورى 3/ 180.

الأردب بأربعين درهما، والدقيق بثمانية، واللحم كل من بأربعة دراهم مسعودية، والعسل الهاجر المليح كل من بدرهمين، والسمن الوقية بثلاثة دراهم، والجبن كل من بدرهمين، وبها من الخير، وكثرة المجاورين ما لا يسمع بمثله ... انتهى1. والمن المشار إليه هنا في العسل والجبن ثلاثة أرطال مصرية. ومن ذلك: أنه في سبع وأربعين وسبعمائة، على ما قال ابن محفوظ، حصل على الناس غلاء عظيم في أيام الموسم والحج، ابتيعت الغرارة الذرة بمائة وأربعين، والحنطة بمائة وسبعين، والتمر بثلاثة دراهم المن، والملح سدسية بدرهم كاملي، ثم قال: ودام الغلاء في الناس شهرين بعد الحج2 ... انتهى. ومن التمر المشار إليه، هو ثلاثة أرطال مصرية. ومن ذلك: أنه في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة -على ما قال ابن محفوظ- وقع الغلاء في الموسم، ولم يبين ابن محفوظ مقدار هذا الغلاء، والله -سبحانه وتعالى- أعلم بحقيقة ذلك3. ومن ذلك: أنه في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، كان الوباء الكبير بمكة وغيرها، وسائر الأقطار، وعظم أمره بديار مصر4. ومن ذلك: أنه في سنة تسع وخمسين وسبعمائة -على ما قال ابن محفوظ- حصل على الناس الغلاء في المأكول جميعه، ولم يبين ابن محفوظ مقدار هذا الغلاء، ثم قال: ورحلت الحواج جميعها في اليوم الثالث وقت الظهر من منى5 ... انتهى. ومن ذلك: أنه في سنة ستين وسبعمائة -على ما ذكر ابن محفوظ- كان الغلاء مع الناس من أول السنة وخلت مكة خلوا عظيما، وتفرق الناس في سائر الأقطار لأجل الغلاء وجور الحكام بها ... انتهى ملخصا بالمعنى. ومن ذلك: أنه في آخر السنة -على ما أخبرني به من اعتمده من الفقهاء المكيين- أن الغرارة الحنطة بيعت بمكة بستين درهما كاملية، بعد وصول العسكر من مصر إلى مكة في هذه السنة. وذكر ابن محفوظ: أنه بعد وصول هذا العسكر إلى مكة أسقط المكس في سائر المأكولات، وارتفع من مكة الظلم، وانتشر العدل والأمان، وذلك ما أظهر مقدم

_ 1 إتحاف الورى 3/ 187، والعقود اللؤلؤية 2/ 51، والسلوك للمقريزي 2/ 1: 303. 2 إتحاف الورى 3/ 232، ودر الفرائد "ص: 308". 3 إتحاف الورى 3/ 225. 4 إتحاف الورى 3/ 238. 5 إتحاف الورى 3/ 274، ودرر الفرائد "ص: 310".

العسكر الأمير "جركتم المارديني" من الأمور المقتضيى لذلك، وقد ذكرنا شيئا من خبر هذا العسكر في ترجمة محمد بن عطيفة الحسني، الذي قدم مع هذا العسكر من مصر إلى مكة متوليا أمرها. ومن ذلك: أنه في سنة ست وستين وسبعمائة، كان بمكة غلاء عظيم، حصل للناس منه مشقة عظيمة؛ بحيث أكل الناس الميتة -على ما قيل- وذلك أنه وجد بمكة حمار ميت، وفيه أثر السكاكين، وأصيبت المواضي بالجرب، وتعرف هذه السنة بسنة أم الجرب، واستسقى الناس بالمسجد الحرام، فلم يسقوا، وأحضرت المواشي إلى المسجد للاستسقاء، وأدخلت فيه، ووقفت في جهة باب العمرة إلى مقام المالكية، ثم فرج الله -عز وجل- هذه الشدة عن الناس بالأمير يلبغا العمري المعروف بالخاصكي مدبر المملكة الشريفة بالديار المصرية، تغمده الله برحمته؛ لأنه أرسل بقمح فرق على المجاورين بمكة؛ وذلك أن بعض خواصه ممن أرسله لعمارة المسجد الحرام عرفه بما الناس فيثه من الشدة بمكة؛ فلما بلغه الخبر أمر من فوره بألف أردب قمح طيب، فجهزت إلى مكة في البر، غير ما أمر بتجهيزه في البحر، وفرقت على من بها من الناس أحسن تفرقة، وما شعر الناس بها إلا وهي معهم1. ومن ذلك: غلاء شديد وقع في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة بيعت فيه الحنطة: الغرارة بمكة بخمسمائة درهم كاملية وأربعين درهما، وأكل الناس سائر الحبوب واختبزوها، ثم فرج الله -تبارك وتعالى- على الناس بصدقة قمح، أنفذها الملك الظاهر برقوق، رحمه الله2. وحصل في هذه السنة أيضا بمكة وباء، وبلغ الموتى فيه في بعض الأيام أربعين، على ما قيل3. ومن ذلك: رخاء في سنة ست وتسعين وسبعمائة بيعت فيه الغرارة الحنطة بسبعين درهما كاملية في زمن الموسم4. ومن ذلك: غلاء كان بمكة في آخر سنة سبع وتسعين وسبعمائة بعد الحج، ولم يبلغ مقدار الغلاء الذي كان في سنة ثلاث وتسعين، وإنما بلغت فيه الغرارة الحنطة ثلاثمائة درهم وثلاثين درهما5.

_ 1 إتحاف الورى 3/ 302، والبداية والنهاية 14/ 309، والسلوك للمقريزي 3/ 97. 2 إتحاف الورى 3/ 379، والعقد الثمين 1/ 210. 3 إتحاف الورى 3/ 379، والعقد الثمن 1/ 210، ودرر الفرائد "ص: 315". 4 إتحاف الورى 3/ 391، ودرر الفرائد "ص: 315"، والسلوك للمقريزي 3/ 2: 819. 5 إتحاف الورى 3/ 196.

ومن ذلك: غلاء كان في أثناء خمس وثمانمائة بيعت فيه الغرارة الحنطة بنحو خمسمائة درهما كاملية، والذرة بنحو ثلاثمائة وخمسين درهما كاملية، ودام ذلك أياما يسيرة1، ثم فرج الله علي بالناس قريبا بجلاب وصلت من سواكن، وبلغ المن السمن في هذه السنة مائة وخمسين درهما كاملية، والمن المشار إليه اثنتي عشرة أوقية، وقد تقدر مقدار الأوقية، وهذا أغلا قدر بلغ إليه سعر السمن فيما رأينا، وأرخص شيء بلغ إليه السمن فيما رأيناه، أن بيع المن السمن بنحو ثلاثين درهما كاملية، وخزنه الناس كثيرا بهذا المقدار، وبلغ في بعض السنين أيام الحج بمنى دون ذلك، وبلغني عن بعض المشايخ أنه رأى السمن يباع بمكة، كل من سمن باثني عشر درهما كاملية، كل أوقية بدرهم، قال: وخزنه الناس كثيرا بهذا السعر، وأما القمح فلم نره بلغ في الرخص ما بلغ في سنة ست وتسعين وسبعمائة، بيعت الغرارة الحنطة بسبعين درهما كاملية. وبلغني عن بعض المشايخ، أن رآها بيع بمكة بأربعين درهما كاملية، وهذا يقرب من الرخص الذي نقله ابن الجزري عن ابن القدسية، وأما الذرة فرأيناها بيعت بمكة بأربعين درهما كاملية، وربما بيعت كل ثلاث غراير ذرة بمائة درهم كاملية وتسعين درهما، بتقديم التاء؛ وذلك بعد التسعين وسبعمائة، وهذا أرخص شيء رأيناه في سعر الذرة بمكة، ثم بلغت بعد ذلك بنحو الستين والسبعين في أوائل هذا القرن، ثم ارتفعت عن ذلك في آخر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وبلغت قريبا من مائة وخمسين ثم ارتفع سعرها وسعر الدخن، والحنطة، والشعير، والدقة، وسائر المأكولات في آخر سنة خمس عشرة وثمانمائة. وفي سنة ست عشرة وثمانمائة ارتفع ارتفاعا لم يعهد مثله؛ لأن الغرارة الحنطة بكيل مكة قد بيعت في الجملة بعشرين إفرنتيا، وبيعت بعرفة بأزيد من عشرين كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى. وكان ابتداء مشقة هذا الغلاء على الناس في آخر شهر رمضان، عن استقبال عيد الفطر المبارك من سنة خمس وعشرة ثمانمائة2، بلغ ربع الحب الحنطة في هذا التاريخ اثني عشر مسعوديا، بعد أن كان بثمانية ونحوها، ثم صار يرتفع قليلا قليلا؛ حتى بلغ الربع: ثمانية عشر مسعوديا، ودام على ذلك إلى الموسم من سنة خمس عشرة وثمانمائة، وربما بلغ في ذي القعدة من هذه السنة سبعة وعشرين مسعوديا، وعند وصول المراكب إلى مكة من اليمن، ولم يكن ذلك إلا أياما قليلة، ثم عاد السعر إلى

_ 1 إتحاف الورى 3/ 432. 2 إتحاف الورى 3/ 498، ونزهة النفوس 2/ 319، والسلوك 4/ 1: 253.

الثمانية عشر وأزيد، وسبب ذلك: أن متولي أمر المراكب اليمانية القاضي أمي الدين مفلح التركي الملكي الناصري -أعزه الله- أمر ببيع بعض ما معه من الطعام، وأرخص في البيع، وتصدق أيضا ببعضه، ثم ترك لاحتياجه إلى ما معه، وعندما حصل هذا النقص في السعر، ترك الإمام القنوت في الصلاة، وكانت قد قنت فيها شهرا أو نحوه، وكان ابتداء القنوت في يوم الجمعة عاشر شوال سنة خمس عشر -وثمانمائة، ولما وصل الحجاج في هذه السنة تهافتوا على جميع المأكولات، فارتفعت الأسعار في جميعها ارتفاعا لم يعهد مثله في زمن الموسم، وأرخص ما بيع الحب به بعد تكامل وصول الأعراب من بجيلة وغيرها؛ الجالبين للأطعمة إلى مكة، كل غرارة مكسية بعشرة إفرنتية؛ وذلك في اليوم السادس من ذي الحجة الحرام من هذه السنة. ثم ارتفعت الأسعار بعرفة ومنى؛ فببيع الدقيق كل ويبة مصرية بإفرنتيتين وعشرين درهما، والشعير كل ويبة بإفرنتيتين، والحب كل ربع مد مكي بسبعة وعشرين درهما مسعودية، وتسقيم الغرارة من هذا السعر بتسعة عشر إفرنتية ونحوها؛ لأن الإفرنتي كان يباع في زمن الموسم بمنى بسبعة وخمسين مسعوديا ونحوها، والغرارة هي أربعون ربعا مكيا، ونزل الإفرنتي إلى خمسين مسعوديا ونحوها. فلما توجه الحاج من مكة بيع الحب الحنطة كل ربع مد مكي بسبعة وعشرين مسعوديا، ونزل الإفرنتي إلى خمسين مسعوديا أو نحوها، والمثقال الذهب الهبرجي إلى ستين مسعوديا أو نحوها، وتستقيم الغرارة على ما ذكرناه من سعر الحب بإحدى وعشرين إفرنتيا وأزيد، وبالمثاقيل بثمانية عشر مثقالا، وبيع الغرارة في أثر سفر الحجاج في السوق بالمسعى بعشرين إفرنتيا، ودام سعر الحب كل ربع بسبعة وعشرين مسعوديا، والذهب على ما ذكرناه من السعر، إلى أثناء المحرم من سنة ست عشرة وثمانمائة ثم صار ينقص درهما ودرهمين، وشبه ذلك في بقية المحرم وصفر، ثم نقص أكثر من ذلك عند طيب النخل وقت الصيف، من سنة ستة عشرة وثمانمائة، وبيع الرع في هذا التاريخ بنحو عشرين مسعوديا؛ لاكتفاء كثير من الناس بالبلح، ثم نزل بعد ذلك إلى ستة عشر مسعوديا ونحوها، ورأى الناس ذلك رخيصا بالنسبة إلى ما كان عليه في الموسم سنة خمس عشرة وثمانمائة وبعده، وهو غلاء بالنسبة إلى ما كانوا يعهدونه من السعر في الحنطة وغيرها، في أول سنة خمس عشرة، والغرارة من حساب ستة عشر، بنحو من عشرة إفرنتية؛ لأن صرف الإفرنتي في شهر رمضان سنة ست عشرة: ستون مسعوديا ونحوها، وهي على ذلك في شهر رمضان في سنة ست عشرة، وبيعت الدقسة بأثر الموسم، كل ربع باثني عشر مسعوديا، والشعير بمثل ذلك، الذرة والدخن سعرهما يقارب سعر الحنطة من ابتداء الغلاء، وإلى تاريخه، وبيع التمر بأثر الموسم كل من بتسعة مسعودية، وربما بيع بأكثر

من ذلك في الموسم، وبيع فيه الأرزد بأربعة إفرنتية، الويبة والنوى لعلف الجمال، كل ويبة مصرية بإفرنتي وربع. ووقع الغلاء في الموسم في الخضر أيضا، حتى بيعت البطيخة الكبيرة بإفرنتي وأزيد، بعرفة ومنى، وهذا شيء لم يسمع به، وسبب هذا الغلاء مع المقدور: قلة الغيث بمكة في سنة خمس عشرة وثمانمائة عما يعهد، ولم يصل إلى مكة مما كان يصل إليها من الذرة من بلاد سواكن، ومن اليمن، لغلاء وقع فيهما، ولا سيما بسواكن؛ فسبب الغلاء فيها: أكل الجراد لزرع بلاد الداع التي يحمل منها الذرة إلى سواكن؛ فبلغ السعر فيها في هذه السنة ست عشرة وثمانمائة، كل غرارة مكية ذرة بثلاثين مثقالا ذهبا، وهذا شيء لم يعد فيها مثله من دهر طويل. وسبب الغلاء ببلاد اليمن: قلة الزرع بها لقلة المطر، وصار أهل اليمن وأهل سواكن يجلبون الذرة إليها من قرية يقال لها فنونا، بقرب حلي، ومنها أيضا يجلب ذلك إلى مكة، وما عرفت أن مثل هذه القرية الصغيرة تمير أهل اليمن وسواكن؛ فسبحان القادر على كل شيء، وهو المسئول في اللطف وكشف البلاء. ووقع بعد ذلك بمكة غلاء كثير ورخص كثير. فمن ذلك: أنه في سنة تسع عشرة -بتقديم التاء- وثمانمائة، كانت الغرارة الحنطة اللقيمة المليحة بخمسة إفرنتية، والغرارة المابية، وهي نوع دنيء من الحنطة بأربعة إفرنتية، وربع الغرارة الذرة بثلاثة إفرنتية، وبيعت في وادي مر بإفرنتيتين وستة دنانير مسعودية، وصرف الإفرنتي خمسة عشر دينار مسعوديا بالوادي، والسمن كل وقية بسبعة مسعودية، ويستقيم المن بإفرنتي وثلث ونحو ذلك، واللحم كل من بستة مسعودية، والتمر كل من بدرهمين مسعوديين. وكان صرف الإفرنتي بمكة بأربعة وخمسين مسعوديا، وربما زاد قليلا. ومن ذلك غلاء وقع بعد الموسم من هذه السنة، وامتد إلى أوائل سنة عشرين وثمانمائة، ولم تطل مدته، وبلغت فيه الغرارة الذرة ثلاثة عشرة إفرنتيا. ومن ذلك رخاء في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة في الذرة، بيعت الغرارة بمكة بثلاثة إفرنتية، وبجدة بإفرينيتين وربع وبإفرينيتين ونصف، وبيع في هذه السنة العسل كل سبعة أمنان بإفرنتي، ولم يعهد مثل ذلك قبله في العسل، من مدة سنين1، ثم غلا سعره وسعر الذرة في بقية سنة إحدى وعشرين، وفي سنة اثنين وعشرين وثمانمائة، وبلغت فيه

_ 1 إتحاف الورى 2/ 561، واستبدل بالإفرنتي لفظ "الأفلوري".

الغرارة الذرة بمكة ثمانية إفرنتيا، وكذلك الغرارة الدخن وبلغت فيه الغرارة الحنطة: اثني عشرة إفرنتيا إلا ربع إفرنتي، ثم نزلت إلى عشرة إفرنتية ودون ذلك، والذرة والدخن لم ينقص سعرهما عن الثمانية الإفرنتية، إلى جمادى الأولى من سنة اثنين وعشرين وثمانمائة، ونسأل الله اللطف. وفيما أشرنا إليه من هذا المعنى كفاية من أمر الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة، وقد خفي علينا كثير من ذلك لعدم العناية في كل عصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الباب الأربعون

الباب الأربعون: في ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها وشيء من خبرها: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: "ما داء في أول من نصب الأصنام في الكعبة والاستسقاء بالأزلام": حدثني جدي، حدثنا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: إن البئر التي كانت في الكعبة1 كانت على يمين من دخلها، وكان عمقها ثلاثة أذرع، يقال إن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- حفراها ليكون فيها ماء يهدي للكعبة؛ فلم يزل كذلك حتى كان عمرو بن لحي، فقدم بصنم يقال له هبل من "هيت" من أرض الجزيرة، وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها؛ فنصبه على البئر في بطن الكعبة، وأمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر، بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق بأسه عنده، وهبل الذي يقول له أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل، أي أظهر دينك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الله أعلى وأجل"، وكان اسم البئر الذي كان في بطن الكعبة: الأخسف، وكان العرب تسميها: الأخشف. قال محمد بن إسحاق: وكان عند هبل في الكعبة سبعة2 قداح كل قدح فيه كتاب: قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة عليه؛ فعلى من خرج حمله، وقدح فيه "نعم" للأمر، إذا أرادوه ضرب به في القداح، فإن خرج فيه "نعم" عملوا به، وقدح فيه "لا" فإذا أرادوا الأمر ضربوا بالقداح، وإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه "منكم"، وقدح فيه "ملصق"، وقدح فيه: "من غيركم"، وقدح فيه: "المياه"3؛ فإذا أرادوا أن يحفروا الماء ضربوا بالقداح، وفيها

_ 1 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 117: "في جوف الكعبة". 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 117، والأصنام "ص: 28": "تسعة". 3 كذا في جميع الأصول، وكذلك في السيرة لابن إسحاق، وفي "الأصنام" لابن الكلبي "ص: 28":= "الميت".

ذلك القدح؛ فحيث ما خرج عملوا به، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميتا، أو شكلوا في نسب أحد منهم، ذهبوا به إلى هبل، وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فلان أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج "منكم" كان منهم وسطا، وإن خرج عليه "من غيركم" كان حليفا، فإن خرج عليه "ملصقا" كان ملصقا على منزلته فيهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج عليه شيء ما سوى هذا مما يعلمون به عملوا به، وإن خرج "لا" أخروه عامه ذلك؛ حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمرهم ذلك، إلى ما خرجت به القداح. وكذلك فعل عبد المطلب بابنه حين أراد أن يذبحه1. قال محمد بن إسحاق: كان هبل من حجر العقيق، على صورة إنسان وكانت يده اليمنى مكسورة فأدركته قريش؛ فجعلت له يدا من ذهب، وكانت له خزانة للقربان، وكانت له سبعة قداح يضرب بها على الميت والعذرة والنكاح، وكان قربانه مائة بعير، وكان له حاجب، وكانوا إذا جاءوا هبل بالقربان ضربوا بالقدح وقالوا: إنا اختلفنا فهب السراحا ... ثلاثة يا هبل فصاحا الميت والعذرة والنكاحا ... والبرء في المرضى والصحاحا إن لم تقله فمر القداحا2 ما جاء في أول من نصب الأصنام وما كان من كسرها: وبالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: إن جرهما لما طغت في الحرم، دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة، ففجر بها، ويقال إنه قبلها فيها، فمسخا حجرين، اسم الرجل إساف بن بغاء، واسم المرأة نائلة بنت ذئب، فأخرجا من الكعبة، ونصب أحدهما على الصفا، والآخر على المروة؛ وإنما نصبا هناك ليعتبر بهما الناس ويزجروا عن ما ارتكبا، لما يرون من الحال الذي صارا إليها؛ فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم، حتى صارا يمسحان، يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة، إلى أن صارا وثنين يعبدان؛ فلما كان عمر بن لحي أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما، وقال للناس: إن من كان قبلكم كان يعبدهما؛ فكان كذلك، حتى كان قصي بن كلاب، فصارا أمر الحجابة إليه،

_ 1 الأصنام لابن الكلبي "ص: 28". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 117-119، الأصنام لابن الكلبي "ص: 27".

وكذا أمر مكة فحولهما من الصفا والمروة، فجعل أحدهما بلصق الكعبة، وجعل الآخر في موضع زمزم، ويقال: جعلهما جميعا موضع زمزم، وكان ينحر عندهما1 وكان أهل الجاهلية يمرون بإساف ونائلة ويتمسحون بهما، وكان الطائف إذا طاف بالبيت يبدأ بإساف فيستلمه؛ فإذا فرغ من طوافه ختم بنائله فاستلمها، فكان كذلك حتى كان يوم الفتح، فكسرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ما كسر من الأصنام2. وبه إلى الأزرقي قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن محمد بن عبد العزيز، عن ابن شهاب الدين، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، منها ما قد شد بالرصاص3؛ فطاف -صلى الله عليه وسلم- على راحلته وهو يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، ويشير -صلى الله عليه وسلم- إليها، فما منهم صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره، ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه، حتى وقعت كلها. وقال ابن إسحاق: ولما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر يوم الفتح، أمر بالأصنام التي حول الكعبة كلها؛ فجمعت ثم حرقت بالنار وكسرت، وفي ذلك يقول فضالة بن عمر بن الملوح الليثي في ذكر يوم الفتح: لو ما رأيت محمدا وجنوده ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت نور الله أصبح بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام حدثني جدي، وحدثني محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن أبي عباس -رضي الله عنهما- قال: ما يزيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يشير بالقضيب إلى الصنم، فيقع بوجهه، ثم قال: وأمر -صلى الله عليه وسلم- بهبل فكسر، وهو واقف عليه، فقال الزبير بن العوام -رضي الله عنه- لأبي سفيان: يا أبا سفيان بن حرب، قد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه في يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم عليك، فقال أبو سفيان -رضي الله عنه: دع هذا عنك يا ابن العوام؛ فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان4 ... انتهى باختصار.

_ 1 هذه الرواية بعيدة عن المعروف عن قصي من عبادته لله على دين الحنيفية البيضاء. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 119، 120، الأصنام لابن الكلبي "ص: 29". 3 في أخبار مكة 1/ 121: "قد شدهما إبليس بالرصاص". 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 121، 122.

وبه إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي عن أشياخه، فذكر شيئا من خبر إساف ونائلة1: منها: أنها بنت سهيل، وإساف بن عمرو، ثم قال: فلما كسرت الأصنام كسرا، فخرج من أحدهما امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها، عريانة ناشرة الشعر، تدعو بالويل؛ فقيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تلك نائلة قد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا" 2. وذكر الواقدي عن أشياخه قال: نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة: من كان يؤمن بالله ورسوله فلا يدع في بيته صنما إلا مشى إليه حتى يكسره؛ فجعل المسلمون يكسرون تلك الأصنام. قال: وكان عكرمة بن أبي جهل حين أسلم لا يسمع بصنم في بيت من بيوت قريش إلا مشى إليه حتى يكسره، وكان أبو نحراة3 يعملها في الجاهلية ويبيعها، فلم يكن في قريش رجل بمكة إلا وفي صنم. قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن بعض آل جبير بن مطعم، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم الفتح نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله ورسوله 4 واليوم الآخر، فلا يتركن في بيته صنما إلا كسره أو أحرقه، وثمنه حرام"، قال جبير -رضي الله عنه: وكنت أرى قبل ذلك الأصنام يطاف بها بمكة، فيشتريها أهل البدو، فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما بقي رجل5 من قريش إلا وفي بيته صنم، إذا دخل يمسخه، وإذا خرج بمسحه؛ تبركا به. قال الواقدي: وأخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الحميد بن سهيل قال: لما أسلمت هند بنت عتبة، جعلت تضرب صنما في بيتها بالقدوم فلذة فلذة، وهي تقول: كنا منك في غرور. وبه قال الأزرقي: باب ما جاء في الأصنام التي كانت على الصفا والمروة ومن نصبها، وما جاء في ذلك: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق قال: نصب عمرو بن لحي الخلصة6 بأسفل مكة؛ فكانوا يلبسونها القلائد،

_ 1 الأصنام لابن الكلبي "ص: 29". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 122. 3 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 123: "أبو شنجارة". 4 "رسوله": سقطت من أخبار مكة للأزرقي 1/ 123. 5 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 123: "ما من رجل". 6 اسمه في كتاب الأصنام لابن الكلبي "ص: 34": "ذو الخلصة"، وأخبر بأنها كانت بين مكة واليمن، والخبر في بلوغ الأرب 2/ 223، معجم البلدان 2/ 4/ 80، وفيه: وهي قرية من أعمال الطائف، معروفة بهذا الاسم إلى اليوم، وهي محاذية لوادي ركبة.

ويهدون لها الشعير والحنطة، ويصبون عليها اللبن، ويذبحون لها، ويعلقون عليها بيض النعام، ونصب على الصفا صنما يقال له: نهيك مجاور الرمح، ونصب على المروة صنما يقال له: مطعم الطير1. ذكر ما جاء في اللات والعزى وما جاء في بدئها كيف كان: حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن رجلا ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا، فيلت سويقهم، وكان ذا غنم، فسميت صخرة اللات، فمات؛ فلما فقده الناس، قال لهم عمرو بن لحي: إن ربكم كان اللات، فدخل في جوف الصخرة، وكانت العزى ثلاث شجرات بنخلة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمر بن ربيعة، والحارث بن كعب، وقال لهم عمرو: إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتي2 بالعزى لحر تهامة. وكان في كل واحدة شيطان يعبد. فلما بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- بعث بعد الفتح خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى العزى ليقطعها فقطعها، ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت فيهن؟ " قال: لا شيء. قال -صلى الله عليه وسلم: "ما قطعتهن فارجع فاقطع". فرجع فقطع، فوجد تحت أصلها امرأة ناشرة شعرها، قائمة عليهن كأنها تنوح عليهن، فرجع فقال: إني وجدت كذا وكذا، قال: صدقت. حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرنا ابن إسحاق: أن عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة3؛ فكانوا إذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة، لم يلحوا حتى يأتوا العزى، فيطوفون بها ويحلون عندها ويعكفون عندها يوما، وكانت لخزاعة، وكانت قريش بنو كنانة كلها تعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر، وكان سدنتها الذين يحجبونها بنو شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم. وقال عثمان: وأخبرنا محمد بن السائب الكلبي قال: كانت بنو مضر وجشم، وسعد بن بكر -وهم عجز هوازن- يعبدون العزى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 124. 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 126: "يشتون". 3 قال الكلبي: "العزى" هي أحدث من اللات ومناة، وكانت بواد من نخلة الشامية، يقال له: حراض، بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة: "الأصنام ص: 17، 18".

قال الكلبي: وكان اللات والعزى ومناة في كل واحدة منهن شيطانة تكلمهم، وتراءا للسدنة، وهم الحجبة؛ وذلك من صنيع إبليس وأمره، ثم قال: وكان هدمها لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان1.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 126، 127.

ذكر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام

ذكر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام: روينا في "تاريخ الأزرقي خبرا فيه حج الجاهلية ومواسمهم وأسماء الشهور، رواه بسنده إلى الكلبي، قال فيه: فإذا كان الحج في الشهر الذي يسمونه ذي الحجة، خرج الناس إلى مواسمهم، فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة فيقيمون به عشرين ليلة، ويقوم فيها أسواقهم بعكاظ، والناس على مراعيهم ورايتهم منحازين في المنازل، يضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة؛ فأقاموا بها عشرا، وأسواقهم قائمة، فيقيمون بها إلى يوم التروية، ويخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة فيترون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز؛ وإنما سمي يوم التروية لترويهم من في الماء بذي المجاز ينادي بعضهم بعضا: ترووا من الماء؛ لأنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة -يومئذ- وكان يوم التروية آخر أسواقهم؛ وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ، ومجنة وذي المجاز التجار ومن كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية، فيتروى من الماء، فينزل الحمس أطراف المسجد الحرام من غرة يوم عرفة، وينزل الحلة عرفة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنينه التي دعا فيها بمكة قبل الهجرة لا يقف مع قريش والحمس في طرف الحرم، وكان يقف مع الناس بعرفة. ثم قال: وكانوا لا يتبايعون في يوم عرفة، ولا أيام مني؛ فلما أن جاء الله تعالى بالإسلام أحل الله -عز وجل- ذلك لهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وفي قراءة أبي بن كعب: في مواسم الحج، يعني: منى، وعرفة، وعكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فهذه مواسم الحج2. ثم قال الكلبي: وكانت هذه الأسواق: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، قائمة في الإسلام، حتى كان حينا من الدهر.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 126، 127. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 188، 189، وإتحاف الورى 2/ 589.

فأما عكاظ: فإنما تركت عام خرج الحرورية1 بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الإباضي في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينتهبوا، وخافوا الفتنة، فتركت حتى الآن. ثم تركت المجنة وذو المجاز بعد ذلك واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وعرفة2. قال أبو الوليد الأزرقي: وعكاظ: وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في عمل الطائف على بريد منها، وهي سوق لقيس عيلان وثقيف، وأرضها لنضر. ومجنة: سوق بأسفل مكة على بريد منها، وهي سوق لكنانة، وأرضه من أرضها كنانة، وهي التي يقول فيها بلال -رضي الله عنه: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ3 وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل وشامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة. وذو المجاز: سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة قريب من كبكب4 على فرسخ من عرفة. وحباشة5 سوق الأزد، وهي في ديار الأوصام6 من بارق7 من صدر قنونا8. وحلي بناحية اليمن، وهي من مكة على ست ليال، وهي آخر سوق خربت من أسواق الجاهلية، وكان والي مكة يستعمل عليها رجلا يخرج معه بجند، فيقيمون بها ثلاثة أيام من أول شهر رجب متوالية، حتى قتلت الأزد واليا كان عليها بعثه داود بن

_ 1 الحرورية طائفة من الخوارج تنسب إلى "حروراء" قرب الكوفة؛ لأنه كان بها أول اجتماع لهم حين خالفوا علينا -رضي الله عنه. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 190. 3 فخ: هو واد معروف بمكة واقع في مدخلها بين طريق جدة وبين طريق التنعيم ووادي فاطمة، ويسمى أيضا وادي الزاهر؛ لكثرة الأشجار والأزهار التي كانت فيه قديما، أما اليوم فيعرف باسم الشهداء، إشارة إلى واقعة يوم التروية عام 169هـ بين الحسين بن علي بن الحسين، وجيوش بني العباس التي قتل فيها الحسين، وقد أسس في هذا الوادي قصر المنصور الذي بناه الملك عبد العزيز آل سعود عام 1347هـ. 4 كبكب: بالفتح والتكرير اسم جبل خلف عرفات مشرف عليها "معجم البلدان 4/ 434". 5 حباشة: بالضم؛ سوق من أسواق العرب في الجاهلية في تهامة "معجم البلدان 2/ 210". 6 الأوصام: قرية باليمن. 7 بارق: جبل بتهامة "معجم البلدان 1/ 319". 8 وادي من أودية السراة يصب إلى البحر في أوائل أرض اليمن من جهة مكة قرب حلي، "معجم البلدان 4/ 409".

عيسى بن موسى في سنة سبع وتسعين ومائة؛ فأشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها، فخربها، وترك إلى اليوم. وإنما ترك ذكر حباشة مع هذه الأسواق؛ لأنها لم تكن في مواسم الحج، ولا في أشهره؛ وإنما كانت في رجب ... انتهى باختصار1. وقد خولف الأزرقي فيما ذكره في مجنة، وشامة، وطفيل، من وجوه: منها: أن الفاكهي ذكر ما يقتضي أن مجنة في غير المحل الذي سبق ذكره؛ لأنه قال: حدثني عبد الملك بن محمد بن زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، الأسواق التي يجتمع بها العرب للتجارة كل عام إذا حضر الموسم، يحج العرب فيها، ويأمن بعضهم بعضا حتى تنقضي أيامها، وكانت مجنة بمر الظهران إلى جبل يقال له: الأصفر، وكانت عكاظ فيما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له العنق، وكانت ذو المجاز ناحية عرفة إلى جانبها، قال عبد الملك: الأيسر؛ وإنما هو الأيمن إذا وقفت على الموقف ... انتهى. ومنها أن كلام الأزرقي يقضي أن مجنة عن بريد من مكة. وذكر القاضي عياض في "المشارق" ما يخالف؛ ذلك لأنه قال: طفيل وشامة جبلان على نحو من ثلاثين ميلا من مكة2 ... انتهى. ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي: أن شامة، وطفيل، جبلان مشرفان على مجنة على ما ذكره الأزرقي، وإذا كانا كذلك وكانا من مكة على المقدار الذي ذكره القاضي عياض، وكانا مشرفين على مجنة كما ذكر الأزرقي؛ فتكون مجنة من مكة على المقدار الذي ذكره القاضي عياض وهو نحو ثلاثين ميلا؛ وذلك بريدان أو أزيد، فإن البريد اثنا عشر ميلا، والعيان يشهد لصحة ما ذكره القاضي عياض في شامة، وطفيل؛ لكون الجبلين المعروفين عند الناس: شامة، وطفيل: من مكة على بريدين على مقتضى ما ذكر الأزرقي من أن شامة وطفيل مشرفان على مجنة، ولعل الأزرقي أراد أن يكتب أن مجنة على بريدين من مكة فسها عن الياء والنون فكتب بريد، والله أعلم. وذكر المحب الطبري ما يوافق ما ذكره القاضي عياض في مقدار ما بين مكة، وشامة، وطفيل، وسيأتي كلامه -إن شاء الله تعالى.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 190-192، وإتحاف الورى 2/ 260. 2 المشارق 1/ 327، وعزاه للفاكهي، وذكر أقوالا أخرى.

ذكر شيء مما قيل من الشعر في التشوق إلى مكة الشريفة وذكر معالمها المنيفة

ذكر شيء مما قيل من الشعر في التشوق إلى مكة الشريفة وذكر معالمها المنيفة: أنشدني المعمر بن محمد بن داود الصالحي إذنا مكاتبة، والأصيلة أم الحسن فاطمة بنت مفتي مكة شهاب الدين أحمد بن قاسم العمري إذنا مشافهة، أن الإمام المحدث فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان المالكي أنشدهما إذنا مشافهة، قال: أنشدنا الأديب أبو بكر محمد بن محمد بن عبد الله بن رشيد البغدادي قصيدة نفيسة سماها "الذهبية في الحجة الملكية والزورة المحمدية"، جاء فيها: فيا أين أيام تولت على الحما ... وليل مع العشاق فيه سهرناه ونحن لجيران المحصب جيرة ... نوفي لهم حسن الوداد ونرعاه ومنها قوله: فهاتيك أيام الحياة وغيرها ... ممات فيا ليت النوى ما شهدناه ويا ليت عنا أغمض الدهر طرفه ... ويا ليت وقتا للفراق فقدناه وترجع أيام المحصب من منى ... ويبدو ثراه للعيوب وحصباه وتسرح فيه العيس بين ثمامة ... وتستنشق الأرواح طيب خزاماه ومنها قوله: فشدوا مطايانا إلى الربع ثانيا ... فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه ففي ربعهم لله بيت مبارك ... إليه قلوب الناس تهوى وتهواه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ... ويسقط عنه إثمه وخطاياه وكم لذة كم فرحة لطوافه ... فلله ما أحلى الطواف وأهناه نطوف كأنا بالجنان نطوفها ... ولا هم لا غم جميعا نفيناه فيا شوقنا نحو الطواف وطيبة ... فذلك طيب لا يعبر معناه فمن لم يذقه لم يذق قط لذة ... فذقه تذق يا صاح ما نحن ذقناه ترى رجعة أو عودة لطوافنا ... وذاك الحمى قبل المنية نغشاه فوالله لا ننسى الحمى فقلوبنا ... هناك تركناها فيا كيف ننساه ووالله لا ننسى زمان مسيرنا ... إليه وكل الركب يلتذ مسراه وقد نسيت أولادنا ونساؤنا ... وإخوننا والقلب عنهم شغلناه تراءت لنا أعلام وصل على اللوى ... فمن ثم أمسى القلب عنهم لويناه جعلنا إله العرش نضب عيوننا ... ومن دونه خلف الظهور نبذناه وسرنا نشق البيد للبلد الذي ... بجهد وشق للنفوس بلغناه رجالا وركبانا على كل ضامر ... ومن كل فج مقفر قد أتيناه

نخوض إليه البحر والبر والدجا ... ولا مفظع إلا إليه قطعناه ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا ... فنمشي الفلا نحكي السجل طويناه ولا صدنا عن قصدنا فقد أهلنا ... ولا هجر جار أو حبيب ألفناه وأموالنا مبذولة ونفوسنا ... ولا نبغ شيئا منعناه ومنها قوله: عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله ... فهان علينا كل شيء بذلناه ولو قيل إن النار دون مزاركم ... دفعنا إليها والعذول دفعناه ومنها قوله: ترادفت الأشواق واضطرم الحشا ... فمن ذا له ضرم وتضرم أحشاه وأسرى بنا الحادي وأمعن في السرا ... وولي الكرى نوم الجفون نفيناه ومنها قوله: نحج لبيت حجه الرسل قبلنا ... لنشهد نفعا في الكتاب وعدناه دعانا إليه الله عند بنائه ... فقلنا له لبيك داع أجبناه وما زال وفد الله يقصد مكة ... إلى أن بدا البيت العتيق وركناه فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا ... وكبرت الحجاج حين رأيناه وقد كادت الأرواح تزهق فرحة ... لما نحن من عظم السرور وجدناه وطفنا به سبعا رملنا ثلاثة ... وأربعة مشيا كما قد أمرناه كذلك طاف الهاشمي محمد ... طواف قدوم مثل ما طاف طفناه وسالت دموع من غمام جفوننا ... على ما مضى من إثم ذنب كسبناه ونحن ضيوف الله جئنا لبيته ... نريد القرى نبغي من الله حسناه فنادى بنا أهلا ضيوفي تباشروا ... وقروا عيونا فالحجيج أضفناه فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا ... وأي ثواب فوق ما قد أثبناه ومنها قوله: فطيبوا وسيروا وافرحوا وتباشروا ... تهنوا وهموا بابها قد فتحناه ولا ذنب إلا وقد غفرناه منكم ... وما كان من عيب عليكم سترناه ومنها قوله: ويوم منى سرنا إلى الجبل الذي ... من البعد قد حيانا كما قد عهدناه فلا حج إلا أن يكون بأرضه ... وقوف وهذا في الصحاح رويناه إليه فؤاده المرء يشعر بالهنا ... ولولا ما كان الحجار سلكناه

وبتنا بأقطار المحصب من منى ... فيا طيب ليل بالمحصب بتناه وسرنا إليه طالبين وقوفنا ... عليه ومن كل الوجوه أممناه على علميه للوقوف جلالة ... فلا زالتا تحمي وتحرس أرجاه وبينهما حزنا إليه برحمة ... فيا طيبها ليت الزحام رجعناه ولما رأيناه تعالى عجيجنا ... نلبي وبالتهليل منا ملأناه وفيه نزلنا بكرة بذنوبنا ... وما هو من ثقل المعاصي حملناه وبعد زوال الشمس كان وقوفنا ... إلى الليل نبكي والدعاء قد أطلناه ومنها قوله: على عرفات قد وقفنا بموقف ... به الذنب مغفور وفيه محوناه وقد أقبل الباري علينا بوجهه ... وقال: ابشروا فالعفو فيكم نشرناه وعنكم ضمنا كل تابعة جرت ... عليكم وأما حقنا قد وهبناه أقلناكم من كل ما قد جنيتم ... ومن كان ذا عذر إلينا عذرناه ومنها قوله: وطوبى لمن ذاك المقام مقامه ... وبشراه في يوم التغابن بشراه نرى موقفا فيه الخزائن فتحت ... ووالى علينا الله منه عطاياه ومنها قوله: ودارت علينا الكأس بالوصل والرضا ... سقينا شرابا مثله ما سقيناه فإن شئت تسقي ما سقينا على الحمى ... فخلِ التواني واقصد محلا حللناه ومنها قوله: فظل حجيج الله لليل واقفا ... فقيل انفروا فالكل منكم قبلناه أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم ... إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه وسيروا إليه واذكروا الله عنده ... فسرنا ومن بعد العشاء نزلناه وفيه جمعنا مغربا لعشائنا ... ترى عابد جمع بجمع جمعناه وبتنا به منه التقطنا جمارنا ... وربا ذكرناه على ما هداناه ومنه أفضنا حيث ما الناس قبلنا ... أفاضوا وغفران الإله طلبناه ونحو منى ملنا بها كان عيدنا ... ونلنا بها ما القلب كان تمناه فمن منكم بالله عيد عيدنا ... فعيد منى رب البرية أعلاه وفيها رمينا للعقاب جمارنا ... ولا جرم إلا مع جمار رميناه

ومنها قوله: وبالخفيف أعطانا الإله أماننا ... وأذهب عنا كل ما نحن خفناه وردت إلى البيت الحرام وفودنا ... رجعنا لها كالطير حن لمأواه وطفنا طوافا للإفاضة حوله ... ولذنا به بعد الجمار وزرناه ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة ... كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه ونلنا أمان الله عند دخوله ... كما أخبر القرآن فيما قرأناه فيا منزلا قد كان أبرك منزل ... نزلناه في الدنيا وبيت وطئناه ترى حجة أخرى إليك ورحلة ... وذاك على رب العلا تمناه فإخواننا ما كان أحلى دخولنا ... إليه لبثا في حماه لبثناه فإخواننا أوحشتمونا هنا لكم ... فيا ليتكم معنا وأنا حففناه ومنها قوله: وبالحجر الميمون لذنا فإنه ... لرب السما في أرضه يمناه نقبله من حبنا لإلهنا ... فكم أشعث كم اغبر قد رحمناه وذاك لنا يوم القيامة شاهد ... وفيه لنا عهد قديم عهدناه ونستلم الركن اليماني طاعة ... نستغفر المولى إذا ما لمسناه وملتزم فيه التزمنا لذنبنا ... عهود وعفو الله فيه لزمناه وكم موقف فيه مجاب لنا الدعا ... دعونا به القصد فيه نويناه وصلى بأركان المقام حجيجنا ... وفي زمزم ماء طهور وردناه وفيه الشفا فيه بلوغ مرادنا ... لما نحن ننويه إذا ما شربناه وبين الصفا والمروة الحاج قد سعى ... فإن تمام الحج تكميل مسعاه ومنها قوله: وبينا حجيج الله بالبيت محدق ... ورحمة رب العرش تدنو وتغشاه تداعت رفاق بالرحيل فما ترى ... سوى دمع عين بالدماء مزجناه لفرقة بيت الله والحجر الذي ... لأجلهما شاق الأمور شققناه وودعت الحجاج بيت إلهها ... وكلهم تجري من الحزن عيناه فلله كم باك وصاحب حسرة ... يود بأن الله كان توفاه ولا يشهد التوديع يوما لبيته ... وإن فراق البيت مرد وجدناه فما فرقه إلا والله إنه ... أمر وأدهى ذاك شيء خبرناه

ومنها قوله: ووالله لولا أن نؤمل عودة ... لذقنا طعام الموت حين فجعناه ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا ... رحلنا إلى قبر الحبيب ومعناه وأنشدني محمد بن محمد بن داود الصالحي مكاتبة منه، وفاطمة بنت أحمد الفقيه مشافهة بطيبة، أن أبا عمرو الإفريقي أنشدهما إذنا قال: أنشدنا أبو اليمن ابن عساكر1 نزيل مكة لنفسه، بقراءتي عليه بمسجد الخيف بمنى: يا جبرتي بين الحجون إلى الصفا ... شوقي إليكم مجمل ومفصل أهوى دياركم ولي يربوعها ... وجد يؤرقني وعهد أول ويزيدني فيها العذول صبابة ... فيظل يغريني إذا ما يعدل ويقول لي لو قد تبدلت الهوى ... فأقول: قد عز الغداة تبدل بالله قل لي: كيف تحسن سلوتي ... عنها وحسن تصبري هل يجمل؟ هل في البلاد محلة معروفة ... مثل المعرف أو محل بحلل؟ أم في الزمان كليلة النفر التي ... فيها من الله العوارف تجزل أم مثل أيام تقضت في منى ... عمر الزمان بها أغر محجل في جنب مجتمع الرفاق ومنزع الأ ... شواق حياها السحاب المسبل وأنشدتني أم الحسن فاطمة بنت مفتي مكة شهاب الدين أحمد بن قاسم الحرازي إذنا مشافهة بطيبة -إن لم يكن سماعا- قالت: أنشدني جدي الإمام رضي الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري2 سماعا قال: أنشدنا الإمام الحافظ أبو بكر بن محمد بن يوسف بن مسدي لنفسه من قصيدة له: سقى تهامة ما تهمي السحاب به ... سحا يسح وتهتانا بتهتان حيث الحجيج إن حجيجي تخذت بها ... ربعا بربع وأخذانا بأخدان ومنها قوله: أنكرت سلمى وأياما بذي سلم ... لوقفة بين تعريف وعرفان حيث الأراك والنسيم صبا ... بقنا في شيخ أفنان بأفنان والدار آهلة من كان مغترب ... يعرو إليها بتهليل وقرآن

_ 1 هو عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن. توفي سنة "686هـ"، لحظ الألحاظ "ص: 81". 2 ترجمته في لحظ الألحاظ "ص: 100، 101".

واسم الحبيب شعار العاشقين بها ... تيك المشاعر من شيب وشيبان لبيك لبيك توحيدا يؤكده ... توابع الشوق في سر وإعلان وللإجابة سمع ليس يشغله ... شأن كثير من القول عن شان وينفرون إلى الزلفى بمزدلف ... جمعا بجمع ووجدانا بوجدان من كل مستغفر مستقبل ثقة ... من الحبيب بإقبال وغفران من لم يقف برسوم الموقفين فما ... مشت به قط للأحباب رجلان وفي منى للمنى ذاك المنال فلا ... تبعد بك الدار عن قرب وقربان ومنها قوله: وفي الإفاضة فيض الجود من ملك ... يلقى المسيء إذا استعفى بإحسان ومنها قوله: يا طائفين بنا إنا نطوف بكم ... باعا يباع ووجدانا بوجدان ورب ماش تبادرناه هرولة ... إليه تلقاه بشرى قبل تلقاني أما الغريب وإن عز المكان فلا ... يبعدنك الوهم في تقرير إمكان من فاوض الركن قد فاوضته بيدي ... هذا يميني فحيوها بأيمان من يستجر فإن بالمستجار له ... نعم المجير إذا يلجأ لي الجاني وعند ملتزم منا لملتزم ... لو شاء ما شاء منا غير منان ومنها قوله: ولي مقام أمين بالمقام فما ... نوفي فيه إلا كل أمان ولي بزمزم سر فيه زمزمة ... عنوانها عند أزمات وأزمان ومنها قوله: هذي الأماني لا أيام ذي سلم ... دار الأمان فما دار بغمدان كفاني الله تبديلا بمظهرها ... حتى أغيب في لحدي وأكفاني وأنشدني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري -تغمده الله برحمته- سماعا بالمسجد الحرام، أن القاضي عز الدين عبد العزيز ابن القاضي بدر الدين بن جماعة الشافعي أنشده سماعا، قال: أنشدني والدي لنفسه، وأنشدني عاليا الإمامان: أبو أحمد إبراهيم بن محمد اللهمي وأبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد المصري إذنا عن القاضي بدر الدين بن جماعة1 قال: ما بال قلبي لا يقر قراره ... حتى يقضي من منى أوطاره

_ 1 هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله توفي سنة 733هـ وترجمته في "لحظ الألحاظ".

ما ذاك إلا أنه من شوقه ... قد شام من وادي الحمى تذكاره يا سائق الأظعان إن جزت الحمى ... سلم على من بالمحصب داره واشرح له ما يلتقي مشتاقه ... من فرط شوق أحرقته ناره يصبو إذا ذكر الحطيم وزمزم ... والركن والبيت المكرم جاره ويهيم من شوق يفتت كبده ... إذ عز ملقاه وطال مزاره وأنشدني الرئيس شهاب الدين أحمد بن الحافظ صلاح الدين خليل بن كيلكلدي1 العلائي بقراءتي عليه في المسجد الأقصى بالرحلة الأولى أن الأستاذ أبا حيان محمد بن يوسف الأندلسي2 النحوي أنشدني لنفسه قصيدة نبوية على وزن بانت سعاد، قال فيها: وإذا قضيت غزاة فأتنف عملا ... للحج والحج للإسلام تكميل ثم قال بعد وصفه للحجاج: يسوقهم طرب نحو الحجاز فهم ... ذوو ارتباح على أكوارها ميل شعث رؤوسهم بلس شفاههم ... حوص عيونهم غرث مهازيل حتى إذا لاح من بيت الإله لهم ... نور إذا هم على الغبرا أراجيل يعفرون وجوها طال ما سهمت ... باكين حتى أديم الأرض مبلول حفوا بكعبة مولاهم فكعبهم ... عال بها لهم طوف وتقبيل وبالصفا وقتهم صاف بسعيهم ... وفي منى لمناهم كان تنويل تعرفوا عرفات واقفين بها ... لهم إلى الله تكبير وتهليل وأنشدني العلامة الأديب المفنن برهان الدين إبراهيم بن عبد الله بن محمد المعروف بالقيراطي لنفسه إجازة من قصيدة، وأنشدنيها سماعا قاضي مكة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة -رحمه الله عليه- عن القيراطي سماعا قال: ثم أنشأت من جفوني سحبا ... أي نثر كالدر من إنشاء كم سكبناه بل سكبناه تبرا ... فاز منه ثرى الحما بالثراء فإذا جئت المحصب فانثر ... من يواقيته على الحصباء أتمنى عيشا مضى وتقضى ... وتولى على الصفا بالصفاء ميت أحيا يناديك حيا ... إنما الميت ميت الأحياء لا يمل الثاوي هناك مقاما ... رب ثاو يمل طول الثواء

_ 1 ترجمته في "الضوء اللامح" 1/ 296. 2 ترجمته في "الدر الكامنة" 4/ 302-310 رقم 833، ذيل تذكرة الحفاظ "ص: 23-27".

حسبه هواه الرطب فينا ... فذكرناه مجامع الأهواء بك داء فارحل وجز بكداء ... وهو داء من الذنوب كداء ومنها قوله: ما حنينا للمنحني الجيد إلا ... واستقمنا بذلك الإنحناء ومنها قوله: أنا ما لي عن مكة من براح ... وبها أشتفي من البرحاء حبذا الكعبة التي قد تبدت ... وهي تزهو في حلة سوداء فصفا سترها مساء صباح ... وبياض الثنا صباح مساء قبل الخال لا أبا لك عشرا ... يا أخا حيها بغير إباء واملأ الحجر باللآلئ من الـ ... ـدمع ونزهه عن عقيق الدماء واشربن من شراب زمزم كاسا ... دب منه السرور في الأعضاء فهي حقا طعام طعم لجوع ... وبها للسقيم أي شفاء فسقى المسجد الحرام غمام ... ورعى عشنا على البطحاء كم حطمنا لدى الحطيم ذنوبا ... كثر عدها عن الإحصاء صاح قم طف للإله سبعا ... بيت رمى الفيل فيه بالدهماء مر بالمروين وارق لترقى ... بجنان مراقي السعداء واكحل العين عند مسعاك ... بالميل ففيه شفاء ذاك العماء ثم قف خاضعا على عرفات ... عل تعطى عوارف الإعطاء وارمها في منى إلى جمرات ... اللظى بها في انطفاء وأنشدنا الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب رحمه الله، إجازة لنفسه، وأنشدني ذلك قاضي القضاة جمال الدين بن ظهيرة من لفظه عن ابن الصاحب هذا سماعا، قال من قصيدة نبوية: على الأبطح المكي طيب سلامي ... وأزكى تحيات كمسك ختام وسقيا له من أدمع بهوامع ... تجود بحفظ الود جود كرام فذاك هو الحي الذي طاير المنى ... له فيه بالإطراب سجع حمام إذا ذكروا في الحي طيب حديثه ... خلعت على السماء ثوب منام وإن ظفرت نفسي بلثم ترابه ... لبست بذاك اللثم خير لثام منازل أفراحي وأنسي ولذتي ... وموسم أعيادي ودار هيام إذا مر بي من نحوها نسمة الصبا ... وجدت لها بردا لحر أوامي فتبعث في الروح حتى أكاد أن ... أطير وقد قص الجناح سقامي

فلله عهد من معاهد أنسه ... جديد ولو أبلى الممات عظامي فهل لي إلى تلك المواطن عودة ... على رغم حسادي وأهل ملامي وأكحل بالميل الأخيضر ناظري ... بإثمد ركن البيت قبل حمام وأنشد في عيدي بقرب أحبتي ... ألا إن هذا اليوم فطر صيامي أديروا أديروا ماء زمزم خالصا ... فذا خيرا كأس في ألذ مقام ونادوا على رأسي بأبواب شاربي ... عبيد ذليل مثقل بآثام عسى عطفه منكم عليه فإنه ... تعلق من إحسانكم بزمام وفي قوله أيضا: في مكة الوقت قد صفا لي ... بطيب جار لها ودار وخفض عيش جوار ربي ... فذاك خفضي على الجوار وقوله أيضا: ليل الحمى كله من طيبه سحر ... أحلى من النوم فيه عندنا السهر يستلقط البرد من أنفاسه خلسا ... يطفي بها نار أحشاء لها شرور وتجتلي الكعبة الغراء في خلع ... من الجمال على من فوقها الخفر دار الهوى برح أطيار القلوب ... بداء أكبادنا روض الربا العطر مستودع السر حضن الأمر منتقح ... إلام لا كنز لديه تحقر البدر فغنني واسقني من ماء زمزمها ... هذا هو العيش لا خمر ولا وتر وقوله أيضا: وليل ببطحاء الحمى قد قطعته ... وطائر أنسي في الهوى قد ترنما وطاف بكاسات الأماني سرورنا ... فطيب عيش في المقام وزمزما وقوله أيضا: بمكة قد طابت مجاورتي فيا ... إلهي فاجعلها مدى العمر سرمدا فأنت الذي أحللتني ساحة الهوى ... وعودت قلبي عادة فتعودا وقوله أيضا: بمكة نلت الخير من كل جانب ... ودست على أمنية النفس بالنعل فعن حرم الرحمن إن سرت قاصدا ... فلا كنت من نفسي الكريمة في حل وقوله مضمنا: مجاورتي بمكة نلت فيها ... أجل مناي من أقصى مرام وما ظفر الفتى في الدهر يوما ... بأطيب من مجاورة الكرام

والأشعار في التشوق إلى هذه المشاعر الشريفة كثيرة، ونسأل الله تعالى أن يجعل أعيننا بدوام مشاهدتها قريرة. وقد انتهى الغرض الذي أردنا جمعه في هذا الكتاب، ونسأل الله تعالى أن يجزل لنا فيه الثواب، وصلى الله عليه سيدنا محمد سيد المرسلين، وآله وصحبه الأكرمين.

خاتمة المؤلف للكتاب

خاتمة المؤلف للكتاب: قال مؤلفه محمد بن أحمد بن علي الحسني الفاسي المكي المالكي، ألهمه الله رشده وأنجح قصده: كنت ألفت هذا الكتاب على وجه أخصر من هذا، ثم زدت فيه أمورا كثير مفيدة، تكون نحوا من مقداره أولا، وزدت في أبوابه ستة عشر بابا؛ لأني استطلت الباب الأخيرة منه أولا، وهو الباب الرابع والعشرون، فجعلته سبعة عشر بابا؛ فصارت أبوابه أربعين بابا، ولم يخل باب منها من زيادة مفيدة، وأصلحت في كثير منها مواضع كثيرة ظهر لي أن غيرها أصوب منها، وذكرت في بعض الأبواب ما كنت ذكرته في غيره، مع الإعراض عما ذكرته في الباب الذي كان فيه، لما رأيت في ذلك من المناسبة، وكان أكثر ما زدته فيه، وما أصلحت فيه، وما ذكرته في بعض الأبواب، معرضا عن ذكري له في غيره، وجعلي الباب الأخير من التأليف الأول: سبعة عشر بابا، بعد خروج التأليف المختصر الأول من يدي إلى ديار مصر والمغرب واليمن والهند، ولأجل ذلك تعذر علي أن أضع فيه ذلك، وكان اختصار للمختصر الأول في آخر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وفي سنة أربع عشرة وثمانمائة، وفي سنة خمس عشر وثمانمائة، وفي سنة ست عشرة وثمانمائة، وما زدته في سنة خمس عشرة وست عشرة، أكثر مما زدته فيما قبلهما بكثير، وفي سنة ست عشرة جعلت أبوابه أربعين بابا، وزدت فيه فوائد كثيرة أيضا في المحرم وصفر من سنة سبع عشرة وثمانمائة بمكة، وزدت فيه في شوال وذي القعدة من السنة المذكورة فوائد كثيرة، بمرسى جزيرة كمران1، وفيما بينها وبين باب المندب2 من البحر المالح ببلاد اليمن، وزدت فيه في

_ 1 هي جزيرة باليمن. 2 باب المندب مضيق يفصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي.

بقية هذه السنة، وفي سنة ثمان عشرة، وفي سنة تسع عشرة فوائد كثيرة أيضا، وأنا حريص على أن ألحق فيه ما يناسب من المتجددات ومن الفوائد. وأسأل الله تعالى تيسير ذلك، وأظن أن الزيادة فيه تقل جدا؛ لأن غالب ما زدته فيه أخذته من كتاب الفاكهي؛ فإني لم أظفر به إلا بعد ذلك، ومن تاريخي المسمى بالعقد الثمن في تاريخ البلد الأمين، لما فيه من الأخبار ولاة مكة، والحوادث التي ذكرتها في الباب الذي فيه ذكر ولاة مكة في الإسلام، وقد أخذت من هذا الكتاب، ومن كتاب الفاكهي ما يناسب أن يذكر في هذا الكتاب. ونسأل الله تعالى تيسير القصد والتوفيق فيه للصواب، إنه كريم وهاب. وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأنام، ورضي الله عن آله واصحابه حماة الإسلام، وحسبنا الله ونعم الوكيل. آخر كتاب شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: تأليف الإمام العلامة الحافظ المؤرخ قاضي المسلمين: شهاب الدين أبي العباسي أحمد بن علي ابن العلامة أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني الفاسي المكي المالكي تغمده الله بالرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان ... آمين، والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ من هذه النسخة في عصر يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الثاني أحد شهور سنة أربع وستين وثمانمائة. والحمد لله حق حمده، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد خير خلقه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، حسبنا الله ونعم الوكيل.

الملحق الأول ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف شفاء الغرام

الملحق الأول: ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام" ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام" 1: قال العلامة المؤرخ ابن ظهيرة القرشي المخزومي المكي في كتابه "الجامع اللطيف في أخبار مكة المشرفة والبيت الشريف"2 ما تلخيصه: واستمر السيد بركات بعد موت الفاسي المؤرخ على ولاية مكة إلى أثناء سنة خمس وأربعين وثمانمائة فعزل عن ذلك. ثم وليها أخوه السيد علي بن حسن وكان بالقاهرة فوصل مكة يوم السبت مستهل شعبان واستمر متوليا إلى رابع شوال سنة ست وأربعين وثمانمائة3، وقبض عليه وعلى أخيه السيد إبراهيم. ثم وليها أخوه أبو القاسم بن حسن وقدم من مصر متوليا، فدخل مكة في يوم السبت السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ست وأربعين وثمانمائة واستمر متوليا إلى أوائل سنة خمسين فعزل. ثم أعيد السيد بركات إلى ولاية مكة ودامت ولايته إلى أن مرض وترعك بدنه؛ وذلك في سنة تسع وخمسين "بتقديم التاء المثناة الفوقية" وثمانمائة فسأل نائب جدة الأمير جاني بك الظاهر بأن يرسل إلى السلطان يسألة ولاية عمرة مكة لولده السيد محمد عوضا

_ 1 تذييل وتكميل من الناسخ الفقير إلى الله، الراجي من ربه بلوغ المراد، أبي الفيض وأبي الإسعاد، عبد الستار الصديقي الحنفي، ابن المرحوم الشيخ عبد الوهاب المبارك المكي البكري. 2 هو القاضي ابن ظهيرة المخزومي المكي، المؤرخ المتوفى عام 950هـ. 3 وذلك في عهد برسباي الأشرف "833-841هـ" وابنه العزيز يوسف بن برسباي "841-842هـ" وجزء من عهد الملك الظاهر سيف الدين جقمق العلائي "842-857هـ" وهم من الملوك الشراكسة في مصر.

عن أبيه فأجاب السلطان ذلك، وقبل وصول الخبر توفي السيد بركات في عصر يوم الاثنين تاسع عشر شعبان سنة تسع وخمسين بأرض خالد بوادي مر وحمل على أعناق الرجال إلى مكة ودفن بها في صبح يوم الثلاثاء لعشرين من شعبان؛ فلما كان عصر ذلك اليوم المذكور وصل قاصد من الديار المصرية بمرسوم للسيد محمد مؤرخا بسادس عشر رجب، ومضمونه ولاية مكة للسيد محمد عوضا عن والده حسب ما سأل نائب جدة، وكان السيد محمد خارجا عن مكة فدعى له على زمزم بعد المغرب من ليلة الأربعاء حادي عشر شعبان، ثم وصل السيد محمد مكة ليلة الجمعة سابع رمضان فقرئ موسمه في صبحها ثم لما كان رابع شوال من السنة المذكورة وصل إلى السيد محمد كتاب من السلطنة بالعزاء في والده وتوقيع باستمراره مؤرخا بشهر رمضان واستمر السيد محمد على ولاية مكة ودانت له البلاد وأطاعت له العباد لكونه أظهر العدل والإحسان والرأفة على الرعية والالتفات في أمور المسلمين وعدم الغفلة عن ذلك؛ فبسبب ذلك طالت مدته وحمدت سيرته وطابت سريرته فكانت مدة ولايته ثلاثا وأربعين سنة ونصفا إلا أربعة أيام مع مشاركة والده السيد بركات على عوائدهم، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى في الحادي والعشرين من محرم الحرام سنة ثلاث وتسعمائة بوادي الأبيار وحمل إلى مكة ووقف بها1. ثم وليها من بعده ولده السيد بركات بن محمد بركات من قبل الملك الناصر محمد بن قايتباي في رابع شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وتسعمائة واستمر على ولايتها إلى أن كان موسم سنة ست وتسعمائة. ووليها أخوه السيد هزاع بن محمد بعد محاربة وقعت بينه وبين أخيه السابق السيد بركات بالموسم المذكور بمحل يقال له وادي الحجون2 بمر الظهران وانهزم السيد بركات ودخل السيد هزاع مكة وحج بالناس سنة ثم خرج منها بعد انقضاء الموسم إلى ينبع3 خوفا من أخيه بركات لقلة عسكره؛ فعاد السيد بركات إلى مكة واستمر بها إلى جمادى الثانية سنة سبع بتقديم السين وتسعمائة فوصل السيد هزاع من ينبع بعسكر عظيم

_ 1 فقد استمرت ولايته من عام 589هـ حتى عام 903هـ وعاصر عهد ملك مصر المنصور بن الظاهر جقمق "857هـ"، ثم الملك الأشرف أنيال العلائي "857-865هـ"، ثم ابنه الملك المؤيد أحمد بن أنيال "865هـ"، ثم الملك الناصر سيف الدين بن سعيد خوشقدم الناصري "865-872هـ" ثم الملك الظاهر الناصر يلباي المؤيدي "872هـ"، ثم الملك الظاهر أبي سعيد تمربغا الظاهري "872هـ"، ثم قايتباي "872-901هـ"، ثم ابنه الناصر أبو السعادات "901-904هـ". 2 المعرف أن الحجوم بمكة، أما مر الظهران فهي تبعد عن مكة لأنها بالمكان الذي يقال له الآن: "وادي فاطمة". 3 قد سبق التعريف بينبع.

وتحارب هو وأخوه السد بركات محاربة ثانية بمحل يقال له: "طرف البرقا"1 فانهزم السيد بركات؛ فوليها السيد هزاع ثانيا واستمر إلى خامس عشر من رجب ثم توفي إلى رحمة الله. ثم عاد السيد بركات إلى مكة واستمرت الفتن والشرور بينه وبين أخيه السيد أحمد جازان وتحاربا مرارا، وكان ابتداء ذلك من أواخر ذي الحجة سنة سبع وتسعمائة إلى أن كان يوم السبت الخامس والعشرون من شوال سنة ثمان وتسعمائة فوصل السيد جازان بعسكر كبير من ينبع من بني إبراهيم وغيرهم ووقع الحرب بينه وبين أخيه السيد بركات فانهزم السيد بركات. ثم وليها السيد أحمد جازان ودخل مكة في يوم السبت المذكور ونهب عسكره مكة وفعلوا أفعالا قبيحة وانتهكوا حرمة البيت وجرى منهم على مكة وأهلها أمورا شنيعة ليس هذا محل ذكرها ولا نحن بصددها، واستمر السيد جازان بمكة إلى آخر ذي القعدة من السنة المذكورة فبلغه وصول التجريدة من قبل السلطان الغوري2 بقيادة الأمير الكبير المعروف: بقتب الرجبي "بالجيم ثم الموحدة" بسبب ما فعله السيد جازان من نحو مكة ونهب الحاج الشامي والمصري فخرج من مكة هاربا، وهذا الشريف أحمد جازان المذكور هو جد أشراف مكة. ثم عاد إلى مكة السيد بركات فواجه أمير التجريدة وقبض عليه، ثم حج وتوجه بعد ذلك إلى القاهرة من طريق ينبع في أوائل سنة تسع وسبعمائة، ثم عاد السيد جازان إلى مكة واستمر بها إلى يوم الجمعة عاشر رجب من السنة المذكورة فقتله الأتراك الشراكسة بالمطاف. ثم وليها بعده أخوه السيد حميضة بن محمد واستمر إلى أواخر محرم أو أوائل صفر من سنة عشر وتسعمائة فعزل. ثم وليها أخوه السيد قايتباي بن محمد بإشارة أخيه السيد بركات، وقد أمكنه الله بالفرار إلى مكة من مصر ولم يشعر به الغوري إلا بعد يومين؛ فأرسل خلفه فلم يلحقه، واستمر قايتباي متوليا موافقا لأخيه بركات مستضيئا برأيه إلى أن توفي إلى رحمة الله يوم الأحد الحادي والعشرين من صفر عام ثمان عشرة وتسعمائة بأرض حسان بوادي مر، فحمل إلى مكة فدفن بها، وهذا الشريف قايتباي جد أشراف مكة. ثم استولى السيد بركات بعد موته على مكة إلى شهر شعبان من هذه السنة بمفرده.

_ 1 البرقا: ماء معروف بمر الظهران. 2 هو الملك الأشرف قانصوه الغوري، ولي حكم مصر من عام 906هـ حتى 922هـ.

ثم أرسل السلطان الغوري يطلب الشريف بركات إلى مصر، فاعتذر، وأرسل ولده الشريف محمد أبا نمي بن بركات إلى الديار المصرية فوصلها1 فقابل السلطان قانصوه فأكرمه وعظمه وأنعم عليه بإمرة مكة، ثم عاد إليها شريكا لأبيه وعمره يومئذ سبع سنوات وبضعة شهور2 وكان وصوله إلى مكة في أواخر ذي القعدة الحرام بين يدي الحاج من السنة المذكورة، واستمر كذلك إلى أن كان عام ثلاث وعشرين وتسعمائة فاستولى السلطان سليم خان من آل عثمان على الديار الشامية والمصرية والحرمين الشريفين وجهز؛ فأصدر إلى مكة3 للسيد بركات وابنه السيد أبي نمي باستمرارها في إمرة مكة، فتجهز حينئذ السيد أبو نمي، وسافر إلى القاهرة وقابل السلطان سليما4 المذكور بمصر فأكرمه واحترمه وأقره هو ووالده على إمرة مكة، ثم عاد إلى مكة واستمر شريكا لوالده إلى أن أذن الله بوفاة والده السيد بركات في أثناء ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من ذي القعدة الحرام عام إحدى وثلاثين وتسعمائة5 وله من العمر إحدى وسبعون سنة. ثم ولي بها بعده السيد محمد أبو نمي بمفرده ولقب بنجم الدين، ووصلت إليه الأحكام السلطانية السليمانية بولاية إمرة مكة في أواخر عام اثنين وثلاثين وتسعمائة فاطمأنت به الخواطر وقرت به النواظر واستمر منفردا بالولاية إلى عام ست وأربعين وتسعمائة. ثم وليها ابنه السيد أحمد شريكا لوالده في هذا العام بعد وصوله إلى الديار الرومية ومقابلته للإمام الأعظم والخاقان المكرم الملك المظفر السلطان سليمان خان؛ فقوبل بالإكرام والرعاية والاحترام، وعاد إلى مكة في أول ربيع الأول عام سبع وأربعين وتسعمائة واستمر شريكا لوالده الشريف أبي نمي إلى عام خمسين وتسعمائة. واستمر الشريف أحمد بن أبي نمي إلى رجب سنة إحدى وستين وتسعمائة شريكا لوالده، وانتقل إلى رحمة الله ودفن بالمعلاة، وهو الشريف أحمد وهو جد ذوي حراز وذوي قنديل من أشراف مكة، والله أعلم. ثم أقام الشريف أبو نمي ولده الثاني الشريف حسن وعرض ذلك على الأبواب السلطانية السليمانية ففوض إليه الأمر، واستمر والده مشاركا له في الدعاء إلى أن مات

_ 1 إن عمره آنذاك 12 عاما، على رواية القطبي "ص: 214 من تاريخ القبطي". 2 هذا غير معقول، والصحيح أن عمره كان 12 عاما، كما سبق أن ذكرناه عن القبطي. 3 أي مرسوما. 4 تولى السلطان سليم حكم الدولة العثمانية من عام 917 حتى عام 926هـ وهو الذي فتح مصر، ودانت له البلاد الخاضعة لحكم مصر ومنها الحجاز. 5 وذلك في خلافة السلطان سليمان القانوني "926-974هـ".

في المحرم سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة بتقديم التاء فيهما، فاستقل ولده الشريف حسن بالأمور، وهذا الشريف حسن هو جد ذوي حسن من الأشراف. ثم في أوائل عام سنة تسع بعد الألف عرض الشريف حسن لأكبر أولاده أن يشاركه في الأمر؛ فوصل الأمر الشريف السلطاني في آخر السنة المذكورة بأن يكون أول أولاده الشريف أبو طالب بن حسن مشاركا لوالده، ودعى لهما واستمر مشاركا لوالده إلى أن قضى الله على والده الشريف حسن فتوفي في ثالث جمادى الآخرة سنة عشرة وألف في محل يسمى فاعية، بينه وبين مكة نحو سبعة أيام بالجمال، وحمل إلى مكة ودفن بالمعلاة. واستقل بالأمر الشريف أبو طالب المذكور استقلالا تاما إلى أن توفي في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وألف بمحل يقال له: العشبة بنواحي بيشة فغسل هناك وكفن وقصد به مكة ودفن بالمعلاة بعد الصلاة عليه حسب العادة، وهو يزار وينذر له النذور، وتحمي ساداتنا بنو حسن من التجأ إلى قبره ولا ينال من استجار به مكروه. ثم اجتمع الأشراف جميعهم فاختاروا الشريف إدريس بن حسن بن أبي نمي أخا المذكور وصدروه في جميع الأمور وأشركوا معه في الدعاء الشريف: محسن بن حسين بن حسن بن أبي نمي، والشريف فهيد بن حسين، وكتبوا بذلك إلى أبواب السلطنة العثمانية إلى الروم، ثم وصل المكتوب واستمروا كذلك إلى آخر شهر ربيع الآخر من سنة تسع عشرة وألف؛ فدخل الشريف محسن بن حسين بن حسن من اليمن بأمر من الشريف إدريس وقد كان الشريف محسن خرج إلى اليمن مغاضبا للشريف إدريس في سنة خمس عشرة وألف، ثم أخرجوا الشريف فهيدا من الديار المكية ورفعوا يده عما كان يستلمه من غلة الأقطار الحجازية فذهب إلى الروم ومات سنة إحدى وعشرين وألف، واستوى على ذلك كله الشريف إدريس، ثم إنه جعل ما كان للشريف فهيد من الربع لابن أخيه الشريف محسن بن حسين بن حسن، واستمر كذلك إلى أن حصل التنافر بين الشريف محسن وعمه الشريف إدريس؛ فعند ذلك اجتمع أهل الحل والعقد من بني عمه فرفعوا الشريف إدريس وفوضوا الأمر إلى الشريف محسن في يوم الخميس رابع محرم سنة أربع وثلاثين، وألف حصل بسبب ذلك القتال، وركب الشريف أحمد بن عبد المطلب بن حسن ومعه خيل ونادى في البلاد السابق ذكره، ثم خرج الشريف إدريس ليلة عيد المولد متوجها إلى الشريف مريضا فتوفي في جمادى الأخرى من سنته؛ ثم عرض على الأبواب السلطانية ما وقع فجاء التأييد في رابع عشر رمضان من العام المذكور للشريف محسن.

ولم يزل الشريف محسن منفردا بمراده قامعا لأضداده آمنا في سربه عزيزا في حزبه إلى أن دخلت سنة سبع وثلاثين وألف وحصل القتال فيما بينه وبين الشريف أحمد بن عبد المطلب بن حسن؛ فدخل الشريف أحمد مكة وخرج الشريف محسن إلى اليمن بعد عزله في يوم الأحد سابع عشر رمضان من السنة المذكورة، واستمر هناك إلى أن توفي سادس رمضان المعظم بظاهر صنعاء اليمن سنة ألف وثمان وثلاثين وعمره أربع وخمسون سنة، فحمل إلى صنعاء ودفن بها وبنى عليه قبة تزار. واستمر الشريف أحمد متغلبا على مكة إلى أن قتله قانصوه أمير الحج المصري في سنة تسع بتقديم التاء وثلاثين وألف. وولي الشريف مسعود بن إدريس إمرة مكة ونودي له في البلاد واستمرار إلى أن توفي في ثاني عشرين من ربيع الثاني سنة أربعين وألف؛ فاتفق الأشراف على تولية عمه الشريف عبد الله بن حسن بن أبي نمي وإليه ينسب العبادلة جميعا، وعرضوا ذلك على الأبواب السلطانية العثمانية فجاءت المراسم بتأييده وفي أيامه كان إتمام عمارة البيت المعظم في أيام سلطنة الخاقان الأعظم السلطان مراد خان، وهذه هي العمارة الموجودة إلى وقتنا هذا، ثم في يوم الجمعة غرة صفر سنة إحدى وأربعين وألف خلع نفسه تعففا وديانة، وقلد إمرة مكة لولده الشريف محمد بن عبد الله بن حسن وابن أخيه الشريف زيد بن محسن بن حسين بن حسن وإليه ينسب أمراء مكة ذوي زيد، وكان الشريف عبد الله قد أرسل إليه يطلبه من اليمن؛ لكونه بغي هناك بعد وفاة والده الشريف محسن؛ فوفد إليه فأشركه مع ولده الشريف محمد، وتجرد حينئذ الشريف عبد الله عن إمرة مكة للعبادة إلا أنه كان يدعى له على المنبر معهما إلى أن توفي بالمنحني في بستان خياير بيك ليلة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة أي سنة 1041 وصلى عليه ودفن بالمعلاة عند والده الشريف حسن. وأعقب جملة من الذكور وهم محمد وأحمد وحمود وحسين وهاشم وثقبة وزامل ومبارك زين العادين، ولهؤلاء أعقاب معروفون بمكة واليمن والحجاز يقال لهم العبادلة. ثم استمر الأميران على ولاية مكة وجاءهما التأييد من السلطنة العثمانية المرادية، ثم قتل الشريف محمد بن عبد الله بن في وقعة الجلالبة وهي وقعة البغاة من جند قانصوه قدموا من اليمن في سنته ووصلوا السعدية واقتتلوا بأسفل مكة عند فوز المكامسة؛ فاستشهد الشريف محمد المذكور في يوم الأربعاء خامس عشر من شعبان، فوصلوا به مكة عصر ذلك اليوم وغسلوه ودفنوه بعد أن صلوا عليه. ثم دخلت الأتراك مكة ومعهم الشريف نامي بن عبد الملك بن حسن، فنودي له بالبلاد بعد أن ولاه قانصوه وأشركوا مع الشريف عبد العزيز بن إدريس في ربع مكة ولم

يشركه في الدعاء، وخرج الشريف زيد إلى بدر، وأرسل الشر يف علي بن هيازع إلى الأبواب السلطانية الشريفة يخبرها بوقعة الجلالبة، ثم توجه هو إلى المدينة النبوية فجاءه هناك قفطانان ولبسهما في حجرة جده -صلى الله عليه وسلم- وتوجه إلى ينبع فواجه العسكر وسار معهم إلى أن وصل الجموم وبلغ خبرهم إلى صاحب مكة الشريف نامي السابق؛ فخرج هو وأخوه الشريف عبد العزيز لأربع من ذي الحجة من سنته وتوجهوا إلى تربة، وتوجه الشريف عبد العزيز إلى ينبع وكان بمكة الشريف أحمد بن قتادة بن ثقبة بن مهنا فنادى في البلاد للسلطان، وأرسل للشريف زيد وأخبره بخلو البلاد؛ ففي سنته من ذي الحجة دخل الشريف زيد مكة ومعه الصناجق الأربعة المرسلة من السلطنة والعسكر، ونزل بدار السعادة فنودي له في البلاد وحج بالناس في سنته، ثم بعد قضاء المناسك توجه إلى تربة لمحاصرة المذكورين؛ فحاصرهم وهجم بالعسكر على الحصن ودخوله في سنة اثنتين وأربعين وألف ليلة الجمعة حادي عشر من محرم، وأمسكوا الشريف نامي وأخاه ثم رجعوا إلى مكة واستفتوا العلماء بقتلهما فأفتوا بذلك فشنقوا يوم الخميس ثاني عشر من محرم، وكان مدة الشريف نامي على عدد حروف اسمه مائة يوم، وبقي زيد حاكما على مكة إلى أن توفي يوم الثلاثاء في صبحه ثامن محرم أو ثالثه سنة سبع وسبعين وألف ومدته خمس وثلاثون سنة، وكانت ولادته بعد مضي درجتين من شروق شمس يوم الاثنين سبع عشرة شعبان من سنة تسع عشرة وألف ببلدة بيشة وكان رديفه الشريف حمود بن عبد الله بن حسن جد الحمودية من العبادلة؛ فكان يرى أنه الأحق بولاية مكة، فاستحسن عمار أفندي سنجق جدة وشيخ الحرم المكي تولية الشريف سعد بن زيد المذكور وحصلت هناك رجة شديدة لمنازعة الشريف حمود وكان يطلبها لنفسه، وكان له أتباع نحو أربعمائة من بني عمه وعبيده وغيرهم وللشريف سعد المذكور أضعاف ذلك، وتأخر تأمير الشريف سعد بن زيد بسبب المنازعة المذكورة إلى بعد الزوال وكان إذ ذاك بمكة المشرفة جماعة من أكابر الأتراك والأروام فاتفق رأيهم على تولية الشريف بعد المذكور فذهبوا لبيته، وخلعوا عليه وهنوه وعزوه في والده على أنهم يرسلون إلى السلطان محمد خان في ذلك، ثم إنه جلس للتهنئة، وأرسل إلى حاكم الطائف، وكان إذ ذاك بمكة وأمره أن يطلع إلى الطائف من ليلته وكان أهلها في شدة عظيمة فحصل لهم السرور واطمأنوا بقدومه. وأما ما كان من طرق الحجاز؛ فقد وقع فيها النهب واشتد فيها فلما كان يوم الخميس حصل بمكة اضطراب كبير من مشاجرة وقعت بين الشريف سعد والشريف حمود، ووقع بينهم رمي البندق ومع ذلك لم يحصل فيهم ضرر والحمد لله، ووقع لذلك اضطراب الطائف حتى إن الخطيب امتنع من الخطبة بها لشهرة ذلك عندهم وتخيل عدم صحة التولية، وإن ذلك ناشئ عنه، وقد وقع بين بعض القبائل قتال ولم يزل الناس بعد

ذلك في قيل وقال إلى اليوم الثالث عشر من توليته فوقع الاتفاق بينهم وزينوا لذلك مكة حسب عادتهم ثلاث ليالي واطمأنت القلوب وراقت الأفكار ودام السرور وزالت الأحزان، والناس مستبشرون بتوليته؛ غير أنه لم تأته الخلعة السلطانية إلا بعد مضي ستة أشهر وهذه هي الولاية الأولى له؛ فلما أهل شهر رجب وقع في رابعه بين جماعة الشريف سعد وجماعة الشريف حمواد النزاع مرة أخرى واشتد الأمر وتجمعت القبائل والعساكر وتراموا بالبندق، ومات نحو أربعة رجال اثنان منهم خطأ، ودام ذلك بينهم ليلتين ويوما وبعض يوم، ثم وقع الصلح ونودي بالأمن والحمد لله إلى صبيحة اليوم السادس والعشرين من رجب؛ فجاء التأييد والخلع السلطانية بإمارة مكة للشريف سعد المذكور فحصل بها غاية السرور ونودي بالزينة سبع ليال وأعطى عسكره في ذلك اليوم ألفي دينار وخلع على كثير من خدامه، واستمر الأم إلى شهر ذي القعدة فحصل أيضا بين الشريف سعد والشريف حمود تنافر وكلام من جهة المعلوم وخرج لذلك من مكة؛ فلما كان الثالث والعشرون من الشهر المذكور أرسل خدامه إلى الطرقات ينتهبون ما يجدون فبالغوا في ذلك وجمعوا أموالًا كثيرة من القوافل وغيرهم؛ حتى إنهم أخذوا فرسا لبعض خدام الشريف وأرسل لهم عند ذلك عسكرا فلم يجدوهم، واستمر أمرهم كذلك إلى زمن الحج فلم يقع منهم أذية للحجاج؛ غير أن أهل مكة وقراها والعرب لم يحج منهم إلا القليل، وبعد انقضاء الحج طلبوه للصلح وحضر القاضي فلم يقع الصلح وذكر أنه متوجه إلى مصر وخرج مع الأمير المصري إلى بدر فتخلف فيها، ثم انتقل إلى ينبع، ووقع لبعض أولاد الشريف زيد تنافر مع أخيرهم الشريف سعد والتحقوا بالسيد حمود وفعلوا مثل فعله من النهب وغيره، وجهز الشريف إليهم فلم يظفر بهم بل ببعض أموالهم ووقع من الشريف حمود أمور مشتهرة قيدها غير واحد من المؤرخين. وفي هذه المدة تكاثرت الفتن والغلاء والسرقة والحرائق وسقوط النجوم وظهر عمود في السماء لم يظهر مثله وكثر الفناء والمرض وكسفت الشمس، وقد كان توجه الشريف سعد إلى ينبع مع الحج المصري وخلف أخاه الشريف أحمد بن زيد على مكة؛ فأقامه الله سبحانه وتعالى أحسن قيام ووجد الطعام ثم توجه هو إلى نواحي المبعوث وأقام مقامه الشريف بشير بن سليمان في صفر من سنة ألف وتسع وسبعين، انتهى ما وجدته مذيلا على نسخة المؤرخ العلامة ابن ظهيرة الموجودة بمصر بالأزهر الأنور برواق الأروام بخط كاتب ذلك التاريخ، وتم نسخ النسخة المذكورة في يوم الأحد الحاديث عشر من ذي القعدة الحرام من سنة ألف ومائة وتسع وثلاثين من هجرته -صلى الله عليه وسلم. ثم رجع الشريف سعد إلى مكة في يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي القعدة من ينبع واستمر إلى سنة ثلاث وثمانين وألف وكان في هذه السنة أمير الحج حسين باشا فحصل التنافر في يوم الحادي عشر من ذي الحجة بمنى بين الشريف سعد وبين الباشا، وكان في

ذلك اليوم ترد الخلع السلطانية والمرسوم المتضمن بقاء الولاية والوصاية على الرعية والحجاج وتأخير أمين الصرة بذلك عن وقته المعهود وتعدى الحدود؛ فحينئذ أرسل الشريف سعد في طلبه فوجده عند الباشا المذكور وبعثوا يطلبونه من عندهم للبسه وكان مرادهم اقتناصه من أبناء جنسه؛ فأرسل يعرفهم أن القواعد جرت بأن يأتيهم به إليه فمنعوه وشحوا به عليه؛ فعلم الشريف القضية وأيقن أنه لا بد من القتال فترك ذلك حرمة للزمان والمكان ورأى أن القتال في هذا الشهر الشريف مما يضر بأهل التعريف وارتحل هو وأخوه الشريف أحمد ليلة الاثنين الثالث عشر من ذي الحجة المذكور إلى الطائف ثم إلى تربة ثم إلى بيشة ثم سار منها إلى بلاد عديدة إلى أن اجتماعا ووصل الديار الرومية وقابل الدولة العلية وبقيا هناك؛ فلما أصبح الناس يوم الثاني عشر منه شاع بين الناس ارتحال الشريف سعد وأخيه أحمد فاجتمع حسين باشا وأمين الصرة في بيت الشيخ محمد بن سليمان بمنى واستدعوا جماعة من الأشراف منهم الشريف بركات بن محمد بن إبراهيم بن بركات بن أبي نمي فأظهر الباشا أمرا سلطانيا بتولية المذكور فألبسوه خلعة الولاية، ثم إنه نزل من منى في موكب عظيم إلى مكة وجلس كهيئته في دار أبيه المعروفة به واستمر في ولاية مكة عشر سنين وعدة أيام إلى أن توفي ليلة الخميس في التاسع والعشرين من ربيع الثاني سنة ثلاث وتسعين وألف، ودفن بجوار الشيخ النسفي بوصاية منه، وقد ترجمه العلامة المحبي في تاريخ "خلاصة الأثر". فولي مكة بعده ابنه الشريف سعد بن بركات وألبسه قاضي مكة خلعة الاستمرار بموجب الأمر السلطاني الذي بيده المتضمن كونه ولي عهد أبيه بعد يوم وفاة أبيه، ولم ينازعه أحد في ذلك، ثم ورد التأييد السلطاني بذلك أيضا وبقي إلى سنة خمس وتسعين وألف. فولي بعده السلطان إمارة مكة للشريف أحمد بن زيد من الأستانة؛ لكونه كان موجودا هناك وسار إليها كما تقدم مع أخيه الشريف سعد، ثم دخل هو مكة في سابع ذي الحجة من سنة خمس وتسعين وألف، وتوجه الشريف سعيد بن بركات إلى مصر وتوفي بها، استمر الشريف أحمد إلى سنة تسع وتسعين "بتقديم التاء فيهما" وألف وتوفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من العام المذكور. فولي مكة الشريف سعيد بن سعد بن زيد وهي المرة الأولى من إمارته؛ حتى ورد الشريف أحمد بن غالب مكة ومعه أمر سلطاني بإمارة مكة له في ثاني شوال من السنة المذكورة وجلس للتهنئة وحصل التنافر بينه وبين الأشراف فنودي بالطائف وحده للشريف محسن بن حسين بن زيد فدخل مكة وخرج الشريف أحمد بن غالب بعد عشرين يوما منها، وجلس للتهنئة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من رجب سنة ألف ومائة

وواحد وجاءه التأييد السلطاني؛ فبقي مدة حتى صار الاختلاف فيما بين الأشراف في سنة ثلاث بعد المائة والألف إلى أن نزل عن ولاية مكة للشريف مساعد بن سعد جد ذوي مساعد من آل زيد. ونزل هو للشريف سعيد بن سعد السابق جد ذوي سعيد بن ذوي زيد بحضرة القاضي فسجل ذلك، وبعث القاضي الشريف سعيد قفطانا من السلطان فلبسه وجلس للتهنئة يوم الأحد سابع محرم سنة ثلاث ومائة وألف، وهذه هي الولاية الثانية للشريف سعيد، ثم أرسلوا الخبر إلى أبواب السلطنة بذلك فولت والده الشريف سعد ذلك، وهذه هي الولاية الثانية له وكان حينئذ عندهم كما تقدم، ولم تزل الأخبار تتوارد بمجيء الشريف سعد إلا أن دخل مكة مع الحج في ذي الحجة من العام وجلس في دار للتهنئة، ثم بعد مدة في أواخر سنة خمس ومائة وألف عزل عنها لمنافرة حصلت بينه وبين محمد باشا صاحب جدة. فولي إمارة مكة الشريف عبد الله بن هاشم بن محمد بن عبد المطلب بن حسن بن أبي نمي وخرج الشريف سعد إلى القنفذة. ثم رجع الشريف أحمد بن غالب مكة وواجه أميرها الشريف عبد الله بن هاشم، ثم وصل الخير إلى الشريف بالقنفذة، وورد مكة فحصل القتال بينه وبين جماعة الشريف عبد الله بن هاشم الأمير والشريف أحمد بن غالب. فغلب الشريف أسعد على مكة ودخلها وارتحل الشريف عبد الله والشريف أحمد إلى الرنى فاجتمع الأشراف وقالوا إن الفتنة لا تسكن إلا إذا نودي في البلاد للشريف سعد فحينئذ تم الأمر له وجلس في داره للتهنئة، وكانت مدة تولية الشريف عبد الله أربعة أشهر، وهذه هي الولاية الثالثة للشريف سعد، ثم وصل الخبر بذلك إلى الأبواب الخاقانية والسلطنة العثمانية؛ فأرسل حينئذ السلطان مصطفى خان التأييد للشريف سعد. وإلى هنا تم تاريخ العلامة المؤرخ السنجاري1 المسمى "منائح الكرم في أخبار مكة وولاة الحرم". واستمر الشريف سعد في ولايته هذه مطمئنا إلى سنة ثلاث عشرة ومائة وألف؛ فاستحسن أن يعرض للدولة إقامة ولده الشريف سعيد مقامه في ولاية مكة وينزل عنها فأجيب إلى ذلك، وهيه هي الولاية الثالثة للشريف سعيد السابق ذكره، وبقي فيها إلى أن حصل التنافر فيما بينه وبين الأشراف وامتدت الولاية إلى سنة ست عشرة ومائة، وحصل

_ 1 هو السنجاري المكي المؤرخ المتوفى عام 1125هـ.

بينهما القتال إلى أن خرج الشريف سعيد بن المغرب من أعلى مكة في ليلة الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول من العام المذكور. ثم دخلت الأشراف مكة ورئيسهم الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد فنودي في البلاد له بحكم سليمان باشا بعد عزل الشريف سعيد؛ فجلس في دار السعادة للتنهئة وبقي تسعة أيام. ثم نزل عنها للشريف عبد الكريم بن محمد بن يعلى بن حمزة بن مغامس بن بركات بن أبي نمي جد ذوي عبد الكريم من آل بركات؛ فقبلها برضاء الأشراف جميعا وجلس في داره للتنهئة وهذه هي الولاية الأولى له. ثم وقع فيما بين قائم مقام الشريف عبد الكريم بمكة وبين الشريف سعد النزاع وحصل القتال فيما بينهما؛ فغلب عليه فنودي في البلاد للشريف سعد المذكور سادس شوال من سنة ست عشرة ومائة وألف، وكان أمير مكة -إذ ذاك- غائبا باليمن ودخل الشريف سعد مكل وأرسل له الباشا قفطانا، وهذه هي الولاية الرابع للشريف سعد بن زيد وأقام فيها ثمانية عشر يوما، وسببه أن الشريف عبد الكريم ورد الحسينية1 قافلا من اليمن ومعه بنو عمه وقبائل عتبة وحرب وقاتل الشريف سعدا إلى أن انهزم؛ فدخل الشريف عبد الكريم مكة وفي صحبته الشريف عبد المحسن، ونودي في شوارع مكة للشريف عبد الكريم، وهذه هي الولاية الثانية له واطمأنت البلاد وخرج الشريف سعد إلى العابدية، وتوفي هناك يوم الأحد خامس ذي القعدة من سنة ست عشرة ومائة وألف، ودفن بقبة الشريف أبي طالب عند قبر والده الشريف زيد. ثم ورد الأمر الشاهاني بتولية الشريف سعيد بن سعد من الدولة العلية؛ فدخل مكة بعده في اليوم السابع من ذي الحجة ونودي له في البلاد، وهذه هي الولاية الرابعة للشريف سعيد؛ فحج من سنته وذهبت القوافل حسب عادتها وأهل محرم سنة سبع عشرة ومائة وألف. ثم كان يوم الاثنين ثامن عشر من رجب ورد مكة خبر أغا السلطان وصحبته الأمر السلطاني بتولية مكة للشريف عبد الكريم بن محمد بن يعلى السابق، ثم وصل الأغا جده ونودي له بها؛ فلما كان يوم الثلاثاء سادس شعبان دخل الشريف عبد الكريم مكة، وهذه هي الولاية الثالثة له وجلس للتنهئة في داره وبقي إلى سنة ثلاث وعشرين ومائة ألف. وفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب أو شوال من السنة المذكورة وردت الأخبار من المدينة النبوية بأن السلطنة أمرت بتوجيه ولاية مكة للشريف سعيد وورد إليهم

_ 1 الحسينية: مزرعة معروفة بأسفل مكة. وهي للأشرف من ذوي زيد.

صورة الأمر الوارد فدخل الشريف سعيد ثامن عشر من ذي القعدة ونودي له في البلاد وجلس للتنهئة، وهذه هي الولاية الخامسة للشريف سعيد المذكور، واستمر فيها إلى أن توفي في الحاديث والعشرين من المحرم سنة تسع وعشرين ومائة وألف. ثم تولى بعده ولده الشريف عبد الله بن سعيد وبقي إلى سنة ثلاثين ومائة وألف في ست وعشرين من جمادى الأولى وطلب الشريف علي بن سعيد فأعطاه ولاية مكة، وكتبوا إلى الدولة باستحسان ذلك فجاءته المراسيم السلطانية في شوال من سنته، ثم عدن ورود باشتة المحمل طلبت الأشراف أن يولوا الشريف يحيى بن بركات ويعزلوا الشريف الحالي فوافقهم على ذلك؛ فألبس الباشا الشريف يحيى بن بركات خلعة الولاية، وهذه هي الولاية الأولى له؛ وذلك في اليوم السادس من ذي الحجة من سنة ثلاثين ومائة وألف ودخل مكة وخرج الشريف علي بن سعيد منها، واستمر الشريف يحيى إلى أن عزل عنها بالشريف مبارك بن أحمد بن زيد من سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف، فدخل مكة بعد القتال مع الشريف يحيى ونودي للشريف مبارك في شوارع مكة وجلس للتنهئة، وهذه هي الولاية الأولى للشريف مبارك، ولم يزل في إمارة مكة إلى ست من ذي الحجة من سنة أربع وثلاثين ومائة وألف؛ فانتزعها منه الشريف يحيى بن بركات السابق ذكره بولاية من السلطنة الشريفة، وكان قد توجه هذا الشريف إلى دار السلطنة حتى اجتمع بالسلطان أحمد خان بن محمد بن إبراهيم خان العثماني؛ فولاه ذلك وأرسله مع أمير المحمل الشامي هو ووالي جدة أيضا فدخلوا مكة في ست من ذي الحجة ونودي له في البلاد، وهذه هي الولاية الثانية للشريف بركات في ذي الحجة في سبع وعشرين منه من سنة خمس وثلاثين ومائة وألف، ثم حصل القتال فيما بينه وبين الشريف مبارك بن أحمد بن زيد المار ذكره في ثاني عشر من المحرم الحرام من سنة ست وثلاثين ومائة وألف؛ فانهزم الشريف بركات بن يحيى بن بركات ودخل مكة الشريف مبارك بن أحمد ونودي له وعم الأمن من كل الجهات، وهذه هي الولاية الثانية له. فلما كان خامس عشر جمادى الآخرة عزل عنها وتولى بأمر السلطان الشريف عبد الله بن سعيد ولاية مكة، وهذه هي الولاية الثانية له وكان ذلك في التاريخ المذكور، ثم بقي إلى أن توفي خامس عشر ذي القعدة من سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف، فتولى، ولده محمد ذلك بعد أن نودي له ودعي من اليمن وكان حين وفاة والده بها؛ فوصل مكة في تسع وعشرين من ذي القعدة الحرام من العام المذكور وألبس الخلعة ونودي له في البلاد وعلى المنبر دعي له وكان عمره عشرين سنة، واستمر إلى أن حصل النزاع والقتال فيما بينه وبين الشريف مسعود بن سعيد عمه؛ إلى أن انهز الشريف محمد بن عبد الله بن سعيد فدخل الشريف مسعود مكة في سابع جمادى الأولى من سنة خمس وأربعين ومائة

وألف ونودي له في شوارع مكة، وهذه هي الولاية الأولى للشريف مسعود، ثم ارتحل الشريف محمد بن عبد الله بن سعيد اليمني، ثم رجع إلى الطائف فارتحل إليه الأمير الشريف مسعود وحصل القتال فيما بينهما فانهزم الشريف مسعود واستقل الشريف محمد بن عبد الله بكرسي الولاية وتوجه إلى مكة، وهذه هي الولاية الثانية له في السنة المذكورة، وبقي إلى أن أقبل الشريف مسعود بن سعيد مكة بجماعة معه فتقاتلا صبح اليوم السابع من رمضان من سنة ست وأربعين ومائة وألف؛ فانهزم الشريف محمد بن عبد الله بن سعد ودخل الشريف مسعود عمه مكة ونزل في داره وجلس للتنهئة، وهذه هي الولاية الثانية للشريف مسعود كما رأيت ذلك بخط العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري المدني في هامش تاريخ ابن ظهيرة المسمى "بالجامع اللطيف في أخبار مكة المشرفة وولاتها والبيت الشريف"، واستمر الناس في ولايته مطمئنين فتوفي في يوم الجمعة الثاني من ربيع الثاني من سنة خمس وستين ومائة وألف. وتولى بعده الشريف مساعد بن سعيد ونودي له في البلاد وعرفوا بذلك الدولة العليلة؛ فجاءه التأييد في ست وعشرين من شعبان وألبس الخلعة بالحطيم؛ كما رأيت بخط بعض الأماثل المعاصرين للشريف المذكور. ثم استمر وانقادت له الأمور إلى سنة إحدى وسبعين ومائة وألف فحصل التنافر بينه وبين الأشراف فبسببه قبض على الأمير الشريف مساعد المذكور، وتولى أخوه الشريف جعفر بن سعيد إمارة مكة وألبس القفطان في السنة المذكورة. ثم بعد توجه الحجاج والقوافل نزل الشريف جعفر بالإمارة لأخيه الشريف مساعد المذكورة؛ وذلك في اليوم الرابع عشر من المحرم الحرام من سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف وبقي هو في ذلك إلا أن توفي يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر المحرم الحرام من سنة أربع وثمانين ومائة وألف ... فبعد وفاته ولي إمارة مكة أخوه الشريف عبد الله بن سعيد. فألبسه قاضي الشرع الشريف ونودي له في البلاد، ثم نزل عنها لأخيه الشريف أحمد بن سعيد وبقي أياما ثم في يوم الجمعة الثامن عشر من ربيع الأول من العام المذكور وصل مكة أبو الذهب محمد بيك من مصر؛ فعزل الشريف أحمد بن سعيد، وجلس على كرسي الولاية والإمارة الشريف عبد الله بن حسين بن يحيى بن بركات بن محمد بن بركات بن أبي نمي، وحسين والد هذا الأمير ينسب إليه ذوو حسين من الأشراف وسكن بدار آبائه المسماة بدار الهنا بباب الوداع ونودي باسمه في البلاد، وتوجه الشريف أحمد بن سعيد السابق إلى اليمن، ثم جاء إلى مكة لأخذ الثأر من الشريف عبد الله بن حسن السابق الأمير ومعه من العربان جمع غفير فحصل بينهما القتال

فانهزم الشريف عبد الله بن حسين، ودخل مكة الشريف أحمد بن سعيد في الثاني عشر من جمادى الثانية من السنة المذكورة سنة 1184هـ أربع وثمانين ومائة وألف، وبقي إلى أن حصل النزاع فيما بين الشريف أحمد بن سعيد الأمير وبين ابن أخيه الشريف سرور بن مساعد بن سعيد بن مسعد بن زيد يوم السبت ثلاثة عشر من ذي القعدة من سنة 1186هـ ست وثمانين ومائة وألف، وأدى إلى القتال؛ فانهزم الشريف أحمد ودخل مكة المشرفة الشريف سرور بن مساعد يوم السبت ثالث عشر من ذي القعدة من السنة المذكورة، ونودي له في شوارع مكة، وأمنت البلاد، ثم حصل القتال الشديد مرارا وفي كل مكان انهزم عمه الشريف أحمد، وفي الوقعة الخامسة عشر من جمادى الأولى من سنة 1193هـ ثلاث وتسعين ومائة وألف قبض الشريف سرور على عمه وعلى ولديه وأمر بحبسهم بينبع، ثم نقلوا إلى جدة وما زالوا بها حتى توفي أحد ولديه، ثم توفي الشريف أحمد بن سعيد في السجن أيضا في عشرين من ربيع الثاني من سنة 1195هـ خمس وتسعين ومائة وألف وأطلق حينئذ ابنه الأحسن وجاء جد كاتب النسخة، وجاء مع التذييل الشيخ حبيب الله لأجل أداء فريضة الحج من بلاد الهند في سنة 1200هـ مائتين وألف، ثم بعد فراغه من الزيارة النبوية عاد إلى بلده دلهي بالهند وعاش ممتعا بحواسه بين أقرانه إلى أن توفي سنة 1245هـ خمس وأربعين ومائتين وألف. وخلف عمي الشيخ عبد النبي ووالد الشيخ عبد الوهاب وعمر الأول أربعون سنة ووالدي -إذ ذاك- ينيف عمره على عشر سنين، والله أعلم. ولم يزل الشريف سرور في إمارة مكة إلى سنة اثنتين بعد المائتين والألف حتى توفي في اليوم الثامن عشر من شهر ربيع الثاني من العام المذكور. وتولى إمارة مكة أخوه الشريف عبد المعين بن مساعد، ونودي له بذلك وبقي أياما، ثم نزل عنها لأخيه الشريف غالب بن مساعد بن سعيد بن مسعد بن زيد جد ذوي غالب وجاءته الخلعة السلطانية في التاسع والعشرين من ذي القعدة من العام المذكور، وقد حصل في أيامه الحركة الإصلاحية الوهابية المنسوبة إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي ودام القتال معه مدة المواسم، ذكرها شيخنا العلامة المرحوم برحمة الملك المنام السيد أحمد بن زيني بن دحلان في تاريخ "خلاصة الكلام في تاريخ أمراء بلد الله الحرام"، ثم صفا الوقت والزمان للشريف غالب المذكور إلى أن وصل محمد علي باشا جد العائلة الخديوية بمصر مكة المشرفة. واحتفل به الشريف غالب احتفالا تاما غير أن الباشا المذكور كان مأمورا من طرف الدولة العثمانية بالقبض على الشريف غالب الأمير وإرساله إلى الآستانة العلية فصار متحيرا في هذا الأمر لتحفظ الشريف غالبا أمير مكة على نفسه؛ حتى تشاور مع الشيخ أحمد تركي في ذلك الأمر، فدبر له تدبيرا حسنا،

حتى تم له الأمر في أواخر ذي القعدة الحرام من سنة 1228هـ ثمان وعشرين ومائتين وألف، وقد صار الاستحسان بأن تكون إمارة مكة لابن أخيه الشريف يحيى بن سرور بن مساعد؛ فطلبوه فمضى فألبسه محمد علي باشا فروا سموريا، وأركبوه في هيئة على فرس وأوصلوه إلى داره بقرب باب الوداع فجلس للتنهئة؛ ثم إن الشريف غالب أنزل إلى جدة وتوجه به إلى الآستانة، ثم أرسل إلى سلانيك ونفى بها إلى أن توفي في سنة 1235هـ خمس وثلاثين ومائتين وألف وقبره بها يزار. واستمرت الإمارة للشريف يحيى مدة أعوام إلى أن دخلت سنة 1240هـ أربعين ومائتين وألف، وفي ليلة الثاني من شعبان من العام المذكور صار قتل الشريف، وفي عام 1242هـ حصل نزاع بين الشريف يحيى والأمير التركي أحمد باشا وخصوم الشريف من يحيى إلى مصر؛ حينئذ تأهب للسفر؛ فلما خرج ووصل بدرا صام رمضان فجاءته مشايخ حرب وهم عربان سكنوا بين الحرمين فوعدوه بالإعانة، ومكث هناك إلى تمام السنة فهلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين فأخذ في الشروع في جمع القبائل؛ فوصل الخبر إلى مكة بذلك، وكان أحمد باشا قد أنهى الأمر إلى مصر لدولة محمد علي بابا فأبطأ عليه في الجواب فاستحسن أن يولي مكة أحدا من الأشراف صورة؛ فوليها الشريف عبد المطلب بن غالب ليجمع جموعا يقابل بها الشريف يحيى المذكور وذلك في أثناء سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف. وهذه هي الولاية الأولى للشريف عبد المطلب المذكور؛ وحينئذ نودي باسمه في البلاد. وبعد دخول سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف جاءت البشائر من مصر بأن محمد علي باشا استحسن أن تكون الإمارة للشريف محمد بن عبد المعين بن عوف بن حسين بن عبد الله بن حسن بن أبي نمي، وكان -إذ ذاك- بمصر وهو جد أمراء مكة ذوي عون. وأما الشريف يحيى فذهب من بلاد الحرمين إلى المدينة المنورة وزار قبر جده -صلى الله عليه وسلم- وتوجه بعد حين إلى مصر فوصلها واجتمع بالشريف محمد بن عبد المعين بن عوف المتولي المذكور وبقي هناك إلى أن توفي بها. ثم أرسل محمد علي باشا صاحب مصر الشريف محمدا المذكور مع جموع وعسكر عظيم إلى مكة فوصل جدة؛ ثم في اليوم الثاني من جمادى الأولى من العام المذكور أي عام ثلاث وأربعين ومائتين وألف، فدخل مكة بدون قتال لتوجه الشريف عبد المطلب بن غالب إلى الطائف، وجلس الشريف محمد بن عبد المعين بن عون في اليوم المذكور في دار الشريف يحيى بن سرور عند باب الوداع للتنهئة، ثم توجه إلى الطائف لقتال الشريف عبد المطلب فلم يقع ذلك، وحصل الصلح وكان ذلك في شهر

رجب الحرم من السنة المذكورة، وتوجه الشريف عبد المطلب بن غالب ومعه أخوه الشريف بن غالب إلى الآستانة برا فوصلها وتولى ثانيا كما سيأتي إن شاء الله، ثم استقامت للشريف محمد بن عبد المعين الأمير الأمور على أحسن حال وانتظمت أحكامه بلا معارض على أتم نظام. وفي سنة خمس وستين ومائتين وألف توفي بمصر محمد علي باشا، ثم استمر الحال مطمئنا للشريف محمد بن عبد المعين بن عون إلى أن دخلت سنة سبع وستين ومائتين وألف ونزل من الطائف وفي صحبته ولده الشريف عبد الله والشريف علي فحضروا عند عبد العزيز باشا الشهير بأنه باشا، وكان ذلك في رجب من العام المذكور؛ فأبرزا أمرا مضمونه حضورهما مع والدهما إلى الآستانة دار السلطنة، فتوجهوا وأقاموا حينئذ الشريف المنصور بن يحيى بن سرور وكيلا قائم مقام أمير مكة، ثم وجهت الدولة الإمارة للشريف عبد المطلب بن غالب في رمضان من السنة المذكورة، وكان إذ ذاك بالآستانة عندهم، وهذه هي الولاية الثانية له، ثم وصل مكة في ذل القعدة من العام المذكور وجلس في داره بالقرارة للتنهئة، وبقي إلى سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف، فعزل وتوجه إلى دار السلطنة في شوال من سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف. فولت الدولة العلية إمارة مكة للشريف محمد بن عبد المعين بن عون وكان إذ ذاك بالآستانة كما تقدم، فهذه هي الولاية الثانية له وجاء الخبر بوصوله إلى جدة في ثاني شعبان ومعه ابنه الشريف علي باشا فقط، ثم بعد يومين وصلا مكة وجلس الشريف محمد بن المعين بن عون للتنهئة في داره العامرة بسوق الليل، وبقي فيها إلى سنة أربع وسبعين ومائتين وألف وتوفي في الثالث عشر من شعبان المبارك من العام المذكور، ودفن بقبة السيدة آمنة والدة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعلاة. فلما بلغ الخبر إلى السلطنة بوفاته وجهت الدولة إمارة مكة إلى ابنه الشريف عبد الله باشا في رمضان وكان إذ ذاك بالآستانة، وتركه والده كما تقدم وأقيم مقامه أخوه الشريف علي باشا بن محمد بن عبد المعين بن العون بمكة إلى حين مجيئه، ثم توجه الشريف عبد الله المتولي بعد قضاء حوائجه في ربيع الأول من سنة خمس وسبعين ومائتين وألف من الآستانة، ودخل مكة في موكب عظيم وجلس في دار والده للتنهئة، ودامت له الأمور في أحسن نظام إلى وفاته في اليوم الرابع عشر من جمادى الآخرة من سنة أربعين وتسعين ومائتين وألف بالطائف، ودفن بقبة الحبر ابن عباس. فأقام تقي الدين باشا والي وجدة وشيخ الحرم المكي أخاه الشريف عون الرفيق باشا دليلا بمقام الإمارة وكان أخوة الأكبر الشريف حسين باشا بالآستانة؛ فوجهت الدولة

الإمارة له؛ فقدم مكة في شعبان من السنة المذكورة وتوجه الشريف عون الفريق إلى الآستانة في شوال من سنته، واستمر الشريف حسين في إمارة مكة إلى سنة سبع وتسعين "بتقدم السين في الأولى والتاء المثناة الفوقية في الثانية" ومائتين والألف ... وفيها توجه إلى جدة في أوائل ربيع الثاني، وفي دخوله جدة طعن بسكين مسمومة ودفن في قبر والده بقبة السيدة آمنة والدة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعلاة. فلما وصل الخبر إلى الآستانة بوفاة الشريف حسين وجهت الدولة إمارة مكة للشريف عبد المطلب بن غالب، وكان إذ ذاك في الآستانة، وهذه هي الإمارة الثالثة له، ثم وصل مكة ودخلها في الحادي عشر من جمادى الثانية من العام المذكور وجلس للتنهئة في داره بالقرارة، واستمر الحال له بأحسن طريق إلى عشرين من شعبان من سنة تسع وتسعين ومائتين وألف حصل بينه وبين ولاة جدة ومكة الاختلاف، ثم جاء الخبر من السلطنة بأنها ولت عثمان نوري باشا ولاية الحجاز عبد المطلب الأمير؛ إذ أحاطت العسكر بداره الذي بالمثناة وأخبروه بأنه معزول ونودي في البلاد للسلطان، وأنزلوه من داره إلى قشلاق العسكرية للحكومة بالطائف، وأرسل الخبر إلى الدولة بذلك فتوجهت إمارة مكة للشريف عون الرفيق باشا، وكان إذ ذاك بالآستانة، ثم وصل الخبر بذلك إلى مكة وكان عثمان باشا قد أقام أخاه الشريف عبد الإله باشا نائبا عنه. ثم توجه الشريف عون المتولي من دار السلطنة ووصل إلى جدة في ثامن يوم التروية من سنته، ووصل إلى مكة يوم عيد النحر وتوجه إلى منى في موكب عظيم في عصره وقرئ فرمانه ثاني يوم على حسب عادة الأمراء، ثم بعد انقضاء أيام منى نزل إلى مكة ومشت القوافل والحجيج وأهلت سنة ثلاثمائة وألف، وتوجه في شهر ربيع الأول من العام المذكور أخوه الشريف عبد الإله باشا إلى الآستانة، ولم يزل الشريف عون في إمارة مكة منتظما، وتوفي في جمادى الأولى من سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف بالطائف بداره رغدان، ودفن بقبة الحبر ابن عباس على أخيه الشريف عبد الله باشا، ونودي في البلاد باسم ولي النعم سيدنا الشريف علي باشا بن عبد الله باشا بن محمد بن عبد المعين بن محمد بن عبد الله بن حسين بن عبد الله بن حسن بن أبي نمي، ثم أرسل الخبر إلى الحجاز وشيخ الحرم أحمد راتب باشا بوفاة الشريف عون الرفيق، ووجهت الدولة إمارة مكة أصالة لولي النعم المتلقي لها باليدين السامي إليها من ذروة الشرف صاحب الدولة والسيادة والشرف سيدنا الشيخ شريف علي باشا السابق ذكره وهنؤوه بذلك، ثم نزل إلى مكة في شعبان من العام المذكور؛ فانتظمت له الأمور على أحسن منوال بدون معارض له ولا منازع، وقد امتدح

بقصيدة غراء في عيد الفطر من مطلعها1: وفد الربيع بحلة خضراء ... فكسى الرياض ملابس الهيفاء ... إلى آخرها. وبقي فيها إلى أن انفصل عن ذلك في شوال من سنة سبع وعشرين وثملاثمائة وألف، وجاء الخبر من الآستانة بتولية إمارة مكة لعمه الشريف عبد الإله باشا، وكان إذ ذاك باقيا بدار السلطنة وبقي فيها أياما وتوفي هناك من عامه، ثم وصل الخبر بتولية الشريف حسين باشا بن علي باشا بن محمد بن عبد المعين بن عون إمارة مكة لكونه إذ ذاك كان بالآستانة، وأقيم أخوه الشريف ناصر باشا نائبا عنه، ثم وصل في ذي القعدة إلى جدة، وفي ثاني يوم منه دخل مكة في موكبه وجلس في بيت جده للتنهئة، ثم توجهت القافلة حسب عادتها وحج هو في سنته، ثم في شعبان من سنة ثمان وعشرين وثملاثمائة وألف توجه أخوه الشريف ناصر باشا إلى دار السلطنة وهو باق بها معززا مكرما، وتوجه ابن عمه في هذه السنة الشريف علي باشا، ولم يزل الشريف حسين باشا بن علي باشا بن محمد بن عبد المعين بن عون يلي إمرة مكة من 6 شوال عام 1326هـ، ثم أعلن نفسه ملكا على الحجاز. وقد دخل الملك عبد العزيز مكة في 7 من جمادى الآولى سنة 1343هـ، وسلم له الملك حسين حكم الحجاز في أوائل جمادى الثانية عام 1344هـ، وصار خالد بن لؤي حاكم مكة من قبله، وهو أحد قواد جيش الملك عبد العزيز ومن أقربائه، ثم اختير سمو الأمير فصيل نائبا عن والده الملك عبد العزيز في حكم مكة والمدينة وباقي الحجاز. وتوفي الملك عبد العزيز في 2 ربيع الأول 1373هـ "9 نوفمبر 1953"، وتولي ولي العهد جلالة الملك سعود حكم المملكة العربية السعودية في الخامس من ربيع الأول 1373هـ، وكان قد بويع بولاية العهد قبل ذلك بأمد طويل في 16 محرم 1352هـ، وميلاده في ليلة الثالث من شوال عام 1319هـ. وقد عين حضرة صاحب السمو الأمير فيصل رئيسا لمجلس الوزراء في 6 من ذي الحجة 1373هـ، وصار حضرة صاحب الجلالة الملك سعود هو حامي حمى الحرمين وباقي مدن الحجاز وهو حاكم مكة المكرمة2.

_ 1 صاحب هذه القصيدة: هو كاتب هذا التذييل الشيخ عبد الستار الدهلوي. 2 إلى هنا انتهى ما كتبه عبد الستار الدهلوي عميد آل الدهلوي بالحجاز، وهم إحدى العريقة في مكة المكرمة، ولهم أياد بيض مشكورة: وما يلي ذلك فهو من قلم اللجنة.

الملحق الثاني في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة

الملحق الثاني في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة مقدمة بقلم اللجنة التي أشرف على تحقيق الكتاب ... بسم الله الرحمن الرحيم الملحق الثاني: في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة مقدمة: بقلم اللجنة التي أشرفت على تحقيق الكتاب -1- كتاب "الدرة الثمينة، في تاريخ المدينة" كتاب جليل، عظيم الأهمية، كبير النفع، يحتوي على كثير من المعلومات التاريخية الحافلة عن مدينة الرسول، ومسجده النبوي الشريف، صلى الله عليه وسلم- وسلاما دائمين إلى يوم الدين. وهذا الكتاب يكاد يكون من أقدم المصادر التاريخية التي وصلتنا في تاريخ المدينة، بعد تاريخ المدينة لابن زبالة الذي ألفه عام 199هـ، وهو من هذه الناحية يعد مصدرا أصيلا لا غنى لباحث أو محقق عن الرجوع إليه، والإفادة منه. وها هو ذا ينشره الرجل الإسلامي الكبير: معالي الشيخ محمد سرور الصبان، بمعاونة أصحاب مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة: عبد الحفيظ وعبد الشكور عبد الفتاح فدا، في هذه الطبعة الجديدة المنقحة المحققة، ملحقا لكتاب "شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام" الذي تحدث فيه مؤلفه الفاسي عن محمد الحجاز الكبرى ما عدا المدينة، وقد آثرنا نشره هنا لتمام الفائدة. وقد اعتمدنا في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ: 1- الأولى نسخة إستامبول الخطية لهذا الكتاب، وتقع في سبع وستين ورقة من القطع المتوسط، وقد كتب اسم الكتاب في الورقة الأولى، ونص الاسم كما هو مثبت فيها هو: "كتاب تاريخ المدينة المشرفة وفضائلها، على ساكنها الصلاة والسلام، تصنيف الشيخ الأجل أبي عبد الله محمد بن محمود بن النجار، رحمه الله، ونفعنا به"؛ وعلى الورقة الأولى كذلك أن هذا الكتاب وقف على العلماء العاملين بمحمية قسطنطينية في سنة 1073هـ. وفي آخر هذه النسخة الخطية كتب اسم ناسخ الكتاب وهو

عبد القاهر بن أحمد بن سليمان بن موهوب، وقد فرغ من نسخه في 5 ربيع الآخر عام 731هـ، وقد كتب في الورقة الأخيرة عدة كلمات في غير موضوع الكتاب، وبخط آخر كتب أيضا في آخرها تاريخ هو عام 691هـ، وبجواره اسم عثمان بن زيد المالكي. 2- والنسخة الثانية هي نسخة المكتبة التيمورية الخطية رقم 912، وقد كتب عليها الدرة الثمينة في أخبار المدينة لمحب الدين محمد بن محمود النجار الحافظ المتوفى عام 643هـ1، وتقع في 263 صفحة من القطع الصغير، وهي مكتوبة بخط واضح وفي آخرها ما نصه: تمت نسخة تاريخ المدينة في دار الخلافة العلية على يد كاتبها الحاج أحمد الأنقروي الشهير بعرب شيخ زاده غفر الله ذنوبه وذنوب أبويه في دار الآخرة، في هلال شهر ذي الحجة مضت منه ثلاث يوم الخميس بعد الظهر. 3- والنسخة الثالثة هي نسخة مطبوعة عام 1366هـ-1947م بمطبعة الرسالة بالقاهرة بتعليق الأستاذ صالح محمد جمال، وتقديم الشيخ محمد بن مانع، وهذه الطبعة بالاعتماد على نسخة خطية يبدو من المراجعة أن بها سقطا كثيرا، وتقع هذه الطبعة في 133 صفحة من القطع المتوسط، واسم الكتاب كما هو مكتوب في هذه الطبعة "أخبار مدينة الرسول، المعروف بالدرة الثمينة" للإمام محمد بن محمود النجار. وهذه الطبعة منقولة عن نسخة خطية مكية، تاريخ نسخها عام 1217هـ، وهي منقولة عن نسخة خطية أخرى، تاريخ نسخها عام 975هـ، وجاء في أصل هذه النسخة: "علقه كما وجده الفقير إلى رحمة الله وكرمه محمد بن عبد اللطيف بن محمد الأشبيلي الخزرجي نزيل حرم الله بتاريخ 11 ربيع الأول عام 975هـ ... وكان الفراغ من تعليق هذه النسخة ليلة البدر من شوال سنة 1217هـ، مع ما في أصلها من ضياع بعض الكلمات لقدم النسخة، ودثور بعض الألفاظ ومحوها؛ وذلك بيد أحد العبيد المحتاج إلى ربه الفتاح، محمد أبي مرزوق بن أبي الصلاح". -3- ومؤلف الكتاب هو الشيخ محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن النجار، وشهرته أبو عبد الله البغدادي، ولد عام 573هـ، وتلقى ثقافته في الدين والعلوم والآداب على أساتذة أجلاء، ثم عشق الرحلات، فطاف بالعالم الإسلامي شرقا وغربا، نحو ثمان وعشرين سنة، وتوفي في 5 شعبان عام 647هـ2 عن خمسة وسبعين عام ... وله مؤلفات كثيرة من أهمها: 1- تاريخ المدينة المشرفة وفضائلها، وهو هذا الكتاب.

_ 1 الصحيح أن وفاته عام 647هـ. 2 سبق أن نقلنا عن بعض النسخ أن وفاته عام 643هـ.

2- أخبار مكة. 3- بيت المقدس. 4- الذيل على تاريخ مدينة السلام خمسة مجلدات. 5- غرر الفوائد، خمسة مجلدات. 6- الكافي في أسماء الرجال. 7- القمر المنير، في المسند الكبير. 8- كنز الأيام، في معرفة الأحكام. 9- نهج الإصابة في معرفة الصحابة. أثابه الله على جهوده في خدمة الدين والعلم والإسلام خير الثواب ورحمه الله رحمة واسعة. -4- وبعد فقد بذلنا كل ما أمكننا بذله من مجهود في مراجعة النصوص، وتحقيق الروايات، وضبط الأعلام والتعليق على التواريخ، وتخريج الأحاديث؛ ليخرج الكتاب في أروع حلة، وأجمل صورة. والكتاب صورة لعلم مؤلفه وفضله، ولا غرو فقد كانت له مكانة علمية رفيعة في عصره، مما جعل هذا الكتاب القيم ذا البحوث المنوعة، والأبواب المختلفة، جديرا بكل عناية، حريا بكل ما يبذل فيه من مجهود. ولا يفوتنا أن ننوه بفضل كل من ساعدنا وأمدنا بمعلومات ساعدت على خدمة هذا الكتاب وإخراجه في مظهر لائق به، وفي مقدمة هؤلاء سعادة الشيخ صالح القزاز. وفي آخر الكتاب وضعنا عدة ملاحق في عمارة المسجد النبوي الشريف، وفي آثار المدينة؛ وذلك لتكون المعلومات التي تضمنتها هذه الملاحق معاونة على تتبع تاريخ المدينة بعد عصر المؤلف حتى اليوم، ولنثبت تاريخ العمارة في مسجد الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه منذ العصر النبوي إلى اليوم. وفقنا الله إلى الصواب، بفضله وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وما توفيقنا إلا بالله.

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أخبرنا الفقيه الأجل الإمام العالم الشريف العدل: تاج الدين علي بن أبي العباس أحمد ابن الشيخ الأجل أبي محمد عبد المحسن بقراءتي عليه. أخبرنا الشيخ الفقيه الأجل أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار بقراءة أبي عليه، وقراءة ابن الوليد عليه وأنا أسمع ... قال: الحمد لله حمدًا يقتضي من إحسانه المزيد، ويبلغنا من رضوانه ما نؤمل وما نريد، وصلى الله على مَن هَدانا إلى المنهج السديد، محمد الذي هو على أمته شهيد، وعلى آله وأصحابه ذوي المجد المشيد، ما سار راكب في البيد. وبعد؛ فإنني لما دخلت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأُسعدت بزيارته، أقمت بها فاجتمعت بجماعة من أهل الصلاة والعلم والفضل من المجاورين بها، وفقهم الله وإيانا، فسألوني عن "فضائل المدينة وأخبارها" فأخبرتهم بما تعلق في خاطري من ذلك، فسألوني إثباته في أوراق، فاعتذرت إليهم بأن الحفظ قد يزيد وينقص، ولو كانت كتبي حاضرة كنت أجمع كتابا في ذلك شافيًا لما في النفس، فألحوا علي وقالوا: تحصيل اليسير، خير من فوات الكثير، وهذه1 مع شرفها قد خلت ممن يعرف من أخبارها شيئا، ونحن نحب أن يكون لك بها أثر2 صالح تذكر به، فأجبتهم إلى ذلك رجاء لبركتهم، واغتناما لامتثال أمرهم، وقضاء لحق جوارهم وصحبتهم، وطلبا لما عند الله تعالى بنشر فضائل دار الهجرة ومنبع الوحي، وذكر أخبارها والترغيب في سكناها والحث على زيارة المدفون بها.

_ 1 يريد المدينة المنورة، وفي نسخة استامبول: وهذه البلد. 2 في نسخة استامبول: ولد.

صلوات الله عليه وسلامه، واستخرت الله، وأثبت في هذا الكتاب ما تيسر من ذلك بعون الله تعالى وحسن توفيقه، ثم إني ذكرت1 أكثره بغير إسناد؛ لتعذر حضور أصولي ... وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل ذلك لوجهه خالصا وإليه مقربا، ولنا ولهم نافعا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير. وقد قسمته ثمانية عشر بابا، والله الموفق للصواب: الباب الأول: في ذكر أسماء المدينة وأول ساكنيها. الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة. الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إليها. الباب الرابع: في ذكر فضائلها. الباب الخامس: في ذكر تحريمها وحدود حرمها. الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله. الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها. الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضائل الشهداء به. الباب التاسع: في ذكر إجلاء بني النضير من المدينة. الباب العاشر: في ذكر حفر الخندق حول المدينة. الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة. الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفضله. الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها. الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه. الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما. الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم. الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله. الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن الله نستمد الهداية والسداد، إلى سبل الحق والرشاد.

_ 1 في نسخة استامبول: وذكرت.

الباب الأول: في ذكر أسماء المدينة وأول من سكنها

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول- في ذكر أسماء المدينة وأول من سكنها 1: أنبأنا ذاكر بن كامل قال: كُتب إلى أبي علي الحداد أن أبا نعيم الحافظ أخبره إجازة عن أبي محمد المخلدي قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة عن إبراهيم بن أبي يحيى قال: للمدينة في التوراة أحد عشر اسما: المدينة، وطيبة2، وطابة، والمسكينة، وجابرة، والمجبورة، والمرحومة، والعذراء، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة. وقال ابن زبالة عن عبد العزيز بن محمد بن موسى بن عقبة عن عطاء بن مروان عن أبيه عن كعب قال: نجد في كتاب الله الذي نزل على موسى أن الله تعالى قال للمدينة: "يا طيبة يا طابة يا مسكينة لا تقبلي الكنوز، ارفعي أجاجيرك3 على أجاجير القرى". قال عبد العزيز بن محمد: وبلغني أن لها في التوراة أربعين اسما. وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله تعالى سمى المدينة طابة". وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هي المدينة يثرب"، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: "يثرب اسم أرض"، ومدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- في ناحية منها، وقال ابن زبالة: كانت يثرب أم قرى المدينة وهي ما بين طرف "قناة" إلى طرف "الجرف"، وما بين المال الذي يقال له البرناوي إلى زبالة. وكانت زهرة4 من أعظم قرى المدينة، قيل كان فيها ثلاثمائة صانع من اليهود، وقيل: إن تبعا لما قدم المدينة بعث رائدًا ينظر إلى مزارع المدينة فأتاه فقال: قد نظرت

_ 1 في نسخة استامبول: ساكنيها. 2 وقد ورد في ذلك أحاديث ذكرت فيها المدينة باسم طيبة. 3 الإجار: السطح، والجمع أجاجير. 4 قرية من قرى ضواحي المدينة.

فأما قناة1 فحب ولا تبن، وأما الحرار2 فلا حب ولا تبن، وأما الجرف فالحب والتبن. قال أهل السير: كان أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهم: صعل وفالج، فغزاهم داود النبي عليه السلام، فأخذ منهم مائة ألف عذراء، قال: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل، قالوا: وكانت العماليق قد انتشروا في البلاد فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله وعتوا عتوا كبيرًا، فبعث إليهم موسى -على نبينا وعليه السلام- جندا من إسرائيل فقتلوهم بالحجاز وأفنوهم. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: بلغني أن ضبعا ربيت هي وأولادها رابضة في حجاج3 عين رجل من العماليق. وقال: لقد كان في ذلك الزمان تمضي أربعمائة سنة وما يسمع بجنازة4. ذكر سكنى اليهود الحجاز: قال: وإنما كان سكن اليهود بلاد الحجاز أن موسى عليه السلام لما أظهره الله على فرعون وأهلكه وجنوده وطيئ الشام، وأهلك من بها وبعث بعثا من اليهود إلى الحجاز، وأمرهم ألا يستبقوا من العماليق أحدا بلغ الحلم، فقدموا عليهم فقتلوهم وقتلوا ملكهم "نبنما" وكان يقال له: الأرقم بن أبي الأرقم وأصابوا ابنا له شابا من أحسن الناس فضنوا به عن القتل وقالوا: نستحييه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم وقبض الله موسى قبل قدومهم؛ فلما سمع الناس بقدومهم تلقوهم فسألوهم عن أمرهم فأخبروهم بفتح الله عليهم، وقالوا: لم نستبق منهم أحدا إلا هذا الفتى فإننا لم نر شابا أحسن منه فاستبقيناه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فقالت لهم بنو إسرائيل: إن

_ 1 اسم موضع بجوار المدينة فيه سيل يسمى سيل قناة. 2 جمع حرة وهي الصخور السوداء، أو هي أرض ذات صخور سوداء، كأنها أحرقت بالنار. ومن الحرار حول المدينة حرة المدينة وتعرف بحرة بني سليم، أما حرة خيبر فتقع على بعد مائة ميل شمال المدينة وترتفع عن سطح البحر 2200 قدم، وتسمى الحرة اللوبة واللابة، وقد ثارت إحدى الحرات في شرقي المدينة بضع أسابيع عام 654هـ 1256م، وكان نجاة المدينة منها معجزة من المعجزات لرسولنا العظيم. 3 حجاج العين: ما يحيط بالحدقة، وهذه الرواية من الأساطير المكذوبة. 4 المدينة المنورة ترتفع عن سطح البحر بنحو 600 متر، وتقع على الخط الخامس والعشرين من العرض الشمالي والخط الأربعين من الطول الشمالي، وعلى بعد 300 ميل من مكة و130 ميلًا من ينبع، والمسجد النبوي في وسط المدينة على شكل مستطيل، طوله 126 مترا. وعرضه نحو ثلثي ذلك. وفي شمال المدينة جبل أحد، وفي جنوبها جبل عير، ومن الوديان القريبة منها وادي العقيق، ومرفأ المدينة ينبع، وجوها على العموم أكثر اعتدالًا من مكة، وتكثر بها الزرعات والبساتين.

هذه لمعصية لمخالفتكم نبيكم، لا والله لا يدخلوا علينا بلادنا، فحالوا بينهم وبين الشام، فقال الجيش: ما بلد إذ منعتم بلدكم خير من البلد الذي خرجتم منه. قال: وكانت الحجاز أكثر بلاد الله شجرًا وأظهره ماء. قالوا: وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق1 وهم يجدون في التوراة أن نبينا يهاجر من العرب إلى بلد فيه نخيل بين حرتين، فأقبلوا من الشام يطلبون صفة البلد؛ فنزل طائفة تيماء وتوطنوا نخلًا، ومضى طائفة فلما رأوا خيبر2 ظنوا أنها البلدة التي يهاجر إليها فأقام بعضهم بها ومضى أكثرهم وأشرفهم فلما رأوا يثرب سبخة وحرة ونخلًا قالوا: هذا البلد الذي يكون له مهاجر النبي إليها فنزلوه، فنزل النضير بمن معه بطحان فنزلوا منها حيث شاءوا وكان جميعهم بزهرة وهي محل بين الحرة والسافلة مما يلي القف، وكانت لهم الأموال بالسافلة، ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب بمجتمع السيول؛ سيل بطحان والعقيق وسيل قناة مما يلي رغاية، قال: وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هذل وهدل وعمرو أبناء الخزرج بن الصريح بن التوم بن السبط بن اليسع بن العتين بن عيد بن خيبر بن النجار بن ناجوم بن عازر بن هارون بن عمران، والنصر بن النجار بن الخزرج بن الصريح بعد هؤلاء فتبعوا آثارهم فنزلوا بالعلية على واديين يقال لهما مذينيب ومهزور، فنزلت بنو النضير على مذينيب واتخذوا عليه الأموال ونزل قريظة وهذل على مهزور واتخذوا عليه الأموال وكانوا أول من احتفر بها الآبار واغترس الأموال وابتنوا الآطام والمنازل، قالوا: فجميع ما بنى اليهود بالمدينة تسعة وخمسون أطما3. قال عبد العزيز بن عمران: وقد نزل المدينة قبل الأوس والخزرج أحياء من العرب منهم أهل التهمة تفرقوا جانب بلقيز إلى المدينة، فنزلت بين مسجد الفتح إلى يثرب في الوطا، وجعلت الجبل بينها وبين المدينة فأبرت الآبار والمزارع. ذكر نزول أحياء من العرب على يهود: قالوا: وكان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل وكان قد نزلها عليهم أحياء من العرب فكانوا معهم وابتنوا الآطام والمنازل قبل نزول الأوس والخزرج؛ وهم بنو أنيف حي من بلى ويقال إنهم من بقية العماليق، وبنو مريد حي من بلى وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان وبنو الجذماحي من اليمن قالوا: وكانت الآطام عز أهل المدينة ومنعتهم التي يتحصنون فيها

_ 1 في المصادر الإفرنجية أن مستعمرات اليهود في الحجاز من مثل خيبر وغيرها كوَّنها اليهود الذين اضطهدهم أباطرة الرومان من مثل أدربان الذي طردهم من فلسطين عام 132م. 2 قرية شمالي المدينة كان سكانها في القديم من اليهود. 3 الأطم: الحصن العالي أو القلعة، وكان كل حصن من هذه الحصون محاطًا بالمزارع والبساتين.

من عدوهم فكان منها ما يعرف اسمه، ومنها ما لا يعرف اسمه، ومنها ما يعرف باسم سيده، ومنها ما لا يدري لمن كان، ومنها ما ذكر في الشعر، ومنها ما لم يذكر، وكان ما بني من الآطام للعرب بالمدينة ثلاثة عشر أطما. ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة: قالوا: فلم تزل اليهود العالية بها الظاهرة عليها حتى كان من سيل العرم ما كان وما قص الله في كتابه، وذلك أن أهل مأرب وهي أرض سبأ كانوا آمنين في بلادهم تخرج المرأة بمغزلها لا تتزود شيئا تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام فقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19] ، فسلط الله عليهم العرم1 وهو جرذ، فنقب عليهم حتى دخل السيل عليهم فأهلكهم وتمزق من سلم منهم في البلاد، وكان السد فرسخا في فرسخ، كان بناه لقمان الأكبر العادي، بناه للدهر على زعمه، وكان يجتمع إليه مياه أهل اليمن من مسيرة شهر، فكان تمزيقهم، ويروى أن طريفة بنت ربيعة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغفوث قالت2: أُتيت في المنام فقيل لي: رب أسير ذاب، شديد الذهاب، بعيد الإياب، من واد إلى واد، وبلاد إلى بلاد، كدأب ثمود وعاد، ثم مكثت ثم قالت: أُتيت اليلة فقيل لي: شيخ هرم، وجعل لزم، ورجل قرم، ودهر أزم، وشر لزم، يا ويح أهل العرم، ثم قالت: أُتيت الليلة فقيل لي: يا طريفة لكل اجتماع فراق، فلا رجوع ولا تلاقٍ، من أفق إلى آفاق، ثم قالت: أُتيت اليلة في النوم فقيل لي: رب ألب موالب، وصامت وخاطب، بعد هلاك مارب، قالت: ثم أُتيت في النوم فقيل لي: لكل شيء سبب، إلا غبش ذو الذنب، الأشعر الأزب، فنقب بين المقر والقرب، ليس من كاس ذهب، فخرج عمرو وامرأته طريفة، فيدخلان العرم3 فإذا هما بجرذ يحفر في أصله ويقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلًا، فقال: هذا والله البيان، وكتم أمره وما يريد، وقالا لابن أخيه وداعة بن عمرو: إني سأشتمك في المجلس فالطمني فلطمه، فقال عمرو: والله لا أسكن بلدًا لطمت فيه أبدا. من يشتري مني أموالي؟ قال: فوثبوا واغتنموا غضبته تزايدوا في ماله فباعه، فلما أراد الظعن قالت طريفة: من كان يريد حمرا وحميرا وبرا وشعيرا وذهبا وحريرا وسديرا فلينزل بطوى، ومن أراد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلج يثرب

_ 1 وقع سيل العرم في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد أي قبل ظهور الإسلام بنحو سبعة قرون، وقد حطم السيل سد مأرب فأغرق البلاد، وتفرق أهلها في كل مكان. 2 كانت طريفة من كاهنات العرب، وكانت تستفتي في شتى المسائل المعقدة، فتجيب السائل بكلام ينطق بما يشبه الحكمة، على أسلوب سجع الكهان. 3 استعمل العرم هنا بمعنى الجرذ، ويطلق أيضا على السيل وعلى الموضع.

ذات النخل، قال: فلحقت بنو عمرو بن ثعلبة وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو بن عامر يثرب وهي المدينة، قالوا: وكان ممن بقي بالمدينة من اليهود حين نزلت عليهم الأوس والخزرج بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو محمحم، وبنو زعورا، وبنو قينقاع، وبنو ثعلبة وأهل زهرة وأهل زبالة وأهل يثرب، وبنو القصيص، وبنو فاعصة، وبنو ماسكة، وبنو القمعة، وبنو زيد اللات وهم رهط عبد الله، وبنو عكوة، وبنو مرانة، قالوا: فأقامت الأوس والخزرج بالمدينة، ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم، فسكنت الأوس والخزرج معهم ما شاء الله ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم وبينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض ويمنعون به من سواهم، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا فلم يزالوا على ذلك زمنًا طويلًا وأَثْرَتِ الأوس والخزرج، وصار لهم مال وعدد، فلما رأت قريظة والنظير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم، وكانت قريظة والنضير أعدوا وأكثروا، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم وهم خائفون أن تحتلهم يهود حتى نجم منهم مالك بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج. ذكر قتل يهود واستيلاء الأوس والخزرج على المدينة: قالوا: ولما نجم مالك بن العجلان سوده الحيان عليهما، فبعث هو قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم حالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود عليهم، وكان رسولهم الدمق بن زيد بن امرئ القيس أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج وكان قبيحا دميما شاعرا بليغا، فمضى حتى قدم الشام على ملك من ملوك غسان الذين ساروا من يثرب إلى الشام يقال له أبو جبيلة من ولد حفنة بن عمرو بن عامر، وقيل كان أحد بني جشم بن الخزرج وكان قد أصاب ملكا بالشام وشرفا، فشكى إليه الدمق حالهم وغلبة اليهود عليهم وما يتخرفون منهم وأنهم يخشون أن يخرجوهم، فأقبل أو جبيلة في جمع كبير لنصرة الأوس والخزرج، وعاهد الله لا يبرح حتى يخرج من بها من اليهود أو يذلهم ويصيرهم تحت يد الأوس والخزرج، وأعلمهم ما جاء به فقالوا: إن علم القوم ما تريد تحصنوا في آطامهم فلم نقدر عليهم ولكن تدعوهم للقائك وتتلطف بهم حتى يأمنوك ويطمئنوا، فتتمكن منهم فصنع لهم طعامًا وأرسل إلى وجوههم1 ورؤسائهم فلم يبق من وجوههم أحد إلا أتاه وجعل الرجل منهم يأتي بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم الملك، وقد كان بنى لهم حيزا وجعل فيه قوما وأمرهم من دخل عليهم منهم أن يقتلوه حتى أتى على وجوههم ورؤسائهم فلما فعل ذلك عزت الأوس والخزرج في المدينة واتخذوا الديار والأموال

_ 1 الوجوه: رؤساء القوم وأعيانهم.

وانصرف أبو جبيلة إلى الشام وتفرقت الأوس والخزرج في عالية المدينة وسافلتها، وبعضهم جاء إلى عفًا من الأرض لا ساكن فيه فنزله، ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها، واتخذوا الأموال والآطام فكان ما ابتنوا من الآطام مائة وسبعة وعشرين أطما وأقاموا كلمتهم، وأمرهم مجتمع ثم دخلت بينهم حروب عظام وكانت لهم أيام ومواطن وأشعار فلم تزل الحروب بينهم إلى أن بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأكرمهم باتباعه1.

_ 1 ومن بين أيامهم في المدينة يوم بعاث وقد كان بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بنحو خمس سنوات، وهزمت فيه الخزرج.

الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة

الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة قالت عائشة رضي الله عنها: كل البلاد افتتحت بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن، قلت: وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرض نفسه في كل موسم على قبائل العرب ويقول: "ألا رجل يحملني إلى قومه؛ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" حتى لقي في بعض السنين عند العقبة نفرًا من الأوس والخزرج قدموا في المنافرة التي كانت بينهم، فقال لهم: "من أنتم؟ " قالوا: نفر من الأوس والخزرج، قال: "من موالي اليهود؟ " قالوا: نعم، قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟ " قالوا: بلى"، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، وكانوا أهل شرك وأوثان، وكان إذا كان بينهم وبين اليهود الذين معهم بالمدينة شيء، قالت اليهود لهم وكانوا أصحاب كتاب: قد علمنا أن نبينا يبعث الآن قد أظل زمانه فنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي يوعدكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه فاغتنموه وآمنوا به، فأجابوه فيما دعاهم إليه وصدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا، وكانوا ستة: أسعد بن زرارة، وعوف ابن عفراء -وهي أمه، وأبوه الحارث بن رفاعة، ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رباب، فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما جرى لهم ودعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم حتى لم يبق بيت ولا دار من دور الأنصار إلا ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها ذكر، فلما كان العام المقبل وافى منهم اثني عشر رجلًا فلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوه، فلما انصرفوا بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب بن عمر إلى المدينة وأمره أن يقرئهم القرآن

ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان منزله على أسعد بن زرارة، ولقيه في الموسم الآخر سبعون رجلًا من الأنصار ومعهم امرأتان فبايعوه وأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى المدينة ثم خرج إلى الغار بعد ذلك وتوجه هو وأبو بكر إلى المدينة.

الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أخبرنا يحيى بن أسعد المهاجر وأبو القاسم بن كامل الحذاء وجماعة غيرهما فيما أذنوا لي في روايته عنهم قالوا: أنبأنا الحسن بن أحمد أبو علي الحداد عن أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني قال: كتب إلى جعفر بن محمد بن نصير أبو محمد المخلدي قال: أنبأنا أبو شريك محمد بن عبد الرحمن المخزومي بمكة قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة عن جعفر بن صالح بن ثعلبة عن جده، ويعلى بن سلام عن محمد بن عبد الله بن خزيمة بن ثابت أن تُبَّعًا لما قدم المدينة وأراد إخراجها جاءه حبران يقال لهما تحيت ومنبه من قريظة فقالا: أيها الملك، انصرف عن هذه البلدة؛ فإنها محفوظة، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج آخر الزمان، فأعجبه ما سمع وصدقهما وكف عن أهل المدينة. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال1: "رأيت في المنام أني مهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهمي إلى اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب". وذكر البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر هذا المنام لأصحابه هاجر من هاجر منهم قِبَل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على رسلك 2؛ فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده الخبط أربعة أشهر قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة3 قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: فدا له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "اخرج من عندك"، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أُذِن لي في الخروج"، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله

_ 1 هي في البخاري في باب علامات النبوة الجزء الرابع صفحة 169 طبعة مصر-1296هـ. 2 أي على مَهْلِكَ. 3 أي في صدرها أو وسطها.

خذ إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بالثمن"، قالت عائشة: فجهزناهما أحثَّ الجهاز1، ووضعنا لهما سفرة2 في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لها به نطاقين في الجنة"، فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغارٍ في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهم عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب، فيدلج3 من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة4 من لبن فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رسل5 حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الدئل هدَّايًا ماهرًا بالهداية وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعاه إليه راحلتهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل أسفل من عسفان ثم عارض الطريق على امج ثم لقي الطريق بناحية فنزل في خيام أم معبد بنت الأشقر الخزاعية بأسفل ثنية لفت ثم على الحرار ثم على ثنية المرة ثم استبطن مديحة ثم محاح ثم بطن مرج محاح ثم مرج ذي القصوى ثم بطن كشد ثم الأجرد ثم ذا سلم ثم اعدا مديحه بعهن ثم أجاز القاحة ثم هبط العرج ثنية العامر عن يمين ركوبة ويقال بل ركوبة نفسها ثم بطن ديم حتى انتهى إلى بني عمرو بن عوف بظاهر قباء، فنزل عليهم على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث وكان سيد الحي، وقد اختلف في اليوم الذي نزل فيه، وعن نجيح بن أفلح مولى بني ضمرة، قال: سمعت بريدة بن الحصيب يخبر أنه بعث يسارًا غلامه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر من الحدوات، قال: وهي موضع أسفل من ثنية هرشا، يدلهما على العابرين ركوبة، قال يسار: فخرجت حتى صعدت الثنية ورجزت به فقلت: هذا أبو القاسم فاستقيمي ... تعرضي مدارجا وسومي تعرض الجوزاء للنجوم قال: فلما علوًا ظهر الظهيرة حضرت الصلاة، فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة، فقام أبو بكر عن يمينه وقمت عن يمين أبي بكر ودخلني الإسلام، فدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدر أبي بكر فأخره وأخرني أبو بكر، فصففنا خلفه فصلينا ثم خرجنا حتى قدمنا المدينة بكرة وكان يوم الاثنين، ولقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة

_ 1 أي أسرعه. 2 المراد الطعام والزاد. 3 أي فيخرج. 4 المنحة: الشاة تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشى. 5 الرسل: اللبن.

بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم رقى رجل من اليهود أطما من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين1 فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم2 الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك، ولما أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان مردفا لأبي بكر وأبو بكر شيخ يعرف ونبي الله شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: أيا با بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك، فيقول: هذا الرجل الذي يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير، ولبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه، ثم ركب راحلته فصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا3 للتمر لسهيل وسهل؛ غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بركت به راحلته: "هذه إن شاء الله المنزل"، ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالغلامين فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدًا. وعن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قال: لما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كلثوم بن الهرم وصاح كلثوم بغلام له يا نجيح، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنجحت يا أبا بكر"، وعن ابن عباس أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وركب من قباء يوم الجمعة، فجمع في بني سالم فكانت أول جمعة جمعها في الإسلام، وكان يمر بدور الأنصار دارا دارا فيدعونه إلى المنزل والمواساة، فيقول لهم خيرا ويقول: "خلوها؛ فإنها مأمورة" حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، وكان المسلمون قد بنوا مسجدا يصلون فيه، فبركت ناقته ونزل، وجاء أبو أيوب الأنصاري فأخذ رحله وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجد تعلقت به الأنصار فقال: "المرء مع رحله"، فنزل على أبي أيوب الأنصاري خالد بن يزيد بن كليب ومنزله في بني غنم بن النجار.

_ 1 أي عليهم الثياب البيض. 2 أي حظكم. 3 المربد: موضع يجفف فيه التمر، ويقال له: مسطح.

وعن أبي عمرو بن حجاش قال: اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنازل فنزل في منزله ومسجده، فأراد أن يتوسط الأنصار كلها فأحدقت به الأنصار. وقال البراء بن عازب: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم كلثوم وكانا يقرئان الناس، ثم قدم عمار بن ياسر وبلال ثم قدم عمر بن الخطاب ثم قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جعل الإماء يقولون: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينا، قدم، قالت عائشة رضي الله عنها: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف نجدك ويا بلال كيف نجدك؟ فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: وكل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله قالت: وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته فيقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة: فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها، واجعلها بالجحفة. قال أهل السير: وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها حتى أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل معه على كلثوم بن الهرم، قالوا: ولم يبق بمكة من المهاجرين إلا من حبسه أهله أو فتنوه. أنبأنا أبو القاسم الزاندواذي عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخواص قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قول الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] ، قال: جعل الله مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار.

الباب الرابع: في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها

الباب الرابع: في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها أخبرنا عبد الرحمن بن علي الحافظ في كتابه قال: حدثنا معمر بن عبد الواحد إملاء قال: أنبأنا شكر بن أحمد أنبأنا أبو سعيد الرازي الحافظ في كتابه قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم حدثنا سليمان بن داود، حدثنا أبو غزية حدثنا عبد العزيز بن عمران عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال:

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "غبار المدينة شفاء من الجذام" 1، أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخواص قال: أخبرنا أبو يزيد المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن فضالة عن إبراهيم بن الجهنم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بني الحارث فرآهم روبا، فقال: "ما لكم يا بني الحارث روبا؟ " قالوا: نعم يا رسول الله أصابتنا هذه الحمى، قال: "فأين أنتم من صعيب؟ " قالوا: يا رسول الله ما نصنع به؟ قال: "تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: باسم الله تراب أرضنا بريق بعضنا شفاء لمرضنا بإذن ربنا"، ففعلوا، فتركتهم الحمى2. قال أبو القاسم ظاهر بن يحيى العلوي: "صعيب" وادي بطحان دون الماجشونية وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه، وهو اليوم إذا ربا إنسان أخذ منه، قلت: ورأيت هذه الحفرة اليوم والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم جربوه فوجدوه صحيحا وأخذت أنا منه أيضا. وحدثنا ابن زبالة عن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة: أن رجلا أُتِيَ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبرجله قرحة، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرف الحصير ثم وضع أصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعد ما مسها بريقه فقال: "باسم الله ريق بعضنا بتربة أرضنا يشفي سقيمنا بإذن ربنا"، ثم وضع أصبعه على القرحة فكأنما حل من عقال2. ما جاء في ثمرها: روى مسلم في الصحيح حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره شيء حتى يمسي" 3، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث سعيد أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من تصبح كل يوم سبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر" 4. ما جاء في انقباض الإيمان إليها: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم أنه قال5: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها"، قلت: أي ينقبض إليها.

_ 1 أخرجه أبو نعيم في الطب عن ثابت بن قيس بن شماس وقال: هو حديث ضعيف، وورد عن ابن السني وأبي نعيم معا في الطب عن أبي بكر ابن حسن بن سالم مرسلا هكذا: "غبار المدينة يبرئ الجذام" وروي: "يطفئ" بدل "يبرئ"، رواه هكذا الزبير بن بكار في أخبار المدينة. 2 حديث ضعيف. 3 هذا الحديث: رواية مسلم ويؤيده ما في البخاري مما سيأتي بعده. 4 هذا الحديث: ورد في البخاري في كتاب الأطعمة في الجزء السابع صفحة 29. 5 رواه البخاري في باب حرم المدينة في الجزء الثاني صفحة 205.

ما جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بالبركة: أنبأنا محمد بن علي الحافظ في كتابه قال: أنبأنا يحيى بن علي القرشي أنبأنا حيدرة بن علي الأنطاكي أنبأنا أبو محمد بن أبي نصر أنبأنا أحمد بن سليمان بن أيوب حدثنا عبد الرحمن بن عمرو حدثنا عبيد بن حسان حدثنا الليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن عمرو بن سليم الزرقي عن عاصم بن عمرو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بوضوء" فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال: "اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين" 1. أنبأنا عبد الرحمن بن علي الفقيه قال: أخبرنا علي بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عزيز حدثني سلامة عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة"، أخرجاه في الصحيحين2. وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: كان الناس إذا رأوا التمر جاءوا به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أخذه قال: "اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مديتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعاك لأهل مكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" 3 قال: ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك التمر. ما جاء في الصبر على لأوائها وشدتها: روى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة" 4. أنبأنا أبو محمد الشافعي قال: أخبرنا محمد بن الخليل بن فارس حدثنا أبو القاسم بن أبي العلاء أنبأنا محمد بن عبد الله الدوري حدثنا محمد بن موسى بن إبراهيم بن فضال حدثنا أبو بكر محمد بن ريان بن حبيب أخبرنا محمد بن رمح، أنبأنا

_ 1 رواه الترمذي عن علي وهو حديث صحيح. 2 رواه البخاري في باب حرم المدينة في الجزء الثاني ص206. 3 رواه مسلم في صحيحه وهو حديث صحيح. 4 رواه مسلم في صحيحه.

الليث عن سعيد المقبري بن أبي سعيد مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة واستشاره في الجلاء من المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة فقال: ويحك لا آمرك بذلك؛ لأني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يصبر أحد على جهد المدينة ولأوائها 1 فيموت إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما" 2. ما جاء في ذم من رغب عنها: خرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل لابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد رغبة عنها إلا خلف فيها خيرا منه، ألا إن المدينة كالكير يخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد" 3. ما جاء في ذم من أخاف المدينة وأهلها: أنبأنا أبو الفرج بن علي قال: أنبأنا عبد الوهاب الحافظ أنبأنا أبو الحسن العاصمي حدثنا أبو عمر مهدي حدثنا عثمان بن أحمد السماك حدثنا أحمد بن الخليل والحسن بن موسى قالا: حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عمرو بن دينار حدثنا سالم بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اشتد الجهد بالمدينة وغلا السعر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اصبروا يا أهل المدينة وأبشروا؛ فإني قد باركت على صاعكم ومدكم، كلوا جميعا ولا تفرقوا؛ فإن طعام الرجل يكفي الاثنين، فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا وكنت له شهيدا يوم القيامة، ومن خرج عنها رغبة عما فيها أبدل الله عز وجل فيها من هو خير منه، ومن بغاها أو كادها بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء" 2. أنبأنا أبو طاهر لاحق بن الصوفي أنبأنا أبو القاسم الكاتب أنبأنا أبو علي بن المذهب أنبأنا أبو بكر القطيعي أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أنس بن عياض حدثني يزيد بن حصيفة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن عطاء بن يسار عن السائب بن خلاد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" 4.

_ 1 اللأواء: الشدة. 2 حديث صحيح. 3 حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه. 4 يروى من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي، وقد رواه أحمد في مسنده عن جابر وهو حديث حسن.

أنبأنا أبو محمد الشافعي عن أبي محمد بن طاوس حدثنا سليمان بن إبراهيم حدثنا أبو عبد الله حدثنا حامد بن محمود حدثنا محمد مكي بن إبراهيم حدثنا هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن عبد الله بن نسطاس عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخاف أهل المدينة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلًا، ومن أخاف أهلها فقد أخاف ما بين هذين" ووضع يديه على جنبيه تحت ثدييه1. وخرج البخاري في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يكيد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء" 2. أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في كتابه قال: أنبأنا أبو البركات ابن المبارك أنبأنا عاصم بن الحسن أنبأنا عبد الواحد بن محمد حدثنا السماك حدثنا إسحاق بن يعقوب حدثنا محمد بن عبادة حدثنا أبو ضمرة عن عبد السلام بن أبي الجنوب عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "المدينة مهاجري، فيها مضجعي، وفيها مبعثي، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، من حفظهم كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال"، قيل للمزني: ما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار. ما جاء في منع الطاعون والدجال من دخولها 3: وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال" 4. وفيهما من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق". وأخرج البخاري في من حديث أبي بكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب في كل باب ملك".

_ 1 يروى من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي، وقد رواه أحمد في مسنده عن جابر وهو حديث حسن. 2 رواه البخاري في باب حرم المدينة الجزء الثاني ص25. 3 راجع في ذلك وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للشيخ السمهودي، وص21 خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى للمؤلف نفسه. 4 وفي الحديث: "قدم رسول الله المدينة وهي أوبأ أرض الله"، وتحويل مثل هذا الوباء من أعظم المعجزات لرسولنا الكريم راجع 24 خلاصة "دار الوفا".

ذكر ما يؤول إليه أمرها: أنبأنا القاسم بن علي قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن أنبأنا سهل بن بشر بن محمد بن الحسن بن أبي طاهر حدثنا جعفر بن محمد الغيرياني، حدثنا هشام بن عمار أنبأنا يحيى بن حمزة الزبيدي حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لتتركنَّ المدينة على خير ما كانت مدلاة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي -يريد عوافي السباع والطير- وآخر من يحشر منها راعيان من مزينة يردان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوهما" 1. أخرجه البخاري في صحيحه. تضعيف الأعمال بها: أخبرنا عبد العزيز بن محمود الأخصر قال: أخبرنا عبد الأول بن عيسى بن شعيب الشجري قال: أخبرنا محمد بن عبد العزيز الفارسي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، حدثنا ابن صاعد، حدثنا هارون بن موسى، حدثنا عمر بن أبي بكر الموصلي عن القاسم بن عبد الله عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها" 2. وبالإسناد عن ابن عمر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها" 3. فضيلة الموت بها: أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أنبأنا يحيى بن علي بن الطماح، أنبأنا محمد بن أحمد العدل، حدثنا محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا الصلت بن مسعود، حدثنا سفيان بن موسى، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإن من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة" 4.

_ 1 رواه البخاري في صحيحه. 2 حديث حسن رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر ويروى: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام"، رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة وهو صحيح. 3 رواه البيهقي عن ابن عمر وحسنه. 4 حديث صحيح مروي عن ابن عمر.

الباب الخامس: في ذكر تحريم النبي للمدينة وحدود حرمها

الباب الخامس: في ذكر تحريم النبي للمدينة وحدود حرمها في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة" 1. وذكر أبو داود السجستاني في السنن من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أنشدها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ولا يصلح أن تقطع منها شجرة إلا أن يعلف 2 رجل بعيره". وفي الصحيحين عن علي أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" 3. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: عير وثور جبلان وأهل المدينة لا يعرفون بها جبلًا يقال له ثور إنما ثور بمكة. فترى أن الحديث أصله ما بين عير إلى أحد. قلت: بل يعرف أهل المدينة جبل ثور وهو جبل صغير وراء أحد ولا ينكرونه. وفي السنن لأبي داود من حديث عدي بن زيد قال: حمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل ناحية من المدينة بريدا بريدا لا يخبط شجرها ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل. وفيها أن سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا تصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلبه ثيابه، فجاءوا إليه فكلموه فيه فقال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرم هذا الحرم، وقال: "من أخذ الصيد فيه فليسلبه ثيابه" فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه. وفيها عن جابر بن عبد الله أنه قال: لا يخبط شجرها ولا يعضد ولكن يهش هشًّا رفيقًا. أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الفقيه، أخبرنا عبد الله بن رفاعة، أنبأنا علي بن الحسن الشافعي؛ أخبرنا شعيب بن عبد الله، حدثنا أحمد بن الحسن الرازي، حدثنا أبو الزنباع، حدثنا عمر بن خالد، حدثنا بكر بن مضر عن أبي الهاد عن أبي بكر بن محمد

_ 1 رواه البخاري ومسلم وهو حديث حسن. 2 حديث صحيح صححه جماعة. 3 رواه البخاري في كتاب الفرائض الجزء الثامن ص9.

عن عبد الله بن عمرو عن رافع بن خديج أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول؛ وذكر مكة، فقال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها -يريد المدينة"، وفي صحيح البخاري في حديث الهجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للمسلمين: "إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان". أنبأنا القاسم بن علي، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم، أنبأنا سهل بن بشر، أنبأنا علي بن منير، أنبأنا الذهلي، أنبأنا موسى بن هارون، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني أبو بكر بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده عن كعب بن مالك قال: حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشجر بالمدينة بريدا في بريد، وأرسلني، فأعلمت على الحرم على شرف ذات الجيش وعلى مشيرف وعلى أشراف المجتهر وعلى يتم1. قلت: واختلف العلماء في صيد حرم المدينة وشجره فقال مالك والشافعي وأحمد: إنه محرم. وقال أبو حنيفة: ليس بمحرم واختلفت الرواية عن أحمد هل يضمن صيدها وشجرها بالجزاء؛ فروي عنه أنه لا جزاء فيه وبه قال مالك، وروي أنه يضمن وللشافعي قولان كالروايتين، وإذا قلنا بضمانه فجزاؤه سلب القاتل بتملكه الذي يسلبه، ومن أدخل إليها صيدًا لم يجب عليه رفع يديه عنه ويجوز له ذبحه وأكله، ويجوز أن يؤخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للرحل والوسائد ومن حشيشها ما يحتاج إليه للعلف بخلاف مكة.

_ 1 هذه كلها مواضع قريبة من المدينة المشرفة.

الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله

الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله روى البخاري في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أتاني 1 الليلة آتٍ من ربي عز وجل فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة". وكان عبد الله بن عمر ينيخ بالوادي يتحرى معرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: هو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي بينه وبين الطريق وسط من ذلك. أنبأنا يحيى بن أسعد الخباز قال: كُتب إلى أبي علي المقري، عن أحمد بن عبد الله الأصفهاني قال: أنبأنا جعفر بن محمد الزاهد إجازة قال: أنبأنا أبو يزيد

_ 1 الحديث في البخاري ص132 ج2 كتاب الحج.

المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن عمر بن عثمان بن عمر، حدثنا موسى عن أيوب بن سلمة، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى العقيق ثم رجع فقال: "يا عائشة، جئنا من هذا العقيق فما ألين موطئه وأعذب ماءه"، قالت: يا رسول الله، أفلا ننقل إليه؟ فقال: "كيف وقد ابتنى الناس؟ " قالت: ووجد على قبر آدمي عند حمى أم خالد بالعقيق1 حجر مكتوب: "أنا عبد الله رسول الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب"، ووجد حجر آخر على قبر آدمي أيضا عليه مكتوب: "أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى ابن مريم إلى أهل هذه القرية"، قلت: وابتنى بعض الصحابة بالعقيق ونزلوه، وكذلك جماعة من التابعين ومن بعدهم، وكانت فيه القصور المشيدة والآبار2 العذبة. ولأهلها أخبار مستحسنة في الكتاب وأشعار رائقة، ولما بنى عروة بن الزبير قصره بالعقيق ونزله قيل له: جفوت عن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان بعدي مما هنالك عافية. قال أهل السير: كانت بنو أمية تجري في الديوان رزقا على من يقوم على حوض مروان بن الحكم بالعقيق في مصلحته وفيما يصلح بئر المغيرة من علقها ودلائها. قالوا: ومر هشام بن عبد الملك3 وهو يريد المدينة بجرر هشام بن إسماعيل بالرابغ، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذه جرر جدك هشام، فأمر بإصلاحها وما يقيمها من بيت المال فكانت توضع هناك جرار أربع يسقى منهن الناس. قالوا: وولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقيق لرجل اسمه هيضم المزني، ولم تزل الولاة على المدينة يولون واليا من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى كان زمان داود بن عيسى4 فتركه في سنة ثمانٍ وتسعين ومائة. قالوا: ومات سعيد بن زيد بن أبي وقاص وهما من العشرة بالعقيق، وحملا إلى المدينة فدفنَّا بها، قلت: ووادي العقيق اليوم ليس به ساكن وفيه بقايا بنيان خراب وآثار تجد النفس برؤيتها أنسا كما قال أبو تمام: ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب ما ربع مية معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب5

_ 1 وادٍ خصب يقع غربي المدينة ويبعد عنها قليلا. 2 من أشهر آبار العقيق: بئر رومة وبئر عروة. 3 تولى هشام الخلافة الأموية عشرين عاما "105-125هـ". 4 هو والي المدينة في عهد الرشيد والأمين. 5 مية: محبوبة ذي الرمة. وغيلان: هو ذو الرمة الشاعر الأموي المتوفى عام 117هـ.

الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها

الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها اعلم أنه قد نقل أهل السير أسماء آبار بالمدينة شرب منها النبي -صلى الله عليه وسلم- وبصق فيها إلا أن أكثرها لا يعرف اليوم فلا حاجة في ذكرها، ونحن نذكر الآبار التي هي اليوم موجودة معروفة على ما يذكر أهل المدينة والعهدة عليهم في ذلك، ونذكر ما جاء في فضلها. فأول ذلك بئر حا 1: روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر حا، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن الله عز وجل يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب أموالي إلي بئر حا وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بخ بخ ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أَفعَلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. قلت: وهذه البئر اليوم وسط حديثة صغيرة جدا وعندها نخلات ويزرع حولها، وعندها بيت مبني على علو من الأرض وهي قريبة من سور المدينة وهي ملك لبعض أهل المدينة وماؤها عذب حلو، وذرعتها فكان طولها عشرة أذرع ونصف ماء، والباقي بنيان، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر، وهي مقابلة المسجد كما ذكرت في الحديث. ثم بئر أريس: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري أنه توضَّأ في بيته ثم خرج فقال: لألزمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأكونن معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: خرج وجه ههنا، فخرجت على أثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس2، قال: فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجته وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قُفَّها3 وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر،

_ 1 هي في شمال شرقي المدينة ولا يفصلها عنها إلا مسافة قليلة جدًّا. 2 هي في غرب المدينة، وسميت باسم صاحبها، وهي مشهورة ببئر الخاتم، لسقوط خاتم الرسول فيها من يد عثمان بن عفان. 3 هو ما ارتفع من فم البئر على وجه الأرض.

قال: فسلمت عليه، ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت: لأكونن بواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال: "ائذن له وبشره بالجنة"، قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر، فجلس عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا -يريد أخاه- يأتِ به فإذا إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك ثم جئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه وقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فجئت عمر فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، قال: فدخل فجلس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم في القف ثم رجعت فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا -يعني أخاه- يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان فقلت: على رسلك قال: وجئت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: "ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه"، قال: فجئت وقلت: ادخل ويبشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة مع بلوى تصيبك، قال: فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاههم من الشق الآخر. وقد أخرج البخاري في صحيحه هذا الحديث فزاد فيه ألفاظا ونقص، وقال: فدخل عثمان فلم يجد معهم مجلسا، فتحول حتى جاء مقابلهم عن شقة البئر فكشف عن ساقيه ثم دلاهما في البئر؛ وقال البخاري: قال سعيد بن المسيب: فتأولت ذلك قبورهم اجتمعت ههنا وانفرد عثمان. وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من ورق، أي فضة، وكان في يده ثم كان في يد أبي بكر ثم كان بعد في يد عمر ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس. وروى البخاري في الصحيح من حديث أنس قال: كان خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- في يده وفي يد أبي بكر وبعده وفي يد عمر بعد أبي بكر فلما كان عثمان جلس على بئر أريس فأخرج الخاتم فجعل يعبث به فسقط، قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده. قلت: وهذه البئر مقابلة مسجد قباء وعندها مزارع ويستقى منها، وماؤها عذب، وذرعتها فكان طولها أربعة عشر ذراعا وشبرا، منها ذراعان ونصف ماء، وعرضها خمسة أذرع وطول قُفِّها الذي جلس عليه النبي -صلى الله عليه وسلم، وصاحباه ثلاثة أذرع تشف كفًّا، والبئر تحت أطم عالٍ خراب من حجارة.

ثم بئر بضاعة: روى أبو داود في السنن من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقال له: إنه يسقى لك من بئر بضاعة1 وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعذر الناس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" 2. أنبأنا أبو القاسم الصموت عن الحسن بن أحمد بن عبد الله عن جعفر بن محمد، قال: أنبأنا أبو يزيد المخزومي حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن حاتم بن إسماعيل عن محمد بن أبي يحيى عن أمه قالت: دخلنا على سهل بن سعد في نسوة فقال: لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهتن ذلك، وقد -والله- سقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي منها. وحدثنا محمد بن الحسن عن عبد المهمين بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصق في بئر بضاعة، وحدثنا محمد بن الحسن عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن مالك بن حمزة بن أبي السيد عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لبئر بضاعة، قال أبو داود السجستاني في السنن: سمعت -والله- قتيبة بن سعيد يقول: سألت قيِّم بئر بضاعة عن عمقها فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة، قلت: فإذا نقص قال: دون العورة، قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤه عما كان عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماءً متغير اللون. قلت: وهذه البئر اليوم في بستان وماؤها عذب طيب ولونه صافٍ أبيض، وريحه كذلك ويستقي منها كثيرا، وذرعتها فكان طولها أحد عشر ذراعا وشبرا، منها: ذراعان راجحة ماء والباقي بناء وعرضها ستة أذرع كما ذكر أبو داود في السنن. ثم بئر غرس: أخبرنا يحيى بن أسعد بخطه قال: أنبأنا أبو علي الحداد عن أبي نعيم الأصبهاني قال: كُتِب إلى أبي محمد الخواص أن محمد بن عبد الرحمن أخبره قال: أخبرنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد عن سعيد بن عبد الرحمن بن قيس، قال: جاءنا أنس بن مالك بقباء فقال: أين بئركم هذه؟ يعني بئر غرس3 فدللناه

_ 1 هي بالقرب من سقيفة بني ساعدة. 2 هو لأحد في مسنده ولمسلم والترمذي والنسائي والدارقطني وللبيهقي في السنن عن أبي سعيد وهو صحيح. 3 هو في الشمال الغربي للمدينة.

عليها قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءها بسحر، فدعا بدلو من مائه فتوضأ منه ثم سكبه فيها فما نزفت بعد. وحدثنا محمد بن الحسن عن القاسم بن محمد عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة"، فأصبح على بئر غرس، فتوضأ منها، وبصق فيها، وغسل منها حين توفي صلى الله عليه وسلم". وحدثنا محمد بن الحسن عن سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: غسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بئر يقال لها غرس، وكان يشرب منها. قلت: وهذه البئر بينهما وبين مسجد قباء نحو نصف ميل، وهي في وسط الشجر وقد خربها السيل وطمها، وفيها ماء أخضر إلا أنه عذب طيب وريحه الغالب عليه الأجون1، وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شافة، منها ذراعان ماء، وعرضها عشرة أذرع. ثم بئر البصة: أنبأنا ذاكر الحذاء عن الحسن بن أحمد الأصبهاني عن أحمد بن عبد الله الحافظ عن جعفر بن محمد قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن موسى عن سعيد بن أبي زيد عن ابن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي الشهداء وأبناءهم ويتعاهد عيالهم، قال: فجاء يوما أبا سعيد الخدري، فقال: "هل عندك من سدر أغسل به رأسي؛ فإن اليوم الجمعة". قال: نعم، فأخرج له سدرًا وخرج معه إلى البصة، فغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه وصب غسالة رأسه ومزاقة شعره في البصة. قلت: وهذه البئر قريبة من البقيع على طريق المارِّ إلى قباء وهي بين نخل، وقد هدمها السيل وطمها، وفيها ماء أخضر ووقفت على قفها وذرعت طولها فكان أحد عشر ذراعا منها ذراعان ماء، وعرضها تسعة أذرع وهي مبنية بالحجارة ولون مائها إذا انفصل منها أبيض وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه، وذكر لي الثقة أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمها السيل. ثم بئر رومة: روى أهل السير: أن تُبَّعًا لما قدم المدينة نزل بقباء واحتفر البئر الذي يقال لها: بئر الملك، وبه سميت، فاستوبئ ماؤها، فدخلت عليه امرأة من بني زريق من اليهود اسمها

_ 1 أي الملوحة.

فكيهة، فشكا إليها وباء بئره، فانطلقت فأخذت حمارين واستقت له من ماء رومة1 ثم جاءته فشربه، فقال: زيدينا من هذا الماء. وكتبت إلي عفيفة الأصبهانية أن أبا علي الحداد أخبرها بخطه عن أبي نعيم قال: كتب إلى جعفر الملدي أن أبا يزيد المخزومي أخبره عن الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن عن محمد بن طلحة عن إسحاق بن يحيى عن موسى بن طلحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعم الحفيرة حفيرة المدني"؛ يعني رومة، فلما سمع بذلك عثمان بن عفان ابتاع نصفها بمائة بكرة، وتصدق بها فجعل الناس يستقون منها فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب عليها باع من عثمان النصف الثاني بشيء يسير فتصدق بها كلها. وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن عثمان حيث حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفر رومة فله الجنة؟ " فحفرتها، ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة؟ " فجهزتهم، قال: فصدقوه. قلت: وهذه البئر اليوم بعيدة عن المدينة جدًّا في براح واسع من الأرض وطيء، وعندها بناء من حجارة خراب قيل إنه كان ديرا ليهود والله أعلم، وحولها مزارع وآبار وأرضها رملة، وقد انتقضت خرزتها وأعلامها إلا أنها بئر مليحة جدًّا مبنية بالحجارة الموجهة، وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعا، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها، وعرضها ثمانية أذرع وماؤها صاف وطمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه، قلت: واعلم أن هذه الآبار قد يزيد وماؤها في الأزمان عما ذكرنا وقد ينقص وربما بقي منها ما كان مطموما2.

_ 1 هي في وادي العقيق في الشمال الغربي للمدينة. 2 ومن عيون المدينة المشهورة: العين الزرقاء أو عن الأزرق، وهو مروان بن الحكم وكان قد أجراها بأمر معاوية حين كان واليًا على المدينة وأصلها من قباء معروف من بئر كبيرة غربي مسجد قباء في حديثة نخل تعرف بالجعفرية. وقد أخذ الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء في حدود عام 560هـ منها شعبة عند مخرجها من القبة، فساقها إلى باب المدينة باب المصلى، ثم أوصلها إلى باب الرحبة التي عند مسجد النبي من جهة باب السلام، المعروف قديمًا بباب مروان وبنى لها منهلًا بدرج من تحت الدور يستسقي منه أهل المدينة وينتفعون بها، وجعل لها مصرفا من تحت الأرض يشق وسط المدينة على البلاط ثم يخرج إلى ظاهر المدينة من جهة الشمال شرقي الحصن الذي يسكنه أمير المدينة وتسمى بئر السوق، وقد أقام الملك سعود خزانات على مياه عين الزرقاء تتسع لأكثر من 1500 متر مكعب من المياه تجري في أنابيب من الصلب إلى المدينة لسقيا الناس.

ذكر عين النبي -صلى الله عليه وسلم: أنبأنا يحيى بن أسعد عن الحسن بن أحمد عن أبي نعيم عن جعفر بن محمد حدثنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا الزبير حدثنا محمد بن الحسن عن موسى بن إبراهيم بن بشير عن طلحة بن خراش قال: كانوا أيام الخندق يخرجون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويخافون البيات، فيدخلون به كهف بني حرام فيبين فيه حتى إذا أصبح هبط، قال: ونقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العينية التي عند الكهف فلم تزل تجري حتى اليوم، قلت: وهذه العين في ظاهر المدينة وعليها بناء وهي مقابلة المصلى.

الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضل الشهداء به

الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضل الشهداء به روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، قال أبو عمر بن عبد البر: في معنى هذا الحديث يحتمل أن الله خلق فيه الروح، فأحب النبي -صلى الله عليه وسلم، وقيل: يحمل على المجاز. أخبرنا أبو غالب محمد بن المبارك الكاتب وعبد العزيز بن أحمد الناقد قالا: أنبأنا محمد بن عمر الفقيه أنبأنا جابر بن ياسين أنبأنا عمر بن أحمد المقري حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا إسحاق حدثنا عبد الله بن جعفر حدثني أبو حازم عن سهل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أُحُد ركنٌ من أركان الجنة"1. وكتب إلى أبي محمد بن أبي القاسم الحافظ أن عبد الرحمن بن أبي الحسن أخبره قال: أنبأنا سهل بن بشر أنبأنا أبو الحسن بن منير أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الله الذهلي حدثنا موسى بن هارون حدثنا يعقوب حدثنا عبد العزيز بن محمد عن طلحة بن خراش بن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خرج موسى وهارون عليهما السلام حاجَّيْن أو معتمرين، فلما كانا بالمدينة مرض هارون فثقل، فخاف عليه موسى اليهود، فدخل به أُحُدًا فمات فدفنه فيه"2. وروي عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما تجلى الله تعالى لجبل طور سينا تشظى منه ست شظايا فنزلت مكة، فكان: حراء وثبير وثور، وبالمدينة: أحد وورقان وعير"، قلت: فأحد معروف وعير مقابله والمدينة بينهما وورقان عند شعب علي رضي الله عنه. قلت: وكانت قريش قد جاءت من مكة لحرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولقوه في يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة عند جبل أحد، وكان بينهم من القتال ما أكرم

_ 1 رواه أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير عن سهل بن سعد وهو ضعيف. 2 المشهور أنهما قد ماتا في التيه.

الله به من أكرم من المسلمين بالشهادة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلص العدو إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذب بالحجارة حتى وقع لشقه فانكسرت رباعيته وشج في وجهه وكُلِمَتْ شفته، وكان ذلك كرامة له -صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الذين استشهدوا بين يديه وكانوا سبعين رجلا: حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، فهؤلاء الأربعة من المهاجرين، ومن الأنصار: عمر بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن قيس، وعمرو بن ثابت بن وقش، وأبو قيس ثابت، ورفاعة بن وقش، وحسيل بن ثابت، وهو اليمان أبو حذيفة، وصيفي بن قبطي، وعباد بن سهل، وخباب بن قبطي، والحارث بن أوس بن هانئ، وإياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن التيهان، ويقال: عتيك وحبيب بن زيد بن قتم، وزيد بن حاطب بن أمية بن رافع، وأبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد، وأنيس بن قتادة، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي، وأبو حبة بن عمرو بن ثابت أخو سعيد بن حثمة لأمه، وعبيد الله بن جبير بن النعمان، وخيثمة أبو سعد بن خيثمة، وعبد الله بن سلمة، وسبيع بن حاطب بن الحارث، وعمرو بن قيس بن زيد وابنه قيس، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف بن علقمة، وأوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت، وأنس بن النضر، وقيس بن مجلد، وكيسان عبد لبني النجار، وسليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو، وخارجة بن زيد، وسعد بن الربيع، وأنس بن الأرقم بن زيد، ومالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري، وسعيد بن سويد بن قيس وعتبة بن ربيع بن رافع، وثعلبة بن سعد بن مالك، وثقيف بن قرة، وعبد الله بن عمرو بن وهب، وضمرة حليف لبني طريف من جهينة، ونوفل بن عبد الله، وعباس بن عبادة، ونعمان بن مالك بن ثعلبة، والمجذر بن زياد، وعبادة بن الحسحاس، ورفاعة بن عمرو وعبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح، وابنه خلاد، وأبو أيمن مولاه وعنترة بن عمرو بن حديدة ومولاة عنيزة، وسهل بن قيس بن أبي كعب، وذكوان بن عبد قيس وعبيد بن المعلى بن لوذان ومالك بن نميلة، والحارث بن عدي بن خرشة، ومالك بن إياس، وإياس بن عدي، وعمرو بن إياس. فهؤلاء الذين استشهدوا بين يديه -صلى الله عليه وسلم- وقاتلوا وقتلوا رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين: فأما حمزة رضي الله عنه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عليه، وقد مثل به جدع أنفه وأذناه وبقر بطنه عن كبده؛ فقال -صلى الله عليه وسلم: "لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا"، ثم قال: "جاءني جبريل وأخبرني أن حمزة مكتوب في السموات السبع: حمزة بن

عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله"؛ فأقبلت صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة لأبيه ولأمه؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابنها الزبير بن العوام: "القها فأرجِعْها لا ترى ما بأخيها"؛ فقال: يا أمه؛ رسول الله يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مُثِّل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فجاء الزبير، فأخبره بذلك، فقال: "خل سبيلها"، فأتته، فنظرت إليه، وصلت عليه، واسترجعت واستغفرت له، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فسجي ببردة ثم صلى عليه فكبر عليه سبعين ودفنه، ولما رجع إلى المدينة سمع البكاء والنواح على القتلى، فذرفت عيناه -صلى الله عليه وسلم- وبكى؛ ثم قال: "لكن حمزة لا بواكي له"، فجاء نساء بني عبد الأشهل لما سمعوا ذلك، فبكين على عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن على باب المسجد؛ فلما سمعهن خرج إليهن فقال: "ارجعن يرحمكن الله؛ فقد آسيتن بأنفسكن". وأما عمر بن زياد بن السكن فإنه قاتل حتى أثبتته الجراحة؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أدنوه مني"، فأدنوه منه، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنه. وأما عمرو بن ثابت بن وقش فإنه كان يأبى الإسلام فلما كان يوم أحدا بدا له في الإسلام فأسلم وأخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض المسلمين فقاتل حتى أثبتته الجراحة فرآه المسلمون بين القتلى، فقالوا: ما جاء بك يا عمرو أحرب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام آمنت بالله ورسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقاتلت حتى أصابني ما أصابني ثم مات في أيديهم فذكروه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه لمن أهل الجنة"، وكان أبو هريرة يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط، فإذا لم تعرفه الناس قال: هو عمرو بن ثابت. وأما أبو ثابت بن وقش والحسيل وهو اليمان أبو حذيفة فإنهما كانا شيخين كبيرين ارتفعا في الآطام مع النساء والصبيان لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك ما تنتظر؟ فوالله إنما نحن عامة اليوم أو غد أفلا نحني أسيافنا ونلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعل الله يزرقنا الشهادة معه؟ فأخذا أسيافهما وخرجا حتى دخلا في الناس فقاتلا حتى قتلا. وأما حنظلة ابن أبي عامر فإنه لما قتله المشركون قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبكم لتغسله الملائكة فسألوا أهله: ما شأنه؟ " فسئلت صاحبته عنه فقالت: خرج وهو جنب حين سمع النداء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لذلك غسلته الملائكة". وأما أنس بن النضر فإنه جاء إلى المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟، قالوا: قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان الشيطان قد نادي بذلك، وفقده المسلمون؛ لاختلاطهم فلم يعرفوه فقال لهم أنس: فما تصنعون بالحياة بعده؛ قوموا فموتوا على ما

مات عليه ثم قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فاستقبل المشركين وقاتل حتى قتل، ولما وجدوه في القتلى ما عرفوه حتى عرفته أخته بشامة أو بنانة وفيه بضع وثمانون طعنة وضربة ورمية بسهم. وأما سعد بن الربيع فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع في الأحياء هو أم الأموات؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل، فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق قال: فقلت له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم الأموات، قال: أنا في الأموات، فبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل: إن سعد بن الربيع يقول له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، قال: لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته. وأما عبد الله بن عمرو بن حرام فإنه روى البخاري في الصحيح أن ابنه جابرا قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهوني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا تبكه ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه". وأما عمرو بن الجموح فإنه كان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله قد عذرك، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه؛ فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك"، وقال لبنيه: "ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة"، فخرج معه فقتل بأحد، وروى البخاري في الصحيح أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: أرأيت إن قتلت أين أنا؟ قال: "في الجنة" فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل، وروى البخاري أيضا من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بني الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن" فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا. وروى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى، اللون لون دم والريح ريح مسك"، وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أريت في رؤياي أني هززت سيفي فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به يوم الفتح واجتماع المؤمنين"، قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من القرآن في يوم أحد ستين آية، من آل عمران فيها صفة

ما كان من يومهم ذلك، وهي من قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} إلى قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران: 121-179] إلى آخر الآية. وروى ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لما أصيب أخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأتي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا يلتووا عن الحرب، فقال الله تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم"، فأنزل الله على رسوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] ... الآيات. وروى البخاري في الصحيح عن عقبة بن عامر: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر، فقال: "إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها"، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود في سننه من حديث طلحة بن عبيد الله قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرة واقم1 فلما تدلينا منها فإذا قبور، فقلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: "قبور أصحابنا"، فلما جئنا قبور الشهداء قال: "هذه قبور إخواننا". وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في قتلى أحد: "هؤلاء شهداء؛ فأتوهم وسلموا عليهم ولن يسلم عليهم أحد ما قامت السموات والأرض إلا ردوا عليه". وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده: أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تختلف بين اليومين والثلاثة إلى قبور الشهداء بأحد، فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت رضي الله عنها. وروى العطاف بن خالد قال: حدثتني خالة لي وكانت من العوابد قالت: ركبت يوما حتى جئت قبر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فصليت ما شاء الله، والله ما في الوادي داعٍ ولا مجيب وغلامي آخذ برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قمت فقلت: السلام عليكم، وأشرت بيدي فسمعت رد السلام من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله سبحانه خلقني، فاقشعر جلدي وكل شعرة مني، فدعوت الغلام وركبت.

_ 1 هي حرة مشهورة من حرار المدينة.

وروى مالك في الموطأ أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كان السيل قد حفر قبرهما، وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهدوا يوم أحد، فحفر عنهما؛ لينقلا من مكانهما فوجدا كأنهما ماتا بالأمس، فكان أحدهما قد جرح موضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم الحفر عنهما ست وأربعون سنة. قلت: وقبور الشهداء اليوم لا يعرف منها إلا قبر حمزة رضي الله عنه؛ فإنه قد بنت عليه أم الخليفة الناصر لدين الله رحمه الله مشهدا كبيرا1، وجعلت عليه بابا من ساج منقوش وحوله حصا، وعلى المشهد باب من حديد يفتح في كل يوم خميس وقريب منه مسجد يذكر أهل المدينة أنه موضع مقتله والله أعلم بصحة ذلك2. وأما بقية الشهداء فهناك حجارة موضوعة يذكر أنها قبورهم، وفي أحد غار يذكرون أنه صلى فيه، وموضع في الجبل أيضا منقوب في صخرة منه على قدر رأس الإنسان، يذكرون أنه -صلى الله عليه وسلم- قعد وأدخل رأسه هناك كل هذا لم يرد به نقل فلا يعتمد عليه.

_ 1 وذلك عام 590هـ. 2 وقد زاد الأشرف قايتباي في مسجد حمزة زيادة في جهته الغريبة، وذلك عام 893هـ على يد شاهين الجمالي.

الباب التاسع: في ذكر إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير من المدينة

الباب التاسع: في ذكر إجلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير من المدينة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عقد حلفا بين بني النضير من اليهود وبين بني عامر، فعدا رجل من بني النضير على رجلين من بني عامر فقتلهما. فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بني النضير يستعين في دية ذينك القتيلين، فقالوا له: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم، فمُرُوا رجلًا يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه، وانتدب لذلك أحدهم فصعد؛ ليلقي عليه صخرة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة وأخبر أصحابه بما كانت اليهود همَّت به، وأمرهم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، وسار حتى نزل بهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطع نخيلهم وتحريقها، وكان رهط من الخزرج من المنافقين قد بعثوا إلى بني إسرائيل أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك منهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم

الرعب، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل يهدم بيته ويأخذ بابه فيضعه على البعير وينطلق به، واستقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم، والدفوف والمزامير والقيان تعزف خلفهم، وخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقسمهما على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرًا، فأعطاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاه. فأنزل الله في بني النضير سورة الحشر بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليهم به رسوله وما عمل فيهم.

الباب العاشر: حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة

الباب العاشر: حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة كان نفر من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد خرجوا، فقدموا مكة على قريش، فدعوهم إلى حرب النبي، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فسرهم ذلك واتعدوا له وتجمعوا، ثم جاءوا غطفان، فدعوهم إلى حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنهم معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك وخرجت قريش وغطفان بمن جمعوا معهم فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب الخندق على المدينة يعمل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه ودأبوا فيه. روى البخاري في الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك فلما رأى ما بهم من النصب قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة" فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا1 وروى أيضا من حديث البراء بن عازب قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرَّ بطنه، ويقول: والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا، ويرفع بها صوته: أبينا أبينا.

_ 1 أعظِمْ بها من مبايعة، وأكرِمْ بمن اشترك فيها من مجاهدين خالدين.

قال ابن إسحاق: وحكت ابنة بشير بن سعد قالت: دعتني أمي فأعطتني حفنة من تمر في ثوب ثم قالت: اذهبي إلى أبيك وخالك بغدائهما، قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألتمس أبي وخالي فقال: "تعالي يا بنية ما هذا معك؟ ". قالت: قلت: يا رسول الله، هذا بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة؛ يتغديانه، قال: "هاتيه". قالت: فصببته في كفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما ملأتهما ثم أمر بثوب، فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده: "اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء"، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب. وروى جابر بن عبد الله أن صخرة اشتدت عليهم، فشكوها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك على تلك الصخرة، فانهالت حتى عادت كالكثيب ما ردت فأسا ولا مسحاة. ولم يزل المسلمون يعملون فيه وينقلون التراب على أكتافهم حتى فرغوا منه وأحكموه، وأقبلت قريش ومن تبعها في عشرة آلاف حين نزلت بمجتمع السيول من رومة، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد، وخرج رسول الله في ثلاثة آلاف حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، وضرب عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام، وخرج حيي بن أحطب النضري حتى أتى قريظة في دارها، وسألهم أن يكونوا معهم على حرب رسول الله؛ فذكروا أن بينهم وبينه عقدا وحلفا، فلم يزل بهم حتى نقضوه وأجابوه إلى حرب محمد -صلى الله عليه وسلم، فبعث سعد بن معاذ وجماعة معه إليهم؛ لينظروا صحة ذلك، فأتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم، فنالوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد وشاتموه، ثم أقبل بمن معه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وآتاهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلا النبل والرمي والحصار إلا فوارس من قريش فإنهم قاتلوا فقتلوا وقتلوا، ولما وقفوا على الخندق قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها؛ ويقال: إن سلمان أشار به على النبي -صلى الله عليه وسلم- ورمي سعد بن معاذ بسهم فقطع أكحله فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه؛ اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. واستشهد يومئذ من المسلمين ستة نفر من الأنصار منهم

أنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، وكعب بن زيد أصابه سهم فقتله، وسعد بن معاذ عاش حتى قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- بني قريظة بحكمه، واستجاب دعاءه، ثم قبض شهيدا، وسيأتي ذكر وفاته، وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة؛ لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى هدى الله نعيم بن مسعود أحد غطفان للإسلام؛ لإنفاذ أمره سبحانه في نصر نبيه وإقامة دينه؛ فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة"، فخرج حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديمًا في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، ولا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم؛ فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا منهم أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن اليهود قد ندموا على ما صنعوه فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين قريش وغطفان رجالًا من أشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي حتى تستأصلهم، فأرسل إليهم: نعم، فإن بعثت إليكم يهود تطلب منكم رجلا واحدا فلا تدفعوه، ثم خرج فأتى غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش، فأرسلت قريش إلى يهود أن اغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، فقالوا: لسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فقالت قريش وغطفان: إن الذي حدثكم نعيم لحق، ثم أرسلوا إلى قريظة إنا لن ندفع إليكم أحدا؛ فإن أردتم أن تقاتلوا فقاتلوا، فقالت قريظة: إن الذي قال لكم نعيم لحق، وخذل الله بينهم وبعث عليهم الريح في ليالٍ باردة شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فرجعوا إلى بلادهم وكان مجيئهم وذهابهم في شوال سنة خمس من الهجرة. قلت: والخندق اليوم باقٍ وفيه قناة تأتي من عين بقباء إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح وفي الخندق نخل قد انطم أكثره وتهدمت حيطانه.

الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة

الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون، ووضعوا السلاح أتى جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتمًّا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم" فقال: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك بالسير إلى بني قريظة؛ فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، فأذَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس: من كان سامعا ومطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة، وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون، فمر بنفر من أصحابه فقال: هل مر بكم أحد فقالوا: مر بنا دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم"، وأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون ونزل عليهم، وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتواثبت الأوس، وقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج فهبهم لنا، فقال: "ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منهم"، قالوا: بلى، قال: "فذلك إلى سعد بن معاذ"، وكان سعد في خيمة في المسجد يداوى جرحه، فأتاه الأوس، فأركبوه، وأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة 1 "، ثم استنزلوا بني قريظة من حصونهم، فحبسوا بالمدينة في دار امرأة من بني النجار، ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم، فجيء بهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، وكانوا سبعمائة وفيهم حيي بن أخطب النضري الذي حرضهم على نقض العهد وعلى محاربة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة؛ فإنها كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد من الحصن، فقتلته، فقتلها النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان النبي قد قتل منهم كل من أنبت، ومن لم ينبت استحياه ثم قسم الرسول أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأنزل الله في بني قريظة وأمر الخندق الآيات من سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} إلى قوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [9-27] الآية. ولما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، فمات منه شهيدًا، وروي أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ فقام -صلى الله عليه وسلم- سريعا يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات.

_ 1 أي سماوات.

الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفضله

الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفضله قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فنزل في علو المدينة في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم، فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فأخذ مربد كلثوم فعمله مسجدًا، وأسسه، وصلى فيه إلى بيت المقدس، وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع النهار، فركب ناقته القَصوَى، وحشد المسلمون، ولبسوا السلاح عن يمينه وشماله، وخلفه منهم الماشي والراكب، واعترضه الأنصار فما يمر بدار من دورهم إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة، فيقول لهم خيرا ويدعو لهم، ويقول عن ناقته: "إنها مأمورة؛ خلوا سبيلها"، فمر ببني سالم فأتى مسجدهم الذي في الوادي وادي رانوناء، وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك وكانوا مائة رجل، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها وسار حتى انتهت به إلى زقاق الحبشي ببني النجار، فبركت على باب دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه القرآن ويأتيه جبريل حتى ابتنى مسجده ومساكنه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نزل في سفل بيت أبي أيوب وذكر أبو أيوب أنه فوق النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل ساهرا حتى أصبح، فأتاه فقال: يا رسول الله، إني أخشى أن أكون ظلمت نفسي أن أبيت فوق رأسك، فقال عليه السلام: "السفل أرفق بنا وبمن يغشانا"، فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى انتقل إلى العلو، وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت أبي أيوب سبعة أشهر، وكان بنو مالك بن النجار يحملون كل يوم قصاع الثريد إلى النبي يتناوبون ذلك بينهم إلا سعد بن عبادة فإنه ما كان يقطع جفنته في كل ليلة إلى دار أبي أيوب فيدعو النبي أصحابه فيأكلون، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أخذ المربد من بني النجار كان فيه نخل وقبور المشركين وخِرب "خرائب" فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضاديته حجارة، قال: وكانوا يرتجزون ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم: "اللهم إن الخير خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة" وجعلوا ينقلون الصخر، وطفق النبي -صلى الله عليه وسلم- ينقل اللبن معهم في ثيابه ويقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر وبنى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجده مربعا، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وطوله سبعون ذراعا أو يزيد، وجعل له ثلاث أبواب: بابا في مؤخره، وباب عاتكة وهو باب الرحمة والباب الذي

كان يدخل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو باب عثمان، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة سد النبي -صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه وفتح الباب الآخر حذاءه فكان المسجد له ثلاثة أبواب: باب خلفه وباب عن يمين المصلى وباب عن يساره، وجعلوا أساس المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن، وفي الصحيحين: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزه، وقالت عائشة: كان طول جدار المسجد بسطة وكان عرض الحائط لبنة لبنة ثم إن المسلمين كثروا، فبنوه لبنة ونصفا ثم قالوا: يا رسول الله لو أمرت فزيد فيه قال: "نعم" فأمر به فزيد فيه، وبني جداره لبنتين مختلفتين ثم اشتد عليهم الحر، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، قال: "نعم"، فأمر به فأقيم له سواري من جذوع النخل شقة ثم شقة ثم طرحت عليها العوارض والخصف والإذخر، وجعل وسطه رحبة فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف1 عليهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد يعمر فَطُين فقال لهم: "عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات والأمر أعجل من ذلك"، فلم يزل كذلك حتى قبض -صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن عريش موسى كان إذا قام أصاب رأسه السقف، قال أهل السير: بنى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجده مرتين؛ بناه حين قدم أقل من مائة في مائة فلما فتح الله عليه خيبر بناه، وزاد عليه في الدور مثله، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه متوجها إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم أمر بالتحول إلى الكعبة فأقام رهطا على زوايا المسجد؛ ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده: هكذا، فأماط كل جبل بينه وبينها فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل: هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها، وصارت قبلته إلى الميزاب، أخبرنا أبو القاسم المظفري والأرحبي في كتابيهما عن أبي علي الأصفهاني عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخلدي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن أبو زبالة، حدثني عبد العزيز بن أبي حازم، عن هشام بن سعد بن أبي هلال عن أبي هريرة قال: كانت قبلة النبي -صلى الله عليه وسلم- الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده موضع الأسطوانة المخلفة اليوم خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام حتى إذا كنت بين باب آل عثمان كانت قبلته في ذلك الموضع. فضيلة المسجد والصلاة فيه: أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن أحمد العطار، أخبرنا أبو سعد عمار بن طاهر الهمداني، حدثنا مكي بن عبد السلام الرميلي، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي، أخبرنا محمد بن محمد الواسطي، حدثنا عمر بن الفضل بن مهاجر، حدثنا الوليد بن

_ 1 أي يقطر سقفه عليهم ماء.

حماد الرملي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"، أخرجه البخاري في صحيحه. أنبأنا الذهلي، حدثنا أبو محمد بن عبدوس، حدثنا يعقوب بن حميد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دخل مسجدي هذا يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره". أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الهمداني في كتابه قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين محمد بن محمد الفقيه، قال: أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي، حدثنا عمرو بن الفضل بن مهاجر، حدثنا أبي، حدثنا الوليد، أخبرنا محمد بن النعمان، أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو عبد الملك عن عبد الواحد بن زيد عن شهر بن حوشب عن عبد الله قال: سكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط، وهو يصلي في كل جمعة في خمسة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ومسجد قباء، ويصلي كل ليلة جمعة في مسجد الطور ويأكل كل جمة أكلتين من كمأة وكرفس ويشرب مرة من زمزم ومرة من جب سليمان الذي ببيت المقدس ويغتسل من عين سلوان. أنبأنا أبو الفرج بن الجوزي قال: أنبأنا عباد بن أحمد الحسن آباذي، قال: أخبرنا الحسن بن عمر الأصبهاني أنبأنا الحسن بن علي البغدادي حدثنا محمد بن علي الهمداين حدثنا محمد بن عمران حدثنا بحر بن نصير أخبرنا موسى بن عبيدة عن داود بن مدرك عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء أحق المساجد أن يزار وتركب إليه الرواحل، وصلاة في مسجدي هذا أفضل من الصلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام". وأخرج مسلم في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" 1. أخبرنا عبد الوهاب بن علي أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي أنبأنا أبو محمد الصيرفي أنبأنا أبو بكر بن عبدان عن عبد الوهاب بن المهتدي حدثنا أيوب بن سليمان الصعدي حدثنا أبو اليمان حدثنا العطاف بن خالد عن عبد الله بن عثمان بن عمر بن الأرقم بن أبي الأرقم عن أبيه عن جده قال: قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن

_ 1 هو في مسلم في كتاب الحج الجزء الأول.

أخرج إلى بيت المقدس قال: "فلم؟ " قلت: للصلاة فيه، قال: "ههنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة". أنبأنا أبو القاسم البقل عن أبي علي الأصبهاني عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخلدي قال: أنبأنا أبو زيد المخزومي أخبرنا الزبير بن بكار أخبرنا محمد بن الحسن حدثني إسماعيل بن المعلى عن يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة". وحدثني محمد بن الحسن حدثني حاتم بن إسماعيل عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبينة عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذباب والضباع، فيمر الرجل ببابه فيريد أن يصلي فيه فما يقدر عليه". ذكر حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: لما بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده بنى بيتين لزوجته عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل، وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر أو ساج، ولما تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه بنى لهن حجرًا وهي تسعة أبيات، وهي ما بين بيت عائشة -رضي الله عنها- إلى الباب الذي يلي باب النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أهل السير: ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشامي ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد. قال عمر بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر، وذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع. قال مالك بن أنس: وحدثني الثقة عندي أن الناس كانوا يدخلون حجرات أزواج النبي بعد وفاته يصلون فيها يوم الجمعة. قال مالك: وكان المسجد يضيق عن أهله، وحجر النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. أخبرنا صالح بن أبي الحسن الخريمي أنبأنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري أخبرنا أبو الحسن بن معروف أخبرنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتا باللبن ولها حجر من جريد، ورأيت أم سلمة

وحجرتها من لبن، فسألت ابن ابنها، فقال: لما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دومة، بنت أم سلمة بلبن حجرتها، فلما قدم نظر إلى اللبن فقال: ما هذا البناء، فقالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال: يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان، وقال عطاء الخراساني: أدركت حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم. وسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم لو تركوها على حالها ينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر، وقال عمران بن أبي أنس: لقد رأيتني في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيه نفر من أصحابه أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو أمامة بن سهل وخارجة بن زيد يعني لما نقضت حجر أزواجه عليه السلام وهم يبكون حتى اخضلَّت لحاهم من الدمع، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تُركت حتى يقصر الناس من البنيان، ويروا ما رضي الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ومفاتيح الدنيا بيده. ذكر بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها: كان خلف بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يسار المصلى إلى الكعبة وكان فيه خوخة إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل إلى المخرج اطلع منها يعلم خبرهم، وكان يأتي بابها كل صباح، فيأخذ بعضادتيه، ويقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ، وقال محمد بن قيس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر أتى فاطمة -رضي الله عنها- فدخل عليها وأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفر، فصنعت فاطمة مسكتين من ورِق "فضة" وقرطين وسترًا لباب بيتها؛ لقدوم أبيها وزوجها، فلما قدم عليه السلام ودخل عليها وقف أصحابه على الباب، فخرج وقد عُرِفَ الغضب في وجهه، ففطنت فاطمة أنما فعل ذلك لما رأى المسكتين والقلادتين والستر، فنزعت قرطيها وقلادتيها، ومسكتيها، ونزعت الستر، وأنفذت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت للرسول: قل له: تقرأ عليك ابنتك السلام، وتقول لك: اجعل هذا في سبيل الله، فلما أتاه قال: "فعله، فداها أبواها -ثلاث مرات- ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء"، ثم قام، فدخل عليها. وقال محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الستر من فاطمة شقَّهُ لكل إنسان من أصحابه ذراعين ذراعين. وقال ابن عباس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر قبل رأس فاطمة رضي الله عنها.

أنبأنا أبو القاسم التاجر عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخواص، قال: أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر بن محمد، كان يقول: قبر فاطمة رضي الله عنها في بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد؛ قلت: وبيتها اليوم حوله مقصورة وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي عليه السلام. ذكر مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالليل: روى عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطرح حصيرا كل ليلة إذا انكف الناس، ورأيت عليا كرم الله وجهه ثَمَّ يصلي صلاة الليل، قال عيسى: وذلك موضع الأسطوان الذي على طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يلي الدور. وروي عن سعيد بن عبد الله بن فضيل، قال: مر بي محمد بن علي ابن الحنفية رضي الله عنه وأنا أصلي إليها، قال لي: أراك تلزم هذه الأسطوانة هل جاءك فيها أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها؛ كانت مصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالليل، قلت: وهذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة رضي الله عنها وفيها محراب إذا توجه الرجل كان يساره إلى باب عثمان رضي الله عنه. ذكر الجذع الذي كان يخطب إليه النبي عليه السلام: أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر الجنابذي، أخبرنا يحيى بن علي المديني، أخبرنا أبو الحسين بن النقور، أخبرنا أبو القاسم بن حنانة، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا هدية بن خالد، حدثنا حماد بن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب إلى جذع نخلة، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحتضنه فسكن، فقال عليه السلام: "لو لم أحتضنه لَحَنَّ إلى يوم القيامة". أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أخبرنا جابر بن ياسين، أخبرنا المخلص، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا المبارك بن فضالة، حدثنا الحسن عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إلى خشبة مسنِدًا ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: "ابنوا لي منبرًا" فبنوا له منبرا له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنَّت الخشبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال أنس: وأنا في المسجد، فسمعت الخشبة تحنُّ حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكنت، فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحنُّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقا إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه، وفي لفظ: فنزل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحتضنه وسارَّه بشيء، وفي لفظ: فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت تنشق، وفي لفظ: فجعلت تئن أنين

الصبي حتى استقرت، وفي لفظ: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر، كل هذه الألفاظ في الصحيح، وقال أبو سعيد الخدري: لما سكن الجذع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحفر له ويدفن. وقال أبو بريدة الأسلمي: لما سكن الجذع قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن شئت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه كما كنت، فتنبت لك عروقك، ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمر، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتأكل أولياء الله من ثمرك"، ثم أصغى إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع ما يقول، قال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله، وأكون في مكان لا أداس فيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم، قد فعلت"؛ وعاد إلى المنبر ثم أقبل على الناس فقال: "خيرته كما سمعتم فاختار أن أغرسه في الجنة، اختار دار البقاء على دار الفناء". وقالت عائشة رضي الله عنها: لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك غار الجذع فذهب، وقال ابن أبي الزناد: لم يزل الجذع على حاله زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما هدم عثمان رضي الله عنه المسجد اختلف في الجذع فمنهم من قال: أخذه أبي بن كعب فكان عنده حتى أكلته الأرضة، ومنهم من قال: دفن في موضعه، وكان الجذع في موضع الأسطوانة المخلفة التي عن يمين محراب النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الصندوق. ذكر عمل المنبر: وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي حازم أن نفرا جاءوا إلى سهل بن سعد قد تماروا في المنبر من أي عود هو، فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو ومن عمله؛ رأيت رسول الله أول يوم جلس عليه، فقلت له: فحدثنا، فقال: أرسل عليه السلام إلى امرأة: "انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها"، فعمل هذه الدرجات الثلاث ثم أمر بها فوضعت بهذا الموضع وهي من طرفاء الغابة ... وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؛ فإن لي غلاما نجارا؟ قال: "إن شئت" فعمل له المنبر. وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر أن النبي لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرا يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: "بلى" قال: فاتخذ له منبرا مرقاتين1، وروي عن أبي الزناد أنه عليه السلام كان يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد فقال: "إن القيام قد شق علي" وشكا ضعفا في رجليه، فقال له تميم الداري وكان من أهل فلسطين: يا رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام قال: فلما أجمع

_ 1 المرقاة: الدرجة.

ذوو الرأي من أصحابه على اتخاذه قال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "فمره يعمل"، فأرسل إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضع المنبر اليوم ثم راح إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حنَّ الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة حتى ارتاع الناس، وقام بعضهم على رجليه، فأقبل عليه السلام حتى مسه بيده فسكن، فما سمع له صوت بعد ذلك، ثم رجع إلى المنبر فقام عليه، وقد روي أن اسم هذا الغلام الذي صنع المنبر مينا، وقال عمر بن عبد العزيز: عمله صباح غلام العباس بن عبد المطلب. قال الواقدي1: وفي سنة ثمانٍ من الهجرة اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- منبره واتخذه درجتين ومقعدة. عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال -صلى الله عليه وسلم: "قوائم منبري رواتب في الجنة، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "منبري على حوضي"، قال الخطابي: معناه: من لزم عبادة الله عنده سقي من الحوض يوم القيامة، قلت: الذي أراه أن المعنى هذا المنبر بعينه يعيده الله على حاله فينصبه عند حوضه كما تعود الخلائق أجمعون. أخبرنا أبو طاهر المبارك بن المبارك العطار قال: أخبرنا أبو الغنائم محمد بن محمد الخطيب، وأخبرنا هبة الله بن الحسن بن السبط قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله العكبري قالا: أخبرنا أبو طالب العادي أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين قال: حدثنا علي بن محمد العسكري حدثني دارم بن قبيصة حدثني نعيم بن سالم قال: سمعت أنس بن مالك قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "منبري على ترعة من ترع الجنة". قال أبو عبيدة القاسم بن سلام: في الترعة ثلاثة أقوال: أحدها أنها الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة، والثاني أنها الباب، والثالث أنها الدرجة. وروى أبو داود في السنن من حديث جابر بن عبد الله قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له النار". وقال ابن أبي الزناد: كان -صلى الله عليه وسلم- يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى فلما

_ 1 هو أبو عبد الله الواقدي المتوفى عام 207هـ أو 216هـ. وله: تاريخ مكة، وفتوح الشام.

ولي عمر قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان فعل ذلك ست سنين ثم علي فجلس موضع النبي وكسى المنبر قبطية، فلما حج معاوية كساه قبطية وزاد فيه ست درجات، ثم كتب إلى مروان بن الحكم وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر على الأرض فدعا له النجارين وعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها، وصار المنبر تسع درجات بالمجلس لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده، قال: ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة قال لمالك بن أنس: إني أريد أن أعيد منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على حاله، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد سُمِّر إلى هذه العيدان وشد، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك فلا أرى أن تغيره. قلت: وطول منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مستند النبي -صلى الله عليه وسلم- ذراع، وطول رمانتي المنبر الذي يمسكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس يخطب شبر وإصبعان، وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر ثلاث أصابع، والدكة التي هو عليها طول شبر وعقد، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل له باب يفتح يوم الجمعة ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوبا من الحرير الأسود، وله علم ذهب يكسى به المنبر، ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستورا على أبواب الحرم. ذكر الروضة: أخبرنا أبو طاهر بن المقطوش قال: أخبرنا أبو الغنائم بن المهتدي وأخبرنا أبو القاسم الهمداني أخبرنا أبو المعز بن كادش قالا: أخبرنا محمد بن علي بن أبي الفتح الحربي قال: أخبرنا أبو الحفص بن شاهين حدثنا علي بن محمد العسكري حدثنا دارم بن قبيصة حدثني نعيم بن سالم بن قنبر قال: سمعت أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 1 أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وقال: "بيتي" مكان "حجرتي"، وقال الخطابي: معناه: من لزم طاعة الله تعالى في هذه البقعة آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة، والذي هو عندي أن يكون هذا الموضع بعينه روضة في الجنة يوم القيامة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: معناه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت الصحابة تقتبس منه العلم في ذلك الموضع فهو مثل الروضة قلت: ويؤيد قولَه قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر".

_ 1 ويروى بلفظ آخر، وهو: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". وهو حديث صحيح رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن علي وأبي هريرة.

ذكر سد الأبواب الشوارع في المسجد: روى البخاري في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ أن يكون الله عز وجل خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا، فقال يا أبا بكر: "لا تبك؛ إن أَمَنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر"، قال أهل السير: كان بابه في غربي المسجد، وروى ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالأبواب كلها فسُدَّتْ إلا باب علي رضي الله عنه. ذكر تجميره: ذكر أهل السير أن عمر بن الخطاب أتى بسفط من عود فلم يسع الناس فقال: أجمروا به المسجد؛ لينتفع به المسلمون فبقيت سنة في الخلفاء إلى اليوم يؤتى في كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة عند المنبر من خلفه إذا كان الإمام يخطب، قالوا: وأتي عمر بن الخطاب بمجمرة من فضة فيها تماثيل من الشام فكان يجمر بها المسجد ثم توضع بين يدي عمر فلما قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد واليا على المدينة غيرها وجعلها ساذجا وهي في يومنا هذا منقوشة. ذكر تخليقه: روي أن عثمان بن مظعون تفل في المسجد فأصبح مكتبئا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا. فقال: لا شيء؛ إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم خلقتها فكان أول من خلق1 القبلة، وقال جابر بن عبد الله: كان أول من خلق المسجد عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم لما حجت الخيزران أم موسى وهارون في سنة سبعين ومائة وأمرت بالمسجد أن يخلق فتولى تخليقه جاريتها مؤنسة فخلقته جميعه حتى الحجرة الشريفة جميعها. منع آكل الثوم من دخوله: روى البخاري في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزل مسجدنا"، وفي لفظ آخر: "فلا يقربن مسجدنا".

_ 1 أي طيبها بالخلوق وهو ضرب من الطيب.

النهي عن رفع الصوت فيه: روى البخاري في الصحيح أن السائب بن يزيد قال: كنت نائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما، فقال: ممن أنتما أو من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم. جواز النوم فيه: روى البخاري في الصحيح أن عبد الله بن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له، وروى أيضا من حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يجد عليا رضي الله عنه في البيت فقال: "أين ابن عمك؟ "، فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل1 عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان: "انظر أين هو فأخبرنا"، فجاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع قد سقط رداءه عن شقه وأصابه تراب فقال له: "قم أبا تراب". جواز الصلاة على الجنائز فيه: روى أبو داود في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابني بيضا في المسجد سهيل وأخيه، وروي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه". النهي عن إخراج الحصى منه: روى أبو داود في السنن من حديث أبي هريرة رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- "أن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد". ذكر مواضع تأذين بلال: روى ابن إسحاق أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن، وذكر أهل السير أن بلالًا كان يؤذن على أسطوانة في قبلة المسجد يرقى إليها بأقتاب وهي قائمة إلى اليوم في منزل عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروى نافع عن عمر قال: كان بلال يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر التي تلي المسجد

_ 1 من القيلولة وهي النوم وقت الظهيرة.

قال: فكان يرقى على أقتاب فيه، وكانت خارجة من مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، لم تكن فيه وليست فيه اليوم. ذكر أهل الصفة رضي الله عنهم: روى البخاري في الصحيح أن أصحاب الصفة كانوا فقراء، وروي أيضا من حديث أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء؛ إما إزار وإما كساء قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وروي أيضا من حديث أبي هريرة أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "أبا هر". قلت: لبيك يا رسول الله قال: "الحق" ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال: "من أين هذا اللبن؟ " قالوا: هداه لك فلان أو فلانة قال: "أبا هر" قلت: لبيك رسول الله، قال: "الحق إلى أهل الصفة فادعهم إلي" وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولا يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بدٌّ، فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت قال: "أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "خذ فأعطهم" فأخذت القدح فجعلت أعطيه فيشرب حتى يروى حتى انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد روى القوم وأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، وقال: "يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله قال: "اقعد فاشرب" فقعدت فشربت فقال: "اشرب" فشربت فما زال يقول: "اشرب" حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا قال: "فأرني" فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة، وروى أهل السير أن محمد بن مسلمة رأى أضيافا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فقال: ألا تفرق هذه الأضياف في دور الأنصار ونجعل لك من كل حائط قنوا؛ ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بلى" فلما جذ ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون ذلك، وكان معاذ بن جبل يقوم عليه وكان يجعل عليه حبلا

بين الساريتين ثم يعلق الأقناء على الحبل، ويجمع العشرين أو أكثر، فيهش عليهم بعصاه من الأقناء فيأكلون حتى يشبعوا ثم ينصرفون، ويأتي غيرهم فيفعل لهم مثل ذلك فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك. ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة: روى أهل السير عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي في مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم نجد أحدا يذكر لنا منه شيئا حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة أنه جلس إلى جنبه أنس بن مالك فقال: تدري لم صنع هذا العود؟ قلت: لا أدري، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع عليه يمينه ثم يلتفت إلينا، فيقول: "استووا وعدلوا صفوفكم"، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرق العود، فطلبه أبو بكر فلم يجده حتى وجده عمر عند رجل من الأنصار بقباء، وقد دفن في الأرض فأكلته الأرضة فأخذ له عودًا فشقه، ثم أدخله فيه ثم شعبه ورده إلى الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة، وهو الذي في المحراب اليوم باقٍ، وقال مسلم بن حباب: كان ذلك العود من طرفاء الغابة. ذكر مواضع اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم: روى أهل السير أن ابن عمر قال: كان النبي إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير بأسطوانة التوبة. ذكر أسطوانة التوبة: قال ابن إسحاق: لما حاصر رسول الله بني قريظة بعثوا إليه أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف -وكانوا حلفاء الأوس- نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم فقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدًا، فلا تراني ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا، فلما بلغ رسول الله خبره وأبطأ عليه وكان قد استبطأه قال: "أما لو جاءني لاستغفرت الله له، فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه"، فأنزل الله توبته على رسول الله وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السحر يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك قال: "تيب على أبي لبابة"، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال: "بلى إن شئت"، قال: فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب

الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر؛ فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس؛ ليلقوه قال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] قال إبراهيم بن جعفر: السارية التي ارتبط إليها ثمامة بن أثال الحنيفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة، وروى خالد بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ربوص، والربوص: الثقيلة، بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع وكاد بصره يذهب وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، وإذا أراد أن يذهب لحاجته حتى يفرغ ثم تأتي به فترده في الرباط كما كان، وكان ارتباطه ذلك إلى جذع في موضع الأسطوانة التي يقال لها أسطوانة التوبة، وروي عن محمد بن كعب القرظي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي أكثر نوافله إلى أسطوانة التوبة، قلت: وهذه الأسطوانة الثانية عن يمين حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يصلي إليها في الصف الأول خلف أمام الروضة وهي معروفة. ذكر أسطوانة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي إليها: روى الزبير بن حبيب أن الأسطوانة التي بعد أسطوانة التوبة إلى الروضة وهي الثالثة من المنبر ومن القبر ومن رحبة المسجد ومن القبلة وهي متوسطة في الروضة، صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها المكتوبة بضع عشرة ثم تقدم إلى مصلاه اليوم، وكان يجعلها خلف ظهره، وأن أبا بكر وعمر والزبير وابنه عبد الله وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها؛ وكان يقال لها مجلس المهاجرين، وقالت عائشة رضي الله عنها فيها: لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالاسم، فسألوها عنها، فأبت أن تسميها، فأصغى إليها ابن الزبير فسارَّته بشيء، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوانة عائشة، قال: فظن من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة وسميت أسطوانة عائشة، وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر رضي الله عنهما، ويقال: إن الدعاء عندها مستجاب. ذكر أسطوانة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يجلس إليها إذا جاءه الوفود: روى ابن أبي فديك عن غير واحد من مشايخه أن الأسطوانة الثالثة من قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي التي تلي الرحبة وهي خلف أسطوانة علي بن أبي طالب التي خلف أسطوانة التوبة كان النبي يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته، قلت: إذا عددت الأسطوان الذي فيه مقام جبريل كانت الثالثة.

ذكر أسطوانة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وروى أهل السير أن الأسطوانة التي خلف أسطوانة التوبة هي مصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين المسجد: روى البخاري في الصحيح من حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة، قال: فإني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرى الصلاة عندها، وروي أيضا من حديث أنس قال: لقد أدركت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يبتدرون السواري عند المغرب. قلت: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يستحب الصلاة عندها؛ لأنها لا تخلو من أن كبار الصحابة صلوا إليها. ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد: عن ابن عمر قال: زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه، وروى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر أن المسجد كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، وروى أهل السير أن عمر رضي الله عنه قال: لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني أزيد في المسجد" ما زدت فيه، أنبأنا أبو القاسم الحذاء عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الأصبهاني عن أبي جعفر الخلدي، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة، حدثني محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن مصعب بن ثابت عن مسلم بن خباب أن النبي قال يوما وهو في مصلاه: لو زدنا في مسجدنا وأشار بيده نحو القبلة، فلما توفي عليه السلام وولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله قال: "لو زدنا في مسجدنا" وأشار بيده نحو القبلة فأجلسوا رجلًا في موضع مصلى النبي، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأوا أن النبي رفع يده ثم مد، ووضعوا طرفه بيد الرجل ثم مدوه فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه بما أشار رسول الله من الزيادة فقدم عمر القبلة فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة. قال أهل السيرة: كان بين المنبر وبين الجدار الذي كان على عهد رسول الله بقدر ما يمر شاة، فأخذ عمر إلى موضع المقصورة اليوم، وزاده فيه، وزاد في يمين القبلة، فصار طوله أربعين ومائة ذراع، وسقفه جريد ذراعان، وبنى فوق ظهر المسجد سترة ثلاثة أذرع

وبنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة، وجعل له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة وبابين عن يسارها ولم يغير باب عاتكة ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي، وفتح بابا عند دار مروان بن الحكم، وفتح بابين في مؤخر المسجد، وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي". وروى غيره مرفوعا أنه قال: "هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ صنعاء كان مسجدي". وكان أبو هريرة يقول: ظهر المسجد كقعره، وأدخل عمر في هذه الزيادة دارًا للعباس بن عبد المطلب وهبها للمسلمين، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد هدم دار كانت للعباس بن عبد المطلب؛ ليزيدها في المسجد وقال: ذلك أرفق بالمسلمين، فقال له العباس: حكِّم بيني وبينك في ذلك، فجعلا بينهما أبي بن كعب فقال: إني أحدثكما حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن داود النبي أراد بنيان بيت المقدس وكانت أرضه لرجل فاشتراها سليمان منه فلما باعه الرجل إياه قال الرجل: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ قال: بل ما أخذت، قال: فإني لا أجيز، فناقضه البيع، ثم اشتراها ثانية فقال له: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ فقال: بل ما أخذت منك قال: إني لا أجيز فناقضه البيع، ثم اشتراها الثالثة فصنع مثل ذلك، فقال له سليمان: أشتريها منك بحكمك على أن لا تسألني، قال: فاشتراها بحكمه فاحتكم شيئا كثيرا اثني عشر قنطارا ذهبا، فاستعظمه سليمان، فأوحى الله إليه: إن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى، وإن كنت تعطيه من عندك فذلك لك، وعم النبي العباس إن شاء باعها وإن شاء تركها، قال العباس: أما إذا قضيت فيَّ فقد جعلتها للمسلمين. وكانت للعباس دار إلى جنب المسجد فقال له عمر: بعنيها فقال له العباس: لا أبيعك، فقال عمر: إذًا آخذها، فقال العباس: لا تأخذها، فقال: اجعل بيني وبينك من شئت، فجعلا بينهما أبي بن كعب فأخبروه الخبر، فقال: أوحى الله إلى سليمان أن ابْنِ بيتَ المقدس وكان بيت لعجوز فأراد أخذه منها فأبت أن تبيعه إياه، فعزم على أخذه منها وإدخاله في المسجد، فأوحى الله إليه أن بيتي أحق المواضع أن لا يدخل فيه شيء من الظلم، فكف عن أخذه فقال عمر: وأنا أشهدكم أني قد كففت عن دار العباس، فقال له العباس: أما إن كان هذا وحكم لي عليك فإني أشهدكم أني قد جعلتها صدقة على المسلمين، فهدمها عمر، وأدخلها في المسجد، واشترى نصف موضع كان خطه النبي -صلى الله عليه وسلم- لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة دارا بمائة ألف فزاده في المسجد. أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن الحسن بن أحمد عن أحمد بن عبد الله عن جعفر محمد بن الحسن حدثني عبد العزيز بن أبي حبارة عن الضحاك بن عثمان عن أبي النضر عن

بشر بن سعيد أو سليمان بن يسار الضحاك أنه حدثه أن المسجد كان يرش زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وزمان أبي بكر وعامة زمان عمر، وكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقا حتى قدم ابن مسعود الثقفي، وقال لعمر: أليس قربكم وادٍ؟ قال: بلى قال: فمر بحصباء تطرح فيه فهو أكف للمخاط والنخامة، فأمر بها عمر، وذكر محمد بن سعد أن عمر بن الخطاب ألقى الحصا في مسجد رسول الله وكان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم فأمر بالحصباء فجيء به من العقيق فبسط في المسجد. ذكر زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه فيه: روى البخاري في الصحيح أن عثمان زاد في المسجد زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وذكر أهل السير أن عثمان رضي الله عنه لما ولي الخلافة سنة أربع وعشرين سأله الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فاجتمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزيد فيه، وأشهد أني لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بنى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة"، وقدر أن لي فيه سلفا والإمام عمر بن الخطاب زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هدمه وبنائه وتوسعته، فحسن الناس ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلًا يصوم النهار ويقوم الليل، وكان لا يخرج من المسجد فهدمه، وأمر بالقصة المنخولة وكان عمله في أول ربيع الأول سنة تسع وعشرين، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين، فكان عمله عشرة أشهر، وزاد من القبلة إلى موضع الجدار اليوم، وزاد فيه من المغرب أسطوانًا بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا ولم يزد فيه من المشرق شيئًا، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وخشب النخل والجريد وبيضه بالقصة وقدر زيد بن ثابت أساطنيه فجعلها على قدر النخل وجعل فيه طاقات مما يلي المشرق والمغرب وبنى المقصورة بلبن وجعل فيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام وكان يصلي فيها خوفا من الذي أصاب عمر وكانت صغيرة وجعل أعمدة المسجد حجارة منقوشة فيها أعمدة الحديد وفيها الرصاص وسقفه بالساج، فجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باب عاتكة، والباب الذي يليه، وباب مروان، والباب الذي يقال له باب النبي -صلى الله عليه وسلم- وبابين في مؤخره. وقال عبد الرحمن بن سفينة: رأيت القصة تحمل إلى عثمان وهو يبني المسجد من بطن نخل، ورأيته يقوم على رجليه، والعمال يعملون فيه حتى تأتي الصلاة فيصلي بهم ثم

ربما نام في المسجد واشترى من مروان بن الحكم داره وكان بعضها لآل النجار وبعضها دار العباس لها باب إلى المسجد وهي اليوم باقية على حالها وفيها تسكن الأمراء. ذكر زيادة الوليد بن عبد الملك فيه 1: ذكر أهل السير أن الوليد بن عبد الملك لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه، فاشترى ما حوله من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبي أن يبيع عليه ووضع الثمن له فلما صار إلى القبلة قال له عبد الله بن عبد الله بن عمر: لسنا نبيع هذا هو من حق حفصة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسكنها، فقال له عمر: ما أنا بتارككم أنا أدخلها المسجد، فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق، وما بقي من الدار فهو لكم، ففعلوا، فأخرج بابهم في المسجد وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة، وأعطاهم دار الرقيق وقدم الجدار في موضع اليوم، وزاد من المشرق ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد ومعه عشر أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام ومد في المغرب أسطوانتين وأدخل في حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي كان يقال لها القراين اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط: ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... بقيع المصلى أم كعمد القراين ودار عبد الله بن مسعود، وأدخل فيه من المغرب دار طلحة بن عبيد الله ودار أبي سبرة بن أبي رهم ودار عمار بن ياسر وبعض دار العباس بن عبد المطلب وأعلى ما أدخل منها، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف أعظم من غيرها من سواري المسجد قالوا: وبعث الوليد إلى ملك الروم: إنا نريد أن نعمل مسجد نبينا الأعظم، فأعنا فيه بعمال وفسيفساء، فبعث إليه بأربعين من الروم وبأربعين من القبط وبأربعين ألف مثقال عونا له وبأحمال من فسيفساء، وبعث هذه السلاسل التي فيها القناديل، فهدم عمر المسجد، وأخمر النورة التي يعمل بها الفسيفساء، وحملوا القصة من النخل منخولة وعمل الأساس من الحجارة والجدار بالحجارة المنقوشة المطابقة والقصة وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، وجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمه مائتي ذراع وفي مؤخره مائة وثمانين وعمله بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقفه بالساج، وموهه بالذهب، وهدم حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدخلها فيه، وأدخل القبر فيه أيضا، ونقل لبن حجرات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولبن المسجد فبنى به داره بالحرة وهو فيها اليوم له بياض على اللبن.

_ 1 تولى الوليد الخلافة بعد موت والده عبد الملك وذلك من عام 86هـ- حتى عام 96هـ.

وقال بعض الذين عملوا الفسيفساء: إنا عملناه على ما وجدناه من صور شجر الجنة وقصورها، وكان عمر إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء وأحسن عملها نقده ثلاثين درهما، قالوا: وكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة إلى القبر أربع عشرة أسطوانة منها عشرة في الرحبة وأربع في السقائف الأُوَل التي كانت قبل، وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين، وأدخل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وبقي ثلاث أساطين في السقايف وجعل للمسجد أربع منارات في كل زاوية منارة، وكانت المنارة الرابعة مطلَّة على دار مروان، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن فأطل عليه، فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد. قالوا: وأمر عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد بأسفل الأساطين، فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها، وقدر مجلس اثنين يستندان إليها، وقالوا: ولما صار عمر إلى جدار القبلة دعا مشايخه من أهل المدينة من قريش والأنصار والموالي والعرب، فقال لهم: تعالوا احضروا بنيان قبلتكم لا تقولوا عمر غير قبلتنا فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع حجرا، قالوا: ومات عثمان بن عفان رضي الله عنه، وليس للمسجد شرافات ولا محراب، فأول من أحدث الشرافات والمحراب عمر بن عبد العزيز، قال: وكتب عمر بن عبد العزيز الكتاب الذي في القبلة عن يمين الداخل من الباب الذي يلي دار مروان بن الحكم حتى انتهى إلى باب علي رضي الله عنه كتبه مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه سعد، والكتاب "أم القرآن" ومن أول سورة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} إلى خاتمة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، وعمل الميازيب من رصاص ولم يبقَ منها إلا ميزابان: أحدهما في موضع الجنائز، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق يقال له باب عاتكة، وعمل المقصورة من ساج، وهدم بيت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدخله في المسجد، وكان ذلك في سنة إحدى وتسعين ومكث في بنيانه ثلاث سنين. وكتب عمر في القبلة في صحن المسجد في الفسيفساء ما نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أمر عبد الله أمير المؤمنين الوليد بتقوى الله وطاعته والعمل بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وبصلة الرحم وتعظيم ما صغر الجبابرة من حق الله سبحانه وتصغير ما عظموا من الباطل وإحياء ما أماتوا من الحقوق وإماتة ما أحيوا من العدوان والجور وأن يطاع الله سبحانه، ويعصى العباد في طاعة الله فالطاعة لله سبحانه ولأهل طاعته لا طاعة لأحد في معصية الله يدعو إلى كتاب الله سبحانه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإلى العدل في أحكام المسلمين والقسم بالسوية في فيئهم ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله سبحانه بها لذوي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل".

قالوا: ولما قدم الوليد بن عبد الملك حاجًّا بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد جعل يطوف فيه وينظر إلى بنائه فقال لعمر حين رأى سقف المقصورة: ألا عملت السقف كله مثل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إذًا تعظم النفقة جدًّا؛ أتدري كم أنفقت على عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال: وكم؟ قال: خمسة وأربعين ألف دينار، وقال بعضهم: أربعين ألف دينار، وقال: والله لكأنك أنفقتها من مالك، وقيل: كانت النفقة أربعين ألف مثقال. قالوا: وكان معه أبان بن عثمان بن عفان فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان فقال: أين بنياننا من بنيانكم، فقال أبان: بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس، قالوا: وبينا أولئك القوم يعملون في المسجد إذ خلا لهم فقال بعضهم لأبولن على قبر نبيهم فتهيأ لذلك ونهاه أصحابه فلما هم أن يعمل اقتلع وألقي على رأسه فانتثر دماغه فأسلم بعض أولئك النصارى وعمل أحدهم على رأس خمس طاقات من جدار القبلة، وفي صحن المسجد صورة خنزير، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز فأمر به فضربت عنقه، قالوا: وكان عمل القبلة مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من السقف من جوانبه ومؤخره، قال أهل السير: ولما فرغ عمر من بنيان المسجد أراد أن يجعل في أبوابه في كل باب سلسلة تمنع الدواب من الدخول فعمل واحدة وجعلها في باب مروان ثم بدا له عن البواقي، قلت: فهي باقية إلى اليوم، وأقام الحرس فيه يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز فيه، ومن أن يخترقوه، والسنة في الجنائز باقية إلى هذا إلا في حق العلويين ومن أراد من الأمراء وغيرهم من الأعيان، والباقون يصلى عليهم خلف الحائط الشرقي من المسجد إذا وقف الإمام على الجنازة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يمينه. ذكر زيادة المهدي فيه: قال أهل السير: لم يزل المسجد على ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولي أبو جعفر المنصور1 فهم بالزيادة وشاور فيها وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز، ويقول: إن زيد في المسجد من الناحية الشرقية توسط قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فكتب إليه أبو جعفر: إني قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه، قالوا: وتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا. ثم حج المهدي2 ابن أبي جعفر سنة إحدى وستين ومائة، فقدم من الحج إلى المدينة واستعمل عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس سنة إحدى وستين ومائة، وأمره

_ 1 ولي أبو جعفر عرش الخلافة العباسية عام 136هـ، وظل خليفة حتى توفي عام 158هـ. 2 ظل في الخلافة من عام 158هـ، حتى عام 169هـ.

بالزيادة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان، وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام، فزيد في المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم، وكانت زيادته مائة ذراع ولم يزد فيه من الشرق ولا الغرب ولا القبلة شيئا، ثم خفض المقصورة وكانت مرتفعة ذراعين من الأرض، فوضعها في الأرض على حالها اليوم، وسد على آل عمر خوختهم التي في دار حفصة حتى كثر الكلام فيها، ثم صالحهم على أن خفض المقصورة وزاد في المسجد لتلك الخوخة ثلاث درجات، وحفرت الخوخة حتى صارت تحت أرض المقصورة وجعل عليها في جدار القبلة شباك فهو عليها اليوم، وكان المهدي قبل بنائه المسجد قد أمر به فقدر ما حوله من الدور، فابتيع، وكان مما أدخل فيه من الدور دار عبد الرحمن بن عوف التي يقال لها دار مليكة، ودار شرحبيل ابن حسنة، وبقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء، ودار المسور بن مخرمة الزهري، وفرغ من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة. قالوا: وكتب على أثر الكتاب الذي كتبه عمر بن عبد العزيز في صحن المسجد ما نسخته: "أمر عبد الله المهدي أمير المؤمنين أكرمه الله وأعز نصره بالزيادة في مسجد رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- وإحكام عمله ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة أحسن الله ثوابه بأحسن الثواب والتوسعة لمن صلى فيه من أهله وأبنائه من جميع المسلمين، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين فيما نوى من حسنته في ذلك وأحسن ثوابه، بسم الله الرحمن الرحيم" ثم كتب "أم القرآن" كلها، ثم كتب على أثرها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18] ... الآية كلها ثم كتب: "وكان مبتدأ ما أمر به عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين -أكرمه الله- من الزيادة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنة اثنتين وستين ومائة، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائة، فأمير المؤمنين -أصلحه الله- يحمد الله على ما أذن له واختصه به من عمارة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوسعته حمدا كثيرا، والحمد لله رب العالمين على كل حال". قالوا: وعرض منقبة جداري المسجد مما يلي المغرب ينقصان شيئا، وعرض منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربع أصابع، وإنما زيد فيها؛ لأنها من ناحية السيل، وفي صحن المسجد أربع وستون بلاعة لماء المطر، عليها أرحا، ولها صمائم من حجارة يدخل الماء من أصعابها، وكان أبو البحتري وهب بن وهب القاضي على المدينة واليًا لهارون أمير المؤمنين، فكشف سقف المسجد في سنة ثلاث وسبعين ومائة، فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأدخل مكانها خشبا صحاحا، وكان ماء المطر يغشى قبلة المسجد فجعل التي في شرقيه تلي القبر فمنع الماء الصحن ومنع حصباء القبلة أن يصل إلى الصحن.

ذكر الستارة التي كانت على صحن المسجد: قال أهل السير: لما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة أمر بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رءوس كقريات الفساطيط وجعلت في الطيقان، فكانت الريح تدخل فيها فلا يزال العمود يسقط على الإنسان فغيرها وأمر بستور هي أكثف من تلك الستور وبحبال، فأتي بها من جدة من حبال السفن المتينة، وجعلت على تشبيك حباله اليوم، وكانت تجعل على الناس كل جمعة فلم يزل كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر بها فقطعت ذرائع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمن هارون أمير المؤمنين1 فأحدث هذه الأستار، ولم تكن في زمن بني أمية. أنبأنا ذاكر بن كامل عن الحسن بن أحمد بن محمد الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي جعفر الخلدي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني محمد بن الحسن بن زبالة قال: حدثني حسين بن مصعب قال: أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل أن تصل إلى مكة فتنشر على الرضراض في المسجد ثم يخرج بها إلى مكة وذلك في سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين ومائة. ذكر المصاحف التي كانت بالمسجد: قال مالك بن أنس: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير وكان في صندوق عن يمين الأسطوان التي عملت على مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يفتح يوم الجمعة والخميس فيقرأ فيه إذا صليت الصبح، وبعث المهدي بمصاحف لها أثمان، فجعلت في صندوق عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت تقرأ عليها، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه فجعل عند الأسطوان التي عن يمين المنبر، وإلى الأسطوان الأخرى التي تليها صندوق آخر فيه مصحف بعث به المهدي؛ ليقرأ فيها الناس على طبقة منبر صحيح، وفي القبلة صندوق لاصق بالمقصورة فيه مصاحف يقرأ الناس فيها تصدقت بها حسنة أم ولد المهدي، ووضع رجل من أهل البصرة يقال له أبو يحيى صندوقا وجمع فيه مصاحف يتعلم فيها الأميون والأعاجم، قلت: وأكثر هذه المصاحف المذكورة دثرت على طول الزمان وتفرقت أوراقها فهو مجموع في يومنا هذا في خلال المقصورة إلى جانب باب مروان، وفي الحرم عدة مصاحف موقوفة، بخطوط ملاح مخزونة في خزانتين من ساج بين يدي المقصورة خلف مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهناك

_ 1 تولى الخلافة من عام 170هـ، حتى عام 193هـ.

كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه أنفذ به من مصر وهو عند الأسطوانة التي في صف مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- محاذي الحجرة الشريفة، وإلى جانبه مصحفان على كرسي يقرأ الناس فيهما وليس في المسجد ظاهر سواهما. ذكر السقايات التي كانت في المسجد: قال محمد بن الحسن بن زبالة1: كان في صحن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة سقاية إلى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة تسع وتسعين ومائة: منها ثلاثة عشر أحدثتها خالصة وهي أول من أحدث ذلك، ومنها ثلاث سقايات ليزيد البربري مولى أمير المؤمنين، ومنها سقاية لأبي البحتري وهب بن وهب، وسقاية لسحر أم ولد هارون أمير المؤمنين، وسقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر، قلت: وأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه، وفيه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب ينزل الناس إليها بدرج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها يأتي من العين ولا يكون الماء فيها إلا في أيام الموسم إذا جاء الحاج وبقية السنة تكون فارغة عملها بعض أمراء الشام واسمه شامة، وعملت الجهمة أم الخليفة الناصر لدين الله وفقها الله توفيقا سديدا في مؤخر المسجد سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئرا، وفتحت بابا إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام وهي تفتح في أيام الموسم. ذكر ذرع المسجد اليوم وعدد أساطينه وطبقاته وأبوابه وذكر تجديد عمارته وما وما يتعلق به من الرسوم: اعلم أن طول المسجد اليوم من قبلته إلى الشام مائتا ذراع وأربع وخمسون ذراعا وأربعة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه مائة ذراع وسبعون ذراعا شافة، وطول رحبته من القبلة إلى الشام مائة ذراع وتسع وخمسون ذراعا وثلاثة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه سبع وتسعون ذراعا راجحة، وطول المسجد في السماء خمس وعشرون ذراعا، هذا ما ذرعته أنا بخيط، وذكر محمد بن زبالة أن طول مناراته خمس وخمسون ذراعا، وعرضهن ثمانية أذرع في ثمانية أذرع، وأما طيقانه ففي القبلة إحدى عشرة طاقة، وفي الشام مثلها، وفي المشرق والمغرب تسع عشرة طاقة وبين كل طاقتين أسطوان، ورءوس الطاقات مسددة بشبابيك من خشب، وأما عدد أساطينه غير التي في الطيقان، ففي القبلة ثمانٍ وستون أسطوانة منها في القبر صلى الله على ساكنه وسلم أربع، وفي الشام مثله، وفي الشرق أربعون منها اثنتان في الحجرة وفي المغرب ستون أسطوانا وبين كل أسطوان وأسطوان

_ 1 لابن زبالة: كتاب في تاريخ المدينة والمسجد النبوي الشريف هو أصل لكل من كتب حول هذا وقد ألفه عام 199هـ.

تسعة أذرع وأما أبوابه فكانت بعد زيادة المهدي فيه: في المشرق باب علي رضي الله عنه، ثم باب النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم باب عثمان رضي الله عنه، ثم باب مستقبل دار ريطة، وباب مستقبل دار أسماء بنت الحسن، ثم باب مستقبل دار خالد بن الوليد، ثم باب مستقبل زقاق المصانع، ثم باب مستقبل ابنا الصوافي فذلك ثمانية أبواب: منها باقٍ في يومنا هذا: باب عثمان والباب المقابل لدار ريطة وفي الشام أربعة أبواب: الأول حذاء دار شرحبيل بن حسنة، والرابع حذاء بقية دار عبد الله بن مسعود، وليس منها شيء مفتوح في زماننا هذا، وفي المغرب سبعة أبواب: الخامس منها باب عاتكة والسادس باب زياد والسابع باب مروان، وليس منها شيء مفتوح في يومنا هذا إلا باب عاتكة، ويعرف الآن بباب الرحمة وهو الذي يلي باب الإمارة وفي دار مروان باب إلى المسجد باقٍ على حاله حتى الآن، روى إبراهيم بن محمد عن ربيعة بن عثمان قال: لم يبقَ من الأبواب التي كان رسول الله يدخل منها إلا باب عثمان، واعلم أن حدود مسجد رسول الله من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين، ومن الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد، فهذا طوله وأما عرضه من المشرق إلى المغرب فهو من حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الأسطوان الذي بعد المنبر وهو آخر البلاد. ولم تزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء على المدينة، ويمدونهم بالأموال؛ لتجديد ما يتهدم من المسجد ولم يزل ذلك متصلًا إلى أيام الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين1؛ فإنه ينفذ في كل سنة من الذهب العين الأمامي ألف دينار لأجل عمارة المسجد، وينفذ عدة من النجارين والبنائين والنقاشين والجصاصين والحراقين والحدادين والدوزجاربة والحمالين، ويكون مادتهم ما يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف المذكورة، وينفذ من الحديد والرصاص والأصباغ والحبال والآلات شيئا كثيرا، ولا تزال العمارة متصلة في المسجد ليلًا ونهارًا حتى إنه ليس به إصبع إلا عامرا وينفذ من القناديل والشيرج2 والشمع عدة أحمال لأجل المسجد، وينفذ من الند والغالية المركبة والعود لأجل تجمير المسجد شيئا كثيرا، وأما الرسوم التي تصل من الديوان لغير العمارة فأربعة آلاف دينار من العين الأمامية للصدقات على أهل المدينة من العلويين وغيرهم، وينفذ من الثياب القطن ألف وخمسمائة ذراع لأجل أكفان من يموت من الفقراء الغرباء، هذا غير ما ينفذ للخطيب وإمام الروضة وللمؤذنين وخدام المسجد، وذكر يوسف بن مسلم أن زيت قناديل مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم كان يحمل من الشام حتى انقطع في ولاية جعفر بن سليمان الأخيرة على المدينة، فجعله على سوق المدينة، فلما ولي المدينة داود بن عيسى سنة سبع أو ثمانٍ وتسعين ومائة أخرجه من بيت المال، قلت: وفي يومنا هذا يصل الزيت من مصر من وقف هناك، ومقداره سبعة وعشرون قنطارا بالمصري والقنطار مائة وثلاثون رطلًا، ويصل معه مائة وستون شمعة بيضاء كبار وصغار وعلبة فيها مائة مثقال ند.

_ 1 هو الناصر ابن المستضيء تولى الخلافة عام 576هـ حتى عام 622هـ. 2 هو نوع من أنواع الزيت ويسمى باللغة المصرية العامية "السيرج".

الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها

الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها اعلم أن المساجد والمواضع التي صلى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة كثيرة وأساميها في الكتب مذكورة إلا أن أكثرها لا يعرف في يومنا هذا، فذكره لا فائدة فيه هنا، فأما المساجد التي هي اليوم معروفة فهي: مسجد قباء: روى البخاري في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه وخرج إلى المدينة. أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أنبأنا محمد بن أبي منصور، أخبرنا محمد بن أحمد المقري، أنبأنا عبد الملك بن محمد الواعظ، حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسماعيل بن أبي أوس، حدثني أبي عن شرحبيل بن سعد عن عويمر بن ساعدة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأهل قباء: "إن الله تعالى قد أحسن الثناء عليكم في الطهور قال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] إلى آخر الآية، ما هذا الطهور؟ " فقالوا: ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزور قباء راكبا وماشيا، وفي صحيح مسلم أن عبد الله بن عمر كان يأتي قباء في كل سبت ويقول: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتيه كل سبت، وروى أبو عروبة قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي قباء كل يوم الاثنين ويوم الخميس فجاء يوما فلم يجد أحدا من أهله فقال: والذي نفسي بيده لقد رأيتنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر في أصحابه ننقل حجارته على بطوننا ويؤسسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجبريل عليه السلام، وروى البخاري في الصحيح قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين. وروى أبو أمامة ابن سهل بن حنيف عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من توضأ فأسبغ الوضوء وجاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له أجر عمرة"، وروت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال: والله لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي إلى بيت القدس مرتين ولو

يعلمون ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل، وروى نافع عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى الأساطين الثلاث في مسجد قباء التي في الرحبة، قلت: لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء في منزل كلثوم بن الهرم، وأخذ مربده1 فأسسه مسجدا، وصلى فيه، ولم يزل ذلك المسجد يزوره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة حياته ويصلي فيه أهل قباء فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه، ولما بنى عمر بن عبد العزيز مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بنى مسجد قباء ووسعه وبناه بالحجارة والجص، وأقام فيه الأساطين من الحجارة داخلها عواميد الحديد والرصاص ونقشه بالفسيفساء وعمل له منارة وسقفه بالساج وجعله أروقة وفي وسطه رحبة وتهدم حتى جدد عمارته جمال الدين الأصبهاني وزير بني زنكي الملوك ببلاد الموصل2. وذرعت مسجد قباء فكان طوله ثمانية وستين ذراعا تشف قليلا وعرضه كذلك، وارتفاعه في السماء عشرون ذراعا وطول منارته من سطحه إلى رأسها اثنان وعشرون ذراعا، وعلى رأسها قبة طولها نحو العشرة أذرع وعرض المنارة من جهة القبلة عشرة أذرع شافة، ومن المغرب ثمانية أذرع، وفي المسجد تسعة وثلاثون أسطوانا بين كل أسطوانين سبعة أذرع شافة، وفي جدارنه طاقات نافذة إلى خارج في كل جانب ثمان طاقات إلى الجانب الذي يلي الشام، والثامنة فيها المنارة فهي مسدودة والمنارة عن يمين المصلى وهي مربعة. مسجد الفتح: أنبأنا حنبل بن عبد الله الرصافي قال: أخبرنا أبو القاسم بن الخضر أخبرنا أبو علي بن المهذب أنبأنا أبو بكر القطيعي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو عامر كثير يعني ابن زيد، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: حدثني جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا في مسجد الفتح يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بعد الصلاتين، فعرف البشر في وجهه، أنبأنا القاسم بن علي أخبرنا هبة الله بن أحمد أخبرنا أبو منصور بن شكرويه أخبرنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا أبو عبد الله المحاملي حدثنا علي بن سالم حدثنا إسماعيل بن أبي فديك عن معاذ بن سعيد السلمي عن أبيه عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بمسجد الفتح الذي على الجبل وقد حضرت صلاة العصر فرقي فصلى فيه صلاة العصر، وروى هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق دعا على الأحزاب في موضع

_ 1 المربد: موضع يجفف فيه التمر "وهو الجرن والجرين والمسطح". 2 وذلك عام 555هـ، وقد جدد أيضا عام 671هـ، وعام 733هـ في عهد الناصر بن قلاوون، وعام 840هـ، وعام 881هـ، وفي عهد السلطان عبد المجيد.

الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح الذي على الجبل؛ قلت: وهذا المسجد على رأس جبل يصعد إليه بدرج، وقد عمر عمارة جديدة وعن يمينه في الوادي نخل كثير، ويعرف ذلك الموضع بالسيح ومساجد حوله وهي ثلاثة قبلة الأول منها خراب قد هدم وأخذت حجارته، والآخران معموران بالحجارة والجص، وهما في الوادي عند النخل، وروى معاذ بن سعد أن رسول الله عليه السلام صلى في مسجد الفتح في الجبل وفي المساجد التي حوله1. مسجد القبلتين: روى عثمان بن محمد الأحبشي قال: زار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة من بني سلمة يقال لها: أم بشير في بني سلمة، فصنعت له طعاما، فجاء الظهر فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه في مسجد القبلتين الظهر فلما صلى ركعتين أمر أن يتوجه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وكانت يومئذ أربع ركعات منها ثنتان إلى بيت المقدس وثنتان إلى الكعبة، وقال سعيد بن المسيب2: صرفت القبلة قبل بدر بشهرين، والثابت عندنا أنها صرفت في الظهر في المسجد، قلت: وهذا المسجد بعيد من المدينة قريب من بئر رومة وقد انهدم وأخذت حجارته وبقيت آثاره وموضعه يعرف بالقاع3. مسجد الفضيخ 4: روي عن هشام بن عروة والحارث بن فضيل أنهما قالا: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجد الفضيخ5، قلت: وهذا المسجد قريب من قباء ويعرف بمسجد الشمس وهو حجارة مبنية على نشز من الأرض. مسجد بني قريظة 6: روى علي بن رفاعة عن أشياخ من قومه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيت امرأة فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة وهو المكان الذي صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ببني قريظة،

_ 1 يقع مسجد الفتح في شمال المدينة الغربي في جبل يقال له سلع، ويسمى أيضا: مسجد الأحزاب، والمسجد الأعلى، وهو في المكان الذي قام فيه الرسول يدعو على الأحزاب في غزوة الخندق، فاستجاب الله دعاءه، وهزم الأحزاب، وقد عمره عمر بن عبد العزيز، ثم جدد عام 575هـ بأمر أمير مصر. 2 من كبار التابعين بالمدينة توفي عام 110هـ. 3 جدد بناؤه عام 893هـ في عهد المماليك، وعام 950هـ في عهد السلطان سليمان العثماني. 4 هو شرقي مسجد قباء. 5 وذلك في مدة حصاره لبني النضير. 6 يقع شرقي مسجد الفضيخ، وقد جدده الشجاعي شاهين الجمالي شيخ المسجد النبوي سنة 893هـ.

قلت: وهذا المسجد اليوم باقي بالعوالي وهو كبير طوله نحو عشرين ذراعا وعرضه كذلك، وفيه ست عشر أسطوانة قد سقط بعضها وهو بلا سقف وحيطانه مهدومة، وقد كان مبنيا على شكل بناء مسجد قباء وحوله بساتين ومزارع ومشربة أم إبراهيم ابن النبي عليه السلام، وهذا الموضع بالعوالي من المدينة بين النخل وهو أكمة قد حوط عليها بلبن والمشربة والبستان، وأظنه قد كان بستانا لمارية القبطية أم إبراهيم النبي -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم ... واعلم أن بالمدينة عدة مساجد خراب فيها المحاريب وبقايا الأساطين وتنقض وتؤخذ حجارتها فتعمر بها الدور، منها: مسجد بقباء قريب من مسجد الضرار فيه أسطوانات قائمة ومسجدان قريبان من البقيع أحدهما يعرف بمسجد الإجابة، وفيه أسطوانات قائمة ومحراب مليح وباقيه خراب، وآخر يعرف بمسجد البغلة فيه أسطوانة واحدة وهو خراب، وحوله يسير من الحجارة فيه أثر يقولون إنه أثر حافري بغلة النبي -صلى الله عليه وسلم- فتستحب الصلاة في هذه المواضع وإن لم يعرف أساميها لأن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو واليه على المدينة: مهما صح عندك من المواضع التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فابن عليه مسجدًا فهذه الآثار كلها آثار بناء عمر بن عبد العزيز.

الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهده

الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهده ... الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه هذه المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء فكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستهزئون به، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلًا: حرام بن خالد، ومن داره أخرجه،، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع، وزيد،، ونفيل بن الحارث، ومحدج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت؛ فلما بنوه أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: "إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه"، فلما نزل رسول الله "بذي أوان"، وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ومرجعه من تبوك أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مالك بن الدخسم ومعن بن عدي أو أخاه عاصما، فقال: "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأهِدَّاه وحرقاه"، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، فأخذا سعفا من النخل، وأشعلا فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرق أهله عنه ونزل فيه من القرآن ما نزل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} إلى آخر القصة. قلت: وهذا المسجد قريب من مسجد قباء وهو كبير وحيطانه عالية، وتؤخذ منه الحجارة وقد كان بناؤه متينا.

الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما

الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما روي عن أبي مويهبة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه؛ فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم أقبل علي وقال: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيخ خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي الجنة قال: فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فبدأ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه. وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول وارأساه فقال: "بل والله يا عائشة وارأساه"؛ فقال: "وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك"، قالت: قلت: لكأني بك قد فعلت ذلك، ثم رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى اشتد به وجعه وهو في بيت ميمونة فدعا نساءه وكن تسعا: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وزينب وميمونة وجويرية وصفية فاستأذنهن على أن يمرض في بيت عائشة فأذن له فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي بين العباس وعلي رضي الله عنهما عاصبا رأسه تخط قدماه الأرض حتى دخل بيت عائشة ثم حم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه فقال: "هريقوا علي من من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم" فأقعدوه -صلى الله عليه وسلم- في مخضب وصبوا عليه الماء وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فصلى على أصحاب أحد واستغفر لهم وأكثر الصلاة عليهم ثم قال: "إن عبدًا من عباد الله خيره الله عز وجل بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عنده" قال: ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه يريد وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، ثم قال رسول الله عليه السلام: "يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التي آويت إليها فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" ثم نزل فدخل بيته وتتام به وجعه، وروى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت أحدا الوجع عليه أشد من رسول الله. وفيه أيضا من حديث عبد الله بن مسعود قال: دخلت على النبي وهو يوعك فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا قال: "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان

منكم"، ولما اشتد به وجعه -صلى الله عليه وسلم- جاءه بلال يؤذنه بصلاة الفجر من يوم الاثنين، قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"؛ فلما تقدم أبو بكر يصلي بالناس وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خفة فخرج على الناس قال أنس: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وقام على باب عائشة فكان المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه فرحا به وتفرجوا؛ فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم قال: وتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرورا لما رأى من هيئتهم في صلاتهم وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن هيئة منه تلك الساعة، قال أبو بكر بن أبي مليكة: فلما تفرج الناس عرف أبو بكر أنهم لم يفعلوا ذلك إلا لرسول الله فنكص عن مصلاه فدفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طهره وقال: "صل بالناس" وجلس الرسول إلى جانبه فصلى قاعدا عن يمين أبي بكر فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول: "يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإني والله ما تمسكون علي بشيء إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن"؛ فلما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من كلامه قال له أبو بكر: يا نبي الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قال: نعم قال: ثم دخل عليه السلام وخرج أبو بكر إلى أهله بالسيح وخرج يومئذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الناس من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، قال: فأخذ العباس بيده، وقال: يا علي أحلف بالله لقد رأيت الموت في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب. وفي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء؛ فبكت ثم دعاها فسارها فضحكت فسألتها عن ذلك فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه فبكيت ثم سارني أني أول أهله لحوقا به فضحكت، وفيه من حديثها أيضا أنها قالت: إن من نعم الله علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في بيت وفي يومي وبين سحري ونحري وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وأنا مسندة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صدري ومعه سواك رطب يستن به؛ فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت آخذه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته وطيبته ثم دفعته إليه فاستن به فما رأيت النبي عليه السلام استن استنانا قط أحسن منه وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات" ثم نصب يديه فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير؛ فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على

فخذي غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحوه سقف البيت ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى"؛ فقلت: إذا لا يختارنا فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح. وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله عليه السلام وأصغيت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلى ظهره يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى"، ولما تغشاه الموت قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه، قال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم"، قالت عائشة: وثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجري فنظرت في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: "بل الفريق الأعلى في الجنة"، وقبض -صلى الله عليه وسلم، قالت: فوضعت رأسه على وسادة وقمت أندب مع النساء أضرب وجهي وقالت فاطمة رضي الله عنها تندبه: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، وقال جبريل للنبي عند موته: يا أحمد هذا آخر وطئي في الأرض ولا أنزل إليها أبدا بعد إنما كانت حاجتي من الدنيا، وكانت وفاته -صلى الله عليه وسلم- حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة عن ثلاث وستين سنة من عمره وكمل بالمدينة من يوم دخلها إلى يوم مات عشر سنين كوامل مبلغا لرسالات الله مجاهدا لأعدائه. ولما توفي رسول الله قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله ما مات؛ ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى فإنه غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ووالله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات، قالوا: وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسيح فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله وهو مسجى بثوب حبرة فشكف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي وأمي أنت والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها، ثم لن يصيبك بعدها موتى أبدا ثم رد البرد على وجهه وخرج عمر بن الخطاب يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلا أن يتكلم؛ فلما رآه أبو بكر لا ينصب أقبل على الناس؛ فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال: ثم تلا هذه الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ قال: وأخذها الناس عن أبي بكر فهي في أفواههم قال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله قد مات، ولما مات رسول الله قالوا: والله لا يدفن، ومات مات وإنه ليوحى إليه فأخروه حتى أصبحوا من يوم الثلاثاء وقال العباس: إنه قد مات

وإني لأعرف منه موت بني عبد المطلب وقال القاسم بن محمد ما دفن رسول الله حتى عرف الموت في أظفاره قالت عائشة رضي الله عنها ما أرادوا غسل رسول الله اختلفوا فقالوا: والله ما ندري أيجرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما نجرد موتانا؟ أو نغسله وعليه ثيابه، قالت: فلما اختلفوا ألقى عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه قالت: فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص دون أيديهم وغسله علي رضي الله عنه أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابناه الفضل وقثم يقلبونه معه وأسامة بن زيد وشقران مولى النبي يصبان الماء عليه وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا ولم يرد من رسول الله شيء مما يرى من الميت فلما فرغوا من غسله كفن. روى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنه أنها قالت: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالا -أي جماعات: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله أحد. واختلفوا في دفنه فأنبأنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو الحسن الفقيه، أخبرنا علي بن أحمد البندار، أنبأنا عبيد الله بن محمد العكبري، حدثنا أبو عبد الله بن مخلد، حدثنا علي بن سهل بن المغيرة، حدثنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في موضع قبره فقال قائل: بالبقيع فإنه كان يكثر الاستغفار لهم وقال قائل: منهم عند منبره وقال قائل: منهم في مصلاه فجاء أبو بكر رضي الله عنه فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما سمعت رسول الله يقول: "ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي". أخبرنا الحسن بن محمد الواعظ، أنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبي أن أصحاب النبي لم يدروا أين يقبرون رسول الله حتى قال أبو بكر رضي الله عنه فأخروا فراشه وحفروا له تحت فراشه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله عليه السلام وكان أبو عبيدة يضرح حفر أهل مكة وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة؛ فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة وللآخر اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسولك؛ فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله ثم دفن رسول الله من وسط الليل ليلة الأربعاء وكان الذين نزلوا قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابن العباس، وشقران مولى رسول الله وبنى على لحده

تسع لبنات نصبن نصبا، وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رش على قبره وجعل عليه حصباء حمراء من حصباء العرصة ورفع قدر شبرين من الأرض، وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر النبي مسنما. وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك أنه قال: لما دفن النبي قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ أنبأنا أبو جعفر الواسطي، عن أبي طالب، عن ابن يوسف، أخبرنا أبو الحسن بن الأبنوسي، عن عمر بن شاهين، أخبرنا محمد بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد الكاتب، حدثني طاهر بن يحيى، حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما رمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينها وبكت وأنشأت تقول: ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت على مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: ما رأيت فاطمة رضي الله عنها بعد أبيها ضاحكة ومكثت بعده ستة أشهر. وروى حجاج بن عثمان عن أبيه قال: رأيتهم اجتمعوا يوم مات النبي على أكمة فجعلوا يبكون عليه. وروى البخاري في الصحيح من حديث أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح رسول الله في هذين. وروى أنس من حديث عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، أنبأنا يحيى بن أسعد بن بوش عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن جعفر الخلدي، أنبأنا يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثني غير واحد، منهم عبد العزيز بن أبي حازم ونوفل بن عمارة قالوا: إن عائشة رضي الله عنها كانت تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطنبة بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فترسل إليهم أن لا تؤذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقيا لذلك، وروي أن بعض نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- دعت نجارا يغلق ضبة لها، وأن النجار ضرب المسمار في الضبة ضربا شديدا فصاحت عائشة بالنجار وكلمته كلاما شديدا وقالت: ألم تعلم أن حرمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميتا كحرمته إذا كان كان حيا قالت الأخرى: وماذا سمع من هذا قالت عائشة رضي الله عنها:

إنه ليؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت هذا الضرب كما لو كان يؤذيه حيا صلى الله عليه وسلم تسليما. ذكر وفاة أبي بكر رضي الله عنه: ذكر محمد بن جرير الطبري بإسناد له أن اليهود سمت أبا بكر في أرزه، ويقال في خزيرة وتناول معه الحارث بن كلدة منها ثم كف وقال لأبي بكر: أكلت طعاما مسموما؛ فسم لسنته فمات بعد سنة ومرض خمسة عشر يوما فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآني، قالوا: فما قالك لك؟ قال: قال إني أفعل ما أشاء، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدا أبو بكر رضي الله عنه أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة وكان يوما باراد فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة وكان يأمر عمر بن الخطاب يصلي بالناس ويدخل عليه الناس يعودونه وهو يثقل كل يوم وهو يومئذ نازل في داره التي قطعها له رسول الله وجاه دار عثمان بن عفان، قال أهل السير كان ينزل أبو بكر بالسيح عند زوجته بنت خارجة بن زيد وأقام بالسيح بعدما بويع له بالخلافة ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة وربما ركب على فرس له وعليه إزار ورداء فيوافي المدينة؛ فيصلي الصلاة بالناس فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسيح؛ فكان إذا حضر صلى وإن لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب، وكان تاجرا يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج بالغنم لرعيها وربما كفيها ورعيت له، وكان يحلب للحي أغنامه؛ فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال بل لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ربي أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه؛ فكان يحلب لهم ثم نزل المدينة فأقام بها ونظر في أمره فقال والله ما يصلح أمر الناس والتجارة وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ولا بد لعيالي مما يصلحهم فترك التجارة واستنفق من بيت مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر، وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم؛ فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما علي من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا وإن أرضى التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم؛ فدفع ذلك إلى عمر فقال عمر: لقد أتعب من بعده. روى البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله؟ قالت: يوم الاثنين قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليلة؛ فنظرت إلى ثوب عليه كما يمرض فيه به ردغ من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين

وكفنوني فيها قلت: إن هذا لخلق قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت؛ فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل الصبح، وكان آخر ما تكلم به أبو بكر رضي الله عنه: رب توفني مسلما وألحقني بالصالحين، وتوفي بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال وكان عمره ثلاثا وستين سنة وغسلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية منه وابنه عبد الرحمن يصب عليه الماء، وكفن وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاء المنبر ودفن ليلة الثلاثاء إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألصقوا لحده بلحده ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن ابنه رضي الله عنهم وكان أبوه قحافة حيا بمكة؛ فلما نعي إليه قال: رزء جليل، وعاش بعده ستة أشهر وأياما، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة وهو ابن سبع وتسعين سنة رضي الله عنهما. ذكر وفاة عمر رضي الله عنه: روى أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده من حديث معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام يوم الجمعة خطيبا؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر رضي الله عنه، ثم قال: أيها الناس إني قد رأيت رؤيا كأن ديكا أحمر نقرني نقرتين ولا أدري ذلك إلا لحضور أجلي، وإن ناسا يأمرون أن أستخلف وإن الله لم يكن يضيع دينه وخلافته والذي بعث به نبيه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الرهط الستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض فأيهم بايعوا فاسمعوا له وأطيعوا وذكر كلاما طويلا قال: فخطب بها عمر يوم الجمعة وأصيب يوم الأربعاء. وروى البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس حذاءه غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف والنحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس؛ فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلبي حين طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة وصار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا وشمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة؛ فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح علينا برنسا؛ فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه؛ فمن يلي عمر قد رأى الذي رأى وأما أواخر المسجد فإنهم لا يدرون؛ غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصانع؟ قال: نعم قال: قاتله الله لقد أمرت به

معروفا، وقال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل يدعي الإسلام واحتمل إلى بيته؛ فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل ذلك فقائل يقول: لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه فعرفوا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه وجاء شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك في صحبة رسول الله وقدمك في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم الشهادة قال: وددت أن ذلك كان كفافا لا علي ولا ولي؛ فلما أدبر رأى رداءه يمس الأرض قال: ردوا على الغلام، قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى لثوبك يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجوده ستة وثمانين ألفا أو نحوه قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فاسأل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم انطلق إلى عائشة أم المؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عليك السلام عمر بن الخطاب ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت فقال: الحمد لله ما كان أهم إلي من ذلك فإذا أنا قبضت فاحملوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء معه فلما رأينها قمن فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلا، فسمعنا بكاءها من داخل فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف قال: ما أجد أحدا أولى وأحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض؛ فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وقال: اشهد يا عبد الله بن عمر ليس لك من الأمر شيء وأوص الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل أن محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا؛ فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو ولا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا؛ فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يأخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم؛ فلما قبض رضي الله عنه خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر، وقال: يستأذن عمر بن الخطاب قالت: أدخلوه فأدخل موضعا هناك مع صاحبيه قلت: وباع عبد الله بن عمر دارا لعمر بن الخطاب ومالا له بالغابة ثم قضى دين أبيه وكانت وفاته رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث

وعشرين من الهجرة، وكانت خلافته عشر سنين كوامل وستة أشهر وأربعة أيام، وكان سنة ثلاثا وستين سنة وصلى عليه صهيب وجاه المنبر ودفن مع النبي. وروى البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس أنه قال: وضع عمر على سريره فكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع -وأنا فيهم- فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي؛ فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فترحم على عمر وقال: ما خلت أحدا أحب أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كنت أسمع كثيرا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"، وروي أن عائشة رضي الله عنها لما دفن عمر رضي الله عنه لبست ثيابها الدرع والخمار والإزار، وقالت: إنما كان أبي وزوجي؛ فلما دخل معهما غيرهما لزمت ثيابي. وأخبرني يحيى بن أبي الفضل السعدي قال: أخبرنا أبو محمد الفقيه قال: أخبرنا أبو الحسن الشافعي قال: أخبرنا أبو عبد الله بن النبهاني أخبرنا أبو العباس الرازي أخبرنا أبو الزنباع، حدثنا عمر بن خالد، حدثنا أبو بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يخبر، عن عائشة رضي الله عنها أنها رأت في المنام أنه سقط في حجرها أو بحجرتها ثلاثة أقمار؛ فذكرت ذلك لأبي بكر فقال: خير. قال يحيى بن سعيد؛ فسمعت بعد ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما توفي فدفن في بيتها قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك يا بنيه وهو خيرها، أنبأنا أبو القاسم الصموت عن الحسن بن أحمد، عن أحمد بن عبد الله عن جعفر بن محمد أخبرنا أبو زيد، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد عن أنيس بن أبي يحيى قال: لقي رسول الله جنازة في بعض سكك المدينة فسأل عنها فقالوا: فلان الحبشي فقال رسول الله: سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها. قلت: فعلى هذا طينة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي خلق منها من المدينة وطينة أبي بكر وعمر من طينة النبي وهذه منزلة رفيعة، وروي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فأطلعت على قبر النبي وقبر أبي بكر وعمر فرأيت عليها حصباء حمراء. وروي عن هارون بن موسى العروبي قال: سمعت جدي أبا علقمة يسأل: كيف كان الناس يسلمون على النبي قبل أن يدخل البيت في المسجد؟ فقال: كان الناس يقفون على باب البيت يسلمون وكان الباب ليس عليه غلق حتى هلكت عائشة رضي الله عنها، قال أهل السير: وكان الناس يأخذون من تراب قبر النبي؛ فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما زلت أضع خماري وأنفصل عن ثيابي حتى دفن عمر؛ فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا قلت:

وقبر النبي وقبر صاحبيه في صفة بيت عائشة رضي الله عنها، قال أهل السير: وفي البيت موضع قبر في الجهة الشرقية قال سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى ابن مريم عليه السلام، وروى عبد الله بن سلام، عن أبيه عن جده قال: يدفن عيسى ابن مريم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما ويكون قبره الرابع، واختلف الرواة في صفة قبورهم؛ فأخبرنا أبو القاسم بن كامل إذنا عن أبي علي المقري عن أبي نعيم الأصبهاني عن أبي محمد الخلدي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا إسحاق بن عيسى عن عثمان بن نسطاطس قال: رأيت قبر النبي لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعا نحو من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة مائلة، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبر النبي ورأيت قبر عمر أسفل منه وصورة لنا هكذا:

وبالإسناد المتقدم حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن إسماعيل عن عمرو بن عثمان بن هانئ عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أماه أريني قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضوان الله عليهما؛ فكشفت لي عن قبورهم فإذا هي لا مرتفعة ولا واطية مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة، وإذا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمامهما، ورجلا أبي بكر عند رأس النبي -صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند رجلي أبي بكر، وصفة ذلك كما يأتي: قلت: ذكر أهل السير أن جدار حجرة النبي الذي يلي موضع الجنائز سقط في زمان عمر بن عبد العزيز فانهارت القبور الشريفة؛ فما رؤي بكاء في يوم مثل ذلك اليوم فأمر عمر بقباطي فخيطت ثم ستر الموضع بها، وأمر ابن ورد أن يكشف عن الأساس؛ فبينما هو يكشف إذ رفع يده وتنحى فقام عمر بن عبد العزيز فزعا؛ فرأى قدمين وراء الأساس وعليهما الشعر؛ فقال عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وكان حاضرا: أيها الأمير لا يروعنك فهما قدما جدي عمر بن الخطاب ضاف البيت عنه فحفر له في الأساس فقال يا ابن ورد أن غط ما رأيت، ففعل.

وروى البخاري في الصحيح من حديث هشام بن عمرو عن أبيه قال: لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنيانه فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي، وما هي إلا قدم عمر، قالوا: وأمر عمر أبا حفصة مولى عائشة وناسا معه فتبوءوا الجدار وجعلوا فيه كوة؛ فلما فرعوا منه ورفعوه دخل مزاحم مولى عمر؛ فرفع ما سقط على القبر من التراب والطين ونزع القباطي. قالوا: وباب البيت الذي دفنوا فيه شامي، قلت: وبنى عمر بن عبد العزيز على حجرة النبي حاجزا من سقف المسجد إلى الأرض وصارت الحجرة في وسطه وهو على دورنها. ولما ولي المتوكل الخلافة أمر إسحاق بن سلمة، وكان على عمارة مكة والمدينة من قبله بأن يأزر الحجرة بالرخام من حولها؛ ففعل ذلك وبقي الرخام عليها إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من خلافة المقتفي، فجدد تأزيرها جمال الدين وزير بني زنكي وجعل الرخام حولها قامة وبسطة وجعل لها شباكا من خشب الصندل والأبنوس وأداره حولها مما يلي السقف، قيل: إن أبا الغنايم النجار البغدادي عمله أروانكا، وفي دورانه مكتوب على أقطاع الخشب إلا روانك سورة الإخلاص صنعة بديعة ولم تزل الحجرة على ذلك حتى عمل لها الحسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة ديبقية بيضاء وعليها الطرز والجامات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر وخيطها، وأدار عليها زنارا من الحرير الأحمر والزنار مكتوب عليه سورة يس بأسرها، قيل: إنه غرم على هذه الستارة مبلغا عظيما من المال، وأراد تعليقها على الحجرة فمنعه قاسم بن مهنا الأمير على المدينة وقال: حتى يستأذن الإمام المستضيء1 بأمر الله فبعث إلى العراق يستأذن في تعليقها فجاء الإذن في ذلك فعلقها نحو العامين ثم جاءت من الخليفة ستارة من الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة وعلى دوران جاماتها مكتوب بالرقم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: وعلى ظاهرها اسم الإمام المستضيء بأمر الله فرفعت تلك وأنفذت إلى مشهد علي بن أبي طالب بالكوفة فعلقت هذه عوضها؛ فلما ولي الإمام الناصر لدين الله2 أرسل ستارة أخرى من الإبريسم الأسود أيضا على شكل المذكورة؛ فأنفذتها فعلقت عليها حتى يومنا هذا على الحجرة ثلاث ستائر بعضهن على بعض. وفي سقف المسجد -الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا- معلق نيف وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة

_ 1 تولى الخلافة من عام 566 حتى عام 576هـ في بغداد. 2 هو ابن المستضيء، ولي الخلافة العباسية مدة طويلة 576-622هـ.

والساذجة، وفيها اثنان من البلور وواحد ذهب، وفيها قصر من فضة مغموس في الذهب، وهذه تنفذ من البلدان من الملوك وأرباب الحشمة والأموال، واعلم أن حجرة النبي عليها ثوب مشمع مثل الخيمة وفوقه سقف المسجد وفيه خوخة عليها ممرق مقفل وفوق الخوخة في سقف السطح خوخة أخرى فوق تلك الخوخة، وعليها ممرق مقفول أيضا وحولها في سطح المسجد حظيرة مبنية بالآجر وبين سقف المسجد وبين سقف السطح فراغ نحو الذراعين وعليه شبابيك حديد ترمي الضوء منها إذا أرادوا الدخول إلى هناك لأجل تعليق سلاسل القناديل وحبال الأبارير لأجل العمارة في المسجد وهذه صفة الحاجز الذي بناه عمر بن عبد العزيز والحجرة في وسطه ومن الحجرة إلى المقصورة تسعة عشرا ذراعا ومن الركن الغربي إلى المسمار الفضة الذي هو مقابل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسة أذرع.

واعلم أنه في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سمعوا صوت هدة في الحجرة، وكان الأمير قاسم بن مهنا الحسيني فأخبروه بالحال؛ فقال: ينبغي أن ينزل شخص إلى هناك لينظر ما هذه الهدة وافتكروا في شخص يصلح لذلك؛ فلم يجدوا إلا عمر النساي1 شيخ من شيوخ الصوفية بالموصل، وكان مجاورا بالمدينة؛ فذكروا ذلك له؛ فذكر أن به فتقا والريح والبول تحوجه إلى الغائط مرارا فألزموه فقال: أمهلوني حتى أروض نفسي، وقيل إنه امتنع من الأكل والشرب وسأل الله إمساك المرض بناه عمر ودخل منه إلى الحجرة ومعه شمعة يستضيء بها فرأى شيئا من طين الثقف قد وقع على القبور فأزاله وكنس التراب بلحيته، وقيل إنه كان مليح الشيبة وأمسك عز وجل ذلك الداء بقدر ما خرج من الموضع، وعاد إليه وهذا ما سمعته من أفواه جماعة، والله أعلم بحقيقة الحال في ذلك، وفي شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في أيام قاسم أيضا وجد من الحجرة رائحة منكرة وكثر ذلك حتى ذكروه للأمير؛ فأمرهم بالنزول إلى هناك فنزل بيان الأسود الخصي أحد خدم الحجرة الشريفة، ومعه الصفي الموصلي متولى عمارة المسجد ونزل معهما هارون الشاوي الصوفي بعد أن سأل الأمير في ذلك في الحاجز بين الحجر والمسجد، وكان نزولهم يوم السبت الحادي عشر من ربيع الآخر، ومن ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم ينزل أحد إلى هناك2.

_ 1 وفي وفاء الوفاء وخلاصة الوفا: النساء والصحيح ما هنا. وقد توفي عام 656هـ. 2 وفي عهد الأشرف قايتباري رئي احتياج المسجد النبوي إلى العمارة؛ وذلك عام 881هـ. ففعل ذلك وجدد رخام الحجرة الشريفة وجدد الكثير من بنائها وكان ختم هذا البناء في يوم الخميس سابع شوال عام 881هـ "216-220 خلاصة الوفا". وقد أقام من قبل الملك العادل نور الدين الشهيد خندقا مملوءا من الرصاص حول الحجرة الشريفة؛ وذلك عام 557هـ. هذا وقد احترق المسجد النبوي أول ليلة الجمعة أول رمضان عام 654هـ، ولم يسلم من الحريق سوى القبة التي أحدثها الخليفة الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم النبوي عام 576هـ، ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة على سقف بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة؛ فكتبوا للخليفة المستعصم وابتدئ بالعمارة عام 655هـ، وشارك فيها صاحب مصر المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك الصالحي وصاحب اليمن المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول، ثم لما عزل ملك مصر عام 657هـ، وتولى مكانه المظفر قطز المعزى، ولما قتل عام 658 تولى مكانه بيبرس وشارك هؤلاء جميعا في العمارة الشريفة، ولم يظل المسجد على هذه العمارة الجديدة؛ حتى جدد السقف الغربي والسقف الشرقي في أوائل دولة الناصر محمد بن قلاوون الصالحي؛ فجعلا سقفا واحدا؛ وذلك في سنتي خمس وست وسبعمائة، ثم أمر الناصر عام 729هـ بزيادة رواقين متصلين بمؤخر السقف القبلي فاتسع سقفه بهما وعم نفعه؛ إذ صار فيه سبعة أروقة وكان عددها خمسة كالشمالي، ثم حصل في هذين الرواقين خلل فجددهما الأشرف برسباي عام=

الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم

الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الصوفي، أخبرنا أبو محمد الفقيه، أخبرنا أبو الحسن المصري، أنبأنا أبو النعمان العسقلاني، حدثنا أبو الحسن الدارقطني، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا محمد العبادي، حدثنا مسلمة بن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من جاءني زائرا لم يرم حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون شفيعا له يوم القيامة". وبالإسناد حدثنا الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن محمد الوراق، حدثنا موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمرو عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" 1. أنبأنا سعيد بن أبي سعيد النيسابوري، أنبأنا إبراهيم بن محمد المؤدب، أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنا محمد بن محمد بن مقاتل، حدثنا جعفر بن هارون، حدثنا إسماعيل بن المهدي عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زارني ميتا فكأنما زارني حيا، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر". وروي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من لم يزر قبري فقد جفاني". أنبأنا عبد الرحمن بن علي، أنبأنا أبو الفضل الحافظ عن أبي علي الفقيه، أنبأنا أبو القاسم الأزهري، أنبأنا القاسم بن الحسن، حدثنا الحسن بن الطيب، حدثنا علي بن

_ =831هـ، على يد مقبل القديدي. وجدد الشرف أيضا شيئا من السقف الشامي مما يلي المنارة السنجارية، ثم جدد الظاهر جقمق كثيرا من سقف مقدم المسجد من الروضة وغيرها وذلك عام 853هـ، ثم جدد الأشرف قايتباي جانبا من السقف الشرقي بعد هدم عقوده التي تلي صحن المسجد، ثم أعيد ذلك عام 879هـ و 881هـ. ثم احترق المسجد النبوي ثانيا في ليلة 13 رمضان 886هـ بسبب صاعقة، ولم يصل إلى جوف الحجرة الشريفة شيء من هدم هذا الحريق وسلمت الأساطين الملاصقة للحجرة الشريفة واحترق المنبر والمقصورة التي كانت حول الحجرة الشريفة وسقطت أكثر عقود المسجد وأساطينه؛ فأخذ قايتباي في عمارة المسجد النبوي وجدد تجديدا كاملا وهدمت المنارة وأحكم بناؤها وهدمت أعالي القبة وأعيدت على ما كانت عليه وتم ذلك كله عام 891هـ. وفي صفر عام 898هـ سقطت صاعقة ثانية على المنارة الرئيسية فأسقطت قبتها وجانبا كبير من دورها الأول الذي يقوم عليه المؤذن؛ فأعيد ذلك كله بأمر الأشرف قايتباي. 1 هو لابن عدي في الكامل، وللبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.

حجر، حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني" 1. أنبأنا أبو أحمد الكاتب، أنبأنا أبو بكر الأنصاري، أنبأنا أبو محمد الجوهري، أنبأنا أبو بكر بن الشخير، حدثنا أحمد بن محمد بن العباس، حدثنا أحمد بن علي الحراني، حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي، حدثنا محمد بن مروان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من صلى على قبري سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته" 2، أنبأنا أبو الحسن الشافعي، أنبأنا أبو محمد الفقيه، أنبأنا علي بن الحسين، أنبأنا الحسين بن محمد، حدثنا إسماعيل بن يعقوب، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا مدد، حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني عبد الله بن السائب عن زادان عن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله عز وجل سياحين يبلغوني عن أمتي السلام". أخبرنا أبو طاهر الصوفي، أنبأنا القاسم بن الحصين، أنبأنا أبو علي بن المذهب، أنبأنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة حدثني أبو صخران يزيد بن عبد الله بن قسيط أخبره عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" 3. أنبأنا يحيى بن بوش عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم عن جعفر الخلدي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد عن محمد بن زيد المهاجر عن المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن عيسى ابن مريم مار بالمدينة حاجا أو معتمرا ولئن سلم علي لأردن عليه". أنبأنا يحيى بن الحسين المقبري، أخبرنا المبارك بن الحسن العطار، أنبأنا أبو بكر الخياط، أنبأنا أبو عمر العلاف، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن الحسين، أخبرنا قتيبة، حدثنا ليث بن سعد عن خالد بن وهب أن كعب الأحبار قال: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا استوى عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يزفونه -صلى الله عليه وسلم.

_ 1 هو للطبراني في الكبير، وللبيهقي في السنن عن ابن عمر. 2 هو للبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة وهو ضعيف. 3 هو لأبي داود عن أبي هريرة وهو ضعيف.

وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يرد البريد من الشام يقول: سلم لي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أنبأنا يحيى بن الحسين الأواني، أنبأنا أبو الكرم الشهروزي، أنبأنا أبو بكر بن الخيايط، أنبأنا أبو عمر بن دوست حدثنا الحسين بن صفوان حدثنا ابن أبي الدنيا، أخبرنا سعيد بن عثمان الجرجاني، أنبأنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال: سمعت بعض من أدركت يقول بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فتلا هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] ، وقال صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان لم تسقط لك حاجة. وبالإسناد حدثنا ابن فديك قال: أخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول: من أحب أن يقوم وجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه. وروى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أنه كان إذا جاء يسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عند الأسطوانة التي مما يلي الروضة؛ فسلم ثم يقول: هاهنا رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قلت: واليوم هناك علامة واضحة وهي مسمار من فضة في حائط حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قابله الإنسان كان القنديل على رأسه فيقابل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسلم عليه، ثم يتقدم عن يمينه قليلا ويسلم على أبي بكر رضي الله عنه، ثم يتقدم قليلا فيسلم على عمر، ثم يعود ويجعل الحجرة على يساره ويستقبل القبلة ويدعو الله تعالى بما أحب. أنبأنا أبو الفرج بن علي الفقيه، أنبأنا عمر بن ظفر، أنبأنا جعفر بن أحمد، أنبأنا عبد العزيز بن علي، حدثنا أبو الحسن الهمداين، حدثني محمد بن حبان قال: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: حججت في بعض السنين؛ فجئت المدينة فتدقمت إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه فسمعت من داخل الحجرة وعليك السلام، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في كتابه، أخبرنا أبو الفرج بن أحمد، أخبرنا أحمد بن نصير، أخبرنا محمد بن القاسم سمعت علي بن غالب الصوفي، يقول: سمعت إبراهيم بن محمد المذكي يقول: سمعت أبا الحسن الفقيه يحكي عن الحسن بن محمد عن ابن فضيل النحوي عن محمد بن روح عن محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير المرسلين إن الله عز وجل أنزل كتابا عليك صادقا قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وإني جئتك مستغفرا إلى ربي من ذنوبي مستشفعا بك ثم بكى وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم

أنت النبي الذي ترجى شفاعته ... عند الصراط إذا ما زلت القدم1 ثم استغفر وانصرف؛ فرقدت فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: الحق بالرجل فبشره بأن الله عز وجل قد غفر له بشفاعتي. أنبأنا ذاكر بن كامل بن أبي غالب الخفاق فيما أذن لي في روايته عنه قال: كتب إلى أبي علي الحداد عن أبي نعيم الأصبهاني قال: أنبأنا جعفر بن محمد بن نصير، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، أخبرنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني غير واحد منهم عن عبد العزيز بن أبي حازم عن عمر بن محمد أنه لما كان أيام الحرة ترك الأذان في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام وخرج الناس إلى الحرة وجلس سعيد بن المسيب في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فاستوحشت فدنوت من قبر النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فلما حضرت الصلاة سمعت الأذان في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فصليت ركعتين ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر ثم جلست حتى أصلي العصر فسمعت الأذان في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم سمعت الإقامة ثم لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبره -صلى الله عليه وسلم- حتى مضت الثلاث وقفل القوم ودخلوا مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاد المؤذنون فأذنوا فتسمعت الأذان في قبره -صلى الله عليه وسلم- فلم أسمعه فرجعت إلى مجلسي الذي كنت فيه أكون. أنبأنا عبد الرحمن بن علي، أنبأنا أبو الفضل الفارسي عن أبي بكر الشيرازي أخبرنا محمد بن الحسين سمعت أبا الخير الأقطع يقول: دخلت مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا بفاقة فبقيت خمسة أيام ما ذقت ذواقا فتقدمت إلى القبر وسلمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى أبي بكر وعمر وقلت: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله وتنحيت فنمت؛ فرأيت النبي في المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلي بين يديه فحركني علي، وقال لي: قم قد جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فقمت إليه وقبلت بين عينيه؛ فدفع إلي رغيفا؛ فأكلت نصفه وانتبهت وفي يدي النصف الآخر. أخبرنا عبد الوهاب بن علي، أخبرتنا فاطمة بنت أبي حكيم -إن لم يكن سماعا- فإجازة أنبأنا منصور بن الفضل، أخبرنا أبو عبد الله الكاتب، أخبرنا ابن المغيرة، حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، حدثنا الزبير بن بكار أخبرنا السري بن الحارث عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وكان مصعب يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ويصوم، قال: بت ليلة في المسجد بعدما خرج الناس منه؛ فإذا برجل قد جاء إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أسنده ظهره إلى الجدار ثم قال: اللهم إنك تعلم أني كنت أمس صائما، ثم أمسيت؛ فلم أفطر على شيء اللهم إني أمسيت أشتهي الثريد فأطعمنيه من عندك قال: فنظرت إلى

_ 1 الشاعر هنا يقول بالشفاعة والوسيلة ومذهب الموحدين، أن الشفاعة والوسيلة غير جائزتين.

وصيف داخل من خوخة المنارة ليس في خلقة وصفاء الناس معه قصعة؛ فأهوى بها إلى الرجل فوضعها بين يديه وجلس الرجل يأكل وحصبني، فقال: هلم فجئته وظننت أنها من الجنة؛ فأحببت أن آكل منها لقمة؛ فأكلت طعاما لا يشبه طعام أهل الدنيا، ثم احتشمت فرجعت لمجلسي؛ فلما فرغ من أكله أخذ الوصيف القصعة، ثم أهوى راجعا من حيث جاء وقام الرجل منصرفا فتبعته لأعرفه؛ فلا أدري أين سلك فظننته الخضر عليه السلام. وروي أن امرأة من المتعبدات جاءت عائشة رضي الله عنها؛ فقالت: اكشفي لي عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فكشفت لها فبكت حتى أنشدني بعض مشايخي رحمه الله بعض زوار النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أتيتك زائرا ووددت أني ... جعلت سواد عيني أمتطيه وما لي لا أسير على الأماقي ... إلى قبر رسول الله فيه وأنشدني عبد الوهاب عن علي قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن محمد الأديب لنفسه من قصيدة يتشوف فيها إلى الحج وإلى زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم: أحسن مشتاقا ولولا جوى ... أملك بي مني لم أطرب وكل عام أتمنى المنى ... وهن قد سوفن بالوعد بي وليس في القلب سوى وقفة ... في حرم المدفون في يثرب

الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله

الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله أنبأنا القاسم بن علي، أخبرنا أبو محمد الداراني، أخبرنا أبو الفرج الإسفرائيني، أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا أبو طاهر القاضي، أنبأنا محمد بن عبدوس، حدثنا سعد بن زياد وأبو عاصم قالا: زعم نافع مولى ابن عمر قال: حدثتني أم قيس بنت محصن قالت: لو رأيتني ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخذ بيدي في سكة المدينة حتى أنتهي إلى بقيع الغرقد فقال: "يا أم قيس" قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: "ترين هذه المقبرة؟ " قلت: نعم يا رسول الله قال: "يبعث منها يوم القيامة سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب". أخبرنا محمد بن أبي القاسم السوسي، أخبرنا جدي أبو محمد، أخبرنا أبو الحسن الربيعي إجازة، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثنا أبو هاشم الإمام، أخبرنا معاوية بن محرز، حدثنا الحسن بن جرير المنصوري، حدثنا محمد بن عثمان، حدثنا أبي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "أنا أول من تنشق الأرض عنه فأكون أول من يبعث؛ فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى أهل البقيع فيبعثون ثم يبعث أهل مكة فأحشر بين الحرمين".

أنبأنا أبو القاسم بن كامل عن أبي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن أبي محمد الخلدي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن محمد عن إسماعيل عن حكام أبي عبد الله الشامي عن أبي عبد الملك أنه حدثه حديثا يرفعه إلى رسول الله أنه قال: مقبرتان تضيئان لأهل السماء كما يضيء الشمس والقمس لأهل الدنيا: مقبرتنا بالبقيع بقيع المدينة ومقبرة بعسقلان. وحدثنا محمد بن الحسن عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: قال كعب الأحبار نجدها في التوراة كفتة محفوفة بالنخيل موكلا بها الملائكة كلما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفوها في الجنة، قلت: يعني البقيع. وحدثنا محمد بن الحسن عبد الله بن نافع عن سليمان بن زيد عن شعيب وأبي عبادة عن أبي بن كعب القرظي أن النبي قال: من دفناه في مقبرتنا هذه شفعنا له أو شهدنا له. وحدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن إسماعيل عن داود بن خالد عن المقبري أنه سمعه يقول: قدم مصعب بن الزبير حاجا أو معتمرا ومعه ابن رأس الجالوت فدخل المدينة من نحو البقيع؛ فلما مر بالمقبرة قال ابن رأس الجالوت: إنها لهي! قال مصعب: وما هي؟ قال: إنا نجد في كتاب الله صفة مقبرة شرقيها نخل وغربيها بيوت يبعث منها سبعون ألفا كلهم على صورة القمر ليلة البدر فطفت مقابر الأرض؛ فلم أر تلك الصفة حتى رأيت هذه المقبرة، وحدثنا محمد بن الحسن عن العلاء بن إسماعيل عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: أقبل ابن رأس الجالوت فلما أشرف على البقيع قال: هذه التي نجدها في كتاب الله كفتة لا أطؤها قال: فانصرف عنها إجلالا لها. وروى مسلم في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: سلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، وروي في الصحيح أيضا من حديثها قالت: لما كانت ليلتي التي فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندي انقلب؛ فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع فلم يلبث إلا بقدر ما ظن أنني قد رقدت فأخذ رداءه وبدأ، وفتح الباب رويدا فخرج، ثم أجافه رويدا؛ فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع؛ فقام فأطال القيام ثم رفع يده ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت فسبقه فدخلت؛ فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: "ما لك يا عائشة". قالت: لا شيء قال: "لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير" فأخبرته فقال: "فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ " قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة

أوجعتني، ثم قال: "أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ " قالت: قلت: مهما يكتمه الناس يعلمه الله عز وجل قال: "فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفى منك؛ فأجبته فأخفينا منك ولم يكن يدخل عليك، وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت وكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي إلى أهل البقيع وتستغفر لهم" قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا شاء الله بكم لاحقون". واعلم أن أكثر الصحابة رضي الله عنهم مدفون بالبقيع، وكذلك جميع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- سوى خديجة؛ فإنها بمكة مدفونة. وبالبقيع سادة من التابعين ومن بعدهم من الزهاد والعلماء والمشهورين؛ إلا أن قبورهم لا تعرف في يومنا هذا فمن حضرها وسلم على من بها فقد أتى بالمقصود وليس في يومنا هذا معين إلا تسعة قبور: قبر العباس بن عبد المطلب عم النبي وعليه طين ساج وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب ومعه في القبر ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدين وأبو جعفر محمد بن علي الباقر وأبوه جعفر الصادق، والقبران في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة رضي الله عنهم أجمعين، وروي عن عبيد الله بن علي بن الحسن بن علي قال: ادفنوني إلى جنب أمي فاطمة بالمقبة فدفن إلى جنبها بالمقبرة. وقال سعيد بن محمد بن جبير: رأيت قبر الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند فم الزقاق الذي بين دار نبيه وبين دار علي بن أبي طالب، وقيل لي دفن عند قبر أمه، وروى قائد مولى عبادل قال: حدثني الحفار أنه حفر لإنسان؛ فوجد قبرا على سبعة أذرع من خوخة بيته مشرفا عليه لوح مكتوب هذا قبر فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: فعلى هذا هي مع الحسن في القبة؛ فينبغي أن يسلم عليها هنالك وقبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي في تربة في أول البقيع. وقال محمد بن موسى بن أبي عبد الله: كان قبر صفية بنت عبد المطلب عند زاوية دار المغيرة بن شعبة وقبر عقيل بن أبي طالب أخي علي رضي الله عنه في قبة في أول البقيع أيضا، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر الطيار وابن أبي طالب الجواد المشهور وقبور أزواج النبي وهي أربعة قبور ظاهرة ولا يعلم تحقيق ما فيها منهن، وقد ورى البخاري في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها أوصت عبد الله بن الزبير: لا تدفني معهم -تعني النبي وصاحبيه- وادفني مع صواحبي بالبقيع. وروي عن قائد مولى عبادل قال: قال لي منفذ الحفار: في المقبرة قبران مطابقان بالحجارة: قبر حسن بن علي وقبر عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فنحن لا نحركهما.

وقد روى مالك بن أنس أن زينب بنت جحش توفيت في زمان عمر بن الخطاب فدفنها بالبقيع، وروي عن محمد بن عبد الله بن علي أنه قال: قبور أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من خوخة بيته إلى الزقاق يعني البقيع، وروي عن الحسن بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه هدم منزله في دار علي بن أبي طالب قال: فأخرجنا حجرا مكتوبا عليه هذا قبر رملة بنت صخر فسألنا عنه قائد مولى عبادل فقال: هذا قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان. وروي عن إبراهيم بن علي الرافعي أنه قال: حفر لسالم البابلي مولى محمد بن علي، قال: فأخرجوا حجرا طويلا، وفيه مكتوب هذا قبر أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مقابل خوخة آل نبيه بن وهب فأهيل عليه التراب وحفر لسالم في موضع آخر، وقبر إبراهيم ابن النبي وعليه قبة وملبن ساج وروى إبراهيم بن قدامة عن أبيه قال: دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبقيع عثمان بن مظعون قال: فدفنه -أي ابنه إبراهيم- رسول الله إلى جنب عثمان بن مظعون، وقبره حذاء زاوية عقيل بن أبي طالب، قال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما: قبر إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاه دار سعيد بن عثمان التي يقال لها الزوراء بالبقيع مرتفعا عن الطريق، وأنبأنا أبو القاسم الأزجي، عن أبي علي الأصبهاني، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخواص، حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن صالح بن قدامة عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت: كان القائم يقوم عند قبر عثمان بن مظعون فيرى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس دونه حجاب، وحدثنا محمد بن الحسن، حدثنا سليمان بن سالم عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه، قال: أرسلت عائشة إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت أن هلم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى إخوانك، فقال: ما كنت مضيقا عليك بيتك إني كنت عاهدت ابن مظعون أينا مات دفن إلى جنب صاحبه قلت: فعلى هذا قبر ابن مظعون وابن عوف عند إبراهيم عليه السلام؛ فينبغي أن يزارا هناك وقبر فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في قبة في آخر البقيع، روى عيسى بن عبد الله بن محمد عن أبيه عن جده قال: دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت أسد بن هاشم -وكانت مهاجرة مبايعة- بالروحاء مقابلها حمام أبي قطيفة قلت: واليوم مقابلها نخل يعرف بالحمام. وقبر عثمان بن عفان رضي الله عنه وعليه قبلة عالية وهو قبل قبة فاطمة بنت أسد بقليل وحوله نخل. روى ابن شهاب أن عثمان رضي الله عنه لما قتل دفن في حش كوكب؛ فلما ملك معاوية واستعمل مروان على المدينة أدخل ذلك الحش في البقيع فدفن الناس حوله قلت: والحش البستان؛ وقبر مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه في أول البقيع على الطريق؛ فهذه القبور المشهورة، والباقي سبخة لا يعرف فيها قبر أحد بعينه.

وأخبرنا أبو القاسم بن سعد بخطه عن جعفر بن محمد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن شريك عن عبد الله بن أبي روق قال: حمل الحسن بن أبي طالب فدفنه بالبقيع بالمدينة، وحدثنا محمد بن الحسن عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: ابتاع عمر بن عبد العزيز من زيد بن علي وأخته خديجة دارا لهما بالبقيع بألف وخمسمائة دينار ونقضها وزادها في البقيع؛ فهي مقبرة آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحدثنا محمد بن عيسى عن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار؛ فمر بي جعفر بن محمد فقال لي: أعن أثر وقفت هاهنا قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع، قلت: وداره الموضع الذي دفن فيه.

الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة ومن بعدهم

الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة ومن بعدهم اعلم أن أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين وأكابر تابعيهم إلى يومنا رضي الله عنهم لا يمكن حصرهم؛ لأن أكثر الصحابة هاجروا إليها والباقون منها وأكثر التابعين منها والباقون دخلوها لزيارة النبي وكذلك من بعدهم من الأكابر إلى يومنا هذا. وإنما نذكر في هذا الباب أعيان من استوطنها؛ فمنهم من أقام بها مدة، ثم خرج عنها ومنهم من مات بها. فمن الصحابة رضوان الله عليهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، فهؤلاء العشرة. ومن أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب والحسن، والحسين ابنا علي بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب. ومن كبار الصحابة أبي بن كعب، أسيد بن حضير، بلال بن أبي رباح، أبو ذر الغفاري، أبو قتادة الأنصاري حسان بن ثابت، حكيم بن حزام، خالد بن الوليد، أبو لبابة الأنصاري، زيد بن حارثة، زيد بن ثابت، سعد بن عبادة، أبو سعيد الخدري. سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، سلمة بن الأكوع، سهل بن أبي حثمة، سهل بن سعد، أبو سفيان بن حرب، صهيب، عبد الله بن أنيس، عبد الله بن أرقم، عبد الله بن عمر بن الخطاب، عبد الله بن مسعود، أبو حميد الساعدي، أبو هريرة، عثمان بن حنيف، العلاء بن الحضرمي، عمر بن أبي سلمة، عبد الله ابن أم مكتوم، مالك بن التيهان،

محمد بن سلمة، المقداد بن عمرو، أسيد بن ظهير، أسلم وهو أبو رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، البراء بن عازب، بلال بن الحارث، بشير بن سحيم، بشر بن سعد، ثابت بن وديعة، جابر بن عتيك، جبير بن مطعم، جويبر بن خويلد الأسلمي، الحارث بن زياد، أبو سعيد بن المعلى، الحجاج بن عمرو، الحجاج بن علاط، حمل بن مالك، حنظلة الكاتب، خلاد بن السائب، خفاف بن أيمن بن رخصة، خوات بن جبير، ذؤيب أبو قبيصة، رافع بن خديج، رافع بن مكيث، ربيعة بن كعب، رفاعة بن رافع، رفاعة بن عرابة، الركين بن الربيع، رويفع بن ثابت، زيد بن الخطاب، زيد بن خالد، زيد بن الصامت، السائب بن خلاد، سبرة بن أبي سبرة، سراقة بن مالك بن جشعم، سفيان بن أبي العرجاء، سلمة بن صخر، سويد بن النعمان، نشل بن معبد، الصعب بن جثامة، الضحاك بن سفيان الكلابي، عامر بن ربيعة، عبد الله بن حراقة، عبد الله بن زيد، عبد الله بن زمعة، عبد الله بن عبد الأسد، عبد الله بن عتيك، عبد الله بن كعب، عبد الله بن أزهر، عبد الرحمن بن جبير، عبد الرحمن بن عثمان، عتبان بن مالك، عمارة بن معاذ، عمرو بن أمية، عمير مولى أبي اللحم، قتادة بن مالك بن ضمرة، مجمع بن حارثة، محمد بن عبد الرحمن بن جحش، محمود بن الربيع، محجر الدئلي، معاوية بن الحكم الأسلمي، معمر بن عبد الله، ناجية الخزاعي، نوفل بن معاوية، هذال الأسلمي، هشام بن حكيم، زيد أبو السائب، أبو بشير الأنصاري، أبو خيبرة، أبو زيد الأنصاري، أبو مربع الأنصاري. ومن كبار التابعين: أبو سعيد المقبري، محمد بن الحنفية، سعيد بن المسيب، أبو سلمة بن عبد الرحمن، عطاء وسليمان ابنا يسار، عروة بن الزبير، خارجة بن زيد، علي بن الحسين زين العابدين، أبو بكر بن عبد الرحمن، عكرمة، كريب، مقسم مولى عبد الله بن عباس، علي بن عبد الله بن العباس بن المطلب، نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين. ومن مشاهير الذين بعدهم: عمر بن عبد العزيز، أبو بكر بن حرام الزهري، محمد بن المنكدر، زيد بن أسلم، أبو الزناد، ربيعة الرأي، صفوان بن سليم، أبو حازم الأعرج، يحيى بن سعيد القطان، أبو جعفر محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر الصادق، إبراهيم ومحمد وموسى بنو عقبة أصحاب الأخيار محمد بن إسحاق بن يسار، مالك بن أنس، الإمام يوسف بن الماجشون، عبد العزيز الدراوردي، محمد بن عمر الواقدي، رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم ونفع بعلومهم. والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الملحق الثالث في العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة

الملحق الثالث في العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف ... الملحق الثالث: في العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة الملحق الثالث: [العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف] : 1 - العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة: إنشاء المسجد الشريف: شيد1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده الشريف في السنة الأولى من هجرته. واتخذ سواريه من النخيل، وسقفه من الجريد. ولم يبالغ في ارتفاعه بل كان يزيد على المترين قليلا ليتمكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوقوف على الجذع في وقت الخطبة. وقد كانت مساحته سبعين ذراعا في ستين، كما حققه النووي، وتساوي بالأمتار 1030 مترا مربعا تقريبا. وقد ظل المسجد النبوي الشريف على الحال الذي شيده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فاتحة الهجرة إلى العام السابع الهجري، ومن هذا العالم إلى عصرنا هذا والدول الإسلامية تتناوله بالعمارة. توسعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: في عام 7 هجرية رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقب عودته من غزوة خيبر أن المسلمين قد تكاثروا، وأصبح المسجد لا يسعهم جميعا؛ فاعتزم -صلى الله عليه وسلم- توسعته، وكان هو أسبقهم إلى العمل، وقد جعله في هذه المرة مربعا 100 ذراع في 100 ذراع فأصبح بعد هذه الزيادة 2475 مترا مربعا فتكون الزيادة التي أحدثها -صلى الله عليه وسلم- 1445 مترا تقريبا.

_ 1 ص26 من كتاب توسعة الحرم النبوي الشريف: للأستاذين هاشم دفتر دار وجعفر فقيه.

توسعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: في عام 17 هجرية رأى سيدنا عمر رضي الله عنه أن الحاجة تقتضي توسعة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد حدد ابن عمر مقدار هذه الزيادة؛ فقال: " ... جعل طوله 140 ذراعا، وعرضه 120 ذراعا. فتكون الزيادة فيه 1100 مترا مربعا ... ".

توسعة عثمان بن عفان رضي الله عنه: وفي عام 29 هجرية، شيد سيدنا عثمان مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نسق ما جد من عمارة في المدينة المنورة، أي شيده بالحجارة المنحوتة، والسواري الضخمة، وجعل سقفه من خالص خشب الساج.

كما أفسح في كل جهة من جهاته الثلاث: الجنوبية والغربية والشمالية عشرة أذرع؛ فيكون ما أضافه إلى المسجد 496 مترا مربعا، وقبل بدء العمل استشار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوسعة. فحسن الناس له ذلك ودعوا له. وفي صباح اليوم التالي دعا العمال وقد باشر ذلك بنفسه. وكان ابتداء العمل في ربيع الأول عام 29هـ ونهايته في أول محرم عام 30 هجرية، وقد استغرق العمل عشرة أشهر. توسعة الوليد بن عبد الملك الأموي: في عام 88 هجرية وسعه الوليد بن عبد الملك الأموي وأضاف إليه حجرات أمهات المؤمنين، وقد بلغت توسعته من الجهة الغربية عشرين ذراعا، ومن الجهة الشرقية ثلاثين ذراعا؛ فتكون زيادة 2369 مترا مربعا. وهو أول من وشى جدرانه بالمرمر، وزخارف الفسيفساء. وجلل سقفه بماء الذهب، وقد جعله من خالص خشب الساج. واستمر العمل في تجديده أربع سنوات؛ لأنه ابتدأه في سنة ثمان وثمانين وانتهى في سنة إحدى وتسعين للهجرة. وقد أنفق في عمارته خمسة وأربعين ألف دينار. وكان ذلك في ولاية عمر بن عبد العزيز، على المدينة المنورة، وقد أشرف على العمارة بنفسه. توسعة المهدي بن المنصور العباسي: في عام 161 هجرية. جدد عمارة المسجد المهدي العباسي. وزاد مائة ذراع في الجهة الشمالية فتكون توسعته 2450 مترا مربعا. وقد استمر العمل أربع سنوات. ابتدأ في عام 161هـ، وانتهى سنة 165هـ. تجديد المستعصم بالله العباسي: في عام 655هـ. وقع احتراق في المسجد النبوي الشريف بسبب إهمال موقد المصابيح. وقد خرب الحريق المسجد، ولم يفلت منه إلا قبة الناصر لدين الله التي كانت في رحبته، وحين بلغ المستعصم العباسي الخبر، أرسل الصناع والآلات في موسم الحج، وبدأ العمل عام 655هـ. وقد حدثت في هذا العام أحداث التتار وحروبهم؛ ولكن عمل البناء لم يتوقف؛ إذ اشترك فيه الملك المظفر ملك اليمن، وملك مصر نور الدين علي بن المعز الصالحي، وإن كانت العمارة لم تنته إلا في عهد الملك الظاهر بيبرس.

ومن أشهر الملوك والسلاطين الذين قاموا بالتجديد، أو التوسعة أو الإصلاح أو الترميم: 1- الملك الناصر محمد بن قلاوون في الأعوام 705 و706 و729 هجرية. 2- الملك الأشرف برسباي عام 831هـ. 3- الملك الظاهر شمقمق عام 853هـ. 4- الملك الأشرف قايتباي عام 879هـ1 وقد زاد فيه 120 مترا مربعا. 5- السلطان سليمان العثماني عام 974هـ2. 6- السلطان سليم الثاني عام 980هـ. 7- السلطان محمود الأول وهو أول من سيد القبة الخضراء عام 1233هـ. 8- السلطان عبد المجيد، وقد بدأت عمارته عام 1265هـ وانتهى منها عام 1277هـ. ففي هذا العام كان تجديد البناء الضخم الذي قام به السلطان عبد المجيد العثماني، وقد استمر العمل فيه ثلاثة عشر عاما: من عام 1265هـ إلى عام 1277هـ. وقد زاد فيه الكتاتيب، لاستظهار القرآن المجيد وتعليم القراءة والكتابة. والمستودعات زادها في الجهة الشمالية. كما زاد من المشرق خمسة أذرع؛ فتكون توسعة السلطان عبد المجيد 1293 مترا مربعا. وتصبح مساحة المسجد بعد إضافة هذه التوسعة إليه 10302 متر مربع. فيكون القسم الداخلي الجنوبي الذي لم يمس 4056، والقسم الخارجي الشمالي الذي هدم وألحق بالتوسعة السعودية 6246. ولم يكن بعد عمارة السلطان عبد المجيد من عمل تاريخي كبير في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى زمن الملك عبد العزيز آل سعود فأمر بإجراء توسعة كبرى هي أفسح التوسعات التاريخية على الإطلاق، إذا بلغت مساحتها 6024 مترا مربعا. وهذه التوسعة غير العمارة؛ فالعمارة أفسح من التوسعة لأن مساحة التوسعة وحدها قد بلغت 6024 مترا مربعا، ومساحة العمارة المشتملة على التوسعة المضافة إلى القسم الشمالي الذي هدم من المسجد هي 6246 مترا مربعا.

_ 1 الصحيح أن ذلك عام 881هـ كما سبق. 2 وقد وجدت لدى عملية الهدم الحالية حجر تشتمل على تاريخ العمل كما ذكره المؤرخون، وهو محفوظ لدى المكتب في المدينة المنورة. وفي عام 886هـ وقع حريق في المسجد النبوي فقام قايتباي ببناء المئذنة الكبيرة وجدار القبلة والجدار الشرقي إلى باب جبريل والجدار الغربي إلى باب الرحمة وسوى ذلك.

وإذا نظرنا إلى مساحة القسم الداخلي من المسجد الذي لم يمس البالغ 4056 مترا مربعا يكون مجموع المساحتين معا يبلغ 16326 مترا مربعا، وهذه هي المساحة التي انتهى إليها المسجد الآن1.

_ 1 ويذكر الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه آثار المدينة أن فخري باشا رمم المحرابين النبوي والسليماني ورخم البئر التي في صحن المسجد عام 1336هـ، وأن الملك عبد العزيز آل سعود رمم أرض المسجد مما يلي رحبته في الجهات الأربع عام 1348هـ ووضع أطواقا حديدية على بعض الأساطين التي حدث فيها انشقاق بقرب الرحبة وشرقيها عام 1350هـ. وأن الحكومة المصرية قامت بعمارة للمسجد عام 1353هـ.

المسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية

2- المسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية: كان المسجد النبوي الشريف1 قبل التوسعة السعودية يشتمل على قسمين: جنوبي وشمالي. القسم الجنوبي: فالقسم الجنوبي يشتمل على كل المشاعر المقدسة، التي هي: 1- الحجرة الشريفة: وتضم ضريحه -صلى الله عليه وسلم- وضريحي صاحبيه الجليلين: أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما. وتقع في الجهة الجنوبية الشرقية المسجد النبوي الشريف.

_ 1 عن ص47 من كتاب مشروع توسعة الحرم النبوي الشريف.

2- الروضة المطهرة: وتبتدئ من ضريحه -صلى الله عليه وسلم- وتنتهي عند المنبر. 3- مصلاه -صلى الله عليه وسلم- وكان يؤم الناس منه في صلواته الخمس. وهو موضع المحراب بالذات. 4- منبره -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخطب عليه، وموضعه بالذات نصب المنبر الحالي. 5- السواري الأثرية المعروفة الواقعة في الروضة المطهرة. 6- السدة التي يبلغ المؤذن من أعلاها ويسميها أهل المدينة المنورة "المكبرية". 7- المآذن: ومآذن هذا القسم ثلاثة: "الرئيسية" ومأذنة باب الرحمة و"السليمانية". وهذا القسم الجنوبي، مسقوف جميعه بالقباب، التي تحملها السواري الضخمة على مناكبها. ويبتدئ هذا القسم من الجهة الغربية بباب السلام المجاور للجهة الجنوبية، وينتهي بباب الرحمة المجاور للرحبة من الجهة الشمالية؛ ويبتدئ من الجهة الشرقية بالمئذنة "الرئيسية" المجاورة للجهة الجنوبية. وينتهي بباب "النساء" المجاور للجهة الشمالية. ويقع باب "جبريل" عليه السلام بين باب النساء والمئذنة الرئيسية. ومساحة هذا القسم الجنوبي من المسجد النبوي الشريف 4056 مترا مربعا. وقد قرر الإبقاء عليه. القسم الشمالي: هذا القسم الشمالي من مسجد النبوي الشريف الذي عمره السلطان عبد المجيد رحمه الله، هو الذي قرر هدمه وإدخال التوسعة السعودية عليه، وهو يشتمل على: 1- الرحبة: وهي مفروشة بالحصى الأحمر، وتحيط بها من جهاتها الثلاث: الشرقية والغربية والشمالية أروقة مسقوفة بالقباب الشامخة، التي تحملها السواري الباسقة على مناكبها؛ فأروقة الجهة الشمالية والغربية اثنتان، وأروقة الجهة الشرقية ثلاثة، أما من الجهة الجنوبية القبلية فإن الرحبة متصلة اتصالا مباشرا بالقسم الجنوبي بالذات، لذلك لم يجعل لها في هذه الجهة أروقة خاصة. 2- المآذن في هذا القسم الجنوبي مئذنتان مرتفعتان جدا: تقع إحداهما في الجهة الشمالية الشرقية قرب باب المجيدي، وتسمى المجيدية، وتقع الثانية في الجهة الشمالية الغربية وتسمى الشكيلية. 3- الكتاتيب: هي مدارس صغيرة، لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال، وتعليمهم الكتابة والقراءة، بصورة بسيطة. وفوق الكتاتيب طابق ثان، فيه مكتبة الحرم النبوي المشهورة. 4- باب المجيدي المفضي إلى عرصة الكتاتيب، التي تؤدي بدورها إلى الأروقة الشمالية فالرحبة. 5- مخازن الزيت، وموقعها في الجهة الشمالية بين المجيدي والمئذنة الشكيلية.

سير العمل في العمارة الجديدة

3- سير العمل في العمارة الجديدة: في 5 شوال عام 1370هـ عين لوكيل أمير المدينة المنورة حدود الدور التي سيتناولها الهدم، وتدخل في توسعة المسجد الشريف من الجهات الثلاث: الشرقية والغربية والشمالية. وسار الهدم بنشاط وسرعة، وكانت أنقاض الأبنية المهدومة تنقل إلى المواطن التي خصصت لها: من إصلاح طرق وردم حفر، وسوى ذلك. ثم ذللت أرضها تذليلا، حتى غدت ميدانا فسيحا مستويا تعبره السيارات الضخمة التي تحمل الآلات الثقيلة ... وفي 6 شعبان عام 1371هـ أمر سعادة الشيخ محمد بن لادن بإنشاء جدار، على حدود أروقة الجهة الغربية، من باب الرحمة، إلى مستودعات الزيت الواقعة في مؤخرة المسجد من الجهة الشمالية ليفصل هذه الأروقة عن المسجد، لتهدم وتضم إليها التوسعة الجديدة. وبعد أن تمت عمليات هدم هذه الأروقة استعملت الأنقاض التي لا حاجة إليها في تعبيد الطرق وردم المنخفضات أيضا. وفي 15 شعبان عام 1372هـ أمر الشيخ ابن لادن العمال بأن يباشروا حفر الأسس، وقد خططها المهندسون وعينوا مواطن الآبار العميقة التي تحفر لتصب فيها أسس السواري. وانتهت عمليات حفر الأسس في 24 رمضان المبارك عام 1372هـ. وفي أثناء ذلك كان قد أزيلت دور القسم الشمالي وأنقاضها، وسويت أرضها، حتى أصبحت صالحة للعمارة أيضا. وفي 24 رمضان المبارك عام 1372هـ سارت العمارة في طريقها الجدي سيرا حثيثا متواصلا. وحين تبوأ العرش جلالة الملك سعود حفظه الله أحب أن يطلع على سير العمارة بنفسه فقصد المدينة المنورة في 16 ربيع الأول عام 1373هـ، وقد أعجبه ارتفاع العمارة، وسره سير العمل وأبي إلا أن يباشر بعض أعمال البناء بنفسه، ليحظى بشرف الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتحقق مباشرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناء مسجده الشريف بنفسه مرتين: مرة لدى عمارته، ومرة لدى توسعته. وهذا بيان تفصيلي عن العمارة الجديدة:

المباني التي هدمت

4- المباني التي هدمت: أما العقارات1 التي تحيط بالمسجد النبوي الشريف: فمنها ما كان عامرا مسكونا، ومنها ما كان أطلالا شاخصة؛ وذلك من أثر التهديم الذي أجراه فخر الدين باشا. في خلاف الحرب العالمية الأولى. وهذا بيان عن جملة العقارات التي أزيلت، لتدخل في التوسعة حسب موقعها من المسجد: 1- عقارات الجهة الغربية: ابتدأ العمل لإزالة العقارات، في 5 شوال عام 1370هـ. وابتدأ في الجهة الغربية، مما يلي الرحمة إلى جهة الجنوب: كما تراه مفصلا: 1- أطلال وقف آل السمهودي الواقعة في جنوب مكتبة أمين باشا. 2- أطلال دار الأوقاف. 3- أطلال دار الأوقاف. 4- أطلال دار سيدنا تميم الداري رضي الله عنه. 5- أطلال دار وقف السادة المغاربة. 6- خرائب وسبل عدة تابعة للأوقاف. 7- أطلال دار بيت الشيخ عبد العزيز أبي الطاهر. 8- دار قائمة تابعة للأوقاف. 9- وهناك جملة دور وخرائب تقع في الجهة الغربية، قد أزيلت؛ ولكن لا لتدخل في التوسعة لأنها واقعة في المنطقة المنخفضة، ما بين باب السلاح وباب الرحمة. أي جهة القسم الجنوبي الذي قرر عدم مساسه وستكون الرحبة الخارجة عن المسجد فيها ولأجل ذلك أزيلت. وهي:

_ 1 ص84 من كتاب "مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف".

1- المدرسة المحمودية. 2- بيت العلامة الشيخ عمر بري. 3- دائرة لجنة العين الزرقاء. 4- جملة دكاكين ومقاه للأوقاف. 2- العقارات الواقعة في الجهة الشمالية: 1- دار المرحوم العلامة الحافظ الشيخ إبراهيم الفقيه والد السادة: الأستاذ الشيخ جعفر الفقيه والسيد عبد الوهاب الفقيه والسيد عبد العزيز والسيد سليمان الفقيه الملازم في الجيش. 2- دار كتب أمين باشا. 3- دار للأوقاف. 4- كراج للشيخ بركات الأنصاري. 5- أطلال دار الشيخ بركات الأنصاري. 6- جملة خرائب للأوقاف. 7- جملة دكاكين للأوقاف. 8- دار تغسيل الموتى المعروفة بالشرشورة. 9- الحوش الكبير المعروف بوقف والدة السلطان عبد العزيز "برتو دنيال" هانم، أوقفته ليكون مستودعا للحرم الشريف. 10- مخازن تابعة لوقفية والدة السلطان عبد العزيز. 11- مخفر شرطة باب المجيدي. 12- أنقاض أربطة تابعة للأوقاف كرباط المجاريح وسواه. 13- جملة مخازن للأوقاف. 3- العقارات الواقعة في الجهة الشرقية: 1- رياض البهرة -والرياض هو عمارة مقسمة إلى جملة أجنحة لسكنى "الطبقة الفقيرة" أو لسكنى الذين حبس الرباط عليهم. 2- المدرسة الناصرية. 3- أطلال دار داود عرب. 4- معمل السيد محمود أحمد. 5- دور للأغوات. 6- دار وزاوية آل السمان. 7- دار العلامة الشيخ مأمون بري. 8- دار للأوقاف.

وصف المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة

5- وصف المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة 1: 1- المساحة: المساحة التي انتهت بها توسعة المسجد النبوي الشريف 16326 مترا مربعا. 2- الأقسام: نجد للمسجد النبوي بعد إضافة العمارة السعودية الجديدة قسمين: جنوبي وشمالي. أ- القسم الجنوبي: وهذا هو القسم الذي قرر الاحتفاظ به على وضعه الذي هو عليه. ب- القسم الشمالي: وهذا هو القسم الجديد الذي أمر بتشييده المغفور له جلالة الملك عبد العزيز، وأتمه جلالة الملك سعود حفظه الله. 4- الرحبات: وللمسجد النبوي الشريف بعد العمارة السعودية الجديدة، رحبات ثلاث: اثنتان داخليتان وواحدة خارجية، ويفصل بين الرحبتين الداخليتين رواق ممتد متصل بباب خالد بن الوليد الشرقي، وباب السعودي الغربي، وهذا الرواق من التنظم الدقيق. وأما الرحبة الخارجية؛ فهي بين باب السلام وبين باب الرحمة، من الجهة الغربية. 4- المآذن: عرفنا أن المآذن التي كان يشتمل عليها المسجد النبوي قبل العمارة السعودية الجديدة خمس: 1- الرئيسية الواقعة في الجنوب الشرقي. 2- منارة باب السلام الواقعة في الجنوبي الغربي. 3- المجيدية الواقعة شرقي باب المجيدي من الجهة الشمالية. 4- الشكيلية، الواقعة شمال باب المجيدي. 5- السليمانية الواقعة في الجهة الغربية. وكانت هذه المئذنة خارج المسجد وقصيرة من أجل ذلك أزيلت. وأما ما جد منها في العمارة الجديدة فسيأتي الحديث عنه.

_ 1 ص53 من "كتاب مشروع توسعة الحرم النبوي الشريف".

أبواب الحرم النبوي الشريف

6- أبواب الحرم النبوي الشريف: كان أهمها أحد عشر بابا وهذا بيانها: 1- باب السلام. 2- باب الصديق. 3- باب الرحمة. 4- باب سعود. 5- باب عمر بن الخطاب. 6- الباب المجيدي. 7- باب خالد بن الوليد. 8- باب عبد العزيز آل سعود. 9- باب النسا. 10- باب جبريل. 11- باب عثمان بن عفان. وقد ذكر المطري في تاريخ "التعريف بما آنست إليه دار الهجرة من معالم الهجرة" أن عدد أبواب المسجد النبوي كان ثلاثة في عهد الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن الوليد كان قد جعل له عشرين بابا. وفي رحلة ابن جبير ذكر هذا المؤرخ، أنه لما ذهب إلى المدينة عام 579هـ رأى أن عدد أبواب المسجد النبوي الشريف تسعة عشر بابا "ص151 رحلة ابن جبير طبعة عبد الحميد حنفي". ونقل ابن زبالة أنه كان له أربعة وعشرون، لم يبق منها في القرن التاسع الهجري إلا ستة عشر بابا1. وللمسجد بعد العمارة الجديدة تسعة أبواب: أربعة في القسم الجنوبي الذي بقي على حاله، وخمسة في القسم الشمالي الجديد، وهي: 1- الباب السعودي وموقعه في الجهة الغربية.

_ 1 راجع ص75 من كتاب "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة" للمراغي المتوفى عام 816هـ.

2- باب خالد الوليد رضي الله عنه، وموقعه في الجهة الشرقية. 3- الباب المجيدي، وموقعه في الشمال الشرقي، واسم هذا الباب هو عين اسم الباب القديم الذي كان قبل التوسعة، وقد بقي اسمه عليه وفاء للسلطان عبد المجيد الذي بذل من ذات يده في سبيل مسجد رسول الله الكثير. 4- الباب العزيزي: وموقع هذا الباب في الشمالي الغربي. 5- باب الضيافة: وموقع هذا الباب في الشمال، وفي الوسط بين الباب المجيدي والباب العزيزي.

حول عمارة المسجد النبوي الشريف أسئلة موجهة من الحاج عبد الشكور فدا إلى سعادة الشيخ صالح القزاز وإجابة فضيلته عليها

7- حول عمارة المسجد النبوي الشريف: أسئلة موجهة من الحاج عبد الشكور فدا إلى سعادة الشيخ صالح القزاز وإجابة فضيلته عليها: س- ما مقدار المبلغ الذي صرف على عمارة المسجد النبوي الجديد؟ ج- بلغ ما صرف على عمارة المسجد النبوي الشريف ما يقرب من 30 مليونا من الريالات حتى الآن "حوالي ثلاثة ملايين جنيه مصري". ص- ما مقدار التعويضات التي دفعت للأهالي مقابل أملاكهم من أجل التوسعة؟ ج- بلغت قيمة العقار الذي انتزعت مليكته للتوسعة الجديدة وللشوارع الرئيسية حول الحرم الشريف حتى الآن ما يقرب من أربعين مليونا من الريالات "حوالي أربعة ملايين جنيه مصري". س- ما طول جدار المسجد وعرضه وارتفاعه؟ ج- مساحة المسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية "10303" متر مربع، أما مساحة الزيادة فهي "6024" مترا مربعا، وحيث إنه قد هدمت أجزاء من الجامع القديم فقد بلغت مساحة العمارة الجديدة "12271" مترا مربعا. أما الجدار الغربي فطوله 128 مترا -والجدار الشرقي 128 مترا- والجدار الشمالي 91 مترا -وارتفاع سقف المسجد من الداخل 12 مترا. س- كم عدد أبوابه وما أسماؤها وما طول مصراع كل باب وعرضه وارتفاعه مع وصف مختصر له وللزخارف التي عليه؟ ج- عدد الأبواب هي ستة أبواب "أ" باب سعود ومكون من ثلاثة مداخل "ب" باب عبد العزيز مكون من ثلاثة مداخل "ج" باب عبد المجيد "د" باب الصديق "هـ" باب عمر بن الخطاب "و" باب عثمان بن عفان -طول كل باب من الأبواب الجديدة 6 أمتار وعرضه 20/ 3متر، والباب مصنوع من الخشب وبه زخاف من النحاس الأصفر على الطراز العربي "الأرابسك". س- ما عدد الأساطين التي أقيمت في العمارة الجديدة وما ارتفاعها وقاعدتها مع وصف لواحدة منها؟ ج- عد الأساطين بالعمارة الجديدة 232 وارتفاع الواحد منها 5 أمتار وقاعدته من الرخام الأسود تعلوه قاعدة من النحاس الأصفر ثم العمود الذي ينتهي بتاج من النحاس الأصفر.

س- ما عدد العقود والشرفات وشيء موجز في وصفها؟ ج- عقد العقود 689 عقدا، والشرفات عددها 44 شرفة ويتجلى في العقود جمال الفن الإسلامي من ناحية الزخرفة المعروفة بالمقرنصات. س- المنائر -كم هي وما ارتفاعها؟ وهل هي على شكلها القديم أو على شكل آخر؟ وكم المدة التي استغرقها البناؤون في إنجاز المنارة الواحدة؟ ومن أي بلد هؤلاء العمال والمهندسون الذين أشرفوا على بنائها؟ ومن هو كبير المهندسين وما جنسيته؟ ج- عدد المنائر الجديدة اثنتان، وارتفاع المئذنة 70 مترا أما المآذن القديمة فهي اثنتان أيضا. وقد استغرق بناء المنارة الواحدة ستة أشهر، والبناؤون من سوريا ومصر والحجاز، وكبير المهندسين من مصر. س- الأروقة -ما عددها مع ذكر الطول والعرض ووصف لبلاطها ونقوشه وزخارفه؟ ج- عدد الأروقة أربعة: وهي الرواق الشمالي والرواق الأوسط والرواق الشرقي والرواق الغربي وأساس الرواق هو العقود المتكررة -والتي تحتوي على زخارف الأرابسك وأما أرضية الرواقات فهي مفروشة بالرخام الأبيض وتتخللها أشرطة من الرخام الأسود وهذا عدا الرواق الجنوبي وهو القسم القديم من المسجد الشريف. س- الثريات الكهربائية: ما عددها وما شكلها مع وصف لأهمها؟ ج- قد حلي المسجد الشريف في العمارة الجديدة بمصابيح كهربائية مثبتة في أعلى الأعمدة في كل عمود أربعة مصابيح من أربع جهات، وقد عملت بشكل عربي جميل أخاذ وعددها ألف وأحد عشر مصباحا هذا عدا الإضاءة التي رتبت في زوايا العقود والثريات الكهربائية التي صممت على طراز عربي خاص ويبلغ عددها 116 قطعة عدا 1400 مصباح دائري في زوايا العقود.

س- متى بدئ في عمارة المسجد؟ ومتى تم الانتهاء منها؟ ومن كان رئيس لجنة الإشراف على العمارة؟ ومن كان يعاونه من كبار مساعديه؟ ج- كان البدء في تنفيذ مشروع عمارة الحرم النبوي الشريف في الخامس من شهر شوال عام 1370هـ وكان معالي الشيخ محمد بن لادن مدير الإنشاء والتعمير المشرف العام على العمارة، ومعالي الشيخ محمد صالح قزاز هو مدير مكتب مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف.

س- ما الوصف العام الشامل لشكل المسجد من الخارج؟ ج- يحيط المسجد الشريف أربعة شوارع رئيسية وثلاثة ميادين عدا الشوارع الرئيسية تجاه المسجد الشريف، وإن تخلية أطراف المسجد الشريف من الدور وتنظيم هذه الشوارع قد جعل للمسجد منظرا رائعا، وقد زينت جدار المسجد الشريف من الخارج بزخارف عربية جميلة وجعله له نوافذ ذات عقود بنيت على طراز بديع، كما أن بناء الجدار من الداخل والخارج وكذلك السقوف كان بناؤها كلها بالحجارة المنقوشة المعمولة من الموازيكو؛ مما جعل للمسجد الشريف منظرا جميلا يدعو للإعجاب والاستسحان. س- هل حصلت هناك بعض الإصلاحات للطرق الموصلة لبعض المزارات بالمدينة إبان عمارة المسجد، وما هي وما مقدار ما صرف عليها؟ ج- لقد عبدت جميع طرق المزارات بالمدينة المنورة وهي: طريق سيد الشهداء -وطريق قباء- وطريق المساجد والقبلتين، وجميع الطرق الرئيسية بالمدينة، وقد فرشت جميعها بالإسفلت.

الملحق الرابع: بعض آثار المدينة والمزارات وغيرها

الملحق الرابع: بعض آثار المدينة والمزارات وغيرها مساجد المدينة المنورة ... الملحق الرابع: بعض آثار المدينة والمزارات وغيرها 1- مساجد المدينة المنورة 1: تحفل طيبة بالمساجد الأثرية، التي تعد بحق من أجل الآثار الإسلامية الخالدة وأولها مسجد قباء وهو أول مسجد أسس على القوي، ومن أشهرها المساجد السبعة وقد سبق ذكر بعضها.

_ 1 راجع ص191 مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف.

وقد قدام المغفور له جلالة الملك عبد العزيز -لما بلغه أن مساجد طيبة، تحتاج إلى إصلاح وترميم، أو تجديد بالآجر- بالنظر في شأنها جميعا، ويعطي كل مسجد حاجته التي تعيد له جدته. وهذه هي أهم هذه المساجد: 1- مسجد السبق: الواقع بجوار المستشفى الملكي. في الباب الشامي وهذا المسجد قد أصلح، وسلم لدائرة الأوقاف. 2- مسجد مالك بن سنان الواقع في الحماطة حيال حوش المرزوقي، وقد جدد بناؤه بالطرق الفنية الحديثة. وسلم للأوقاف. 3- مسجد بلال بن أبي رباح الواقع في دار الحكومة في السيح. وهذا المسجد تم الكشف عليه ورسمت خطة إصلاحه وسيبدأ العمل فيه قريبا. 4- مسجد محطة سكة الحديد كذلك. 5- مسجد الكاتبية كذلك. 6- مسجد حوش التاجوري كذلك. 7- مسجد المصلى: والعمل جار فيه الآن، وطفقوا يفتتحون له باب من الجهة الشمالية. 8- مسجد عروة بن الزبير الكائن في وادي العقيق، وقد قرر إصلاحه. 9- مسجد شمس الواقع في الباب المجيدي قرب فندق التيسير، وهذا المسجد تم إصلاحه وسلم للأوقاف. 10- جبل أحد وضريح سيدنا حمزة رضي الله عنه.

القصور التاريخية بالمدينة

2- القصور التاريخية بالمدينة: في المدينة كثير من الآثار والقصور التاريخية الإسلامية، ومن أشهر هذه القصور: 1- قصر سعيد بن العاص وموقع هذا القصر في العقيق الصغير. 2- قصر عروة بن الزبير رضي الله عنهما وموقع هذا القصر بجوار بئر عروة. 3- قصر سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما. 4- قصر ابنة المرازقي. 5- قصر مراجل. 6- قصر إسحاق بن أيوب. وموقع هذه القصور الأربعة في حرة الوبرة. 7- قصر عبد الله بن عامر. 8- قصر مروان بن الحكم. والقصر الوحيد الذي لا تزال أطلاله شاخصة إلى اليوم هو قصر سعيد بن العاص. وللملك سعود حفظه الله قصر فخم أقيم حديثا في المدينة المنورة. قصر داود باشا 1: كان داود باشا واليا على العراق من قبل الدولة العثمانية، وقد قام بثورته عام 1258هـ. ولما أخمدت الدولة العثمانية ثورته، عفت عنه وأرسلته إلى المدينة المنورة شيخا للحرم النبوي الشريف، وكان هذا المنصب مرموقا لدى الدولة. وحين استقر داود باشا في المدينة المنورة، أنشأ قصره الفخم إلى جانب بستانه الذي عني به، وسماه بالداودية عام 1265هـ. قد اختار هضبة المستندر التاريخية مكانا لتشييده قصره ليشرف على ما حوله من مناظر، وشيد بجواره سبيل ماء. لا يزال قائما بناؤه إلى اليوم. وهضبة "المستندر" نزلها المهاجرون من بني الديل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد اهتم الشيخ محمد بن لادن؛ بهذا المكان التاريخي، فاستأجره من الأوقاف، وأجرى فيه إصلاحات واسعة، حتى جعله صالحا ليكون مستودعا لآثار المسجد النبوي الشريف ومحلا لورش عمارة التوسعة، ومكاتب للأعمال الإدراية ومحطة للبنزين، على الطريقة الحديثة، لتموين جميع الآلات والسيارات التابعة لأعمال مكتب التوسعة في المدينة المنورة.

_ 1 راجع ص101 مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف.

ولداود باشا مشيد قصر الداودية يد لا تنسى، هي أنه في غضون مشيخته شاهد المسجد النبوي في حاجة إلى تجديد العمارة؛ فبعث إلى السلطان رسائل يخبره بالأمر، فما كادت توافيه رسائل داود باشا حتى أجاب الطلب، وأوفد إلى المدينة المنورة جماعة من العلماء والمهندسين والخبراء ليدرسوا حالة المسجد ويرسموا خطة عمارة من جديد، وقد رفعوا قرارهم إلى السلطان فوافق عليه، وأمر بمباشرة الأعمال لتجديد البناء عام 1265.

خزانات ماء الشرب

3- خزانات ماء الشرب 1: كان أهل المدينة المنورة في الجاهلية، وصدر الإسلام، يستقون من آبارها الشهيرة بعذوبة مائها: كبئر "بضاعة"، وبئر "أريس" وبئر "بيرحاء"، وبئر "غرس"، وبئر "رومة"، وبئر "البصة"، وبئر "السقيا"، وبئر "ذروان"، وبئر "عروة"، وبئر "أبي أيوب". وما زال هذا شأن أهل المدينة المنورة، حتى انتقلت الخلافة من الكوفة إلى دمشق، وأصبح معاوية بن أبي سفيان هو الخليفة؛ فأحب أن يتخذ يدا عند أهل المدينة المنورة؛ فبعث إلى واليه فيها "مروان بن الحكم". وكان ذلك في طليعة النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وأمره بإجراء الماء من الضواحي إلى البلدة كما رأى ذلك في دمشق، وأمده من أجل ذلك بكل ما يحتاجه من أموال ورجال وآلات وسوى ذلك. وبعد أن استقر رأي الخبراء على أن يكون مأتى الماء من ضاحية قباء لعذوبة مياهها وغزارتها. طفقوا يحفرون الأنفاق للديل2 وقد فرح أهل المدينة بذلك. وسموا عين الماء التي جرت إليهم بالعين الزرقاء نسبة إلى مروان الذي كانت عيناه زرقاوين. وقد ظل مصدر العين الزرقاء من بئر الأزرق الواقعة غربي مسجد قباء، مدة من الزمن، ثم ضوعف ماؤها من آبار كثيرة، وينابيع شتى، في عصور مختلفة على جملة من الأيدي البارة المحسنة. وقد وافت عين الزرقاء المدينة المنورة وهي منخفضة؛ لذلك شيدت لها جملة مناهل ذات دركات يهبط منها إليها كمنهل الزكي، ومنهل درب الجنائز، ومنهل باب السلام، ومنها حارة الأغوات ومنهل مسجد المصلى، ومن المناهل ما جعل كآبار يجذب الماء من "الديل" بواسطة الدلاء كمنهل أبي جيدة الواقع قريبا من الجسر. ومنهل الباب المصري، ومنها باب بصرى، ومنهل الباب الشامي.

_ 1 راجع ص111 مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف. 2 الديل: هو جدول الماء، والجمع ديول، وهو اللفظ المطلق لدى أهل المدينة حتى اليوم.

ولم يفت جلالة الملك سعود حين زار المدينة، أن يمد يده ويساهم في إصلاح العين الزرقاء مساهمة جليلة؛ حيث أصدر أمره، بإنشاء خزانات حديثة بالإسمنت المسلح، لتحفظ فيها المياه من منابعها صافيه نقية، ثم توصل إلى المدينة المنورة في الأنابيب الحديدية الخفية في جوف الأرض وتوزع فيها على محلاتها. والذي يدلنا على اهتمام جلالة الملك بمشروع خزانات العين الزرقاء، وضعه الحجر الأساسي بيده، وقد دس فيه جملة من النقود الذهبية والفضية، وبعض الوثائق التاريخية والخرائط، وجملة من أعداد جريدة المدينة المنورة. وبالله التوفيق؟

كلمة الختام

كلمة الختام: هذه هي خاتمة الجزء الثاني من كتاب "شفاء الغرام"، والملحقات الذي ذيلنا بها الكتاب، وبانتهائه ينتهي هذا الكتاب القيم، والسفر النفيس، وقد وقع الجزء منه في أكثر من 420 صفحة، ووقع الجزء الثاني في أكثر من ذلك، وقد طبع الكتاب طبعة لم تتح لكتاب قديم من قبل، ويعد إخراج الكتاب بهذه الصورة مفخرة جليلة من المفاخر العربية، ويرجع الفضل في ذلك إلى معالي الشيخ محمد سرور الصبان الذي كان له فضل إخراج هذا الكتاب إلى عالم النور، وإلى مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة لأصحابها عبد الحفيظ وعبد الشكور فدا اللذين أسهما بجهود مشكورة في إخراجه ونشره وطبعه، ومما ساعد على إناقة هذه الطبعة أنها محلاة بأروع الصور والخرائط الجديدة المنقحة التي لم يظهر لها من قبل مثيل في صحتها وإناقتها. والأصول الخطية للكتاب في منتهى الرداءة؛ بحيث يصعب قراءة أية كلمة من كلماته دون مجهود شاق؛ فإخراج الكتاب جملة بهذه الصورة الرائعة من شدة التحري والجهد، ومع صعوبة أصول الكتاب ورداءتها التي ليس لها مثيل في المخطوطات، يعد عملا جليلا1. وللفاسي عدا "كتاب شفاء الغرام" الذي نتحدث عنه عدة كتب من أهمها: 1- تاريخه الكبير المسمى "العقد الثمين في أخبار البلد الأمين" وهو مخطوط في أربعة أجزاء ضخام، ومنه عدة نسخ خطية بدار الكتاب المصرية، وقد ترجم فيه لولاة مكة وأعيانها وعلمائها وأدبائها، منذ ظهور الإسلام حتى عصره، وبدأ بالمحمدين والأحمدين، وفي صدره مقدمة لطيفة تحتوي على مقاصد الكتاب.

_ 1 راجع الضوء اللامع ج7 ص18.

2- تحفة الكرام بأخبار البلد الحرام وهو مختصر لكتابه "شفاء الغرام"، ويسمى أيضا "تحصيل المرام من تاريخ البلد الحرام"، وقد اختصر هذا الكتاب وهو "تحفة الكرام" في كتاب عنوانه "هادي ذوي الأفهام إلى تاريخ البلد الحرام"، واختصر هذا الكتاب الأخير في كتابه له بعنوان "الزهور المقتطفة في تاريخ مكة المشرفة". 3- عجالة القرى للراغب في تاريخ أم القرى. 4- الجواهر السنية في السيرة النبوية. 5- منتخب المختار المذيل به على تاريخ ابن النجار1. وقد توفي الفاسي ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شهر شوال المكرم عام 832هـ بمكة المشرفة بعد أن اعتمر في السابع والعشرين من رمضان من العام المذكور. وكتاب شفاء الغرام هذا من أروع ما أبدعه مؤرخ عربي من حيث الدقة والأمانة العلمية والروعة في البحث والتحليل والاستقصاء والاستنتاج، ولا يعرض الفاسي لموضوع من موضوعات بحثه في الكتاب إلا ويذكر الآراء فيه وينقدها ويرجح بينها؛ مؤيدا كلامه بالدليل تلو الدليل، وقد دون فيه الفاسي أخبار مكة بتفصيل كثير، وإحاطة شاملة، ويعد من المصادر الأصيلة في هذا الموضوع بعد كتاب الأزرقي المتوفى نحو عام 250هـ، والفاكهي المتوفى نحو عام 280هـ، وقد رتبه الفاسي على أربعين بابا، تحدث فيها رحمه الله عن مكة وألم بالطائف وجدة، ولم يعرض للمدينة المنورة؛ لذلك رأينا إضافة كتاب ابن النجار في تاريخ المدينة كملحق لهذا الكتاب إتماما للفائدة واستكمالا للنفع. وترجع أهيمة الغرام إلى استقصائه واستيعابه وجمعه لشتى الأخبار التي تتعلق بمكة وحرمها، مما لم يجمعه مدون بعد كتابي الأزرقي والفاكهي، وإلى نقله عن مصادر تاريخية تعد اليوم مفقودة. والكتاب كما يقول المرحوم الأستاذ محمد مبروك نافع في تصويره له: "ليس كتابا لتاريخ مكة السياسي فحسب؛ بل هو بفصوله الأربعين يعتبر دائرة معارف شاملة لهذا البلد الحرام وما يتصل به من النواحي العمرانية والدينية والثقافية والاجتماعية، وفيه من هذه النواحي ما لا يوجد في كتاب آخر من كتب التاريخ المعروفة". والباب الخاص بولاة مكة في الإسلام يعد كتابا ضخما مستقلا بذاته، وهو من أمتع ما كتبه الفاسي.

_ 1 منه نسخة مخطوطة سنة 830هـ، في مكة المكرمة.

وبعد، فإن كتاب الفاسي بحق دائرة معارف رفيعة في تاريخ الإسلام والبلد الحرام والبيت والكعبة، وفي التاريخ العربي بوجه عام. ونحن على ثقة من أن مجهود الفاسي في هذا الكتاب يكاد لا يضارعه مجهود مؤلف آخر، وشفاء الغرام أول كتاب كامل يطبع للفاسي، وقد سبق الأوروبيون فطبعوا في أوروبا منتخبات منه منذ نحو ثمانين عاما. وإن الثقافة العربية لتستبشر اليوم بظهور هذا الكتاب كاملا في ثوب أنيق، وطباعة جميلة. ونحب أن نشير هنا إلى أن في الكتاب كثيرا من الشعر المهلهل النسج، المضطرب الوزن، وفي بعضه ما لا يظهر معناه. ولولا المحافظة على الأمانة والدقة لألغينا الكثير منه، خاصة، وأن مراجعه معدومة؛ إذ لا يوجد في كتاب آخر وقع في يدنا غير "شفاء الغرام". ويبدو أن نسخ الكتاب كلها قام بنسخها أعاجم فحرفوا كثيرا من الشعر الوارد في الكتاب الذي يصعب فهمه على غير العناصر العربية، فأبدلوا كلمة بأخرى؛ مما جعل الشعر يضطرب. ويوجد في "شفاء الغرام" نسخة في برلين برقم 9753، ونسخة ثانية في غوطا بألمانيا برقم 1706، ونسخة أخرى في باريس برقم 1633، وأخرى في الآستانة برقم 816، وأخرى في مدينة فاس برقم 1282. وقد ساعدنا الحظ في العثور على نسخة خطية جديدة من الكتاب أثناء طبع الجزء الثاني، وهي برقم 2067 تاريخ، وكانت في مكتبة طلعة بالقلعة، ولم تبح دار الكتب المصرية الاطلاع على مخطوطات هذه المكتبة إلا منذ أمد قريب مما سهل علينا العثور على هذه النسخة، وقد صورناها تصويرا "فوتوغرافيا" وراجعنا عليها أصول الجزء الثاني؛ وذلك من بدء الملزمة الثالثة والعشرين، وهذا هو السر في تأخر صدور الجزء الثاني قليلا عن موعده الذي كنا عازمين على إخراجه فيه، وتقع هذه النسخة في 654 صفحة، وهي أوضح قليلا من النسختين الخطيتين الأخريين للكتاب، وإن كانت لا تختلف في قليل ولا في كثير عن نسخة دار الكتب المصرية الخطية الأخرى. وقد نشرت مجلة المنهل الحجازية الغراء كلمة في عددها الأخير الذي ظهر أثناء طبع هذه الخاتمة للأستاذ إبراهيم الدروبي ببغداد أشار فيها إلى أن بالمكتبة القادرية ببغداد نسخة خطية من "شفاء الغرام" رقم 663، وقياسها 28 سم 20 سم، وعدد أسطر صفحتها 25 سطرا، ومجموع صحائفها 682 صفحة، وهي ناقصة الصحيفة الأولى والورقة الثالثة كلها ويظن أن ثلثي الكتاب من أوله من خطوط أهل القرن العاشر للهجرة، والباقي من خطوط القرن الثاني عشر للهجرة.

وللأستاذ الأجلاء: الشيخ العلامة حمد الجاسر والسيد المحقق محمد سعيد العامودي والأستاذ عبد القدوس الأنصاري، والأستاذ عبد الله عبد الجبار الشكر على توجيهاتهم الصائبة لنا أثناء طبع الكتاب. ونحن هنا نعتذر للقارئ عن بعض الأخطاء المطبعية التي حاولنا جهدنا التخلص منها؛ ولكن دائما الكمال لله وحده. كما نرجو أن يوفقنا الله في القريب العاجل لإخراج دراسة تفصيلية عن الكتاب ومخطوطاته التي وصلت إلينا، مع فهارس الأعلام والأماكن التي تفضل الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم مدير الشؤون المكتبية بدار الكتاب المصرية بالقيام بعملها. ولا يفوتنا في هذا المقام تقديم خالص الشكر لمدير دار إحياء الكتب العربية وعمالها جميعا، ونخص بالشكر الأستاذ سليم الحلبي مدير المطبعة، والسيد إبراهيم كامل رئيسها لما قاما به من جهد مشكور في معاونتنا في إخراج وطبع هذا الكتاب القيم بهذه الصورة اللائقة. ونحن نحمد الله أخيرا على فضله وتوفيقه، وعلى أن سدد خطانا إلى الصواب، ونسأله مزيد السداد، وأن يلهمنا الحق، ويعرفنا إياه أنه أكرم مأمول، وأفضل مسؤول، وما توفيقنا إلا بالله عليه نتوكل وإليه ننيب.

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات: الباب السادس والعشرون: في ذكر شيء من خبر إسماعيل عليه السلام وذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: 3 في ذكر شيء من خبر إسماعيل -عليه السلام 10 ذكر ذبح إبراهيم لإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- الباب السابع والعشرون: في ذكر شيء من خبر هاجر أم إسماعيل عليه السلام وذكر أسماء أولاد إسماعيل وفوائد تتعلق بهم وذكر شيء من خبر بني إسماعيل وذكر ولاية نابت بن إسماعيل للبيت الحرام 19 ذكر شيء من خبر هاجر؛ أم إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- 22 ذكر أسماء أولاد إسماعيل، وفوائد تتعلق بذلك 26 ذكر شيء من خبر بني إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- 29 ذكر ولاية نابت بن إسماعيل -عليه السلام- للبيت الحرام الباب الثامن والعشرون: في ذكر ولاية إياد بن نزار بن معد بن عدنان للكعبة وشيء من ذكر ولاية بني إياد بن نزار للكعبة وشيء من خبرهم وخبر مضر ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش 30 ذكر ولاية إياد بن نزار بن معد بن عدنان للكعبة 33 ذكر ولاية بني إياد بن نزار وخبر مضر ومن ولي الكعبة من مضر قبل قريش

الباب التاسع والعشرون: 38 ذكر من ولي الإجازة بالناس من عرفة ومزدلفة ومنى من العرب في ولاية جرهم وفي ولاية خزاعة وقريش على مكة الباب الثلاثون: في ذكر من ولي إنساء الشهوء من العرب بمكة وصفة الإنساء، وذكر الحمس، والحلة، والطلس 48 ذكر من ولي إنساء الشهور من العرب بمكة 49 ذكر صفة الإنساء 51 ذكر الحمس والحلة 53 ذكر الطلس الباب الحادي والثلاثون: في ذكر شيء من خبر خزاعة ولاة مكة في الجاهلية ... إلخ 54 ذكر نسبهم 58 ذكر سبب ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية 59 ذكر مدة ولاية خزاعة لمكة في الجاهلية 60 ذكر أول من ولي البيت من خزاعة، وغير ذلك من خبر جرهم 68 ذكر شيء من خبر عمرو بن عامر الذي ينسب إليه خزاعة وشيء من خبر بنيه الباب الثاني والثلاثون: في ذكر شيء من أخبار قريش بمكة في الجاهلية وشيء من فضلهم وما وصفوا به وبيان نسبهم وسبب تسميتهم بقريش وابتداء ولايتهم للكعبة وأمر مكة 73 ذكر شيء من فضلهم وما جاء في أنهم خير العرب 73 ما جاء في أن الخلافة لا تزال في قريش 73 ما جاء في عقوبة من عادة قريشا 74 ذكر ما وصفت به بطون قريش 75 ذكر أهل البطاح والظواهر والعارية والعائدة من قريش 76 قريش العائدة 77 ذكر بيان نسب قريش 79 ذكر سبب تسمية قريش بقريش وما قيل في ذلك 80 ذكر ابتداء ولاية قريش الكعبة المعظمة ومكة

الباب الثالث والثلاثون 91 في ذكر شيء من خبر بني قصي بن كلاب 91 توليتهم لما كان بيده من الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والقيادة وتفسير ذلك الباب الرابع والثلاثون 110 في ذكر شيء من خبر الفجار والأحابيش 112 ذكر يوم العبلاء 112 ذكر يوم شرب 113 ذكر يوم الحريرة 115 ذكر الفجار الأول وما كان فيه بين قريش عيلان وسبب ذلك 117 ذكر شيء من خبر الأحابيش ومحالفتهم لقريش الباب الخامس والثلاثون: في حلب الفضول 118 ذكر شيء من خبر حلف الفضول 124 ذكر شيء من خبر ابن جدعان الذي كان في دار حلف الفضول 128 ذكر شيء من خبر أجواد قريش في الجاهلية 128 ذكر الحكام من قريش بمكة في الجاهلية 129 ذكر تملك عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي على قريش بمكة وشيء من خبره الباب السادس والثلاثون: في ذكر شيء من خبر فتح مكة وفوائد تتعلق به 131 ذكر شيء من خبر فتح مكة 146 ذكر فوائد تتعلق بفتح مكة الباب السابع والثلاثون 188 في شيء من ولاة مكة المشرفة في الإسلام 208 الدولة العباسية الباب الثامن والثلاثون 253 في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام

الباب التاسع والثلاثون: في ذكر شيء من أمطار مكة وسيولها في الجاهلية والإسلام وشيء من خبر الصواعق بمكة، وذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة على ترتيب ذلك ففي السنين 314 سيول مكة في الجاهلية 314 سيول مكة في الإسلام 325 ذكر شيء من أخبار الغلاء والرخص والوباء بمكة المشرفة على ترتيب ذلك في السنين الباب الأربعون: في ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها وشيء من خبرها وذكر شيء من خبر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام، وذكر شيء مما قيل من الشعر في الشوق إلى مكة المشرفة وذكر معالمها المنيفة 336 ذكر الأصنام التي كانت بمكة وحولها وشيء من خبرها 337 ما جاء في أول من نصب الأصنام وما كان من كسرها 340 ذكر ما جاء في اللات والعزى وما جاء بعدها 341 ذكر أسواق مكة في الجاهلية والإسلام 345 ذكر شيء مما قيل من الشعر في التشوق إلى مكة الشريفة وذكر معالمها المنيفة 355 خاتمة المؤلف للكتاب: الملحق الأول: ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام" 359 ولاة مكة بعد الفاسي مؤلف "شفاء الغرام" الملحق الثاني: في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة 379 مقدمة: بقلم اللجنة التي أشرفت على تحقيق الكتاب 383 مقدمة المؤلف 385 الباب الأول: في ذكر أسماء المدينة وأول من سكنها 386 ذكر سكنى اليهود الحجاز 387 ذكر نزول أحياء من العرب على يهود 388 ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة

389 ذكر قتل يهود واستيلاء الأوس والخزرج على المدينة 390 الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة 391 الباب الثالث: في ذكر هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه 394 الباب الرابع: في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها 395 ما جاء في ثمرها 396 ما جاء في انقباض الإيمان إليها 396 ما جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بالبركة 396 ما جاء في الصبر على لأوائها وشدتها 397 ما جاء في ذم من رغب عنها 397 ما جاء في ذم من أخاف المدينة وأهلها 397 ما جاء في منع الطاعون والدجال من دخولها 399 ذكر ما يؤول إليه أمرها 399 تضعيف الأعمال بها 399 فضيلة الموت بها 400 الباب الخامس: في ذكر تحريم النبي للمدينة وحدود حرمها 401 الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله 403 الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها 408 الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضل الشهداء به 413 الباب التاسع: في ذكر إجلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير من المدينة 414 الباب العاشر: حفر النبي -صلى الله عليه وسلم- الخندق حول المدينة 417 الباب الحادي عشر: في ذكر مقتل بني قريظة بالمدينة 419 فضيلة المسجد والصلاة فيه 421 ذكر حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- 423 ذكر مصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل 424 ذكر عمل المنبر 426 ذكر الروضة 427 ذكر سد الأبواب الشوارع من المسجد، ذكر تجميره، ذكر تخليقه منع آكل الثوم من دخوله

428 النهي عن رفع الصوت فيه، جواز النوم فيه، جواز الصوم على الجنائز فيه، النهي عن إخراج الحصى منه، ذكر مواضع تأذين بلال 429 ذكر أهل الصفة رضي الله عنهم 430 ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة 430 ذكر موضع اعتكاف النبي -صلى الله عليه وسلم- 430 ذكر أسطوانة التوبة 431 ذكر أسطوانة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يصلي إليها 431 ذكر أسطوانة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كان يجلس إليها إذا جاءه الوفود 432 ذكر أسطوانة علي بن أبي طالب رضي الله عنه 432 ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين المسجد 432 ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد 434 ذكر زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه فيه 435 ذكر زيادة الوليد بن عبد الملك فيه 437 ذكر زيادة المهدي فيه 439 ذكر الستارة التي كانت على صحن المسجد 439 ذكر المصاحف التي كانت بالمسجد 440 ذكر السقايات التي كانت في المسجد 440 ذكر ذرع المسجد اليوم وعدد أساطنيه وطبقاته وأبوابه 442 الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها 445 الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه 446 الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه رضي الله عنهما 451 ذكر وفاة أبي بكر رضي الله عنه 452 ذكر وفاة عمر رضي الله عنه 460 الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- 464 الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله 468 الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة ومن بعدهم الملحق الثالث: في العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة 473 العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى اليوم وفوائد أخرى عن المدينة

478 المسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية 481 سير العمل في العمارة الجديدة 483 المباني التي هدمت 485 وصف المسجد النبوي الشريف بعد التوسعة 486 أبواب الحرم النبوي الشريف 488 حول عمارة المسجد النبوي الشريف، أسئلة موجهة من الحاج عبد الشكور فدا إلى سعادة الشيخ صالح القزاز وإجابة فضيلته عليها الملحق الرابع: بعض آثار المدينة والمزارات وغيرها 493 مساجد المدينة المنورة 496 القصور التاريخية بالمدينة 497 خزانات ماء الشرب 499 كلمة الختام

§1/1