شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام

النعمان عبد المتعال القاضي

المقدمات

المقدمات تقديم ... بسم الله الرحمن الرحيم: تقديم: بقلم الأستاذ الدكتور شوقي ضيف أستاذ الأدب العربي بآداب القاهرة والمشرف على البحث: يصحح هذا البحث ما كان قد استقر في نفوس كثرة الباحثين من أن الشعر العربي ظل في عصر صدر الإسلام ثابتًا عند موضوعاته ومعانيه القديمة، وأن الإسلام لم يخلف فيه آثارًا واضحة إلا بعض خيوط ضئيلة مبثوثة في قصائد شعراء المدينة، أما من وراءهم من شعراء نجد وغير نجد فقد ظلوا لا يتحولون ولا ينحرفون بأشعارهم عن صورة الشعر الجاهلي وما عبر عنه من مشاعر وأحاسيس وأفكار وأخيلة. وكأن الشعراء حينئذ لم يمس الإسلام قلوبهم ولا نفوسهم مع تحولهم من الحياة الوثنية المادية إلى حياة الدين الحنيف الروحية، ومع تلاوتهم للقرآن الكريم وما يصور من عظمة الله وجلاله، ومع استئصال الإسلام لما كان في حياتهم من رذائل وآثام، ومع إحيائه لضمائرهم واستشعارهم مراقبة الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومع تبتلهم إليه وعباداتهم ورفضهم لعرض الدنيا الزائل انتظارًا لما عنده من النعيم الدائم، ومع جهادهم في نشر الإسلام وبذل أرواحهم في سبيله مخلصين صادقين. وفي ذلك مخالفة صريحة لطبائع الأشياء؛ إذ لا يستطيع أحد أن ينكر أن للأحداث الجسام آثارًا عميقة في حياة الناس ما تلبث أن تترك ظلالها وأصداءها في شعرائهم وما ينتجون من شعر، وهل الشعر إلا تعبير عن حياة الناس وكل ما يؤثر فيها من أحداث. ولم يكن الإسلام حدثًا جسيمًا فحسب، بل كان حدثًا خطيرًا في حياة العرب الروحية والاجتماعية والسياسية، فقد أخرجهم من عالم التعبد للأوثان وقُوَى الطبيعة إلى عالم التوحيد والإيمان بالكائن الأعلى مدبر الكون

ومنشئه، ومن عالم البغي والظلم والعدوان واقتراف الآثام إلى عالم الأمن والعدل والمساواة والأخلاق الفاضلة، ومن عالم التشتت في وحدات قبلية متنابذة إلى عالم التجمع في أمة واحدة متكافلة متعاونة يشد بعضها بعضًا كالبنيان المرصوص. وطبيعي أن يترك ذلك كله آثارًا بعيدة في نفوس العرب، وأن يدفعهم إلى أنحاء جديدة من الإحساس والشعور والتفكير، إلا أن تكون عوائق تصدت لهم وصرفتهم عن الإسلام ودعوته وهداه، وهو ما لم يحدث، إنما الذي حدث أنهم آمنوا به أخلص الإيمان وأصدقه، وقاموا دونه يحمونه بسيوفهم وأرواحهم، حتى إذا أضاءت أقباسه في جميع أرجاء الجزيرة حملوها إلى أقطار الأرض في الشرق والشمال والغرب. ليس من شك إذن في أن العرب قد تأثروا بالإسلام تأثرًا عميقًا، يستوي في ذلك الشعراء وغير الشعراء، وما كان الشعراء ليحرموا هذا التأثر، وهم يمتازون بدقة الحس ورقة الشعور وبتهيئهم دائمًا لتلقي الانطباعات من عصورهم وبيئاتهم. وكأنما غابت كل هذه الحقائق عن كثرة الباحثين في أدبنا العربي، فإذا هم يرددون أن روحانية الدين الحنيف لا تظهر في شعر صدر الإسلام ظهورًا بينًا، وهو ترديد مرده -في رأينا- إلى أنهم لم يطلعوا إطلاعًا كافيًا على مادة هذا الشعر ولا أحاطوا بها إحاطة دقيقة. وقد رأى السيد النعمان القاضي أن يدرس جانبًا من هذه المادة الغزيرة، محاولًا أن يكشف فيه عن التأثيرات الإسلامية التي لم يتبينها هؤلاء الباحثون، واختار شعر الفتوح الإسلامية موضوعًا لدرسه، ومضى يستقصيه في مظانه الكثيرة من أدبية وتاريخية وجغرافية، باذلًا في ذلك كل ما يملك من قوة وجهد ووقت، غير حافل بعناء ولا بمشقة، حتى إذا استقصاه استقصاء دقيقًا أخذ يخضعه للدرس العلمي المنظم، واضعًا بين يديه تاريخ الفتوح ووقائعها الكثيرة، ونافذًا إلى تذوق الشعر ونقده وتحليله ورسم شخصيات الشعراء رسمًا دقيقًا، وكان كثير منها مجهولًا لمؤرخي الأدب العربي أو كالمجهول. وقد استهل البحث بدراسة مفصلة للفتوح في صدر الإسلام، وما تطاير في وقائعها من أشعار كثيرة، مقارنًا بين ما نظم منه في مختلف الميادين، شرقية

وشمالية وغربية، من حيث بيئاته الجديدة وظروفها المختلفة، ومن حيث تسجيله للأحداث والمعارك، ومن حيث وفرته وقلته وحظوظ القبائل المضرية واليمنية، واختلاف هذه الحظوظ باختلاف مواهبها الشعرية. ثم درس شعراء الفتوح دراسة قويمة وزعهم فيها على ثلاث طوائف: طائفة كانت تصوغ الشعر وتنظمه في الجاهلية قبل دخولها في الإسلام، وطائفة لم تكن تصوغه ولا كانت تنظمه قديمًا، فقد أنطقتها به وأسالته على لسانها الفتوح ومعاركها الدائرة، وطائفة لم تعرف أسماؤها ولا تبين الرواة أشخاصها، واتخذ من عمرو بن معديكرب الزبيدي مثالًا للطائفة الأولى وصوَّر شخصيته تصويرًا تامًّا، كما اتخذ القعقاع بن عمرو التميمي مثالًا للطائفة الثانية مبرزًا فيه صورة الشاب العربي المسلم الذي تمثل أشعاره استبساله العنيف في سبيل عقيدته وتراميه على حياض الموت ابتغاء رضوان الله وحسن مثوبته. وأخذ بعد ذلك يدرس شعر الفتوح مستنبطًا مقوماته وانطباعاته وخصائص معانيه وأساليبه، ولاحظ شيوع الأراجيز والمقطوعات القصيرة فيه وفاء بحاجة المجاهدين إلى أناشيد قصيرة تستثير حماستهم وتشعل حميتهم، كما لاحظ تطورًا واضحًا في موضوعاته القديمة بتأثير الدوافع الإسلامية التي رافقتها وما صبته فيها من إشعاعات روحية. وتبين بجانب ذلك موضوعات جديدة لم يكن للعرب بها عهد، في مقدمتها حنين مؤثر كان يعصف بقلوب هؤلاء المحاربين حين يذكرون أوطانهم في الجزيرة ومن تركوا فيها من أهليهم وذويهم، ووصف لبعض مظاهر الطبيعة وألوان الحضارة في أوطانهم وبيئاتهم الجديدة. ووقف طويلًا عند الطوابع الإسلامية في أشعار هؤلاء الفاتحين، وما أذاعوا فيها من روح الإسلام ومثاليته، وألفاظ القرآن الكريم ومعانيه ودعوته إلى التفكير في خلق السماوات والأرض والعظة بالأمم الدائرة، حتى إذا أكمل تصوير هذا الجانب تصويرًا دقيقًا بسط الحديث فيما ساد هذه الأشعار من طوابع شعبية لاشتراك ألسنة كثيرة فيها معروفة ومجهولة، ولدورانها في قصص شعبي كانوا يحكونه عن الأبطال والفرسان الفاتحين، ولما اتسمت به من قصر وسهولة وما

يتضح في كثير من جوانبها من أنها نظمت عفو الخاطر بديهة وارتجالًا دون تقويم أو تثقيف. والبحث بذلك كله يفتح صفحة جديدة في مباحث الأدب العربي بعرضه لأول مرة شعر الفتوح الإسلامية ودارسته دراسة علمية فاحصة تكشف عن جوانبه وطوابعه الإسلامية وخصائصه الفنية كشفًا تامًّا دقيقًا إلى أبعد حدود الدقة، وقد استطاع به السيد النعمان القاضي أن يحمل أساتذته في كلية الآداب بجامعة القاهرة على أن يمنحوه درجة الماجستير في الآداب بلقب ممتاز أرفع ألقاب النجاح، وأنا أهنئه أخلص التهنئة بما بذل في بحثه من جهد علمي خصب، وما أدرك به من فوز جدير به، ولله ولي الهدى والسداد. دكتور/ شوقي ضيف

مقدمة

مقدمة: موضوع هذا الكتاب "شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام"، وهو يتناول الدراسة الفنية في شعر المحاربين من العرب المسلمين في فترة مشرقة من فترات تاريخهم، بل لعلها أكثرها إشراقًا، فهي الفترة التي تزخر بأسمى المشاعر الروحية الإسلامية، ويتجلى فيها أثر الإسلام عقيدة وفكرة في نفوس العرب، وفي حملهم على البذل والتضحية والفداء، كما أنها تصور الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام عن طريق الارتقاء بالنوازع الوجدانية القبلية والفردية الضيقة الحدود إلى وجدان متوحد، من أجل هدف واحد نبيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102، 103] . وإلى جانب هذا التمثيل الصادق للأخوة الإسلامية تمثل العرب دينهم خير دين ارتضاه الله لهم، وأن نبيهم الذي بعث فيهم إنما بعث إلى الناس كافة، وأنهم هم ورثته في هداية هذه الأمم الضالة إلى طريق الحق، وقد خلق هذا في نفوسهم شعورًا متوثبًا، لا يقنع بالانطواء على ما تأجج في صدورهم من ألق العقيدة، فاندفعوا ينتشرون بهذا الشعور خارج حدودهم إلى الشرق والشمال والغرب، لا يأبهون بقوة في الأرض، وهم على ثقة كاملة من نصر الله لهم، وكلهم أمل في إحدى الحسنيين، الشهادة أو الظفر. وشعر الفتوحات الإسلامية في هذه الفترة يرسم صورة مشرقة للانطلاقة الهائلة الواسعة، التي انتزعت العربي من حيزه الضيق لتطوف به في أرجاء ممتدة وبعيدة لم يستشرفها من قبل، كما أنه يرسم صورًا رائعة للفروسية العربية في ذلك الإطار الجديد الذي وضعه الإسلام لتقاليدها، وصورًا رائعة أخرى للإيمان القوى، والتصديق العميق بما وُعد به المؤمنون المجاهدون، ولصنيع هذا الإيمان بتلك

النفوس؛ من اكتشافها لذواتها، ومعرفتها بقدرها، فراحت من ثم تدك بإيمانها معاقل الأكاسرة وعروش الأباطرة والجبابرة، وتقود ولاياتهم إلى حظيرة الإسلام. وعلى هذا: فإن شعر الفتح بتصويره للآثار النفسية لما تمثله العرب من روح الإسلام، يكشف في جلاء عن الأسباب الفاعلة في انتقال هذه الأمة من ضلال وضعف وتخبط في عمايات الفتن والتناحر، إلى ما صارت إليه من اقتدار على رسم خريطة جديدة للعالم وقتذاك. وفضلًا عن ذلك يرسم شعر الفتح صورًا لبأس المسلمين في حومات الوغى وزحمات القتال، لا يغادر في سبيل ذلك معركة أو اشتباكا، حتى ليعد وثيقة تاريخية هامة في هذا السبيل، تسجل النتائج الناجمة عن الفتوح، من احتكاك بالبيئات الجديدة، وتأثر النفوس العربية المنطلقة بتلك الأجواء الغربية في طبيعتها وحياتها، وسبل هذه الحياة، وعما استحدثته في ظروف البعد عن المواطن الأولى، من استشعار الاغتراب والحنين، وعن هجرة البذور الأولى للشعر العربي إلى الأمصار والمناطق المفتوحة، وتصوير حياة المسلمين في هذه البقاع، وعلاقاتهم بأولي الأمر فيها قبل استقرار المجتمعات الإسلامية. وقد عنيت في هذا الموضوع الذي يتخذ تلك الفترة المهمة من تاريخ الإسلام مسرحًا له باستجلاء طبيعة الفتوح ومظاهرها، وطوابع الشعر، وخصائص الشعراء، متوخيًا بتلك العناية أن أعرض شعر الفتوح الإسلامية في معارض شتى، مكسوة بالتاريخ، ومحفوظة بتأثيرات الدين الجديد وروحه ومثله في نفوس المسلمين، لما لهذه الفترة من ارتباط وثيق بالدين الحنيف، ولما لهذه الفتوحات من صلة وثيقة بروح الأمة الإسلامية في هذا الزمان، وارتباطها بتصوير مجدها وعزها. فشعر المعارك الحربية كان أبدًا ودائمًا ولدى جميع الأمم سجل فخرها، وعنوان بأسها وأناشيد بطولتها، وقد اخترت أن تكون رسالتي في هذا السبيل وسيلة متواضعة للفت أمتنا العربية في عزة حاضرها وتوثبها إلى مجد ماضيها وعظمته، واجتلاء تصوير الشعر لما اضطلع به المسلمون الأُوَل من واجبات مقدسة ضخمة في سبيل نشر معتقدهم، وما عانوا في هذا السبيل من حياة القلق والحركة

والانتشار والتمدد، وما قاسوا من مشقات النزوح والهجرة وأهوال الحروب وقسوة المعارك، والصراع الدامي في ملحمة لم يعرف تاريخ العقائد لها مثيلًا على مر العصور وكر الدهور. وقد سدد عزيمتي إلى ذلك أن في الإمكان أن نجتلي في شعر هذه المعارك -برغم قسوتها- عواطف إنسانية عالية من النجدة والفداء، والإيثار والتضحية، والذود عن العقيدة، والتمكين لها في إطار من التاريخ، وأن ننظر في مظاهر الحقائق خلال معارض من الأخيلة والعواطف، فترى الشعر على صنع الخيال وتهويله معربًا عن حقائق التاريخ، مبينًا عقيدة الإنسان وبساطة إنسانيته وسموها. ولا شك أن تصوير الشعر لهذا الحديث الفذ في تاريخ العقيدة الإسلامية ليس إلا تصويرًا لجوانب الحياة الإسلامية عامة في نفس الوقت؛ إذ إن الحقيقة التي لا جدال فيها أن الفتوح كانت أهم ما شغل حياة المسلمين، سواء من كان منهم تحت ظلال السيوف أو على حافة الميادين، فما من شك في أنهم كانوا يتنسمون أخبارها، ويترقبون ما يمكن أن تسفر عنه هذه الحركة الهائلة. فإذا بأنبائها من يوم إلى آخر تطلع عليهم في أقاصيص ممتزجة بغبار الوقائع وصهيل الخيل وصليل السيوف وصياح المحاربين، وإذا بهذه الروايات تنتشر في ربوع الديار العربية لتشغل كل اهتمامات المسلمين، ولتصبح زادًا لسمرهم، لا يزالون يقصونها ويزخرفونها ويعجبون بها. ولهذا اندفعت في اختيار هذا الموضوع مقدرًا أهميته التي تتجلى في تصوير هذه الاهتمامات، التي استنفدت منازع المسلمين وشغلهم، وتصوير تلك الحياة الوجدانية الثرة، وتلك التجارب الطريفة التي تعرضوا لها في ظروف جديدة عن حياتهم السابقة كل الجدة، فصاغوها بما تأتي لهم من مشاعر، فكان هذا الشعر الذي يمثل وثيقة تاريخية ونفسية خطيرة في تاريخ الأدب العربي، من حيث كونه مرحلة حية من مراحله طالما أنكرها الدارسون وتجافوا عنها، ومروا عليها عابرين، لا يكلفون أنفسهم أكثر من أن يعزوا إليها موات الشعر أو خموده وضعفه؛ لغلبة النشاط الفكري الإسلامي عليه، نتيجة الاستعاضة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وتعاليم الدين.

قدرت هذا وتأتَّى لي أن أرى هذه المرحلة ليست كما وصفت، وإنما هي فترة حية، لم تستطع الظروف القاسية التي رافقتها من حركة الفتح والهجرات والصراع أن تذهب فيها بالمواهب الفنية للنفس العربية التي ألفت الشعر ومرنت عليه، وما كان لهذا التيار المتدفق عبر القرون من الماضي النفسي والوجداني البعيد لهذه الأمة أن ينقطع في هذه المرحلة ليتصل من جديد، أو يمحى ليخلقه العرب فيما بعد خلقًا آخر في عصر بني أمية، على ضخامة ما رافق هذه المرحلة من أحداث شملت جوانب الحياة الإسلامية. ولقد يبدو غريبًا ونحن نعتبر شعر الحرب أناشيد بطولة الأمة وسجل عزها وخلودها ألا نجد في الدراسات الأدبية عناية بشعر الشعراء المحاربين في هذا الآونة، بل إننا لنعجب أن كثرتهم مجهولون ومغمورون، وبعيدون عن الأضواء، ومحرومون من الاحتفال بحيواتهم وشخصياتهم وشعرهم! ولقد سلكت إلى قصدي نهج التبويب والتفصيل والترقيم، معتمدًا على التحليل والتركيب حينًا، والمقارنة والنقد حينًا آخر؛ لاستجلاء المقومات والطوابع الفنية للشعر، وربطها بمسبباتها والأصول التي صدرت عنها، ونظرت إلى موضوعي الذي آثرته فوجدت أن بعض الدارسين يربطون بين هذا الشعر وبين شعر الملاحم، ويفترضون أن هذه الأشعار المفرقة ليست إلا ملحمة في حاجة إلى النظم، فكان ضروريًّا أن أعقد تمهيدًا أقرر فيه حقيقة شعر الفتح وغنائيته، وأفرق بينه وبين شعر الملاحم القصصي الذي يختلف عنه في شروطه وقواعده، ثم وجدت أن الشروع في استكناه مقومات شعر الفتح يستوجب دراسة الفتوح ذاتها كوعاء لهذا الشعر، وتلك بدورها بحاجة إلى دراسة تلك الدوافع التي انثال المسلمون بوحي منها، ينساحون في الأرض حاملين في مواضع الاعتقاد منهم الأمن والثقة والأمل بما وُعدوا، إلى جانب الدعوة لهذا الدين الذي ارتضوه، وكان على الدارس إزاء هذا أن يتعقب هذا الانطلاق في إطار التاريخ شرقًا وغربًا وشمالًا وفي كل اتجاهاته؛ ليعرض من ثم لمواكبة الشعر للأحداث في الميادين المختلفة، متتبعًا الشعراء ومدى خصبهم وأصالتهم وأسباب ذلك، الأمر الذي يستدعي بالضرورة تصنيف الجيوش والإمدادات تصنيفًا يتعقب هذه الأصالة الفنية

وثراء الروح الشعري بين القبائل، مما سيترتب عليه اختلاف حظوظ الميادين المختلفة في وفرة النتاج الشعري أو قلته أو قدرته، ووسم الأمصار الإسلامية فيما بعد الفتوح بهذه الصفات على اختلافها. وهكذا يذهب الباب الأول الذي يعالج الشعر في الفتوح بفصوله الثلاثة في هذا السبيل، بينما يذهب الباب الثاني الذي يعالج شعراء الفتح في التعريف بهم، ومناقشة ما يشيع حولهم من مشكلات، سببها تنوعهم وتعددهم بين شعراء قدماء مخضرمين، ومحاربين أنطقتهم الفتوح ولم يكن لهم شهرة بالشعر، ومجهولين ينسب شعرهم لغير قائل. وكان طبيعيًّا أن يجد الدارس ضرورة إعطاء نموذج للشعراء المخضرمين الذين أسهموا في الفتوح بسيوفهم وألسنتهم كعمرو بن معديكرب الزبيدي، ونموذج آخر للشعراء المؤمنين الخلص الذين أنتجتهم الفتوحات كالقعقاع بن عمرو التميمي. وبهذا يذهب الباب الثاني بفصوله الثلاثة في شعراء الفتح، ليعقبه الباب الثالث في فصول أربعة، تعالج في دراسة فنية مقومات الشعر وطوابعه، فتتناول في فصل منها أنواعه وموضوعاته، وما تطور منها وما لم يتطور، وما استحدث منها وسبب استحداثه ودواعيه، وتتناول الطوابع الإسلامية في فصل آخر، تتبين خلاله الآثار الإسلامية في هذا الشعر، من صدوره عن وجدان الجماعة، والأخوة الجديدة الإسلامية، وروح الدين ومثله، وتصور أحاسيس المحاربين ومشاعرهم الدينية الجديدة، وما تأتي لهم من صياغة المعاني الإسلامية المتعددة في أشعارهم. وفي فصل آخر تناولت الدراسة ما وسم هذا الشعر من السمات الشعبية، التي بعثها تعلق المسلمين بأحداث الفتوح ورواياتها وزخرفتها والتغني بها، وما وجد من شعر مجهول القائل كثير، وعرضت الدراسة لأحاديث البطولة هذه بين الواقع والأسطورة، ولقصص الفرسان المشاهير وتلونها ونموها وتضخمها، كما حاولت الكشف عن هذه الآثار الناجمة عن كل هذا في الشعر الشعبي.

وأخيرًا تتجمع في الفصل الأخير من هذا الباب الطوابع الفنية الصرفة التي طبعت الشعر، والتي كانت أثرًا من الآثار الإسلامية في الصياغة ونتيجة للظروف المرافقة لولادة هذا الشعر. وكان ضروريًّا بعد هذا، أن تُلَخَّص الدراسة تلخيصًا موجزًا، يكشف عما انتهت إليه وما حاولت أن تحققه. ويتضح من خلال هذا المنهج: ما تهدف إليه الدراسة من تجلية القيم التاريخية والاجتماعية والفنية لشعر الفتح الإسلامي، والتعريف بشعرائه المجهولين، وتسليط الأضواء عليهم، وتبين القيمة الحقيقية لهذا الشعر، كجسر عبر عليه الشعر العربي من العصر الجاهلي إلى ما تلاه من العصور الإسلامية. وإزاء هذا الهدف يجد الدارس نفسه مضطرًّا إلى دراسة حركة الفتح الإسلامي ذاتها باعتبارها وعاء هذا الشعر؛ إذ وجد فيها وزَكَا في أجوائها، وكان أثرًا من آثارها ونتيجة من نتائجها، وفضلًا عن هذا فإن الشعر لا يوجد منفصلًا عن الفتوح، وهو على كثرته متفرق لا يجمع شتاته جامع، وإنما ينتشر في تضاعيف كتب التاريخ الإسلامي المختلفة، وكتب الصحابة والفتوح، والجغرافيا التاريخية، وكتب الأدب، وهذه كلها كتب لا تُعْنَى بهذا الشعر إلا عناية قريبة، تجعل منه شاهدًا لحكاياتها، ومصداقًا لسردها الوقائع وقصها الأحداث، أو زينة لها في أغلب الأحيان. ونفس الأمر يصدق على حركة الفتح ذاتها؛ إذ إن الكتب التي تتناولها لا يهمها إلا مجرد سرد الحوادث، دون النفاذ إلى الروح التي تكمن وراءها كعامل مؤثر في الحياة الإسلامية بعامة، وفي الحياة الأدبية بخاصة. وكذلك لا يهمها أن تكشف النقاب عن هؤلاء الذين قاموا بهذه الحركة، لا تشذ عن ذلك دراسة من الدراسات الأدبية التي تُعْنَى بالعصور المختلفة التي أعقبت الفتوح، فإنها لا تحاول التعرف على حركة الفتح ذاتها، ولا على أولئك الذين اشتركوا فيها وتغنوا بها، وإنما قنعت بأنه كان هناك فتح، ومضت تنظر فيما كان بعد ذلك، دون ربط بين سبب ونتيجة، على الرغم من أنه يبدو منطقيًّا لمن يدرسون العصور الأدبية التي أعقبت الفتوحات الإسلامية، ولمن يدرسون العصور الأدبية في الأقاليم الإسلامية

التي هاجر إليها الشعر أن يعنوا بدراسة حركة الفتح الإسلامي، وما تشتمل عليه من البذور الفاعلة من هجرة الدين واللغة والدم. ولا شك أن المصادر التي تشتمل على شعر الفتح كثيرة ومتعددة، إلا أن المتقدمين من العرب عالجوا هذا الشعر لا بسبيل الفن وقيمه، وإنما فعلوا ذلك لغاية التاريخ، وفي مطالب الأحداث التاريخية والتراجم وما أشبه، كما فعل ابن عبد البر 368هـ بتأريخه للصحابة تأريخًا إجماليًّا في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" حينما يترجم لمن اشترك في الفتوح منهم، ذاكرًا أثارة من شعرهم إن كان له نصيب من الشعر، ومثله في ذلك ابن الأثير 630هـ في "أُسْد الغابة في معرفة الصحابة" وإن كانت تراجمه أوسع، ومقدار ما يروي من الشعر أكثر، وعلى مثل هذا سار ابن حجر العسقلاني 852هـ في "الإصابة في تمييز الصحابة" إلا أن تراجمه أشمل من صنيع سابقيه، وفيها فرصة لإيراد أكثر من رواية للحادثة الواحدة، وإن كان لا يُعْنَى بمناقشة ما يتعارض من الروايات وما يختلف من الأشعار، وبجانب كتب الصحابة هناك كتب التاريخ الإسلامي، وأكثرها اهتمامًا برواية شعر الفتوح "تاريخ الأمم والملوك" لابن جرير الطبري 310هـ، وهو يروي الشعر في ثنايا الوقائع أو في أعقابها، منسوبًا إلى صاحبه أو إلى أحد المسلمين، ومنها أيضًا "فتوح مصر" لابن عبد الحكم على ندرة ما يروي من الشعر، وكذلك "مروج الذهب ومعادن الجوهر" للمسعودي 345هـ، و"فتوح البلدان" للبلاذري 279هـ، وعلى الرغم من قلة ما يرويه من الشعر فإنه ينفرد أحيانًا برواية أشعار لا يرويها كتاب غيره، وكذلك "فتوح الشام" للواقدي 207هـ، و"الأخبار الطوال" وغير ذلك. وفي الحقيقة أن كثرة شعرالفتوح تقع في "معجم البلدان" لياقوت، فهو لا يذكر مدينة أو بلدة أو قرية أو محلة للجند إلا ويروي ما قيل في فتحها من الشعر، ولكنه لا يتحرى في الأغلب ذكر المناسبة القريبة، ولا يحدد الفتح تحديدًا تاريخيًّا قدر تحريه رواية كل ما قيل في فتحها بصورة عامة، قد تشمل عصورًا متعاقبة، دون أن يفصل بين الأشعار فصلًا تاريخيًّا، مما يضطر الدارس في أغلب الأحيان إلى التحقق من الشعر ومن قائله، ورد الشعر والشاعر إلى عصريهما.

ومن كتب الأدب التي عنيت بشعر الفتح "الأغاني"، وذلك في تراجم الشعراء الذين كان لهم بلاء في حركة الفتح، برغم اقتصاره على الترجمة لأولئك المشهورين من الشعراء دون عناية بغيرهم. وكذلك "الشعر والشعراء" لابن قتيبة" و"طبقات الفحول" لابن سلام، وما يرويانه من الشعر قليل إلى جانب ديوان أبي محجن الثقفي، وهو ديوان مفرد، ليس لشاعر من شعراء الفتح ديوان غيره. هذا فضلًا عن كتب أدبية أخرى، لا يجد الباحث فيها غير قصائد قليلة، كذيل الأمالي، والخزانة، وديوان الهذليين، والمؤتلف والمختلف، والمفضليات، والحيوان، وغير ذلك كثير. هذا عن مصادر الشعر. وقد يفيد الباحث من تعددها في التحقيق من أصالة الشعر، وصحة نسبته إلى صاحبه، أما عن المصادر العامة لحركة الفتح وحوادثه فهي كثيرة ومتعددة أيضًا، إلا أنها كثيرًا ما تختلف في تحديد التواريخ التي وقعت فيها بعض المعارك، وقليلًا ما تتفق على وقوع معركة في تاريخ واحد محدد، ونادرًا ما تشير إلى تصنيف الجيوش والإمدادات التي انطلقت من شبه الجزيرة إلى ميادين القتال، أو إلى الكيفية التي خرجت عليها في تصنيفها. ومهمة الدارس هنا أن يحاول مقارنة الأحداث والوقائع في الروايات المختلفة في إطار التاريخ العام، وعلى ضوء ما يروى من الشعر لو كان في ذلك غناء، وتجميع هذه الأثارات من خلال الموضوعات التي لا تقصد إلى ما يبغي، ولم أطرافها ليكون منها -جاهدًا- صورة لتصنيف الجند قريبة من الأصل أو دالة عليه. وكذلك تصعب مهمة الدارس أمام الاختلاط الذي يصادفه في حوادث الفتح وتضارب بعضها، فيعكف على تتبع الروايات التاريخية وتنسيقها، وتحري الدقة في ترتيبها زمنيًّا وميدانيًّا، ووضعها في إطار الخطة الإسلامية العامة للفتوح. ويرجع هذا الاختلاط في حوادث الفتح إلى ما كان من وقوع هذه الأحداث في أكثر من ميدان في آن واحد، وإلى أن فتح بعض البلدان قد تكرر أكثر من مرة لانتقاضها وإعادة فتحها من جديد، وبهذا يؤرخ لفتحها مرتين، أو يكتفي بالتأريخ لها في المرة الثانية دون الأولى، فتضيع الحقيقة ويحدث الاضطراب.

ولا يستطيع باحث في هذا السبيل أن يجحد قيمة الفائدة التي تعود عليه إذا ما اهتدى خلال هذه الدروب الملتوية بدراسات المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل عن الصديق أبي بكر والفاروق عمر، فكثيرًا ما كانت تكشف اللبس وتزيل الغموض، وتقود إلى الحقيقة في التأريخ للفتوح، وفي تحديد المواقع والأماكن، تحديدًا يساعد على اكتمال الصورة التي يحاول الدارس تكوينها، حتى لا يكون حديثه عنها حديثًا مجردًا عائمًا، ولترتبط الأسماء والمواقع بمدلولاتها ارتباطًا وثيقًا. بينما كانت مصادر هذه الدراسة في بابها الخاص بشعر الفتح هي: كتب الصحابة والتاريخ والفتوح والجغرافيا التاريخية والأدب، فإن الباب الثاني الخاص بشعراء الفتح لم يقتصر على الكتب الأدبية الصرفة التي تترجم للمشهورين منهم، وإنما كان من الضروري الاعتماد على كل ما يمت إلى الفتوح بسبب، من كتب التراجم والصحابة والتاريخ والجغرافيا وغيرها. وقد نظرت لدى محاولة الدراسة الفنية لهذا الشعر واجتلاء مقوماته وطوابعه إلى ما سبقني إلى هذا الموضوع أو بما يماثله، من دراسات للشعر الحماسي وشعر الحروب، فوجدت أن المتقدمين قد عالجوه بسبيل مطالب أخرى غير الدراسة الفنية؛ كالتاريخ واللغة في تفسير كلماتها، أو للإعراب في مناقشة وجوه، لا يعنيهم سوى جمعه فحسب، بعد أن يتخيروا أحسنه، دون تصنيف أو تنسيق ينتمي إلى التاريخ أو إلى الفن، ولا يربط بين مختاراتهم سوى وَحْدَة الموضوع. ومن ثم فإن الباحث في هذا السبيل لا يجد دراسة بعينها تتعمق في البحث الفني في مقومات شعر البطولة والحرب، وتُعْنَى بالكشف عن طوابعه بعامة، وفي خلال هذه الحركة الهائلة في تاريخ الإسلام بخاصة. وقد يصادف الدارس كتابًا أو كتابين لبعض الباحثين المحدثين في هذا السبيل فيظن فيهما غناء، ولكنه لا يلبث أن يصاب بخيبة أمل، فهذا كتاب يدرس "المجتمعات الإسلامية في القرنين الأول والثاني الهجريين" ويمهد لهذه الدراسة بدراسة تمهيدية ضافية لحركة الفتح الإسلامي، إلا أنها لا تسلم في أجزائها

التاريخية مما سار عليه الأقدمون، وهدف الدراسة التي يقوم عليها الكتاب في حد ذاته تمهيد لدراسة الظواهر الأدبية المختلفة عن استقرار المجتمعات بعد الفتوح، ومع ذلك فإنها لا تتعرض لشعر الفتح إلا تعرضًا طفيفًا. وهذا كتاب آخر يدرس شعر الحرب في أدب العرب في صدر الإسلام إلى أبي فراس الحمداني، لا يشير إلى الفتح الإسلامي ولا إلى شعره بكلمة واحدة، برغم أن هذه الدراسة تجعل شعر الحرب في العصر الأموي نتاجًا لمنازع الحزبية والتسلط المذهبي وسطوة التاريخ، بينما تجعل شعر الحرب في العصر العباسي نتاجًا خالصًا لمنازع الفن وحده بعد تخلخل تلك السيطرة الحزبية والمذهبية. وكان منطقيًّا أن يأخذ شعر الفتح مكانة قبل هذين العهدين في تلك الدراسة كنتاج لتمثل الفكرة الإسلامية حتى تكتمل الصورة التي عُنِي البحث برصدها. وإزاء هذا النقص يشعر الدارس لدى محاولة تقييم هذا الشعر أن عليه أن يعتمد كل الاعتماد على الانعكاسات الحرة الطليقة لهذا الشعر، وأن يضع النصوص الشعرية وحدها أمام ناظريه، معتمدًا عليها تمامًا في استكناه الأبعاد الفنية ومقومات الشعر وطوابعه، وعلى الله قصد السبيل. النعمان عبد المتعال القاضي

تمهيد

تمهيد: شعر الفتوح وشعر الملاحم: هناك فكرة لا تزال تتردد وتشيع لدى بعض الدارسين، وهي أن الشعر الجاهلي الذي قاله أصحابه في أيام العرب ليس إلا ملحمة عربية كبرى، وإن كانت مقطعة الأوصال، وأن في المعلقات الجاهلية، وفي سائر ما نظم الجاهليون لما يُتنخل منه ملحمة عربية كبرى. وهذه الفكرة تنسحب لديهم أيضًا على التاريخ الحربي للمسلمين، الذي يبدأ بغزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وينحدر إلى حروب الفتوح في ديار فارس وأرض الروم، وسائر الأقطار التي بلغ إليها المسلمون بسيوفهم. فيمثل هذا التاريخ في زعمهم ملحمة، تتكون من أجزاء ملحمية، تصف المعارك وتوجيه العسكر، وثورة العدو واستجاشة العدة، وترسم صورًا للالتحام والكر والفر والإقبال والإدبار، والرمي بالنبل والحجر، والطعن بالسيف والرمح، والخبط بالأعمدة وغيرها. وتصور أيضًا ما ينكشف القتال عنه من قهر أو ظفر، أو اندفاع الفائزين بالغنيمة والفخر، وانطواء الخاسرين على تضميد الجروح وإعداد الثأر1. ويجد هؤلاء الدارسون ما يؤكدون به زعمهم فيما أثير مؤخرًا من دراسات بعض النقاد حول هوميروس وملحمتيه المشهورتين، وما انتهى إليه نفر منهم من الشك في شخصيته وإنكارها، وما قرره هذا النفر من أن اسمه ليس إلا عنوانًا فحسب للطائفة الشعرية التي جمعت من أفواه الأقدمين، وأن هاتين الملحمتين ليستا له بتمامهما. ويظلم هؤلاء الدارسون الذين يعتنقون هذه الفكرة أنفسهم، كما يظلمون الأدب العربي، في محاولتهم المتعفسة إيجاد ملحمة عربية على صورة من الصور، عندما يذهبون إلى أن كل شعر طال أو قصر، وصفت فيه المعارك، وسردت فيه أخبار البطولة، ورويت فيه ملاحمات الجلاد، هو من شعر الملاحم2. ولا يضير العرب في شيء أن يخلوَ أدبهم من الملاحم، وليس يفترض فيهم أن يحتفلوا بهذا الضرب من الشعر، فإن كان فاتهم الاحتفال به فما أشد عسف الدارسين

_ 1 "شعر الحرب في أدب العرب" ص17، 18. 2 "شعر الحرب في أدب العرب" ص16.

الذين يتصيدون لهم في شعر الحرب ما يزعمون أنه يمت إليه بسبب وثيق، وهو في الحقيقة بعيد كل البعد؛ ذلك أن الملحمة الشعرية حكاية لأمر خارق عجيب، أو عمل حماسي عظيم، له أثره في حياة شعب بأسره، وهي فضلًا عن هذا سداها الخرافة، ولحمتها التلفيق. وقد كانت حروب العرب مع الروم والفرس حوادث أساسية خارقة وعجيبة حقًّا، تناولها الشعراء والرواة والقصاصون، وصنعوا فيها القصائد والأناشيد والحكايات، وربما جسموها بالخيال، وموهوها بالمبالغة. لكننا لا نستطيع ان نعد هذا من شعر الملاحم في شيء؛ فشعر الفتوح شعر غنائي، يتغنى فيه المجاهدون بجهادهم وبلائهم، ويفخرون فيه بشجاعتهم وتفانيهم وفعالهم بالعدو. في حين أن شعر الملاحم شعر قصصي، يُعْنَى بحكاية الأحداث في إطار من التهويل والمبالغة، والإغراق في الخيال. وبينما نجد مؤلف الملحمة أو مؤلفيها يحرصون على الاختفاء من عصورهم ليظهروا في عصر الموضوع والأبطال الذين تقوم عليهم ملاحمهم، فلا يكادون يذكرون أنفسهم، ولا يكادون يعنون بالتعبير عن عواطفهم الخاصة فيما يقصون من الحوادث، نجد شاعر الفتوح الإسلامية -شأنه شأن غيره من شعراء الحماسة- لا يملك اختيار موضوع بعينه، وإنما هو يصور ابتداء كل ما يعتمل في وجدانه ومشاعره، وما يعيش خلاله من أحداث يظهر وجدانه الشخصي فيما ظهورًا تامًّا وأساسيًّا، فيغني عواطفه الخاصة فيما يعبر عنه من المشاعر، وما يصوره من الأحداث. وبهذا يدخل شعره في باب الشعر الغنائي عن هذا الطريق، بخلاف شعر الملاحم الذي يدخل في باب الشعر القصصي. على أنه ينبغي أن نلاحظ بعناية ما يذهب إليه بعض النقاد العرب من المزج بين شعر الملاحم والشعر القصصي مزجًا في باب واحد دونما تفريق؛ إذ يعتبرون كلا منهما مثل الآخر1، والحقيقة أن الملحمة قلما تضم شعرًا قصصيًّا، ولكن ليس كل شعر قصصي ملحمة، فإن جاز أن نسمي كل ملحمة شعرًا قصصيًّا فلا يجوز أن نسمي كل شعر قصصي ملحمة.

_ 1 "شعر الحرب في أدب العرب" ص14.

على أن هؤلاء الذين يجعلون القصص الشعري ملحمة يجدون في الأدب العربي ما لا ينقضي جماله، من هذا القصص الكثير. ولكنا لا نستطيع أن نعده شعرًا ملحميًّا في قليل أو كثير، كما لا نستطيع أن نقبل أن يكون شعر الحرب -على إطلاقه- من شعر الملاحم كما زعم البعض. والحقيقة التي لا تقبل الجدل أن العرب لم يحفلوا بالملحمة الشعرية أي احتفال، على الرغم من أننا نجد تاريخهم مملوءًا بالغير والأهوال؛ إذ لم يخلُ في أية حقبة من القتال والنزال من سحيق الجاهلية حتى عصورهم الأخيرة. وليس يجدي شيئًا أن يلتمس هذا البعض للعرب أعذارًا في عدم احتفالهم بها، كمثل قولهم: إنه لو كان أمر الملاحم الفنية لديهم مألوفًا لورثنا عنهم كثيرًا منها1. ويبدو هذا الزعم مجانبًا للصواب؛ إذ إن العرب عرفوا الملاحم منذ استهلال العصر العباسي، فقد كان هوميروس وإلياذته معروفين لديهم بعد نهضة الترجمة في المائة الثانية للهجرة2. ويذكر الشهرستاني عن هوميروس ما يدل على معرفة العرب به؛ إذ يقول: "أوميروس الشاعر من القدماء الكبار الذي يجريه أفلاطون وأرسططاليس في أعلى المراتب، فيستدل بشعره لما كان يجمع فيه من إتقان المعرفة ومتانة الحكمة، وجودة الرأي وجزالة اللفظ، ثم ترجم مقطوعات من أشعاره بجمل معقودة الكلم على المواعظ والحكم، ذيلها بأن الشعر في أمة اليونان كان قبل الفلسفة، وإنما أبدعه أوميروس"3. ويذكر القفطي: أن حنين بن إسحاق كان ينشد أشعارًا بالرومية لأوميروس رئيس شعراء الروم4. وقد ترجمت الإلياذة إلى السريانية في أيام المهدي، على يد "تيوفيل الرهاوي" غير أن نقل الإلياذة إلى العربية لم يكن هينًا يومئذ؛ لما فيها من أساطير الديانات الإغريقية. وهكذا لا ينبغي أن نُعنِّت العرب فنطلب إليهم أن يكون لديهم ملحمة شعرية، أو نحاول أن نتصيد لهم ملحمة أو ما يشبه الملحمة، في حين نرى ابن الأثير مثلًا في خاتمة

_ 1 المرجع نفسه ص17. 2 مقدمة ابن خلدون ص521، "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة ج1 ص184. 3 "الملل والنحل" بهامش الفصل لابن حزم ج3 ص19. 4 "أخبار الحكماء" ص119، "تاريخ الحكماء" ص67.

المثل السائر يتعجب من أنه لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها منظومة كالشهنامة، على أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة في بحرها. ولعله يبدو في جلاء أن العرب لم يعرفوا هذا الضرب من الشعر، حتى في أوج النهضة الثقافية التي أعقبت حركة الترجمة في العصر العباسي. ولعل حبهم للقافية الواحدة يجري عليها روي القصيدة زهدهم في الملحمة فيما بعد؛ إذ كانت تقتضي آلاف الأبيات، ومن أين لهم بروي واحد يجري به الكلام إلفًا، زد على ذلك ميل العرب الفطري إلى الإيجاز، وغلوهم في اختصار الكلم، والتزامهم مقاطع الجمل القصيرة التي تحمل غزير المعاني، فكان أن لم يحاولوا -إلا في قليل- زيادة أبيات المطولات على المائة بيت؛ ذلك لأن شعر العرب يفتقر إلى الروية والفكرة، وهم أهل بديهة وارتجال، لا يعنون بالإلمام بطبائع الناس وأحوالهم، كما أنهم لا يحفلون بالتحليل والتطويل، وهم أشد الناس اختصارًا للقول، وأقلهم تعمقًا في البحث، فضلًا عن أن دينهم في بساطته قد حرمهم كثرة الأساطير والخرافات وهي أغزر ينابيع الشعر القصص الملحمي. ولكن أملًا -بالرغم من كل هذا- لا يزال يداعب بعض الدارسين في أن يقيض الله للأمة العربية شاعرًا يتقدم إلى هذا التاريخ الحافل فيسجله ويصوره؛ ليكون للمعاصرين ولمن يأتي بعدهم كتاب فخر وسفر مجد، يتلوه الأنباء بعد الآباء1. ويذهب هؤلاء الدارسون بعيدًا في أملهم عندما يقررون: أنه لا بد للأدب العربي من يوم ينهض فيه أقوامه إلى جمع ما تشتت من قصائد الشعراء في وصف الحروب العربية في الفتوح وغيرها، وما لابس ذلك من وشائج الحياة والموت في السلم والحرب، فتؤلف الملحمة الكبرى بعون ذلك الشعر. وهذا ضرب من الأحلام اللذيذة ليس غير. فالعرب -كما تقدم- لم يعرفوا من فنون الشعر إلا الغنائي منه طوال ماضيهم، حتى إذا كانت العصور الحديثة واتصلوا بالآداب الغربية، وألفوا فنونها من الشعر الملحمي والتمثيلي؛ كانت تلك الفنون الشعرية الكبيرة في سبيلها إلى الانقراض، فحل النثر محل بعضها كالشعر التمثيلي، على حين انتهى شعر الملاحم، ولم يعد يستطيع الحياة، بعد أن تطورت الإنسانية وأصبحت عاجزة عن

_ 1 "شعر الحرب في أدب العرب" ص19، في "أصول الأدب" للزيات ص221.

تأتي فيه بما أتى القدماء في فجر الإنسانية، عندما ازدهر هذا الفن على نحو ساذج، خالٍ من التعقيدات العقلية والفنية، ولعل هذا يفسر الملاحم الحديثة التي حاولها عدد من الشعراء في اللغات المختلفة، ابتداء من عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر، فطوى الزمن ملاحمهم في جوف أمواجه، ولم تعد الإنسانية تقرأ وتعجب إلا بالملاحم القديمة، كالإلياذة في الغرب، والماهبهاراتا والرميانا في الهند، والشاهنامة في فارس. وإن كانت بعض الملاحم قد امتد بها العمر زمنًا انتقلت فيه من الأدب الفني إلى الأدب الشعبي النثري كما حدث في ملحمة عنترة، فإن الملحمة الشعبية هي الأخرى آخذة في الانقراض. وهكذا يصبح مجرد التفكير في كتابة الملاحم في عصرنا الحديث ضربًا من المجازفة، يتنافى مع حقائق الأدب المعاصر، بل حقائق النفس الإنسانية، فكيف لمثل هذا الشاعر -الذي يحلم به هؤلاء الدارسون- أن يهيئ في نفسه تلك الطفولة الغضة، والسذاجة الساحرة، التي يكمن فيها جمال الملاحم القديمة؟! وجملة القول: إن الأدب العربي يخلو تمامًا من شعر الملاحم بصفاته وشروطه وقواعده المعروفة له، وأن شعر الحماسة -بما في ذلك شعر الفتوح الإسلامية الذي نُعْنَى بدراسته هنا- لا يدخل في هذا الضرب من الشعر لمجرد كونه شعرًا حربيًّا، يُعنى بتصوير المعارك والالتحام، كما أنه لا ترتبط بهذا الضرب صلة ما تخول لبعض الدارسين أن يفترضوا أن أشعار العرب المفرقة في أيامهم ومعلقاتهم، وغزوات نبيهم وفتوحاتهم تكون ملحمة كبرى للعرب؛ ذلك لأن هذه الأشعار في مجموعها تدخل في باب الشعر الغنائي، الذي يُعنى الشاعر فيه بتغني عواطفه ووجدان قومه وجماعته كما يشعر به، ويصور أحداثًا يعيشها، بينما يُعنى شعر الملاحم باستدعاء أحداث خارقة عظيمة قديمة ومغرقة في القدم؛ ليحكيها في إطار من التلفيق والخرافية والتهويل، ويشبع فيها جوًّا أسطوريًّا يصور طفولة الأمة في فجر الإنسانية. وإن كان قد فات العرب لأسباب معينة أن يحفلوا بهذا اللون، فمن العجيب أن نحاول إثبات معرفتهم به بطرق متعفسة، أو أن نحاول الاعتذار عنهم والتماس الحجج لهم، كأنما كان من المفروض عليهم أن تكون لهم ملاحم شعرية. وسوف نرى أن شعر الفتح قد صور بالرغم من كل هذا أحداث الفتوح ومشاعر الفاتحين تصويرًا رائعًا، يمكن أن يكون كتاب فخر وسفر مجد، يتلوه الأبناء بعد الآباء.

الباب الأول: الشعر الإسلامي في الفتوح

الباب الأول: الشعر الإسلامي في الفتوح الفصل الأول: الفتوح في صدر الإسلام 1- دواعي الفتوح "الجهاد": عجيب أن تقتدر أمة ناشئة كأمة العرب المسلمين، تتعاورها الفتن والاضطرابات، وحركات الارتداد والانتقاض من كل جانب، على أن تهدم إمبراطوريتين عظيمتين لتشيد على أنقاضهما إمبراطورية عظيمة، في مدى لا يتجاوز عشر سنوات، تشتمل على العراق والشام جميعًا وتتخطاهما، فتشتمل على فارس ومصر، حتى تبلغ حدودها الصين من الشرق، وتونس من الغرب، وبحر قزوين من الشمال، والسودان من الجنوب. إن هذه لمعجزة بلا ريب؛ ووجه الإعجاز فيها أنها حدثت بأيدي العرب الذين كانوا إلى سنوات قبائل متنافسة، لا تهدأ منازعتها، ولا تطمئن فيما بينها إلى قرار. وبدهي أن قيام الإسلام هو أول هذه العوامل التي حققت المعجزة، فهو الذي وحد العرب بعد شتات، وجعل قبائلهم المتنافرة أمة متضافرة، ودفعهم إلى إذاعة تعاليمه، وإعلاء كلمته، ودفع من يريد فتنة الناس عنه. وقد كان العرب قبل الإسلام ضعافًا أمام الفرس والروم، بل إن مناطق كثيرة من بلادهم كانت تخضع لنفوذهما، فلما أسلموا أسرع هذا النفوذ إلى الانحسار والزوال عن بلادهم كلها، ولم يلبثوا حتى تخطوا إليهما التخوم، وواجهوا جيوشهما التي حسبوها من قبل لا تغلب، وحاصروا حصونها التي توهموها لا تؤخذ، فإذا هي تنقض تحت صلابة إيمانهم من قواعدها. وإنما اقتدر العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم؛ لأن الإسلام نشأهم نشأة جديدة، وبث فيهم روحًا أحالتهم خلقًا جديدًا؛ ذلك بأن اقتحم على نفوسهم مناطق عقائدهم، واتصل بوجدانهم في صميمه، وألقى فيه بذور التوحيد والإيمان والأخوة والتوحد، صافية في جوهرها، نقية من كل شائبة، بسيطة البساطة كلها، فتحررت نفوسهم من قيود الوهم، وتطهرت قلوبهم من رجس الوثنية، وشعر كل واحد منهم بأنه لا حجاب بينه وبين الله ما عمل صالحًا واتقاه حق تقواه.

أخذ الإيمان بمجامع قلوبهم، فجمع بينهم بما سن من نظم روحية واجتماعية، دفعت في أفئدتهم قوة معنوية عظيمة، وحفزتهم للاندفاع إلى ما وراء تخومهم ومواجهة الفرس والروم في أعقار دورهما، وهذه القوة المعنوية هي أساس الظفر في كل نضال، فصاحبها لا يعرف الهزيمة ولا يرضاها ويستهين بكل صعب، بل يستهين بالحياة نفسها في سبيل الظفر بالغاية التي يريد بلوغها. بهذه القوة اندفع العرب لقتال الفرس والروم، لا حبا في الغزو وتهافتا على مغانمه، وإرضاء لهوى القتال الكمين في طباعهم -كما يحاول المغرضون أن يصوروا هذا الاندفاع- وإنما جهادًا في سبيل الله، يدفعهم إليه الإيمان الصادق بالعقيدة السليمة، والقوة العاتية التي بثها فيهم الإسلام، فحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الله، وفي سبيل الدعوة إلى الحق الذي أوحاه إلى رسوله، فانطلقوا على رغبة وحنين إلى الجنة، وباستهانة نادرة بالحياة يتمثلون الآخرة بنعيمها وظلالها، وكأنما يرونها رأي العين، ويطيرون إليها متغنين بما وعدوا من جنان تحت ظلال السيوف، وآخرة هي خير وأبقى، بأن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيله فيَقتلون ويُقتلون، وبأن الذين يُقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. انطلقوا وملء ذاكرتهم تجارب هائلة، كان النصر فيها حليفهم في مواطن كثيرة، أظهرهم الله فيها على أعدائه وأعدائهم، حتى خلص لهم وجه بلاد العرب، وأنالهم رقاب المرتدين، فأعدوا الأمر إلى نصابه في بأس وحزم. وها هم يجدون ريح الجنة، ويتمنون الشهادة في سبيلها، ويترقبون اللحظة التي ينطلقون فيها نحو تخومهم؛ ليحملوا إلى العرب في الأطراف وإلى من وراءهم من العالمين هذه الدعوة التي لا يستطيعون الانطواء عليها وحدهم، وهي تتضوأ بدفئها ونورها في مواطن اعتقادهم، وقد أدركوا أنهم ورثة هذا النبي الذي بعث فيهم إلى الناس كافة، يهدونهم بهديه إلى ما اهتدوا إليه، وما ارتضوا لأنفسهم، فعليهم وحدهم يقع هذا العبء، وما عليهم -لكي يقوموا برسالتهم- إلا أن يقطعوا هذه الطرق التي طالما قطعوها من قبل تجارًا يحملون

عروض الدنيا؛ لكنهم في هذه المرة تجار لتجارة لن تبور، يحملون دين الله الحق وهدى رسوله، ويبشرون بما هو خير وأبقى، متسلحين بما أفاءه عليهم الإسلام من قوة وما يستشعرونه من خطر الرسالة التي يحملونها، متذرعين بما وعدهم الله من النصر، مهطعين إلى دعائه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] . {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} [البقرة: 191] . {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] . {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] . {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] . {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا، الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] . {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] . {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] . {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا

أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 38-40] . {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111] . {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11] . {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] . {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 20-22] . {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] . وقد صدع صلى الله عليه وسلم بما أُمر به، فحرض على القتال، وزين الجهاد للمسلمين وحثهم عليه، حتى ليجعله في تقديرهم ذروة الإسلام وأفضل الأعمال طرا عند الله بعد الإيمان به وبرسوله، فيعلن أنه أمر أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله. وأن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة، ينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم. وتمنى أن يغزوَ في سبيله فيقتل، ثم يغزو فيقتل. وحكى عن ربه عز وجل: "أيما عبد من عبادي

خرج مجاهدًا في سبيله ابتغاء لمرضاتي ضمنت له إن أرجعته أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له". وصور صلى الله عليه وسلم ما أُعد للمجاهد من أجر في الآخرة، فجسده محرم على النار؛ إذ لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في أنف مسلم، وما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار. وكل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمي عمله إلى يوم القيامة، فيؤمن من فتنة القبر. ومن مات مرابطًا في سبيل الله أمن الفزع الأكبر، وغدى عليه برزقه وريح الجنة. وطوبى لعبد آخذ بعِنَان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، يطير على متن فرسه كلما سمع هيعة أو فزعة يبتغي القتل. ورباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوطه من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها. والقوة الرمي، فمن تركه بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة كفرها. والخيل أجر وستر، ومعقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. بهذا كان صلى الله عليه وسلم يحضهم على الجهاد، ويدفعهم إلى الاستعداد له، ويدعوهم إلى استكمال ثقافتهم العسكرية، ويشهد بنفسه ملاعبتهم لسيوفهم ورماحهم وضروب فروسيتهم وعَدْوهم، ويعجب بهم ويبدي استحسانه لما يرى من صنيعهم، ويزين لهم تعليم أولادهم ركوب الخيل والعدو وحيل الحرب وأفانين القتال والرماية والسباحة، ويرغبهم في التجمل بخلائق الفرسان، في النجدة والشجاعة ونبذ الجبن والخنوثة. فأثمرت هذه التعاليم ثمرتها، فكان الجهاد بلورة نورانية تجذب وجدان المسلمين، وتلهب مشاعرهم، وصورة متألقة في ضميرهم، تبدو الدنيا فيما مجازًا للآخرة، والآخرة ثوابًا للدنيا، فيعيش من عاش فيها سعيدًا، ويموت من مات فيها شهيدًا. ومن هنا حرصوا على الموت أكثر من حرصهم على الحياة، لا يجزعون أمامه، وهم مؤمنون بأن كل شيء قد قدر تقديرًا {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ، وأن حينهم سوف يواتيهم في ميقات معلوم ولو كانوا في بروج مشيدة. فما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسهم إلا في كتاب، ولو كانوا في بيوتهم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، ولن يصيبهم بعد هذا إلا

ما كتب لهم، وأن ما يمكن أن يصيبهم لا يخرج عن أمرين: أمرهما حلو، فإما الشهادة المؤدية إلى الجنة، وإما النصر الذي هو حق لهم ما أخلصوا في قتال عدوهم، وما نصروا الله، فإن ينصروه ينصرهم، والنصر من عنده يؤتيه من يشاء، وإن ينصرهم فلا غالب لهم. انطلق المسلمون عبر حدودهم وكل هذه المعاني تعتمل في نفوسهم، وتنطلق على ألسنتهم، كما انطلقت على لسان المغيرة بن شعبة في مسامع رستم وحاشيته "يدخل من قتل منا الجنة، ومن قتل منكم النار، ويظهر من بقي منا على من بقي منكم"1. وينطلق هذا المعنى في كتاب خالد بن الوليد إلى رؤساء فارس: "أسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا مني الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر"2. كما ينطلق على لسان ربعي بن عامر، رسول سعد بن أبي وقاص إلى رستم في القادسية، وقد دخل على القائد العظيم في ثياب صفيقة، فوق فرس قصيرة، ولا يزال راكبها حتى يدوس بها على طرف البساط، ثم يترجل فيربطها ببعض الوسائد، ويقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته فوق رأسه؛ ليرد على من صاح به أن يلقي سلاحه: "إنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت". ثم يتوكأ على رمحه فوق النمارق ليقول مدويًا مجيبًا من سأله عن سبب مجيء المسلمين "ما جاء بكم؟ "، "الله ... ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"3. وقد تداول هذه المعاني أولئك المجاهدون الشعراء الذين اجتذبهم ألق الجهاد، فصهم آذانهم عن كل دعاء إلا دعوة الله، فتركوا من ورائهم أهليهم وذويهم يناشدونهم البقاء إلى جانبهم، حرصًا عليهم ورغبة في سلامتهم، ولكن كيف لهم أن يمنعوا أنفسهم طلبتها، وكيف لهم أن يقعدوا عن واجب أوجبه الله ودعا إليه، وليسوا ممن

_ 1 الطبري أوربا ج5، ص2279. 2 الطبري أوربا ج4، ص2019. 3 الطبري أوربا ج5، ص2270.

يصرح لهم بالقعود ... فهذه امراة النابغة الجعدي تناشده الله أن يبقى، ولكنه يجيبها بأنه لا عذر له في القعود: باتت تذكرني بالله قاعدة ... والدمع ينهل من شأنيهما سبلا يابنت عمي كتاب الله أخرجني ... كرهًا وهل أمنعن الله ما بذلا فإن رجعت فرب الناس أرجعني ... وإن لحقت بربي فابتغي بدلًا ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني ... أو ضارعًا من ضنى لم يستطع حولًا1 وكذلك كان الشبان من المسلمين في مقتبل العمر لا يستطيعون مقاومة اللهفة إلى الجهاد، فيخلفون وراءهم آباء ضعافًا، يخافون عليهم ويبكونهم، ولكنهم لا يحفلون بهم ولا بدموعهم. كما فعل شيبان بن المخبل السعدي مع أبيه؛ إذ خرج مع سعد بن أبي وقاص إلى غزو الفرس، وكان أبوه قد أسن وضعف، فما برح يناديه، ويتحسر على وحدته بعده، وجدًا عليه وإشفاقًا وهلعًا، يقول: أيهلكني شيبان في كل ليلة ... لقلبي من خوف الفراق وجيب ويخبرني شيبان أن لم يعقني ... تعق إذا فارقتني وتحوب فإن يك غصني أصبح اليوم باليا ... وغصنك من ماء الشباب رطيب فإن حنت ظهري خطوب تتابعت ... فمشيي ضعيف في الرجال دبيب إذا قال صحبي يا ربيع ألا ترى ... أرى الشخص كالشخصين وهو قريب أشيبان ما يدريك أن كل ليلة ... غبقتك فيها والغبوق حبيب2 وهذا كلاب بن أمية بن الأسكر يسأل طلحة والزبير عن أفضل الأعمال، فيخبرانه أنه الجهاد في سبيل الله، فيقصد عمر رضي الله عنه يسأله الجهاد، فيبعث به إلى العراق، ولكن أباه يناشده الأبوة والعجز أن يبقى، فيوليه ظهره، ويتوجه إلى العراق مخلفًا أباه ينتحب ويقول:

_ 1 الشعر والشعراء ج1، ص251، 252. 2 الإصابة ج3، ص227، الأغاني "ساسي" ج12، ص38.

لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله إن حفظ الكتابا أناديه فولاني قفاه ... فلا وأبي كلاب ما أصابا إذا سجعت حمامة بطن وج ... على بيضاتها دعوا كلابا أتاه مهاجران تكنفاه ... عباد الله قد عقا وخابا ركت أباك مرعشة يداه ... وأمك ما تسيغ لها شرابا فإنك والتماس الأجر بعدي ... كباغي الماء يتبع السرايا1 ولكن كلابًا لا يحفل به، فيذهب أمية إلى المسجد يبكي لعمر ويستعطفه أن يرد عليه ابنه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والعقوق -في تصوره- معصية كبرى على هذه الصورة، ويعلن أنه سيشكو عمر إلى الله إذا لم يرد كلابًا: أعاذل قد عذلت بغير قدري ... ولا تدرين عاذل ما ألاقي فإما كنت عاذلتي فردي ... كلابا إذ توجه للعراق فتى الفتيان في عسر ويسر ... شديد الركن في يوم التلاقي فلا وأبيك ما بالبيت وجدي ... ولا شغفي عليك ولا اشتياقي وإيقادي عليك إذا شتونا ... وضحكك تحت نحري واعتناقي سأستأدي على الفاروق ربا ... له عمد الحجيج إلى بساق وأدعو الله محتبسًا عليه ... ببطن الأخشبين إلى دفاق إن الفاروق لم يردد كلابا ... على شيخين هامهما زواق2 وهكذا كان داعي الله أشد أثرًا وأقوى فعلًا في نفوس المجاهدين من المسلمين، طغى على كل دعوة إنسانية، سواء أكانت من أب عاجز، أم من زوجة بائسة.

_ 1 الإصابة ج1، ص65، أسد الغابة ج1، ص116، الأغاني "ساسي" ج18، ص157، ابن سلام ص160. 2 الإصابة ج1، ص66، ياقوت ج1، ص609، الأغاني "ساسي" ج18، ص157، ابن سلام ص160.

وعلام يحفلون بهذه الدعوات وهذه الدموع ما دام الله تعالى قد دعاهم؟ فهذا الحتات يجيب أباه لما جزع عليه وبكاه واستعطفه ليرجع: ألا من مبلغ عني ذريحا ... فإن الله بعدك قد دعاني فإن تسأل فإني مستقيد ... وإن الخيل قد عرفت مكاني1 وهكذا كانوا يتسابقون إلى الجهاد، لا يعبئون بأهليهم الذين يناشدونهم عجزهم وضعفهم، فيضربون بكل هذا عُرْض الحائط، إيثارًا للآخرة، وحبًّا في الظفر، ورغبة في المثوبة. فهذا أبو خراش الهذلي يقدم إلى المدينة فيجلس بين يدي عمر؛ ليشكو إليه شوقه إلى ابنه خراش الذي أوغل مع جيوش المسلمين في أرض الشام وتركه وحيدًا، بعد أن انقرض أهله ومحبوه، وقتل إخوته، ولم يبقَ له ناصر أو معين، ثم ينشده: ألا من مبلغ عني خراشا ... وقد يأتيك بالنبأ البعيد وقد يأتيك بالأخبار من لا ... تجهز بالحذاء ولا تزيد تناديه ليغبقه كليب ... ولا يأتي لقد سفه الوليد فرد إناءه لا شيء فيه ... كأن دموع عينيه الفريد وأصبح دون غابقة وأمسى ... جبال من حرار الشأم سود ألا فاعلم خراش بأن خير الـ ... مهاجر بعد هجرته زهيد رأيتك وابتغاء البر دوني ... كمخضوب اللبان ولا يصيد2 وأكثر من ذلك نجد كثيرًا من المؤمنين والمؤمنات يدفعون بأبنائهم إلى الجهاد دفعًا؛ إذ ليسوا بحاجة إليهم، وقد انتفت حالات العجز والضعف التي دفعت بالخلفاء إلى رد الأبناء على آبائهم الضعاف، ومنعهم من الجهاد إلا بموافقتهم. فنجد الخنساء الشاعرة المعروفة تدفع ببنيهما الأربعة إلى الجهاد ليلة القادسية، وقد أخذت توصيهم قائلة: "إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو.. إنكم لبنو رجل واحد وامرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا

_ 1 الإصابة ج2، ص181. 2 ديوان الهذليين ج2، ص170، الأغاني "ساسي" ج2، ص47.

غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، وأن الدار الباقية خير من الدار الفانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] ، فإذا أصبحتم فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت على أوراقها، فيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها، تظفروا بالغُنْم والكرامة في دار الخلد والمقامة"1. فإذا ببنيها يباكرون مراكزهم إلى الجلاء، وهم يتغنون بهذه النصيحة شعرًا ملتهبًا بالإيمان، يكشف عن تمكن روح الجهاد في نفوسهم وفعله بهم، يقول أولهم: يا إخوتي إن العجوز الناصحة ... قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة مقالة ذات بيان واضحة ... فباكروا الحرب الضروس الكالحة وإنما تلقون عند الصائحة ... وأنتم بين حياة صالحة أو ميتة تورث غُنْمًا رابحة ويتقدم فيقتل، ويحمل الثاني وهو يرتجز: إن العجوز ذات حزم وجلد ... والنظر الأوفق والرأي السدد قد أمرتنا بالسداد والرشد ... نصيحة منها وبرا بالولد فباكروا الحرب حماة في العدد ... إما لفوز بارد على الكبد أو ميتة تورثكم عز الأبد ... في جنة الفردوس والعيش الرغد ويقاتل حتى يستشهد، فيحمل الثالث وهو ينشد: والله لا نعصي العجوز حرفا ... قد أمرتنا حربًا وعطفا نصحًا وبرًا صادقًا ولطفا ... فبادروا الحرب الضروس زحفا حتى تلقوا آل كسرى لفا ... أو يكشفوكم عن حماكم كشفا إنا نرى التقصير منكم ضعفا ... والقتل فيكم نجدة وزلفى

_ 1 الاستيعاب ج2، ص745.

ويظل يجالد الفرس حتى يصرع، فيحمل الرابع منشدًا: لست لخنساء ولا للأخرم ... ولا لعمرو ذي السنا الأقدم إن لم أرد في الجيش جيش الأعجم ... ماض على الحول خضم خضرم إما لفوز عاجل ومغنم ... أو لوفاة في السبيل الأكرم1 ويخر صريعًا فيلحق بإخوته إلى الرفيق الأعلى، وحين يبلغ الخبر إلى أمهم تلك التي جعلت من أساها على أخيها صخر مناحة أليمة في تاريخ الأدب العربي -نجدها لا تهتز له إلا فخرًا فتقول: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم". وهكذا نرى هذا الدافع العقدي الجبار يدفع بالأم إلى أن تقود بنيها جميعًا بيدها وبلسانها إلى الجهاد، وتعدهم له، ويدفع بالأبناء إلى أن يعصوا الأبوة في سبيل الجهاد ولا يحفلوا بشيء، ويدفع الرجال إلى أن يتركوا وراءهم كل ما يتشبث به، وكل من يتمسك ببقائهم، إنها قوة دافعة لا تقاوم، يغذيها الإيمان العميق، والإحساس الأصيل بضرورة الانطلاق بالرسالة إلى الناس كافة؛ ليتسنى لهم أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، انطلقوا جميعًا يجيبون داعي الله، حتى غدت ديارهم خلاء موحشة، ليس فيها غير الذئاب، كما يصور ذلك أسامة بن الحارث الهذلي في قوله: فموشكة أرضنا أن تعود ... خلاف الأنيس وحوشًا يبابا ولم يدعوا بين عرض الوتـ ... ـير حتى المناقب إلا الذئابا2

_ 1 الاستيعاب ج2، ص745، 746. 2 ديوان الهذليين ج2، ص199.

فتوح الشرق

2- فتوح الشرق: يجدر بنا أن نشير هنا إلى خلاف المؤرخين على الزمن الذي حدثت فيه فتوحات الشرق ووقائعها خلافًا يصبح معه تتبع الحوادث في تسلسلها التاريخي مغامرة لا تستند إلى أساس يمكن الاعتماد عليه في شيء من الدقة. فالطبري مثلًا يرى أن حروب الردة وقعت في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأن فتح العراق تم في السنة الثانية عشرة، وأن فتح الشام تم في السنة الثالثة عشرة. ويكاد المرء يظن حينما يطالع هذا لتعاقب أن فتح العراق لم يبدأ إلا بعد الفراغ من حروب الردة، وأن فتح الشام لم يبدأ إلا بعد أن استقر الأمر للمسلمين في العراق، لكن شيئًا من التدقيق في مراجعة الحوادث ووقوعها لا يلبث أن يحمل على الريبة في مثل هذا الظن، ففتح العراق بدأ وحروب الردة لا تزال قائمة. وفتح الشام بدأ في أعقاب حروب الردة، وجيوش خالد بن الوليد لا تزال تعالج إقرار السكينة في أرجاء العراق، وتتوقع غزوات جديدة. وقد رأينا أن التأريخ للفتوح الإسلامية يستتبع النظر العاجل في حروب الردة، التي أسهمت في توجيه أنظار المسلمين إلى الامتداد خارج شبه الجزيرة، فضلًا عن تأكيدها لوَحْدَة الأمة الإسلامية، وصهرها في بوتقة الصراع الدامي، كتمهيد لما ينتظرها بعد من تحمل لرسالتها الجليلة. فلم يكد أبو بكر رضي الله عنه يقضي على عبس وذبيان وبني بكر ومن انضم إليهم في الأبرق حتى انحاز فلهم إلى طليحة الأسدي ببزاخة، ورجع الصديق إلى المدينة وهو يفكر في الوسيلة التي يقضي بها على المرتدين. وكان جيش أسامة قد وصل إلى المدينة وقضى أيامًا جم فيها، فخرج الصديق إلى ذي القصة حيث وزع جنده لمحاربة المرتدين أحد عشر لواء، جعل لكل منها أميرًا، وأمره أن يستنفر من يمره به من المسلمين أولي القوة، وأن يسير لقتال المرتدين. وقد وزع الألوية توزيعًا مناسبًا في عددها وأمرائها، مع قوة القبائل التي وجهت إليها، ومبلغ إلحالحها في الردة. فتوجه خالد بن الوليد إلى طليحة بن خويلد في بني أسد، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة، زعيم بني تميم في البطاح. وبنو أسد وبنو تميم كانوا أقرب القبائل المرتدة

إلى المدينة؛ ولهذا بدأ بهم المسلمون، ووجهوا إليهم خالدًا. وتوجه عكرمة بن أبي جهل على اللواء الثاني إلى مسيلمة في بني حنيفة باليمامة، وشرحبيل ابن حسنة على اللواء الثالث، ليعين عكرمة على مسيلمة. فإذا فرغا منه لحق شرحبيل بقضاعة، مددا لعمرو بن العاص وقد استعصت اليمامة على عكرمة، كما استعصت على شرحبيل. ثم كان النصر لخالد بعد أن قتل مسيلمة في عقرباء. وعقد للمهاجر بن أمية المخزومي اللواء الرابع لقتال الأسود العنسي باليمن وعمرو بن معديكرب الزبيدي، وقيس بن مكشوح المرادي ورجالهم، فإذا فرغ منهم قصد كندة وحضرموت لقتال الأشعث بن قيس والمرتدين معه. وعقد اللواء الخامس لسويد بن مقرن الأوسي؛ ليتوجه إلى تهامة باليمن. وعقد اللواء السادس للعلاء الحضرمي، لقتال الحطم بن ضبيعة أخي بن قيس بن ثعلبة، والمرتدين معه بالبحرين. ووجه حذيفة بن محصن الغلفاني من حمير على رأس اللواء السابع، لقتال ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي المتنبي في عمان. وكانت وجهة اللواء الثامن إلى مهرة، وعليه عرفجة بن هرثمة. كما توجهت ألوية ثلاثة إلى الشمال، على أحدها: عمرو بن العاص لقتال قضاعة، وعلى الثاني: معن بن حاجز السلمي، لقتال بني سليم ومن معهم من هوازن. وعلى الثالث: خالد بن سعيد بن العاص لاستبراء مشارف الشام، واحتفظ الخليفة بقوة لحماية المدينة، وكانت دون لواء من هذه الألوية عددًا. وكانت مهمة ألوية الجنوب صعبة؛ إذ إن موقع هذه المناطق الجغرافي جعل لبلاط كسرى في هذه الأنحاء من الصلة بها، بل من السلطان عليها ما لم يكن له بغيرها من بلاد العرب، ولسنا نستطيع أن نتجاهل أثر هذا السلطان في تحريك البواعث التي أدت إلى انتقاض العرب وردتهم. فقد رأى عاهل الفرس فيمن رأوا في رسالة محمد إليه وإلى غيره من الملوك والأمراء؛ ليدينوا بالإسلام مما أدى به إلى أن يعمل على إيقاظ نار الفتنة في بلاد ليس بها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد، الذي يجمع كلمتها، ويضاعف قوتها، ولا شيء كالفتنة يضعضع العزائم، ويفت في أعضاء الأمم1. ولقد كان سلطان فارس على اليمن ممتدًا إلى أن دخل عاملها لكسرى في الإسلام، وصار عاملًا للنبي صلى الله عليه وسلم عليها،

_ 1 الصديق، هيكل، ص93.

ولكن سلطان فارس كان أكثر وضوحًا في البحرين وعمان؛ حيث كان من أبناء فارس عدد كبير استوطنهما، وعلت كلمته فيهما، لما كانت تمدهم به فارس من نفوذها وقواتها كلما خشيت ثورة العرب الخلص بهم، أو محاولتهم القضاء على سلطانها في ربوعهم. فليس عجبًا إذن أن تكون هذه البلاد آخر من دان بالإسلام على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الوفود، وأن تكون أول من ارتد حين قبض، ثم تكون آخر من يعود إلى الإسلام بعد حروب طاحنة، تختم حروب الردة، وتعيد إلى البلاد العربية وحدتها الدينية، وتقيم فيها الوحدة السياسية. كانت الثورات في الجنوب إذن أعنف مظاهر الانتقاض على الدين الجديد في بلاد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. لكن اليمامة وما حاذى الخليج الفارسي من القبائل كان يتلظى ببذور الثورة في هذا العهد، وكان المسلمون على حذر ليظل سلطانهم قائمًا وكلمتهم مسموعة، فلا عجب إذن أن يكون ذلك أمر حواضر وبواد تبعد عن منزل الوحي بمكة والمدينة، تتصل بالفرس وتبادلهم التجارة وتقر لهم بتفوق الحضارة، بل لا عجب أن تكون للفرس يد خفية في تحريك هذه الحواضر والبوادي؛ لتنقض على الدين الجديد والسلطان الناشئ، ولكن المسلمين استطاعوا أن يعيدوا الأمر إلى نصابه، وأن يقضوا -في صرامة وحزم- على كل بواعث الفتنة قضاء مبرمًا. عادت الألوية الظافرة إلى المدينة، إلا أن بعضها انساح في الأرض يؤمن تخوم شبه الجزيرة وأطرافها، فأقسام العلاء الحضرمي في البحرين بعد أن أرسل بانتصاره إلى الصديق، لا يخشى شيئًا إلا غارة قبائل البادية التي ألفت العزو والسلب، ودسائس الفرس الذين تقلص نفوذهم في جنوب الجزيرة. على أنه كان مطمئنًا بعض الشيء إذا انضم إليه قبل ذهابه إلى دارين من قبائل البحرين ومن الأبناء من كفوه مئونة ما يخشى. وكان عتيبة بن النهاس والمثنى بن حارثة الشيباني على رأس من انضم إليه، وقد قعدوا بكل طريق للمنهزمين، وللذين يعيثون في الأرض فسادًا. وتابع المثنى المسير على شاطئ الخليج الفارسي، يقاوم دسائس الفرس، ويقضي على أنصارهم من القبائل والأبناء، حتى بلغ مصب الفرات، فكان لبلوغه هذا المبلغ ولاتصاله بأرض العراق ولدعوته إلى الإسلام هناك أثر لا نبالغ إذا زعمنا أنه كان مقدم لفتح العراق.

وقد يبدو الأمر متناقضًا إذا ما رأينا إجماع المؤرخين المحققين على أن فتح العراق وفارس وما وراءهما لم يدر بخلد المسلمين في هذه الفترة ابتداء، وإنما دار هذا الخاطر بنفس أبي بكر حينما كان النصر يحالف ألويته في حروب الردة، فمذ قضى خالد بن الوليد على مسيلمة باليمامة، ومذ نشر المهاجر بن أمية وعكرمة بن أبي جهل لواء الإسلام في أرجاء اليمن وما جاورها، أيقن أبو بكر أن الأمر صائر إلى ما يرضي المسلمين، من الوحدة الفكرية والسياسية لشبه الجزيرة العربية، ولكنه كان يخشى أن يستنيم المسلمون لهذا النصر، وينسوا ما تنطوي عليه صدور العرب من حفيظة قد تضطرم فتضرم الثورة كرة أخرى، وربما يكون في اتجاه أنظار هؤلاء العرب إلى ما وراء الحدود في شبه الجزيرة ما يجعلهم ينسون حفائظهم وأحقادهم. واتجه ذهن أبي بكر إلى اقتحام مشارف الشام وحرب قيصر، بعدما كان من سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم نحو تأمين التخوم العربية بحملاته الشهيرة مما يصرف أذهان العرب عن ثاراتهم، ويجعل لهم من الفخار ما ينسيهم ضغنهم على المدينة وأهلها، ويمهد لانتشار كلمة الله في الإمبراطورية الرومية، ولكن.. ألا يمكن أن تنقلب الآية فلا يحالف النصر ألوية المسلمين، فتتعرض شبه الجزيرة لما هو أكثر شرًّا من الثورة التي أخمدتها حروب الردة؟ حقًّا لقد قامت بين إمبراطورية الروم وفارس حروب استطالت على السنين، تداولوا فيها النصر والهزيمة، حتى انتهى الغلب فيها للروم، وقد استنفدت هذه الحروب من قوة الدولتين ما يحتاج جهدًا ضخمًا وزمنًا طويلًا لتعويضه، ولكن بريق النصر الذي انتهى إليهم في هذه الحروب لا يزال يبهر أنظار العرب ويصدهم عن حربهم، ويجعل التفكير فيها مغامرة غير مضمونة العواقب. وعلى الرغم مما لاقى العرب من دسائس الفرس في فتنة الردة فلم يدر بخاطر أبي بكر أن يحارب "فارس"، فضلًا عن استشراء نفوذها في اليمن، فإن الحجاز لا يتصل بفارس. والبلاد العربية التي تتاخم الفرس هي البلاد التي فشت فيها الردة؛ ولهذا لا يمكن الاعتماد عليها، أو الركون إلى أهلها في غزو دولة لا يزال لها سلطانها عليهم. ومن هذا يتضح ضعف تلك الآراء التي تجعل من الصراع الشهير بين الدولتين الفارسية والرومية حافزًا للعرب على الفتوح. فالحقيقة السافرة أن هزيمة الدولة الفارسية على

أيدي الروم لم تقضِ عليها، ولم تؤد بها إلى الانهيار، ولم تدفع العرب إلى الانقضاض عليها وإدخالها مثخنة بالجراح إلى حظيرة الإسلام كما يزعم البعض1، فقد كان لها بعد كل هذا جيوشها الجرارة، ونظامها وسلطانها. فإن كسرى أنوشروان الذي ولد لأول عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جعل هدفه تجديد شباب الدولة الساسانية، فمضى في سلسلة من الإصلاحات، تناولت شتى النظم الإدارية والمالية والعسكرية. ورد إلى الدولة الساسانية شبابها، فاستطاعت أن تنتزع من الإمبراطورية الرومية آسيا الصغرى وأرمينيا والشام، ونجحت في أن تلطم العالم المسيحي لطمة قاسية بإدخالها بيت المقدس في حوزة الوثنيين، واستيلائها على صليب الصلبوت، كما استولت على مصر، وبلغ الأمر بها أن هددت أبواب القسطنطينية ذاتها2. وحتى لو فرضنا أن الدولة الفارسية انهارت على يدي "هرقل"، ألم يكن أقرب إلى المنطق والعقل أن يلتهمها الروم أنفسهم، الذين طرقوا أبواب عاصمتها "المدائن" بعد هزيمتها المنكرة في نينوى، وإرغامها على صلح مشين في 628م بطريقة أسهل من استيلاء العرب عليها، إذا ما قارنا بين حالة الروم وحالة العرب وقتذاك؟! لا ريب في أن أبا بكر كان يقدر قوة الفرس ومبلغ سلطانهم على الجنوب وأثره في فتنة العرب، وأنه ليفكر ويقدر في موقف المسلمين من هاتين القوتين دون أن يجرؤ على التفكير في حربهما؛ إذ تترامى إليه الأنباء بأن المثنى بن حارثة الشيباني قد سار بقواته شمالًا في البحرين حتى وضع يده على القطيف وهجر، وحتى بلغ مصب دجلة والفرات، وأنه قضى في مسيرته على الفرس وعمالهم، ممن عاونوا المرتدين بالبحرين، وأنه تابع مسيره مساحلًا الخليج الفارسي إلى الشمال، حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا النهرين، فتحدث إليهم وتعاهد معهم. وفكر أبو بكر فيما جاءه من أنباء، فإذا به يفكر من ثم في دفع المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة، حتى يصرفهم عن ثاراتهم الأولى، فربما ينجح المثنى في التوغل إلى العراق، فيفتح للمسلمين المتعطشين إلى الجهاد أبوابه. وبدأت عناصر نجاح هذا التدبير تتداعَى إلى

_ 1 انظر الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم، العدوي ص42. 2 نفس المرجع، ص32.

خاطره، وقبائل العرب في العراق من بني لخم وتغلب وإياد والنمر وبني شيبان تهوى نفوسهم إلى منابتهم في شبه الجزيرة، ولم تبعد أنسابهم بعد عن أنسابها. وبرغم أن أكثر هذه القبائل قد نعم بالحضر وترفه إلا أنها ظلت شديدة التعلق بالبادية تسكن مشارفها، وهي في هذا لا تستطيع مقاومة الوراثة البدوية المتغلغلة في نفوسها، التي تأبى الاستقرار والركون إلى حياة الحضر الوادعة، فسكنت على شفا الصحراء، بين البادية والحضر، لتجد في الحضر رزقها، وفي البادية ما يستهويها من الحرية والسحر والجمال. وتردد فيما جاءت به أنباء المثنى أن قبائل العرب التي استقرت بدلتا النهرين، الغنية بالزروع والفاكهة والطير والحيوان، مالت إلى الحضر والإقامة فعمل أبناؤها في زراعة الأرض، وأن دهاقين الفرس يستولون على غلاتها، فلا ينال أولئك العرب منها إلا القليل الذي يجود به الدهاقين عليهم، مما يجعلهم أدنى إلى الاستجابة لكل دعوة عربية. فمعاملة الدهاقين تعدهم للثورة بهم، وتمهد للمسلمين أن يستخدموهم أدوات لبث دعوتهم، وتأمين شبه الجزيرة من دسائس الفرس وعدوانهم. هذا فضلًا عن أن بطونا من ربيعة ومضر استقرت في سواد العراق والجزيرة، فصارت لهم هناك ديار ومراعٍ، ونزلوا على خفارة فارس1. وكذلك استقرت قبيلة تنوخ غربي نهر الفرات من الحدود الفارسية، حتى أنشأ لهم سابور الأول ملك الفرس إمارة الحيرة عام 240م، وأمر عليها عمرو بن عدي؛ لتكون هذه الإمارة درعًا يكفي دولة فارس من وراءها من الروم والأعراب، ولكن هذه العلاقة الوطيدة بين العرب والفرس لم تمنع القبائل العربية من الإحساس بعصبيتها وتوحدها ضد الفرس في يوم ذي قار2. فالعراق إذن لم يكن يومًا ما غريبًا عن عرب الجزيرة، بل كان دائمًا امتدادًا لمنازلهم، ودار هجرة لهم، يجتذبهم إليه بخصبه واستقرار الحياة فيه، ويجوسون خلاله في معاناة التجارة وخفارتها، ويجدون في رحيلهم إلى الشرق والغرب فرصة مواتية للاختلاط بسكان هذه المناطق، اختلاطًا يتعدى الناحية الاقتصادية إلى التأثير والتأثر، وتعميق المعرفة بأحوالهم وبظروف حياتهم، وكان في أسواق العرب مجال لاختلاط التجار العرب

_ 1 المسالك والممالك ص18. 2 العقد الفريد ج2، ص81.

والفرس، وبخاصة في دومة الجندل على أطراف العراق وشبه الجزيرة، وعلى امتداد خط القوافل بمحاذاة الخليج الفارسي. وكان التجار الأعاجم يقدمون إلى مكة -قبل أن يلي هاشم شئون التجارة- فيشتري منهم العرب، ويتبايعون فيما بينهم ويبيعون من حولهم. ثم أخذ العرب بعد ذلك يقتحمون العراق وفارس بتجارتهم؛ إذ اختص نوفل بن هاشم بالتجارة مع فارس وعقد معها حلفًا ومعاهدة تجارية فيما يقال1. وليس أدل على قوة هذه الصلات من أن سكان الحيرة والأنبار كانوا يكتبون اللغة العربية، فقد وجد خالد بن الوليد بعد فتح الأنبار قومًا يكتبون بها فسألهم: ممن تعلمتم؟ فقالوا: من إياد، وأنشدوه: قومي إياد لو أنهم أمم ... أولو أقاموا فتهزل النعم قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم2 وكذلك وجد قوم من العرب كانوا يجيدون اللغة الفارسية إجادة مكنتهم من الاشتغال لدى ملوك الفرس بالكتابة والترجمة، من مثل عدي بن زيد التميمي، الذي كان يكتب لكسرى أنوشروان ويترجم له. وخلفه في عمله ابنه زيد3. وكانت وفادات العرب على ملوك الفرس لا تنقطع، وفي كل مرة كان العرب يعودون وقد حملوا معهم إلى موطنهم ألوانًا من المعرفة والحضارة، كما فعل الحارث بن كلدة من وفوده على كسرى أنوشروان، وابنه النضر بن الحارث الذي تعلم في فارس صناعة الألحان والطب، وكان يجلس ليتحدى الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديثه من ملوك فارس4. ومثل: عبد الله بن جدعان الذي وفد على كسرى فاستطاب من أطعمة فارس الفالوذج، فابتاع غلامًا أعجميًّا يصنعه له5.

_ 1 حياة محمد، هيكل ص97. 2 الطبري 1/ 4/ 2061. 3 مروج الذهب ج2، ص25، ابن خلدون ج2، ص266. 4 السيرة "الحلبي" ج1، ص221. 5 الأغاني، دار الكتب ج8، ص229.

ولا يزال التاريخ يحفظ وفادات الشعراء العرب على أمراء الحيرة العرب، التي استمرت طوال مدة حكمهم. فقد وفد عليهم: طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، والنابغة الذبياني؛ إذ كان هؤلاء الأمراء يعنون باللغة والأدب، ويحبون الشعر والشعراء، ويهتمون بجمع الأشعار وتسجيلها وحفظها في قصورهم1. هذا، وقد شاع في الأدب العربي، وفي الحياة العقلية للعرب بعامة كثير من آثار العراق وفارس، سقطت إلى العرب عن طريق الحيرة؛ كأحاديث جذيمة بن الأبرش، وأساطير الزباء، والخورنق والسدير، وسنمار وجزائه، ويومي البؤس والنعيم اللذين استنهما النعمان بن المنذر2، هذا فضلًا عما سقط إلى اللغة العربية من ألفاظ فارسية تجلت في استخدام القرآن الكريم لها. هذه الصلات الوثيقة وما يعززها من قرابة الدم والجوار واللغة، وتلك العلاقات العقلية والحضارية والسياسية كانت كفيلة كلها بتوجيه أنظار المسلمين إلى العراق. ولم يكن خافيًا على أبي بكر ما وصلت إليه فارس صاحبة السلطان في العراق من اضطرابات داخلية، ضربت بجرانها في البلاط الفارسي؛ إذ يسعى كل أمير ليقتل الجالس على العرش ليأخذ مكانه، حتى ليدعي هذا العرش في أربع سنوات تسعة من الأمراء كانوا يقتتلون عليه، يقتل بعضهم بعضًا جهرًا وغيلة. وقد بدأ هذا الاضطراب في عهد كسرى أبرويز، الذي أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فكان جوابه أن كتب إلى عامله في اليمن بأن يرسل إليه ذلك الراعي ليرى رأيه فيه. وحدث أن ثار عليه ابنه شيرويه فقتله واستلب العرش، ولكنه لم يتمتع بالملك طويلًا فمات بعد قليل، تاركًا العرش لابنه الصغير، الذي ثار به أحد القواد فقتله ونصب نفسه ملكًا، واستهدف هذا الملك لثورة الأسرة المالكة به، فقتل بعد أربعين يومًا من ثورته. حتى آل الأمر إلى بوران بنة كسرى أبرويز، وكان ذلك في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. لمح المسلمون في كل هذه الظروف المواتية فرصتهم وبشير سعودهم، وقد ارتفعت معنوياتهم بإعادة الأمور إلى نصابها، والظفر بأهل الردة، وبفرض كلمة الحق بالسلطان

_ 1 العمدة ج1، ص61. 2 فجر الإسلام ص18.

الصارم، فراحوا يستشرفون مثل هذه الغاية التي أعدوا لها أنفسهم منذ أن كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه فرصة ثمينة، يجب أن تكون خطوة لما بعدها. ولئن حالف المسلمين النجاح في هذا الخطوة لتكونن البشير لخطوات واسعة، فبقاع العراق الخصبة، التي أطلق عليها "جنة الأرض" تموج بكثرة غلالها ووفرة خيراتها وجمالها، وقد رأى أبو بكر صدق ما يذكره المثنى، ورأى أن من الواجب على المسلمين أن يقوموا بتأمين العرب من أهلها، فإذا استجاب هؤلاء العرب من بعد للدعوة الإسلامية، ولم يصرفهم الفرس عنها فذاك، وإلا قاتل المسلمون الفرس؛ ليكون المجال فسيحًا أمام كلمة الحق التي ستنتصر لا محالة. ويجمع أبو بكر ولاة أمر المسلمين وأولي الرأي منهم؛ للتداول في عناصر نجاح تدبيره. وما أن ينتهي حتى يخطو الخطوة الأولى في فتح العراق، فيأمر المثنى بن حارثة الشيباني بأن يسير بمن معه من قومه لقتال أهل فارس. ولما بلغته أخبار انتصاراته بدلتا النهرين رأى أن يمده، فكتب إلى خالد بن الوليد في المحرم من سنة 12هـ يأمره أن يجمع بقية جنده ويمضي إلى العراق فيدخله من أسفله، وأمر عياض بن غنم أن يسير إلى دومة الجندل ليخضع أهلها المرتدين، ثم يدخل العراق من أعلى، متجهًا شرقًا إلى الحيرة، فإن بلغها قبل خالد فالأمر فيها له، وخالد فيها من قواده، وإن سبقه خالد إليها فالأمر والقيادة له، وعياض من قواده. فإذا اجتمعتما في الحيرة وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يُؤتَى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكم ردءًا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن1. وهكذا تهدف الخطة التي وضعها أبو بكر مباشرة إلى الحيرة، ومنها إلى المدائن. وعلى هذا يمكننا أن نجعل الفتوح الشرقية مراحل ثلاث؛ أولاها: ما قبل الحيرة، والثانية: تشمل ما بين الحيرة والمدائن، والثالثة: تشمل ما بعد المدائن. المرحلة الأولى: كانت وصية أبي بكر لأمرائه أن يتجهوا إلى الحيرة، على ألا ينالوا العرب الفلاحين بسوء، فهم عرب، فضلًا عما يشعرون به من ظلم الفرس الذي يجب أن يزول حين مقدم العرب؛ ليعمهم العدل على أيدي بني عمومتهم.

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2021، 2022.

وكان جنود خالد قد قل عددهم بعد قتال اليمامة، وتسريح من شاء الرجوع بإذن الخليفة، حتى لا يستفتح بمتكاره، وألا يكون معه في الغزو أحد ممن ارتد حتى يرى الخليفة رأيه فيه؛ ولهذا استمد خالد أبا بكر، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمي، فلا يهزم جيش فيه مثله، كذلك أمد عياضًا بعبد بن عوف الحميري. ولم يلبث خالد أن حشد ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، ثم سار إلى العراق على رأس عشرة آلاف قدم بهم، على ثمانية آلاف كانوا مع أمراء الجند المسلمين الذي سبقوه إليه، والمثنى في مقدمتهم. وكان أمر أبي بكر إلى خالد أن يبدأ بالأبلة1، ولكن الرواة يجمعون على أن أول غزاة بالعراق كانت في الحفير، بينما يختلفون في أمر الأبلة، هل كان فتحها في عهد أبي بكر أو على عهد عمر؟ وكان أمير منطقة الحفير من قبل فارس يدعى "هرمز"، ومن أسوأ أمراء الثغور معاملة للعرب، حتى ليضرب به المثل في الخبث والكفر، وكان يعتبر نفسه حامي البلاد؛ لصده هجمات العرب وغاراتهم في البر، وقراصنة الهنود في البحر. وقد سار خالد من اليمامة إلى العراق على رأس عشرة آلاف من الجند. وما إن بلغ حدود هرمز حتى ألفى المثنى وجنده في انتظاره، وحينئذ قسم الجند كله ثلاث فرق، وجه كل واحدة منها إلى طريق، على أن يلتقوا جميعًا بالحفير. وسارت الفرقة الأولى بقيادة المثنى، وتبعتها بعد يوم فرقة أخرى على رأسها عدي بن حاتم الطائي، وبعد يوم آخر سار خالد في المؤخَّرة، وكان خالد قد أرسل إنذارًا إلى هرمز الذي بلغه مع كتاب خالد أنباء جند المسلمين ومسيرهم فكتب إلى أردشير بالخبر، وجمع جموعه وسار إلى الكواظم ليلقى فيها خالدًا، ولكن أنباء أخيرة جاءته بأن خالدًا أمر أصحابه بالسير إلى الحفير، فأسرع بجنده إليها، ونزل على الماء فيها. وقدم خالد ليجد جنده على غير ماء، فيقرر معهم ضرورة مجالدتهم على الماء. وكان على مجنبتي هرمز أميران من بيت الملك في فارس، هما: "قباذ" و"أنوشجان"، وأدرك هرمز أنه لن يدرك غرضه إلا بقتل خالد، فناده وعهد إلى جماعة من فرسانه أن ينقضوا عليه فيقتلوه. وسمع خالد النداء، فمشى إلى هرمز والتقيا،

_ 1 على الخليج الفارسي، وهو الثغر الذي تسير منه التجارة إلى الهند والسند وترد إليه منهما للعراق.

فاغتنمها فرسان هرمز، وشدوا يريدون قتل خالد واستخلاص قائدهم من يده، لكن القعقاع بن عمرو لم يمهلهم، فشد المسلمون وانهزم أهل فارس، وطارد المسلمون الفرس إلى الليل، حتى بلغوا الجسر الأعظم من الفرات، وطار المثنى في أثرهم يلاحقهم1. وكان لهذه الغزوة الأولى أثر عظيم، ألهب حمية المسلمين، فقد قتل هرمز بين يدي خالد، وغنم المسلمون ما شاء الله لهم أن يغنموا، حتى بلغ نفل الفارس ألف درهم خلا السلاح. وزاد نصر المسلمين جلالًا تنفيذ خالد للسياسة التي رسمها أبو بكر مع العرب الفلاحين بالعراق، فسبى المسلمون أبناء المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، أما الفلاحون فتركوا وأقروا، وجعلت لهم الذمة. وما لبث أردشير بعد أن تسلم رسالة هرمز أن دعا إليه أحد الأمراء الفارسيين المسمى قارن بن قريانس، وجعله على رأس قوة عظيمة سارت مددًا لجيش الثغور، وانضم إليها قباذ وأنوشجان على رأس فلول المنهزمين وعسكروا بالمذار، وعلم المثنى في عودته من مطاردة الفالة بأمر هذا الحشد، وخشي أن يقابله دون خالد، فكاتبه بتفصيل ما عنده وأنزل جنده منزلًا قريبًا من المذار، وطار خالد بجيشه فبلغ المذار وقارن يعد للقاء المثنى. وأخاف قدوم خالد الفرس الموتورين، وإن لم يضعف عزمهم، وخيل إلى قارن أنهم إن هاجموا خالدًا قبل أن يتخذ للموقف عدته لم يفتهم الظفر بالمسلمين وردهم إلى ديارهم. ولكن خالدًا كان على أهبة الاستعداد، فشد عليهم. ورأى المثنى في قدوم خالد معجزة أمد الله بها المسلمين فانقلب جنده من الخوف إلى اليقين بالنصر أسودًا كاسرة، والتحم الجمعان فإذا بقارن وقباذ وأنوشجان يُذبَحون بأعين جنودهم، وسيوف المسلمين تطيح برءوس الفرس من كل جانب، فيفرون إلى السفن يتخذونها مطاياهم للنجاة2. وقد أخذ الفرس تحت وطأة الهزيمة يحشدون عرب الضاحية والدهاقين لمعركة يثأرون فيها، وفي الولجة أوقع بهم خالد، وكانت الإصابة في بكر بن وائل فادحة3.

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2021، 2022. 2 الطبري 1/ 4/ 2027-2029. 3 الطبري 1/ 4/ 2029-2031.

ورأى العرب من نصارى بكر بن وائل أن يثأروا لهزيمتهم، فكاتبوا الفرس واجتمعوا على أليس، ولكن خالدًا تمكن منهم، وقتل من العرب والفرس سبعين ألفًا1. واستمر خالد في طريقه إلى أمغيشيا؛ لأن أليس من مسالحها، فخربها وفرق أهلها2. ثم استقل خالد النهر، متخذًا من سفن أمغيشيا التي غنمها المسلمون مطية إلى مرزبان الحيرة، الذي نهض في عسكره إلى خارج الحيرة، وأمر ابنه فسد قناطر الفرات؛ ليحول دون مسيل الماء فيما وراءها، فيعوق ذلك مسير السفن إليهم. وبينما خالد وجنده يدفعون بسفنهم شمالًا إلى الحيرة إذ جنحت السفن وارتطمت بقاع النهر، فخرج خالد في كتيبة من فرسانه، فلقي ابن المرزبان على فم العقيق، وقتلوه في جنده شر قتلة، وأعاد خالد الماء يجري في النهر، فعادت المياه تقل السفن إلى الخورنق، حيث نزل المسلمون يستعدون لفتح الحيرة3. وكان أهل الحيرة متحصنين بقصورهم، فحاصرهم خالد، بأن جعل أصحابه يحاصر كل منهم قصرًا، ثم دعوهم وأجلوهم يومًا فأبوا، فناوشهم المسلمون، وانتهت المناوشة باستجابتهم إلى الجزية وعقد الصلح4. وما إن سقطت الحيرة حتى أخذ الدهاقين يتتابعون على صلح المسلمين؛ إذ كانوا يترقبون ما يصنع أهل الحيرة. وبذلك بلغ سلطان المسلمين شاطئ دجلة، وأصبحوا مهددين له، ومن ثم أخذ خالد يكتب إلى أمراء فارس ومرازبتهم يدعوهم وينذرهم ويتوعدهم. وبينما ينهى خالد ما نيط به من خطة أبي بكر بدخوله الحيرة لا نسمع شيئًا عن شريكه عياض، الذي يدفع بخالد إلى إرجاء المرحلة الثانية من الخطة حتى يستنقذه، فيخلف القعقاع بن عمرو على الحيرة في طريقه إلى الأنبار، وكان أهلها قد تحصنوا وخندقوا وأشرفوا من حصونهم، فأمر خالد بأن ترشق عيونهم، فأصاب منهم المسلمون ألف عين؛ ولهذا فقد سميت تلك الوقعة بذات العيون5. وأفلح خالد في أن يسد الخندق بالمناحر، واجتازه المسلمون، وفضوا الحصون، وأعملوا في سكانها السيوف، ثم

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2031-2036. 2 الطبري 1/ 4/ 2036. 3 الطبري 1/ 4/ 2037، 2038. 4 الطبري 1/ 4/ 2038. 5 الطبري 1/ 4/ 2059.

خلف عليها الزبرقان بن بدر. وانطلق بعد أن صالحه أهل كلواذى يريد عين التمر؛ حيث اجتمع على حربه فيها جمع كبير من الفرس والعرب من النمر وتغلب وإياد، جعلهم الفرس في مواجهة المسلمين، حتى يقاتلوا وهم أقوياء، إذا لم يثبت العرب أمام المسلمين، ولم يثبت العرب أمام المسلمين، فقتل عقة بن أبي عقة زعيم العرب، وفر مهران قائد الفرس، وتمكن خالد من اقتحام الحصن الذي فر إليه الفرس وقتلهم فيه جميعًا1. بعث خالد بالأخماس إلى أبي بكر مع الوليد بن عقبة، واستطاع أبو بكر أن يقف منه على سأم خالد من بقائه بالحيرة، وضيقه بانتظار عياض، وكان أبو بكر يرى موقف عياض مضعفًا لروح المسلمين، فأمر الوليد أن يتجه لعياض بدومة الجندل، وألفى الوليد عياضًا يحاصر القوم ويحاصرونه، وقد أخذوا عليه الطريق، فأشار الوليد بالاستنجاد بخالد، وما كان لعياض أن يتردد وقد بقي سنة لا يقوى على خصومه، فبعث رسولًا إلى خالد أدركه يوم فراغه من عين التمر. وما كاد خالد يفض كتاب عياض حتى تهلل، ورد الرسول لساعته يحمل كتابًا إلى عياض فيه: إياك أريد: البث قليلًا تأتك الحلائب ... يحملن آسادا عليها القاشب كتائب تتبعها كتائب وخلف خالد على عين التمر عويم بن الكاهل الأسلمي، وخرج يحث السير في جنده إلى دومة الجندل، وبينه وبينها ثلاثمائة ميل، وقطعها في أقل من عشرة أيام بعزم لا يعرف الخطر. وما إن تسامعت القبائل بمقدمه حتى بهتت واختلفت. وكانت القبائل المعسكرة بدومة الجندل قد تضاعف عددها عما كان عليه منذ عام؛ ذلك أن بني كلب وبهراء وغسان نفروا من العراق منحدرين إلى دومة الجندل ليثأروا من عياض لهزائمهم أمام خالد. وكان على هذه القبائل أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة، وكان من رأي أكيدر الصلح، فلما لم يتسن له حمل قومه عليه تركهم نجاة بنفسه، فأرسل خالد إليه من

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2062-2064.

أتى به وقتله. ونزل خالد عليهم فأظفر الله المسلمين، بعد أن أسروا رؤساء القوم، وقتلوا من التجأ إلى الحصن، عدا حلفاء تميم من كلب، فقد أجارهم عاصم بن عمرو1. وكان لعرب الجزيرة أن يثأروا لمقتل عقة، ولهزيمة عين التمر، فكاتبوا الفرس فخرج روزمهر وروزبه يريدان الأنبار، واتعدا حصيدًا والخنافس، وفي نفس الوقت خرج الهذيل بن عمران فعسكر بالمصيخ، بينما عسكر ربيعة بن بجير بالثني، وعلم الزبرقان بن بدر أمير الأنبار بأمر هذا الترتيب الحربي، فكاتب القعقاع أمير الحيرة الذي بعث إليه بأعبد بن فدكي السعدي، وأمره بالحصيد، وبعروة بن الجعد البارقي، وأمره بالخنافس، فخرجا فحالا بين روزمهر وروزبه ومقصديهما. وبلغت الأنباء خالدًا فحث السير إلى الحيرة؛ حيث خلف عليها عياضًا، ورمى بالقعقاع وأبي ليلى بن فدكي أمامه إلى عين التمر، فلما وافاهما وجه القعقاع إلى الحصيد وأبا ليلى إلى الخنافس؛ ليعطي القوم فرصة للتجمع حتى يقاتلهم مرة واحدة مجتمعين2. وسار القعقاع إلى الحصيد وعليه روزيه، فاستغاث هذا بروزمهر فأغاثه بنفسه، والتقى المسلمون بالفرس في الحصيد، فقتلهم الله شر قِتْلَة، وقتل القعقاع روزمهر، وقتل عبد الله الضبي روزبه. وسار أبو ليلى إلى الخنافس وعليها المهبوذان فانهزم أمام المسلمين دون قتال، وفر جنده إلى المصيخ، يلتحقون بمن فيها من العرب. وعقد خالد اجتماعًا لقواده، واتفقوا على اللقاء بالمصيخ في ساعة بعينها، توافوا إليها من ثلاث جهات، فبيتوا الهذيل ومن معه، وملئوا الفضاء بجثث القتلى. ورأى خالد أن يبغت تغلب في دارها، فتقدم إلى قائديه القعقاع وأبي ليلى بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما الغارة على تغلب في ليلة بعينها، واجتمع القواد الثلاثة من ثلاثة أوجه، فلم يكد يفلت من جيش بني تغلب أحد. وذاعت أنباء خالد وفعاله بالقبائل وعجزها عن مقاومته، ففت ذلك في أعضاد رجال البادية بالعراق، فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان. وجعل خالد يسير على شاطئ الفرات فيما حوله فلا يلقى إلا الإذعان، حتى بلغ الفراض، وهي تخوم العراق والشام،

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2065-2067. 2 الطبري 1/ 4/ 2067-2073.

فوجد الروم في مواجهته، ليس بينه وبينهم غير مجرى الفرات. وقد أغاظ الروم أن يقيم جيش المسلمين في مواجهتهم، وأن يطيل المقام غير عابئ بهم، ولا بكتائب الفرس القريبة، ولا بأهل البادية من تغلب والنمر وإياد المنتشرين حولهم في كل مكان. ولم يلبث هؤلاء وأولئك أن انضموا إلى الروم وحرضوهم وأمدوهم، فسار خالد حتى إذا لم يبقَ بينه وبينهم غير الماء بعثوا إليه يخبرونه بين أن يعبروا إليه أو أن يعبر إليهم، فاختار عبورهم. وفيما يعبرون صف خالد صفوفه ودبر خطته، والتقى الجمعان، وأبلى المسلمون بلاء لم يعهده أعداؤهم، فلم يثبتوا لهم، وانكشفوا وأدبروا، والمسلمون من ورائهم يمعنون في قتلهم، حتى بلغ من قتل في هذه الواقعة مائة ألف من أعداء المسلمين1. أقام خالد عشرة أيام بعد وقعة الفراض، ثم أذن في الناس بالرجوع إلى الحيرة، لخمس بقين من ذي القعدة من السنة الثانية عشرة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بالمسلمين، وأظهر أنه بالساقة، وفي نفس الوقت أمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم. ومن ثم مضى هو إلى الحج -لا يعلم أحد بذلك- في طريق غير مطروقة، متعسفًا البلاد، ومتسمتًا مكة2. وما إن قضى نسكه حتى سارع إلى جنده فأدركهم في دخولهم الحيرة، فالتحق بالساقة كأن لم يكن شيء. وقد اعتبر أبو بكر هذا العمل -حينما علم به بعد ذلك- زهوًا من خالد بنفسه واغترارًا. وحدث أن مست الحاجة إلى رمي الروم بمثل ما رمى به الفرس، فتلقى خالد بالحيرة كتابًا من أبي بكر يأمره بأن يسير حتى يأتي جموع المسلمين باليرموك، فقد شجوا وأشجوا، على ألا يعود لمثل ما فعل، وألا يدخله عُجْب، وألا يدل بعمل. على أن يستخلف المثنى على العراق في نصف الناس، وأن يأخذ معه النصف، "فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك"3. المرحلة الثانية: انتهت المرحلة الأولى من الفتوح الشرقية باستنقاذ عياض واستقامة العراق للمسلمين أسفله وأعلاه. وبدأت المرحلة الثانية بنفس البداية، فالمثنى وحده في العراق بعد أن صدع

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2073-2075. 2 الطبري 1/ 4/ 2075، 2076. 3 الطبري 1/ 4/ 2089-2110.

خالد بأمر أبي بكر، وتوجه في نصف جيش العراق إلى اليرموك. ولم يكد المثنى يعود من وداع خالد إلى تخوم الصحراء حتى بدأ ينظم الدفاع عن البلاد التي فتحها المسلمون. فلا ريب أن الفرس سيتحرشون به متى علموا بسفر خالد، ولا ريب كذلك فيما سيتكشف عنه حقد القبائل العربية التي لم يصلحها إلا بطش خالد، ولكنه أحفظها كذلك، فباتت تترقب الثورة بالمسلمين. وقد شعر خالد قبل توجهه إلى الشام بدقة الموقف، فبعث بالنساء والصبيان والضعفاء إلى المدينة. ووجد المثنى نفسه في حالة لا يُحسد عليها، فهو رائد الفتح في هذا الميدان وطليعته، وليس من الهين على نفسه أن يهزم فيه، وزاد الموقف صعوبة أن الفرس استقام أمرهم على شهر براز بن أردشير، الذي أراد إرهاب المثنى، فوجه إليه جندًا كثيفًا، بقيادة هرمز جاذويه، وفي مقدمة جيشه فيل كبير. ولم ينتظر المثنى أن يقدم عليه الفرس في الحيرة، متخطين المناطق التي حازها المسلمون، فخرج إليهم في جنده، وسار حتى بلغ أطلال بابل، وعلى مقدمتيه أخواه المعنى ومسعود، فعسكروا على مرتفع يبعد خمسين ميلا من المدائن. والتقى الجمعان، وكانت معركة رهيبة، ابتلي فيها المسلمون بالفيل الذي عانى منه الجند والخيل، حتى دل المثنى على مقاتله فقتله، وهاجموا الفرس فهزموهم شر هزيمة واحتلوا معاقلهم، وتعقبوا فلولهم إلى أبواب المدائن1. ونزلت الهزيمة على شهر براز نزول الصاعقة، فحم ومات. وعاد الاضطراب إلى البلاط الفارسي من جديد، فاطمأن المثنى قليلًا، ولكنه حسب حساب الغد حينما تنتهي هذه الخلافات، ولا بد له أن يكون مستعدًّا للقائهم لقاء حاسمًا. والخليفة لا يمكن أن يمده وجيوشه موزعة في الشام والعراق، ولو كان في الإمكان إمداده لما فصل خالد بنصف جيش العراق، ولكنه كتب إلى الخليفة يستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبته من أهل الردة. وفي انتظار رد الخليفة أقام يدبر خطته ويحكم تدبيره، وأبطأ رد الخليفة، ولم يرَ المثنى بُدًّا من الانسحاب إلى أدنى أرض العراق من حدود البادية؛ حيث خلف على المسلمين بشير بن الخصاصية، وذهب بنفسه إلى المدينة ليرى رأيه مع الخليفة. وفي المدينة ألفى المثنى أبا بكر مريضًا مرضًا يشفي على الموت، ولكنه استقبله، واستدعى عمر بن الخطاب فأوصاه أن يندب الناس مع المثنى، لا يشغله مصيبة وإن عظمت عن وصيته.

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2152.

ويقضي الخليفة الأول في الحادي والعشرين من جُمَادَى الآخرة سنة 13هـ بعد إصدار أمره بندب المسلمين مع المثنى، لاستكمال المرحلة الثانية من الخطة التي رسمها. ولم يضيع الخليفة الثاني وقتًا، فأخذ يندب الناس باذلًا في ذلك جهده، حتى بلغ له من أهل المدينة ومن كان قد ارتد حشد كبير، أمر عليه أول منتدب -أبا عبيد عمر بن مسعود الثقفي- وعجل المثنى، فسبق أبا عبيد، ووصل إلى الميدان بعد عشر ليال؛ ليلحق به أبو عبيد بعد شهر من وصوله. ولا يكاد المثنى يستقر بين جنده حتى يسأل عما آل إليه أمر البلاد الفارسي فيبلغه أن الفرس ولوا ابنة كسرى عليهم ثم خلعوها، وخلفها سابور بن شهريران، الذي تآمرت عليه ابنة عمه آزرميدخت، فقتل وقتل وزيره الفرخزاد، وجلست على عرش فارس. لكن القائد رستم بن الفرخزاد انتقم لأبيه، فألحق الهزيمة بجيوش الملكة وحاصر قصرها. وأقام بوران ابنة كسرى على عرش البلاد، فأطلقت يده في أمور الدولة وجعلته على الجند، وأمرت أهل لفارس أن يسمعوا له ويطيعوا. وبلغ أبو عبيد العراق، فوجد المثنى قد انسحب إلى "خفان" على حدود البادية؛ لأن رستم أوعز إلى الدهاقين بالسواد أن يثوروا بالمسلمين، ودس في كل رستاق رجلًا يثير أهله، ثم أرسل جندًا لمصادمة المثنى، الذي آثر الحذر وانسحب من الحيرة، حتى لا يُؤتَى من خلفه، وفي "خفان" وافاه أبو عبيد، وأقاما يدبران خطة لملاقاة الفرس. وكان رستم قد عهد إلى جابان -أحد قواده- أن يتجه على رأس جيش عظيم إلى الحيرة، كما عهد إلى قائد آخر هو نرسى أن يتجه إلى كسكر. وخرج المسلمون بعد أن جمعوا في "خفان"، فالتقوا بهم عند النمارق، واقتتلوا قتالًا شديدًا، أظفر الله فيه المسلمين، فأسروا جابان ومرادا نشاه1. وما إن علم رستم بهزيمة جابان حتى أمر الجالينوس بأن يسير إلى المسلمين فيلحق بنرسى في كسكر، ولكن أبا عبيد كان أسرع منه، فحث بجنده السير لمواجهة نرسى، الذي انحاز إليه فل النمارق. والتقى المسلمون بالفرس في مكان يُدعى بالسقاطية على مقربة من كسكر قبل أن يصل الجالينوس. ولم يثبت نرسى أكثر مما ثبت جابان، ففر في

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2152-2168.

جنده تاركًا لهم مغانم كثيرة. وأقام أبو عبيد بكسكر، بينما سرح المثنى وغيره من القواد يغيرون على النواحي القريبة، فاحتلوا سواد العراق -أسفله وأعلاه- وأذاعوا الرعب في القوم، معيدين إلى ذاكرتهم أيام خالد بن الوليد. فما لبث الدهاقين حتى جاءوا أبا عبيد يصالحونه، ويعتذرون عن ممالأة الفرس، وأن ذلك كان بإكراههم. ولما تم الصلح معهم جاءوه ببعض الهدايا1، ونهد أبو عبيد للجالينوس الذي كان تحول إلى باقسياثا فهزمه وألجأه إلى الفرار2. وتبلغ الهزيمة رستم، فيجهز جيشًا عليه بهمن جاذويه، ويبعث بالجالينوس والفيلة وراية فارس الكبرى "درفش كابيان" في جيش لم يعرفه المسلمون من قبل، وتراجع أبو عبيد بجنده إلى قرية قس الناطف، بعد أن عبر النهر إليها وتحصن بها ينتظر عدوه. وأقبل بهمن يفصل بينه وبين المسلمين النهر، وبعث يخير أبا عبيد في أن يعبر إليهم أو يعبروا إليه وأشار أصحاب أبي عبيد عليه بألا يعبر، وأن يدع الفرس يعبرون، لكنه أخذته العزة فقال: والله لا يكونون أجرأ منا على الموت، بل نعبر نحن إليهم. وعبر. فعبر المسلمون واقتتلوا على الجسر، فأصيب من الفرس ستة آلاف قتيل وغريق، ولم يبقَ لهم إلا الهزيمة، برغم هول الفيلة وخيبة الخيل بإزائها، وحدث أن أبا عبيد كان يعالج فيلًا فخبطه وأصابه، فتضعضع المسلمون لإصابة قائدهم، وركب الفرس أكتافهم، فبادر رجل من ثقيف إلى قطع الجسر؛ ظنًّا منه أنه بذلك يمنع الفرس عن المسلمين فكانت الطامة؛ إذ أخذت السيوف المسلمين من كل ناحية، فتهافتوا في الفرات، واستطاع المثنى في حماية نفر من المسلمين أن يعقد الجسر، وعبر المسلمون إلى المروحة عائدين إلى مكانهم. وأصيب المثنى بجراح وهو يعقد الجسر. وفر ألفان من المسلمين وقتل أربعة آلاف منهم. وبقي المثنى في ثلاثة آلاف فحسب3. وكانت هزيمة الجسر. هذه أول هزيمة صادفها المسلمون؛ ولهذا كان أثرها في المسلمين أليمًا وعنيفًا، حتى ليتجاوز ميدان المعركة إلى المسلمين في المدينة؛ حيث لجأ الفارون. ورأى عمر بثاقب رأيه

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2168-2170. 2 الطبري 1/ 4/ 2172. 3 الطبري 1/ 4/ 2174-2182.

أن يحتضنهم، وأن يعتبرهم متحفزين لقتال؛ ليداري افتضاحهم في ثباتهم ورجولتهم فيقول: أنا فئة كل مسلم1. انحدر المثنى بجنده جريحًا إلى أليس، فقد خشي أن يتعقبه بهمن واضعًا في تقديره قوة عدوه وقوته، وصح ما توقعه المثنى، فقد تجهز بهمن لتعقبه، إلا أن الأنباء واتته بتجدد الاضطرابات في المدائن، واختلاف الفرس فرقتين، إحداهما مع رستم والأخرى مع الفيروزان. فعاد بهمن إلى العاصمة، وخلف من ورائه جابان ومردانشاه في كتيبة من الجند، فسارا يتعقبان المثنى، فخرج إليهما وأسرهما وأصحابهما، وضرب أعناقهم جميعًا. فقد خدعا أبا عبيد يوم أسرا بالنمارق، وعاد إلى حرب المسلمين. وفي هذا الوقت كان عمر في المدينة يحشد أمدادًا من بجيلة وضبة. وممن ظهرت توبتهم من أهل الردة. وأدرك المثنى أن هذه الإمدادات تحتاج إلى وقت طويل حتى تصل إليه، وسرعان ما تنتهي الاضطرابات في العاصمة حتى يعود الجند تتقدمهم الفيلة، فبعث إلى من يليه من قبائل العرب فتوافوا إليه في جمع عظيم، بينهم نصارى بني النمر، ونقل عسكره من أليس إلى مرج السباخ بين القادسية وخفان ليكون على تخوم العرب يلجأ إليهم عند الحاجة. وكان عمر يتصور حال المثنى وموقفه الدقيق، فضاعف جهده في ندب الناس المتثاقلين، بعدما رأوا فالة الجسر وفرارهم، فاستصلح عمر جرير بن عبد الله البجلي في جمع من بجيلة، وحذا الناس حذو بجيلة، فانضم إليهم من فر يوم الجسر وكثير من الأزد، وبني كنانة، وخلق كثير من مختلف القبائل، وتحمل الناس ومعهم نساؤهم وساروا يريدون المثنى. وانتهى الخلاف بين رستم والفيروزان، وهالتهما أنباء الأمداد التي تسير تباعًا إلى العراق، فجمعا جندًا عظيمًا، جعلا عليه مهران الهمذاني. وسار مهران في جنده تتقدمه الفيلة، وفي خاطره أن يحرز نصرًا يُنسي الناس انتصار بهمن يوم الجسر. وقد علم المثنى بمسيره، فسار إلى البويب مكان الكوفة الحالية بعد أن كتب إلى أمراء الأمداد بموافاته فيها. وسار مهران حتى وقف قبالة جيش المسلمين، لا يفصل بينهما غير النهر. وأرسل يخير المسلمين في العبور، ولم يكن المثنى قد نسي ما حدث لأبي عبيد. فعبر الفرس إلى البويب، وتعبئوا في صفوف ثلاثة على كل فيل. ولم يكد المسلمون يمسعون التكبيرة

_ 1 البلاذري ص252.

الأولى حتى أعجلهم الفرس فشدوا عليهم، فاختلت صفوفهم؛ ولكنهم عادوا فشدوا، وترجحت المعركة حامية الوطيس حتى حمل المثنى على قائد الفرس فأزاله عن مكانه، ودخل في ميمنته. ورأى الفرس ما حدث فاندفعوا يحمون قائدهم، وتقهقر القلب تحت ضربات المسلمين إلى النهر يريدون العبور، فسبقهم المثنى والمسلمون فردوهم عنه. فازداد اضطرابهم بعد أن حصروا فقتلوا شر قتلة، حتى لقد سُمي يوم البويب بيوم الأعشار؛ لأنهم أحصوا مائة رجل من المسلمين قتل كل منهم عشرة من الفرس، وأمعن المسلمون يتعقبون الفالة إلى الليل، وأحصوا القتلى مائة ألف من الفرس، تلوح عظامهم تلولًا1. انتصر المسلمون انتصارًا مبينًا، تطهروا فيه من عار هزيمتهم يوم الجسر، وإن كانوا فقدوا عددًا كبيرًا بين جريح وقتيل. ولم يضيع المثنى وقتًا، فأمر قواده فانطلقوا في السواد حتى بلغوا ساباط على مرأى من المدائن وجيوش الفرس تفر أمامهم فرار النعام. وانطلق هو فغزا الخنافس والأنبار أيام سوقهما فنال منهما غنمًا كثيرًا. فبلغ المسلمون دجلة وأغاروا على قرية بغداد. وبلغوا تكريت يقتلون المقاتلة، ويسبون الذرية ويستاقون الأموال. ودان بهذه الغزوة العراق لسلطان المسلمين كرة أخرى2. وتدبر الفرس موقفهم. فما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن، والخلافات عادت جذعة بين رستم والفيروزان، حتى ضج الفرس منهما، وأنذروهما إن لم يجتمعا على حرب المسلمين. وقد استجابا وتشاورا على تنصيب يزد جرد بن شهريار، واجتمع الفرس عليه وتباروا في معونته، وأعدوا العدة للثأر. وعلم المثنى بذلك، فكاتب الخليفة الذي أبطأ رده، فلم يرَ المثنى بُدًّا من أن ينسحب كرة أخرى إلى تخوم شبه الجزيرة، فنزل بذي قار ينتظر مدد الخليفة. وفي نفس الوقت بدأ يزدجرد حركة عامة للحشد، استعدادًا لمعركة فاصلة فسمي جند الأماكن التي سيطر عليها المسلمون، فثارت هذه الأماكن وكفر أهل السواد، في الوقت الذي خرجت فيه الزحوف من المدائن، واهتزت، الأرض بالمسلمين، وجاءهم أمر الخليفة بأن يتفرق المسلمون بين المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضهم مسالح..

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2193-2199. 2 الطبري 1/ 4/ 2202-2207.

مسالح، يغيث بعضهم بعضًا، وكان قد كتب إلى عماله بألا يدعوا فارسًا أو ذا نجدة أو سلاح أو رأي إلا اجتلبوه. وما كاد يعود من الحج حتى وافاه الجند من كل صوب، وخرج فيهم إلى صرار في المحرم سنة 14هـ فعسكر بها، لا يدري ما يصنع. وعقد مؤتمرًا عسكريًّا، ضم أولي الرأي الذين أجمعوا على أن يقيم عمر، وأن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كسعد بن أبي وقاص وكان على صدقات هوازن وأجمع المسلمون عليه، فسرحه في أربعة آلاف ممن اجتمع إليه. وكانت بعض الجموع قد لحقت قبله بالمثنى، وقد كان بهذا الجيش خلاصة الأمة الإسلامية وقتئذ؛ إذ لم يدع عمر رئيسًا ولا ذا رأي أو سلطة أو نجدة ولا شاعرًا أو خطيبًا إلا رماهم به، فضلًا عن بضعة وسبعين بدريًّا، وثلاثمائة من أبناء الصحابة. وقبل أن يصل سعد مات المثنى متأثرًا بجراحه يوم الجسر ويوم البويب، تاركًا وصيته لخلفه في معالجة الفرس. واستمرت المكاتبات بين سعد والخليفة ينصحه ويوجهه ويأمره بأن يرسل إلى الفرس من أهل المناظرة والرأي، فاختار قومًا أجلاء، تحدثوا إلى يزدجرد وقواده أحاديث شائقة وبارعة عن روح الإسلام، التي لم يستطع الفرس إدراك أثرها في حياة العرب. وفصل رستم من المدائن في تعبئة كبرى وعدد جنوده زهاء مائة وعشرين ألفًا، وسارت طلائعه حتى وصلت الحيرة فنزلت بها، وسار رستم حتى أتى النجف فعسكر بها، والطلائع تسير أمامه، ولم يزل الجيشان يتقاربان حتى وقف رستم على العقيق، وسعد أمامه. والتقى الجيشان على الدعاء والمكاتبات حتى خرس صوت المنطق، وأجمع رستم أمره على العبور، وكان سعد قد عبأ جيشه، فأقام بأعلى القصر لمرض كان به، يشرف على المعركة من عل، ويرمي بالرقاع إلى خالد بن عرفطة وهو أسفل منه. وكان وراء الفرس العقيق، ووراء المسلمين الخندق، وميدان المعركة بين ذلك، وعند الظهر أنشب أهل النجدات القتال، وأشعل الرجاز أوار الحماس. وكان سعد قد أمر الشماخ، والحطيئة، وعبدة بن الطبيب، والمغيرة بن شعبة، وعاصم بن عمرو، وعمر بن معديكرب وغيرهم ليقوموا في الناس بما يحق عليهم، يذكرونهم ويحرضونهم على القتال1.

_ 1 الفاروق، هيكل ص168.

وأقبل أهل فارس عليهم في مثل حماسهم، يلبون نداء من يريدون نزالهم. وكان غالب بن عبد الله الأسدي في مقدمة من خرجوا يبارزون، وأخذ يرتجز، فخرج إليه هرمز فأسره غالب وجاء به سعدًا، ورجع إلى المطاردة. وبينما هو يرتجز طارد فارسيًّا نفر منه. فلقي فارسًا معه بغل، ففر الفارس، فاستاق عاصم بن عمرو البغل والرجل، فإذا الرجل خباز الملك، وإذا في الرحل طعام رستم، فنقله سعد للمسلمين ليأكلوه. وكبر سعد التكبيرة الرابعة -وكان القراء قد انتهوا من سورة الأنفال- فالتقى الجيشان. وأبلى أبطال المسملين بلاء لم يعرف له نظير. ورأى الفرس بني بجيلة وعليهم جرير بن عبد الله يصولون ويجولون، فوجهوا إليهم ثلاثة عشر فيلًا، حملوا عليهم ففرت خيلهم نفارًا، وبقي الرجال وتكاد الفيلة تبيدهم. ورأى سعد ما أصاب بجيلة، فأرسل إلى بني أسد ليذبوا عنهم، فخرج إليهم طليحة بن خويلد وجماعة من قبيلته، فشدوا عليهم، فما زالوا يطعنونهم حتى حبسوا الفيلة عنهم. لكن الفيلة عادت فحملت عليهم، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو ليرى رأيه في الفيلة، فنادى عاصم الرماة ليذبوا ركبان الفيلة بالنبل، فاستدبروها وقطعوا وضنها وضربوها بالنبل، فارتفع عواؤها وألقت بركبانها فقتلوا. ونفس عن أسد وعن بجيلة جميعًا، بعد أن قتل من أسد وحدها أكثر من خمسمائة1. وظل سعد مشفقًا من مصير المعركة؛ لما كان يراه من شدة الفرس وكثرة عددهم وفعال فيلتهم. وانقضى النهار وغربت الشمس والقتال لا يزال حاميًا وطيسه. فلما ذهبت هدأة من الليل رجع الجيشان كل إلى مواقعه، وكل يحسب للغد حسابه، والمسلمون أشد لهذا الغد حسابًا، بعدما نزل بهم في اليوم الأول من كوارث. فلما تنفس الصبح شغل العرب والفرس بدفن القتلى ونقل الجرحى، وقد دفن المسلمون قتلاهم بالعذيب، ونقلوا الجرحى إلى النساء ليقمن على العناية بهم. وبينما هؤلاء وأولئك في شغل بهذا الأمر كان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص يغذ السير في ستة آلاف من المسلمين الذين فصلوا من الشام تنفيذًا لأمر عمر إلى أبي عبيدة بأن يرد جيش العراق إليه بعد أن ينصره الله بدمشق. فلما فتحت دمشق وانتصر المسلمون بفحل انطلقوا مددًا لسعد، وعلى مقدمتهم القعقاع في ألف من شجعان المسلمين، وعجله هاشم أمامه

_ 1 مروج الذهب ج2، ص205.

ليدرك سعدًا قبل فوات الوقت. وأراد القعقاع أن يشد عزائم المحاربين في هذه الوقعة الخطيرة، فقسم رجاله الألف عشر فرق، وعهد إليهم ألا تسير فرقة حتى تكون الفرقة التي سبقتها على مدى البصر، ثم سار على رأس الفرقة الأولى، ثم تقدم الصفوف يستفتح القتال، فخرج إليه بهمن جاذويه، فصاح القعقاع: يا لثارات أبي عبيد!! وانقض عليه فأورده حتفه، وتنشط الناس وهم يرون صنيع القعقاع ولم يروا الفيلة بينهم. وبدأت فرق القعقاع تفد، والمسلمون يكبرون، حتى خيل إلى الفرس أن لا آخر لها، وأبلى القعقاع وأبو محجن الثقفي في هذا اليوم بلاء عجيبًا، فقد حمل القعقاع ثلاثًا وثلاثين حملة يقتل في كل منها رجلًا1. وصنع أبو محجن أفاعيل بالفرس تكاد تكون أساطير. واتصل القتال إلى منتصف الليل، والمسلمون يرون فيه الظفر. وقد رفه عن المسلمين غياب الفيلة، وأن بني عم القعقاع برقعوا إبلًا وجللوها ودفعوها تحمل على الفرس كأنها الفيلة، فولت خيولهم نفارًا من منظرها، ولقيت منها ما لقيت خيول المسلمين يوم "أرماث" فركبتهم قوات المسلمين، وأعملوا فيها السيوف قتلًا وبترًا. وتنصف الليل والمسلمون يزاحفون عدوهم يريدون إجلاءه عن مواقعه فيصيبون منه ويكثرون القتل فيه، ويكادون يظفرون به لولا كثرة عدده وشدة مقاومته. ولم يجد كل من الفريقين بُدًّا من أن يرجع إلى عسكره، يعيد تنظيم صفوفه؛ ليعود في الصباح إلى الزحف ابتغاء الظفر. واطمأن سعد ونام، فقد وجد الناس مغتبطين، ينتمي كل منهم إلى قبيلته. أما القعقاع بن عمرو فبات ليله يسرب أصحابه الذين جاءوا معه من الشام إلى المكان الذي كانوا فيه بالصحراء صبح أغواث، وأمرهم أن يقبلوا مائة مائة إذا طلعت الشمس، على نحو ما فعلوه في أمسهم، فإن أدركهم هاشم بن عتبة وجاء بمن معه فذاك، وإلا فقد جددوا للناس رجاء في المدد. وأصبح الناس والجيشان في مواقفهم، وبين الصفين ألفان من المسلمين بين قتيل وجريح، وعشرة آلاف من الفرس. فدفن كل جيش قتلاه ونقل جرحاه. ووقف القعقاع في المؤخَّرة حين طلعت الشمس ينظر إلى ناحية الصحراء، فلما بدأت خيله تقبل كبر وكبر الناس معه. وكان هاشم قد أدرك رجال القعقاع وعرف ما صنع صاحبه، فقسم رجاله فرقًا تتلاحق دراكًا، فبلغ القادسية حين أخذ المسلمون مصافهم

_ 1 المرجع السابق.

للقتال، فلما رآه الناس ورآهم كبر وكبروا معه، واندفع هاشم إلى القلب حتى بلغ النهر وهو يرمي العدو، ثم عاد فكرر فعله فلم يجرؤ أحد على مصاولته. ولم يضعضع هذا من عزم الفرس، فقد أصلحوا توابيت الفيلة واقتحموا بها المعركة. ومنذ طلعت الشمس ورآها سعد تفعل الأفاعيل وتفرق بين الكتائب سأل جماعة من الفرس الذين أسلموا عن مقاتلها. فقالوا: مشافرها وعيونها. وقد تمكن القعقاع وأخوه عاصم من الفيل الأبيض فوضعا رمحيهما في عينيه، وكذلك فعل حمال والربيل بالفيل الأجرب. وهرولت الفيلة فأحدثت هرجًا ومرجًا بين صفوف الفرس، وتواثبت في العقيق وقد ألقت ركبانها، وتخطت الماء مدبرة ولم تعقب. وواصل الجيشان القتال، وكأنما دار بخواطر الجند من الفرس والعرب ألا يضعوا السلاح حتى يحسم بينهم. وهدأ وطيس القتال حين أقبل الليل، وقدر سعد أن الجيشين سيقضيانه في الاستعداد ليوم رابع، ولكنه خشي أن يأتيه العدو من مخاضة بأسفل العسكر، فأرسل طليحة وعمرو بن معديكرب في جماعة وأمرهما بأن يقيما فيها حتى يأتيهما أمره، وسولت لهما نفساهما أن يخوضاها فيأتيا العدو من خلفه، واختلفا كيف يفعلان، فأخذ طليحة مكانه وراء العسكر، وكبر ثلاث تكبيرات، ارتاع لها أهل فارس فظنوا أن جيش المسلمين أزمع الغدر بهم، وظن المسلمون أن الأعاجم فتكوا برجالهم، فأغار عمرو على جماعة من الفرس أسفل المخاضة، فلم يعد لديهم ريب في غدر المسلمين بهم فزحفوا، ورأى القعقاع صنيعهم فزاحفهم دون استئذان سعد، ولكن سعدًا يطل فيراه يزاحفهم فيقول: اللهم اغفرها له وانصره، فقد أذنت له وإن لم يستأذني، وتبعه المسلمون دون انتظار لتكبير سعد، واستقبلوا الفرس بالسيوف وخالطوهم. فكان للسيوف قعقعة، والمقاتلون لا يتكلمون بل يصيحون، والقتال يشتد ويحمى وطيسه كلما تقدم الليل. وبات الجيشان يقتتلان أشد قتال وأقساه، ولم يغمض لأحد من الجند تلك الليلة جفن. فلما أصبح الصباح جعل المسلمون ينتمون إلى قبائلهم، ولم يكن النصر قد عقد لواءه لأحد من الفريقين، وسار القعقاع في الناس يقول: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فأصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فحمل المسلمون حتى الظهيرة في جلاد باسل، حتى بدأت صفوف الفرس تضطرب وتراجع الفيرزان والهرمزان في المجنبتين، فانفرج القلب وهبت ريح أطارت طيارة رستم إلى العتيق، وزحف القعقاع بمن معه إلى

سريره، ففر رستم إلى النهر واقتحم وراءه نفر من فرسان المسلمين، وصَعِدَ أحدهم على سريره يصيح: قتلت رستم ورب الكعبة!! إليَّ إليَّ، وطاف به الجند يهللون ويكبرون. وأسقط في يد الأعاجم ووهنت قوتهم، وانهد ركنهم، وقام الجالينوس يعبر بقومه النهر، لكن الردم انهار بهم في النهر، فغرق بانهياره ثلاثون ألف فارس مقترنين بالسلاسل، وانهزم جيش الفرس وانطلقت فلوله يولون الأدبار. وأمر سعد فخرج القعقاع وشرحبيل وزهرة بن حوية يتعقبونهم، وأدرك زهرة الجالينوس يجمع المنهزمين فقتله. وجعل المسلمون يقتلون من يلونهم من الفرس ويأسرونهم دون مقاومة وجمع الناس الأسلاب والأموال، فإذا هي شيء لا يحيط به خيال عربي، حتى لقد بلغ عطاء الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين. وزاد أهل البلاء كل واحد منهم خمسمائة -فضلًا عن الخمس- وما بقي بعد ذلك كثير، نحاه سعد ليبعث به إلى المدينة، وأمر عمر بتوزيعه فيمن لحق بسعد ولم يشهد الموقعة، وفي حملة القرآن. وهكذا انتهت المعركة إلى النصر الحاسم، حين كان الناس في كل الأرجاء من شبه الجزيرة يتطلعون ببصائرهم وقلوبهم إلى ناحيتها، وهم على أحر من الجمر شوقًا لمعرفة أنبائها من العذيب إلى عدن، ومن الأبلة إلى بيت المقدس، يتربصون وقعة القادسية، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصدًا يكشف ما يكون من خبرهم1. انطلق المسلمون في وادي العراق من أعلاه إلى أسفله، فعاد الناس جميعًا إلى طاعتهم، معتذرين عن ولائهم للفرس بأنهم غُلبوا على أمرهم، وسعد يعذرهم تألفًا لهم، وحرصًا على أن تسود الطمأنينة ربوعهم. فأقلبت قبائل العرب المنتشرة فيما بين النهرين يعلنون إيمانهم بالله وبرسوله. وقد مكث سعد بالقادسية شهر المحرم سنة 15هـ، وارتحل في نهايته بجيشه الذي أصبح معظمه فرسانًا لكثرة ما غنموا من الخيل، ولقيتهم في سيرهم فلول القادسية، وعليهم الهرمزان فهزمهم المسلمون. وبلغ سعدًا تجمع فلول الفرس ببابل، فسار إليهم وهزمهم. وأقام ببابل حيث سير من هناك مقدمته مع زهرة بن حوية إلى بهرسير أو المدائن الدنيا على شاطئ دجلة الغربي، فحاصرها شهرين وفتحها الله

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2264.

عليهم، ففر أهلها إلى الجهة الشرقية حيث المدائن القصوى -معقل الساسانيين وعاصمتهم- وأصبح من المحتم على زهرة أن يعبر دجلة، واستطاع بمعاونة بعض أهل البلاد أن يصل إلى مخاضة عبر خلالها المسلمون خوضًا، وفي سرعة أذهلت أهل المدائن، الذين فوجئوا بالمسلمين دون أن يروا سفينًا يقلهم إليهم، فتركوا المدائن وفروا، وكان يزدجرد قد سبقهم بالفرار إلى حلوان، وفي المدائن غنم المسلمون أموال كسرى وخزائنه وجواهره1. وبفتح المدائن تنتهي المرحلة الثانية في هذه الفتوح، من الخطة التي رسمها أبو بكر، وتبدأ المرحلة الثالثة. المرحلة الثالثة: أقام المسلمون بالمدائن ما يزيد على سنة، لاحظ خلالها الخليفة عمر انتفاء التواؤم بين المسلمين وبيئتهم الجديدة هذه، فكان أن أمر بارتياد الأرض، وباختطاط البصرة والكوفة. وقد تم للمسلمين تمصير الكوفة في المحرم من سنة 17هـ. وكانت أول أمرها مبنية بالقصب، وبنيت بعد ذلك باللبن بعد تعرضها للحريق. وفي نفس العام بنيت الأبنية بالبصرة التي كان المسلمون قد نزلوها في أواخر سنة 13هـ وأوائل سنة 14هـ، ولم يتم تخطيطها إلا مع الكوفة. ومنذ هذا التاريخ صارت الكوفة والبصرة مركزين حربيين، تفصل منهما الجنود لحرب الفرس، وصار لكل منها جند خاص، ومناطق بعينها يناط بها فتحها وتنسب إليها. وصار المسلمون يفدون على عمر يشكون ضيق منازلهم بهم، ويطلبون السماح لهم بضم مناطق بعينها إليهم دون غيرهم2. وتكاد الفتوح في أطراف فارس تكون نتيجة مجهودات أهل هذين المصرين، بالإضافة إلى البحرين التي انطلق منها المسلمون لغزو فارس وكرمان، وكان أول ذلك عمل العلاء الحضرمي، في مغامرته التي عضده فيها أهل البصرة في طاوس3، ثم في موقعة أصطخر التي تولاها الحكم بن العاص أواخر عهد عمر، وتمخض عنها فتح كرمان4.

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2434. 2 الطبري 1/ 5/ 3538. 3 الطبري 1/ 5/ 2545. 4 الطبري 1/ 5/ 2698.

وأسهمت الكوفة في إخضاع الجزيرة التي كانت بمثابة قاعدة حربية لحلفاء الروم من نصارى العرب، مما رفه عن المجاهدين في الشام1. وتتابعت فتوح أهل الكوفة، ففتحوا الري وأذربيجان وأرمينية، وطبرستان، وجرجان2. بينما فتح أهل البصرة الأهواز وتستر ورامهرمز، وجند يسابور3. وليس يعني استقرار الجند الإسلامي في هذين المصرين وفتحهما لهذه المناطق انتهاء المقاومة الفارسية الرسمية، فإن المنهزمين في المدائن فروا إلى جلولاء، وأزمعوا أن يستميتوا في درء المسلمين والتفاني في ذلك، فاحتفروا خندقًا حول جلولاء، أحاطوه بحسك الخشب والحديد، وقاموا ينتظرون المسلمين، وأمر عمر سعدًا بأن يسرح إليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاس، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو. فسار هاشم في اثني عشر ألفًا حتى نزل على الفرس. وكان كسرى قد أمد قواته من حلوان بالأموال والرجال. وأحاط المسلمون بالحصن، وزاحفوا الفرس ثمانين زحفًا لم تسفر عن شيء، إلى أن اقتحم المسلمون الحصن في هجوم عارم، ترك الفرس بعده المدينة للمسلمين4. وبعد أن فر الفرس أرسل هاشم بالقعقاع على رأسه حملة إلى حلوان، على حافة المرتفعات الفارسية بجبال الصقر تتبع الفارين واحتلها، بعد أن فر يزدجرد إلى الري5. وأخذ سعد يبسط راية الإسلام في أنحاء الجزيرة وفارس، فوجه عبد الله بن المعتم إلى تكريت بالجزيرة، فاستمال من بها من إياد وتغلب، والنمر، ووجه بضرار بن الخطاب إلى مامبذان، حيث كان آذين أحد عظماء فارس قد جمع جمعًا عظيمًا من الفرس والعرب وخرج بهم إلى السهل، وتمكن ضرار من قتله، والاستيلاء على الناحية6.

_ 1 ياقوت ج2، ص74. 2 الطبري 1/ 5/ 2805، 2836. 3 الطبري 1/ 5/ 3534. 4 الطبري 5/ 2472. 5 فيليب حتى وآخرون ص212. 6 ياقوت ج4 ص393.

كما أرسل عمرو بن مالك الزهري إلى "هيت" و "قرقيسيا" فاضطر أهلهما إلى النزول على الجزية1. وبهذا صار السواد كله بيد المسلمين، فمهدوا طرق إدارته، وأقاموا الجند مرابطة في الثغور بينهم وبين الجبال. وبعد سقوط السواد، وهزيمة الفرس في جلولاء، انهارت خطوط المقاومة الفارسية، إلا أن بقاء يزدجرد -ذلك الملك الشاب- كان لا يزال رمزًا حيًّا للوطن السليب، فجمع حوله الفلول، وعلى الرغم من أن الخليفة كان يرى الاقتصار على ما بيد المسلمين من سواد العراق، ويتمنى لو كان بين السواد والجبل سد يفصل بين العرب والفرس، فإن المسلمين لم يجدوا بُدًّا من مطاردة هذا الرمز، فظلوا يتعقبون يزدجرد؛ لأنه الذي يبعث المقاومة.. "ولن يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا، فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه عن مملكته وزعامته، فينقطع رجاء أهل فارس"2. وكان يزدجرد قد فر من حلوان، أمام هاشم بن عتبة إلى إقليم فارس، جنوبي إيران؛ حيث تحول إلى الري ومنها إلى قرميسين، يطارده المسلمون حتى استقر في نهاوند. وفي نهاوند كان اهتمام عمر أشد من اهتمامه بالقادسية، حتى لقد راودته نفسه الخروج إليها، ولكن المسلمين رأوا له خلاف ما رأى لنفسه. وكذلك كان اهتمام الفرس بها عظيمًا؛ إذ كتب يزدجرد إلى عماله، فاجتمع من الفرس من أهل الجبال -من بين الباب إلى حلوان- ثلاثون ألف مقاتل، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألفًا، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألفًا أخر. واجتمعوا جميعًا إلى الفيرزان3. وتحصن الفرس بالحصون والخنادق. وكان على المسلمين النعمان بن مقرن، الذي عقد مؤتمرًا عسكريًّا للتشاور في أمر الحرب، شهده أبطال المسلمين كالقعقاع وطليحة وعمرو بن معديكرب وغيرهم. وانتهى الرأي إلى أن يبدأ القعقاع القتال حتى يخرج إليه الفرس من حصونهم وخنادقهم فيقتلهم المسلمون. وتم هذا الترتيب الحربي كما قدر له. وبدأ القتال واشتد، وقتل قائد المسلمين، وأُخفي خبر استشهاده، واستلم حذيفة بن اليمان الراية، وما أتى المساء حتى أتت معه الهزيمة للفرس، ودخل المسلمون نهاوند واحتووا ما حولها.

_ 1 ياقوت ج2، ص65. 2 الطبري 1/ 5/ 2551. 3 الطبري 1/ 5/ 2608.

وقد سميت هذه الموقعة بفتح الفتوح؛ لأنه لم يكن بعدها كبير حرب، وتابع القعقاع المنهزمين حتى همذان، فاحتواها وملكها المسلمون1. وقد وضع سقوط نهاوند بعد كل هذا الحشد الذي حشده الفرس نهاية للمقاومة الفارسية الرسمية، وأصبحت المقاومة جهودًا فردية، يقوم بها حكام المقاطعات في غير تساند أو نظام لحماية "يزدجرد" فحسب. وعملًا بنصيحة الأحنف بن قيس في وجوب القضاء على يزدجرد أذن عمر للمسلمين بالانسياح في بلاد الفرس لقطع دابر الشغب، حتى ييئس الملك من عودة ملكه إليه، فلا يظل شوكة في جنب المسلمين، وييئس الفرس فلا يجتمعون حوله. عين عمر رؤساء الجند لافتتاح فارس، وأرسل إليهم بالألوية، الأحنف بن قيس إلى خراسان، وعثمان بن أبي العاص الثقفي إلى أصطخر، وسارية بن زنيم الكناني إلى فاسودراخرد، وسهيل بن عدي إلى كرمان، وعاصم بن عمرو التميمي إلى سجستان، والحكم بن عمير التغلبي إلى مكران. وكان يزدجرد قد لجأ إلى أصفهان من نهاوند، فتابع المسلمون تقدمهم حتى غلبوا عليها. فكان أن تحدر هو إلى أصطخر2، ولكنها لم تكن الملجأ الحصين؛ إذ كان المسلمون يتقدمون من البصرة إلى الأهواز وخوزستان، ويقفزون من البحرين إلى الشاطئ الشرقي المقابل للخليج الفارسي، فغادر يزدجرد أصطخر إلى المقاطعات العليا من طبرستان، يلبي دعوة جاءته من مرزبانها3. وبعد أن يحتل المسلمون أصطخر ينساحون في مواطن متفرقة عن إذن عمر. وتترى مدن خراسان تتساقط في يدي الأحنف.. الطبسين.. فهراء.. فمرو الشاهجان.. فنيسابور. ثم يهرب يزدجرد إلى خاقان، ملك الترك فيما وراء النهر4. ولا يلبث ولاء أمراء المقاطعات ليزدجرد أن يتناقص بازدياد تفكيرهم في مطامعهم الشخصية، والرغبة في الاحتفاظ بنفوذهم. وبعد سلسلة طويلة من التنقلات يقتل يزدجرد في مرو، وبقتله يسقط التاج الساساني إلى الأبد.

_ 1 ياقوت ج4 ص838. 2 الطبري 1/ 5/ 2562. 3 بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية ص126. 4 ياقوت ج4 ص409.

وكان المسلمون قد بلغوا في تتبعهم ليزدجرد إلى حدود النهر، فكتب عمر إلى الأحنف بطل هذه الوثبة بألا يجوز النهر، وبأن يقتصر على ما دونه1، ولكن انسياح المسلمين لم يتوقف؛ لأن انتقاض البلدان والمناطق المفتوحة لم يتوقف هو الآخر، فلم يبقَ إقليم لم ينتقض بعد فتحه، وبخاصة في أطراف المنطقة الشرقية بخراسان، التي اشتد انتقاضها وكفرها في خلافة عثمان2. وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يستشرفون نهر جيحون كانت جيوش أخرى تجوز الخليج الفارسي؛ لتنساح في منطقة فارس وسواحل كرمان، ثم تتقدم بعد ذلك إلى مكران، حتى تبلغ قريبًا من السند. ويذكر أن عمر كان قد أوصى بألا يتقدم المسلمون إلى كرمان، بعد أن أخبره صحار العبدي بسوئها.. ولكن الحكم بن عمير التغلبي يتقدم إليها ويجوزها. وتوالت ظروف الانتقاض والثورة، فلم يستطع المسلمون الإذعان لهذا الأمر ولم يقنعوا بما في أيديهم. وتكاد تذهب خلافة عثمان رضي الله عنه كلها في محاولة تأكيد الفتح الإسلامي، والمحافظة على الثغور، وإعادة من شق العصا إلى الطاعة، إذا ما استثنينا فتح طبرستان، الذي تم على يد سعيد بن أبي العاص سنة 29هـ. فهذه أذربيجان تنتقض في إمارة الوليد بن عقبة سنة 25هـ فيغزوها ويعيدها إلى ما كانت عليه3. وهذه فارس تنتقض في ولاية عبد الله بن عامر على البصرة، ويقتل أهلها أميرهم عبيد الله بن معمر، فيسير إليهم عبد الله بن عامر ويستردها4. وأخذ المسلمون يتدفقون لاستثمار انتصاراتهم في خراسان، معبرين عن مدى الانطلاق الروحي، راغبين في القضاء على المقاومات والانتقاضات. فأخذنا نسمع عن أول من عبر النهر؛ كعبد الله بن عامر والحكم بن عمرو الغفاري وسعيد بن عثمان، الذي ولاه معاوية خراسان5، إلى أن يستكمل فتح هذه المنطقة قتيبة بن مسلم. وهكذا تصير إلى العرب تلك المنطقة، التي يحدها من الغرب نهر الفرات، ومن الشرق نهر جيحون والسند، ومن الجنوب المحيط الهندي، ومن الشمال أرمينية وطبرستان في فترة وجيزة من الزمن، برغم أن مثل هذه الأعمال العظيمة لا تقاس بالفترات ولا بالسنين. وقد رافق الشعر المسلمين في تقدمهم خطوة بخطوة، طوال هذا الطريق المشرق، وواكب المد المنطلق إلى غايته، كما سنرى فيما بعد.

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2685. 2 الطبري 1/ 5/ 2689. 3 ياقوت ج1، ص173. 4 ياقوت ج2، ص412. 5 البلاذري ص408، 412.

فتوح الشام

3- فتوح الشام: كان لموقع شبه الجزيرة العربية وعلاقات الجوار واللغة والقرابة والدم التي ربطت بين عرب الجزيرة والقبائل الضاربة في شمالها أكبر الأثر في اتجاه المسلمين في انطلاقهم إلى بطائح العراق، وإلى مشارف الشام بعد ذلك. وهذه العلاقات قديمة وبعيدة وموغلة في التاريخ، وترجع إلى ذلك اليوم الذي بسط فيه عرب الجنوب نفوذهم على التجارة على طول شواطئ البحر المتوسط الشرقية، وعن طريق سلسلة من المحطات التجارية المنتشرة من اليمن إلى الشام. وكانت سيطرة العرب على المتاجر سببًا في خلق علاقات وثيقة بين العرب والقوى السياسية المحيطة بهم وقتئذ. فبدأ تنافس خطير حول انتزاع هذه السيادة التجارية منهم، واستبقائها فيما بينهم وبين الروم فحسب، عندما بسط هؤلاء سلطانهم على البحر المتوسط بالاستيلاء على مصر. وكانت محاولات الروم في هذا السبيل تصاب بالفشل حتى القرن الخامس الميلادي، ولم يجدوا فرصتهم إلا في عهد الإمبراطور جوستنيان "518- 527م" عندما سيطرت فارس على الطرق التجارية البرية، مما دفعهم إلى التدخل في شئون عرب الجنوب، متذرعين بالصراع الديني، الذي نشب بين اليهودية والمسيحية في عهد ذي نواس، وأتيح لهم التدخل عن طريق أحلافهم الأحباش بعد مذبحة نجران1. ولكن العرب استطاعوا القضاء على النفوذ الحبشي الرومي في عهد سيف بن ذي يزن، الذي استعان بكسرى أنوشروان سنة 575م في طردهم.

_ 1 التيجان في ملوك حمير ص201.

وأرض الشام تعتبر امتدادًا لشمالي شبه الجزيرة العربية، مما دعا عرب الشمال إلى اتخاذها دار هجرة؛ إذ إن طبيعة بلادهم كانت السبب في الدفع بهم إلى الاحتكاك بمن يصاقبونهم، والزحف وراء المناطق الخصبة التي تلي بلادهم شمالًا على أطراف الهلال الخصيب، انتهازًا للإغارة على بلدانه والتسلل إليها؛ حيث ينعمون بالخصب والخير، فلم تكن الهجرات إلى الشام تنقطع عبر الزمن. وأشهر هذه الهجرات ما حدث بعد زوال السيطرة التجارية لليمن؛ إذ ساءت أحوالها الاقتصادية، وتلا ذلك تصدع سد مأرب العظيم، فاتجهت القبائل المهاجرة تزحف إلى الشام، كما فعلت جهينة وكلب وقضاعة التي نزلت بالبادية، وعاملة وجذام اللتان نزلتا في حدود فلسطين، وغسان التي استقرت في منطقة حوران في شمال بلاد العرب. ورأى الروم في هذه القبيلة مثلما رأى الفرس في لخم، واستعانوا بها في تأسيس إمارة تضمن لهم الدفاع عن حدودهم ضد هجمات الفرس والقبائل العربية، التي تحترف الإغارة والسلب. واتسمت العلاقة بين الروم والغساسنة بالتأرجح؛ بسبب عوامل الكبت والتضييق التي انتهجها الروم مع حلفائهم وصنائعهم، إثر إثارة مشكلة الخلاف المذهبي بينهم، فقد اعتنق الغساسنة المذهب المونوفيزيتي، بينما كان سادتهم يدينون بالملكانية، فتعرض غير أمير منهم للسجن والاضطهاد، كما حدث للمنذر بن الحارث الذي غدروا به ونفوه إلى صقلية1. وكانت إمارة الغساسنة معبرًا لكثير من التأثيرات العقلية والحضارية، عبرت عن طريقها إلى العرب، ووفد إليها من شعرائهم في الجاهلية من كانوا يجدون في أمرائها أهلًا لمدائحهم ومنادمتهم؛ كالنابغة الذبياني وعلقمة وحسان بن ثابت. وترك هؤلاء الأمراء في الأدب العربي فضلًا عن هذا آثارًا قصصية وأسطورية؛ كالتي تُروى عن دروع امرئ القيس، ومنادمات حسان لجبلة بن الأيهم وغير ذلك. وعندما تبلورت زعامة مكة لشبه الجزيرة العربية، وتبوأت مركز الصدارة على سائر مدن الحجاز، وسيطرت على مقدراتها، واستحقت لقب أم القرى ببيتها العتيق الذي يفد إليه كل العرب من كل صوب، أخذت مكة تنظم التجارة، وتستعيد للعرب السيطرة على

_ 1 امرأة غسان ص31، 32.

طرقها بين اليمن والشام، فنظم هاشم رحلاتها، وعقد مع الدول والممالك المجاورة للحجاز معاهدات ومحالفات، كتلك التي عقدها مع الروم والغساسنة، وأصبح لقريش بمقتضاها حق التجوال في الشام1. وبطبيعة الحال أفاد العرب من هذه الصلات التجارية الشيء الكثير. ولا بد أن يكون منهم من ثقف لغة عملائهم بالضرورة، فقد كان التجار من رؤساء العرب وكبرائهم، وأجدرهم بنقل مدينة الروم وحضارتهم وطرق معيشتهم وأخبارهم. ولما بدأ الصراع بين دولتي الفرس والروم في مستهل القرن السابع الميلادي كان العرب يتابعون أحداث هذا الصراع المرير وتطوراته، وظهور إحداهما على الأخرى. وملأت أصداء هذه الأحداث بلاد العرب بفضل الطريق التجاري، الممتد بين اليمن وفلسطين وسوريا ومصر. فكان العرب يقفون على أخبارها أولًا بأول. وأخذ المسلمون يظهرون أمام المشركين الذين كانوا يقفون بعواطفهم إلى جانب الفرس الوثنيين ضد الروم بوصفهم أصحاب كتاب كالمسلمين بمظهر الآمل في انتصار الروم، وأنهم المظفرون في هذا الصراع عما قريب. ولم تكن أنباء الصراع هي كل ما يثير اهتمام المسلمين، وإنما يبدو أنهم كانوا يقفون أيضًا على حوادث الاضطهاد والتعذيب التي أخذت ترزح تحتها البلدان الخاضعة لحكم الروم، من جراء فرض "هرقل" مذهبه الجديد، الذي يدعو إلى التوفيق بين الملكانيين واليعاقبة، محاولًا بشتى الوسائل حمل رعاياه عليه؛ ليقضي على عوامل الفرقة المذهبية التي كان يخشى اتخاذها ذريعة للانفصال عن جسم الدولة الرومية، ولكن النتيجة كانت عكس ما تصور "هرقل". فوقف أتباع المذهبين المختلفين موقفًا واحدًا ضده، ورفضوا الدخول في مذهبه الذي عدوه زيفًا وتضليلًا، فاشتعلت نيران الفتنة. وانتشرت حركات التمرد والمقاومة السرية. ولم يتمكن هرقل من إخمادها بوسائل العنف والقهر والقمع، وبات الناس في أقاليم الدولة يتمنون من أعماقهم زوال حكم الروم عنهم؛ ليحرروا عقائدهم وأرزاقهم من قهرهم.

_ 1 الطبري ج3 ص1089.

وفي هذا الوقت كان النبي العربي صلى الله عليه وسلم ينشر دعوته في بلاد العرب، داعيًا إلى الوحدة والإخاء والمساواة. ولم ينظر الروم إلى الحركة الإسلامية نظرة جدية، وساعد هذا على أن الروم خرجوا من صراعهم مع الفرس معتدين بأنفسهم اعتدادًا كبيرًا، فلم يحاولوا أن يفهموا مدى الأثر الذي أحدثه الدين الجديد في العرب، في حين كان هؤلاء يتربصون بهم وبأخبارهم التي تجيئهم مع القوافل، وعن طريق محطات التجارة، ومع التجار المسيحيين واليهود والعرب1. ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجد في هذا الخلاف المذهبي مشجعًا له على أن يرسل برسائله إلى "هرقل" و"المقوقس" يدعوهما إلى الإسلام، ذلك الدين الذي يدعو إلى عقيدة جوهرها وحدانية الله، جعلته أقرب إلى نفوس أتباع الطبيعة الواحدة المسيحيين من قربه إلى نفوس الروم قادة العالم المسيحي، المعتنقين لمذهب الطبيعتين2. ومما لا شك فيه أن هذا يفسر السرعة والنجاح اللذين تمت بهما فتوح الشام، ووقوف دولة الروم مذهولة حيال تدفق تيارها العنيد إذا ما قورنت بفتوح العراق وفارس؛ إذ إن العقيدة الإسلامية كانت النور الذي أضاء للجيوش الإسلامية سبيلها في بلاد المونوفيزيتين، ونزلت بردًا وسلامًا على سكانها، وسط جحيم اضطهاد الروم الملكانيين3. ولم يحسن الروم الرد على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل صنائعهم الغساسنة مثل صنيعهم وأنكى، فقتل أميرهم شرحبيل بن عمر رسول النبي صلى الله عليه وسلم إليه في بصرى، ولم يكن المسلمون في حالة تسمح لهم برد هذه الإهانة. وانتظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى السنة الثامنة للهجرة وأرسل زيد بن حارثة في بعث مكون من ثلاثة آلاف رجل إلى الجهات الشمالية الغربية من بلاد العرب4. ولم يكن هدف هذا البعث الرد على إهانة المسلمين أو الثأر فحسب، وإنما كان الغرض إلى جانب ذلك تأمين التخوم العربية ضد الروم، الذين تأثروا بتحريض اليهود،

_ 1 الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص42. 2 يدل على هذا دفاع الإسلام عن عيسى عليه السلام وتنزيهه عما يجيبه إلى المونوفيزيتين، وما جرى بين نجاشي الحبشة ومسلمي الحجاز في الهجرة الأولى. 3 الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص42. 4 الطبري 1/ 3/ 1610.

بعد أن أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة وعن تيماء وفدك إلى فلسطين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا البعث أن يهدد مشارف الإمبراطورية؛ ليحسب الروم حسابًا للمسلمين. كما كان هناك هدف آخر هو الاستطلاع بالوصول إلى مآب، كما يظهر في قول عبد الله بن رواحة إذ يقول: فلا وأبي مآب لآتينها ... وإن كانت بها عرب وروم1 وسار المسلمون إلى مؤتة، وبينا هم في الطريق دنا منهم الروم عند مشارف وهي قرية من قرى البلقاء، فانحازوا إلى مؤتة، وكان الروم في أعداد غفيرة، فأراد المسلمون أن يكاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتهددهم، فنهاهم عبد الله بن رواحة وقال: إنها الشهادة أو الطعن2. والتقى المسلمون بالروم، فاستشهد زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة. وداور خالد بن الوليد بالمسلمين حتى قدم إلى المدينة3. وبدا بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعاود الكرة، فتضاعفت الرغبة في الثأر، وقوبل بعث موتة من المسلمين باستياء بالغ، وجعل الصبيان يحثون التراب عليهم ويصيحون: يا فرار، فررتم من سبيل الله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بالفرار، لكنهم الكرار إن شاء الله" 4. وفي العام التالي لبعث مؤتة سار صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس المسلمين إلى الحدود العربية الرومية؛ حيث قام هناك بمناورات حربية لم تحدث فيها اشتباكات؛ إذ اكتفى فيها بإظهار قوة المسلمين في هذه الجهات5، وتراجع الروم دون قتال، وأصاب المسلمون بعض الواحات التي صالحوا عليها، كصلح النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل جرباء وأذرح، ومع صاحب أيلة. وأرسل خالد بن الوليد فصالح أكيدر صاحب دومة الجندل على الجزية6. فلا عجب -وقد أثارت هاتان الغزوتان الثارات بين المسلمين والروم- أن يجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش أسامة

_ 1 معجم البلدان ج4 ص571. 2 نفس المرجع والصحيفة. 3 ابن هشام ج3 ص211، 215. 4 ياقوت ج4 ص677. 5 ابن هشام ج2 ص328-338. 6 الطبري 1/ 4/ 1702.

ابن زيد بن حارثة، وأن يكون تجهيز هذا الجيش بعض سياسته في تأمين تخوم شبه الجزيرة من الروم، وكان أسامة حدثًا لما يبلغ العشرين, وإنما ولاه رسول الله ليجعل له من فخار النصر ما يجزي به استشهاد أبيه بمؤتة. ولقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلًا، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم ذلك دراكًا، حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه، فإذا تم له النصر فليسرع بالعودة غانمًا مظفرًا. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم يلحق بربه قبل أن يجاوز جيش أسامة الخندق1. وهكذا يمضي النبي صلى الله عليه وسلم مخلفًا للمسلمين خطة واضحة المعالم. ورغم ظروف ارتداد المسلمين، وحديث الناس إلى أبي بكر بألا يفرق عنه جماعة المسلمين، الذين يشملهم الجيش في مثل هذه الظروف فإنه يعتزم إنفاذ جيش أسامة ولو تخطفته السباع، ولو لم يبقَ في القرى غيره2. ويمضي أسامة فيغزو قبائل قضاعة، ويغير على آبل، ويعود غانمًا في أربعين يومًا، سوى مقامه ومنقلبه3. وهكذا يبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي رسم بنفسه خطة التمهيد للدعوة في بلاد الشام، وأنه قد أدرك بثاقب نظره أن أشد الخطر يكمن في الشام ويتهدد الدعوة؛ حيث الروم وعمالهم، فكان إدراكه عين الحقيقة، فلم يكن إرسال مولى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ليدلهم، وما كان سيره إليهم بنفسه وإرساله أسامة إلا لفتا إلى هذا الخطر، وإظهارًا لقوة المسلمين في هذه الأنحاء؛ ليقضيَ على هيبة الروم في نفوس صنائعهم، وليكسر خطوط المقاومة الأولى في طريق الدعوة، وليثير في نفوس المسلمين نوازع القوة الكامنة. وبرغم أن أسامة لم يلقَ جيش الروم، إذ اكتفى بأن دهم القبائل وغنم منها، فإن هذه الغزوة كانت بعيدة الأثر في حياة المسلمين، وفي حياة العرب الذين فكروا في الثورة بهم، وفي حياة الروم الذين تمتد بلادهم على حدودهم، حتى ليبعث هرقل بجيش قوي يعسكر بالبلقاء، وبرغم هذا كله لم يدر بخاطر أحد من أمراء الجيش الظافر أن يدفع أسامة لاقتفاء أثر عدوه، ذلك أن السياسة التي جرى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت ماثلة في نفوس المسلمين جميعًا

_ 1 ابن هشام ج2، ص452، 453. 2 الطبري 1/ 4/ 1848. 3 الطبري 1/ 4/ 1851.

كانت تقف عند تأمين التخوم العربية، حتى لا يحدث الروم أنفسهم بغزو العرب انتقامًا لليهود الذين كانوا يأتمرون بالمسلمين، فكان طبيعيًّا إذن أن يكر أسامة راجعًا إلى المدينة، دون أن يدور غزو الروم بخاطره. ولكن الانتصار الذي حققه أسامة كان له أثر بعيد في اعتزاز المسلمين بأنفسهم، وإكبارهم للذين حققوه. حتى ليصبح لانتصار أسامة هذا من الخطر ما لا يتفق مع قيمته الحقة، بل عد فيما بعد فاتحة للحملة التي وجهت لغزو الشام1. أما فيما قبل فتح الشام فلم يكن له هذا الخطر ذاته؛ إذ اتبع أبو بكر سياسة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متبع لا يدع أمرًا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعه؛ ولذا كانت وصيته لأسامة أن يصنع ما أمره به نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقصرن في شيء بما أمره. وقد مر بنا أن أبا بكر كان يرى التفكير في حرب الشام بعد انتهاء فتنة الردة أهون من حرب الفرس، فمنذ بدأت طلائع النصر تساير أعلام المسلمين في حرب الردة كان التفكير في حرب الروم يتردد على خاطر أبي بكر؛ لكنه كان يخشى إبرام هذا الأمر قبل الفراغ من المرتدين، خشية انتقاض العرب عليه. فلما هون المثنى أمر العراق، وانطلق خالد بن الوليد يكتسح أمامه الفرس وأهل البادية، ويضع يده على الحيرة ويتخذها عاصمة للمسلمين، ازداد تفكير أبي بكر في أمر الشام، وبخاصة بعد أن سلمت دومة الجندل وفتحت أبوابها للمسلمين. وكما كان بدء فتح العراق نتيجة للجهود التي بذلها بعض قادة المسلمين في حروب الردة كالمثنى كان نفس الأمر في فتح الشام، فإن خالد بن سعيد بن العاص -الذي كان ردءًا بتيماء على تخوم الشام- دعا إليه القبائل بأمر أبي بكر، فاجتمعت إليه جموع كثيرة جعلت عسكره عظيمًا2، وترامت إلى هرقل أنباء هذه الجموع، فاتخذ للأمر عدته. وترامت إلى خالد بن سعيد أنباء استعدادات هرقل، فبعث بها إلى الخليفة مشفوعة برأيه أن يأذن له في منازلة الروم ومن انضم إليهم من قبائل العرب؛ مخافة أن يأخذوه ومن معه على غرة. وعقد أبو بكر مؤتمرًا دعا إليه جلة أصحابه وأهل الرأي للتداول في هذا الأمر، وطال النظر في الأمر والتشاور، حتى استقر الرأي على الغزو والتجهز له، وأن يستعين الخليفة بأهل اليمن وأهل شبه الجزيرة جميعًا. وكتب الخليفة إلى أهل اليمن وإلى عماله في

_ 1 فكا، دائرة المعارف الإسلامية، فصل أسامة. 2 الطبري 1/ 4/ 2081.

أنحاء شبه الجزيرة، فلقيت دعوته آذانًا صاغية، وخفوا يطلبون المدينة. وبينما أبو بكر بعد جيوشه تسلم كتابًا آخر من خالد بن سعيد باجتماع الروم ومن نفر إليهم من بهراء وكلب وتنوخ ولخم وجزام وغسان، فكان رد الخليفة: أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله. فأسرع خالد بكل قوته وتخطى الحدود لمنازلة القوم. ولم يلبث الروم وأنصارهم حين رأوه دنا منهم أن تفرقوا وتركوا منازلهم، فدخل معسكرهم وغنم ما فيه، وكتب إلى الخليفة بما صنع. فأجابه بأن يتقدم وبألا يقتحم، حتى لا يُؤتَى من خلفه. وتقدم خالد حتى بلغ القسطل في طريق البحر الميت. وهزم جيشًا من الروم على الشاطئ الشرقي لذلك البحر، ثم تابع مسيره. وثارت حمية الروم، كما ثارت حمية أهل الشام، فتجمعوا في أعداد عظيمة1. وفي هذا الوقت كان أبو بكر يبعث إلى عماله يخبرهم بين العمالة والجهاد، فآثروا الجهاد كعمرو بن العاص والوليد بن عقبة، وندبوا الناس معهم. وكان عكرمة بن أبي جهل قد قدم قافلًا من كندة وحضرموت، فما إن بلغ المدينة حتى أمره أبو بكر أن يسير مددًا لخالد بن سعيد، وكذلك سار الوليد بن عقبة فأدرك خالدًا، وتقدم معه لمقابلة الروم2. وكان على جيش الروم القائد الأكبر باهان، الذي خدع المسلمين، وتراجع أمامهم حتى مرج الصفر، ثم استدار فأحاط بهم وقتل سعيد بن خالد، واضطر خالد إلى الفرار، تاركًا عكرمة يقود الجيش متقهقرًا به إلى حدود الشام؛ حيث تحصن وأقام ينتظر المدد. ورأى أبو بكر أن يزيل هذه الهزيمة، وأن يرد المسلمين إلى الإيمان بالنصر، ويمدهم بما ينزل في قلوب الروم الخوف والهلع. واهتاج أبو بكر لفتح الشام وعناه أمره3، فوجه بشرحبيل ابن حسنة، الذي كان قافلًا من العراق بأنباء النصر، وأمره بالشام فجمع قوة من جيش ابن سعيد وابن عقبة، وسار بها إلى عكرمة4. ودعا أبو بكر يزيد بن أبي سفيان، وأمره على جند، وأردفه بأخيه معاوية، فسارا وفصلا ببعض جيش ابن سعيد5. وندب الخليفة جيشًا عظيمًا عليه أبو عبيدة بن الجراح، وأمره على حمص، وسمى الخليفة لكل قائد مكانًا،

_ 1 هيكل، الصديق، ص262. 2 الطبري 1/ 4/ 2084. 3 الطبري 1/ 4/ 2082. 4 الطبري 1/ 4/ 2085. 5 الطبري 1/ 4/ 2085.

فليزيد بن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل الأردن، ولعمرو بن العاص فلسطين، وانطلقت الجيوش في طريقها إلى الشام. وكان أبو بكر باهتياجه للشام على هذا النحو يعزز انتصارات المسلمين بالعراق، فلو وقف أمر المسلمين عند هزيمة خالد لذهب نصرهم في العراق بددًا، ولاقتحم عليهم الروم بلادهم. وظل المسلمون في مسيرهم حتى نزلوا الشام. وكان عمرو بن العاص معسكرًا في العربة. وتخطى أبو عبيدة البلقاء إلى الجابية، بعد أن خضع له عرب مآب1. ونزل شرحبيل الأردن، بينما نزل يزيد البلقاء. وقد اختلفت الروايات، ألقي المسلمون حربًا في جنوبي فلسطين، أم تقدموا فيها ولم يواجههم أحد؟ وتلتقي جيوش المسلمين بجيوش عكرمة؛ ليعسكر أبو عبيدة على طريق دمشق، ويعسكر شرحبيل في مرتفع بأعلى الغور، فوق طبرية ونهر الأردن، ويظل يزيد بالبلقاء مهددًا بصرى، ويسقي عمرو بالعربة2. وعندئذ أدرك الروم الذين لم يعبئوا بالمسلمين بعدما انهزموا وفر خالد أن الأمر أجل خطرًا من أن يستهينوا به. فسير هرقل قوات عظيمة وقفت إزاء جيوش المسلمين، حتى يشغل كلا منها عن غيرها فيسهل التغلب عليهم. فعسكر جيش بقيادة تذارق أخي هرقل بإزاء عمرو. ووقف جيش بإمارة الفيقار بن نسطوس بإزاء أبي عبيدة. أما شرحبيل فاستقبل الداراقص على قوة من الروم، واستقبل جرجه جيش يزيد بن أبي سفيان3. هاب المسلمون جيوش الروم حين رأوها يخطئها العد، ففزعوا بالكتب والرسل إلى عمرو بن العاص يلتمسون عنده الرأي، ورأى عمرو أنهم لا يستطيعون لقاء الروم متفرقين، فكاتبهم يقول: "إن الرأي الاجتماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، فأما إن تفرقنا لم تقم كل فرقة لمن استقبلها لكثرة عدونا". وجاءهم كتاب أبي بكر بمثل رأي عمرو، وفيه: "اجتمعوا عسكرًا واحدًا، والقوا زحف المشركين بزحفكم، فأنتم أعوان الله، والله ناصر من نصره ... "4. واتعد المسلمون اليرموك على طريق دمشق، واجتمعت قواتهم كلها على شاطئه الأيسر. فلما رأى الروم ذلك جمعوا قواتهم على الشاطئ الأيمن للنهر، وتولى تذارق "تيودوريك" قيادتها.

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2090. 2 هيكل، الصديق ص1067. 3 نفس المرجع ص268. 4 الطبري 1/ 4/ 2090، و1/ 4/ 2087.

ونهر اليرموك ينحدر سريعًا بين آكام مختلفة الارتفاع إلى غور الأردن وإلى البحر الميت، وعلى مرحلة من ملتقى اليرموك بنهر الأردن تقع واقوصة في منبطح فسيح من الأرض، تحيط به من ثلاث نواح جبال بالغة الارتفاع. وقد اختار الروم هذا المنبطح معسكرًا لهم، فلما استقروا به تخطى المسلمون النهر إلى ضفته اليمنى، واختاروا منبطحًا آخر على الطريق المفتوح لجيش الروم. فلم يبقَ للروم طريق إلا عليهم. وأقام المسلمون برغم هذا لا يقدرون على شيء، ولا يقدر الروم منهم على شيء شهرين كاملين. ورأى المسلمون ألا بد لهم من مدد يعينهم، فكتبوا إلى أبي بكر يستمدونه حتى لا يسأم الجند ويضعف إيمانهم بالنصر. وجمع أبو بكر أولي الرأي من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم متعجبًا أن يقف المسلمون هذا الموقف من الروم على كثرتهم، وتكشفت الحقيقة: أن العلة في القيادة، فالموقف يحتاج إلى قائد جسور وأبو عبيدة رقيق القلب، وابن العاص على دهائه غير مقدام، وعكرمة مناور مقدام ينقصه دقة التقدير. ثم إن كثرة الأمراء تجعلهم لا يقرون لواحد منهم بالتفوق، فإذا بأبي بكر يصيب كبد الحقيقة إذ يقول: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"1. وكتب أبو بكر إلى خالد إثر عودته من الحج: "سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا"2. وأخذ خالد يتدبر أمره، فتقاسم الجند مع المثنى كأمر أبي بكر، ثم اجتاز طريقًا موحشًا بطريقة فذة وفي أيام قليلة، وتمكن من إصابة بعض والواحات والقبائل في طريقه، كما استطاع بمعونة دليله رافع الطائي أن يختصر الطريق، وأن يقضي على مشكلة الإمدادات وخاصة توفير الماء فيما يشبه المعجزة3، ويدخل عمله في إطار الأسطورة. وقد تجنب خالد أن يلتقي بالروم حتى يبلغ جيوش المسلمين. وأغار في طريقه على سوى وتدمر، وصالح أهل قصم وانحدر إلى أذرعات فأغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى، وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد فتقدمهم خالد واقتحموا بصرى وفتحها الله عليهم، ثم ساروا جميعًا إلى فلسطين مددًا لعمرو بن العاص، فعسكر خالد بجنوده إلى جوار زملائه، واكتمل جمع المسلمين على اليرموك.

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2108. 2 الطبري 1/ 4/ 2110. 3 الطبري 1/ 4/ 2108.

وصادف قدوم خالد قدوم باهان، الذي رأى هرقل أن يعزز به جنده. وكان الموقف بالغًا غاية الدقة، فعدد المسلمين قليل جدًّا، بالقياس إلى عدد الروم. وظل الموقف جامدًا ثلاثة أسابيع يتدبر المسلمون أمرهم، وترامى إلى المسلمين أن الروم سينازلونهم في غدهم، وتحدث الأمراء في شأنهم، ولما آن لخالد أن يتحدث قال: "إن هذا اليوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر والبغي. أخلصوا لله جهادكم، وأريدوا الله بعملكم، فهذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وأنتم على انتشار"1 فلما سألوه الرأي، أشار بتعاورهم الإمارة، وطلب أن يتأمر في اليوم الأول، ولم يترددوا. عبأ خالد الجيش كراديس كل منها ألف رجل، وجعل على القلب أبا عبيدة، وعلى الميمنة عمرو بن العاص وشرحبيل، وعلى الميسرة يزيد، وجعل على كردوس فارسًا من شجعان المسلمين كالقعقاع وعكرمة ومن إليهما. وعهد إلى أبي سفيان بتحريض المسلمين وتذكيرهم، فسرت إلى قلوب المسلمين قوة لم يكن لهم بمثلها عهد مذ نزلوا الشام. وتقدم القادة صفوفهم يرتجزون ويخطبون ويتمثلون، وكلهم ينتظر الأمر بالهجوم بصبر نافذ، وعزم ثابت على النصر أو الموت. فلما صدرت الأوامر من باهان بالزحف كان جرجه بجيشه في الطليعة، وكان قد تعلم العربية وسمع عن خالد ومال قلبه إليه، فتلقاه خالد وأفسح له ولعسكره طريقًا، وظن الروم أن جرجه في حاجة إلى المدد، فانقضوا على المسلمين فأزاحوهم. وكان عكرمة على كردوسه أمام فسطاط خالد، ورأى تسليم جرجه وارتاح له، فلما رأى صفوف المسلمين تنزاح أمام الروم نادى: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعمائة من وجوه المسلمين، واندفع بهم يلقون فيلق الروم في هجمة رجل واحد، فزلزلوهم كما زلزلهم انضمام جرجه إلى المسلمين، وأيقن المسلمون بالنصر أو الفناء عندما رد الروم هجومهم بأعنف منه. واندفع خالد والمسلمون وراءه يهوون على عدوهم بسيوفهم فيخطفون أرواحهم خطفًا، وازداد حماس المسلمين حتى شارك النساء الرجال، واستمات الروم في دفع المسلمين، وتأرجحت المعركة حامية الوطيس، فلما كانت الشمس في المغيب بدأت قوات الروم تهن، وكان نهر اليرموك يدور في الشمال على شكل نصف دائرة، بحيث

_ 1 ياقوت ج4 ص1015.

يحتضن جنوبي القوس سهلا له باب واحد من الجنوب، فدار خالد خلف جيش الروم وحصرهم فتردوا في هاوية الواقوصة، وشدد المسلمون الضغط عليهم فتلاحقوا فيها1. قضت معركة اليرموك على كل أمل للروم في استبقاء الشام، فلم يكد هرقل يسمع بهزيمة جيشه حتى جلا عن معسكره بحمص، وجعلها بينه وبين المسلمين، وقال قالته المشهورة: "سلام عليك يا سورية سلاما لا لقاء بعده ونعم البلد للعدو"2. ويذهب غير قليل من المؤرخين إلى أن معركة اليرموك كانت بعد أجنادين ودمشق، وأن اليرموك كانت آخر الوقائع. يذهب إلى ذلك الواقدي والبلاذري والأزدي، مخالفين الطبري الذي اخترنا روايته. فالواقوصة التي حدثت المعركة عندها قريبة من بادية الشام ومن تخوم العرب، وهي أدنى الأرض إلى جيوش المسلمين حين التقائها. ويؤيد رواية الطبري ما يرويه ياقوت في هذه الوقعة من أنها حدثت لعهد أبي بكر، وأن البريد جاء بموته وخلافة عمر، وبتأمير أبي عبيدة على الشام كله، وبعزل خالد، وأخفي الخبر عن المسلمين حتى تم نصرهم. ثم دخل خالد على أبي عبيدة فسلم عليه بالإمارة وأفضى بالخبر3. ونحن نميل إلى هذه الرواية ونرفض رواية البلاذري ومن سايره. وليس لنا إلا أن نحتكم في ذلك إلى الشعر الذي يؤيد وجهة النظر التي اخترنا بدوره، يقول القعقاع بن عمرو -وكان ضمن كتيبة خالد- مصورًا مسيرهم إلى اليرموك: بدأنا نجمع الصفرين فلم ندع ... لغسان أنفًا فوق تلك المناخر صبيحة صاح الحارثان ومن به ... سوى نفر نجتذهم بالبواتر وجئنا إلى بصرى وبصرى مقيمة ... فألقت إلينا بالحشا والمعاذر فضضنا بها أبوابها ثم قابلت ... بنا العيس في اليرموك جمع العشائر4 كتب أبو عبيدة إلى عمر بما تم من نصر المسلمين في اليرموك، وأنه خلف بشير بن سعد بن أبي الحميري عليها ليحمي ظهره، وخرج إلى مرج الصفر يتعقب فلول المنهزمين

_ 1 الجغرافيا التاريخية، محمد أحمد حسونة، ص22، 33. 2 الطبري 1/ 5/ 2396. 2 ياقوت ج4 ص1015. 4 نفس المرجع والصحيفة.

بفحل، وأنه أتاه الخبر بأن هرقل أمد دمشق بقوات من حمص، وأنه لا يدري أيبدأ بدمشق أم بفحل من بلاد الأردن؟ فأجاب عمر بالبدء بدمشق فهي حصن الشام، على أن يشغلوا أهل فحل في نفس الوقت. فأرسل أبو عبيدة إلى فحل بقوة كبيرة عليها أبو الأعور السلمي، وسار هو وخالد بن الوليد في قوة الجيش الكبرى إلى دمشق، ورأى الروم الذين لجئوا إلى فحل مقدم المسلمين عليهم، وكان أثر اليرموك وما أورثه إياهم من فزع لا يزال آخذًا بنفوسهم، فأطلقوا ماء بحيرة طبرية ونهر الأردن في الأرض حولهم، فأوحلت وتعذر السير فيها، وغاظ المسلمين ما صنع أعداؤهم فحاصروهم دون تقدم وظلوا على حصارهم. بينما كان أبو عبيدة يتقدم في كثرة الجيش إلى دمشق؛ حيث هجر الناس منازلهم ليحتموا في حصونها المنيعة برماتها ومنجنيقاتها وخنادقها التي طمتها مياه نهر بردي. وأمر أبو عبيدة جنده فسكنوا الغوطة معسكرين في كنائسها؛ حتى لا تحاصرهم قوة تأتي من حمص، وبعث بعلقمة بن حكيم وبمسروق العبسي فعسكرا بين دمشق وفلسطين؛ ليمنعا أمداد الروم من الجنوب. وعين لكل من قواده بابًا من أبواب دمشق الحصينة فنزل هو بالجابية، ونزل عمرو بن العاص بباب توماء، ونزل شرحبيل بباب الفراديس، ونزل يزيد بالباب الصغير المعروف بباب كيسان، أما خالد فنزل بباب دمشق الشرقي. ونصب المسلمون المنجنيق والدبابات حول أسوارها، لكن حصونها كانت أمنع من أن تفضها عدة العرب، فردت المدينة كل هجمات المسلمين بسهامهم ونبلهم. وكان نسطاس حاكم المدينة وباهان قائدها ينتظران أمداد هرقل، فطالت المقاومة، وأرسل هرقل ما وعد به، ولكن قوات المسلمين تصدت لأمداده. وعلى الرغم من هذا لم تسقط المدينة، وتمسكت بالمقاومة حتى انصرم الشتاء والعرب لا يريمون. وعند ذلك وهنت المقاومة وبدءوا يفكرون في الصلح. ودخل المسلمون المدينة بعد أن تسورها خالد من الشرق وفتح أبوابها، بينما دخلها أبو عبيدة من الجابية صلحًا، وكذلك فعل يزيد من باب توماء. وكان طبيعيًّا أن يتجه أبو عبيدة بادئ ذي بدء إلى التفكير فيمن خلف وراءه من جنود المسلمين عند فحل بالأردن، ولكنه شغل قليلًا بتسريح جند خالد إلى العراق كما أوصى أبو بكر، فسارت كتيبة العراق وعليها هاشم بن عتبة، وعلى مقدمتها القعقاع؛ لتدرك المسلمين في القادسية كما مر، وكاد يشغل عن فحل تمامًا؛ إذ أوعز إليه البعض بفتح حمص، مدفوعين بحماسة الظفر، ومنتهزين فرار هرقل منها إلى أنطاكية، لكنه

خالف مشورتهم حتى لا يقطع أحد ساقته، فترك يزيد على دمشق، وتقدم ومعه خالد وقوات الجيش مجتمعة وبلغ بهم فحل وقد جفت الأرض. وكان أبو بكر قد جعل إمارة الأردن لشرحبيل، فله القيادة لأن القتال يقع في إمارته، فبعث أبا الأعور السلمي إلى طبرية فحاصرها، وجعل خالدًا على مقدمة الجيش، وأبا عبيدة وعمرًا على المجنبتين، وضرار بن الأزور على الفرسان. وأقاموا قبالة الروم ينتظرون وطال وقوفهم، فخيل إلى سقلار قائد فحل أنه يستطيع أخذ المسلمين على غرة، فقد أمن المسلمون وأقاموا على غير عدة لطول مقامهم، وأنهم لذلك ستضطرب صفوفهم لأول وهلة. وخاب ظنه إذ إن المسلمين لم يأمنوا، وكان شرحبيل يبيت ويصبح على تعبئة، واستبسل الروم في قتال مرير، وطالت المعركة الليل كله، والنهار الذي يليه إلى الليل، حتى خارت قوى الروم ووهنوا، فانهزموا وقتل قائدهم وأسلمتهم هزيمتهم إلى الوحل، فلحق بهم المسلمون فركبوهم وخزًا بالرماح، وقتلوهم شر قتلة، فأصيب الثمانون ألفًا لم يفلت منهم إلا الشريد1. ثم نهد شرحبيل ومعه عمرو فحاصر أهل بيسان، ولكنهم لم يستمروا في المقاومة واضطروا إلى التسليم والصلح، فقد هوت روحهم المعنوية إلى منحدر من الضعف؛ بسبب ما أصابهم في اليرموك وفي دمشق وفي فحل. ثم إن أهل الشام لم تبلغ عداوة المسلمين منهم مبلغًا يعاون الروم على المقاومة، فقد حكمهم الروم بيأس وقوة لا يثيران حماسة لحكمهم أو حرصًا على بقائه. وبلغ أهل طبرية ما أصاب بيسان وأهلها، فطلبوا إلى أبي الأعور أن يصالحوا شرحبيل. واحتذى أهل أذرعات وعمان وجرش ومآب وبصرى مثالهم، وكذلك أذعنت بلاد الأردن إلى حوران وإلى البادية ورضيت سلطان المسلمين، الذين أقاموا الجند في المدن وتركوا لأهلها إدارة شئونها. وسار أبو عبيدة ليفتح حمص، فلما بلغ دمشق ضم إليه ذا الكلاع وقوته التي كان قد تركها ردءًا لدمشق من الشمال. وما إن بلغ إلى الشمال الشرقي من دمشق حتى لقي جيشًا من الروم بعث به هرقل بإمرة توذر، فوقف قبالته. وإنه لكذلك إذا أقبل شنس

_ 1ياقوت ج3 ص852.

الرومي مددا لتوذر، فعسكر على حدة. وتداول أبو عبيدة مع خالد، واستقر رأيهما على أن يلقى خالد توذر، وأن يلقى أبو عبيدة شنس، وكان همهما أن يصدا المسلمين عن حمص. وبات كل من القائدين يرتب أمر الحرب وينظم خطته، ولما تنفس الصبح لم يجد خالد أثرًا لتوذر، فقد انسحب في جنوده من أول الليل يريد دمشق، ثقة منه بأن حاميتها لن تطيق مقاومته. وتدبر خالد الأمر، فلا قيمة للانتصار على شنس إذا ما افتض توذر دمشق. وأسرع خالد في كتيبة من الفرسان يطارد توذر. وكان توذر قد وصل إلى دمشق، وبلغ يزيد خبره فخرج يلقاه، وأنشب القتال بعد أن أغلق أبواب المدينة، وبينما توذر يهاجمه أقبل خالد فأخذ الروم من خلفهم، وكبر وكبر الذين معه، فأيقن المسلمون المدافعون بوصول المدد، فأخذهم يزيد من أمامهم وخالد من خلفهم وأمعنوا فيهم قتلا، ولم يفلت منهم إلا الشريد. وغنم المسلمون خيلهم وأداة حربهم ومتاعهم. وعاد خالد إلى مرج الروم فوجد أبا عبيدة قد انتصر على شنس وقتله، ومزق جيشه كل ممزق1. وانطلق يلاحق فلوله إلى حمص وحاصر بعلبك، فلما ترامت هذه الأنباء إلى هرقل ارتحل على أثرها، وأرسل إلى أهل حمص يعدهم بالمدد، وأن العرب لن يطيقوا برد حمص، ولم تطل مقاومة بعلبك أمام أبي عبيدة فصالح أهلها، وتركهم إلى حمص فحاصرها وعلى مقدمته خالد بن الوليد. وامتنع أهل المدينة بحصونها لا يخرجون لقتال المسلمين إلا في اليوم الشديد برده، وطال بالمسلمين الحصار، وطال بأهل حمص انتظار ما وعدهم به هرقل، وانصرم الشتاء ولم يرحل المسلمون، فتراجعوا إلى الصلح أخيرًا ودخلها المسلمون. خلَّف أبو عبيدة على حمص عبادة بن الصامت ومضى نحو حماة، فتلقاه أهلها مذعنين، فصالحهم على صلح حمص. وسار إلى اللاذقية حيث حاصرها واضطر أهلها إلى الصلح، بعد أن خدعهم عن مدينتهم بحفر حفائر كالأسراب، ثم أظهر المسلمون رحيلهم فاطمأن أهلها وخرجوا إلى معاشهم، وعاد المسلمون مع الليل حيث دخلوا المدينة من حفائرهم، ومنعوا الذين خارجها من الدخول، فسلم من أقام في المدينة2، وتوجه خالد إلى قنسرين حيث هزم ميناس هزيمة منكرة، وخرب المدينة بعد استسلامها عقوبة لها، وأودى بحاضرها وبمن فيها من عرب تنوخ وسليج.

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2505. 2 هيكل، الفاروق ص230.

وعلى الرغم من أن أبا عبيدة أجابهم إلى الأمان من بعد، فعادوا بعد أن فروا إلى أنطاكية، إلا أنهم غدروا بالعرب عندما ساروا إلى حلب، فوجه إليهم أبو عبيدة قوة حصرتهم وغنمت منهم مئونة للجيش، وتركت فيهم حامية تكفل إذعانهم وتحمي المؤخَّرة1. وسار أبو عبيدة إلى حلب فحاصرها، ولم يلبث أهلها أن خارت عزيمتهم برغم مناعة حصونهم فطلبوا الصلح2. وكان هرقل قد اعتصم بأنطاكية قبل ارتحاله إلى الرها، وهي عاصمة الإمبراطورية الرومانية في الشرق، وكان فتحها لدى عمر يعادل فتح المدائن، ويتلهف على أخبارها تلهفه على أخبار القادسية، ولم يكن أبو عبيدة يجعل منعتها وقوة حصونها، كما لم يغب عنها أنها مقر الذين نجوا بعد هزائمهم في مواقع الشام كلها، فاجتمعوا بها وعزموا على الدفاع عنها، ولكن دفاعهم انهار أمام المسلمين، فخرج أهلها وتركوا حصونهم حيث تلقاهم أبو عبيدة في معركة حامية، وحاصر المدينة فسلمت ونزلت على حكمه فرحل عنها. ولكن أهلها عادوا فنقضوا عهدهم، فبعث إليهم بعياض بن غنم فقضى على انتقاضهم، وأقام فيها حامية ثابتة كأمر الخليفة3. ولم يبقَ لكي يتصل الفتح في الشام بالفرات إلا تطهير شمال الشام؛ لذلك سار أبو عبيدة إلى حلب حيث بدد جيش الروم، ثم فتح قورس ومنبج، وبعث بخالد ففتح مرعش. وسار يزيد بن أبي سفيان من دمشق ففتح بيروت والثغور المجاورة4، ويئس هرقل فارتحل من الرها إلى القسطنطينية. ورأى جبلة بن الأيهم ما حل به فكتب إلى أبي عبيدة بإسلامه وإسلام بني غسان، حتى حدث أن وطئ إزاره رجل من بني فزارة فتنصر والتحق بهرقل5. وبينما كان أبو عبيدة يسير مظفرًا في شمال الشام كان عمرو بن العاص وشرحبيل يواجهان قوات الروم، التي اجتمعت بفلسطين لأرطبون أكبر قواد الروم وأكثرهم دهاء، وكان قد وضع بالرملة جندًا عظيمًا وبإيلياء جندًا مثله، وترك بغزة وسبسطية ونابلس واللد ويافا حاميات. وأقام ينتظر مقدم العرب واثقًا من النصر.

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2507. 2 الطبري 1/ 5/ 2508. 3 الطبري 1/ 5/ 2508. 4 هيكل، الفاروق ص2366. 5 الأغاني، الساسي ج14 ص4.

وأدرك عمرو دقة الموقف، وخشي توزع جنوده بين هذه الأماكن، فخاطب الخليفة في ذلك. فأشار عمر بأن يتوجه معاوية إلى قيسارية ليفتحها فلا يجيء إلى أرطبون أمداد عن طريقها. وسار معاوية إليها فحصرها، وزاحف أهلها وردهم إلى حصونهم كلما خرجوا له. وطال بهم الأمر حتى استماتوا في قتاله ذات يوم فقضى عليهم، حتى ليقال: إنه قتل منهم ثمانين ألفًا. وبسقوط قيسارية أمن المسلمون جانبها، وامتنع كل مدد يجيء إلى الروم عن طريقها1. ولم يكتفِ عمرو بهذا، فقد رأى أرطبون يتقدم بقواته إلى أجنادين، فوجه علقمة بن حكيم ومسروقًا العكي إلى إيلياء حتى يشغل الروم عنه. ووجه أبا أيوب المالكي إلى الرملة لنفس الغرض. وسار عمرو في جلة الجيش إلى أجنادين، فإذا الروم قد تحصنوا وخندقوا. واحتال عمرو فتنكر حتى دخل على أرطبون كأنه رسول، وتأمل حصونه وعرف ما أراد. واحتال حتى خرج بعد أن كاد أمره يكتشف، ولم يبقَ أمام عمرو إلا أن ينشب القتال بعد أن عرف مأخذه ومآتيه. وبعد أن أعد له عدته التقى الجيشان بأجنادين، كما التقى جيش الروم والمسلمين بالواقوصة، وكذلك كان القتال شديدًا، وترجع النصر زمنًا بينهما. وكان أهل فلسطين من اليهود والنصارى يقفون من حكامهم ومن غزاتهم موقف المتفرج، لا تحركهم حماسة للروم ولا غضب على المسلمين. وساعد هذا على أن يكون المسلمون أكثر ثباتًا وصبرًا، فلما آذنت الشمس بالمغيب رأى أرطبون صفوفه تضطرب فانسحب في الناس متقهقرًا إلى بيت المقدس، فأفسح علقمة ومسروق طريقًا، فدخل المدينة بمن بقي من جنده معتمدًا على مناعة حصونها. وعسكرا بقواتهما إلى جانب قوات أبي أيوب بأجنادين. بينما أقام عمرو ينظر في مهاجمته أرطبون بيت المقدس. ورأى عمرو أن يحيطوا به فيقطعوا خط الرجعة عليه من ناحية البحر، ففتحوا رفح وغزة وسبسطية ونابلس واللد وعمواس وبيت جبرين ويافا2. وكاتب أرطبون عمرًا بأنه لن يفتح شيئًا بعد أجنادين، فعليه أن يرجع ولا يغتر. فرد بأنه صاحب فتح هذه البلاد، وطلب إليه أن يتدبر أمره قبل أن يدهمه، ولكنه كان يشعر

_ 1 هيكل، الفاروق ص247. 2 الطبري 1/ 5/ 2405.

أنه بحاجة إلى مدد، فقد أنهكت وقعة أجنادين المسلمين، فكاتب الخليفة أنه يعاني حربًا كئودًا صدومًا، وبلادًا ادخرت له، وطلب رأيه. وظل محاصرًا للمدينة والمقاومة تشتد، حتى ذاق المسلمون من قسوة المنجنيقات وشدة البرد الكثير. وكان جليًّا أن استماتة المدينة في الدفاع سببها الدين. فلما أيقنوا بانقطاع المدد عنهم، وبقسوة المنجنيقات على المسلمين خافوا على كنيستهم وقبلتهم ألا يصالحهم المسلمون على ما صالحوا عليه المدن الأخرى؛ ولهذا فقد اشترطوا أن يتولى عقد الصلح خليفة المسلمين بنفسه، وربما ليتركوا لجنودهم فرصة ينسحبون فيها إلى مصر. وكتب لهم عمر كتابًا أمنهم فيه على أنفسهم وبيعهم وصلبانهم1. وانتهز عمر وجوده بالشام فنظم إدارته، وعدل قيادته وقسم إقليم الشام مقاطعات تعرف بالأجناد، ثم قفل راجعًا إلى المدينة. ولم يشأ الروم بعد كل هذا أن يتركوا المسلمين ينعمون بالاستقرار في بلاد الشام. وداعب الأمل هرقل في أن يستعيد الشام في محاولة نهائية، وتصادف أن القبائل العربية الضاربة في شمالي الشام وظلت على مسيحيتها خشيت خطر المسلمين، فراسلت هرقل تطلب عونه في مهاجمة المسلمين، ورأى هرقل في ذلك فرصته فراسل هذه القبائل لتستعد، بينما أبحرت جيوشه من الإسكندرية بقيادة ابنه قسطنطين. وألقت الحملة مرساها على شاطئ أنطاكية واستولت عليها. وهناك انضم إليها قبائل العرب المتمردة، ولم يلبث شمالي الشام أن ثار. فألفى أبو عبيدة نفسه محصورًا في حمص، بينما أعداؤه يسيرون إليه برًّا وبحرًا، فراسل عمر فأمده بالقعقاع ونصحه بالتريث2. وكانت الخطة أن تحصر القبائل المتمردة عن دائرة جيش الروم فطوقها عبد الله بن عتبان وسرعان ما رجعت إلى مضاربها وآثرت السلامة3. واستطاع المسلمون -بعد انفرادهم بالروم- أن يحطموا مقاومتهم، وأن يهزموهم برغم استماتتهم في القتال، وأخيرًا ألجأهم المسلمون إلى انسحاب، ومنذ هذا اليوم عرف

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2405. 2 الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص52. 3 ابن الأثير ج2 ص224.

المسلمون قيمة الأساطيل البحرية. وقد ألمت بالمسلمين في هذه الفترة مجاعة عنيفة ووباء شديد. أصابتهم المجاعة في مواطنهم في شبه الجزيرة، وأصابهم الوباء في الميدان. ودامت المجاعة تسعة أشهر، وهلك فيها الزرع والنسل والضرع والحرث، وأصاب الناس منها الْجَهْد والبلاء. أما الطاعون فقد امتد من الشام إلى العراق فأفنى الألوف من خيرة المسلمين رجالًا ونساء وجندًا ومدنيين، حتى ارتاع له الناس أيما ارتياع. وعالج الخليفة المجاعة بصبر وحكمة، مستعينًا بما أفاءه الله من خيرات الشام والعراق. وأما الوباء فيذهب بعض المؤرخين المتأخرين أنه نشأ عن كثرة القتلى في الميادين، حتى تعذر دفن أكثرهم فأثار ذلك سبب الوباء. وعالجه عمرو بن العاص؛ إذ أشار بإخلاء المنازل والإخلاد إلى الخلاء والاعتصام بالجبال. واهتم عمر بأمر الوباء وما آل إليه أمر الشام بعد زواله، فقد فني من المسلمين خمسة وعشرون ألفًا. وانتقل من الشام إلى العراق ففتك بأهل البصرة. ولا يأمن عمر أن يكون ذلك سببًا في اضطراب النظام الاقتصادي؛ بسبب مواريث من فني، فقد يجر توزيعها ثارات بين المسلمين، فعول على الخروج إلى الشام ونزل الجابية، وزار مدن سورية جميعها يستفسر عن حال المسلمين، ووزع المواريث ونظم ثغور الشام ومسالحه، وبذلك استقر كل أمر في نصابه، وثبتت أقدام المسلمين بالشام وورثوا فيها الروم. ولكن المسلمين كانوا يدركون إدراكًا عميقًا أن وجودهم بالشام رهن بفتح مصر، بعد أن رأوا في مقاومة الروم لهم من قواعد مصر البحرية في حملة قسطنطين ما أزعجهم وهدد سلطانهم؛ فدفعهم هذا إلى التشاور مع الخليفة في مؤتمره بالجابية في فتح مصر على ضوء الأحداث والواقع.

فتوح مصر وإفريقية

4- فتوح مصر وإفريقية: كانت مسيرة عمرو بن العاص إلى مصر بإذن من عمر بن الخطاب؛ لكن عمر لم يأذن بهذا السير إلا بعد تردد طويل، استمر عامين أو أكثر، فالمتواتر أن ابن العاص خاطب الخليفة في غزو مصر حين فتحت بيت المقدس أبوابها للمسلمين، وبعد أن صالح أمير المؤمنين أهلها في السنة السادسة عشرة من الهجرة، حينما انسحب قائد الروم الأرطبون بقواته من فلسطين إلى مصر1. ولعل عمرًا أشار على الخليفة بتعقبه وهو منهزم، قبل أن تتاح له فرصة التحصن والدفاع والمقاومة في بلاد منيعة الحصون وفيرة الميرة، ولا سيما أن إطالة أمد التفاوض في حصار بيت المقدس، وطلب حضور الخليفة بنفسه لعقد الصلح لم يكن الهدف من وارئهما إلا كسب الوقت؛ حتى يتمكن أرطبون من الانسحاب بجنده إلى مصر. ولعله أيضًا ذكره بما صنعه الروم حينما رأوا التجمع في مصر ليشنوا منها هجومًا على المسلمين. مستغلين في ذلك إمكانياتها البحرية كما حدث في حملة قسطنطين، التي خرجت من شواطئ الإسكندرية واستولت على أنطاكية. وكادت بمساعدة القبائل أن تزعزع فتوحات المسلمين. وليس شك في أن إدراك هذه الصلة بين مصر والشام ينم عن فهم لطبيعة المنطقة الجغرافية، والضرورات الحربية التي تحتم على المسلمين الاستيلاء على مصر لضمان استقرار مكاسبهم في الشام. ولكن الخليفة تردد وطال تردده، فقد كانت الحرب سجالًا بين المسلمين والفرس، وكان شمال الشام يعج بالثورة والانتقاض، بينما حدثت الكارثة التي هددت شبه الجزيرة بالفناء. ولم تكد المجاعة تنتهي حتى فشا طاعون بفلسطين وامتد حتى البصرة. وكان طبيعيًّا إذن أن ينسى الخليفة كل ما حدثه به عمرو بن العاص عن مصر. ولما عادت شبه الجزيرة إلى مألوف حياتها، وبرئت الشام من الوباء، وجاء الخليفة إليها يصلح شئونها لزم ابن العاص أمير المؤمنين، يدلي إليه بحجج جديدة حتى يزيل

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2404.

تردده، فلو قنع المسلمون بموقفهم لحسبهم أعداؤهم تضعضعوا تحت وطأة الوباء والجوع، ولهاجموهم في الشام عن طريق مصر، أما إذا نهد لهم المسلمون في مصر ذاتها وقفوا موقف المدافع، وتعطلت سياسة الهجوم تمامًا. ولا بد أن ابن العاص قد أفاض في تزيين الفتح لأمير المؤمنين إفاضة العليم بمصر ومدنها وطرقها وحصونها، لما أتيح له من زيارتها، وما استخلصه من أسرى الروم الذين يعرفونها حق المعرفة. فمصر ولاية غنية بطبيعتها وثرواتها، تسيطر على منافذ العالم المعروف كله، وهي مركز تجارته، وأساطيلها التجارية تشق عباب البحرين من أقدم العصور إلى الجنوب من بلاد العرب، تحمل إليه التجارة، وتجيء منه بمختلف السلع، وتتصل عن طريق سيناء بطريق القوافل المنحدر إلى مكة واليمن. وهذا الاتصال أتاح احتكاكًا مباشرًا بين العرب وأهل مصر، وأدى إلى استقرار عدد غير قليل من العرب ببوادي مصر، وإلى استقرار جالية مصرية على طريق القوافل، كانت نواة لمدينة يثرب، كما يذكر مؤرخو العصور القديمة. وظلت هذه الصلات التجارية متصلة بين مصر وبلاد العرب حتى أضعفها استيلاء الروم على مصر زمنًا، ثم عادت إلى مثل ما كانت عليه؛ ذلك أن العرب ظلوا يقومون برحلة الصيف إلى الشام، كان منهم من ينحدر إلى مصر عن طريق القوافل عند آيلة، وكان أكثرهم يسيرون إلى الشام، فإذا قضوا وطرًا من التجارة توجهوا إلى مصر، وذلك ما كان يصنعه تجار مكة كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وعثمان بن عفان1. وكان العرب بحكم هذه الصلات يعرفون الكثير عن مصر. وقد تحدث القرآن الكريم عنها في مواضع كثيرة، فزود العرب المسلمين بها علمًا؛ بنهرها العظيم وأرضها المعطاء وزروعها الناضرة وخيراتها الوفيرة، في قصص إبراهيم وموسى وعيسى، فأثار في نفوسهم صورة مصر الطبيعية، وصورًا من تاريخها منذ أقدم العهود إلى عهدهم. ولم تكن معرفة المسلمين بمصر مقصورة على ما كان من أمرها في العصور الأولى، بل كانوا يعرفون من أمرها في زمانهم أكثر مما يعرفونه من تاريخها؛ ذلك أن العرب كانوا يتابعون ما يجري بين فارس والروم بعناية بالغة، قد اتصل القتال بين الدولتين بمصر زمنًا غير قليل، ذلك أن الفرس دخلوها في سنة 616م وأقاموا بها تسع سنوات،

_ 1 حسن المحاضرة ج2 ص41.

حتى أجلاهم هرقل عنها وعن الشام. وخلال هذه السنوات كان المسلمون يمدون أبصارهم إلى تلك الأرجاء، مؤمنين بأن الروم سيغلبون الفرس لا محالة كما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. فلما تمت هزيمة الفرس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة، وكانت سراياه تسير منها إلى ما حولها، فلما استتب الأمر بعث رسله إلى كسره وقيصر وملوك الحيرة وغسان وأمراء الجنوب من شبه الجزيرة، وإلى حاكم مصر يدعوهم جميعًا إلى الإسلام. وقد يلفت النظر أن المقوقس حاكم مصر كان أجمل الملوك والأمراء ردًّا على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم مجاملة له، فبعث مع حاطب بن أبي بلتعة رسول النبي صلى الله عليه وسلم إليه بكتاب يشير فيه إلى أنه يعتقد أن نبيًّا سيظهر، ولكنه ظن أنه سيظهر في الشام. ويذكر أنه استقبل رسوله بما يجب له من إكرام، وأنه بعث معه بهدية جاريتين وبغلة بيضاء وحمار ومقدار من المال وبعض من خيرات مصر1. وقد اصطفى محمد صلى الله عليه وسلم مارية القبطية إحدى الجاريتين لنفسه، فولدت له إبراهيم، فرفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقام زوجاته، وكان يقول: "استوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحما". وقد عرف المسلمون من أهل الشام ما يعرفونه عن مصر، وفضلًا عن معرفة عمرو الشخصية بما بها، كانت صورة مصر واضحة في ذهنه عن هذه السبل، عندما بدأ يفاتح الخليفة في فتحها ويزينه له ويغريه بشتى الطرق، ويضع أمثلة لخصبها ووفرة إنتاجها تحت عينيه، ويفيض فيما يظنه دافعًا له على الإذن بفتحها؛ فهي مركز خطير الأهمية بالنسبة لدولة الروم، وهي مخزن إمداد للميرة والمؤن والغلال والجند، وفتحها قوة للمسلمين وعون لهم؛ إذ هي أكثر البلاد أموالًا2، وهو في نفس الوقت حرمان للروم من أهم الشرايين التي تبعث فيهم الحياة. وظل عمرو يلح على أمير المؤمنين مغريًا إياه بأن يأذن له، عارضًا عليه ما آل إليه حال المصريين تحت حكم الروم من الظلم والعسف والاضطهاد، وأثر المبادئ الإسلامية التي بلغتهم عدالتها وسماحتها فيهم في تيسير الفتح.

_ 1 صبح الأعشى ج6، ص467. 2 ابن عبد الحكم ص51.

وقد أصاب عمرو في إشارته إلى هذه السياسة الظالمة التي اتبعها الروم ولم يكن إلحاحه وليد حبه للمغامرة التي يظهر فيها مواهبه في مباراة خالد بن الوليد، كما يزعم بعض المؤرخين1، فإن هدفًا متناهيًا في السمو كهذا لا يمكن أن يعزى إلى سبب شخصي؛ إذ لا يعقل أن يقدم خليفة حذر كابن الخطاب على فتح مصر دون أن تكون هناك دوافع لها خطرها. وكل ما هنالك أن عمرًا قد أدرك مدى الخطر الذي يمكن أن يسببه بقاء مصر في حوزة الروم، بعدما رأى إبان فتح فلسطين وبيت المقدس، ولأنه أحسن بما يدور في مصر ولمس بنفسه أخبارها، وهجرة الألوف من أبنائها إلى الشام فرارًا من الاضطهاد الديني والمذهبي. وعرف عن تعذيب اليعاقبة الشيء الكثير كما عرف ما يرزح تحته المصريون من أعباء الفتن والضرائب والمكوس الباهظة. فقد استهدف المصريون منذ اعتناقهم المسيحية لعدوان الروم، فتوالت عليهم النقم من قياصرتهم قتلًا وتعذيبًا وتشريدًا، حتى جاء القيصر دقلديانوس فأغلق كنائسهم وأسرف في قتلهم؛ بغية استئصال شأفتهم أو ردهم إلى الوثنية، وترتب على هذا قيام الثورات في الإسكندرية، مما اضطر القيصر إلى إخمادها بنفسه، بعد أن حاصر المدينة ودمر أبنيتها، وراحت النظم الإدارية بعد هذا ترمي إلى التشدد في تقديس الإمبراطور وإكباره؛ بغية تحويله من رئيس ديني إلى ما يشبه الإله الذي يُعبد وتقدم إليه القرابين. وقد أثارت هذه السياسة سخط المصريين. فلقي الروم في سبيل تأليه إمبراطورهم مقاومة عنيفة وعنادًا شموسًا، حتى أصبح عصر دقلديانوس مما يؤرخ به في مصر؛ إذ اعتبر اعتلاؤه العرش مبدأ تاريخ الشهداء لكثرة القتلى والمعذبين فيه2. وعندما اعتلى قسطنطين العرش اعتنق المسيحية، ولكن القبط خلصوا من اضطهاد الحكومة ليقعوا في اختلافات مذهبية حول كنه العلاقة التي يمكن أن تكون بين الله وعيسى. ولم يكد ثيودوسيوس يقبض على أزمة الأمور حتى قرر تنصير الإمبراطورية في نهاية القرن الرابع، ولكن الخلافات المذهبية لم تتوقف، وإنما تبلورت في مذهبين متقابلين: هما اليعقوبية والملكانية.

_ 1 فيليب حتى ص215. 2 ملن، تاريخ مصر تحت حكم الرومان ص87.

ويعتقد اليعاقبة من أهل البلاد، بأنه قد صار للمسيح طبيعة واحدة بعد تجسده؛ نتيجة امتزاج الطبيعة الإلهية البشرية، وأن هذا الامتزاج كامتزاج الخمر بالماء، حتى يصيرا شيئًا واحدًا، بينما يرى الملكانيون من الروم الحاكمين أن الابن مولود من الأب قبل كل الدهور، غير مخلوق، وهو جوهره ونوره، وأن الابن اتحد بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدًا هو المسيح، وهذا الاتحاد كاتحاد النار في الصفيحة المحماة. وبرغم أن المذهبين ينتهيان إلى ما يشبه النهاية الواحدة المتفقة، فهما يختلفان في التفاصيل، وقد انعقد مؤتمر خلقدونيا في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس، فأقر المذهب الملكاني وأوصى بعزل بطريق الإسكندرية ومؤسس المذهب اليعقوبي، وبقتل كل من يقول بمذهبه، واستقبل هذا القرار بالثورة، وازداد عسف الحكام بالشعب، فأباحوا المدن وأبطلوا الأعياد وأغلقوا الحمامات، وزجوا بزعماء الثورة في الهياكل وأحرقوها بهم، وقطعوا إعانة الغلال، واستمر الاضطهاد عنيفًا، ووقعت المعارك الدموية وأحرقت الإسكندرية وقتل مائتا ألف في كنيستها بأمر البطريق أبو ليناريس، الذي فرضه عليهم يوستنيانوس في مطلع القرن السادس، وجعل منه حاكمًا للإسكندرية تئول إليه جميع أملاك الكنيسة1. وأثمرت هذه السياسة الدموية المتعسفة في مصر عداء دائمًا وبغضًا للروم لا حد له. وأتيح للقبط في مطلع القرن السابع أن ينعتقوا من جحيم الروم لمدة يسيرة إبان غزو الفرس لمصر، ولكن هرقل أعادهم إلى ما كانوا فيه من التعذيب والاضطهاد، وازداد الحال سوءًا في محاولته فرض مذهب ابتكره له سرجيوس؛ للتوفيق بين الملكانيين واليعاقبة، وليقضي به على الخلافات الناجمة عن التعرض لكنه المسيح وصفته وطبيعته. ويقضي هذا المذهب بأن للمسيح إرادة واحدة وقضاء واحدًا، وكان استقبال القبط لهذا المذهب سيئًا للغاية، وحاربوه حربًا أشد من حربهم للوثنية، وتجددت الفظائع واضطر المصريون إلى الفرار إلى الصحراء، وشاع الاتجاه إلى الرهبنة كما فعل بنيامين البطريق، الذي أعوز بعد فراره إلى القبط بألا يقاوموا العرب، فكان أن لم يجد عمرو في طريقه إلى الفرما إلى بابليون مقاومة عنيفة، وقد صاحب الاضطهاد الديني اضطهاد سياسي

_ 1 ملن، تاريخ مصر تحت حكم الرومان ص100، 101.

واجتماعي، لا يقلان في آثارهما عنه، فإن مصر لم تكن في اعتبار الروم غير مزرعة للغلال. وبينما كانوا يستنزفون خيراتها كان أبناؤها يعانون الكثير من الفقر والمرض والجهل، واشتعال الفتن والحرمان من حقوقهم ومن تولى المناصب الرفيعة، ومن فرض الضرائب الباهظة المتعددة على الأشخاص والأشياء، وعلى المارة والموتى وصناع السفن والعاهرات وزوجات الجنود، وتذاكر المرور وختمها، وأثاثات المنازل وشراعات السفن وصواريها، فضلًا عما كان مفروضًا على الأهالي من وجوب إيواء الموظفين والجند، وتقديم ما يحتاجونه من وسائل النقل والغذاء1. ولا شك في أن هذه العوامل كلها لاقت اهتمامًا من الخليفة، الذي استمع إلى عمرو وإغرائه بفتح مصر، واقتنع بوجاهة رأيه، وكفالة كل هذه العوامل لإنجاح فتح المسلمين لمصر فعقد له لواءها. والروايات التاريخية تختلف اختلافًا بعيدًا حول إذن الخليفة لعمرو بالفتح، بين أن يكون عمرو قد حبذ الفتح إلى الخليفة، أو أن يكون الخليفة هو الذي أمر به عمرًا، وبين أن يكون عمرو قد استأذن في الفتح قبل تقدمه أو بعده2. إلا أن هذه الروايات المختلفة جميعًا تتفق على تلك الإحالة التي تكاد أن تكون استخارة، تمثلت في الكتاب الذي أرسله الخليفة إلى عمرو. والظاهر أن متابعة هذه الأقوال لا يتفق وتلك البواعث الجادة الملحة التي لا يخالطها ريب أو تردد في فتح مصر، استكمالًا لفتح الشام والقضاء على الدولة البيزنطية قضاء مبرمًا. والذي يمكننا أن نتقبله في ذلك هو أن الخليفة أذن لعمرو في فتح مصر، وأنه عقد له على أربعة آلاف رجل، ولكنه عاد فتخوف وندم بعد أن أبان له عثمان حرج موقف عمرو لقلة من معه. فكتب إلى عمرو كتابه الشهير، يعده بإمداده إن كان قد دخل أرض مصر فعلًا. وعلى هذا النحو تستقيم مدافعة عمرو للرسول الذي حمل كتاب الخليفة إلى أن يكون قد دخل بالفعل في أرض مصر. وقد أدرك الكتاب عمرًا على قرية بين العريش ورفح داخل حدود مصر حيث فض الكتاب، ثم سار على بركة الله وبعونه3. فبلغ

_ 1 ملن ص115-125. 2 المقريزي ج1، ص228، ابن عبد الحكم ص51. 3 ابن عبد الحكم ص51، 52.

العريش بعد أن اخترق رمال سيناء، وكان ذلك أواخر سنة 18هـ، ولم يلقَ كبير عناء في فتحها1. وانصرف عمرو متجهًا نحو الغرب، دون أن يشترك مع جند الروم في قتال حتى وصل الفرما أو بيلوز، وهي مدينة قديمة العهد حصينة، لها كنائس وأديرة وميناء على البحر، يصل إليها جدول من النيل، وكانت تمثل مفتاح مصر في ذلك الوقت، وكان جند الروم يعتصمون بحصونهم، فحاصرهم عمرو، واستطاع المسلمون أن يسبقوهم ذات مرة إلى هذه الحصون فافتضوها، وتم لهم احتلال المدينة أوائل سنة 19هـ2. وتقدم عمرو دون أن يجد مدافعة، بعد الاستيلاء على مفتاح مصر وعلى القاعدة التي يستطيع النكوص منها إن اقتضى الأمر تراجعًا، وتلقى الأمداد عن طريقها إذا ما تقدم. ووصل إلى بلبيس، وبعد حرب دامت شهرًا تم للمسلمين فتحها، وهزم الروم وألحق بهم خسائر فادحة. وبالاستيلاء على بلبيس أصبح المسلمون على مسيرة يوم واحد من رأس الدلتا3. ومضى عمرو حتى أتى أم دنين4 شمال حصن بابليون، وهي قرية على النيل عند مأخذ خليج تراجان، الذي يصل مدينة مصر بالبحر الأحمر عند السويس، وكانت حصينة يجاورها مرفأ فيه سفن كثيرة، وكانت مسلحتها طليعة الدفاع عن حصن بابليون العظيم. وأدرك عمرو دقة الموقف فإن الروم قد لاذوا إلى الحصن بكل قواتهم، وأمدوا أم دنين بمسلحة قوية، وتهيئوا بذلك لقتال فاصل. وجاءته عيونه بأنباء عرف منها أنه لن يستطيع أن يفتض هذا الحصن أو يحاصره بمن معه من الجند، فضلًا عن فتح مدينة مصر التي تقع في حماية الحصن، فعول على حصار أم دنين وحصنها، فإن استولى عليه سارت السفن تحت إمرته، وأصبح في مقدوره أن يدبر أمره. وكان الحذر يقتضي عمرًا ألا يفرط في رجاله، وأن يستعجل الخليفة المدد ليضاعف الأمل في قلوب جنده، فبعث رسالة إلى عمرو وأذاع في الجند أن المدد موشك أن

_ 1 حسن المحاضرة ج1، ص46، المقريزي ج1، ص228. 2 ياقوت ج3، ص884. 3 بتلر ص191. 4 حي الأزبكية الآن.

يجيء، ثم تقدم إلى أم دنين فحاصرها، ووقف قبالتها يمنع عنها العتاد والميرة، ولم يفكر الروم المقيمون في الحصن أن يخرجوا، بعدما رأوا مصير بلبيس. أما مسلحة أم دنين فكانت تخرج إلى القتال أحيانًا ثم ترتد إلى حصنها، ولم يتغير الموقف خلال أسابيع، وإذا بالمدد قد أقبل ورآه أهل الحصن فأسقط في أيديهم. وكان عمرو قد عرف مداخل الحصن ومخارجه، فتخير وقتًا أمر فيه أصحابه أن يشدوا جميعهم شدة رجل واحد، وسار في طليعتهم، ففتحه الله عليهم بعد مقتلة عظيمة، وبعد أن أسروا من بقى فيه حيًّا1. ونزل عمرو أم دنين، ثم عبر مع جنده النيل في سفنها، وساروا يتخطون الصحراء مجتازين أهرام الجيزة، وهناك على الجانب الغربي على النيل دارت معركة حامية كانت للمسلمين على حنا وجنده. ثم عاد عمرو إلى بابليون؛ لما علم بنبأ الأمداد التي في طريقها إليه2. واستطاع أن يلتقي بالمدد، ويبلغ عسكر المسلمين في هليوبوليس؛ حيث ضيع على تيودور الفرصة، واغتبط عمرو بالمدد الذي أتاه، وفيه الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت والمقداد بن الأسود ومسلمة بن مخلد، وعسكر المسلمون في عين شمس وجاءته الأنباء بأن تيودور أمير جند الروم قد تداول مع أصحابه، فرأوا أن مقامهم بالحصن يظهرهم أمام المصريين بمظهر الجبن والخور، ويغري الناس بالانضمام إلى المسلمين ومعاونتهم، فعزموا على الخروج لإجلاء المسلمين عن عين شمس، ودبر عمرو خطته، فسير خمسمائة من رجاله تحت الليل من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل عند قلعة الجبل، وأخرج خارجة بن حذافة في خمسمائة آخرين ساروا قبيل الفجر إلى أم دنين، ولما تنفس الصبح سار بمن معه حتى بلغ مكان العباسية الآن وأقام ينتظر. وخرج الروم وتقدموا إلى عين شمس فبلغهم أن عمرًا تقدم يريد لقاءهم، فاستخفهم الطرب وأيقنوا بالظفر، وتعاهدوا على الاستبسال. والتقى الفريقان فأنشبوا القتال، وإنهم لكذلك؛ إذ انحدرت الكتيبة المختبئة في مغار بني وائل فعصفت بمؤخَّرة الروم عصفا فاضطربوا وأخذهم الفزع وتقهقروا إلى أم دنين، وعندئذ خرج كمين خارجة فأمعن فيهم قتلًا, ولاذ معظمهم بالفرار، وبلغت طائفة

_ 1 هيكل، الفاروق ج1 ص102. 2 بتلر ص198.

منهم الحصن فلاذت به، وفزع آخرون إلى النهر، ومال العرب فاستولوا على حصن أم دنين كرة أخرى، وانتصروا نصرًا مؤزرًا وطد أقدامهم في مصر1. ثم نقل عمرو عسكره من عين شمس إلى شرقي الحصن وشماله، وجاءته الأنباء بفرار حامية الروم إلى نقيوس، فجهز كتيبة استولت على إقليم الفيوم كله، وقوة أخرى استولت على إقليم المنوفية. وحينئذ أخذ الناس يفرون إلى الإسكندرية هلعًا2. ولم يكن عمرو ليبطره الظفر فيقصد إلى الإسكندرية قبل أن يفتض حصن بابليون، وحاصره وهو يعلم أن الحصار سيطول؛ لارتفاع النهر وتدافع تياره، ولمناعة الحصن واكتفائه بما فيه من ميرة وماء وعتاد. وكان الروم يرمون المسلمين بالمنجنيق، فيجيبهم العرب بالحجارة والسهام، ومضى شهر ولم يتزحزح المسلمون، بينما وهن الروم ويئسوا من وصول أمداد إليهم، فتشاور المقوقس مع قومه على التفاوض مع العرب، ورأوا أن تكون المفاوضة سرية، فتسلل مع جماعة من قومه، وركبوا السفن إلى جزيرة الروضة؛ حيث أرسلوا إلى عمرو يطلبون التفاوض معه، وكان رد عمرو بعد أن احتجز الرسل يومين أن يختاروا بين الإسلام أو الجزية أو القتال، فرد رسله يطلبون أن يرسل المسلمون رسلًا يحادثونهم. فبعث عمرو بعبادة بن الصامت ونفر معه. وتكلم عبادة وذكر ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى، وأعجب المقوقس بكلامه، ومال إلى تهديده وإغرائه فلم يفلح معه، ولم يتزحزح عن واحدة من ثلاث خصال، وفشلت المفاوضات وعادت الحرب، وأمهلهم عمرو ثلاثة أيام، غير أن عمل المقوقس ذاع في الناس فثارت ثائرتهم، وأبوا إلا القتال. وتجهز أهل الحصن، وخرجوا عند انتهاء الهدنة بغتة، فأخذوا العرب المسلمين على غرة، ولم تذهل البغتة العرب، وأسرعوا إلى سلاحهم، وقاتلوا الروم قتالًا شديدًا، فتكاثر المسلمون عليهم وألجئوهم إلى الحصن، بعد أن قتلت منهم مقتلة عظيمة3. وخاطب المقوقس عمرًا في الصلح فأجابه إليه4. وعلق نفاذ الصلح على رضا الإمبراطور، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعًا على ما كانوا عليه5.

_ 1 بتلر ص320-323. 2 هيكل، الفاروق ص110. 3 بتلر ص262. 4 ابن عبد الحكم ص64. 5 نفس المرجع.

واستدعى الإمبراطور المقوقس إلى القسطنطينية؛ حيث أنَّبه واتهمه بالخيانة، ونفاه وهدده بالقتل1. وعلم المسلمون برفض الصلح، فانتهت الهدنة وعاد القتال بين الفريقين، فألقى الروم في الخندق حسك الحديد، وعطلوا تقدم المسلمين إلى الحصن، وأقاموا على التراشق بالحجارة والسهام حتى تصرمت أشهر الشتاء، وجاءت الأنباء بموت هرقل؛ ولكن الحصن ظل يقاوم. وضاق العرب بطول الحصار الذي استمر شهورًا سبعة، وهانت عليهم أنفسهم حتى وهب الزبير نفسه لله، وأتى في جنح الليل بكتيبة آزرته فطموا الخندق، ووضعوا سلمًا علاه الزبير، وانطلق يكبر وتبعه أصحابه وكبروا، وأجاب المسلمون من خارج الحصن، فلم يشك الروم في أن العرب اقتحموا الحصن فهربوا، وعمد الزبير إلى باب الحصن ففتحه، ودخله المسلمون واستولوا عليه2. وبعد سقوط بابليون انفتح الطريق أمام المسلمين نحو مصر السفلى وريفها، ولكن الترع والفيضانات والقنوات وفيضان الماء، كل هذا جعلهم يطلبون مساعدة الأهالي، الذين استجابوا لهم وصاروا لهم أعوانًا3. واستغرق مسير عمرو إلى الإسكندرية اثنين وعشرين يومًا، وكان الروم قد تقهقروا إليها للاحتماء بها، فهي قصبة البلاد وسقوطها يعني زوال سلطان الروم عن مصر زوالًا تامًّا؛ ولهذا فقد أخذت الجيوش الجرارة تنتهي إليها عن طريق البحر، والحاميات تفر إليها عن طريق البر، وأغلقت حامياتها الأبواب وتحصنوا. وكان أول صدام للمسلمين في طريقهم بالروم عند عبورهم فرع رشيد إلى الغرب، عند ترنوط4، وكان قتال طفيف، انتصر فيه المسلمون5. وأرسل عمرو من هناك حملة بقيادة شريك بن سمى، لقيت الروم عند الكوم الذي سمي باسمه، فنصر الله المسلمين6.

_ 1 بتلر ص264. 2 ابن عبد الحكم ص58. 3 ابن عبد الحكم ص64. 4 غرب رشيد. 5 نفس المصدر ص66. 6 نفس المصدر والصحيفة.

ومضى عمرو إثر استنجاد شريك به، فالتقى بالروم في سطليس أو سنطيس1؛ حيث اقتتلوا قتالًا عنيفًا بها، وكانت العاقبة للمسلمين. وبعد مسيرة عشرين ميلًا التقى المسلمون بالروم عند الكربون، وكانت مسلحة عليها خيل ورجال2، وهناك اقتتلوا بضعة عشر يومًا قتالًا شديدًا، فقد كانت الكريون آخر سلسلة من الحصون قبل الإسكندرية، وإليها فر المنهزمون في سطليس، وانضموا إلى سائر جند الروم في مسلحة الكريون، وعليهم تيودور، الذي استمات في الصمود أمام العرب؛ إذ أدرك أنهم إن ينهزموا بالكريون تنكشف العاصمة أمام العرب، فرأى الحيلولة بين الغزاة وبلوغ الإسكندرية خيرًا من الدفاع عنها. وأخذ الروم ينسلون من الإسكندرية إلى الكريون، وأقبلت حاميات من سخا وخيس وبلهيب. والتقى عمرو بالروم واشتد القتال شدة لم تؤلف فيما سبقها من المعارك، وظلوا هكذا حتى فصل بينهم الظلام، ثم استحر القتال في صبيحة اليوم الثاني، ثم انفصل الفريقان في آخره، وظل القتال هكذا دائرًا بضعة عشر يومًا، ترجح فيه كفة المسلمين تارة وترجح كفة الروم تارات، وأظهر الروم من ضروب البراعة والبسالة وشدة البأس وصلابة العود ما أدخل الروع في قلوب المسلمين، حتى لقد صلى عمرو صلاة الخوف ركعة وسجدتين مع كل طائفة من جنده، ولكن هذا لم يذهب عزم المسلمين ولم يضعف روحهم، بل زادهم صلابة وإيمانًا، ثم أنزل الله نصره وتم فتح الله للمسلمين، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة، وأتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية3. وكان الروم قد تحصنوا بالإسكندرية. وقدر عمرو أن هزيمتهم في الكريون لا بد أن تكون قد أدخلت الروع إلى نفوسهم، فلم يتردد عندما رأى ترقب الجند وحماستهم، فأمرهم أول مقدمهم باقتحام أسوار المدينة وأبراجها، ولم يشك المسلمون في أن المدينة ستفتح أبوابها لقاء هجمتهم، فاندفعوا مهللين فلم يرعهم إلا الحجارة العظيمة تتساقط عليهم مقذوفة من المجانيق المنصوبة فوق أسوار المدينة، ذلك أن تيودور أيقن أن الظفر

_ 1 ستة أميال جنوبي دمنهور. 2 المسالك ص91. 3 ابن عبد الحكم ص66، بتلر ص251.

سينسى المسلمين الحيطة، فيندفعون إلى مهاجمة المدينة، فأدخل الجيش حصون المدينة وأخلى ضواحيها، وأقام القاذفين على أسوارها، فعاود عمرًا حذره وانسحب وراء مرمى المجانيق، فعسكر بجنده وتأمل عمرو موقفه، فالمدينة حصينة حصانة طبيعية، يحيمها البحر من شمالها والإمدادات مستمرة عن طريقه1، وبحيرة مريوط تحميها من الجنوب، وترعة الثعبان تدور حولها من الغرب، وليس أمامه إلا الشرق وهو الطريق بينها وبين الكريون، ومن هذه الناحية كانت الحصون والأسوار أشد مناعة. واستقر رأيه أن يقف بعيدًا عن مرمى المجانيق، فإذا طال الحصار بالروم شعروا بما في ذلك من مذلة فيخرجون، ويتمكن المسلمون منهم، فأقام بجنده بين الحلوة وقصر فاروس شهرين كاملين2، ثم نقل عسكره إلى المقس، فخرجت إليه الجند من ناحية البحيرة، فواقعوه وقتلوا من المسلمين نفرًا بكنيسة الذهب3، وارتدوا إلى حصونهم. وظل الروم محصورين لا يخرجون، وبقي المسلمون قبالتهم لا يريمون، لكن عمرًا رأى أن الموقف قد يتجمد على هذا النحو، مما يدفع إلى نفوس جنده السأم، ويشعرهم بالعجز عن مناجزة عدوهم. وقد اهتدى إلى أن يحقق أغراضه جميعًا، فيزيل سأم جنده بأن يرسل كتائب تجوس خلال بلاد الدلتا تطارد الروم فيها، وأن تبقى كثرة الجند على حصار الإسكندرية، وبذلك يستكمل أيضًا ما كان بدأه من بعوث، وهو على حصار بابليون. وظلت كثرة الجند أمام الإسكندرية ولم يتغير الموقف، إلا ما كان يحدث من مناوشات طفيفة لا تبلغ أن تكون حربًا. على أن إمدادات الإسكندرية عن طريق البحر ما لبثت أن توقفت بعد قليل، فقد شغل أهل بيزنطة بما ساد بلاطهم من اضطراب، وما حل بعاصمتهم من انتقاضات بعد موت هرقل4، وتزعزت الروح المعنوية لحماة الإسكندرية، وفت في أعضادهم توقف الأمداد، وازدادت مخاوفهم من أن يتغلب العرب على البلاد الساحلية، فيقطعوا عنهم ميرتها، بعدما وصل إليهم من انتشارهم في الدلتا ومصر العليا والسفلى.

_ 1 ابن عبد الحكم ص68، 69. 2 ابن عبد الحكم ص67. 3 ابن عبد الحكم ص68. 4 بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية ج2 ص119، 120.

وفي هذه الفترة كان الخليفة بالمدينة يتميز غيظًا من إبطاء الفتح، الذي كان يتنسم أنباءه يومًا إثر يوم، وراح يعلل لصحابته إبطاء الفتح بما أحدث المسلمون، وبما أغرتهم به خيرات مصر من تعلق بالدنيا وشره إلى نعيمها، فكتب إلى عمرو كتابًا ضمنه هذا ودعاه فيه إلى أن يحض الجند، وأن يرغبهم في الصبر وحسن النية، وأن يقدم الأربعة الذين عد كل واحد منهم بألف رجل حينما أمده بهم. ورأ عمرو الكتاب في جنده، ودعا بالأربعة الذي ذكروا فقدمهم، وأمر الناس أن يتطهروا وأن يصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ويسألوه النصر على عدوهم، ثم دعا بعبادة بن الصامت فعقد له وأولاه قتال الروم، ثم انطلق إلى بابليون، يدير حركة بعوثه إلى أقاليم الدلتا والصعيد. وفتح الله الإسكندرية على يدي عبادة ودحر الروم، وسارع المقوقس إلى عمرو في بابليون؛ ليعقد معه معاهدة الإسكندرية التي تعرف بمعاهدة بابليون الثانية؛ تمييزًا لها عن معاهدة بابليون الأولى1. وقد نص فيها على أن يرجع المسلمون عامهم هذا حتى يرحل عنها جيش الروم، خلال أحد عشر شهرًا تنتهي في أواخر سنة 21هـ. ولما دخل المسلمون الإسكندرية ذهلوا لروعة عمارتها ومدارسها ومكاتبها وقبابها ومنارتها ومسلتها ومعابدها2، وأخذوا بعد ذلك يستقرون بمصر، ويبنون الفسطاط والخطط، ويرسلون البعوث لإتمام فتح مصر جميعها. وأخذوا كذلك في حفر قناة تراجان، وما تمضي ثلاث سنوات حتى يحيك قسطنطين بن هرقل مؤامرة تستهدف استنفاذ مصر، بقيادة "منويل" الخصي الأرمني، الذي نزل الإسكندرية في أسطول بيزنطي كبير، فاحتل الإسكندرية ونكل بالمسلمين تنكيلًا. ويضطر عثمان بن عفان خليفة المسلمين حينذاك إلى أن يصلح الأمر بما صلح به أوله، فاستدعى عمرو بن العاص ذلك الفاتح الرائد؛ ليعين والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح لدرايته بحرب الروم، بناء على رغبة أهل مصر3.

_ 1 سيدة إسماعيل الكاشف، مصر في فجر الإسلام ص14. 2 بتلر ص319. 3 البلاذري ص233.

وبرغم استماتة الروم فقد أذاقهم عمرو نفس الكأس، وهزمهم هزيمة منكرة عند نقيوس، وعاد منويل طائرًا إلى الإسكندرية فتحصن بها، ونصب المجانيق على أسوارها1. ويقف عمرو أمام هذه الأسوار التي دوخته من قبل، ليقسم أن يسوي التراب بها، وأن يجعلها كبيت الزانية يُؤتى من كل مكان، واحتال حتى استمال حراس المدينة، ثم أعمل السيف في حاميتها وقتل منويل، وكان ذلك في السنة الخامسة والعشرين للهجرة2. وعلى الرغم من ذلك فإن الروم لم تيئسهم هزيمتهم، فقد حاولوا بعد تسع سنوات في عهد الإمبراطور قسطانز أن يعاودوا هجماتهم البحرية، وأعدوا لذلك أسطولًا جديدًا، غير أن المسلمين كانوا قد ركبوا البحر وحذقوا حروبه، فأوقعوا بالأسطول البيزنطي، ولقيت فلوله عاصفة هوجاء أتت عليها، وهكذا استتب الأمر في مصر للمسلمين3. خضع للمسلمين إقليم مصر، من الإسكندرية إلى أسوان، ورأى عمرو أن تتجه بعض بعوث الجيش إلى الجنوب لتأمين الحدود؛ حيث تضرب القبائل في أرض النوبة، تلك الأرض التي تشبه أرض شبه الجزيرة؛ إذ تغلب عليها الصحراء، وتربطها بها صلات تجارية دفعت بعض التجار العرب في الجاهلية إلى التسرب إليها. ولعل هذا الشبه وهذه الصلات، وما كان من غلبة المسلمين على مصر، ومتاخمتهم لأرض النوبة هي التي أغرتهم بهذه البعوث. ويروي البلاذري: أن جيش المسلمين بقيادة عقبة بن نافع الفهري اضطر أن يعود بعد معركة قاسية، أصابت فيها سهام أهل النوبة أحداق المسلمين، فقفلوا بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمي، وسمي أهل النوبة برماة الحدق4. وظل القتال ينشب بعد ذلك حتى انتهى إلى الصلح على هدية عدة رءوس منهم يؤدونها إلى المسلمين في

_ 1 النجوم الزاهرة ص65، 66. 2 المقريزي ج1 ص167. 3 بتلر ص424. 4 الطبري 1/ 5/ 2593، وسكت عن ذكر القائد.

كل سنة، ويهدي إليهم المسلمون كل سنة طعامًا مسمى، وكسوة من نحو ذلك1. وقد أمضى هذا الصلح عثمان بن عفان، في ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأقره الولاة والأمراء من بعده نظرًا منه للمسلمين وإبقاء عليهم2. ويبدو من هذا أن الجنوب قد استعصى، حتى إن الخليفة يضطر إلى قبول هذا الصلح إبقاء على المسلمين. وهذا يوضح ما كان من صدوف المسلمين عن هذا الميدان؛ إذ لم يجدوا ما يغريهم فيه، فمضوا عنه يجوبون البلاد في غربي مصر، ويجهزون على ما تبقى من ولايات بيزنطة في هذا الصقع من الأرض. كان ضروريًّا أن تؤمن حدود مصر الغربية ضد هجمات الروم، إذا حدثتهم أنفسهم باستردادها. فحدود مصر الغربية تلاصق ولاية ليبيا البيزنطية في هذا الوقت، وكانتا تحت الحكم البيزنطي سواء، وكثيرًا ما كان إقليم مريوط يضاف إلى ليبيا تعويضًا عن إقفارها3. فسار عمرو في أواخر سنة 21هـ بعد فتح الإسكندرية في كتيبة من فرسانه حتى وصل إلى برقة، وهي حد مصر من الغرب، ولم يلقَ المسلمون في فتحها كبير كبد؛ إذ لم يذهب إليها غير الخيل، ويغلب أن تكون قد فتحت صلحًا4، ثم بعث عمرو عقبة بن نافع الفهري فافتتح زويلة صلحًا، وأصبح ما بين برقة وزويلة ملكًا للمسلمين5. وسار عمرو حتى وصل إلى طرابلس، وحاصرها عدة أسابيع إلى أن استسلمت، بعد أن كاد الجوع وشدة القتال يهلكان أهلها، وعاد من ثم إلى برقة، فكتي إلى أمير المؤمنين عمر: "إنا قد بلغنا طرابلس، وبينها وبين إفريقية "تونس" تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوها فعل". فكتب إليه عمر ينهاه، ويأمره بالوقوف عند هذا الحد، فعاد من هناك

_ 1 نفس المرجع. 2 نفس المرجع. 3 بتلر ص10. 4 السيوطي ج1، ص63. 5 الطبري 1/ 5/ 2646، والبلاذري ص224.

كارهًا، واستخلف عقبة بن نافع الفهري، الذي صار إليه بعد ذلك فتح المغرب1، وإن كان فتح برقة وطرابلس مؤمنًا لحدود مصر، فإنه كان من ناحية أخرى مقدمة للانسياح في إفريقية. وقد ساعد على هذا أن هاتين البلدتين كانتا هادئتين، وكان أهلهما يبعثون بخراجهم إلى والي مصر، من غير أن يأتيهم حاث أو مستحث، ولم تدخل بلادهم فتنة2. وأخذ المسلمون يتوسعون في المناطق الداخلية في برقة وطرابلس، فاستولوا على فزان وودان، وتولى الأولى بشر بن أبي أرطاة، والثانية عقبة بن نافع. وكان ذلك في أوئل سنة 23هـ. وتقدم المسلمون غربي طرابلس إلى سبرت3. ومن ثم أخذ اسم عقبة بن نافع يتلألأ في هذه المناطق، وتوالت البعوث الإسلامية للاستطلاع. فكان عمرو يرسل الجريدة من الخيل فتصيب الغنائم ثم ترجع4. وكذلك فعل عبد الله بن سعد بن أبي سرح5. وفي عهد عثمان استأذن عبد الله بن سعد بن أبي سرح في فتح إفريقية سنة 25هـ فأذن الخليفة له بعد المشورة، وانتدب الناس، وأمر عليهم الحارث بن الحكم، إلى أن يقدموا على عبد الله فيكون له الأمر6. وتقدم عبد الله في عشرين ألفًا؛ حيث دارت معركة عنيفة بين المسلمين بقيادته وجيش جرجير، وانتصر المسلمون بعدما قتل عبد الله بن الزبير جرجير، واضطر جيشه للهرب، وتعقبه المسلمون وبثوا سراياهم في المنطقة، فعادوا بغنائم كثيرة. ولما رأى ذلك رؤساء إفريقية طلبوا إلى ابن أبي سرح أن يصالحهم على الخروج من بلادهم، وأن يأخذ في مقابل ذلك أموالًا، فقبل ورجع إلى مصر، دون أن يولي أحدًا عليها، أو يتخذ

_ 1 البلاذري ص233. 2 البلاذري ص224. 3 ابن عبد الحكم ص172. 4 ابن عبد الحكم ص173. 5 ابن عبد الحكم ص173. 6 ابن عبد الحكم ص183.

قيروانًا1 مكتفيًا بالريادة والاستطلاع، وما حاز عن غنائم، وربما كان سبب هذا الإجراء وصول أنباء حملة قسطنطين إليه. ثم لا نسمع شيئًا عن هذا الميدان طوال حكم الراشدين؛ حيث لعبت الأحداث دورها في تعطيل الفتح، وأسهمت الفتنة في صرف المسلمين عنه. ولكن عندما يجتمع الأمر لمعاوية، ويتولى مصر معاوية بن خديج يتجه المسلمون من جديد إلى إفريقية ليدخلوها في إطار الدولة الإسلامية.

_ 1 ابن عبد الحكم ص183.

الفصل الثاني: الشعر في الفتوح الشرقية

الفصل الثاني: الشعر في الفتوح الشرقية 1- كثرة الشعر على ألسنة الفاتحين: يكاد شعر الفتوحات الإسلامية كله أن يكون وليد الفتوح الشرقية وحدها؛ ذلك أن هذا الشعر كثير كثرة مطلقة إذا ما قورن به شعر الميادين الأخرى؛ ولهذا يجمل بنا أن ننعم النظر في ظروف هذه الفتوحات بالذات، وأن نتعرف إلى هؤلاء الفاتحين الذين هاجروا إلى هذا الميدان من شبه الجزيرة العربية، علَّنا نجد تفسيرًا لهذه الظاهرة، مما يعيننا على تفهم شعرهم والظروف التي صدر فيها، ومحاولة التعرف على الفاتحين في هذه المناطق ليست أمرًا هينًا ولا يسيرًا؛ لكثرة الجيوش التي اندفعت إلى الفتح متتابعة وكثرة الإمدادات التي لحقت بها، ولانعدام الأسس التي كانت تصنف بوحيها هذه الجيوش وتلك الإمدادات. والذي يبدو جليًّا للدارس أن الجيوش الإسلامية لم تكن تصنف على أية أسس أو داخل إطار معين، فكان يحدث أن يبعث الخليفة إلى البلدان والقبائل يستنفرها ويرغبها في الجهاد، فتتوافى إليه الجموع من هنا وهناك، فيصرفها في الوجهة التي تمليها عليه ظروف الأحداث وطبيعتها. وتذكر بعض الروايات أن أمير المؤمنين كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان أمر عليهم رجلًا من أهل العلم والعفة1، وبرغم هذا فإنه يمكن للباحث أن يلاحق هذه الجيوش وتلك الإمدادات ملاحقة دقيقة؛ حتى يستطيع أن يرسم صورة تقارب الأصل أو تدل عليه، وتلقي على هذه الظاهرة بعض الضوء. كان أول من مهد للفتح الإسلامي في العراق المثنى بن حارثة الشيباني، الذي انضم إلى العلاء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين، على رأس من بقي على الإسلام من أهل هذه النواحي التي تساحل الخليج الفارسي إلى الشمال، وقد رأينا أنه نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا النهرين فتحدث معهم وتعاهد، ولا ريب في أن هذه القبائل التي

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2714.

تعاهد معها وشكل منها كتيبته كانت من بكر وإياد وتغلب والنمر ولخم سكان هذه المناطق، فضلًا عن قبيلته شيبان التي كانت تنزل البحرين. وقد صدع خالد بن الوليد بأمر أبي بكر الذي ألقاه إليه وهو باليمامة1 عقب فراغه من مسيلمة، فنهد في اللواء الذي عقده له أبو بكر لحرب المرتدين في بني أسد وبني تميم، وهو لواء اختاره خالد بنفسه، فكان من أمنع الألوية وأقواها، وكان به خيرة المقاتلة من المهاجرين والأنصار2. وانضم إلى هذا اللواء قوم عدي بن حاتم من طيئ، فقاتلوا طليحة بن خويلد مع المسلمين. وكذلك فعل كثرة جديلة، فلحق بالمسلمين منهم ألف راكب3، ولقد كثر في هذا اللواء القتلى من الحفاظ، فقل عدده وتناقص بعد ذلك، حينما أمر أبو بكر بتسريح من يرغب في الرجوع، وكثرتهم من أهل المدينة، وبألا يستفتح بمتكاره. وأمد أبو بكر خالدًا حين استمده بالقعقاع بن عمرو التميمي، ولما سأله الناس أتمد رجلًا قد انفض عنه جنده برجل واحد؟! قال: "لا يغلب جيش فيه مثل القعقاع، إن صيحته في الجيش بألف رجل"4، وبعث إليه مع القعقاع بأن يستنفر من قاتل أهل الردة، ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستنفر خالد الأمراء الأربعة: حرملة وسلمى والمثنى ومذعور، وكانوا في ثمانية آلاف من ربيعة ومضر، إلى ألفين كانوا معه، وقدم بهم على جند المثنى، ويذكر أنه كان ثمانية آلاف5. أما عياض بن غنم الذي كان عليه أن يأتي العراق من أعلاه ليلتقي مع خالد في الحيرة6، فإنا لا نعلم شيئًا عن تكوين جنده، ولا تفيد الروايات عنه خبرًا، وإن كان المظنون أن كثرته كانت من ربيعة ومضر. وبطبيعة الحال لم تبقَ هذه النواة على حالتها الأولى؛ إذ انضم إليها وانسلخ عنها جند كثيرون، والتقى خالد بهذا الجيش مع الفرس في سلسلة من المعارك، انتصر فيها

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2021. 2 الطبري 1/ 4/ 2022. 3 هيكل، أبو بكر ص219. 4 الإصابة ج5، ص244. 5 هيكل، أبو بكر ص219. 6 الطبري 1/ 4/ 2021.

المسلمون حتى دخل الحيرة، وهناك وزع عماله وخلف القعقاع على الحيرة والزبرقان بن بدر على الأنبار1. ثم خرج لإغاثة عياض بدومة الجندل، وارتد إلى الحيرة بعد أن أدى مناسك الحج؛ حيث تلقى كتابًا من أبي بكر يندبه إلى الشام، وفصل خالد في نصف الجند2، وحرص على أن يكون معه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أحفظ المثنى الذي خلفه على أمر العراق فيمن كانوا معه من قبل على الأرجح3. وبرغم أن المثنى انتصر بهذا الجيش على الفرس في بابل إلا أنه وجد نفسه بحاجة إلى الأمداد، فخلف بشير ابن الخصاصية وانطلق إلى المدينة، حين كان الخليفة الأول يجهز الجيوش لفتح الشام، إثر كتاب خالد بن سعيد4. وكان الخليفة مريضًا، ويبدو أن المدينة كانت تعاني هي الأخرى نقصًا في الرجال، فأخذ المثنى يدافع عن وجهة نظره أمام أبي بكر في أن يؤذن له باستنفار من ظهرت توبته من المرتدين5. ولم يمهل القدر الخليفة ليندب الناس مع المثنى، فلحق بربه بعد أن أوصى عمر بأن يفعل، وأن يرد كتيبة خالد إلى العراق -إن فتح الله عليهم- فإنه أهله وأحق به6. واستفتح عمر عهده بتنفيذ وصية أبي بكر، فرفع الحظر عمن عادوا إلى الإسلام من المرتدين، واستمالهم كي يسارعوا إلى التطهر بجهادهم من حوبة ردتهم. وأخذ عمر يندب الناس أيامًا أربعة، وكان أول من انتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، فأمَّره عمر على ألف من الأنصار7، وأقبل المتطهرون من كل صوب، فرمى بهم عمر إلى العراق والشام8. وفي هذه القوات يسير أبو عبيد ليلحق بالمثنى وجنده بخفان؛ حيث يخوضان ضد الفرس معارك منتصرة، حتى كانت معركة الجسر وقُتل أبو عبيد، وأصيب في أربعة آلاف

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2058، 2062، 2067. 2 الطبري 1/ 4/ 2089. 3 الطبري 1/ 4/ 2122. 4 الطبري 1/ 4/ 2082. 5 الطبري 1/ 4/ 2120. 6 نفس المرجع. 7 الطبري 1/ 4/ 2161. 8 الطبري 1/ 4/ 2165.

من جنده بين قتيل وغريق وجريح، وفر ألفان بينما ترك المثنى في ثلاثة آلاف1 انسحب بهم إلى أليس، وبعث يستمد عمر، ولم يكتب بهذا، فبعث فيمن يليه من قبائل العرب؛ حيث توافى إليه جمع عظيم من نصارى بني النمر. وأخذ عمر يندب الناس، ويلقى في ذلك حرجًا وقسوة، وقد كان وجه فارس من أشد الوجوه عليهم وأكرهه لهم2، وزاده يوم الجسر جهامة وقسوة. وتمكن من استصلاح جرير بن عبد الله البجلي في قومه، بعد أن جمعهم من القبائل وأراد بهم الشام3، ورأى الناس ما صنع بنو بجيلة فحذوا حذوهم، وكان فُرَّار الجسر في مقدمتهم، ثم تابعهم بنو الأزد وعليهم عرفجة بن هرثمة البارقي وبنو كنانة وعليهم غالب بن عبد الله، وكانوا جميعًا سبعمائة4، ثم تبعهم نفر من الرباب أمر عليهم هلال بن علفة التميمي5، وتحمل قوم كثيرون من مختلف القبائل في نسائهم وأبنائهم، منهم ابن المثنى الجشمي في قوم من بني سعد، وعبد الله بن ذي السهمين في أناس من خثعم، وربعي بن عامر وابنه شبث في أناس من بني حنظلة، ويقوم من بني ضبة عليهم ابن الهوبر والمنذر بن حسان، وبأناس من عبد القيس عليهم قرط بن جماح العبدي6، وبعث إليه بأنس بن هلال في أناس من النمر، وبعبد الله بن كليب بن خالد في أناس من تغلب7، وحقق المثنى بهذه الأمداد انتصارات محققة في البويب. وكتب عمر إلى المثنى -بعد أن ثار السواد- بألا يدع في ربيعة ولا مضر ولا حلفائهم أحدًا من أهل النجدات ولا فارسًا إلا جلبه، فإن جاء طائعًا وإلا حشره8. وكتب إلى عماله على الكور والقبائل بألا يدعوا أحدًا له سلاح أو فرس أو رأي إلا انتخبوه. فأتته القبائل القريبة من مكة والمدينة، ووافى المثنى من كان قريبًا منه9.

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2180. 2 الطبري 1/ 4/ 2159. 3 الطبري 1/ 4/ 2183. 4 الطبري 1/ 4/ 2188. 5 نفس المرجع. 6 الطبري 1/ 4/ 2188، 2189. 7 الطبري 1/ 4/ 2190. 8 الطبري 1/ 4/ 2210. 9 الطبري 1/ 4/ 2211.

ووقف المثنى في جنده -بعد أن أجمع الفرس على يزدجرد واستعدوا للثأر- يتوقع الثورة به، فكاتب عمر بذلك، فلما وصل إليه الكتاب قال: "والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب"، وخرج المثنى بجنده كأمر عمر، فتفرقوا في تخوم العراق ونزلوا بذي قار، ولم يمهل القدر المثنى ليلقى سعدًا، وإن وجد ابن أبي وقاص وصية تركها له. وقد جاء سعد من هوازن التي كان على صدقاتها في ألف فارس1، ويغلب على الظن أنهم كانوا من قيس عيلان، وعليهم بشر بن عبد الله الهلالي، وثلاثة آلاف من السراة واليمن، وكان أهل السراة سبعمائة، وكان أهل اليمن ألفين وثلاثمائة، منهم النخع بن عمرو في جمع من نسائهم وذراريهم يبلغ ألفًا وسبعمائة، فصل نصفهم إلى الشام2. وبينما سعد في طريقه أمده عمر بألفي يماني، وألقى نجدي من غطفان وسائر قيس، وذلك قبل أن يصل إلى زرود3، فصار جنده ثمانية آلاف إلا قليلًا. وكان جيش المثنى عشرين ألفًا: ثمانية آلاف من ربيعة، منهم ستة آلاف من بكر بن وائل، وألفان من سائر ربيعة، وأربعة آلاف كثرتهم من حلفاء المثنى، والذين بقوا معه بعد أن فصل خالد، وأربعة آلاف كانوا معه من كتيبة أبي عبيد، وألفان من بجيلة، وألفان من طيئ4. وقبل أن يصل سعد إلى شراف لحق به الأشعث بن قيس وطليحة بن خويلد وعمرو بن معديكرب، كل على رأس قبيلته في ألف وسبعمائة من أهل اليمن5. وكان عمر قد كتب إلى أبي عبيدة في الشام بصرف أهل العراق كوصية أبي بكر، وهم ستة آلاف6. وهكذا يتم الجيش قبل القادسية وفي أثنائها ستة وثلاثين ألفًا أو نحوها. وعندما استقر سعد وجنوده بعد الانتصارات الضخمة في المدائن، وبعد أن جاء فتح جلولاء وحلوان قدمت الوفود على عمر، فأحس بتغيير أبدانهم وألوانهم، وعرف أن

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2216. 2 الطبري 1/ 4/ 2219. 3 الطبري 1/ 4/ 2221. 4 الطبري 1/ 4/ 2221. 5 الطبري 1/ 4/ 2222. 6 الطبري 1/ 4/ 2227.

سبب هذا وخومة البلاد وعدم التلاؤم بينهم وبينها، وما يلقون فيها من الذباب والغبار والوخومة1، فأمر بارتياد الأرض، بحثًا عن المواقع التي تتناسب مع العرب. فالعرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح البعير والشاة2. وظفر الرواد بموقع الكوفة، وتم تمصيرها في المحرم سنة 17هـ وفي نفس العام بنَى المسلمون الأبنية في البصرة، التي كانوا قد نزلوها من قبل. وكتب سعد إلى عمر لما نزل الكوفة بأنه خير المسلمين بالمدائن، فمن أعجبه المقام تركه كالمسلحة، فبقي أقوام من الأفناء أكثرهم بنو عبس3، وإن كانوا قد انصرفوا بعد ذلك إلى الكوفة وغيرها4. وخططت الكوفة تخطيطًا قائمًا على أساس من توزع القبائل، فتكونت مجموعات من الناس، يسميها المؤرخون بالأسباع، فصارت كنانة وحلفاؤها من الأحابيش وجديلة -وهم بنو عمرو بن قيس عيلان- سبعًا، وصارت قضاعة -ومنها يومئذ غسان بن شبام وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت والأزد- سبعًا. ومذحج وحمير وهمدان وحلفاؤهم سبعًا. وتميم وسائر الرباب وهوازن سبعًا. وأسد وغطفان ومحارب والنمر وضبيعة وتغلب سبعًا. وإياد وعك وعبد القيس وأهل هجر والحمراء سبعًا5. وواضح أن هذه الأسباع تنقص سبعًا، ويظن ماسينيون أنه كان خاصًّا بقبيلة بكر من شيبان6، وما حدث بالبصرة شبيه بما حدث في الكوفة، وإن كان قد اتبع فيها نظام الأخماس. وكان لتميم الشأن الأول في تكوينها. وقد صارت خمسًا، وفيها ضبة والرباب، بينما صارت عبد القيس خمسًا، وبكر بن وائل خمسًا، والأزد خمسًا، وأهل العالية من قريش وكنانة وقيس عيلان والأنصار وطوائف من قبائل أخرى7. وبرغم أن هذه الأسباع وتلك الأخماس قد تكونت على أساس القبائل فإنها قد شكلت خطوة جديدة في سبيل بناء مجتمع جديد، يستشعر إحساسًا وجدانيًّا أكثر شمولًا من الإحساس بالقبلية.

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2481. 2 الطبري 1/ 5/ 2484. 3 الطبري 1/ 5/ 2487. 4 الطبري 1/ 5/ 2414. 5 الطبري 1/ 5/ 2495، البلاذري ص276. 6 خطط الكوفة ترجمة المصعبي ص11، والطبري 5/ 2495. 7 الطبري 1/ 5/ 2377.

حقًّا إن الجيوش والإمدادات لم تكن تصنف حين انتدابها على أي أساس قبلي كما رأينا، وإن كان من الممكن تجمع أعداد هائلة من قبيلة واحدة في جند واحد. والذي يلفت النظر أن إحساسًا وجدانيًّا شاملًا قد استحوذ على جميع المنازع القبلية وصهرها في بوتقة الجهاد في سبيل الله، وإن لم يستطع القضاء على هذه المنازع، وإنما حجبها لبعض الوقت فترات تقصر أو تطول، حتى كان تخطيط هذين المصرين على أساس القبائل، فإذا بأحاسيس جديدة تنشأ بحكم طبيعة الحياة في المدينة، وبحكم علاقات الجوار والعطاء والخضوع لعوامل واحدة. فكانت الكوفة والبصرة القاعدتين اللتين صدرت عنهما كل العمليات الحربية بعد استقرار المسلمين بهما. وكان أن استشعر المسلمون فيها شعورًا مزدوجًا بأنهم أفراد من قبائل، وأفراد في مدينة معًا. وأخذ الإحساس بالمدينة يلف المسلمين بهذا الرباط المدني، ويطبع أهل كل مصر بطوابع خاصة، فهناك مغازي الكوفة، ومغازي البصرة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، وهناك خلافات على تعديل الفتوح فيما بينهم، وخصومات على الانصياع لقائد من مصر آخر. ويكفي لاستجلاء هذه الأحاسيس ما يُرْوَى عن أهل الكوفة من أنهم إذا قاتلوا أهل البصرة انحازت كل قبيلة ناحية، وقاتلت مثيلتها في الجانب الآخر، فَيَمَنُ الكوفة يقاتلون يَمَنَ البصرة، وربيعة الكوفة تقاتل ربيعة البصرة، وهكذا1. وقد تسنى للكوفة والبصرة أن يحققا انتصارات كبيرة في فتوح الجناح الشرقي للعراق وفارس، وتحديد حدود الإمبراطورية الإسلامية في هذا الميدان. وجلي أن الفاتحين الذين حققوا هذا العمل الكبير كانت كثرتهم من عرب الشمال، الذين نعرف لهم شهرة عامة بالشعر، الشعر الثري الذي لا يتيسر لأقرانهم الفاتحين من أبناء الجنوب، وقد أدى هذا إلى أن تنصرف كثرة شعر الفتح إلى تصوير أحداث الفتوح الشرقية، حتى لا يغادر منها شيئًا، وحتى يكاد يكون سجلًّا تاريخيًّا لها، ووثيقة وجدانية لمشاعر الفاتحين. ونحن حينما نستعرض تصوير شعر الفتح لأحداث الفتوح الشرقية، سيخيل إلينا أن كل الفاتحين كانوا شعراء دون استثناء؛ إذ أصبح الشعر حظًّا شائعًا بينهم جميعًا على تفاوت في هذا الحظ.

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2536.

الشعر في العراق

2- الشعر في العراق: انطلق الشعر على ألسنة الفاتحين في العراق مع أول ضربة سيف، وقد أحاط بالمعارك والأحداث إحاطة، بحيث يمكن أن يعد وثيقة تاريخية لها خطرها. وهو من حيث تصويره لحياة المجاهدين ومشاعرهم، وتصويره لمشاعر المقاومين أيضًا يمكن أن يعد وثيقة وجدانية رائعة لهذا الحدث الفذ في تاريخ الإسلام والمسلمين. واكب الشعر أحداث الفتح منذ أول التقاء، كان من الحفير أو كاظمة بين خالد وهرمز، حيث دارت الدائرة على الفرس، ثم انتصر المسلمون على قارن بن قريانس في وقعة المذار أو الثنى، وأكثروا القتل في جنده، فتغنى القعقاع بن عمرو التميمي بهذا النصر قائلًا: فنحن وطئنا بالكواظم هرمزًا ... وبالثنى قرني قارن بالجوارف1 وكذلك يفعل الأسود بن قطبة، فيعير عرب القبائل الذين انضموا للفرس بسبي المسلمين نساءهم وافتضاحهم فيقول: لعمرو أبي بجير حيث صاروا ... ومن آداهم يوم الثني لقد لاقت سراتهم افتضاحا ... وفتنا بالنساء على المطي آلا ما للرجال فإن جهلًا ... بكم أن تفعلوا فعل الصبي2 وعندما يجتمع العرب الموتورون مع الفرس يوم أُلَّيس، ويرى المسلمون منهم نكالًا -حتى يصلي خالد صلاة الخوف- يصور الأسود بن قطبة التميمي هول المعركة، وبسالة المقاومين فيقول: لقينا يوم أليس وأمغي ... ويوم المقر آساد النهار فلم أرَ مثلها فضلات حرب ... أشد على الجحاجحة الكبار قتلنا منهم سبعين ألفًا ... بقية حزبهم نخب الإسار سوى من ليس يحصي من قتيل ... ومن قد غال جولان الغبار3

_ 1 الطبري 1/ 4/ 2049. 2 ياقوت ج1، ص937. 3 ياقوت ج1، ص363.

ويصور عاصم بن عمرو ثبات المقاومين من الفرس يوم العقيق فيقول: ألم ترنا غداة المقر فينا ... بأنهار وسكانها جهارا قتلناهم بها ثم انكفأنا ... إلى فم الفرات بما استجارا لقينا من بني الأحرار فيها ... فوارس ما يريدون الفرارا1 وعندما وصل المسلمون إلى الحيرة ودخلوا قصورها استخفهم الطرب، فانطلقت أغنيات النصر نشوى، تفخر ببلائهم الذي استحقوا به الظفر، يقول القعقاع بن عمرو: ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ... على الحيرة الروحاء إحدى المصارف حططناهم منها وقد كان عرشهم ... يميل به فعل الجبان المخالف رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا ... غبوق المنايا حول تلك المحارف صبيحة قالوا: نحن قوم تنزلوا ... إلى الريف من أرض العرب المقانف والشاعر هنا يشير إلى ما كان من مجادلة خالد لأهل الحيرة، في نقمتهم على بني عمومتهم من العرب، وما كان من انتسابهم إلى العرب. والشاعر يكشف هذا اللجاج الذي فسروا به موقفهم، وأنهم لم يعترفوا بهذا النسب إلا تحت وطأة السيوف. وهذا عاصم بن عمرو يصف بلوغ المسلمين الحيرة، وإحاطتهم بقصورها فيقول: صبحنا الحيرة الروحاء خيلا ... ورجلًا فوق أثباج الركاب حصرنا في نواحيها قصورًا ... مشرفة كأضراس الكلاب2 ويمضي خالد بالمسلمين إلى الأنبار، وفي الطريق إليها يتأمل عاصم بن عمرو جموع المسلمين التي حشدها خالد ليأتي بهم من ألبوا عليهم من أهل الأنبار فيقول: جلبنا الخيل والإبل المهاري ... إلى الأعراض أعراض السواد ولم ترَ مثلنا كرما ومجدًا ... ولم ترَ مثلنا شخاب هاد شحنا جانب الملطاط منا ... بجمع لا يزول عن البعاد لزمنا جانب الملطاط حتى ... رأينا الزرع يقمع بالحصاد

_ 1 الطبري ج4، ص2047. 2 ياقوت ج2، ص275.

لنأتي معشرًا ألبوا علينا ... إلى الأنبار أنبار السواد1 وبعد أن ينقذ خالد عياضًا، ويثأر العرب من بكر بن وائل لمقتل عقة ولهزيمة عين التمر، يوجه خالد أمراءه إلى الحصيد والخنافس والزميل ليبيتوا العرب على غرة، ويقتل روزمهر قائد بيد القعقاع بن عمرو، الذي يفخر بقتله لحليلته فيقول: ألا أبلغا أسماء أن حليلها ... قضى وطرا من روزمهر الأعاجم غداة صبحنا في حصيد جموعهم ... بهندية تفري فراخ الجماجم2 واستطاع أبو ليلى أن يهزم المهبوذان في الخنافس، فقال يفتخر بصنيعه: وقالوا ما تريد فقلت: أرمي ... جموعًا بالخنافس بالخيول فدونكم الخيول فألجموها ... إلى قوم بأسفل ذي أثول وفينا بالخنافس باقيات ... لمهبوذان في جنح الأصيل3 وصور الشعر هذا الحلف الغريب من الفرس والروم والعرب، الذين جمعت بينهم الظروف على المسلمين في وقعة الفراض، ونصر الله المسلمين وقطع دابر الحلف بأيديهم، فقال القعقاع: لقينا بالفراض جموع روم ... وفرس غمها طول السلام أبدنا جمعهم لما التقينا ... وبيتنا بجمع بني رزام فما فتئت جنود السلم حتى ... رأينا القوم كالغنم السوام4 وفي أول لقاء لجيش أبي عبيد مع الفرس في النمارق يستحر القتال، ويستبسل المسلمون حتى ينتصروا على رستم، ويأسروا قائديه جابان ومردان شاه، فيستبيحوا السواد يجوسون خلاله بعدما هاجروا نحو ربهم فأنالهم أكتاف الفرس، يقول عاصم بن عمرو:

_ 1 ياقوت ج4، ص933. 2 ياقوت ج2، ص280. 3 ياقوت ج2، ص894. 4 ياقوت ج3، ص894.

لعمري وما عمري على بهين ... لقد صبحت بالخزي أهل النمارق بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم ... يجوسونهم ما بين درتا وبارق قتلناهم ما بين مرج مسلح ... وبين الهوافي من طريق البذارق1 ويفزع أهل السواد إلى أبي عبيد يطلبون الصلح، ويقدمون الهدايا والأطعمة الفارسية وتمر النرسيان، بعد أن دانت للمسلمين قرى السواد، واستباحه المسلمون، يقول عاصم بن عمرو: ضربنا حماة النرسيان بكسكر ... غداة لقيناهم ببيض بواتر وفزنا على الأيام والجرر لاقح ... بجرد حسان أو يبرد غوابر وظلت بلاد النرسيان وتمره ... مباحًا لمن بين الديار الأضافر أبحنا حمى قوم وكان حماهم ... حرامًا على من رامه بالعساكر2 وفي قس الناطف تحدث كارثة الجسر، تلك الهزيمة الوحيدة التي لحقت بالمسلمين في جميع فتوحاتهم؛ إذ أخذتهم السيوف والغرق والفرار من كل جانب، وقد ترامت أنباء الهزيمة في بلاد العرب، ورن صداها في كل قلب، يقول حسان بن ثابت لما بلغته الكارثة بالمدينة: لقد عظمت فينا الرزيئة إننا ... جلاد على ريب الحوادث والدهر على الجسر قتلى لهف نفس عليهم ... فيا حسرتا ماذا لقينا من الجسر3 وعلى الرغم من هذا، فإننا لا نجد غير أبيات تنسب إلى أبي محجن الثقفي في وصف المعركة، ورثاء نفر من شهداء المسلمين، وطبيعي أن تسكت أصوات الشعراء في هذه المحنة، يقول أبو محجن:

_ 1 ياقوت ج4 ص532، 995. 2 ياقوت ج4، ص774. 3 ياقوت ج2، ص82.

أنى تسدت نحونا أم يوسف ... ومن دون مسراها فياف مجاهل إلى فتية بالطف نيل سراتهم ... وغودر أفراس لهم ورواحل وأضحى أبو جبر خلاء بيوته ... وقد كان يغشاها الضعاف الأرامل وأضحت بنو عمرو لدى الجسر منهم ... إلى جانب الأبيات جود وناذل وما لمت نفسي فيهم غير أنها ... لها أجل لم يأتها وهو عاجل وما رمت حتى مزقوا برماحهم ... إهابي وجادت بالدماء الأباجل وحتى رأيت مهرتي مزوئرة ... لدى الفيل يدمي نحرها والشواكل مررت على الأنصار وسط رحالهم ... فقلت: ألا هل منكم اليوم قافل ألا لعن الله الذين يسرهم ... رداي وما يدرون ما الله فاعل1 وكانت الفيلة قد فعلت أفاعليها في المسلمين فشتتهم. وكان أن أذن عمر لمن كان ارتد بالالتحاق بجند العراق ليطهروا، فإذا بهم يتدفقون إلى المثنى، وإذا بهم يخوضون تحت لوائه معركة الثأر والنصر، وقد شاع في نفوسهم إحساس بالاستماتة والتفاني للتكفير عما اقترفوه، كما استمات فل الجسر لمسح عار الهزيمة، وكانت معركة البويب معركة لم يشهد المسلمون والفرس أشد منها، حتى كانت العظام تلوح تلالًا من هام الفرس وأوصالهم، وتحزر بمائة ألف من جثثهم2. وتغنَى الشعراء بهذا النصر، وعقدوا أكاليل الغار للمثنى. يقول الأعور العبدي الشني: هاجت لأعور دار الحي أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس خفانا وقد أرانا بها والشمل مجتمع ... إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا أزمان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتَّل الزحف من فرس وجيلانا سما لمهران والجيش الذي معه ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا3

_ 1 البلاذري ص251، الأغاني "سامي" ج21، ص141. 2 الطبري 1/ 4/ 2193-2199. 3 الطبري 1/ 4/ 2193-2199.

ووجد أبطال المسلمين في قتلهم مهران شرفًا تنازعه كثيرون منهم، وكثر في ذلك جدالهم. وكان أشهر من تنازع قتله حسان بن المنذر بن ضرار الضبي، وجرير بن عبد الله البجلي، ويظهر أن حسانًا قد طعنه، ثم ضربه جرير بعد ذلك، ولكن حسانًا ينكر أن يكون جرير قد شاركه هذا الشرف فيقول: ألم ترني خالست مهران نفسه ... بأسمر فيه كالخلال طرير فخر صريعًا والتقاني برجله ... وبادر في رأس الهمام جرير فقال قتيلي والحوادث جمة ... وكاد جرير للسرور يطير فقال أبو عمرو: وقتلى قتلته ... ومثلى قليل وللرجال كثير فأرسل يمينًا "أن رمحك ناله" ... وأكرم إن تحلف وأنت أمير1 ثم تكون بعد ذلك المعركة الحاسمة في القادسية، التي تجهز لها الفرس والعرب بكل ما يطيقون، وحشد لها عمر أهل الرأي والشجاعة والخطابة والنجدة، يحضون الناس ويلهبون مشاعرهم. والتقى سعد بجيش هو خلاصة الأمة الإسلامية مع الفرس في ثلاثة أيام بثلاث ليال، متصلة الحرب حامية الوطيس، ولعب الشعر دوره في المعركة، فلم يكن القتال يبدأ قبل أن يمر الشعراء بين الصفوف يرغبون الناس، ويقدحون عزمهم فينشب أهل النجدات القتال، بينما يشعل الرُّجَّاز أُوار الحماس، كما حدث في أول يوم، فقد برز غالب بن عبد الله الأسدي يرتجز بدء القتال فقال: قد علمت واردة المسالح ... ذات البيان واللسان الواضح أني سمام البطل المشايح ... وفارج الأمر المهم الفادح2 فإذا بهرمز أحد ملوك الباب يبرز فيأخذه غالب أسيرًا، وخرج بعده عاصم بن عمرو التميمي يرتجز قائلًا:

_ 1 المسعودي، مروج الذهب ج2، ص203، 204. 2 المسعودي، مروج الذهب ج2، ص204.

قد علمت بيضاء صفراء اللبب ... مثل اللجين إذ تغشاه الذهب أني امرؤ لا من يعينه السبب ... مثلي على مثلك يغريه العتب1 وظل القتال دائرًا يغذيه الرجاز والشعراء بلهيب لا ينفد، حتى حال الليل بين الفريقين، ولقد أبلى في هذا اليوم عاصم بن عمرو بلاء رائعًا، وهو يقول عن هذا اليوم المسمى بأرماث: حمينا يوم أرماث حمانا ... وبعض الناس أولى بالجمال2 يشير إلى ما كان من انتداب سعد لتميم لتدافع عن أسد، الذين أضرت بهم الفيلة ضررًا بليغًا. وفي صباح اليوم الثاني يوم أغواث، الذي أغاث فيه القعقاع المسلمين بجند الشام استطاع المسلمون أن يوقعوا بالفرس في غيبة الفيلة التي قطع وضنها عاصم في اليوم الأول، ورفه هذا عن المسلمين، واستمر القتال إلى منتصف الليل، وكفة المسلمين أرجح، وجدد مدد الشام أمل المسلمين، حينما رأوا القعقاع يصول في صفوف الفرس، يقتل من يلقاه، وكان سعد قد حبس أبا محجن الثقفي، فلما اشتد القتال وتردد تكبير الناس في أذنه ثارت حميته، واستعفى سلمى زوج سعد أن تحل قيده، وأن تعيره البلقاء فرس سعد، وأقسم أن يرجع فيضع قدمه في القيد، فرفضت رجاءه فقال: كفى حزنًا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودًا على وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا3 فلما سمعت سلمى شعره رقت له وأطلقته، فاقتاد البلقاء، وركبها وعليه سلاحه، وانطلئق يقصف الأعداء بسيفه قصًّا منكرًا، وسعد يقول: لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن، فلما انقضى اليوم رجع فوضع قدميه في القيد، وظل القتال إلى الليل،

_ 1 مروج الذهب ج2، ص204، 205. 2 ياقوت ج1، ص211. 3 الطبري 1/ 5/ 2313.

والمسلمون آملون في الظفر، يفعلون في الفرس أفاعيلهم، حتى ليقال: إن القعقاع قد زاحف الفرس ثلاثة وثلاثين زحفًا، فقتل في كل منها فارسًا، وكان آخرها الذي قتل فيه يزرجمهر، وقال في قتله: حبوته جياشة بالنفس ... هدارة مثل شعاع الشمس في يوم أغواث فليل الفرس ... أنخس بالقوم أشد النخس حتى تفيض معشري ونفسي1 وفي الصباح الثالث لم يكن القعقاع قد غمض له جفن، فقد سرب جنده تحت جنح الليل إلى المكان الذي أقبلوا منه، وأمرهم أن يتقاطروا مائة مائة، فإذا بهم يفعلون، يتبعهم هاشم بن عتبة في بقية جند الشام، وأخذ يحمل على الأعداء فيهد صفوفهم، ولكن الفيلة عادت في هذا اليوم تفعل بالمسلمين كفعلها يوم أرماث وتشتت خيول المسلمين، حتى تمكن القعقاع والربيل من عيونها ومشافرها فولت تثب في النهر، واشتد القتال واستحر، وخيم الظلام، فلم يفصل بين الفريقين، ولم يكن يسمع غير صليل السيوف وهرير الفرسان. وزاحف القعقاع دون إذن سعد، وتبعته القبائل تحذو حذوه، فما جاء الظهر حتى أظهر الله المسلمين، فهدموا المجنبتين، وانفرج القلب فانقضوا عليه، وبلغ أهل النجدة سرادق كسرى ويه رستم فقتله الله. وكان صوت القعقاع وهو يترجز بشير الظفر: نحن قتلنا معشرًا وزائدا ... أربعة وخمسة وواحدا نحسب تحت اللبد الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا الله ربي واحترزت عامدا2 كانت القادسية المعركة الفاصلة في الفتوح الشرقية، ولم يرَ المسلمون ولا الفرس وقعة أشد منها هولًا، فقد فقد المسلمون ثمانية آلاف شهيد. وكان قتلى الفرس ثلاثين ألفًا، وأبلى أبطال المسلمين فيها بلاء فخروا به، وسجلوه على الدهر في شعرهم. وكانت

_ 1 مروج الذهب ج2، ص206. 2 الطبري 1/ 5/ 2333.

أرجازهم طبولًا تدفع بالمسلمين إلى اقتحام الأهوال، وتدفع بهم إلى أن يكونوا نماذج رفيعة لبقية المجاهدين. وهذا هو عمرو بن معديكرب الزبيدي يصيح طربًا كأنه غلام مفتون وهو يرى صفوف الفرس تميل تحت وقع ضرباته: أنا أبو ثور وسيفي ذو النون ... أضربهم ضرب غلام مجنون يآل زبيد إنهم يموتون1 وقد تخلف عن القادسية كثرة شعر الفتوح الشرقية؛ إذ شهدها نفر من الشعراء المكثرين والمشهورين، وانطلق الشعر على ألسنة الفاتحين، وكأنما هو طقس حتمي من طقوس الحرب والاقتحام، وقد صورت جوانب المعركة تصويرًا دقيقًا، وصفت فيه الحوادث والمشاعر، وفخر المجاهدون ببلائهم، وأشادوا بما قدموا. وطريف هذا التنازع الشعري حول مقتل رستم، الذي اشترك فيه طائفة من كبار الفرسان الشعراء، وتنازعوا فيه دمه، من مثل عمرو بن معديكرب الزبيدي، وقيس بن مكشوح، وعمرو بن شأس الأسدي، وزهير بن عبد شمس، وغيرهم من الفرسان أمثال طليحة بن خويلد، وقرط بن جماح العبدي، وضرار بن الأزور الأسدي، وهلال بن علفة التميمي. يقول قيس بن مكشوح: جلبت الخيل من صنعاء تردي ... بكل مذجج كالليث سامي إلى وادي القرى فديار كلب ... إلى اليرموك فالبلد الشآمي وجئن القادسية بعد شهر ... مسومة دوابرها دوامي فناهضنا هنالك جمع كسرى ... وأبناء المرازبة الكرام فلما أن رأيت الخيل جالت ... قصدت لموقف الملك الهمام فأضرب رأسه فهوى صريعًا ... بسيف أفل ولا كهام وقد أبلى الإله هناك خيرًا ... وفعل الخير عند الله نامي2

_ 1 الأغاني "ساسي" ج14، ص27. 2 البلاذري ص259.

وهذا زهير بن عبد شمس ينسب هذا الشرف إلى نفسه فيقول: أنا زهير وابن عبد شمس ... أرديت بالسيف عظيم الفرس رستم ذا النخوة والدمقس ... أطعت ربي وشفيت نفسي1 وهذا عمرو بن شأس الأسدي يفخر بهذا الصنيع وينسبه إلى قبيلته، ويطلقه في عمومها: جلبنا الخيل من أكتاف نيق ... إلى كسرى فوافقها رعالا تركن لهم على الأقتام شجوا ... وبالحقوين أيامًا طوالًا وداعية بفارس قد تركنا ... تبكي كلما رأت الهلالا قتلنا رستما وبنيه قسرا ... تثير الخيل فوقهم الهيالا وفر الهرمزان ولم يحامي ... وكان على قبيلته وبالا تركنا منهم حيث التقينا ... قيامًا ما يريدون ارتحالا2 وأيا كان من قتل رستم، فإنه يبدو أن المتنازعين جميعًا قد اشتركوا في قتله أو ساعدوا عليه، وصور الشعر في هذه المعركة موقفًا دقيقًا كاد يودي بوحدة المجاهدين أمام أعدائهم، ذلك أن سعد بن أبي وقاص عاوده أول المعركة مرض كان يتردد عليه، جعله لا يستطيع أن يركب أو يجلس، فهو مكب على وجهه، وفي صدره وسادة يعتمد عليها، ويشرف على الناس من القصر، يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه، وقد نمت هذه الأنباء إلى الفرس فاستبشروا بها، ثم نمى إليهم: أن المسلمين برموا بسعد وتندروا بمرضه، وأن قائلًا منهم يقول: نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم3

_ 1 البلاذري ص260. 2 الطبري ج5، ص2301. 3 الطبري 1/ 5/ 3361.

وبلغ سعدًا ما تندر به الناس، وأن طائفة من وجوه القوم تتهمه وتشغب عليه، وترميه بالخور وضعف العزم، فحز ذلك في نفسه وأثار غضبه، فأمر بأن يحمل وأشرف على الناس حتى يروا ما به، ثم شتم من شغب، وهم بهم وقال: "أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالًا لغيركم، والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم، ويشاغلهم وهم بإزائهم، إلا سننت به سنة يؤخذ بها بعدي"1. وإزاء هذا الحزم أعلن الناس ولاءهم وطاعتهم. وقال جرير بن عبد الله البجلي: "إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر، وإن كان عبدًا حبشيًّا". فسرت هذه الروح في نفوس الجند وسكنت بوادر الفتنة. ويذكر بعض الباحثين أن أبا محجن الثقفي كان فيمن حبسهم سعد في هذا اليوم بسبب تخرصهم2. ويروى أن الشاعر المتخرص هو النعمان بن قبيصة، وأن عبد الله بن سنان الأسدي جادله بطعنة أخرست صوته إلى الأبد، وذكر أنه لم يفعل هذا إلا حمية لقريش يقول: لقد غادر الأقوام ليلة أدلجوا ... بقصر العبادي ذا الفعال مجدلا دلفت له تحت العجاج بطعنة ... فأصبح منها في النجيع مرملا أقول له والرمح في نغض كتفه ... أبا عامر عنك اليمين تحللا سقيت بها النعمان كأسًا روية ... وعاطيته بالرمح سما مثملا تركت سباع الجو يعرقن حوله ... وقد كان عنها لابن حية معزلا كفيت قريشًا إذا تغيب جمعها ... وهدمت للنعمان عزا مؤثلا3 ويبدو في حديث جرير بن عبد الله البجلي -الذي يشبه الاعتذار- أنه كان ينفس على سعد إمارة الجيش؛ ولذلك قال قولته التي تلقفها المتخرصون، وفيها ينسب سعدًا إلى الجبن:

_ 1 الطبري 5/ 3361. 2 هيكل، الفاروق ج1، ص167. 3 الطبري ج5، ص2350.

أنا جرير كنيتي أبو عمر ... قد نصر الله وسعد في القصر1 وقد عرف سعد كيف يرد قالة جرير، عندما أشاد ببطولة أميرين من أمراء الجيش وببلائهما، هما القعقاع بن عمرو، وجمال بن جويه الكناني، وأظهر استهانته ببجيلة كلها فقال: وما أرجو بجيلة غير أني ... أؤمل أجرها يوم الحساب وقد لقيت خيولهم خيولًا ... وقد وقع الفوارس في الضراب فلولا جمع قعقاع بن عمرو ... وحمال للجوا في الكذاب هموا منعوا جموعكم بطعن ... وضرب مثل تفتيق الإهاب ولولا ذاك ألفيتم رعاء ... تشل جموعكم مثل الذباب2 وبرغم هذا الجو المضطرب الملتهب الذي سيطر على المعركة، فإن فسحة من الوقت ضئيلة، ولحظات من خلو البال -في أوقات الراحة النادرة- كانت تتبدى للمجاهدين كالبريق الخاطف على أطراف الأسنة يختلسونها فيعالجون فيها أمورًا خاصة تتعلق بحيواتهم الاجتماعية والشخصية.. ومر أن بعض المحاربين كانوا تحملوا بنسائهم، وأن أكثرهم استصحابا لنسائهم يوم القادسية كانوا بجيلة والنخع، فكان في النخع سبعمائة امرأة، وفي بجيلة ألف منهن، ولم تستطع أهوال الحرب أن توقف مصاهرة أحياء العرب لهاتين القبيلتين فاستوعبوهن؛ ولذا سميت النخع وبجيلة بأختان العرب أو بأصهارهم3. وكانت "أروى" بنة عامر الهلالية النخعية قد تقدم لخطبتها ثلاثة من المجاهدين، هم: بكير بن عبد الله الليثي، وعتبة بن فرقد السلمي، وسماك بن خراشة الأنصاري، وكانت أختها تحت القعقاع بن عمرو، فاستشارته أيهم جدير بها؟ فكان جوابه شعرًا يقول فيه: فإن كنت حاولت الدراهم فانكحي ... سماكًا أخ الأنصار أو ابن فرقد وإن كنت حاولت الطعان فيممي ... بكيرًا إذا ما الخيل جالت عن الردي وكلهم في ذروة المجد نازل ... فشأنكم إن البيان عن الغد4

_ 1 الطبري ج5، ص2361. 2 الطبري ج5، ص2362. 3 الطبري ج5، ص2363، 2364. 4 الطبري ج5، ص2364.

وفتح المسلمون المدائن الدنيا على شاطئ دجلة الغربي، وكان عليهم أن يعبروا النهر إلى المدائن القصوى، بالشاطئ الشرقي، واستطاعوا بمعاونة بعض أهل البلاد أن يخوضوا مخاضة في سرعة أذهلت أهل المدائن، ففوجئوا بالمسلمين دون أن يروا سفينا. وكان للرجاز شأن كبير في تشجيع المجاهدين على عبور دجلة؛ إذ وقف نفر منهم على الشاطئ الغربي يدفعونهم ويبشرونهم ويذكرونهم بالجزاء والثواب، يقول مالك بن عامر بن هانئ وهو أول من عبر دجلة يومئذ: امضوا فإن البحر بحر مأمور ... والأول القاطع منكم مأجور قد خاب كسرى وأبوه سابور ... ما تصنعون والحديث مأثور1 وكان يزدجرد قد سبق المسلمين وفر إلى حلوان، وغنم المسلمون أمواله وخزائته وجواهره، فكانت غنائمهم في ذلك اليوم لا تحصى، مما أسال ألسنة الشعراء في وصفها، يقول أبو بجيد نافع بن الأسود: وأسلنا على المدائن خيلا ... بحرها مثل برهن أريضا فانتشلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وحاض منا جريضا2 وطارد المسلمون في هذا اليوم بغلا كان محملًا بجواهر كسرى ومخصصاته من حلي ودروع فألجئوه إلى الماء، وأخرجه زهرة بن حويه وهو يرتجز قائلًا: فدا لقومي اليوم أخوالي وأعمامي ... هم كرهوا بالنهر خذلاني وإسلامي هم فلجوا بالبغل في الخضام ... بكل قطاع شئون الهام وصرعوا الفرس على الآكام ... كأنهم نعم من الأنعام3 وبعد فتح المدائن مصرت الكوفة والبصرة، وصارتا مركزين حربيين، أنيط بهما فتح الجناح الشرقي في هذا الميدان، وصار لكل منهما جند خاص، وقد أشار إلى ذلك عبدة بن الطبيب فأسماها كوفة الجند في قوله:

_ 1 أسد الغابة ج4، ص282. 2 الطبري ج5، ص2424. 3 الطبري ج5، ص2445.

إن التي وضعت بيتًا مهاجرة ... بكوفة الجند قد غالت بها غول1 وكان من أول مجهودات هذين المعسكرين إخضاع الجزيرة التي كانت بمثابة قاعدة حربية لحلفاء الروم من نصارى العرب، فنفس ذلك عن المجاهدين في الشام، وقد أشار إلى هذا عياض بن غنم فقال: من مبلغ الأقوام أن جموعنا ... حوت الجزيرة يوم ذات زحام إن الأعزة والأكارم معشر ... فضوا الجزيرة عن فراخ الهام جمعوا الجزيرة والغياث فنفسوا ... عمن بحمص غيابة القدام غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ... من غزو من يأوي بلاد الشام2 وبفتح الجزيرة استتب للمسلمين أمر العراق.

_ 1 ياقوت ج4، ص322. 2 ياقوت ج2، ص74.

الشعر على طول الدروب إلى خراسان

3- الشعر على طول الدروب إلى خراسان: وتتابعت فتوح أهل الكوفة وأهل البصرة والجيش الضارب الذي فتح العراق على طول الدروب إلى خراسان، ووصف الشعراء هذه المناطق البعيدة التي وطئوها لأول مرة، ورأوها تختلف في جوها وطبيعتها ومظاهر حياتها اختلافًا بينًا عما عهدوا في جزيرتهم، وفي مراحل الفتح الأولى في العراق، فصوروا إعجابهم تارة وعجبهم تارة أخرى، وعبروا عن أحاسيسهم بالرضا أو السخط بهذه البلاد، وهذا نافع بن الأسود يصف إعجابه بريف الري فيقول: رضينا بريف الري والري بلدة ... لها زينة من عيشها المتواتر لها نشز في كل آخر ليلة ... تذكر أعراس الملوك الأكابر1 هذا بينما يشكو سراقة بن عمرو الذي وكل إليه أبو موسى الأشعري فتح الدربند حياته المضطربة هناك فيقول:

_ 1 ياقوت ج2، ص895.

ومن يك سائلًا عني فإني ... بأرض لا يواتيها القرار بباب الترك ذي الأبواب دار ... لها في كل ناحية مغار نذود جموعهم عما حوينا ... ونقتلهم إذا باح السرار1 وفي فتوح هذه المناطق البعيدة وجد شعر يحن فيه المجاهدون إلى وطنهم، ويتشوقون إلى أهليهم، ويذمون اغترابهم ووحشة هذه المناطق، يقول أحد المجاهدين في الحنين إلى نجد: أكرر طرفي نحو نجد وإنني ... برغمي وإن لم يدرك الطرف أنظر حنينًا إلى أرض كأن ترابها ... إذا أمطرت عود ومسك وعنبر بلاد كأن الأقحوان بروضة ... ونور الأقاحي وشيء برد مخبر أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطرف يقصر وما نظري من نحو نجد بنافع ... أجل -لا- ولكني إلى ذاك أنظر أفي كل يوم نظرة ثم عبرة ... لعينك مجرى مائها يتحدر متى يستريح القلب إما مجاوز ... بحرب وإما نازح يتذكر2 ويغلب على شعر الحنين هذا في مجموعه حزن رفيق ولوعة رقيقة. وفي الوقت الذي كان جند الكوفة والبصرة يفتحون فيه هذه المناطق كان سعد بن أبي وقاص بعد فراغه من المدائن يقضي على الفتن التي أثارها يزدجرد بإمداده للفرس من حلوان، واستطاع هاشم والقعقاع إحباط هذه الفتن، والقضاء على تجمعات الفرس في جلولاء، ففر جند الفرس عن المدينة، ويصور أحد الرجاز الذين شهدوا جلولاء ضراوة القتال فيها فيقول: يارب مهر حسن مطهم ... يحمل أثقال الغلام المسلم ينجو إلى الرحمن من جهنم ... يوم جلولاء ويوم رستم

_ 1 ياقوت ج1، ص437. 2 ياقوت ج4، ص747.

ويوم زحف الكوفة المقدم ... ويوم لاقى ضيعة مهزم شين أصداغي فهن هرم ... مثل ثغام البلد المحرم وخر دين الكافرين للفم1 ثم طارد القعقاع فل جلولاء إلى حلوان فاحتلها، بعد أن فر يزدجرد إلى الري فقال القعقاع: فنحن الأولى فزنا بحلوان بعدما ... أرنت على كسرى الإما والحلائل2 ووجه سعد بضرار بن الخطاب إلى ماسبذان شرقي حلوان؛ حيث كان آذين أحد عظماء الفرس قد جمع جموعًا عظيمة من الفرس والعرب، وخرج بهم إلى السهل، فقتله ضرار واستولى على الناحية فقال: ويوم حبسنا قوم آذين جنده ... وقطرته عند اختلاف العوامل وزود وآذينا وفهدًا وجمعهم ... غداة الوغى بالمرهفات الصواقل فجاءوا إلينا بعد غب لقائنا ... بماسبذان بعد تلك الزلازل3 وأرسل سعد عمرو بن مالك إلى هيت وقرقيسيا، فاضطر أهلها إلى النزول على الجزية، ويبدو أنهم لم يقروا بها إلا بعد عناد وغدر، حتى ليذكر عمرو أنهم قتلوهم بعدما دانوا بالجزية فيقول: ونحن جمعنا جمعهم في حفيرهم ... بهيت ولم نحفل لأهل الحفائر وسرنا على عمد نريد مدينة ... بقرقيسيا سير الكماة المساعر فجئناهم في دراهم بغتة ضحا ... فطاروا وخلوا أهل تلك المحاجر فنادوا إلينا من بعيد بأننا ... ندين بدين الجزية المتواتر قتلنا ولم نردد عليهم جزاءهم ... وحطناهم بعد الجزا بالبواتر4

_ 1 الطبري ج5، ص2472. 2 ياقوت ج2، ص317. 3 ياقوت ج4، ص393. 4 ياقوت ج4، ص65.

وراح المجاهدون يتتبعون يزدجرد، الذي كان يمثل للفرس رمز بلادهم السلبية فتتجمع حوله الفلول، وتثور تاثرة الفتنة من حين لآخر، وكان قد فر -من جلولاء إلى حلوان، ومنها إلى الري، فقرميسين، ثم إلى نهاوند- أمام جنود المسلمين حيث راح يحشد الحشود لآخر معركة تستهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى اجتمع فيها مائة وخمسون ألفًا بقيادة الفيرزان1. وكان اهتمام المسلمين بها عظيمًا أيضًا، حتى لقد هم عمر بالخروج إليها بنفسه، وقد انتصر المسلمون فيها بفضل الخطة البارعة التي وضعها فرسان المسلمين، ونفذها القعقاع الذي يصور بلاء المسلمين في قوله: ونحن حبسنا في نهاوند خيلنا ... لشر ليال أنتجت للأعاجم ملأنا شعابًا في نهاوند منهم ... رجالًا وخيلًا أضرمت بالضرائم وراكضهن الفيرزان على الصفا ... فلم ينجه منها انفساح المخارم2 انتهت مقاومة الفرس الرسمية بوقعة نهاوند، التي تعرف بفتح الفتوح؛ لأنه لم يكن بعدها حرب خطيرة، وشغل المسلمون بتعقب يزدجرد حتى يقضوا على الشغب الذي يثيره، وكان هذا العمل داخلًا في مهمة الأحنف بن قيس، الذي عقد له لواء خراسان. وكان عمر قد عقد لرؤساء الجند ليفتحوا بلدان الأطراف، فوجه عثمان بن أبي العاص إلى أصطخر وسار ابن زنيم إلى فساودراخرد، وسهيل بن عدي إلى كرمان، وعاصم بن عمرو إلى سجستان، والحكم التغلبي إلى مكران. وكان يزدجرد قد فر من نهاوند إلى أصفهان، فتقدم جند الأحنف إليها، ففر إلى أصطخر، ولكنه لم يأمن إزاء ألوية المسلمين، التي كانت تستبرئ الأهوار وخوزستان، فغادر المنطقة بأسرها إلى المقاطعات العليا من طبرستان، يلبي دعوة جاءته من مرزبانها3.

_ 1 الطبري ج5، ص2608. 2 ياقوت ج4، ص838. 3 بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية ص126.

وتقدمت قوات الأحنف تتساقط أمامها مدن خراسان، فاحتلت الطبسين وهراة، ومرو ونيسابور، وتطارد يزدجرد حتى تلجئه إلى الهرب إلى خاقان -ملك الترك في ما وراء النهر1. وقد صور الشعر هذه الوثبات الجريئة لجند الأحنف في خراسان، فقال ربعي بن عامر أحد جنده البواسل: ونحن وردنا من هراة مناهلا ... رواء من المروين إن كنت جاهلا وبلخ ونيسابور قد شقيت لنا ... وطوس ومرو قد أزرن القنابلا أنخنا عليها كورة بعد كورة ... نفضهم حتى احتوينا المناهلا فلله عينا من رأي مثلنا معا ... غداة أزرنا الخيل تركا وكابلا2 وأيقن أمراء المقاطعات بانتهاء سلطان يزدجرد فتخلوا عنه. وبعد سلسلة التنقلات التي قام بها قتل في مرو، فسقطت أسرة آل ساسان، وصور أبو بجيد -أحد الفاتحين- هذه النهاية بقوله: ونحن قتلنا يزدجرد ببعجة ... من الرعب إذ ولى الفرار وغارا غداة لقيناهم بمور تخالهم ... نمورًا على تلك الجبال ونارا قتلناهم في حربة طحنت بهم ... غداة الرزيق إذا أراد جوارا ضممنا عليهم جانبيهم بصادق ... من الطعن ما دام النهار نهارا فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لغادت عليهم بالرزيق بوارا3 وكان المسلمون قد بلغوا في تعقبهم ليزدجرد إلى حدود النهر، ولم يكن عمر يرى الانسياح فيما وراءه، كما كان شأنه يوم أراد الاكتفاء بالعراق، وتمنى لو أن يبين السواد والجبل سدا يفصل بين العرب والفرس، حتى أقنعه الأحنف بتأمين تخوم العراق والسواد4.

_ 1 ياقوت ج1، ص409. 2 ياقوت ج2، ص411. 3 ياقوت ج2، ص777. 4 الطبري ج5 ص2561.

وهم المجاهدون بعبور النهر، ولكن عمر لم يرَ رأيهم، فاكتفوا بالانسياح في سواحل كرمان، وتقدموا إلى مكران، ثم حاز الحكم التغلبي كرمان ذاتها ولم يتقدم، وقال في ذلك مشيرًا إلى أوامر عمر: غداة أدفع الأوباش دفعًا ... إلى السند العريضه والمداني فلولا ما نهى عنه أميري ... قطعناه إلى البلد الزواني1 ويكاد يكون عهد عثمان بن عفان تأكيدًا للفتح، وقضاء على الانتفاض، فلم يحدث في هذا الميدان لعهده غير فتح طبرستان، وغدا ذلك شغل أمراء الجند باستعادة أذربيجان ومناطق فارس وخراسان، التي قتل أهلها أميرهم عبيد الله بن معمر، فسير إليهم الخليفة عبد الله بن عامر فاستردها، وقال أحد جنده أسيد بن المتشمس في ذلك: ألا أبلغا عثمان عني رسالة ... لقد لقيت عنا خراسان ناطحا رميناهم بالخيل من كل جانب ... فولوا صراعًا واستعادوا النوابحا غداة رأوا الخيل العراب مغيرة ... تقرب منهم أسدهن الكوالحا تنادوا إلينا واستجاروا بعهدنا ... وعادوا كلابا في الديار نوابحا2 وهكذا رافق الشعر موكب الفاتحين شرقًا خطوة خطوة، وواكب المد المنطلق إلى غايته طوال الطريق، لم يغادر حادثة إلا سجلها، ولم يترك وقعة إلا صورها. وهذا ما يجعل شعر الفتوح الشرقية سجلًّا هامًّا ووثيقة تاريخية، ومرجعًا وجدانيًّا بالغ القيمة في الكشف عن عواطف الفاتحين وظروف حياتهم في الميدان، وما كان يضطرب في أعماقهم من مشاعر وأحاسيس، صورها الشعر تصويرًا واضحًا شاملًا.

_ 1 الطبري ج5، ص2708. 2 ياقوت ج2، ص412.

الفصل الثالث: الشعر في فتوح الشام ومصر وأفريقية

الفصل الثالث: الشعر في فتوح الشام ومصر وإفريقية 1- قلة الشعر على ألسنة الفاتحين: في اعتقادنا أن وقفة كتلك التي وقفناها من تصنيف الجيوش والإمدادات في فتح العراق وفارس ضرورية هنا للكشف عن الأسباب الفاعلة التي أدت إلى قلة الشعر على ألسنة الفاتحين في الشام وفي مصر، وهي كفيلة في نفس الوقت بالكشف عن طبيعة الاختلاف بين شعر الفتوح في الميادين المختلفة، وقيمة الإنتاج الشعري لهذه المناطق فيما بعد عصر الفتوح. ونحن لا نجد هنا تلك الروايات الواضحة التي وجدنا في العراق، في تصنيف الجيوش والأمداد التي فتحته وانطلقت منه إلى فارس وخراسان، وفي الكيفية التي تشكلت بها هذه القوات. وحقًّا نحن نجد أنفسنا أمام فيض متدفق من الروايات والقيادات والأسماء، مثل: أبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وشرحبيل، ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية، والوليد بن عقبة، وخالد بن سعيد، وعكرمة، وذي الكلاع وغيرهم، ولكننا نجد أيضًا أن خلطًا بينًا قد حدث في التأريخ لهذه الجيوش والأمداد وزمان انطلاقها، والكيفية التي تم تشكيلها عليها، وقد تغاضى عنها المؤرخون لسبب أو لآخر. وربما كان سبب الخلط الذي حدث في هذه الجيوش وقادتها راجعًا إلى كثرتها، وإلى الطريقة التي سار عليها الاستنفار والتجنيد، واختلافها في موقف عن الآخر، ويرجع إهمال الفواصل الزمنية بينها إلى اختلاف القيادات، وتعيين بلدان الفتح قبل مسير القوات إلى الشام، ودوران المعارك كلها في الشمال والجنوب في وقت واحد، إلى جانب تعاون الميادين المختلفة في تعاور الجيوش واستبدالها، وفتح بعض المناطق أكثر من مرة. ولم يكن التغاضي عن تصنيف الجيوش في روايات المؤرخين راجعًا إلى ذوبان العصبيات القبلية ذوبانًا نهائيًّا ألغيت معه العصبيات، وإنما يرجع ذلك إلى أن الفاتحين في

هذا الميدان لم يختطوا لهم خطة، ولم يبتنوا محلة أو مدينة فيه كما فعلوا بالعراق، وكما فعلوا في مصر بعد ذلك، فلم يكتب لهم إقامة فيه؛ إذ تحولوا عنه إلى مصر. وقد ساعد على اختلاط تصنيف الجيوش الفاتحة للشام أنها لم تجيش في كثرتها من المدينة؛ وإنما خرجت إلى الميدان من العراق، ومن أطراف شبه الجزيرة، حينما استنفر أبو بكر عماله ففصلوا بجند من عمالاتهم. وبرغم هذا فإننا نستطيع بمعونة الروايات القليلة التي بين أيدينا أن نصف جند الفتح الإسلامي للشام ومصر في صورة قريبة من الأصل أو دالة عليه. كانت الخطوة الأولى في فتح الشام توجيه خالد بن سعيد بن العاص إلى تيماء، وكان أبو بكر قد عقد له في ألوية الردة، فنهاه عمر بن الخطاب عن تأميره، وما زال يحرضه على عزله، حتى جعله أبو بكر ردءًا بتيماء، على تخوم الشام لا يبرحها، وأن يدعو القبائل التي حلها للانضمام إليه إلا من ارتد، وألا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره. ونفذ خالد أمر الخليفة، فاجتمعت إليه جموع كثيرة، جعلت عسكره عظيمًا1، وهذه الجموع يمنية بطبيعة الحال، من القبائل الضاربة في تخوم الشام، كقضاعة وكلب وجهينة وعذرة. وترامى إلى هرقل نبأ خالد، وترامى إلى خالد استعداد هرقل، فكتب إلى الخليفة يستفتيه، ويطلب الإذن بقتال الروم. وكان أبو بكر قد اطمأن إلى انتهاء فتنة الردة وبلوغ خالد بن الوليد إلى الحيرة ورأى أن جموع خالد بن سعيد لا تكفي لمنازلة الروم، فاستشار صحابته ثم عول على أن يستنفر أهل اليمن لفتح الشام. ولقيت دعوته إقبالًا شديدًا خف على أثرها وجوه اليمن إلى خيلهم وسلاحهم، ونهضوا في قومهم، وساروا إلى المدينة، وكان منهم ذو الكلاع الحميري، وقيس بن هبيرة المرادي في مذحج، وجندب بن عمرو الدوسي في الأزد، وحابس بن سعد الطائي في طيئ. ورافق مقدمهم إلى المدينة كتاب خالد بن سعيد، وقدوم عكرمة فيمن معه من تهامة وعمان والشحر والبحرين، فبعث بهم أبو بكر إلى خالد2. وقبل أن تصل هذه الأمداد إلى خالد بن سعيد ترامت إليه أنباء تأليب الروم لقبائل من بهراء وكلب وتنوخ

_ 1 الطبري ج4، ص2081. 2 ابن خلدون ج2، ص83.

ولخم وجذام وغسان، فكتب إلى أبي بكر كرة أخرى يطلب منازلتهم، فأمره بنزالهم، وانتصر خالد على قبائل العرب، ودخل عامتهم في الإسلام1. وعندما التقى خالد بالروم بقيادة باهان وانتصر عليهم، تقدم إلى القسطل، وهزم جيشًا آخر للروم على الشاطئ الشرقي للبحر الميت، فتجمعت قوات الروم قبالة تيماء في أعداد ضخمة، فكتب إلى أبي بكر كتابه الثالث يستمده. وكان أبو بكر بعد أن استقر أهل اليمن منهمكًا في استنفار من حوله من المهاجرين والأنصار وأهل مكة وعماله، كعمرو بن العاص الذي كان على صدقات عمان، والوليد بن عقبة وكان على صدقات قضاعة، وكان أمر أبي بكر لهما أن يستخلفا ويندبا الناس بما يليهما لو اختاروا الجهاد فاستجاب إليهما خلق كثير2. فأمر الخليفة عمرًا على جيش فلسطين، والوليد على جيش الأردن3. وما لبث خالد بن سعيد حينما وافاه الوليد بن عقبة وعكرمة وذو الكلاع أن التحم بالروم في مرج الصفر، التي دحر فيها المسلمون، وانحاز عكرمة بالجند، وفر خالد4. وعندما بلغت الهزيمة أبا بكر كان شرحبيل قادمًا من العراق، فاستعمله الخليفة على عمل الوليد، على أن يفصل بجند خالد بن سعيد، ودعا أبو بكر بيزيد بن أبي سفيان فأمره على ألف من أهل مكة5. وأردفه بأخيه معاوية؛ ليفصل ببقية جيش خالد بن سعد6. ثم ندب الخليفة أبا عبيدة بن الجراح، وجعله على جيش عظيم فصل به إلى الشام، وأخذ أبو بكر يرغب الناس في الجهاد، فكانوا يأتون إلى المدينة حيث يوجههم إلى

_ 1 الطبري ج4، ص2081. 2 الطبري ج4، ص2083. 3 الطبري ج4، ص2084. 4 الطبري ج4، ص2084، 2085. 5 الطبري ج4، ص2084، ابن خلدون. 6 المرجع نفسه.

الشام، فمنهم من يسير إلى أبي عبيدة، ومنهم من يسير مع يزيد.. يسير كل إلى من أحب1. وبعد هذه التعديلات سمى أبو بكر كور الشام، لكل أمير كورته، فلأبي عبيدة حمص، وليزيد دمشق، ولشرحبيل الأردن، ولعمرو بن العاص فلسطين2. وبينما تدور معركة في بصرى -وجيوش المسلمين تتداعى إلى التساند- وصل خالد بن الوليد في كتيبة العراق، التي تضم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين استأثر بهم دون المثنى3، ويجتمع في اليرموك -التي شهدتها كل الجنود الإسلامية- ستة وأربعون ألفًا، هي كل جند الشام، وكثرتها الكثيرة من عرب اليمن. فجيش خالد بن سعيد الذي تقسمه القواد: عكرمة وشرحبيل ومعاوية -كان يمنيًّا، وكذلك جيش الوليد وجيش عمرو بن العاص4، وأمداد عكرمة وذي الكلاع المكونة من الأزد ومذحج وطيئ وغيرها من قبائل اليمن، وكثرة كتيبة خالد بن الوليد التي كان فيها ألف من الأنصار من أهل بدر. أما جند يزيد بن أبي سفيان فهو ألف من أهل مكة. بينما لا نعلم شيئًا عن جند أبي عبيدة، وإن كان المظنون أنه من المهاجرين والأنصار. وعلى الرغم من هذا فإننا لا نجد أثرًا ولو ضئيلًا لتكتل هذه العصبية في شعر الفتح الإسلامي في الشام، فبذور العصبية التي عانَى منها المسلمون فيما بعد في هذه البلاد، وسيطرت فيها على مقدرات الحياة إلى نهاية الدولة الإسلامية لا يوجد لها أثناء عملية الفتح ظل ولو شاحب يدل عليها، ففضلًا عن انصهار هذه العصبيات في بوتقة العمل الموحد في سبيل الله والعقيدة الواحدة، وفضلًا عن التضامن تحت شعار الوحدة وإنكار الذات والتفاني في سبيل الهدف الأسمى، لم تكن هناك فرصة لظهور هذه العصبيات؛ إذا انعدم التوازن بينها، فالكثرة الكثيرة من أهل اليمن. وإذا كنا نعرف أن

_ 1 الطبري ج4، ص2108. 2 المرجع نفسه. 3 الطبري ج4، ص2091. 4 يذكر المؤرخون أن جيش عمرو لفتح مصر كان من محاربي الشام، ويذكر ياقوت ج3 ص893 أن كثرته كانت من عك، بينما يذكر ابن عبد الحكم أن جميعه من عك ص51، أو أن ثلثه من غافق، وكذلك يذكر الكندي أيضًا، الولاة ص8.

أهل اليمن ليسوا كأهل نجد والحجاز كلفا بالشعر ومعرفة به واستجابة له، فربما يفسر ذلك انعدام هذه الروح العصبية في الشعر، وسيزول عجبنا إذا ما عرفنا أن شعر الفتح الإسلامي في الشام ليس إلا ما خلفه جند خالد بن الوليد الذين رافقوه من العراق، وفيما عدا شعرهم لا نجد إلا قلة نادرة، إذا ما قورنت بشعر الفتح في العراق وفارس، وهذا يرجع إلى أنها كانت في جمهورها يمنية، ومعنى ذلك: أن القبائل اليمنية التي فتحت الشام جنت على الشعر في هذه المناطق، ووسمتها بالإجداب والضحالة، وجعلتها من بعد مهبطًا للشعراء الوافدين. وحدث نفس الأمر في فتح مصر؛ إذ يجمع المؤرخون على أن الجيش الذي فتح مصر بقيادة ابن العاص كانت كثرته من أهل اليمن، من عك وغافق1، فضلًا عمن دخلوها معه ممن أسلم من عرب الشام قبل اليرموك2، وأولاد الأبناء اليمنيين الذين كانوا بصنعاء، ومسلمة الروم من بني ينة، وبني الزرق، وبني روبيل، ممن عرفوا بالحمراء، وكانوا قد أسلموا قبل اليرموك3. كما انضم إليه عرب سيناء من قضاعة، وبعد أن فصل عن العريش لحق به قوم من بني راشدة وقوم من لخم. وبهذا يشكل أهل اليمن نواة الجند الإسلامي في مصر، وتتابع الأمداد بعد ذلك. وإذا كان المؤرخون يختلفون حول هذه الأمداد وأعدادها فإنهم لا يذكرون شيئًا عن كيفية تصنيفها4. وبرغم هذا فإننا لو رجعنا إلى تسمية القبائل في الخطط التي نزلتها لاتضح لنا أن كثرتها من عرب اليمن5. ونعلم أن هذه القبائل لم تشترك جميعها في الفتح، وإنما وفدت كثرتها بعد أن استدعاها ذووها من الفاتحين. وتذكر بعض الروايات أن جموعًا كبيرة من هذيل قد دخلت مصر مع أمداد عمر لعمرو6، وأنها نزلت في الحمراء الوسطى7. وقد تميز دخول المسلمين إلى مصر بمثل ما تميز به دخولهم إلى العراق، من

_ 1 راجع ما سبق في الصحيفة السابقة. 2 الانتصار لابن دقماق ج4، ص5. 3 ابن عبد الحكم ص129، المقريزي ج1، ص298. 4 ابن عبد الحكم ص53. 5 صبح الأعشى ج3، ص31، 32. 6 الأغاني ج20، ص167، الإصابة ج1، ص117. 7 المقريزي ج1، ص298.

تخطيط المدن وسكانها، ولم يرتضِ عمر أن يسكن عمرو وجنده الإسكندرية، حتى لا تتغير طباعهم العسكرية، وحتى لا يكون بينه وبينهم ماء، إذا أراد أن يركب راحلته حتى يقدم عليهم فعل، فتحول عمرو إلى الفسطاط1. وقد ساعد اشتراك كثرة الجند في أصول يمنية واحدة على عدم تشقيق الخصومات، فشحب لون القبلية، وبرزت نوازع جديدة، هي نوازع المدينة التي أفاءتها الحياة الجديدة في المدينة؛ إذ لم تستطع تحذيرات عمر ومحاربته لاتجاه الترف في البناء أن تحول دون تطورها، إلى أن تكون مدينة تامة لها ما للمدن من مرافق الحياة والعمران الذي عرف عن العرب من أهل الجنوب2. وقد ظل عرب اليمن غالبين على من سواهم في مصر زمنًا طويلًا، حتى إن عبد العزيز بن مروان قال لأبيه حين ولاه مصر: "كيف المقام ببلد ليس فيه أحد من بني أمي؟ "3. وكان نتيجة هذا أننا لا نكاد نجد صدى لأحداث الفتح الإسلامي لمصر في الشعر، بل لا نكاد نجد شعرًا في الحقيقة، وكل ما هنالك أبيات قليلة لبعض الهذليين، لا تكاد تصور جانبًا من جوانب الفتوح، ولا تكاد تكشف عن شيء من مشاعر الفاتحين، فبينما لم يفلح الشعر في الشام في إعطائنا صورة كاملة للفتوح كاد لا يوجد في مصر شعر يعطينا شيئًا ولو يسيرًا عن ظروف الفتح.

_ 1 ابن عبد الحكم ص91. 2 ابن عبد الحكم ص92. 3 الكندي، الولاة ص47.

الشعر في الشام

2- الشعر في الشام: كان لكثرة القبائل اليمنية في جند الشام أثر كبير في قلة المحصول الشعري، الذي تخلف عن الفتوح الإسلامية هناك، فإن الشعر الذي بين أيدينا قليل جدًّا، حتى إنه ليقصر عن تصوير حوادث الفتح وسيرها وما دار فيها، ولا يفلح في إعطائنا صورة كاملة أو قريبة من الأصل للمحاربين في بلائهم ومشاعرهم وأحاسيسهم بالمعارك التي خاضوها، وكل ما نجده أبيات قليلة يقولها المجاهد في أعقاب المعركة، أو بيت أو بيتان يرتجزهما الراجز في أثناء بروزه للقتال، وفي حملته على العدو، أو الفخر بنفسه، في موقف معين، أو رثاء صديق، أو رثاء عضو من أعضائه. ويبدو أن قصر المدة التي استغرقها فتح الشام، وعدم انفساح المنطقة لتوغل المسلمين إلى مدى أوسع كانا من أسباب اختفاء شعر الحنين والتشوق، والشعر الذي يصور الشئون الخاصة بالجند، من أمثال ما رأينا في شعر الميدان الشرقي. ومهما كان مدى الافتراق بين الميدانين فلنحاول التعرف على الكيفية التي استطاع بها المحاربون في هذا الميدان تصوير حوادث الفتح وظروفه بالقدر الذي أتيح لهم أن يصوروها. وقد تقدم أن أبا بكر اهتاج للشام، فعقد لواء حربها لأربعة من مشاهير قواد المسلمين، وعين لكل منهم مهمته، فكانت مهمة أبي عبيدة فتح حمص والجابية، وكانت مهمة ابن العاص فتح فلسطين، بينما كانت وجهة يزيد بن أبي سفيان دمشق، ووجهة شرحبيل ابن حسنة الأردن1، وبعد هذا تختلف الروايات فيما كان من أمر هذه الجيوش، وهل خاضت بعض المعارك وهي موزعة، أو ابتدأت معاركها مجتمعة؟ وفي الحقيقة أننا لا نجد في كتب التاريخ ما يقنع بصحة ترتيب وقائع الفتح في الفترة الأولى من فتح الشام إقناعًا منطقيًّا.. فعدا معارك خالد بن سعيد، والوليد بن عقبة مع باهان، وقبائل العرب الضاربة في تخوم الشام لا نسمع بشيء إلا بوصول كتيبة خالد بن الوليد، وما يقرره أحد المجاهدين في كتيبته من تسلسل المعارك التي خاضها على نحو ما أشرنا إلى ذلك سابقًا. وكان خالد بن الوليد قد فوز من قراقر، إلى سوى، إلى أرك، وأتى تدمر، ثم القريتين، ثم أتى حوارين، وقصم، ظافرًا حتى أغار على بني غسان في مرج راهط يوم فصحهم2، ثم سار حتى نزل قناة بصرى، فتقابل مع جند أبي عبيدة وشرحبيل ويزيد ورابطوا عليها، حتى صالحت بصرى على الجزية3. ويعد اعتساف خالد الصحراء بهذه

_ 1 الطبري ج4، ص2090. 2 مرج راهط هي بصرى أذكى شام. الطبري ج4 ص2108. 3 الطبري ج4، ص2125.

الطريقة الفذة عملًا معجزًا في اختصار الطريق والتزود بالماء1، مما تغني به الرجاز، من أمثال أبي أحيحة القرشي، الذي قال في خالد: لله در خالد أنى اهتذا ... والعين منه قد تغشاها للقذى معصوبة كأنها ملئت ثرى ... فهو يرى بقلبه ما لا يرى قلب حفيظ وفؤاد قد وعى2 وقال أحد الرجاز في نفس المعنى متغنيًا ببراعة دليله رافع الطائي: لله در رافع أني اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى خمسًا إذا ما سارها الجبس بكى ... ما سارها من قبله إنس يرى3 واجتمعت جيوش المسلمين في اليرموك، واستطاع خالد في يوم إمارته أن يدور خلف جيش الروم فحصرهم، ثم شن هجومًا عنيفًا عليهم وعلى حلفائهم الغساسنة، فتهافت معظمهم قتلى في النهر، وكان خالد قد قسم الجيش إلى كراديس، جعل عليها فرسان المسلمين كالقعقاع وعكرمة، واستفتح القعقاع يرتجز، وقد برز للنزال قائلًا: يا ليتني ألقاك في الطراد ... قبل اعترام الجحفل للوراد وأنت في حلبتك الوراد4 وتبعه عكرمة قائلًا: قد علمت بهكنة الجواري ... أنى على مكرمة أحامي5 وتظهر أهمية موقعة اليرموك في أنها فتحت الطريق إلى أجزاء الشام كلها، وقررت مصيرها، وتبدو هذه الأهمية في كثرة الشعر والرجز الذي صورها، فقد استنفدت كل الشعر الذي تركته لنا الفتوح في الشام تقريبًا. وأكثر فيها الرجاز بصورة خاصة، فأشادوا

_ 1 الطبري ج4، ص2108. 2 الإصابة ج7، ص4. 3 ياقوت ج3، ص172. 4 الطبري ج4، ص2096. 5 الطبري ج4، ص2066.

ببلائهم، وبما قدموا فداء لعقيدتهم. فهذا حياض بن قيس القشيري يخاطب فرسه، وينشد رجله التي قطعها الروم في اليرموك فيقول: أقدام حذام إنها الأساورة ... ولا تغرنك رجل نادرة أنا القشيري أخو المهاجرة ... أضرب بالسيف رءوس الكافرة1 ثم يشد على أعدائه فيقتل من الروم عددًا كبيرًا، حتى استحق أن يفخر ببلائه أحد بني أبيه فقال: ومنا ابن عتاب وناشد رجله ... ومنا الذي أدى إلى الحي حاجبا2 وهذا القعقاع بن عمرو يفاخر ببلائه ونجدته يوم اليرموك، وإجابته الداعي في كل ملمة يقول: يدعون قعقاعًا لكل كريهة ... فيجيب قعقاع دعاء الهاتف3 وبينما تكثر أبيات الرجز في هذه الوقعة لا تكاد القصائد أو المقطوعات يكون لها وجود، اللهم إلا مقطوعة واحدة قليلة عدد الأبيات للقعقاع بن عمرو، يصور فيها تهافت الروم في الواقوصة، ويشيد بكتيبة خالد، التي أبلت في الشام بلاءها في العراق.. قال: ألم ترنا على اليرموك فزنا ... كما فزنا بأيام العراق قتلنا الروم حتى ما تساوى ... على اليرموك مفروق الوراق فخضنا جمعهم لما استحالوا ... على الواقوصة التبر الرقاق غداة تهافتوا فيها فصاروا ... إلى أم تعضل بالذواق4

_ 1 الإصابة ج2، ص68، وقد توهم الشاعر فدعى الروم أساروه. 2 المرجع نفسه. 3 الإصابة ج5، ص244. 4 ياقوت ج4، ص893.

ويتجه المسلمون إلى فحل فيحاصرونها، ويتركون جندا لمناوشة الروم، بينما تتجه كثرة الجيش إلى دمشق، وقد فتحها الله عليهم بعد اشتباك مع الروم في مرج الصفر وحصار طويل للمدينة، ففتحت أبوابها للمسلمين صلحًا من جانب، وحربًا من جانب آخر. وكان عبد الرحمن بن أبي سرح -أحد جند يزيد بن أبي سفيان- يتوقع تسليم المدينة والجند رابضون على أبوابها، فقال يصف انتظار الجند بباب توماء مع ابن أبي سفيان: ألا أبلغ أبا سفيان عنا بأننا ... على أحسن حال كان جيش يكونها وأنا على باب لتوماء نرتمي ... وقد حان من باب لتوماء حينها1 وبعد أن فتحت دمشق عاد المسلمون إلى فحل؛ حيث التقوا بثمانين ألفًا من الروم وانتصروا عليهم انتصارًا مبينًا، صوره القعقاع بن عمرو في قوله: وغداة فحل قد رأوني معلمًا ... والخيل تنحط والبلا أطوار ما زالت الخيل العراب تدوسهم ... في حوم فحل والهبا موار حتى رمين سراتهم عن أسرهم ... في روعة ما بعدها استمرار2 ووصف علقمة بن الأرث العبسي تنكيل المسلمين بالروم فقال: ونحن قفلنا كل واف بآله ... من الروم معروف النجاد منطق ونحن طلقنا بالرماح نساءهم ... وأبنا إلى أزواجنا لم تطلق وكم من قتيل أهرقته سيوفنا ... كفاحًا وكف قد أطيحت وأسوق3 ووجه أبو عبيدة بعد فحل جنود العراق، وعليهم هاشم بن عتبة والقعقاع بن عمرو كأمر أبي بكر كما وجه بالأعور السلمي إلى طبرية فحاصرها حتى فتحها الله عليه، وفي ذلك يقول الربيع بن مطرف بن بلخ التميمي أحد جنود الأعور:

_ 1 ياقوت ج1، ص443. 2 ياقوت ج3، ص853. 3 الإصابة ج5، ص111.

وإنا لحلالون بالثغر نحتوي ... ولسنا كمن هر الحروب من الرعب منعناهم ماء البحيرة بعدما ... سما جمعهم فاستهولوه من الرهب1 واتجه أبو عبيدة بعد ذلك مع خالد بن الوليد إلى الشام؛ حيث التقوا بجيشين للروم، عليهما توذر البطريق وشنس، وحال الليل بين المسلمين والروم، وبيت الفريقان في انتظار الصبح، وعند الفجر نظر خالد فلم يرَ توذر ولا جنده، فأيقن أنه يريد دمشق، فطار في أثره، وكان يزيد بن أبي سفيان قد علم بمقدمه فخرج إليه أمام دمشق، وجاءه خالد من خلفه، فحصر بين المسلمين حتى قضوا عليه وعلى جنده. وعاد خالد ليجد أبا عبيدة قد قضى هو الآخر على شنس، وفي ذلك تروي أبيات من الرجز تصور صنع المسلمين بتوذر وشنس، وتنسب إلى خالد بن الوليد تقول: نحن قتلنا توذرا وشوذرا ... وقبله ما قد قتلنا حيدرا نحن أزرنا الغيضة الأكيدرا2 وانطلق المسلمون بقيادة أبي عبيدة شمالي الشام فحاصروا حمص شتاء كاملًا، ظل الروم أن البرد سيهلكهم فيه، لكنهم تراجعوا إلى الصلح، وتوالت الفتوح، ودخل المسلمون قنسرين وحلب وأنطاكية حصن المسيحية الحصين ودانت لهم الجزيرة، وصالحت الرها ونصيبين وأرمينية3. وعجب ألا يكون لهذه الفتوح صدى في الشعر برغم تعددها، وطول المدة التي استغرقتها وبرغم الفرص المتاحة في الحصار وفراغ الجند، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أن معظم هذه البلاد قد فتح صلحًا. وتقدم المسلمون في جنوب الشام ففتحوا أجنادين بعد معركة عنيفة، قتل فيها ثمانون ألفًا من الروم، وفر الأرطبون قائدهم إلى بيت المقدس، وصور زياد بن حنظلة فراره فقال:

_ 1 الإصابة ج2، ص219. 2 الطبري ج5، ص2390. 3 الطبري ج5، ص2057.

ونحن تركنا أرطبون مطردًا ... إلى المسجد الأقصى وفيه حسور عشية أجنادين لما تتابعوا ... وقامت عليهم بالعراء نسور عطفنا له تحت العجاج بطعنة ... لها نشج نائي الشهيق غزير فطمنا به الروم العريضة بعده ... عن الشام أدنى ما هناك شطير تولت جميع الروم تتبع إثره ... تكاد من الذعر الشديد تطير وغودر صرعى في المكر كثيرة ... وعاد إليه الفل وهو حسير1 وعجيب أيضًا أن يخلو شعر الفتح من تصوير غبطة المسلمين التي لا حدود لها بتسليم بيت المقدس، وما لذلك التسليم من معانٍ ودلالات بالغة القيمة في انتصار الإسلام وسيطرته على معقل المسيحية ومهبطها، ولما لقيه المسلمون في حصارها من صنوف القسوة واستماتة الروم وعصف المجانيق، وكل ما نجده أبيات قليلة، تصور مبارزة حدثت بين أرطبون وأحد جند المسلمين يدعى عبد الله بن سبرة، فبينما عبد الله يقتله قطع أرطبون أصابع يده بضربة من سيفه، فقال عبد الله: فإن يكن أربطون الروم أفسدها ... فإن فيها بحمد الله منتفعا بنانتان وجرموز أقيم به ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا وإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا2 وسقطت الشام العريضة في أيدي المسلمين، وألقت إليهم بخيرات أرضها، وبعيش خصيب لا يعد مآكله، كما عبر عن ذلك زياد بن حنظلة حيث قال يتذكر فتح الشام في عام الرمادة على ما يبدو: تذكرت حرب الروم لما تطاولت ... وإذا نحن في عام كثير نزائله وإذا نحن في أرض الحجاز وبيننا ... مسيرة شهر بينهن بلابله

_ 1 ياقوت ج1، ص126. 2 الطبري ج5، ص2490، وانظر الإصابة ج5، ص60، 92.

وإذا أرطبون الروم يحمي بلاده ... يحاوره قرم هناك يساجله فلما رأى الفاروق أزمان فتحها ... سما بجنود الله كيما يصاوله فلما أحسوه وخافوا صواله ... أتوه وقالوا: أنت ممن نواصله وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها ... وعيشًا خصيبًا ما تعد مآكله أباح لنا ما بين شرق ومغرب ... مواريث أعقاب بنتها قرامله وكم مثقل لم يضطلع باحتماله ... تحمل عبئًا حين شالت شوائله1 ولكن الروم لم ييئسوا، فاستمالوا القبائل العربية في شمالي الشام، وأبحرت حملة بقيادة قسطنطين بن هرقل، فألقت مرساها على شاطئ أنطاكية واستولت عليها، وانضمت إليها القبائل المتمردة2. وثار الشمال على أبي عبيدة الذي ألفى نفسه محصورًا في حمص، فراسل الخليفة يستمده، وأزمع عمر أن يسير بنفسه إلى الشام أول الأمر، ثم ما لبث أن عدل تحت إلحاح صحابته من أولي الرأي، فسير الأمداد إلى أبي عبيدة، وأفلح المسلمون في عزل القبائل العربية عن الروم؛ حيث طوقها عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فقفلت إلى مضاربها مؤثرة السلامة3، حيث صالحت على ما كان من صلحها قبل ذلك، فقال عبد الله يخاطب أحد زعمائهم ويؤمنه في نصيبين: ألا من مبلغ عني بجيرا ... فما بيني وبينك من تعادي فإن تقبل تلاقي العدل فينا ... فأنسى ما لقيت من الجهاد وإن تدبر فما لك من نصيب ... نصيبين فيلحق بالعباد وقد ألقت نصيبين إلينا ... سواد البطن بالخرج الشداد لقد لقيت نصيبين الدواهي ... بدهم الخيل والجرد الرواد4

_ 1 الطبري ج5، ص2410. 2 الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص52. 3 ابن الأثير، الكامل ج2، ص224. 4 ياقوت ج4، ص788، 789.

وكسر المسلمون خطوط المقاومة الرومية بعد عزل القبائل عنها، فانسحبت الحملة بالهزيمة، وسجل الشعر اهتياج عمر لأبناء الثورة في شمالي الشام، وإزماعه السفر إليها فقال زياد بن حنظلة: سما عمر لما أتته رسائل ... كأصيد يحمي صرمة الحي أغيدا وقد عضلت بالشام أرض بأهلها ... تريد من الأقوام من كان أنجدا فلما أتاه ما أتاه أجابهم ... بجيش ترى منه الشبائك سجدا وأقبلت الشام العريضة بالذي ... أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا فقسط فيما بينهم كل جزية ... وكل رفاد كان أهنا وأحمدا1 وسجل الشعر أيضًا ذلك الحدث الجلل الذي ألم بأرض الشام وعاصر ضنك المسلمين في الحجاز، وهو طاعون عمواس المروع، الذي أهلك كثرة من المسلمين تبلغ خمسة وعشرين ألفًا، ووقف بعمر في الطريق عند سرع، بالقرب من تبوك، فرجع نزولًا على رأي الجماعة، وأعقب رجوعه اشتداد الطاعون وفتكه، فهلك جماعة من قادة المسلمين ووجوههم، كأبي عبيدة ومعاذ بن جبل وزيد بن أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وغيرهم، ويروى شعر طريف في تصوير هذا البلاء وفعله في المسلمين، وإخلادهم إلى الإيمان بالقدر والجبر، كما عبر عن ذلك أحد المسلمين عندما رأى غلامًا هاربًا على حمار فقال: لن يعجزوا الله على حمار ... ولا على ذي غرة مطار قد يصبح الموت أمام الساري2 وشكا بعض المسلمين من اجتماع الطاعون والطعن؛ كقول عبد الله بن سبرة: إن أقبل الطعن فالطاعون يرصدني ... كيف التقاء على طعن وطاعون3

_ 1 الطبري ج5، ص2411. 2 الطبري ج5، ص2521. 3 الإصابة ج5، ص60.

وكذلك سجل الشعر بعض الحوادث العامة في تاريخ الفتح الإسلامي، كأمر ابن الخطاب بطبخ الأنبذة حتى يذهب ثلثاها، حينما بلغه وقوع بعض الجند في الخمر. وقد روى بعض المؤرخين ارتباط ذلك بما ابتلي به المسلمون من الطاعون، فقال ذو الكلاع في رثاء الخمر: ألم ترَ أن الدهر يعثر بالفتى ... وليس على صرف المنون بقادر صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ... ولست على الصهباء يومًا بصابر رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر1 وهكذا يعطينا الشعر في الشام صورة باهتة وناقصة لحوادث الفتح ولمشاعر الفاتحين، ولكنها تبدو أكثر إشراقًا أمام الصورة التي يعطيها لنا الشعر في فتوح مصر وإفريقية.

_ 1 الإصابة ج2، ص183.

الشعر في مصر وإفريقية

3- الشعر في مصر وإفريقية: كنا قد التمسنا العذر لميدان الشام في قلة المحصول الشعري للفتوح؛ لأن الفاتحين لم يتخذوا بها مساكن ولم يختطوا فيها خططًا، وبأن آماد الفتح وأبعاده لم تيسر لهم الانطلاقة الطويلة التي يسرها امتداد الفتح في آماد الأرض المنفسحة في خراسان. فما العذر الذي يمكن أن نتذرع به أمام ندرة المحصول الشعري للفتوح في مصر، وقد اختط العرب خططًا، وأقاموا بها يحاربون الروم، ويقضون على فتنهم وغدرهم قرابة ثماني سنوات، بينما كانت آماد الفتح ليست ذات حدود في الانطلاق عبر إفريقية والسودان انطلاقة واسعة؟ إن القبائل التي شكلت جند الشام وأمداده هي نفس القبائل التي فتحت مصر واستقرت فيها من بعد الفتح، وإذا كنا لاحظنا أن قوات من العرب النزاريين قد حاربت في الشام فترة تحت إمرة خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان فتركت آثارًا لها في شعر الفتوح هي تقريبًا كل ما لدينا من هذا الشعر فإننا نلاحظ هنا هجرة قبائل معينة، اشتهرت بالشعر، وأقامت بمصر إقامة دائمة، وأشهر هذه القبائل: قبيلة هذيل، وبرغم

هذا فليست لها آثار تدل على اشتراكها في الفتوح اشتراكًا واضحًا، وقد هاجرت هذه القبيلة إلى مصر في أعداد كبيرة، جعلت بعض المؤرخين المتقدمين يعتقدون أنه لم يعد لها في الحجاز حتى يطرق1. وظهرت آثار هذه الهجرات الضخمة فوصفوا إقفار ديارهم، وخلوها بعد هجرة ذويهم، كما نجد في شعر البريق بن عياض وأبي صخر والحارث بن أسامة2. وعلى الرغم من أن هذه الأشعار وجدت بسبب من الفتوح إلا أنها لا تدل بطبيعة الحال على حوادثها ولا تتعرض لها على الإطلاق. وهناك قصيدة تروى لأبي العيال الهذلي أحد الذين اشتركوا في الفتوح بمصر والشام يتحدث فيها عن الحرب والحصار، ويوجهها إلى معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على صورة رسالة. ويذكر أنها كانت على زمن معاوية. ولكننا نعجب لذكر والي مصر في عهد عمر وعثمان في هذه القصيدة التي تسير على هذا النحو: من أبي العيال أبي هذيل فاعرفوا ... قولي ولا تتجمجموا ما أرسل أبلغ معاوية بن صخر آية ... يهوي إليه بها البريد المعجل والمرء عمرًا فائته بصحيفة ... مني يلوح بها الكتاب المنمل وإلى ابن سعد إن أؤخره فقد ... أزرى بنا في قسمة إذ يعدل وإلى أولي الأحلام حيث لقيتهم ... حيث البقية والكتاب المنزل أنا لقينا بعدكم بديارنا ... من جانب الأمراج يومًا يسأل أمرًا تضيق به الصدور ودونه ... مهج النفوس وليس عنه معدل في كل معركة يرى منا فتى ... يهوي كعزلاء المزادة يزغل أو سيد كهل تمور دماؤه ... أو جانح في صدر رمح يسعل

_ 1 ابن خلدون ج2، ص319. 2 انظر ديوان الهذليين ج2، ص199، 202، ج3، ص58.

حتى إذا رجب تخلى وانقضى ... وجماديان وجاء شهر مقبل شعبان قدرنا لوفق رحيلهم ... سبعا يعد لها الوفاء فتكمل وتجردت حرب يكون حلابها ... علقا وميريها الغوى المبطل فاستقبلوا طرف الصعيد إقامة ... طورًا وطورًا رحلة فتنقل فترى النبال تعير في أقطارنا ... شمسًا كأن نصالهن السنبل وترى الرماح كأنما هي بيننا ... أشطان بئر يوغلون ونوغل1 وفي رأينا أن القصيدة كانت في محاولة الروم استعادة مصر للمرة الثانية، بحملة مانويل الداخلة في مشروع قسطانز، لاستعادة الإمبراطورية الرومية لمصر والشام، وهذه الحملة كانت في عام 25هـ، في الوقت الذي كان فيه معاوية بن أبي سفيان واليًا للشام، ويعمل بكل قواه لرد طرف الحملة الثاني عن الشام؛ إذ كانت حملة مزدوجة ذات شعبتين. وليست هناك حوادث تاريخية جمعت بين هؤلاء الذين يتوجه إليهم الشاعر برسالته إلا هذه الحادثة، فمعاوية أمير الشام يقضي على حملة مانويل في الشام، وتمنى أمامه بهزيمة فادحة. وعبد الله بن سعد هو أمير مصر، وعمرو بن العاص فاتحها، وأميرها السابق الذي تصدى لهذه الحملة بعد أن أتى به الخليفة وكلفه بها. وقد توغلت حملة مانويل داخل الأراضي المصرية، وكان عددها كبيرًا؛ إذ قدمت في ثلاثمائة سفينة2، وتقدمت من الإسكندرية التي استسلمت مباشرة إلى حصن بابليون، ووقفت على أطراف الصعيد كما يقول أبو العيال ونهد عمرو إليها في نقيوس، حيث أذاقها الهزيمة، فعادت تتحصن بالإسكندرية وتنصب المجانيق على أسوارها، فسواها عمرو بالتراب. ودخل المدينة في الوقت الذي انتهى منه معاوية من القضاء على شق الحملة في الشام. والقصيدة في جملتها ليست إلا استصراخًا للأمراء المعنيين بأمر الدفاع عن مصر والشام لرد العدوان الذي تعرضت له، وإجلاء المعتدين الذين أقاموا بالبلاد ما يقرب من أربعة أشهر.

_ 1 وقد لاحظ بعض الدارسين أن القصيدة ليست كاملة، وأن تسلسل الفكرة فيها منعدم. "مصر العربية" "ص92"، وانظر القصيدة في ديوان الهذليين ج2 ص252، والإصابة ج7 ص143. 2 ابن عبد الحكم ص157.

وتجمع الروايات التاريخية على أن أبا ذؤيب الهذلي قد خرج إلى مصر يريد الغزو في إفريقية مع جيش عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 26هـ1، ولكنها تختلف في أمر بنيه الخمسة، الذي ذكر أنهم لاقوا حتفهم في مصر أو في غيرها، ولكن بعض الروايات تؤكد أنهم هلكوا بالطاعون في مصر2. وقد رثاهم أبو ذؤيب بقصيدة من عيون الشعر العربي3، سنتعرض لها فيما بعد. وقد رأى بعض الدارسين أن أبا ذؤيب قد يكون قال بمصر قصيدته التي يذكر فيها بلاء عبد الله بن الزبير في فتح إفريقية4، وهذا شيء لا تدل عليه القصيدة، ولكنها تدل في وضوح على ظروفها ومناسبتها وتؤيدها الروايات التاريخية التي عرضت لفتح إفريقية كما سنرى. وهكذا يشعر الدارس لشعر الفتح الإسلامي في مصر بالأسف ولا يملك إلا أن يتعلل بما يتعلل به غيره من الدارسين، من ضياع شعر القبائل التي نزلت مصر؛ إذ لا يمكننا أن نتصور أن تحدث هذه الفتوح الخطيرة في مصر، وأن تقع الوقائع العنيفة هذه في بابليون، وأم دنين، وعين شمس، والكريون والإسكندرية ولا يكون لها أثر في الشعر، بل من العجيب حقًّا أن يقتتل المسلمون مع الروم في الكريون بضعة عشر يومًا متصلة -حتى يصلي عمرو صلاة الخوف- ولا نجد لذلك أثرًا إلا في إشارة لكثير فيما بعد الفتح بسنوات عديدة حينما قال: ومرت سراعًا عيرها وكأنها ... دوافع بالكريون ذات قلوع5 وتروى بعض الروايات أبياتًا قليلة من الرجز، منسوبة إلى عمرو بن العاص، وتذكر أنه قالها في حصار بابليون، يصف فيها المنجنيق على هذا النمط:

_ 1 انظر أغاني دار الكتب ج6، ص56، الشعر والشعراء ج2 ص625، وفتوح البلدان ص226، وابن الأثير ج3، ص70، الإصابة ج7، ص63. 2 الخزانة ج1، ص203. 3 ديوان الهذليين ج1 ص1-3، الاستيعاب ص665، أسد الغابة ج5، ص190، الإصابة ج7، ص64. 4 مصر العربية ص104. 5 ياقوت ج4، ص471.

يوم لهمدان ويوم للصدف والمنجنيق في بلى تختلف وعمرو يرقل إرقال الشيخ الخرف1 وتذهب بعض الروايات الأخرى إلى أنه قالها في معركة صفين2، ولكننا لا نستطيع أن نعتقد أن عمرًا قال هذه الأبيات، ونحن لا ننكر أن لعمرو شعرًا كثيرًا روته كتب التاريخ، على عادة الرواة الذين لا يكادون يتركون واحدًا من الصحابة من غير أن يرووا له شعرًا. والذي يمنعنا من الاعتقاد في صحة نسبة هذه الأبيات إلى عمرو واضح في الأبيات نفسها، فليس عمرو بن العاص باعتداده بنفسه وشموخه واعتزازه هو الذي يقول عن نفسه هذا القول، ويصف نفسه بهذا الوصف. ولا نجد أثرًا لمغامرات المسلمين في بلاد النوبة واستعصائها عليهم في الشعر، فلم يهتج شاعر مثلًا لوصف ما جرى من معارك عنيفة، ذهبت فيها رماح القوم بأحداق المسلمين. وفي إفريقية التي فتحها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والتقى فيها بجرجير في معركة عنيفة، وأصاب المسلمون فيها غنائم وفيرة لا نجد ما يصور هذه الأحداث، إلا أبياتًا لأبي ذؤيب الهذلي، يمدح فيها عبد الله بن الزبير الذي اغتنم فرصة قتل فيها جرجير. ويبدأ أبو ذؤيب أبياته بالنسيب وينتقل منه إلى وصف السحاب، ثم يعود إلى النسيب فيخلطه بمدح ابن الزبير ويشير إلى رحلتهما معًا فيقول: وصاحب صدق كسيد الضرا ... ء ينهض في الغزو نهضًا نجيخا وشيك الفضول بطيء القفو ... ل إلا مشاحًا به أو مشيحا يريع الغزاة وما إن يريـ ... ـع مضطمرا طرتاه طليحا كسيف المرادي لا ناكلا ... جبانا ولا جيدريا قبيحا

_ 1 ابن عبد الحكم ص162. 2 وقعة صفين ص463.

قد أبقى لك الأين من جسمه ... نواشر سيد ووجها صبيحا أربت لأربته فانطلقـ ... ـت أزجي لحب الإياب السنيحا على طرق كنحور الركا ... ب تحسب آرامهن الصروحا بهن نعام بناها الرجا ... ل تبقى النقائض فيها السريحا1 والأبيات تعطي الصورة لتوثق أواصر الصداقة بين الرجلين ومتابعة الشاعر للفارس في انطلاقته، وربما تبرر هذه الصداقة ما يروى من تلازمهما حتى ليكون ابن الزبير هو الذي يوسد الشاعر في ضجعته الأخيرة منصرفهما من غزوة إفريقية في بعض الروايات2. وقد قال الشاعر المجاهد وهو يستعد لرقدته الأخيرة واصفًا حفرته التي دفن فيها: مطأطأة لم ينبطوها وإنها ... ليرضى بها فراطها أم واحد قضوا ما قضوا من رمها ثم أقبلوا ... إلى بطاء المشي غبر السواعد فكنت دنوب البئر لما تبسلت ... وسربلت أكفاني ووسدت ساعدي3 ولسنا نجد ظلا ولو باهتا يصور انسياح الفاتحين في إفريقية وفتحهم لبرقة وطرابلس وما بينهما وما حولهما كودان وفزان، اللهم إلا ما يتردد في كتب التاريخ من شكوى المسلمين من اختصاص الخليفة عثمان بن عفان لمروان بن الحكم بخمس الفيء الذي جاء من إفريقية، فيقول عبد الرحمن بن حنبل في هذا المعنى: وأحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمرًا سُدى ولكن جعلت لنا فتنة ... لكي نبتلى بك أو نبتلي دعوت الطريد فأدنيته ... خلافًا لما سنه المصطفى ووليت قرباك أمر العباد ... خلافًا لسنة ما قد مضى

_ 1 ديوان الهذليين ج1، ص135، 136، الأغاني "دار الكتب" ج6، ص266، وابن قتيبة ج2، ص635. 2 أسد الغابة ج5، ص189، الاستيعاب ص666، الخزانة ج1، ص203. 3 الشعر والشعراء ج2، ص640، 641.

وأعطيت مروان خمس الغنيمـ ... ـمة آثرته وحميت الحمى ومالا أتاك به الأشعري ... من الفيء أعطيته من دنا فإن الأمينين قد بينا ... منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهمًا غيلة ... ولا قسمًا درهمًا في هوى1 وجلي أن هذه الأبيات لم يقلها الشاعر في المعركة، وإنما قالها في شبه الجزيرة، يلوم فيها على الخليفة تفريطه في فيء المسلمين ومحاباته أقاربه، وليس هناك أشعار وراء هذه الأبيات التي لا تصور من الفتح إلا جانبًا فرديًّا شاحبًا من جوانب المعركة، وبذلك لا نجد في الشعر آثارًا للتجربة الهائلة التي كنا نتوقع أن نرى لها نتائج أدبية خطيرة، لما كان من عنف المعارك، وقسوة القتال، واختلاف البيئة وجدتها على الفاتحين، وغنائها بالعناصر الجديرة بالوصف، والملهمة بالتعبير. ولهذا لا يمكننا أن نعزو انعدام التعبير الشعري هنا لانعدام المثيرات، فإن التجربة حافلة بالأحداث المثيرة، والأحاسيس المختلفة الحقيقة بالتعبير والتصوير. ولا نملك إزاء ما نجد من تقصير الشعر في رسم جوانب تجربة الفتوح الإسلامية في الشام، وندرة الشعر أو انعدامه في مصر وإفريقية، إلا أن نقرر ما سبق أن قررناه من أن جل الفاتحين لهذه الميادين كانوا من عرب اليمن، الذين لم يرزقوا ما رزق العدنانيون من اقتدار على التعبير الشعري، وأن ما وجد في الشام من الشعر لم يكن إلا نتيجة لوجود بعض القبائل العدنانية التي استقرت لفترة ثم رحلت، وأن ما وجد بمصر لم يكن إلا نتيجة لوجود بعض قبائل عدنان الشهيرة بالشعر، وربما ضاع في مصر شعر لقبائل أخرى لم تصل إلينا دواوينهم، كما وصل إلينا ديوان هذيل. ولا شك أن من أهم الأسباب الفاعلة في قلة الشعر في مصر والشام وأنه لم يدون، وأن الذين كتبوا عن الفتوح كانوا في جملتهم من مؤرخي العراق ورواته، وكذلك كان رواة الشعر، ومن ثم ضاع الشعر الذي نظم في الفتوح بغربي الدولة. على أن كما قدمنا نفترض إلى جانب ذلك أن قلته ترجع إلى أن كثرة القبائل المهاجرة هناك كانت يمنية، والشعر في مضر لا في

_ 1 الاستيعاب ج1، ص410، 411، أغاني دار الكتب ج6، ص268.

اليمن، ومما يدل على ما نذهب إليه من ذلك أن مسألة مثل فشو اللحن على ألسنة العرب الفصحاء حينما تعرض لها الجاحظ في البيان والتبيين لم يذكر لنا شيئًا عن مصر، وإن كان ذكر عرضًا شيئًا عن لحن بعض الخلفاء الأمويين، ولكنه لم يعرض للشعب العربي في الشام ومصر، وفي نفس الوقت نراه يعرض في تفصيل لفشو اللحن على ألسنة الكوفيين والبصريين، وما ذلك إلا لأن الرواة كانوا من العراق، وعنوا بتدوين كل ما يتصل به، ولم يعنوا بتدوين الظواهر اللغوية في الغرب. ومعنى ذلك أن الشام ومصر وشعراءهما حتى في العصر الأموي لا يأخذون مجالًا واسعًا في الرواية الأدبية أو اللغوية، فما بالنا بعصر الفتوح؟

الباب الثاني: شعراء الفتوح

الباب الثاني: شعراء الفتوح الفصل الأول: شعراء متنوعون 1- الفتوح تُذْكِي جذوة الشعر العربي: قال ابن سلام: "جاء الإسلام فتشاغلت العرب عن الشعر، تشاغلوا عنه بالجهاد، وغزو فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته"1. وهذا القول الذي يجانب الصواب لم يقتصر على ابن سلام وحده، وإنما تابعه فيه كثير من الدارسين حتى استحال عصر صدر الإسلام لدى بعضهم إلى عصر ركود أدبي، ولدى بعض المعتدلين منهم إلى عصر هدوء أدبي. والحقيقة الواضحة أن الإسلام لم يحمل العرب على الانشغال عن الشعر وروايته؛ لأنه لم يكن يملك هذا لو أراد، ولم يكن له أن يريد هذا الأمر مع ما للشعر من سلطان على نفوس العرب، ذلك أنه علم قوم لم يكن لهم علم غيره2. وكل ما كان من آثار لمجيء الإسلام على الشعر أنه حاول تغيير مهمته في الحياة العربية وتزويده بقيم وأهداف جديدة تتفق وطبيعة الفكرة الإسلامية، فأخذ يخلع طوابعه الخاصة على الشعر؛ ليتحول من ألهية تتلهى بها طبقة معينة من الناس إلى وسيلة نافعة، تُسخَّر من أجل مجموع المسلمين، وتكون بمثابة طاقة نفسية تخدم هذه الجماعة، وتعمل في سبيل غاياتها ومثلها. ومن ثم كان على الشعر أن يطرح عنه مفهومه القديم، وأن يتقيد بقيم معينة، فرضها الدين الجديد، وأن يستهدف غاياته الرفيعة إذا أراد أن يكون له وجود في هذه الحياة الجديدة، وإلا كان من الخير أن يصمت.

_ 1 طبقات الشعراء ص10. 2 ابن سلام ص10، العمدة ج1، ص9.

وما دامت الحياة العربية بجميع مظاهرها قد تعرضت للتغيير فإن الشعر يصبح فاقدا لكل قيمة، إذا لم يتجاوب معها فيصورها من كافة أقطارها، في ظلال القيم الجديدة التي أصابت حياة الناس بالتغيير، والإسلام فضلًا عن كونه رسالة دينية ليس إلا نمطًا من أنماط السلوك وأسلوبًا من أساليب التفكير، ولا بد له من ثم أن يترك آثاره على الحياة الفنية. هكذا كان على الشعر أن يكون قوة ذات أثر في نطاق من حقائق الدين وغاياته، وإلا كان من الطبيعي أن يجد الناس طلبتهم فيما جاءهم به الدين الجديد من آيات كتابه المعجز، وأحاديث رسوله وخطبه، وأكد هذه القيمة التي اكتسبها الشعر أن الإسلام حركة فكرية لها وجهها الأدبي، بل إن الإعجاز الأدبي كان أكثر جوانبها تألقًا وإغراء للعرب واجتذابًا لهم، وأن طبيعة العقل العربي وما جاء به الدين الإسلامي من تعاليم لم يفسحا مجالًا ما للون من ألوان الفنون الأخرى، فلم يكن أمام تلك الطاقات المختزنة في النفس المسلمة إلا أن تجد لها مسربًا في الشعر لا تعدوه، طالما يتجاوب مع حياتها الجديدة. وكان للصراع بين الدين الجديد وأعدائه أثر كبير في تأكيد قيمة الشعر العربي وتحديد مهمته في تثبيت دعائم الفكرة الإسلامية، ودحض افتراءات أعدائها. فقد انطلق مشركو مكة يغرون شعراءهم بالإسلام وبنبيه، وكان لذلك أثره في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته المسلمين؛ نتيجة إحساسهم بخطر هذا السلاح في تعويق الدعوة والتنفير منها وتشويهها، وإفساد عمل دعاتها، وبخاصة بين أولئك الذين لم تستقر في قلوبهم وعقولهم بعد الملامح الجديدة للعقيدة، وأولئك الذين يعطون لهذا الشعر الذي يصدر عن مكة وعن شعراء من قوم النبي صلى الله عليه وسلم قيمة خاصة. وكان ضروريًّا -والأمر كذلك- أن يخوض الشعر الإسلامي معركة عنيفة ضد أعداء الإسلام، خلع عليه فيها نبي الإسلام كل تأييده وحفزه وتشجيعه، فندب الشعراء وأهاجهم واستحثهم، وكان ينتشي لمنافحتهم ويدعو لهم1، وهذا كله يعني تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لخطر الشعر وقيمته؛ لأن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، وشعر المسلمين أشد على الكفار من نضح النبل، ويتجلى تقدير النبي صلى الله عليه وسلم للشعر فيما خلعه على الشعراء الذين تقيدوا بالقيم الإسلامية وما حباهم به من عطفه، كما يتجلى في موقفه من شعراء قريش

_ 1 العمدة ج1، ص12.

الذين بلغت قسوتهم في الحملة عليه وعلى الإسلام حد أن توعدهم بالقتل، وقتل بعضهم فيما بعد1. وكل ما نريد أن نوضحه أن الإسلام لم يقف من الشعر موقفًا عدائيًّا، ولم يحاول أن يحمل العرب على الانشغال عنه، وإنما كان موقفه منه كموقفه من كل مظاهر الحياة المتخلفة عن الجاهلية؛ إذ حاول أن ينفي عنها طوابعها التي لا تتلاءم مع الدعوة الإسلامية، ثم يدفعها للانسياق في إيحاءات الحياة الإسلامية ومتطلباتها، في نطاق من تعاليم الدين الجديد. فلم يكن من هدف الدين الإسلامي، ولا من هدف رسوله صلى الله عليه وسلم في شيء أن يحول بين العرب وبين الشعر، وإنما كان الهدف أن يوضع الشعر موضعه، وأن يخطط له بما يجعله ذا قيمة فاعلة في حياة المسلمين، لما كان يدركه من عمق الصلة بين حياة العرب وبينه.. وأنه لن يستطيع أن يقصر حياتهم الفنية على ما كان من إعجاز القرآن وترتيله، ومن ثم فقد آثر أن يحوله عن وجهته الجاهلية إلى هذا الأفق الجديد، فحرض الشعراء، ودعا لهم وأغراهم على السير فيه، بينما ضرب على أيدي الشعراء الذين ظلوا يعيشون بمفاهيم جاهلية، يتخذونها وسيلة لمحاربة الإسلام والتنفير منه، وإثارة الفتن والعصبيات، وإيذاء النفوس، وإشاعة البغضاء بين الناس. حمل الإسلام حملة شعواء على هؤلاء الشعراء وعلى شعرهم تجلت في سورة الشعراء، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فصورهم في صورة بشعة، ولم يستثنِ منهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا، وهؤلاء هم الذين نافحوا عن الدين، وذادوا عن العقيدة. ولم يكن من اليسير أن تتغير مفاهيم الشعر وقيمه بين ليلة وضحاها، فهذه القيم قد رافقت الشعر أجيالًا طويلة، وليس في الإمكان طرحها دَفْعَة واحدة واستبدالها بقيم إسلامية تحل محلها، وإنما احتاج الأمر إلى بعض الوقت الذي تبعد فيه الحياة تدريجيًّا عن رواسب الماضي، وتترسب هذه القيم الجديدة في النفوس رويدًا رويدًا.

_ 1 العمدة ج1، ص7.

وكان طبيعيًّا أن يخفت صوت الشعراء وإن لم يصمت، فقد ظل الشعراء المؤمنون يقومون برسالتهم في رد سهام المشركين وحماية العقيدة ونصرتها؛ إذ كانوا أعمق فهمًا لرسالة الإسلام، وأسرع استجابة لها دون غيرها. وخفت صوت الشعر أمام المثل الإسلامية الجديدة، التي تختلف تمام الاختلاف عن المثل الجاهلية التي اعتاد الشعر تصويرها والتحدث عنها، وفقد الآن حرية التعامل بقيمها وصورها وألوانها وأجوائها، وفقدت هي -من جانب آخر- طلاوتها؛ لأنها لم تعد ذكريات فاعلة عزيزة في تكوين الفرد والجماعة الجديدة داخل إطارها الجديد، وإن ظلت جزءًا من ماضيه، يأنف منه ويزدريه. ووجد الناس ما ينشدون من هذه المثل الإسلامية في القرآن الكريم، وإدمان القراءة فيه وتفهمه، وازداد صوت الشعر خفوتًا عندما أخذ اهتمام الناس ينتقل من قراءة القرآن وتفهمه ككتاب مقدس للدعوة الإسلامية إلى كتاب أدبي، يفوق بروعته وبيانه ما ورثوه من تليد الشعر، ويتجاوز سحره طاقة البشر ويطرح وراءه كل الشعراء المجيدين. فهذه طائفة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم تتبدل من عنايتها بالشعر وروايته وحفظه عناية بالقرآن فائقة، وإدمانًا في النظر الممعن فيه، وهذا لبيد يستعيض عن الشعر بسورة البقرة، وهذا علي بن أبي طالب ينصح لأبي الفرزدق بأن يحفظه القرآن، وكأنما يصرفه عن الشعر صرفًا1. وهكذا استقر في أذهان المسلمين أن أساليب القرآن تستطيع أن تسع منازعهم النفسية العميقة، وأن توحي بكثير من ألوان البيان المماثل، فوجدوا في القرآن بديلًا فنيًّا غلب الشعر على منزلته، حتى لقد صار شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ينشد في المسجد فلا يجد من يستمع إليه، ويضطر الزبير أن يهيب بهم ليستمعوا له2. فقد كان الناس عن ذلك في شغل بالقرآن الذي استأثر بهم؛ لأن فيه ما يهيج العصبيات والحزازات التي قضى عليها الإسلام.

_ 1 الأغاني "ساسي" ج19، ص9. 2 العمدة ج1، ص10.

شغل المسلمون إذن عن الشعر. ففيمَ الخلاف مع ابن سلام الذي قرر أن الإسلام شغل العرب عن الشعر؟ إن الخلاف ليس في هذا القول، وإنما فيما يقرره من أن شغل العرب كان بالجهاد وبغزو فارس والروم. فإن الحقيقة كما قررناها أن شغل المسلمين عن الشعر لم يكن إلا نتيجة لمحاولة الإسلام تغيير مفاهيم الشعر ليتفق وتعاليمه ومثله، وأن الشعر عجز عن أن يقدم للناس ما وجدوه في القرآن فخفت صوته، وإن لم تغض منابعه. ثم كانت الفتوح الإسلامية التي أذكت جذوة الشعر العربية وأطلقت الألسن من عقالها، وكأنما كان الشعر الرئة التي تنفس خلالها ما اختزن في النفوس العربية خلال هذه الفترة، فقد فتحت الفتوح أمام الشعر مجالات واسعة، ووضعت أمام الشعراء مواقف شبيهة بالمواقف التي ألفوها وألفها الشعر في الجاهلية، وإن اختلف الهدف بين المواقف اختلافًا شاسعًا، إلا أنها قد أزالت حرج الشعراء، وفتحت أمامهم أبوابًا كان طرقها محظورًا في ظلال الفكرة الإسلامية، فلا بأس على الشاعر إذا ما أشاد ببلائه وفخر بقومه ما داموا جميعًا يذودون عن العقيدة، ويبذلون الأرواح رخيصة في سبيلها. أما قبل الفتوح فإن الفخر ليس إلا انحرافًا عن حدود المهمة التي نيطت بالشعر إلى إثارة النعرات والعصبيات التي كان يجب أن تختفي ويعفى على آثارها. لا ضير في أن يشعر الفرد المسلم بما لقبيلته من مجد مؤثل في موطن بذلها في سبيل العقيدة، كما فعل نافع بن الأسود بن قطبة في الفخر ببلاء تميم من مقتلة أسد بالقادسية: وقال القضاة من معد وغيرها ... تميمك أكفاء الملوك الأعاظم هم أهل عز ثابت وأرومة ... وهم من معد في الذرا والغلاصم وهم يضمنون المال للجار ما ثوى ... وهم يطعمون الدهر ضربة لازم لذلك كان الله شرف فر ... سانها في الزمان الأول المتقادم وحين أتى الإسلام كانوا أئمة ... وبادوا معدا كلها بالجرائم

إلى هجرة كانت سناء ورفعة ... لباقيهم فيهم وخير مراغم فجاءت بهم في الكتائب نصرة ... فكانوا حماة الناس عند العظائم فصفوا لأهل الشرك ثم تكبكبوا ... وطاروا عليهم بالسيوف الصوارم لدى غدوة حتى تولوا تسوقهم ... سيوف تميم كالليوث الضراغم1 وهل كان بإمكان شاعر أن يقول مثل هذا القول في المسجد -مثلًا- وعمر بن الخطاب يمسك بأذن حسان بن ثابت ليعنفه على ما قال من شعر، شبهه بأنه رغاء كرغاء البعير2. فالأمر في رأينا لا يخرج عما كان من موقف الفروسية العربية من الإسلام، فقد وجدت فرصتها في الفتوح بعد أن ضافت بها الحياة الإسلامية فنهت عن أن يقاتل المسلم أخاه، فإن فعل فقد قاتل تحت راية عمية، وإن قتل قتل قتلة جاهلية. كذلك كان الشعر، ووجد فرصته في الفتوح، حيث يفاخر الشاعر ببلائه، وينهى به إلى امرأته أو صاحبته، ويهجو الكفرة أعداءه، ويقذع في هجائهم دون تحرج أو ضير. فكما كانت الفتوح متنفسًا للعرب المفطورين على الفروسية والنجدة والشجاعة فطرحوا فيها ما كان من بأس فيما بينهم، كذلك كانت الفتوح متنفسًا للعرب المفطورين على الشعر والفصاحة طرحوا فيها كل ما كان محظورًا عليهم في مواقف أخرى. ولا شك في أن ارتباط الفتوح بفكرة الجهاد التي تمثلت بلورة نورانية تخطف قلوب المؤمنين، كان له أثر كبير في ترسيب المثل الإسلامية في نفوس المجاهدين من الشعراء، فانطلقت ألسنتهم بما رأينا من الشعر الذي واكب عمليات الفتوح خطوة خطوة. وجدير بالذكر أن الشاعر المسلم في الفتوح قد مارس ألوان الشعر التي كانت محظورة عليه قبل الفتح في ظلال فكرة جديدة، لم تكن القبلية بحال من الأحوال، وإنما كانت فكرة الجماعة الإسلامية الكبيرة، فوقف منها موقف المدافع، وانبرى يشيد

_ 1 الإصابة ج6، ص262. 2 أغاني دار الكتب ج4، ص144.

بانتصارها على أعدائها، وحلت من وجدانه محل القبيلة الصغيرة، التي كان يفنى فيها وفي الذود عنها. وأصبح يتغنى بعواطف الجماعة الإسلامية وبوجدانها، بعد أن كان يغني عواطف القبيلة الضيقة، وصارت له شخصية فردية ذات أبعاد وحدود وملامح بارزة داخل الجماعة الكبيرة، بعد أن كان خيطًا رفيعًا في نسيج القبيلة العريض. وقد شغلت الفتوح الإسلامية المسلمين عن كل شيء في حياتهم إلا الفروسية والشعر. ولا نكون مغالين إذا قلنا: إن الفتوح لم تقم إلا بهذين المظهرين من مظاهر الحياة العربية. فكانت الفروسية سببًا في نجاح الفتح، وكان الشعر نتيجة للفتوح. وألقت الفتوح بهذا عبثًا جسيمًا على عواتق المجاهدين، استهلكت جهودهم، وشغلت حياتهم فلم تتسم لحظة بالهدوء أو بالاستقرار، وشغلوا بالانسياح في الأرض -بعد أن ضاقت بلادهم بألق إيمانهم- يتدفقون كتائب تتبعها كتائب إلى العراق وخراسان والشام ومصر وإفريقية فيصيبون توفيقًا أي توفيق يغري غيرهم، فيتدفقون سيلًا مندفعًا في تيار الفتح، وأضحت جزيرة العرب مخزنًا كبيرًا للرجال، يذخر حينًا، ويخلو في أكثر الأحيان. والمجاهدون يتعرضون لمشقات الاستنفار والتجيش، وأهوال القتال وعنف المعارك، ومع ذلك فإن الغايات الشريفة التي استشرفوها لم تقضِ على منازع الفن الشعري في نفوسهم. حقًّا لم تكن حياة العسكر تسمح لهم بالفترات التي يخلدون فيها إلى أنفسهم، ويخلون إلى ذواتهم ساعة أو بعض ساعة، يصبون فيها عواطفهم ومشاعرهم في أبيات تقصر أو تطول، وحقًّا كانت ظروف القتال لا تكاد تترك لهم لحظة هادئة، فهم بين أن يكونوا مدافعين أو مهاجمين، يتحولون من ميدان إلى ميدان، ويتركون معركة ليستقبلوا معركة. ولكنهم -على الرغم من كل هذه القسوة والقلق والتورع- نفوس تشعر وتحس، وتأمل وتحذر، وتنتصر وتهزم، فتفرح أو تشقى، وهذه المشاعر لا بد أن تجد متنفسًا لها، وتلك الطاقات النفسية لا بد أن تجد مسربًا ينفس عنها، ويحمل مواجدها وأشواقها. وهذه البيئات الجديدة التي لم يألفوها ألا تثيرهم؟ وهذه المناطق النائية ألا تذكرهم بأهليهم وأحبائهم وديارهم؟ وهذه المشاهد الغريبة ألا تؤثر فيهم؟ ومتى شغلت الحرب العربي عن الشعر؟ ألم يقترن الشعر بالحرب عند العرب على طول الأزمان والحقب؟ ألم

يجعلوا للقتال والنزاع لحنًا معينًا يوقعون عليه ضرباتهم، ويضعونه موضع الموسيقى في الجيوش الحديثة. لم يفارق الشعر العرب لحظة واحدة في الفتوح، ذلك أنه كان أداة للتحميس والدفع والاستنفار، ينطلق المجاهدون على إيقاعه الهادر إلى النصر والشهادة. وآية هذا أن الإسلام أراد أن يغير مظاهر الحياة العربية جميعها، ومنها الشعر، فحدد له قيمًا ومهمة تتفق وتعاليمه، ولم يستطع الشعر أن يواكب هذه القيم دَفْعَة واحدة، فخفت صوته إلى حين حتى كانت الفتوح الإسلامية فأذكت جذوة الشعر العربية، وأطلقت ألسنة الشعراء، وأودت بكل حرج، ووضعت أمامهم مواقف يمارسون فيها ألون الشعر التي قيدها الإسلام، وفتحت أمامهم آفاقًا واسعة، وتجارب حافلة بألوان من العواطف الجياشة والمشاعر الملتهبة.

شعراء قدماء

2- شعراء قدماء: خفت صوت الشعر، ولكنه لم يصمت تمامًا، فقد كان هناك شعراء استجابوا لدعوة الإسلام سراعًا، واستبدلوا بمفاهيم الشعر الجاهلية مفاهيم إسلامية جديدة، واستطاعوا أن يتقيدوا بمهمة الشعر التي حددتها المثل الإسلامية، وأن يكتسبوا لأنفسهم أسلوبًا أفادوه من التأثر بالقرآن الكريم، كما فعل أولئك الذين جندوا للتصدي لشعراء قريش. بينما ظلت طائفة منهم لم تسعفهم سلائقهم الشعرية بما طبعت عليه من الإلف للتقاليد الجاهلية المتأصلة بعيدة عن التأثر بهذه المثل، ومن ثم لم يتمكنوا من أن يستبدلوا بها غيرها فكان أن سكتوا عن قول الشعر، حتى كادت ينابيعه أن تغيض في وجدانهم. وكان هناك بطبيعة الحال طائفة أخرى، اختلط فيها الماضي بالحاضر، فمزجت بين ما كانت فيه وما أقبلت عليه. وقد وجد هذان النوعان في الفتوح الإسلامية منطلقًا لهم ومتنفسًا، فشارك عدد كبير منهم فيها، واحتفظت لنا الروايات بأخبارهم وأشعارهم، دون أن تؤثر في ذلك ظروف الفتح التي طمست صورة الشعراء المغمورين، الذين لم يكن لهم شهرة بالشعر من قبل. أما هؤلاء الذين نضجوا وذاع صيتهم وشهرتهم قبل الفتوح فلا نجدهم قد تأثروا بذلك إلا قليلًا، فشعرهم وإن كان أبياتًا مفردة أو مقطعات مبتسرة يتلقفه الرواة

والإخباريون والمهتمون بالشعر، متأثرين في ذلك بما لهؤلاء الشعراء من ماضٍ فني، دون نظر منهم إلى قيمة الشعر ذاته، التي اكتسبها من الظروف التي صدر خلالها. وقد شارك في الفتوح عدد كبير من الشعراء القدامى من أمثال عمرو بن معديكرب الزبيدي، وعبدة بن الطبيب، وأبي محجن الثقفي، وربيعة بن مقروم الضبي، وأبي ذؤيب الهذلي، وعمرو بن شأس الأسدي، وقيس بن مكشوح المرادي، وعروة بن زيد الخيل الطائي، والنابغة الجعدي، والشماخ، والحطيئة. وليس شك في أن شعر هذه الطبقة من شعراء الفتح يختلف عن شعر غيرهم من الشعراء، فهو شعر ناضج برغم الظروف التي شهدت مولده، وهو يمتاز عن بقية شعر الفتح بامتداد نفسه نسبيًّا، كما يظهر فيه بوضوح غلبة الفخر الفردي على الفخر بجماعة المسلمين، وكأن الشاعر الناضج يحس بنفسه إحساسًا أقوى من إحساس غيره من الشعراء المغمورين، بل أقوى من إحساسه بالمثل الدينية في أكثر الأحيان. كما أن شعرهم يتميز بميزة خاصة وهي أن فرصة الظن في انتحاله نادرة؛ إذ هناك ما يخشاه المنتحل لو عزا انتحاله إلى شاعر شهير، فإنه بذلك يضع نفسه موضع الشبهة إذا ما تكلف الدارسون بإعادة الأمور إلى نصابها بالتحليل والتدقيق، ومقارنة المنتحل بشعره المعروف له. وقد يعجب الدارس حينما يجد هذه الطبقة الممتازة من الشعراء على كثرة عددها لم تخلف في شعر الفتوح آثارًا تتناسب معها في الكم والكيف. حتى إننا إذا أردنا أن نتخذ أحدهم مثالًا للشعراء القدامى الذين أسهموا في الفتوح لم نجد أحدًا منهم جديرًا بالدراسة؛ لقلة ما خلف في ظروف الفتح. ولسنا نستطيع أن نعزو قلة شعرهم إلى ضياعه، لما سبق أن قررناه من أن شهرتهم قد حفظت شعرهم من الضياع، فوصل إلينا كاملًا، كما وصلت إلينا أخبارهم بتفاصيلها الدقيقة. فهذا عبدة بن الطبيب1 تذكر الروايات عنه أنه شهد مع المثنى بن حارثة قتال هرمز. وله في ذلك آثارًا مشهورة2، وأنه شهد الواقعة التي كانت عقب القادسية3، كما

_ 1 أخباره في الأغاني ساسي ج18، ص162، والشعر والشعراء ج2، ص705، الإصابة ج5، ص101، المفضليات ص268. 2 ابن قتيبة ج2، ص705. 3 المفضليات ص268.

يروي أنه كان في جيش النعمان بن مقرن، وأنه شهد معه حرب الفرس في المدائن1، ثم لا نجد من هذه الآثار المشهورة إلا قصيدة واحدة، وإن كانت طويلة جدًّا؛ إذ تبلغ نيفًا وثمانين بيتًا، تتنازعها هذه الروايات جميعًا بين أن تكون قد قيلت في وقعة بابل التي كانت بين المثنى وهرمز على مبعدة خمسين ميلًا من المدائن2، أو أن تكون قد قيلت في وقعة المدائن ذاتها، أو في نهاوند، حينما غزا مع النعمان بن مقرن. وقد توهم صاحب الإصابة أنها المدائن، متابعة في ذلك لصاحب الأغاني. ونحن نميل إلى أن تكون هذه القصيدة قد قيلت في وقعة نهاوند، التي وقعت بعد تمصير الكوفة التي يشير إليها الشاعر. ويجد الباحث نفسه متحيرًا أمام هذه القصيدة الرائعة، ولا ترجع حيرته إلى روعتها وإلى امتداد نفسها في مثل هذه الظروف القلقة فحسب، وإنما للحيرة أسباب أخرى. فجميع الروايات متفقة على أن هذه القصيدة من قصائد الفتح الإسلامي، وأنها قيلت في إحدى الوقائع التي شهدها الشاعر ضد الفرس، والقصيدة تشير إلى ذلك في بعض أجزائها، من مثل قول عبدة في مطلعها: هل حبل خولة بعد الهجر موصول ... أم أنت عنها بعيد الدار مشغول؟ حلت خويلة في دار مجاورة ... أهل المدائن فيها الديك والفيل يقارعون رءوس العجم ضاحية ... منهم فوارس لا عزل ولا ميل فخامر القلب من ترجيع ذكرتها ... رس لطيف ورهن منك مكبول رس كرس أخي الحمى إذا غبرت ... يومًا تأوبه منها عقابيل وللأحبة أيام تذكرها ... وللنوى قبل يوم البين تأويل إن التي ضربت بيتًا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول3

_ 1 ج18، ص163، الإصابة ج5، ص101. 2 راجع صحيفة 29 من هذا البحث. 3 المفضليات 228، 270.

وإلى هذا الحد لا موجب للحيرة، فالشاعر يتحدث عن صاحبته التي هجرته -أو هجرها- ونزحت إلى الكوفة؛ حيث جاورت المدائن التي فيها الديوك والفيول وحيث المسلمون يقارعون فوارس الفرس. وقد عاوده حبه القديم كأنه مس الحمى في مبتدئها ومنتهاها. وصاحبته هذه التي استوطنت الكوفة لا تشعر به، فقد نسيت هواه، وكأنما غالته غول.. إلى هنا لا موجب للحيرة. ثم ينتقل الشاعر من بعد إلى وصف ناقته ورحلته بعد أن تخلص فرمى نفسه بالضلال، إذا سمح للصبابة أن تشغله عن عمله، واستغرق وصفه لناقته ستة عشر بيتًا، وصفها فيها بعظم الخلقة والسرعة والقوة، في لغة جاهلية نحتت نحتًا، وتعرض في أثناء ذلك إلى وصف ما صادفه في الرحلة من القطا، ثم عاد إلى وصف الناقة، فشبهها بثور وحشي، وصفه بأنه بعيد ما بين القرنين محجل مكحول العين. ووصف القانص الذي يترصده وزوجه تنتظره وقد نام في حجرها صغير كالقرد، وهذا القانص يغري كلابه الضارية المدربة، ثم يصور المعركة التي نشبت بين الثور والكلاب تصويرًا رائعًا برغم ما يكتنف ذلك من صعوبة اللغة وتقعرها. ووصف بعد ذلك خروج الحيوان متأثرًا من المعركة، يستقبل الريح كأنه السيف المسلول، ويصور إعياءه بعد أن صرع الكلاب طعنًا في صدورها فأنهك، لكنه يستشعر الظفر والانتصار فيجري، وآثار المعركة بادية عليه، ودماء ضحاياه تلوث وجهه، وقد تدلي لسانه عن شمال شدقه، ويجري فيثير جريه النقع، ولكنه يبرك ثانية حتى يكل فرجه من ارتطامه بالحصى. وقد استغرق الشاعر في وصف هذه المعركة عشرين بيتًا، انتقل بعدها إلى وصف منهل دل عليه رفاقه في الرحلة، وكان الماء قد نفد فوردوا، وقد ران عليهم النعاس من الإجهاد. ثم قالوا حد الظهيرة، وبعد ذلك رفعوا أرديتهم. وصاروا يعدون اللحوم للطعام ما بين ورد وأشقر، وفار باللحم للقوم المراجيل، وأكلوا ثم مسحوا أيديهم في مناديل من أعراف خيولهم الجرد المسومة. ويستغرق هذا المشهد سبعة أبيات، يتحدث في آخرها عن الخيول، ثم يعود كرة أخرى إلى وصف العيس التي ارتحلوا عليها. ويعود بعد ذلك إلى حديث يذكرنا بالأبيات التي أسلفنا، ذلك أنها تنصرف فيما انصرفت فيه تلك الأبيات من تصوير الجهاد، وهي كذلك رقيقة في لغتها حيث يقول:

نرجو فواضل رب سيبه حسن ... وكل خير لديه فهو مقبول رب حبانا بأموال مخولة ... وكل شيء حباه الله تخويل والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل1 ثم انصرف عبدة بن الطبيب إلى وصف جرأته ومغامراته التي أفزع بها الوحوش في هدأتها، وطروقه القفار والأهوال بجواده المتكامل الخلقة، الذي تميزه سيقانه القوية السريعة المقتدرة. واستغرق هذا المشهد تسعة أبيات راح يصف بعدها طروقه لحوانيت الخمارين، مع صياح الديك، ومع رفيق ضليل مثله أعداه بلذاته وخرقه، جاد إذا حزبه الأمر، مخالط للهو واللذات، وفي هذا الحانوت بسطت لهما الفرش المزينة بالتصاوير الرائعة للدجاج والأسد، في جو رائع؛ حيث ترسل ذبالة ضوئها فترى الزق معدًا، وآثار العراك باقية، والأكواب موضوعة، والأباريق مصفوفة، والريحان مجهزًا، وأكوابًا مترعة، والزبد طاف فوقها، والشواء يسعى به متمنطق عجول؛ حيث أعد الخوان وفوقه التوابل، واصطبح الشاعر بما شاء من طيب الراح، وتابع الشرب صرفًا وممزوجة على الريحان، وعلى شعر مذهب لآنسة جيداء، صوتها ترتيل، تغدو على الشرب وتروح، فتلهيهم تارة وتارة أخرى يحاصرونها، ويلقون عليها بردهم وسراويلهم إعجابًا. هل أمام الدارس إلا أن يقف محيرًا أمام هذه القصيدة الرائعة؟ وعلامَ الحيرة؟ إن تلك الأبيات التي أشرنا إليها قد قيلت في الفتح، وما عداها لا يمكن أن يكون من شعر الفتح، أو من الشعر الإسلامي ألبتة والقصيدة إذن جزآن واضحان ومختلفان في مدلولهما وصياغتهما، أحدهما إسلامي، والآخر جاهلي. وليس ببعيد أن يكون أحد الرواة قد مزجهما في قصيدة واحدة على هذا الشكل الذي نراها عليه، وروتها به الروايات. والذي يجعلنا نميل إلى هذا الرأي ما نراه من شبه في الصياغة الفنية لهذه الأبيات الإسلامية في القصيدة، وفي قصيدته الإسلامية التي يُوصي فيها ابنه ويقول في ختامها:

_ 1 المفضليات 286.

ولقد علمت بأن قصرى حفرة ... غبراء يحملني إليها شرجع فبكى بناتي شجوهن وزوجتي ... والأقربون إلى ثم تصدعوا وتركت في غبراء يكره وردها ... تسفي على الريح حين أودع فإذا مضيت إلى سبيلي فابعثوا ... رجلًا له قلب حديد أصمع إن الحوادث يخترمن وإنما ... عمر الفتى في أهله مستودع يسعى ويجمع جاهدًا مستهترا ... جدا وليس بآكل ما يجمع حتى إذا وافَى الحمام لوقته ... ولكل جنب لا محالة مصرع نبذوا إليه بالسلام فلم يجب ... أحدا وصم عن الدعاء الأسمع1 فهذه سهولة إسلامية، ومعانٍ تحمل ظلال الأفكار الإسلامية، شبيهة بحديثه عن العيش في أبيات لاميته. فنفس الروح الحكيمة جلية في الموضعين هذين، ولا يمكن أن يكون هو الذي يتحدث عن اللهو والشراب والطرب في الإسلام، وهو الذي يقول في نصيحة بنيه: أوصيكم بتقى الإله فإنه ... يعطي الرغائب من يشاء ويمنع وببر والدكم وطاعة أمره ... إن الأبر من البنين الأطوع2 وعدا تلك الأبيات التي تتحدث عن خولة ورحيلها إلى الكوفة، وحرب الفرس، وابتغاء فواضل الله لا نعرف لعبدة شعرًا في الفتح. واشترك في الفتوح من الشعراء القدامى ربيعة بن مقروم الضبي3، من شعراء مضر المعدودين، وهو مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وعمر طويلًا في

_ 1 المفضليات 301، 302. 2 المفضليات 297. 3 أخباره وشعره في الأغاني "ساسي" ج19/ 90، والخزانة ج3، ص564، والشعر والشعراء 1/ 279، والإصابة ج2/ 220، والمفضليات 268، 355، والحيوان ج1، ص347، 6/ 427، 7/ 263.

الإسلام1. وتذكر الروايات أنه شهد القادسية وجلولاء2، كما تذكر أنه كان سجينًا لدى كسرى المشقر قبل الإسلام3. كما يذكر ابن حجر صاحب الإصابة أن له شعرًا في القادسية4. وكل ما يروى له من شعر في الفتوح لاميته المطولة، التي يتحدث فيها عن معركة الفيول. ونرانا مضطرين إلى أن نقارن بين هذه القصيدة ولامية عبدة بن الطبيب التي أشرنا إليها. ذلك أن ظروفهما تكاد تكون واحدة، وهي تسير على هذا النمط: شماء واضحة العوارض طفلة ... كالبدر من خلل السحاب المجتلي وكأنما ريح القرنفل نشرها ... أو حنوة خلطت خزامى حومل وكأن فاها بعدما طرق الكرى ... كأس تصفق بالرحيق السلسل لو أنها عرضت لأشمط راهب ... في رأس مشرفة الذرا متبتل جآر ساعات النيام لربه ... حتى تخدد لحمه مستعمل لصبا لبهجتها وحسن حديثها ... ولهم من ناموسه يتنزل5 وبعد هذه المقدمة الغزلية يبدو الشاعر وكأن غزله ساقه إلى تذكر ما كان في صباه، فيقارن بين ماضيه وحاضره، وتصيبه الحسرة إذ طعن في السن، وغزا الشيب لمته، وانحنى ظهره، وأضحى يدب دبيبًا كمن يخاتل صيدا عن نفسه، فيتذكر ما كان يصبي الغواني من صباه وميعته.. فيقول: بل إن ترى شمطاء تفرع لمتي ... وحنا قناتي وارتقى في مسحل ودلفت من كبر كأني خاتل ... قنصا ومن يدبب لصيد يختل

_ 1 الأغاني "ساسي" ج19، ص90. 2 ابن قتيبة 1/ 279، والخزانة ج3، ص564. 3 الأغاني 19/ 90، الإصابة ج2، ص220. 4 الإصابة ج2، ص220. 5 الخزانة ج3، ص565، 566، الأغاني ساسي 19/ 90.

فلقد أرى حسن القناة قويمها ... كالنصل أخلصه جلاء الصيقل أزمان إذ أنا والجديد إلى بلى ... تصبى الغواني ميعتى وتنقلي1 يدلف من ثم إلى الفخر بمهارته وبراعته في القتال، وشهوده الحرب، وطراد الخيل بفرس سليم أوظفة القوائم هيكل، سباق لأوابد الجياد، يجري منه الحميم، ويهوي بصاحبه هوى الصقر، وينتقل إلى الحديث عن جسارته هو، فهو مقدام، لا يكاد يسمع دعوة للنزال حتى يكون أول نازل، وهو جماع للمال، ودخال لأبنية الملوك، وهو لا يغالي في هذا القول، فشر ما قاله المرء ما لم يفعله، وهو أريب بارع يجيد خدع النزال، فقد يكون خصمه حنقًا، يغلي صدره بعدواته، فإذا به يحاوره ويداوره حتى يتبين منه غرة فيكويه على نواظره.. يقول: ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل ولقد جمعت المال من جمع امرئ ... ورفعت نفسي عن لئيم المأكل ودخلت أبنية الملوك عليهم ... ولشر قول المرء ما لم يفعل ولرب ذي حنق على كأنما ... تغلي عداوة صدره كالمرجل أرجيته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل2 وتُروى هذه الأبيات الأخيرة مضافًا إليها أبيات أخرى في بعض الروايات، تقول: ودخلت أبنية الملوك عليهم ... ولشر قول المرء ما لم يفعل وشهدت معركة الفيول وحولها ... أبناء فارس بيضها كالاعبل متسربلي حلق الحديد كأنهم ... جرب مقارفة عنية مهمل3 وهذه الأبيات هي التي يمكن أن تكون قد قيلت في الفتوح، ويبدو من إفرادها برواية مختلفة عن القصيدة لاختلاف مدلولاتها عن بقية القصيدة أن القصيدة جاهلية فيما

_ 1 الخزانة ج3، ص565، 566، الأغاني ج91/ 93. 2 المرجع نفسه. 3 الحيوان ج7، ص263، المفضليات ص268.

عدا هذه الأبيات، فهل ينزلق بعد ذلك إلى الحديث عن مغامراته اللاهية من أجل الشراب والعبث، فهو عتيق في هذا اللهو، يفتن صديقه الزميت حتى ليجعله يضرب بعذل العذال عرض الحائط فيتبعه، ويعصاهم ويطيع لذته. وصديقه شريف الحسب، يذهب إليه الشاعر فينبهه في الصباح أو قبل أن ينبلج الصباح ليأتيا حانوتًا من حوانيت الخمارين؛ حيث يصطحبان فيه معتقة لم يقتل عنفوانها الماء، ولا يزالان يسقطان على هذه الحوانيت حتى تفرغ حاجتهما إلى اللذة. وعندما ينتشي الشاعر تهاجمه الذكريات فيتحسر على سنوات عمره المائة، التي أضاعها سنة إثر سنة، والدهر يبلي كل جدة مبذل. فيقول: وأخي محافظة عصى عذاله ... وأطاع لذته معم مخول هش يراح إلى الندى نبهته ... والصبح ساطع لونه لم ينجل فأتيت حانوتًا به فصبحته ... من عاتق بمزاجها لم تقتل صهباء إلياسية أغلى بها ... يسر كريم الخيم غير مبخل ومعرس عرض الرداء عرسته ... من بعد آخر مثله في المنزل ولقد أصبت من المعيشة لينها ... وأصابني منه الزمان بكلكل فإذا وذاك كأنه ما لم يكن ... إلا تذكرة لمن لم يجهل ولقد أتت مائة عليَّ أعدها ... حولا فحولا إن بلاها مبتلى فإذا الشباب كمبذل أنضيته ... والدهر يبلي كل جدة مبذل1 ويخوض بعد ذلك في فخر قبلي صرف بكرم قومه وقراهم الضيف، وتأدية المعروف في غير تنحل، وشجاعتهم وحلولهم الثغور المخوقة، وإعانتهم لذي الغرم، ومنعهم الجار، ورفعهم لذكرهم في كل محفل، ويبذلهم عن سعة، ويشيد بخطباء قومه الفصحاء، وسعة حماهم، وقيامهم بحمولة المقل.

_ 1 الخزانة 3/ 566.

وهكذا تبدو واضحة جاهلية هذه القصيدة التي تذخر بالمدلولات الجاهلية، من الغزل الحسي، إلى وصف الفرس، والإشادة بجسارة الشاعر إلى سرد مغامراته الليلية في علب الليل، إلى الفخر القبلي الصرف بالكرم والشرف والسؤدد، بينما تبدو الأبيات التي أفردتها بعض الروايات بين هذه المدلولات الجاهلية -غريبة وقلقة في موطنها، مما يؤكد ما ذهبنا إليه، من أن هذه القصيدة قد صنعت هي الأخرى عن عهدين مختلفين، ومزجتهما الروايات بهذه الصورة، وخلافًا لهذه الأبيات التي تتحدث عن معركة الفيول، والتي نرجع أنها قيلت في القادسية1، لا نعرف لربيعة بن مقروم الضبي شعرًا في الفتوح. ومن الشعراء القدامى الذين شهدوا الفتوح أبو محجن الثقفي، ذلك الفارس المعدود في أولي البأس والنجدة2، وصاحب البلاء يوم أرماث بالقادسية. وتذكر الروايات خلافًا كبيرًا في خروجه إلى الغزو، فيذهب بعضها إلى أنه حد في الخمر مرارًا، ولم ينته فنفاه عمر بن الخطاب إلى جزيرة في البحر، وأرسل معه حرسًا تمكن من الخلاص منه، ثم التحق بسعد بن أبي وقاص في القادسية3. بينما تذهب بعض الروايات إلى أنه خرج غازًا مع سعد لحرب الأعاجم، فكان يؤتى به شاربًا، فحبسه سعد في القادسية4، كما تروي أخبار أخرى في سبب نفيه مختلفة عن هذه الأسباب، التي أوردنا من أنه هوي امرأة يقال لها: "شموس" واحتال في النظر إليها وتغزل فيها فاستعدى زوجها عليه الخليفة، فنفاه، وهرب من حارسه ليلحق بسعد5. ولكننا لا نقبل هذه الروايات جميعًا، في خروجه، وكيفية التحاقه بسعد، فمن المؤكد أنه شهد معارك قبل القادسية، وروي له فيها شعر، كالذي أوردناه في يوم الجسر، وكان قد شهد هذه الواقعة مع بني أبيه من ثقيف، في جند أبي عبيد الثقفي6.

_ 1 الحيوان ج1، ص347. 2 أخباره وشعره في الأغاني "ساسي" 21/ 136، ابن قتيبة ج1، ص387، الخزانة ج3، ص550، والإصابة ج7، ص170. 3 الأغاني ج21، ص138. 4 الأغاني ج21، ص140. 5 الأغاني ج21، ص138. 6 الأغاني 21/ 141، والخزانة ج3، ص550، وابن قتيبة ج1، ص387.

ومهما تختلف الروايات في أمر خروجه للغزو فإنها تتفق في مجموعها على رواية حبسه بالقادسية، واستعطافه زوج سعد أن تلطقه، حتى يشترك في القتال بشعر يكشف عن ولوعه بالحرب وبلائه فيها، كما تتفق جميعها على أفاعيله العجيبة يوم أرماث، حتى ليدخل عمله في إطار الأسطورة. ويُروى أنه لما عاد من القتال ليضع رجليه في القيد كما تعهد لزوج سعد قابلته امرأة في الطريق فظنته لعجلته فارًّا منهزمًا، فأنشأت تقول: من فارس كره الطعان يعيرني ... رمحا إذا نزلوا بمرج الصفر فأجابها أبو محجن: إن الكرام على الجياد مبيتهم ... فدعى الرماح لأهلها وتعطري1 ولما عاد ورجع إلى محبسه أنشأ يقول: لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا وأكثرهم دروعًا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا وأنا رفدهم في كل يوم ... فإن جحدوا فسل بهم عريفا وليلة قادس لم يشعروا بي ... ولم أكره لمخرجي الزحوفا فإن أحبس فقد عرفوا بلائي ... وإن أطلق أجرعهم حتوفا2 وتُروى في الخزانة أبيات لم ترد في ديوانه عن بلائه في القتال، تقول: لما رأينا خيلا محجلة ... طرنا إليهم بكل سهلبة وقوم بغى في جحفل لجب ... وكل صافي الأديم كالذهب وكل عراصة مثقفة ... فيها سنان كشعلة اللهب وكل عضب في متنة أثر ... ومشرفي كالملح ذي شطب

_ 1 المرجع السابق. 2 الأغاني ج21، ص140.

وكل فضفاضة مضاعفة ... من نسج داود غير مؤتشب لما التقينا مات الظلام ودا ... ر الموت دور الرحى على القطب فكلنا يستكيض صاحبه ... عن نفسه والنفوس في كرب إن حملوا لم نرم مواضعنا ... وإن حملنا جثوا على الركب1 وهي أبيات فريدة في وصف أسلحة المسلمين، وتصوير بلائهم، لا نجد لها شبيهًا في كل ما لدينا من شعر الفتوح. كما تُروى له أبيات قالها في محبسه لزوج سعد، عندما سألته: فيمَ حبسه سعد؟ فأجاب: والله ما حبسني في حرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، فينفثه أحيانًا، ولأني قلت: إذا مت فادفنى إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها ليروي بخمر الحص لحمي فإنني ... أسير لها من بعد ما قد أسوقها2 وهذه رواية نميل إليها، وإن كنا نلاحظ عليها شيئًا، فغير معقول أن يعاقر أبو محجن الخمر في ميدان القتال، كما ذهبت إلى ذلك بعض الروايات، كما أنه لا يمكن أن نتصور أن يحبس سعد شاعرًا لأبيات قالها، وإن كنا نعتقد أن أبا محتجن صادق فيما قاله لزوج سعد، من ممارسته للخمر في الجاهلية وإقلاعه عنها فيما بعد ذلك. والذي نراه أن سعدًا قد حبس الشاعر في حقيقة الأمر لسبب خفي وإن كان احتج بشعره في الخمر ليدينه به، فأما هذا السبب فهو شغب أبي محجن مع غيره من وجوه القوم قبل بدء القتال في القادسية، ونسبتهم سعدًا إلى الجبن، عندما قعد عن قيادة المعركة بسبب ما ألم به من المرض. ومما يؤكد هذا اقتران حبس الشاعر بقصته مع سلمى زوجة سعد وأرملة المثنى، في نفس الليلة التي نسبت فيها سلمى هي الأخرى قعود

_ 1 الخزانة ج1، ص556. 2 الأغاني ج21، ص140.

زوجها إلى الجبن، وما كان من ندائها: "وامثنياه ولا مثنى للخيل اليوم" فلطمها سعد وأغضبها، فقالت: أجبنا وغيرة؟ وباتت مغاضبة له ليلة أرماث وفيها أطلقت أبا محجن ثم قصت خبره معها على سعد بعد أن صالحها1. والطبري يصرح في رواية له بأن سعدًا حبس أبا محجن وسواه؛ لأنهم اختلفوا عليه وشغبوا2. أما ما يذكر عن حده في القادسية وشعره الذي يصر فيه على الخمر، ففي رأينا أنه نتيجة لما أحاط بقصة أبي محجن من التأثيرات الشعبية، والتزيد في أخباره كما سنرى فيما بعد. ولنا أن نلاحظ على شعر هؤلاء الشعراء القدامى في الفتوح برغم قلة ما وصل إلينا منه قلة التأثيرات الإسلامية، كما يتضح فيما عرضنا له من شعرهم، وما سنعرض له لدى دراستنا لنموذج منهم وهو: عمرو بن معديكرب الزبيدي. على حين نجد بعض الشعراء القدامى قد امتلأ شعرهم بهذه التأثيرات مثل: النابغة الجعدي، وعروة بن زيد الخيل، وقد ادخرنا الحديث عنهما إلى حين، عندما نعرض للطوابع الإسلامية في شعر الفتوح. وفضلًا عن هؤلاء وأولئك نجد بعض الشعراء القدامى الذين اشتركوا في الفتح لم يخلفوا لنا شيئًا من شعرهم في هذا السبيل، مثل: الحطيئة والشماخ.

_ 1 الأغاني ج214، ص140. 2 الطبري ج5، ص2288، ابن سلام، 226.

شعراء أنطقتهم الفتوح

3- شعراء أنطقتهم الفتوح: أذكت الفتوح الإسلامية جذوة الشعر العربية، التي خبت حينًا، وقد وجدت وقودًا غذاها فذكت، وانطلق الشعر على ألسنة المحجمين من الشعراء المتحرجين، فقد فتحت لهم الفتوح أبوابًا كثيرًا يدلفون خلالها من قواقعهم، إلى حيث يمارسون التعبير عن ذواتهم، في ظلال فكرة الجهاد التي اجتذبهم لألاؤها فاندفعوا إلى الميادين؛ حيث وضعوا فروسيتهم وشاعريتهم في خدمة الفكرة الإسلامية. ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، فإن شعراء آخرين بدءوا يظهرون على مسرح الشعر، وإن كانت أدوارهم لا تسمو إلى أدوار الشعراء القدامى مع أن شعرهم أكثر فاعلية في أداء مهمة الشعر في المعركة، ويدهش الباحث أمام كثرة الشعراء من هذا القبيل، حتى ليخيل إليه أن الفاتحين جميعًا قد استحالوا شعراء في الفتوح، خاصة في الميدان الشرقي. وهؤلاء الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح ينقسمون في تصورنا قسمين؛ أولهما: طائفة من الشعراء المغمورين، الذين لم يذع لهم شعر فيما قبل اشتراكهم في المعارك، ولم يذع ذكرهم أيضًا قبل ذلك. وقد وجد هذا القبيل فرصته في الفتوح؛ إذ سارت بشعره الركبان، وسجل اسمه في ذاكرة العرب. وظهرت أسماء جديدة طالعتنا في كتب التاريخ والمغازي لا بريق لها ولا ألفة لدينا، كالأسود بن قطبة التميمي، والقعقاع بن عمرو، وأخيه عاصم، وحسان بن المنذر بن ضرار الضبي، والأعور العبدي الشني، ونافع بن الأسود بن قطبة التميمي، وضرار بن الخطاب، وعمرو بن مالك الزهري، وكثير بن الغريزة النهشلي، وغيرهم. كان هؤلاء شعراء قليلي الحظ من الشهرة والذيوع، ولم يكن لهم في ماضيهم الفني رصيد يمكن لشخصياتهم الأدبية أن تبقى في الميدان نامية الجوانب، وأن يحافظ على ذواتهم من الانطماس والضياع، هذه المحافظة التي توفرت لشخصيات الشعراء القدامي. وبرغم هذا فإن دور هؤلاء الشعراء في شعر الفتوح هذ الدور الرئيسي، فكثرة الشعر الذي يروى في الفتوح ينسب إليهم. وقد عبروا عن ذواتهم، ومشاعرهم، وأحاسيسهم في المواقف المختلفة التي مرت بهم تعبيرًا بسيطًا، أصيلًا، حارًّا وصادقًا، ويلاحظ الدارس أن شعرهم مقطعات صغيرة متماسكة، تعبر عن موقف واحد، شأن شعر الفتوح كله، وتعتبر برغم قصرها هذا أكثر كمالًا وتماسكًا من غيرها من شعر الفتوح. والقسم الثاني من هؤلاء الشعراء يشكلون ظاهرة مهمة جديرة بإنعام النظر، وهم أولئك الشعراء الذين لم يكونوا في الأصل يرتبطون بالشعر في قليل أو كثير؛ ذلك أنهم لم يكونوا ينطمون الشعر أو يعنون به ولكنهم حملوا السلاح وخاضوا المعارك، فإذا بنفوسهم تفيض بالبيت أو بالبيتين أو بالمقطوعة القصيرة تسرية وتنفيسًا وحثًّا لنفوسهم وتحميسًا. وهؤلاء يمثلون السواد الأعظم من الفاتحين، وشعرهم ليس إلا استجابة حرة

وطليقة لتجاربهم وتأثرهم بمواقفهم النفسية الحافلة بالمشاعر والعواطف. ولذا يغلب عليه الرجز العفوي الحار، الذي يصدر عنهم وهم يستقبلون خصومهم، وكأنهم يدقون طبول الحرب مشجعين لأنفسهم، أو هم يتنادون، كل ينادي قبيلته أو جماعته. وأكثر هؤلاء الفاتحين المعبرين عن أنفسهم من الجند العاديين، الذين لم يكن متوقعًا منهم أن يعبروا بالشعر عن أنفسهم، ولكنهم أمام روعة الأحداث، والتهاب المشاعر، وجيشان العاطفة لم يملكوا أن يصمتوا، ففاض الشعر على ألسنتهم صادرًا من وجدانهم في عفوية حارة وصادقة، وقد جنت على هؤلاء الشعراء وعلى شعرهم شخصيتهم المنكورة، فاختلط بينهم شعر كثير. ولم ينسب إلى أصحابه قدر كبير منه، فإذا نحن أمام عبارات تتردد لا تحمل دلالة على الشاعر، وإن كانت تجعلنا نشعر أنه شعر شاعر من هؤلاء العاديين من الجند، كـ: قال أحد المسلمين، أو: قال أحدهم، أو: ارتجز راجز، وهكذا. ولحسن الحظ حفظت لنا الروايات أسماء بعض هؤلاء، من مثل: أبي أحيحة القرشي، وبشر بن ذريح الثعلبي، وعصام بن المقشعر، وبشر بن ربيعة، والأشعث بن عبد الحجر بن سراقة، وجندب بن عمار، وعلياء بن جحش العجلي، والأعرف بن العلم العقيلي، وغيرهم كثيرون. ولعل في أبناء الخنساء الأربعة، وما جاش على ألسنتهم من رجز دافئ في القادسية خير مثال لهؤلاء. وكذلك هؤلاء المحاربون الجرحى الذين اجتمعوا حول نخلة القادسية يناجونها وقد رقت مشاعرهم وهفت نفوسهم إلى أهليهم وديارهم شعرًا بسيطًا معبرًا، وإن ضاعت أسماء بعضهم، فيروى البيت الأول لبجير "كذا"، والآخر لرجل من تميم، والثالث لغيلان، أخي بن ضبة، وهكذا. وقد أدت ظروف القتال وتشابه ظروفهم وكثرتهم إلى انطماس شخصياتهم فيما يروى لهم من شعر، واختلاط نسبة المقطعات بينهم. فمثلًا يروي صاحب الأغاني مقطوعة رائعة، تفخر ببلاء صاحبها يوم القادسية على هذا النمط: أنخت بباب القادسية ناقتي ... وسعد بن وقاص عليَّ أمير وسعد أمير شره دون خيره ... وخير أمير بالعراق جرير وعند أمير المؤمنين نوافل ... وعند المثنى فضة وحرير

تذكر هداك الله وقع سيوفنا ... بباب قديس، والمكر عسير عشية ود القوم لو أن بعضهم ... يعار جناحي طائر فيطير إذا ما فرغنا من قراع كتيبة ... دلفنا لأخرى كالجبال تسير ترى القوم فيها أجمعين كأنهم ... جمال بأجمال لهن زفير1 وواضح أن هذه الأبيات لجندي من جنود القادسية، يفضل فيها جرير بن عبد الله البجلي على سعد بن أبي وقاص، ويشيد بالمثنى، وكأنه يزري بسعد. وتُروى هذه الأبيات لبشر بن ربيعة الخثعمي، صاحب جبانة بشر بالكوفة، وصديق عمرو بن معديكرب2. ولكن صاحب الإصابة ينسب بعض هذه الأبيات إلى آخر يدعى: بشر بن ربيعة بن أبي رهم الجهمي3، ويروى البيت الأول منها لشاعر يدعى: بشر بن ربيعة بن منارة الخثعمي4، على حين ينسبها صاحب فتوح البلدان إلى بشر بن ربيعة الخثعمي، مضيفًا إليها عدة أبيات، في مطلعها تقول: ألم خيال من أميمة موهنا ... وقد جعلت أولي النجوم تغور ونحن بصحراء العذيب ودارها ... حجازية إن المحل شطير ولا غرو إلا جوبها البيد في الدجى ... ومن دوننا رعن أشم وقور5 ويضيف إليها ياقوت بعد البيتين الأولين هذا البيت: فزارت غريبًا نازحًا جل ماله ... جواد ومفتوق الغرار طرير6

_ 1 أغاني "ساسي" ج14، ص39. 2 نفس المرجع. 3 الإصابة 1/ 177. 4 نفس المرجع. 5 البلاذري ص262. 6 ياقوت ج4، ص7.

كذلك يلاحظ الدارس أن جل هؤلاء الشعراء من النزاريين، وليس بينهم إلا فيما ندر عرب من أهل اليمن، وأنهم جند العراق وما وراء العراق في الغالب الأعم، وهذا أمر متوقع، فنحن نعرف للنزاريين طبعًا شعريًّا واستعدادًا متهيئًا للشعر، لا يتيسر لعرب الجنوب، مما جعل الشعر يتدفع على ألسنتهم كاستجابة تلقائية لما يحسون ويشعرون. وهناك شيء يلفت الدارس لفتًا، فإن بعض هؤلاء الذين انطلق الشعر على ألسنتهم ولم يكن لهم به عهد أو كلف أمراء مشهورون، وقواد عظام، لم نكن نتوقع إطلاقًا أن يعبروا عن أنفسهم هذا التعبير الفني، من مثل: خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، والمثنى بن حارثة، وجرير بن عبد الله، وطليحة بن خويلد، والربيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، والنعمان بن مقرن وأخيه نعيم، والأحنف بن قيس، وهاشم بن عتبة، وزهرة بن حوية، والحكم بن عمرو التغلبي، وسلمى بن القين، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وأبو ليلى بن فدكي، وغيرهم، وهم جميعًا قواد، أو أمراء للجند، أو أصحاب أمداد وألوية. فما إن يتوجه أحدهم على رأس لواء لفتح بلدة أو كورة حتى تجيش بنفسه مشاعر الفداء والتضحية، وما إن تسقط في يده حتى يستشعر مشاعر النصر والغبطة، فينطلق الشعر على لسانه في تعبير تلقائي بسيط، ولكنه يكشف عن ذاته وما يعتلج فيها من أحاسيس. وهكذا يخيل للدارس أن الفاتحين جميعًا قد استحالوا شعراء، حتى لم يبقَ أحد منهم لم يسهم في تصوير الفتوح الإسلامية. وسوف نرى نموذجين لشاعرين من شعراء الفتح، أحدهما شاعر قديم والآخر شاعر مغمور، خلقت منه الفتوح شاعرًا ناضجًا، حتى ليستحق أن يلقب بشاعر الفتح الإسلامي.

الفصل الثاني: عمرو بن معد يكرب الزبيدي

الفصل الثاني: عمرو بن معديكرب الزبيدي 1- حياته وإسلامه وخروجه للجهاد: هو فارس زبيد، وشاعرها قبل الإسلام وبعده، ويُكنى: أبا ثور، واسمه: عمرو بن معديكرب الزبيدي، وينتهي نسبه إلى زبيد، فهو قحطاني الأصل، ويدعوه أبو عبيدة: فارس اليمن، ويقدمه على زيد الخيل في الشدة والبأس1. وهو ابن خالة الزبرقان بن بدر، وخال قيس بن مكشوح المرادي، الشاعر الفارس2. ويبدو أن أباه كان سيدًا وجيهًا في قومه، ومن ذوي الرياسة والزعامة فيهم، وكان معروفًا بالنجدة والفروسية، وأمه امرأة من جرم، من قضاعة، من بني الحارث بن كعب، وكانت قد ارتحلت مع قومها إلى بني زبيد، هربًا من ثأر لبني الحارث3. ونشأ عمرو في حجرها نشأة لاهية عابثة، واشتهر في صباه بالانصراف إلى الشراب والنهم، فلم يتوسم فيه أبوه خيرًا، وأطلق عليه لقب: المائق؛ أي: الأحمق الذي لا رجاء فيه، فكان أن عرف بمائق بني زبيد4. وتعرض عمرو في شبابه لتجربة صعبة، صقلته وعجمت عوده، وحققت أخيرًا ذاته، فرسخت مكانته في قومه، وهي تجربة شبيهة بالتجربة التي صهر خلالها أسود بني عبس وامرؤ القيس. فقد حدث أن شنت قبيلة خثعم غارة على بني زبيد، فأخذ أبوه يجمع قومه استعدادًا لصدها، وجاء عمرو إلى أخته فقال: "أشبعيني فإن غدًا الكتيبة"، وجاء أبوه فأخبرته ابنته بما كان من عمرو، فكأنما استكثر عليه أبوه اهتمامه بالكتيبة في غده، واستعداده لها، فقال: هذا المائق يقول ذلك سليه ما يشبعه فقال: فرق من ذرة، وعنز رباعية، وكان الفرق يومئذ ثلاثة آصاع. فصنع له ذلك، فأتى عليه جميعه ثم نام.

_ 1 الأغاني "الساسي" ج14، ص24. 2 المرجع السابق وابن قتيبة ج1، ص232. 3 الخزانة ج3، ص422. 4 الأغاني ج14، ص24.

وفي الصباح أتتهم خثعم مغيرة، واشتد القتال بين القبيلتين، واستيقظ عمرو من نومه فنظر فرأى لواء أبيه مرفوعًا، فركن إلى النوم، وبعد فترة رفع رأسه ثانية فإذا بلواء أبيه قد نزل، فهَمَّ مندفعًا يريد المعركة. وفي الطريق لقي أباه منهزمًا، فقال له: انزل عن فرسك فاليوم ظلم، فقال له أبوه: إليك يا مائق، ولكن جمعًا من العشيرة نصحوا معديكرب بأن يخلي بينه وبين طلبته، فإن قتل كفى مؤنته، وإن ظهر كان شرفًا له، فألقى أبوه إليه سلاحه، فركب وظل يرمي خثعمًا بنفسه حتى خرج من بين أظهرهم ثم كر عليهم، وفعل ذلك مرارًا، فحملت زبيد، وهُزمت خثعم، واستحق عمرو يومئذ أن يلقب بفارس زبيد1.ويصبح عمرو وكأنما اشترى نفسه وكرامته بهذه التجربة التي غيرت وضعه في قومه، وجعلته فارسهم بلا منازع. وأخذت أخباره تذيع، ووقائعه ومغامراته تترى بعد ذلك، حتى أصبح معلومًا أنه لا يخشى أحدًا من أبطال العرب وفرسانهم، وكان يقول في ذلك: "لو سرت بظعينة وحدي على مياه معد كلها ما خفت أن أغلب عليها، ما لم يلقني حراها أو عبداها، فأما الحران: فعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأما العبدان: فأسود بني عبس -يعني عنترة- والسليك بن السلكة، وكلهم قد لقيت، فعامر سريع الطعن على الصوت، وعتيبة أول الخيل إذا غارت، وآخرها إذا آبت، وعنترة قليل الكبوة شديد الجلب، والسليك بعيد الغارة"2. وقد تحدث عنه فرسان العرب حديثًا شبيهًا بحديثه عنهم، فعندما سئل: ماذا نقول في العباس بن مرداس؟ قال: أقول فيه ما قال في: إذا مات عمرو قلت للخيل أوطئوا ... زبيدًا فقد أودى بنجديها عمرو3 وقد هيأت له خلائقه الجسمانية إلى جانب ما يتمتع به من شجاعة وجرأة وحب للمغامرة أن يكون الفارس الذي لا يفضل عليه فارس من العرب4، ذلك أنه كان ذا

_ 1 الأغاني ج14، ص24، 25. 2 الأغاني ج14، ص27. 3 المرجع السابق. 4 الإصابة ج5، ص2.

قوة خارقة وضعته بين الأبطال الأسطوريين، فرويت عنه في ذلك روايات طريفة، تدل على شدته وضخامته ونهمه، من مثل ما يروى من أن رجلًا جاءه وهو واقف على فرس له بالكناسة بعد أن جاوز المائة، فقال الرجل في نفسه: لأنظرن ما بقي من قوة أبي ثور، وأدخل يده بين ساقيه وبين السرج، وفطن عمرو فضمهما عليه وحرك فرسه، فجعل الرجل يعدو مع الفرس، وهو لا يقدر أن ينتزع يده، حتى إذا بلغ منه، قال عمرو: يابن أخي، ما لك؟ قال: يدي تحت ساقك، فخلى عنه وقال له: يابن أخي، إن في عمرك لبقية1. وكان عمر بن الخطاب إذا رآه يقول: الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمرًا، تعجبًا من عظم خلقه2. وتروى له حادثة مع عمر تدل على أن نهمه لم يفارقه في شيخوخته، إذا انطلق مرة إلى المدينة وجاء عمر في مسألة، فإذا به يغدي الناس، وقد جفن لعشرة عشرة، فأقعده عمر مع عشرة فأكلوا ونهضوا ولم يقم عمرو، فأقعده مع تكملة عشرة، حتى تم له الأكل مع ثلاثين، ثم قام فقام: "يا أمير المؤمنين، إنه كانت لي مآكل في الجاهلية منعني منها الإسلام، وقد صررت في بطني صرتين وتركت بينهما هواء فسده"، قال عمر: "يا عمرو، عليك حجارة من حجارة الحرة فسده به"3. وكانت له أخلاق البدوي في شجاعته ونجدته، مع غير قليل من الإسراف في تصوير بطولته إلى درجة الكذب، وتروى في ذلك قصة طريفة وهي: أنه كان يذهب مع الأشراف إلى الكوفة يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أيام الناس كعادتهم، وقف مرة إلى جانب خالد بن الصقعب النهدي، وأقبل عليه يحدثه ويقول: أغرت على بني نهد، فخرجوا إلى مسترعفين بخالد بن الصقعب وهو يتقدمهم، فطعنته طعنة فوقع، وضربته بالصمصامة حتى فاضت روحه، فقال له الرجل: "يا أبا ثور، أنا مقتولك الذي تحدث"، فقال عمرو: "اللهم غفرا، إنما أنت بمحدث فاستمع إنما نتحدث بمثل هذا وأشباهه لنرهب هذه المعدية! "4.

_ 1 الأغاني ج14، ص20. 2 الأغاني ج14، ص27. 3 الأغاني ج14، ص31. 4 نفس المرجع.

وهكذا تحاول الروايات دائمًا أن تصور عمرًا كاذبًا، والحقيقة أنه ليس كذلك على طول الخط، وإنما كان يكذب فقط حينما يتفاخر، فيغالي في وصف شجاعته وجرأته. وقد سئل في ذلك خلف الأحمر فقال: كان عمرو يكذب باللسان ويصدق بالفعال1. ويبدو أنه بعدما تخلص من لقب المائق تخلص من بعض غروره وتهوره أيضًا، فقد بدأ بذلك حياة جديدة. ويروى أن الصمة بن بكر أغار على قومه فاستاق إبلهم، وسبى -فيمن سبى- أخت عمرو، وكانت تُدعى ريحانة، فتبعه عمرو، ومعه أخوه عبد الله، وفي الطريق رجع عبد الله وتبعه عمرو وحده يناشده أن يخلي عن أخته فلم يستجب له، ولما يئس رجع وهي تناديه بأعلى صوتها: يا عمرو، وهو يقول وصوتها يرن في أذنه: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحاب هجوع سباها الصمة الجشمي غصبا ... كأن بياض غرتها صديع وحالت دونها فرسان قيس ... تكشف عن سواعدها الدروع إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع2 ويذكر أن ربيعة بن مكدوم، أحد فرسان العرب المشهورين طعن عمرًا ذات مرة فألقاه عن فرسه وأخذه، ثم لقيه مرة أخرى فضربه، فوقعت الضربة في قربوس فرسه فقطعته، حتى عض السيف بجسد الفرس، فلم يكن من عمرو إلا أن سالمه وتركه وانصرف3. فلا عجب إذا رأينا هذا الفارس المقدام يتحدث عن فراره ونجاته، حذر الموت تعقلًا منه، وإيثارًا للسلام، فيقول: ولقد أجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور ولقد أعطفها كارهة ... حين للنفس عن الموت هرير كل ذلك مني خلق ... ولكل أنا في الروع جدير4

_ 1 نفس المرجع. 2 الأغاني 14، ص31. 3 نفس المرجع. 4 ابن قتيبة ج1، ص334.

ويفسر هذا التعقل الذي صار لعمرو تسامحه وميله للمسالمة، وإيثاره للخير، فقد قتل أخوه عبد الله فآثر أن تدفع إليه ديته، ولكن أخته اعترضت وقالت في ذلك شعرًا تعيره فيه، وتعرض به: فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فمشوا بآذان النعام المصلم ودع عنك عمرًا إن عمرًا مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم1 وهذه المسألة ليست من قبيل الجبن في طبيعة عمرو بالذات، وإنما هي نتيجة لرزانة حكيمة وتعقل، وبسبب من هذا التعقل وذلك الذكاء حث عمرو ابن أخته قيس بن مكشوح المرادي على أن ينطلق معه ليريا أمر محمد، حينما انتهى إليهما، ولما عصاه قيس ركب هو في وفد من زبيد، وانطلقوا إلى المدينة بعد أن قال في مخالفة قيس شعرًا يلومه فيه. وكان لقاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع للهجرة على أرجح الأقوال2، ثم ما نلبث حتى نسمع بارتداده ومتابعته للأسود العنسي، ويقول في هجاء فروة بن مسيك المرادي، الذي كان على صدقات مراد: وجدنا ملك فروة شر ملك ... حمار ساف منخره بقذر وإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر3 ونسمع بعد ذلك بأن أبا بكر رضي الله عنه عقد لواء للمهاجر بن أمية المخزومي، لقتال جنود العنسي، ولقتال عمرو بن معديكرب، وقيس بن مكشوح المرادي، ورجالهما. وبدافع من الطمع انضم للأسود العنسي، فلما قتل لم تهدأ ثورة أنصاره، بل جعل فرسانهم يجوبون البلاد فيما بين نجران وصنعاء، لا يأوون إلى أحد، ولا يأوي إليهم أحد. وانتهز عمرو الفرصة، فحاول اقتناص السلطان من طريق الثورة، ما دام قد فشل في ذلك بالانضمام إلى العنسي.

_ 1 نفس المرجع. 2 الاستيعاب ص351. 3 الأغاني "الساسي" ج14، ص26.

وعندما استعان فيروز بأبي بكر على قيس بن يغوث وعزز أبو بكر مكانته راح قيس وعمرو يعيثان في البلاد فسادًا. ولكنهما لم يلبثا أن تخاصما وتهاجيا. وأدركهما مجيء المهاجر، وأيقن أهل اليمن جميعًا أن ثورتهم مقضي عليها لا محالة، فانتهز عمرو الفرصة كدأبه، وأراد أن ينجو بنفسه فهاجم حليفه، الذي كان متفقًا معه على لقاء المهاجر، وأخذه إليه أسيرًا، وعند ذلك قبض المهاجر عليهما معًا، وبعث بهما إلى أبي بكر ليرى فيهما رأيه، بعد أن أخذ سيفه المسمى بالصمصامة وأوثقه. ونظر الصديق إلى عمرو وقال له: "أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور، ولو نصرت هذا الدين لرفعك الله؟ " فقال عمرو: "لا جرم لأفعلن، ولن أعود". فأخلى أبو بكر سبيله وردَّه إلى عشيرته؛ ليعود بعد ذلك إلى المدينة حيث يسيره الخليفة إلى الشام1. وقد ميزت هذه الخلة الانتهازية في طباع عمرو أخلاقه جميعها، فإذا هو نفعي ونهاز، وترتيب على ذلك رقة دينه التي لازمته طول حياته، فلم يكن له من دينه ما ينهاه عن المحرمات في الإسلام. ويروى عنه في هذا الصدد أن صديقه عيينة بن حصن نزل عليه زائرًا في محلة زبيد، بعد بناء الكوفة، وكان عيينة نديم شرابه في الجاهلية، فوقف ينادي ببابه: "أي أبا ثور، اخرج إلينا"، فخرج إليه مؤتزرًا مرحبًا بقوله: "أنعم صباحًا أبا مالك"، فقال عيينة: "أوليس قد أبدلنا الله تعالى بهذا السلام عليكم؟ " فقال عمرو: "دعنا مما لا نعرف، انزل فإن عندي كبشًا سياحًا" فنزل، وعمد عمرو إلى الكبش فذبحه، وألقاه في قدر وطبخه، حتى إذا نضج جاء بجفنة عظيمة، فثرد فيها، وأكفأ القدر عليها، فقعدا فأكلاه. ثم قال لضيفه: "أتشرب اللبن، أم ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية؟ " قال عيينة: "أوليس قد حرمها الله عز وجل علينا في الإسلام؟ " قال عمرو: "أنت أكبر سنًّا أم أنا؟ " قال: "أنت"، قال: "فأنت أقدم إسلامًا أم أنا؟ " قال: "أنت"، قال: "فإني قد قرأت ما بين دفتي المصحف فما وجدت لها تحريمًا، إلا أنه قال: فهل أنتم منتهون؟ فقلنا: لا، فسكت وسكتنا". فقال عيينة: "أنت أكبر سنًّا وأقدم إسلامًا"، فجلسا يتناشدان ويشربان، ويتذاكران أيام الجاهلية حتى أمسيا، فلما أراد عيينة الانصراف قال

_ 1 أسد الغابة ج4، ص133.

عمرو: "لئن انصرف أبو مالك بغير عطاء إنها لوصمة عار"، فأمر بناقة عظيمة له، وبأربعة آلاف درهم، ورفض عيينة المال، وأخذ الناقة وانصرف عليها ينشد: جزيت أبا ثور جزاء كرامة ... فنعم الفتى المزدار والمتضيف قريت فأكرمت القرى وأفدتنا ... تحية علم لم تكن قط تعرف وقلت: حلال أن ندير مدامة ... كلون انعقاق البرق والليل مسدف وقدمت فيها حجة عربية ... ترد إلى الإنصاف من ليس ينصف وأنت لنا -والله ذي العرش- قدوة ... إذا صدنا عن شربها المتكلف يقول أبو ثور: أحل حرامها ... وقول أبي ثور أسد وأعرف1 وهكذا يؤكد أن الإسلام لم يتعمق روحه، كما لم يعن هو بتعمقه، فظل على الخمر والتنادم عليها بذكر أيام الجاهلية وما يعرف ويألف من كلماتها، في الوقت الذي يرفض فيه تحية الإسلام التي لا يألفها. ثم هو ينتحل على الدين فتوى يحلل بها حرامًا بغير تحرج متظرفًا، وكأنما يخدع نفسه. وربما نتساءل عن السبب الذي من أجله أبقى عليه المهاجر فلم يقتله، وهو أحد رءوس الفتنة في ثورة اليمن وارتداد أهله، وعن السبب الذي من أجله أبقى عليه الصديق كذلك. فلا ريب في أن المهاجر خشي ما قد يترتب عليه قتله لعمرو، وهو يعرف مكانته في قومه. ولا ريب أيضًا في أن أبا بكر رأى بثاقب رأيه ما يمكن أن يحققه عمرو إذا ما كان سيفًا من سيوف الإسلام، وتجلى ذلك في معاتبته، ودعوته الصريحة إلى نصرة دين الله. وبرغم أن عمرًا أبلى في نصرة هذا الدين بلاء رائعًا، فقد ظل رقيق الدين طوال حياته، لا يرجع عن اتباع هواه، ولا يرتدع، فظل يعاقر الخمر، ولكن ذلك لم يكن ليسلبه قدره في الانتصار للدين، حتى ليقول عنه سعد بن أبي وقاص حينما وقع في حد الخمر ذات مرة: "لقد كان له يوم القادسية موطن صيم الفناء شديد النكاية للعدو" فقيل لسعد: فقيس بن مكشوح، فقال: "هذا أبذل لنفسه من قيس"2.

_ 1 الأغاني ج14، ص29. 2 الأغاني ج14، ص31.

ولم يكن عمرو شديد النكاية بالعدو لقوة إيمانه بالإسلام، ولا لاعتقاده بوجوب الذب عنه، واكتساب أرض جديدة له، ولدعوة العالمين إليه. وإنما كان قوي الإيمان بنفسه فحسب، مخلصًا لماضيه وحده، ولبطولاته السابقة، فهو حينما يبذل نفسه لا يبذلها من أجل العقيدة أو الفكرة، وإنما من أجل مجده الشخصي، ومن أجل اسمه الذي لا يزال يتضوأ بمغامراته في الجاهلية، فإذا به يعتز بهذا الماضي اعتزازًا بعيدًا، يصور ذلك قوله: وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت عنه الشجاعة بالأمس ولا ريب في أن ولاة أمور المسلمين قد عرفوا عنه هذا، فظلوا على تألفه واصطناعه، وإن كانت ثقتهم به غير متينة؛ لأنهم أيقنوا فيه أنه ربما لا يخلص في نصرة الدين، ولكنه لا يفرط في الإخلاص لنفسه ولاسمه، مهما كان ضعف إيمانه. ولهذا نرى ابن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى النعمان بن مقرن في نهاوند بأن يستشيره في كل أمور الحرب على ألا يوليه عملًا1. ونراه في القادسية وسعد يقسم الفيء فيصل عطاء الفارس ستة آلاف يقبضها عمرو، ثم يزيده سعد في أهل البلاء خمسمائة، ولكنه لا يقنع؛ إذ تبقى بعد ذلك شيء كثير، رأى سعد أن يرسل به إلى المدينة ليسأل الخليفة عما يفعل به، فيرد عمر: "بأن رد على المسلمين الخمس، وأعط من لحق بك ولم يشهد الواقعة"، ونفذ سعد أمر عمر، فبقي لديه ما اضطره أن يبعث إلى عمر يسأله عما يفعل به، فأمر عمر بأن يوزع في حملة القرآن. كل هذا وعمرو يتململ. وبينما سعد ينفذ أمر الخليفة إذ أتاه عمرو طامعًا في أن يكون له حظ مع حملة القرآن. وسأله سعد: ما معك من كتاب الله تعالى؟ فحك عمرو رأسه ثم أجاب بعد لحظات: إني أسلمت باليمن ثم غزوت، فشغلت عن حفظ القرآن، عند ذلك أبَى سعد أن يجعل له من مال الحفاظ نصيبًا، فإذا عمرو يقول: إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد ... قالت قريش: ألا تلك المقادير نعطى السوية من طعن له نفذ ... ولا سوية إذا تعطى الدنانير2

_ 1 ذيل الأغاني ج1، ص144. 2 الأغاني ج14، ص39.

وكتب سعد بهذا إلى عمر، فكتب عمر إليه بأن يعطيه على بلائه، فأعطاه ألفي درهم. وكان عمر بن الخطاب يثق بقدرته الحربية ثقة كبيرة، ويتجلى ذلك في المقابلة التي تمت بينهما، حين أرسله إليه سعد بن أبي وقاص عقب القادسية وراح عمر يسأله عن أحوال المجاهدين، وعن سعد في جنده فقال عمرو: هو لهم كالأب.. أعرابي في نمرته، أسد في تامورته، نبطي في حبوته، يقسم بالسوية، ويعدل في القضية، وينفر من السرية، وينقل إلينا حقنا كما تنقل الذرة، وكان سعد قد كتب إلى الخليفة يثني على عمرو ويذكر بلاءه فقال عمر: "لشد ما تقرضتما الثناء"، ثم أخذ يسأله عن الحرب، فقال عمرو: مرة المذاق إذا قلصت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن ضعف فيها تلف، وهي كما يقول الشاعر: الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا استعرت وشب ضرامها ... عادت عجوزًا غير ذات خليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل فعاد عمر يسأله عن السلاح فقال عمرو: "الرمح أخوك، وربما خانك، والنبل منايا تخطئ وتصيب، والترس هو المجن، وعليه تدور الدوائر، والدرع مشغلة للفارس، متعبة للراجل، وإنها لحصن حصين". ثم سأله عن السيف فقال: "ثم قارعتك أمك عن الثكل". فقال عمر: "بل أمك قارعتك" فقال عمرو: "الحمى أضرعتني"1. وخرج عمرو والخليفة يعلوه بالدرة، ثم ما لبث أن قال عند منصرفه في الطريق: أتوعدني كأنك ذو رعين ... بأنعم عيشة أو ذو نواس فكم قد كان قبلك من مليك ... عظيم ظاهر الجبروت قاس فأصبح أهله بادوا وأمسى ... ينقل من أناس في أناس فلا يغررك ملكك كل ملك ... يصبر مذلة بعد الشماس2

_ 1 ابن قتيبة ج1، ص333، 334، البلاذري ص287، 288. 2 مروج الذهب ج2، ص217.

وتكشف الأبيات عن جاهلية في نفسه. وتفيض الروايات بذكر بلاء عمرو وتفانيه في الفتوح، مما يثبت بعد نظر أبي بكر يوم وهبه حياته، فكان عند حسن ظنه، فأبلى في كل وقعة شهدها بلاء حسنًا، شهد اليرموك، وقيل عنه يومها: إنه كان أشرف رجل برز؛ ذلك أنه خرج إليه علج فقتله، ثم آخر فقتله، وهكذا.. وانهزم الروم ولم يتوقف، وتبعهم حتى أفنى جمعًا عظيمًا منهم. ولكن الرواسب الجاهلية تبرز في سلوكه عندما ينصرف إلى خباء له فينزل ثم يدعو بالجفان، ويدعو من حوله، والناس يتساءلون عنه فيقال لهم: إنه عمرو بن معديكرب فارس اليمن1، وبرغم أن عينه أصيبت يوم اليرموك فإن ذلك لم يثنه عن مواصلة الجهاد2. وتحول عمرو إلى العراق، فشهد مع أبي عبيد بن مسعود الثقفي وقعة الجسر3، ثم شهد مع سعد بن أبي وقاص القادسية. وبالطبع لا بد أن يكون قد شهد مع المثنى المعارك التي كانت بين الجسر والقادسية، وإن كنا لا نجد له أخبارًا فيها ولا شعرًا. وكتب عمر إلى سعد بالقادسية بأن يصدر عن مشورة عمرو في الحرب4، وعده عمر بمقام ألف رجل5، وأخذ عمرو يباشر المعركة، ويمر بين صفوف المسلمين، يحمسهم ويدفعهم بنداءاته: "كونوا أسودًا أشداء، فإن الفارس إذا ألقى رمحه تيس".. "ألزموا خراطيم الفيلة السيوف، فإنها ليس لها مقتل إلا خراطيمها" وكاد أن يقتل أكثر من مرة؛ إذ أصابته فجأة في سية قوسه نشابة، فحمل على من رماه فطعنه ودق صلبه، ونزل إليه فأخذ سلبه6. ويروى أنه حمل في هذا اليوم وحده، وجعل يضرب الفرس حتى لحق به المسلمون، وقد أحدق به الأعداء وهو يضرب فيهم بسيفه، فنحوهم عنه7. كما يذكر

_ 1 الإصابة ج5، ص19. 2 نفس المرجع. 3 الاستيعاب ص352. 4 أسد الغابة ج4، ص134. 5 الإصابة ج5، ص19. 6 نفس المرجع. 7 نفس المرجع.

أنه كانت له طريقة بارعة وعجيبة في قتال الفرس؛ إذ يقاتل فارسًا ثم يقتحم عن فرسه فيربط مقوده في حقوه، فيقاتل آخر، وهكذا كان يفعل بالعدو الأفاعيل1. وأنه شد في نفر من المسلمين يضربون خراطيم الفيلة حتى بلغوا رستم فضرب فيله فجذم عرقوبيه فسقط، وسقط رستم، وحمل على فرس، لو قتل بين نفر من الفرسان تنازعوا دمه، وقال عمرو في ذلك ينسب هذا العمل إلى نفسه: ألمم بسلمى قبل أن تظعنا ... إن لنا من حبها ديدنا قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا شككت بالرمح حيازيمه ... والخيل تعدو زيما بيننا2 وعجيب أن يفعل عمرو هذه الأفاعيل، وهو طاعن في السن، حتى إنه يروي تجاوزه المائة في القادسية، وما كان من ضخامة جثته، فكان آخر قومه في عبور نهر القادسية، وفرسه تئن من ثقله3. وتروي بعض الروايات أنه قد استشهد بالقادسية، أو مات عطشًا بها، ولكن هذه الرواية لا تتفق وما يذكر متواترًا عن بلائه في نهاوند، وما كان من استشارته في المؤتمر الذي عقده النعمان بن مقرن للتدبر في إخراج الفرس من حصونهم، بناء على أمر الخليفة، الذي أرسل إلى النعمان: "بأن في جندك عمرو بن معديكرب، وطليحة بن خويلد، فأحضرهما، وشاورهما في أمر الحرب". ويذكر أنه كان له رأي صائب في الخطة التي قررت، وعندما قتل النعمان، وتولى حذيفة تراجع المسلمون، ولكن عمرًا ظل يقاتل في أهل النجدات من المسلمين، إلى أن جاءه كمي القوم فاعتنقه عمرو وقتله، وأصيب بجراحة أثبتته، وفتح الله على المسلمين، فأخذ عمرو ينشد شعرا، يفخر فيه ببلائه وهو يحتضر، ودهمه الفالج أثناء ذلك فمات به، عند قرية تُدعى "روذة" من قرى نهاوند، فرثاه أحد المسلمين بقوله:

_ 1 الأغاني ج14، ص28. 2 الأغاني ج14، ص29. 3 الأغاني ج14، ص28.

لقد غادر الركبان حين تحملوا ... "بروذة" شخصًا لا جبانا ولا عمرا فقل لزبيد بل لمذجح كلها ... رزئتم أبا ثور قريع الوغى عمرا فإن تجزعوا لا يغن ذلك عنكموا ... ولكن سلوا الرحمن يعقبكم صبرا1 وتذكر بعض الروايات: أن شاعرنا عمَّر بعد نهاوند حتى شهد صفين، ومات في عهد معاوية. ولكن هذه الرواية تبدو مدفوعة إلى المغالاة في امتداد عمره، ولو صح أنه شهد القادسية وهو ابن مائة وعشر -كما يروي أبو عبيدة- فإنه يكون قد مات وعمره قرن ونصف، والصحيح الذي يمكن أن يتفق وكثرة الروايات الموثوق بها أنه مات مفلوجًا بروذة كما تقدم2.

_ 1 أسد الغابة ج4، ص134، الاستيعاب ص352. 2 أسد الغابة ج4/ 134، الإصابة ج5/ 20، ابن قتيبة ج1، ص234، الأغاني ج14/ 31، ذيل الأمالي ج1/ 144.

شعره في الجاهلية

2- شعره في الجاهلية: لسنا نعرف على وجه اليقين أو الظن الوقت الذي بدأ فيه عمرو الشعر، فإن شعره لا يدلنا على شيء من هذا، والروايات التي تروى عنه لا تتعرض لهذا الجانب، وكأنما وجد -هكذا- شاعرًا. وليس لعمرو ديوان يجمع أشعاره مرتبة، أو مؤرخة بمناسباتها، أو غير مرتبة ومؤرخة. وإنما نستطيع أن نعرف على وجه التقريب حدًّا فاصلًا بين شعره في الجاهلية وشعره في الإسلام، وإن قابلتنا في سبيل ذلك مشكلات؛ سببها أن حياته قد ضخمت، بفعل الروايات التي كادت تجعل منه بطلًا من أبطال الأساطير، بما حشد فيه من جوانب البطولة، وتصوير ما أوتي من قوة خارقة، وما جبل عليه من عبث، وسبب آخر هو: تشابه حياته في الجاهلية بحياته في الإسلام، بما طبع عليه من حب شديد لنفسه واتخاذه منهاجًا خاصًّا لحياته، غير متقيد فيه بشيء من تعاليم الإسلام. وأول ما يطالعنا في شعر عمرو لأول وهلة: قلة مجموع هذا الشعر، وحتمي أن يكون قد ضاع منه الكثير، فكونه زبيديًّا من أهل اليمن لا يبرر قلة شعره على هذه الصورة رغم ما يبدو في طبعه من ثراء وخصب.

ومن شعره المشهور عينيته التي مطلعها: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع وهي من الشعر الذي غنى به وزيد فيه؛ لما فيها من عاطفة جياشة، وإن كانت حزينة تبلغ في حزنها حد اليأس، وتطبعك لأول وهلة بصدق الشاعر مع نفسه وعواطفه، وتصريحه بحرج موقفه، دون مغالطة أو تزييف أو تلفيق للأعذار، فهو يصور الأزمة في وجدانه على حقيقتها، ويدلي بأسفه الذي يهيب به ويؤرقه وقد هجع الناس، وأخته سبية استحلت، وهو لا يملك لها نجاة، فحولها فرسان أشداء، ويبلغ اليأس بنفسه مداه، فيلقى بخلاصة تجربته في حكمة بالغة، وكأنه قد أراح نفسه من أزمتها: إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع1 وهذا الصدق الشعورى الذي يتجلى في هذه الأبيات يعيننا على تفهم شعره في مواطن أخرى، يكون فيها صادقًا مع نفسه، حتى ولو كان مفتخرًا معتزًّا بقوته، ونعجب من هذا الصدق الشعوري وقد عرفنا عمرًا يغالي في حديثه عن نفسه، ويكذب في ذلك متفاخرًا، ولكننا نجده في شعره صادقًا في وصف مشاعره. قال في أبي المرادي -وكان ادعى مساندته في غزاة، وطالبه بنصيبه، وتهدده بالقتل: أعاذل شكتي بدني ورمحي ... وكل مقلص سلس القياد أعاذل إنما أفنى شبابي ... وأقرح عائقي ثقل الزناد تمناني ليلقاني أبي ... وددت وأينما مني مرادي ولو لاقيتني ومعي سلاحي ... تكشف شحم قلبك عن سواد أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد تمناني وسابغتي دلاص ... كأن قتيرها حلق الجراد

_ 1 الأغاني ج14، ص31.

وسيفي كان من عهد ابن صد ... تخيره الفتى من قوم عاد ورمحي العنبري تخال فيه ... سنانا مثل مقباس الزناد وعجلزة يزل اللبد عنها ... أمر سراتها حلق الجياد إذا ضربت سمعت لها أزيزا ... كوقع القطر من الأدم الجلاد إذًا لوجدت خالك غير نكس ... ولا متعلمًا قبل الوجاد يقلب للأمور شرنبثات ... بأظفار مغارزها حداد1 فكل سلاحه بدن ورمح وفرس عظيمة مطواع، وقد أفنى شبابه على هذه الصورة، حتى قرح الزناد كاهله، وقد تمناه أبي ليقتله، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، ولو لاقاه لعجز عن مواجهته، حتى يأكل الحقد قلبه، وينكشف شحمه عما به من الحقد، وهو لم يصنع شيئًا يستوجب هذا الوعيد، وإنما أراد أن يمن عليه، فهل يكون جزاؤه التهديد بالقتل؟ وهل تدبر أبي أمره وعرف من هو الذي يتوعده ويتهدده؟ إنه فارس ذو درع حصينة واسعة براقة ملساء، تشبه مساميرها حلق الجراد، وسيف عريق ورمح عنبرية ذات أسنة نارية، وفرس قوية مدربة، ولو قابله أبي لما وجده دنيئًا، ولا ساقطًا ولا ضعيفًا، وإنما هو قوي قادر ماهر، لا يعبأ بالملمات. وتروى هذه الأبيات على أنه قالها لأخته، التي عيرته لإبطائه في الثأر لأخيه عبد الله، ولكن الأبيات نفسها لا توحي بهذا، بدليل قوله: إذًا لوجدت خالك غير نكس ... ولا متعلمًا قبل الوجاد ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفنى قبل زاد القوم زادي فمن ذا عاذري من ذي سفاه ... يرود بنفسه مني المرادي2 ويتمتع كل شعره الجاهلي بصفة الصدق، الممتزج بحرارة التعبير المتدفق البعيد عن المغالاة، ويذهب كله بلا استثناء في الاعتزاز بمهارته الحربية، والفخر بشجاعته، ووصف تأهبه للحرب.

_ 1 الأغاني ج14، ص32. 2 الإصابة ج5/ 21.

وتحيط بشعره غالبًا مشكلات في دوافع القصيد ومناسبته. فتروى روايات مختلفة في ظروف كل قصيدة، فمثلًا تروى له قصيدة في انتوائه لقاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة قيس بن مكشوح المرادي عن رأيه حيث يقول: أمرتك يوم ذي صنعاء أمرا بينا رشده أمرتك باتقاء الله تأتيه وتتعده فكنت كذي الحمير غرة من إيره وتده1 وجاء في رواية أخرى: أنه قال هذه القصيدة لولده، وأن عمرًا قد عرض نفسه ذات مرة على امرأة من كندة فأخبرته أنها زوجة، ووصفت له زوجها فتابعها، حتى لقي زوجها فقتله، واقترن بها، وطلب إليها أن تسمى ابنها منه الخزر. ولما شب الخزر راح يتعرف إلى أبيه، ودفعه قوم من صنعاء إلى أن يحارب أباه، فسار إليه في جمع منهم وشد على أبيه، لكنه قتله وقال: تمناني ليقتلني وأنت لذاك معتمده فلو لاقيتم فرسي وفوق سراته أسده إذًا للقيتم شثن البراثن نابيا كيده ظلوم الشرك فيما أعلقت أظفاره ويده يلوث القرن إذا لاقاه يومًا ثم يضطهده يزيف كما يزيف الفحل فوق شئونه زبده ويذبب عن مشافره البعوض ممنعا بلده ولو أبصرت ما جمعت فوق الورد تزهده رأيت مخاضة زغفا وتركا مبهمًا سرده وصمصامًا بكفي لا يذوق الماء من يرده شمائل جده وكذاك أشبه والدا ولده

_ 1 الأغاني 14/ 25.

أمرتك يوم ذي صنعا أمرًا بينا رشده فعال الخير تأتيه فتفعله وتتعده فكنت كذي الحمير غره من عيره وتده ولو أبصرت والبصر المبين قل من يجده إذًا لعلمت أن أباك ليث فوقه لبده1 وواضح أن القصيدة لا علاقة لها بإسلامه، فهي جاهلية، وتتحدث عن هذا الموقف الذي وقفه منه ولده، وواضح أيضًا أن قوله: "فعال الخير" أنسب للسياق عن الرواية التي يقول فيها: "اتقاء الله"، فإن عمرًا أبعد إنسان عن هذا القول. وهو يشير إلى أن الحديث موجه إلى ابنه في غير موضع في الأبيات، حينما يقول: إن شمائله هي شمائل جد ابنه، وهكذا أشبه والدًا ولده. وعندما يقول له في نهاية القصيدة: إذًا لعلمت أن أباك. وهذا الخلط بين شعره الجاهلي والإسلامي منه نجد له أمثلة كثيرة في شعره، ولكن أهم هذه القصائد ما يختلط من شعره الجاهلي بشعره في الفتوح خاصة. إذ يُروى أن نونيته المطولة صدرت عنه في الفتوح، ويصف فيها بلاءه في القادسية ونهاوند، والقصيدة تجري على هذا النمط: لمن الديار بروضة السلان ... فالرقمتين فجانب الصمان لعبت بها هوج الرياح وبدلت ... بعد الأنيس مكانس الثيوان فكأن ما أبقين من آياتها ... رقم ينمق بالأكف يماني دار لعمرة إذ تريك مفلجا ... عذب المذاقة واضح الألوان خضرًا يشبه ورده وبياضه ... بالثلج أو بمنور القحوان وكأن طعم مدامة جبلية ... بالمسك والكافور والريحان والشهد شيب بماء ورد بارد ... منها على المتنفس الوهنان وأغر مصقولًا وعيني جؤذر ... ومقلدًا كمقلد الأدمان سنت عليه قلائدا منظومة ... بالشذر والياقوت والمرجان

_ 1 ذيل الأمالي ج1، ص151.

فالقصيدة تبدأ بذلك التقليد الجاهلي من بكاء الأطلال، ذلك التقليد الذي لا نجده في واحدة من قصائد الفتوح على الإطلاق، ثم يثني الشاعر بالغزل بمن تُدعى "عمرة" غزلًا حسيًّا محضًا، يتحدث فيه عن طعم مذاقها، ويشبهه بمذاق الخمر على المسك والكافور والريحان، أو الشهد، وينتقل من فمها إلى عينيها، إلى جيدها. وينتقل الشاعر بعد ذلك إلى ما كان من أيام الحرب في الجاهلية ذات يوم بين كندة وزبيد فيقول: ولقد تعارفت الضباب وجعفر ... وبنو أبي بكر بنو الهصان سبيا على القعدات تخفق فوقهم ... رايات أبيض كالفنيق هجان والأشعث الكندي حين سما لنا ... من حضرموت مجنب الذكران قاد الجياد على وجاها شذبا ... قب البطون نواحل الأبدان حتى إذا أسرى وأوب دوننا ... من حضرموت إلى قضيب يمان أضحى وقد كانت عليه بلادنا ... محفوفة كحضيرة البستان فدعا فسومها وأيقن أنه ... لا شك يوم تسالف وطعان لما رأى الجمع المصبح خيله ... مبثوثة ككواسر العقبان فزعوا إلى الحصن المذاكي عندهم ... وسط البيوت يردن في الأرسان خيل مربطة على أعلافها ... يقفين دون الحي بالألبان وسعت نساؤهم بكل مفاضة ... جدلاء سابغة وبالأبدان فقذفهن على كهول سادة ... وعلى شرامخة من الشبان حتى إذا خفت الدعاء وصدعت ... قتلى كمنقعر من الغلان نشدوا البقية وافتدوا من وقعنا ... بالركض في الأدغال والقيعان واستسلموا بعد القتال وإنما ... يترقبون ترقب الحملان فأصيب في تسعين من أشرافهم ... أسرى مصفدة إلى الأذقان فشتا وقاظ رئيس كندة عندنا ... في غير منقصة وغير هوان1

_ 1 ذيل الأمالي ج1، ص145.

فهذه مقدرة مذهلة في الوصف القصصي، والسرد البارع، وفي صورة حركية، ترسم التفصيلات الدقيقة في براعة تأخذ بالألباب، وتجعلنا نعتبره نواة صالحة للشعر الملحمي، الذي لم يتطور على مر العصور. فقد بدأ بتصوير هذا التحالف بين الأعداء واتفاقهم، وكيف استقلوا تخفق فوق رءوسهم الرايات، وقد تجنب رئيسهم بالعلن، وسار متخفيًا، حتى أنهكوا جيادهم من طول السرى والتأويب، من حضرموت إلى ديار الشاعر التي أحاطت بهم من كل جانب. وهنا يدرك رئيس الكندة أن اليوم ظلم، فيبث خيله في كل مكان، ويفتح أهل الحلي أعينهم على هذا المشهد، فيهرعون إلى جيادهم المتأهبة دائمًا، يعينهم نساؤهم في اتخاذ أهبتهم، ويهبن بهن أن يتولوا أمر هؤلاء المغيرين، وينشب القتال، فتفعل السيوف فعلها، إلى أن يخفت صوت الفرسان، وتتكشف المعركة عن قتلى كثيرين، غير من فر وافتدى نفسه بالركض بين الأدغال، وغير من أسر من الأشراف الذين بلغ عددهم التسعين، صفدوا حتى أذقانهم بالسلاسل، وعلى رأسهم رئيسهم الذي قضى الصيف والشتاء أسيرًا في ديار الشاعر، وإن لاقى من التكريم والإعزاز ما يشهد برفعة شأنهم. وبعد ذلك نجد أبياتًا عن القادسية وبلاء الشاعر وقومه فيها، تقول: والقادسية حين زاحم رستم ... كنا الحماة بهن كالأشطان الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان ومضى ربيع بالجنود مشرقًا ... ينوي الجهاد وطاعة الرحمن حتى استباح قرى السواد وفارس ... والسهل والأجبال من مكران1 ولسنا نعرف بحق من هو ربيع الذي يشير إليه، فليس بين قواد المسلمين الذين استباحوا قرى السواد وفارس ومكران من يُدعى بهذا الاسم، ولكننا نفضل رواية أخرى للبيتين الأخيرين، على هذا النمط الذي يقول:

_ 1 ذيل الأمالي ج1، ص145.

قوم همو ضربوا الجبابر إذ بغوا ... بالمشرفية من بني ساسان حتى استبيح قرى السواد وفارس ... والسهل والأجبال من مكران1 وعلى كلتا الروايتين يلاحظ الدارس مغايرة هذه الأبيات التي تتحدث عن القادسية في صياغتها للقصيدة كلها، وعدم التساوق في المعنى، فالقصيدة وَحْدَة موضوعية قائمة بذاتها، منتهية بحكم صياغتها الفنية عندما انتهت إليه من تصوير المعركة وانتهائها بأسر أشرافها، ورئيسها الذي قاظ وشتا عندهم، ولا تحتمل هذه الأبيات التقريرية الأخيرة بحال. ويقينًا فالقصيدة بالصورة التي تُروى بها مشتملة على هذه الأبيات، قد صنعت في عصرين مختلفين، في الجاهلية والإسلام بمعنى: أن الأبيات الأخيرة أضيفت فيما بعد الفتوح بفعل الرواة، شأنها في ذلك شأن قصيدة ربيعة بن مقروم، وقصيدة عبدة بن الطبيب، ومن قبلهما حسان بن ثابت في قصيدته الهمزية، التي تحدث فيها عن فتح مكة وذكر فيها الخمر. وقصيدة عمرو جلي فيها طابعها الجاهلي، في أسلوبها، ورصاتها، وقوة تماسكها، وتصويرها الدقيق، وسردها المتأني، الذي يدل على رؤية وفسحة في الوقت أتيحت للشاعر، مما لا يتيسر لتلك الأبيات الأخيرة في القادسية، والتي يظهر في تقريريتها وقصرها أنها صنعت في ظروف قلقة، هي ظروف الفتوح. وهكذا نستطيع أن نعدد الخصائص الفنية لشعره الجاهلي، وهي تنحصر في نزوع الشاعر إلى الصدق الشعوري الدافق مع نفسه دونما مبالغة، وفي قدرته القصصية الفائقة، ودقته في التصوير، واقتداره على رسم الصور الحركية بمهارة، كل ذلك في أسلوب قوي جزل، تحوطه عاطفة جياشة، وإن كان بعيدًا عن التعلق بالصور الخيالية، ميالًا إلى استعمال الصور المحسوسة للتعبير عن أفكاره وعواطفه. وموضوعات شعره الجاهلي لا تخرج في مجموعها عن الافتخار ببطولته وتصويره استعداده للحرب، ووصف بلائه فيها ووصف وأيام زبيد في الجالهية.

_ 1 ياقوت ج4، ص914.

شعره في الفتوح

3- شعره في الفتوح: وشعر عمرو في الفتوح قليل جدًّا، لا يتجاوز عدة مقطعات قصيرة، وهذه ظاهرة عامة ينضوي تحتها شعر الشعراء القدامى، الذين اشتركوا في الفتوح جميعها، في قلة ما خلفوا من آثار في شعر الفتح، وينضوي تحتها شعر الفتح كله في قلة عدد الأبيات التي تحتويها المقطوعة. ولا يطالع الدارس قصيدة واحدة في شعر الفتح طال نفسها أو تعددت أغراضها -كقصائد الجاهلية- فلا ظروف القتال من جانب، ولا نفسية المقاتل من جانب آخر تتيحان امتداد نفس الشاعر، فتحولت القصائد من ثم إلى مقطعات لاهثة، يصب فيها الشاعر عواطف اللحظة ومشاعرها في سرعة خاطفة، كتلك التي صب فيها عمرو خبر قتله لرستم في ثلاثة أبيات، اشتملت على: تزويد صاحبه بإقراء سلمى صاحبته تحيته، وأن يذكره عندها، ويذكر حبه لها، وأن ينقل إليها خبر قتله رستم، وقصر هذا الشرف عليه وحده دون غيره. ثم يصف الطريقة التي فتك بها بهذا القائد. كل هذا في تلك الأبيات القليلة التي تقول: ألمم بسلمى قبل أن تظعنا ... إن لنا من حبها ديدينا قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا شككت بالرمح حيازيمه ... والخيل تعدو زيما بيننا1 ولا ريب في أن القارئ لهذه الأبيات يستشعر حرارة الشاعر وصدقه، هذه الخاصية التي انتقلت معه من شعره الجاهلي إلى شعره الإسلامي. ولم يقتصر ذلك على الشعر فحسب، وإنما نجد صدقه هذا وحرارة تعبيره في أبيات الرجز المفردة. وكان علج في القادسية قد رماه بنشابة وقعت بين كتفيه فلم تنفذ من درعه الحصينة، فأخذ به يعتنقه، فسقطا معًا على الأرض، وقتله عمرو وسلبه، ثم أخذ يعمل سيفه في الفرس، في حرارة تشبه حرارته في تعبيره، عندما رأى الأعداء يتساقطون تحت وقع ضرباته، فصاح مغتبطًا:

_ 1 الأغاني ج14، ص28.

أنا أبو ثور وسيفي ذو النون ... أضربهم ضرب غلام مجنون آل زبيد إنهم يموتون1 ويبلغ صدقه في عواطفه حد الصراحة الساخرة التي واجه بها سعد بن أبي وقاص لما رفض أن يجعل له نصيبًا بين حملة القرآن، فقال له معرضًا بما بين القحطانية وقريش، متهمًا قائده بمحاباة القرشيين، إذ قال له: إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد ... قالت قريش ألا تلك المقادير نعطي السوية من طعن له نفذ ... ولا سوية إذ تعطى الدنانير2 وغير هذه الأبيات القليلة، وما أشرنا إليه من أبياته في القادسية، التي أضيفت إلى نونيته لا نعرف له شعرًا في الفتوح، برغم شهوده المعارك المهمة في تاريخها، فقد شهد اليرموك والجسر، ولكننا لا نجد له شعرًا فيهما، وكذلك لا نجد له شعرًا في نهاوند. ويلاحظ الدارس أن عمرًا وغيره من الشعراء القدامى كانوا أبعد الشعراء الذين اشتركوا في الفتوح عن التأثر بأية خصائص إسلامية في شعرهم، إذا ما قارنا شعرهم بشعر غيرهم من الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح، فتغنوا بالمثل الإسلامية، وكان شعرهم معرضًا للخصائص التي اكتسبها الشعر من الإسلام. وهكذا يمكننا القول: بأن شعر عمرو لم يكتسب خصائص إسلامية من واقع الحياة التي عاشها في الفتوح، وبرغم ضياع شعره فيما نعتقده فإنه لجلي أن شعره الإسلامي في الفتوح لو كان وجد بتمامه لما افترق في شيء عن شعره الجاهلي، وإنما هو استبدل بأيام زبيد أيامًا إسلامية، عبر فيها نفس التعبير الذي كان يعبر به عن غزوات قومه في الجاهلية. ولم يتأثر شعره بالإسلام ولا بالفتوحات، كما لم تتأثر حياته ذاتها إلا بهذه التأثيرات العامة، التي تعرض لها كل شعر الفتوح، من انكماش القصيد وسرعته، وتدفقه في إيجاز وحرارة، فضلًا عن صدقه الشعوري، وحرارة تعبيره، التي لازمت شعره في الفتوح.

_ 1 الأغاني ج14، ص28. 2 الأغاني ج14، ص11.

القعقاع بن عمرو التميمي

الفصل الثالث: القعقاع بن عمرو التميمي 1- حياته وخروجه للجهاد: هو خير نموذج لهؤلاء الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح بالشعر، وإنه لمن النادر أن نصادف شاعرًا مثله، له نفس خصائصه أو خصائص قريبة منها. كانت حياته كلها هجرة في سبيل الله ورسوله وفي طاعتهما، ويضعه بعض المصنفين في آخر طبقة المخضرمين من الفرسان الجشعان1، لكننا لا نعرف شيئًا واضحًا عن جاهليته يفيد معرفة بشأنه وبماضيه؛ إذ تخلو جميع المصادر من أية إشارة إلى شيء من هذا القبيل. فلا نعرف له من ثم أدنى اهتمام بشيء قبل الإسلام، وليس له ماضٍ ينميه ولا اسم يعتز به، ويعيش على الإخلاص له، ولا شيء ثمة إلا إسلامه وإيمانه القوي وعقيدته الراسخة، حتى ليخيل للدارس أن حياته لم تبدأ إلا بالإسلام. وهكذا نجد جميع المصادر تخلو من الإشارة العابرة إلى مولده ونشأته، وإنما تبتدئ جميعها من نقطة واحدة، هي إسلامه، ذلك أنه الحقيقة الكبيرة البارزة والفاعلة في حياته كلها. فقد أسلم القعقاع، وكانت له صحبة2، وشهد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي نقل إلى المسلمين آنذاك نبأ اجتماع الأنصار على استخلاف سعد بن عبادة3. وظاهر من هذه الروايات أن القعقاع قد نشأ في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكنف صحابته فتى من فتيان المسلمين، الذين آمنوا بربهم وزادهم ربهم هدى، فتأدبوا بآداب الإسلام، وتعلموا في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورسخ اعتقادهم بما أعده الله للمؤمنين المجاهدين من عباده،

_ 1 المستطرف ج1، ص179. 2 الإصابة ج5، ص244. 3 الإصابة ج5، ص244.

فازدادوا بأسًا، وامتلئوا شجاعة، فباعوا أنفسهم في سبيل الله وفي طاعته، هكذا تعلموا في مدرسة الوحي: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4-6] . راح الفتى المؤمن في هذا الجو يكتسب صفات الفارس الإسلامي، ويسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "ماذا أعددت للجهاد يا قعقاع"؟ فيجيب: "طاعة الله ورسوله والخيل". فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تلك الغاية" 1. فهذا جوابه للنبي لا يخرج عما تعلمه في مدرسة الوحي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 10-13] . ولهذا حظي الفتى المؤمن بحب الصدر الأول من الصحابة، فكان لأبي بكر فيه ثقة بالغة ورأي حسن، حتى ليقول عنه: "لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل"2. وقد أرسله أبو بكر على رأس حملة لتأديب علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص، الذي كان ارتد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج على رأس كلاب وحلفائها، بعد فتح الطائف حتى لحق بالشام، فلما قبض الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل مسرعًا حتى عسكر في بني كعب مقدمًا رجلًا ومؤخرًا أخرى، وبلغ ذلك أبا بكر فبعث القعقاع وقال له: "سر حتى تغير على علقمة لعلك تأخذه لي أو تقتله، فاصنع ما عندك". وكان الفتى عند حسن ظن الخليفة. فإنه ما لبث حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة، فاستبى نساءه وبناته وامرأته، وقدم بسبيه وبعلقمة أسيرًا على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم3.

_ 1 الإصابة ج5، ص244. 2 الإصابة ج5، ص244، أسد الغابة ج4، ص207. 3 الأغاني "الساسي" ج15، ص55، 56.

وأخذت ثقة أبي بكر تزداد به وتعظم، وعندما استمده خالد بن الوليد عند منصرفه إلى العراق أمده به، فقيل له: أتمده رجلًا انفض عنه جنده برجل؟ فأجاب أبو بكر: "لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع"1. وقد أيدت الحوادث ثقة أبي بكر، فلم يهزم جيش كان فيه القعقاع خلال الفتوح في العراق والشام، فقد كان صمام أمن المسلمين في كل معركة اشترك فيها، وإن لم يكن قائدها؛ إذ يكون المسلمون أقرب ما يكونون إلى الهزيمة فإذا به يلوح في الأزمات فيبدل هزيمتهم نصرًا مؤزرًا، مثله مثل السهم الأخير في الْجَعْبَة، وقد صدق حين قال عن نفسه في هذا المعنى: يدعون قعقاعًا لكل كريهة ... فيجيب قعقاع دعاء الهاتف2

_ 1 الإصابة ج5/ 244. 2 الإصابة ج5/ 245.

القعقاع فارس الفتوح

2- القعقاع فارس الفتوح: رافق القعقاع خالد بن الوليد في فتح العراق إلى أن فصل معه إلى الشام، ثم كان على مقدمة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، الذي قاد جيش العراق وعاد به إلى القادسية. وغزا بعد ذلك مع سعد بن أبي وقاص، والنعمان بن مقرن في نهاوند. ولا نسمع عنه شيئًا بعد هذا في الفتوح. وقد أبلى القعقاع بلاء رائعًا في المعارك التي اشترك فيها، ويكاد بلاؤه يصور ملحمة رائعة، تضعه في زمرة الفاتحين المعدودين في تاريخ الحروب قاطبة، وأكاد أتصوره فتى قويًّا ليس بضخم الجثة، بل أميل إلى النحول. عيناه واسعتان تبرقان بذكاء حاد، عريض الجبهة، كثيف الحاجبين، يرتسم على وجهه ما يعبر عن القسوة والصرامة، مقطب الجبين، مفكرًا مطرقًا في أغلب أوقاته، يتبع قائده المظفر خالد بن الوليد، ويتابعه ويتأثر به، حتى ليكتسب منه صفات الجرأة والمبادرة، وكثيرًا من خدع الحرب. وفي أول التقاء بين خالد والفرس -بقيادة هرمز عند الحفير- يفقد خالد حكته أمام تحدي القائد الفارسي له، عندما دعاه للنزال فيرمي إليه بنفسه، وبينما هما يختلفان ضربتين احتضنه خالد يريد قتله، فإذا بأهل فارس يغتنمونها فيشدون يريدون قتل خالد وإنقاذ

قائدهم من بين يديه، فإذا بظل القائد "القعقاع" يخرج من بين الصفوف فيحمل عليهم حملة عنيفة مفاجئة، ويهزمهم هزيمة نكراء1. واشترك القعقاع مع خالد في فتح الحيرة، ولما فصل خالد إلى الأنبار في طريقه إلى دومة الجندل لم يجد بين أمرائه أحدًا خيرًا من القعقاع، فخلفه على الحيرة ولم يكد خالد يرتحل حتى ثار العراق، وكذلك فعل أهل الحيرة ظانين أن الحظ واتاهم، وسرعان ما راح القعقاع يدافع بني تغلب -الموتورين لمقتل عقة- وبعث بالأنباء إلى خالد، فطار من دومة إلى الحيرة؛ حيث خلف عليها عياضًا، وأطلق القعقاع إلى الحصيد، وقد أمده من روحه بقوة على قوته، ولم يثبت له العجم، فقتل قائدهم، وفر جيشهم، وفر الفالة إلى الخنافس، فتابعهم، ففروا. وفي المصيخ تواعد خالد والقعقاع وأبو ليلى بن فدكي؛ حيث ملئوا الفضاء بجثث القتلى. وعندما أمر أبو بكر خالدًا بالتوجه إلى الشام ضن خالد بالقعقاع، فرفض أن يتركه للمثنى2. وفي الشام أبلى القعقاع في كل المعارك التي شهدها بلاء حسنًا، وكان على كردوس من كراديس القلب، يفعل أفاعيله بالروم حتى انتصر المسلمون3. وشهد مع خالد فتح دمشق، وتربص معه عند أسوارها، وقد اتخذ حبالًا كهيئة السلالم، وعبرا مع نفر من شجعان المسلمين الخندق عائمين على القرب، وأثبتا حبالهما في السور وتسلقا، ثم انحدرا، والمسلمون من خلفهما يتبعونهما، حتى فتحوا باب دمشق وتدفق إليها المسلمون، ثم شهد وقعة فحل حتى فتحت، وكان له فيها بلاء مذكور. وبعد الفتح سيره أبو عبيدة على مقدمة هاشم إلى العراق. وبينما كان المسلمون والفرس مشغولين -بدفن قتلاهم صباح يوم أغواث- كان القعقاع يسرع السير في ألف من جند هاشم على مقربة من القادسية، وأعمل حيلته ليشد مقدمه عزائم المحاربين في هذه الموقعة الخطيرة فقسم رجاله الألف إلى عشر فرق، وعهد إليهم ألا تسير فرقة حتى تكون الفرقة التي سبقتها على مدى البصر، وسار على رأس الفرقة الأولى، وبلغ سعدًا

_ 1 البلاذري 242. 2 الطبري ج4، ص2093. 3 الإصابة ج5، ص244.

قبل استئناف القتال فبشر المسلمين بالمدد، وانطلق يتقدم الصفوف يستفتح القتال، قائلًا للمسلمين: اصنعوا كما أصنع، ونادى: "من يبارز؟ " فخرج له من يقول: أنا بهمن جاذويه، فإذا بالقعقاع يصيح: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر، وانقض عليه فأورده حتفه، فتنشط الناس وفعلوا كفعله، وكان كلما رأى فرقة تتقدم كبر فكبر المسلمون، وهجموا، وهم يرون فعاله بالفرس وتدفق الجند فحملوا، والقعقاع يصيح: باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس بها. واتصل القتال إلى منتصف الليل، حتى لم يعد أحد من الفريقين يرى الآخر، والقعقاع يزاحف الفرس حتى زاحفهم ثلاثين زحفًا، وقتل في كل زحف فارسًا1 حتى استحق في آخر هذا اليوم فرسًا من عدة أفراس وسيوف أرسلها الخليفة لتقسم في أهل النجدة والبلاء. وقد قام هو وبنو عمه بحيلة بارعة؛ إذ برقعوا إبلًا وجللوها، منتهزين غياب الفيلة في ذلك اليوم -لتقطع وضنها يوم أرماث- وكان للإبل في هذا اليوم بلاء كبلاء الفيلة في اليوم السابق. ونام المسلمون والفرس ليلتهم، بينما أخذ القعقاع يسرب جنده طوال الليل إلى المكان الذي قدموا منه، على أن يقدموا بالطريقة ذاتها، فإن أدركهم هاشم وجاء بمن معه فذاك، وإلا جددوا للناس رجاء في المدد، فزادهم هذا الرجاء إقدامًا. ووقف الفارس الذكي عند الفجر في المؤخَّرة يتطلع ناحية الصحراء، فلما بدأت خيله تقبل كبر وكبر الناس، وتبعهم جند هاشم يتلاحقون دراكًا، ونشب القتال وفعلت الفيلة فعلها، ورأى سعد بأسها، وخشي أن تتكرر مقتلة بني أسد، فأرسل إلى القعقاع وعاصم أخيه، وطلب إليهما أن يكفياه الفيل الأبيض -وكان بإزائها- فترجل القعقاع وأخوه ووضعا رمحيهما في عيني الفيل، الذي تراجع من الألم، فطرح سائسه وولى مشفره، فضربه القعقاع بسيفه فاختلت صفوف الفرس، وحمي وطيس القتال. ولما كبر طليحة بأسفل المخاضة ارتاع أهل فارس، وظنوا جيوش المسلمين قد غدرت بهم، وظن المسلمون أن الفرس فتكوا برجالهم، وأغار عمرو بن معديكرب على جماعة من الفرس، فتقدموا زاحفين، وسقط صديق القعقاع "خالد بن يعمر التميمي" مجندلًا في

_ 1 الإصابة ج5/ 244.

دمائه، وكان صادق الحملة على الأعداء، فإذا به ينقلب وحشًا ضاريًا، يطيح برءوس الفرس بسيفه من غير أن يستأذن سعدًا الذي راح يقول: "اللهم اغفرها له وانصره، فقد أذنت له وإن لم يستأذني"1. ولحقت بالقعقاع القبائل، فحملت خلفه، وظلت أصوات الفرسان عالية حتى تقدم الليل فخفتت. وسيطرت قعقعة السلاح على الأسماع، بات الجيشان يقتتلان أعنف قتال وأقساه. والحرب تدور حول القعقاع وهو يرتجز ويسير في الناس قائلًا: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، حتى كان النصر، فتابع المنهزمين في جنده يأسرون من نجا من القتل. وها هو في جند سعد، وقد وقف نهر دجلة يحول بينهم وبين المدائن، وهم ينظرون إلى تدافع مياهه، ويأتي ببعض الفرسان يسألهم: كيف العبور؟ فدلوه على مخاضة في النهر تخاض إلى صلب الوادي؛ لكنه خشي عادية التيار على جنده، فلما أتاه النبأ بأن يزدجرد حمل خزائنه إلى حلوان جمع الجند، وراح يدعوهم إلى العبور، وانتدب حامية تحمي الجند من ذوي البأس، وكان أول من انتدب عاصم بن عمرو ومعه ستون نفرًا، وهو يصرخ فيهم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} واقتحم النهر وزملاؤه معه. فلما رأى القعقاع الفرسان يتقدمون في سبحهم مد بصره فرأى الفرس يتهيئون للقائهم فسرعان ما انتدب ستمائة دفع بهم إلى النهر، والفرس مذهولون يقولون: إنكم لا تقاتلون إنسًا، وبعد أن دخل المسلمون المدينة طارد القعقاع بن عمرو فارسيًّا فقتله وأخذ منه عيبتين، فيهما أسياف وأدراع لكسرى، وهرقل، ولخاقان الترك، ولموك آخرين2. ثم ها هو بعد ذلك يعينه الخليفة عمر باسمه على مقدمة هاشم بن عتبة ليأتي جلولاء، وقد تحصن الفرس بها مستميتين في الدفاع عنها، فحاصرها المسلمون ثمانين يومًا، والأمداد تأتي إليهم من المدائن، وتأتي إلى الفرس من جلولاء، وكان الفرس يخرجون ليزاحفوا المسلمين متى شاءوا ثم يعودون إلى حصونهم منهزمين. وأيقن الفرس أنهم سائرون إلى الهزيمة لو استمر الأمر هكذا، ورأوا أن يباغتوا المسلمين. وذات يوم

_ 1 الطبري ج5، ص2232. 2 الإصابة ج5، ص245.

باغتوهم صباحًا بأهوال الرماح حتى نفد النشاب من الفريقين، وصلى المسلمون الظهر إيماء، ووقف القعقاع يخطب في جنده: أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون؟ قالوا: نعم، إنا كالون وهم مريحون. قال القائد الذي لا يعرف إلا النصر: بل إنا حاملون عليهم ومجددون في طلبهم حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم، وحمل فحمل المسلمون. ورأى القعقاع الناس يتحاجزون لإقبال الليل فنادى -وقد دبر في نفسه أمرًا: "أين أيها المسلمون، هذا أميركم على باب خندقهم فأقبلوا عليه"، فحملوا على الخندق، وهم يظنون هاشمًا بالخندق، فاقتتلوا قتالًا أشبه بليلة الهرير، فلما انتهوا إلى باب الخندق لم يجدوا إلا القعقاع1، ورأوا الفرس ينهزمون أمامهم، ويحول الخندق بينهم وبين الارتداد إلى المدينة، فأخذهم المسلمون حتى قتل منهم مائة ألف، وفر من بقي إلى حلوان. فأتبعهم القعقاع فأدرك مهران فقتله، وفر الفيرزان إلى حلوان ينهب الأرض؛ ليخبر يزدجرد بهزيمة جلولاء، وانتهى إلى الري. وقدم القعقاع حلوان؛ حيث خرج إليه حماتها فقاتلوه قتالًا عنيفًا، ثم انهزموا أمامه2. ولما فكر عمر في بناء محلة للمسلمين الذين لم يتلاءموا مع وخومة المدائن، استقدم سعد عبد الله بن المعتم والقعقاع بن عمرو وأمرهما بارتياد المكان الصالح لمقام العرب3. ثم ها هو كره أخرى بالشام، يرسل به سعد بن أبي وقاص على رأسه أربعة آلاف كأمر الخليفة عونًا لأبي عبيدة، عندما حصرته الثورة في حمص، إبان حملة قسطنطين، فانطلق في فرسانه يغذون السير من الكوفة إلى حمص. وفي نفس الوقت كان عياض وعبد الله بن عتبان والوليد بن عقبة وسهيل بن عدي يعزلون القبائل التي سارت من الجزيرة تريد لقاء الروم حلفائهم، وأسقط في أيدي الروم، وأخذهم المسلمون من جيش أبي عبيدة قبل وصول القعقاع بثلاثة أيام. ثم نراه يقوم بدور كبير يوم نهاوند؛ إذ تحصن الفرس في حصن لهم وجعلوا يترقبون، وطال حصار المسلمين حتى عظم الضيق، فعقد النعمان بن مقرن مؤتمرًا قرر أن

_ 1 الطبري ج5، ص2459. 2 ياقوت ج2، ص317. 3 الطبري 1/ 5/ 2484، 2485.

يبعث المسلمون خيلًا تحدق بالأعداء فترميهم؛ لينشبوا القتال ويثيروا الفرس للخروج، فإذا استثيروا وخرجوا تقهقرت خيل المسلمين استطرادًا، حتى يطمعوا الفرس في هزيمتهم، فيرتد المسلمون فيحصرونهم ويأخذونهم على وجوههم. وضعت الخطة، ولكن من الفارس الباسل الذي ينفذها بنجاح، دون أن يكون تقهقره مؤديًا إلى الهزيمة فعلًا لا افتعالًا؟ هناك القائد وأخواه، وحذيفة، وعمرو بن معديكرب، وطليحة ... وغيرهم، ولكن النعمان ينتدب القعقاع ليذهب إلى ظاهر المدينة لينفذ خطته. وأطاع الجندي الباسل، فتقدم فرمى المدينة بالنبل. وأظهر العزم على اقتحام الأسوار، وأبدى من ضروب البأس ما جعل الفرس ينهضون إليه ليصدوا هجومه. وأثار المسلمون حماسة عدوهم -بقتلهم كل من يبرز إليهم- فخرجوا، ورأوا جند القعقاع قلة فاغتبطوا واجتازوا الأسوار والجند يقاتلون المسلمين، وثبت لهم القعقاع زمنًا حتى لا تنكشف حيلته، ثم تظاهر بالهزيمة وولى بجنده مدبرًا أمامهم، فتابع القعقاع فراره ليبعد بهم عن المدينة، وعن مدى النبل، ورأى القعقاع الفرس يتابعونه ومعهم حسك الحديد ينقلونه أمامهم؛ ليضمنوا الحماية من كرة المسلمين فأمعن في الفرار، وأمعن الفرس في تعقبهم، وقد تيقنوا من هزيمة المسلمين، فتركوا حسك الحديد وراءهم، وأسرعوا يطلبون المسلمين. وهنا انحاز القعقاع إلى جند النعمان وثبت في مواجهتهم، وتراجع الفرس يتفكرون في المكيدة. واستحث الأمراء قائدهم أن يأمر بالهجوم، ولكنه انتظر وحبس جنده عن الفرس، ولم ينجد القعقاع، فأقبل الفرس يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا الناس بعضهم إلى بعض، والنعمان يصبرهم منتظرًا الزوال ومهب الرياح، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وسار النعمان يحمل رايته يحض الجند ويحمسهم، ثم كبر وحمل، فتبعه المسلمون ينقضون كالعقبان، واشتد القتال، ولم يكن يسمع إلا صيحات الأبطال ووقع الحديد على الحديد. واستحرت الحرب فانهمرت الدماء، وأخذت الدواب تنزلق. وبينما النعمان على جواده استجاب الله دعاءه وأناله الشهادة، فزلق جواده في الدماء فصرعه وجاءه نعيم أخوه فسجاه بثوبه، وأخذ اللواء فدفعه إلى حذيفة، ولكن حذيفة أقامه مقام أخيه، وأمره بإخفاء الخبر. وأقبل الليل والمسلمون يدفعون عدوهم أمامهم، حتى أصاب الفرس الإعياء فتراجعوا منهزمين، فإذا بالحسك في انتظارهم مكانه

بوقف تراجعهم، فأرادوا الانحراف، فإذا أمامهم خندق عميق، أعماهم الخوف عنه وستره الظلام فهووا فيه بخيولهم، وهلك فيه ثمانون ألفًا، غير ثلاثين ألفًا لاقوا حتفهم في المعركة وفوق الحسك. وفر الفيرزان فيمن فر يطلب النجاة، فتبعه القعقاع وأدركه عند ثنية همذان، وكانت بعض الدواب تحمل عسلًا في هذه الثنية فسدت على القائد الهارب سبيله، فترجل يريد النجاة في الجبل، فتبعه القعقاع وقتله، ويمم شطر همذان، حيث صالحه أميرها1. وبعد فتح الفتوح لا نعود نسمع شيئًا عن هذا البطل في الفتوح، إلا أن ابن الأثير يذكر: أنه سكن الكوفة، ثم كان مع علي بن أبي طالب، فشهد معه الجمل وغيرها من حروبه. وقام بينه وبين طلحة والزبير بسفارة وكلمهما كلامًا كاد يقرب به الناس إلى الصلح2. هذا هو بلاء القعقاع بن عمرو فارس الفتوح الإسلامية، فتى من فتيان الله، باع حياته خالصة له، وجاهد في الله حق جهاده، واستمات في نصرة دينه في تفانٍ مخلص، ومهارة فائقة، وذكاء نادر، وفدائية مؤمنة لا يعوقها شاغل خاص، ولا يعترضها قصد إلا إعلاء كلمة الله وحمل رسالته إلى أصقاع العالم، فلا غرو إذا دعوناه بفارس الفتح، ولا غرو إذا ما دعوناه بشاعر الفتح إذ استوى نضجه في أتونه، ونمت شاعريته في ظلاله، فصور أحداثه تصويرًا دقيقًا في شعره، فكان شعره مرآة للأحداث التي صنعها بسيفه.

_ 1 الطبري ج5، ص2626، ياقوت ج4، ص827. 2 أسد الغابة ج4، ص207.

القعقاع شاعر الفتوح

3- القعقاع شاعر الفتوح: وكما لا تذكر الروايات شيئًا عن حياته في الجاهلية، فإنها لا تذكر شيئًا عن شعره أو ما يفيد معرفة به قبل الإسلام، فمجموع شعره إسلامي، أو بعبارة أدق: ليس له شعر إلا في الفتوح التي أنطقته بالشعر. وقد أسهم هذا إلى جانب وضوح حياته وبلائهفي الفتوح في تواتر شعره، وازدياد الثقة بصحته جميعًا؛ إذ يقترن شعره بحياته خطوة بخطوة، ويتفق مع الأحداث التاريخية اتفاقًا تامًّا. وعلى هذا فشعره يمكن أن يعد وثيقة تاريخية بالغة القيمة، فهو مرآة لأحداث الفتوح التي عاشها الشاعر الفارس وعاصرها؛ حيث تنعكس عليه جميع جوانبها، من تحركات وتحولات وقتال ونصر واستشهاد، ولم يحدث أن تحركت كتيبة من مكان إلى مكان، أو تحولت من ميدان إلى ميدان، ولا من معركة إلى معركة إلا وسجل شعره ذلك، حتى لتختلف الروايات التاريخية في أمر الفتوح الأولى في الشام، وشهود كتيبة خالد هذه الفتوح، فإذا بشعره يسجل الوقائع التي حدثت في الشام مرتبة ترتيبًا زمنيًّا، مبتدئًا بسقوط خالد على بني غسان في ديارهم، متنقلًا إلى بصرى؛ حيث التقى بسائر جند المسلمين ومتنهيًا إلى اليرموك، فقال: بدأنا بجمع الصفرين فلم ندع ... لغسان أنفا فوق تلك المناخر وجئنا إلى بصرى وبصرى مقيمة ... فألقت إلينا بالحشا والمعاذر فضضنا بها أبوابها ثم قابلت ... بنا العيس في اليرموك جمع العشائر1 ولم يترك معركة اشترك فيها إلا وصورها في شعره، مشيدًا ببطولته وبطولة المسلمين، فعل ذلك في الحفير، وفي الولجة، وفي الثني، وفي الحيرة، وفي الحصيد، وفي الخنافس والمصيخ، وعند اليرموك، ودمشق، وفحل، وفي القادسية، والمدائن، وجلولاء، وحلوان، وأخيرًا في نهاوند. ويكاد يكون القعقاع لهذا أكثر شعراء الفتوح شعرًا وأغزرهم إنتاجًا، فله في كل موقعة من هذه المواقع مقطوعة أو أكثر. وينصرف شعره كله في الإشادة ببلائه وبلاء قومه، والإشادة ببطولات الفرسان من أصدقائه ورثائهم، وتصوير قسوة المقاومة التي يلقونها من الفرس وعرب القبائل والروم، والحوادث التي تقع في أثناء المعارك، فضلًا عن أرجازه التي كانت تهيب بالمسلمين أن يتقدموا للقاء أعدائهم. فهو يفخر بفعاله يوم نهاوند، حينما تعقب ركب الفيرزان وقتله عند ثنية العسل، ويذكر هتكه لبيوت الفرس، ومباغتتهم في قراهم فيقول:

_ 1 ياقوت ج4، ص1015.

جذعت على الماهات في ألف فارس ... بكل فتى من صلب فارس خادر هتكت بيوت الفرس يوم لقيتها ... وما كل من يلقى الحروب بثائر جست ركاب الفيرزان وجمعه ... على فتر من جرينا غير فاتر هدمت بها الماهات والدرب بغتة ... إلى غاية أخرى الليالي الغوابر1 ويتناول هذه الوقعة في مقطوعة أخرى، يصور فيها متابعته للفيرزان، وما كان من سقوط الفرس في خندق نهاوند، المسمى وادي خرد، فيقول مفتخرًا بصنيعه: ويوم نهاوند شهدت فلم أحم ... وقد أحسنت فيه جميع القبائل عشية ولي الفيرزان موايلا ... إلى جبل آب حذار القواصل فأدركه منا أخو الهيج والندى ... فقطره عند ازدحام العوامل وأشلاؤهم في وادي خرد مقيمة ... تنوبهم عبس الذئاب العواسل2 وقد تناول هذه المعركة كرة أخرى، مفتخرًا بقومه الذين أبلوا معه فيها بلاء حسنًا، وكأنه يدفع عنهم اتهامًا بالتقصير، ويعدد فعالهم بالفرس يوم نهاوند فيقول: رمى الله من ذم العشيرة سادرا ... بداهية تبيض منها المقادم فدع عنك لومي لا تلمني فإنني ... أحرط حريمي والعدو الموائم فنحن وردنا في نهاوند موردا ... صدرنا به والجمع حران داحم ونحن حبسنا في نهاوند خيلنا ... لشر ليال أنتجت للأعاجم فنحن لهم بينا ونصل سجلها ... غداة نهاوند لإحدى الفطائم ملأنا شعابا في نهاوند منهم ... رجالًا وخيلًا أضرمت بالضرائم وراكضهن الفيرزان على الصفا ... فلم ينجه منها انفساح المخارم ألا أبلغ أسيدًا حيث سارت ويممت ... بما لقيت منا جموع الزمازم

_ 1 ياقوت ج4، ص405. 2 ياقوت ج4، ص896.

غداة هووا في واي خرد فأصبحوا ... تعودهم شهب النسور القشاعم قتلناهم حتى ملأنا شعابهم ... وقد أنعم اللهب الذي بالصرائم1 ويصف أسلحة المسلمين في هذه الواقعة التي أثار المسلمون فيها الفرس بالرمي، ثم لجئوا إلى السيوف عندما خرجوا إليهم، فيقول مشيدًا بالمسلمين: هم هدموا الماهات بعد اعتدالها ... بصحن نهاوند التي قد أمرت بكل قناة لدنة برمية ... إذا كرهت لم تنتنى واستمرت وأبيض من ماء الحديد مهند ... وصفراء من تبع إذا هي رنت2 وفي ليلة الهرير: رأى القعقاع صديقه العزيز خالد بن يعمر التميمي يدافع الفرس ويبلي بلاء الأبطال، فأشاد بصنيعه، وقال في ذلك: حضض قومي مضر حي بن يعمر ... فلله قومي حين هزوا العواليا وما خام عنها يوم سارت جموعنا ... لأهل قديس يمنعون المواليا3 ولكن صديقه لا يلبث أن يسقط مجندلًا، فينطلق القعقاع وكأنه "آشيل" يرى صديقه "باتروكلوس" صريعًا، فيحس الفرس بسيفه مزاحفًا، دون أن يأذن له سعد، ويقول معبرًا عن أحاسيسه في هذه اللحظة، وما انطوى عليه صدره من غيظ ورغبة في الثأر: سقى الله يا خوصاء قبر ابن يعمر ... إذا ارتحل الغار لم يترحل سقى الله أرضًا حلها قبر خالد ... ذهاب غواد مدجنات تجلجل فأقسمت لا ينفك سيفي يحسهم ... فإن زحل الأقوام لم أتزحل4

_ 1 ياقوت ج4، ص827، 896. 2 ياقوت ج4، ص405. 3 ياقوت ج5، ص2326. 4 الطبري ج5، ص2230.

والقعقاع الفارس الذي يشيد ببلائه في شعره لا يجد غضاضة في الشهادة بقدرة أعدائه، وبلائهم في الدفاع عن أرضهم، فيصور شجاعتهم وحمايتهم لبلادهم فيقول فيما كان من دفاع العرب الذين حشدهم الفرس بين الولجة وكثرتهم من بكر بن وائل: ولم أرَ قومًا مثل قوم رأيتهم ... على ولجات البر أحمى وانجبا وأقل للرواس في كل مجمع ... إذا ضعضع الدهر الجموع وكبكبا1 وعندما يجتمع الفرس والروم على ملاقاة المسلمين بالفراض، يصور القعقاع التقاء هذا الحلف وإبادة المسلمين لهم حتى صرعوا كالأغنام، قال: لقينا بالفراض جموع روم ... وفرس عمها طول السلام أبدنا جمعهم لما التقينا ... وبيتنا بجمع بني رزام فما فتئت جنود السلم حتى ... رأينا القوم كالغنم السوام2 وفي يوم أغواث قدم رسول من الخليفة بأربعة جياد وأربعة سيوف، لتقسم في أهل النجدة والبلاء، فاستحق القعقاع جوادًا لما قدم في هذا اليوم فيذكر هذه المكافأة ويشيد ببطولته: لم تعرف الخيل العراب سواءنا ... عشية أغواث بجنب القوادس عشية رحنا بالرماح كأنها ... على القوم ألوان الطيور الرسارس3 وخلف القعقاع بعض أراجيز كان يهدر بها عند لقاء الفرس في القادسية والروم في اليرموك، ففي يوم اليرموك كان على أحد كراديس القلب، يفعل بالروم الأفاعيل، ويجندل أبطالهم، وهو يرتجز بقوله: يا ليتني ألقاك في الطراد ... قبل اعترام الجحفل الوراد وأنت في حلبتها الوراد4

_ 1 ياقوت ج4، ص936. 2 ياقوت ج3، ص894. 3 ياقوت ج1، ص321. 4 الطبري ج4، ص2097.

وفي القادسية -في زحوفه الثلاثين يوم أغواث- كان يرتجز في كل زحف يحمل فيه، من مثل قوله: أزعجهم عمدًا بها إزعاجا ... أطعن طعنًا صائبًا ثجاجا أرجو به من جنة أفواجا1 وكانت آخر حملاته في هذا اليوم تلك التي قتل فيها يزرجهر، فأنشد وهو يسقيه كأس حتفه: حبوته جياشة بالنفس ... هدارة مثل شعاع الشمس في يوم أغواث فليل الفرس ... أنخس بالقوم أشد النخس حتى تفيض معشري ونفسي2 وكان رجزه بشيرًا بالنصر، عندما تناهى صوته إلى سعد، وهو يقول: نحن قتلنا معشرًا وزائدا ... أربعة وخمسة وواحدا تحسب فوق اللبد الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا الله ربي واحترزت عامدًا3 وهكذا نرى شعر القعقاع يمتد فيشمل جميع أغراض الشعر في هذا المقام، ويصور جوانب الحياة المختلفة في الفتوح الإسلامية تصويرًا دقيقًا، يجعل الاعتماد على شعره أمرًا ضروريًّا لكل من يُعْنَى بدراسة الفتوح، ورسم صورة كاملة لجميع أقطارها. وكذلك كان رجزه أحد العوامل المثيرة في إقدامه وإقدام جنده في هذه الحملات العديدة التي صممها وقادها في اليرموك والقادسية. ويكاد يكون شعره استغرق كل موضوعات الشعر التي خاض فيها شعر الفتح جميعه، اللهم إلا شعر الحنين، فلسنا نعرف له في هذا الموضوع شيئًا، وإن كنا نرجح أن سبب هذا وجود جموع كبيرة من أبناء عمومته معه في حرب العراق، ووجود زوجته

_ 1 الطبري ج5، ص2311. 2 مروج الذهب ج2، ص206. 3 الطبري ج5، ص2333.

النخعية معه كذلك1. ويخلو شعره أيضًا من أية دلالات على حياته الخاصة أو عواطفه الشخصية في غير موضوعات الفتوح، وكأنما طرح الشاعر كل ما يمت إلى حياته الشخصية وراء ظهره، حينما استقبل حياة الطعان والجلاد. فإذا بنا لا نجد في شعره شيئًا يكشف لنا عن كنه شخصيته، إلا بما يميزها من الشجاعة والفروسية والفدائية المؤمنة، وتنعكس كل هذه الصفات في افتخاره بنفسه وعشيرته وبجماعة المسلمين. وهو في هذا يشارك شعراء الفتوح جميعًا؛ إذ لم يعد لهم في حياتهم ما يعبرون عنه في شعرهم إلا ما هو ماثل أمام أعينهم، وما تمتلئ به وجداناتهم من أحداث وانفعالات. وشعره كما هو واضح شعر بسيط لا غموض فيه ولا تعمل ولا زخرفة، فكل قصد هذا الشعر أن ينفس عما في وجدان صاحبه تنفيسًا بسيطًا، كاستجابة حرة وطليقة للعوامل النفسية التي تتلبس به. ومن هنا نجد شعره متدفقًا، دون قسر في التعبير، أو تعسف في التصوير، أو جفوة في أفكاره، أو زخرف في ألفاظه؛ ولهذا فهو شعر صادق لا تكلف فيه، حار لا زيف فيه، وهو -أولًا وآخِرًا- صورة نفسية لذات صاحبه وأفكاره، فضلًا عن كونه سجلًّا حافلًا للفتوح التي أسهم فيها، وتاريخًا أدبيًّا لفروسيته.

_ 1 الطبري ج5، ص2354.

الباب الثالث: مقومات شعر الفتوح وطوابعه

الباب الثالث: مقومات شعر الفتوح وطوابعه الفصل الأول: شعر الفتوح أنواعه وموضوعاته 1- قصيد ورجز: نحن أحوج ما نكون هنا إلى أن نتذكر ما قدمنا من وصف لتحركات الجيوش، وعنف المقاومة وأهوال القتال، وما كان يشغل المحاربين من التحول الدائم والحركة الدائبة، وما كان يملأ نفوسهم من مشاعر الأمل والخوف والقلق والغبطة، وغير ذلك من إحساسهم بالوجل والاغتراب، وما يمكن أن يتعرضوا له أمام عدو باطش، في أرض بعيدة عن أرضهم وعن ذويهم. حقًّا كانت فكرة الجهاد تجذبهم بألقها، وتدفعهم إلى استرخاص أرواحهم في سبيلها، مؤمنين بنصر الله وبما وعدوا من الجنة وحسن المآب، ولكن العواطف الإنسانية المختلفة لا بد أن تثير فيهم هذه المشاعر، في مثل هذا الموقف الرهيب. ومهما كانت مشاغل الفاتحين واهتماماتهم عظيمة وضخمة، فإنها لا بد أن تضيق عن استنفاد مثل هذه المشاعر، ولا بد أيضًا لهذه المشاعر أن تجد منفذًا تتسرب خلاله طاقاتها، فيفرج عن الفاتحين بعض ما تزخر به جنباتهم، ويعبرون فيه عن هذه العواطف وتلك المشاعر. وقد استنفد التعبير الشعري كل هذه الطاقات النفسية واستوعبها؛ إذ انطلق الشعر على كل لسان، وقدمت الفتوح بانتشارها وتمددها لهؤلاء الفاتحين مادة هذا الشعر في أحداثها، وما تثيره من أحاسيس في هذه البيئات الجديدة، وما عانوا فيها من ابتعاد عن بيئتهم. وقام الشعر بهذه المهمة خير قيام، وإن طبع بطوابع أملتها عليه الظروف القاسية للمعارك وتلاحقها وعنفها، فاتسم بخصائص معينة في شكله ومضمونه. ومن اليسير أن نتتبع أنواع هذه المنظومات، وأن نجمعها في نوعين كبيرين من حيث الشكل الفني، وهما: القصيد والرجز. فمع أن الرجز ليس إلا وزنًا من أوزان

الشعر، وليس له قالب مستقل بذاته، إلا أننا نميل إلى جعله نوعًا مستقلًّا من أنواع التعبير؛ لمخالفته للشعر في شكله العام، وفي اقتصاره على أبواب معينة وموضوعات بذاتها، فضلًا عن تميزه بدور كبير في ظروف القتال، لم يتسن للشعر، في التحميس ورفع روح المحاربين، إلى جانب أن الرجز لسهولته وقربه من السليقة العربية كان سبيل الشعراء المغمورين، الذين أنطقتهم الفتوح، وهم كثرة كثيرة. بينما كان شعر القصيد سبيل الممتازين من الشعراء، وإن كان لم يحتفظ بخصائص الشعر العربي التقليدية، فأضحى مقطعات قصيرة قليلة عدد الأبيات. وفي الحقيقة: إن شعراء الفتوح جميعًا قد خضعوا خضوعًا متماثلًا للطوابع التي طبعت بها الفتوح شعرهم جميعًا، ففضلًا عن تركز اهتماماتهم ونوازعهم في المسئولية الضخمة التي يحملونها، فإن ظروف القتال وقسوة الحياة تحت ظلال السيوف لم تكن لتعينهم على التنفس الغنائي الهادي، والتعبير الوجداني المنساب، في قصائد متأنية مديدة النفس. ولهذا كان تنفسهم سريعًا لاهثًا ومتلاحقًا، وخاطفًا ومحدودًا في مضمونه وفي شكله بطبيعة الحال، فاتخذ القريض شكل المقطعات القصيرة. واستتبع هذه الإحاطة بمقدمات القصائد التي تعتبر من أهم تقاليد الشعر العربي، الموروثة عن العصر الجاهلي، والتي ظلت تحكم الشعر ردحًا من الزمان، ولم تفلح الثورات الأدبية في الإطاحة بها بعد ذلك. ومهما كان رأي الباحثين في هذه المقدمات الطللية والغزلية من أنها ترتفع بالشاعر إلى بيئة شعرية رفيعة يخرج فيها عن أطوار الحياة الواقعية المادية إلى عواطف الحنين والشوق مما يعده للغناء1، فإن الشاعر كان يجد فيها بلا ريب متنفسًا للحديث عن ذاته، وإشباعًا لمنازعه الفردية، قبل أن يشغل بغرضه الذي كان ينصرف دائمًا إلى الفناء في وجدان القبيلة بحكم وضعه الاجتماعي. والأمر مختلف في الفتوح، فليس هناك ما يدعو إلى أن يختلق الشاعر في مقدمات قصيده، ما يكون مسربًا لفرديته؛ إذ ليس هناك حرج في أن يشيد الشاعر

_ 1 حديث الأربعاء ج1، ص22.

بذاته، ويعبر عن فرديته داخل إطار الجماعة الإسلامية تعبيرًا حرًّا، دون النجاء إلى المقدمات التي لا بد أن تشغله في مثل هذه الظروف المضطربة السريعة الأحداث عن التعبير المباشر. وكما تخفف شعر الفتح من المقدمة الغزلية والطللية تخفف بالضرورة من النظام التقليدي للقصيدة الذي ساد في الشعر العربي، وأوصى نقدته باتباعه والتمسك به قرونًا. هذا النظام الذي يوجب تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة، فتبدأ بذكر الأطلال، ثم ينتقل الشاعر منه إلى النسيب فوصف رحلته وما يعترضه فيها، ويصف ناقته إلى تقله، ويشبهها بما يشاء من الحيوان، حتى يصل إلى غرضه من المدح أو غيره. وذهب بعض نقاد العرب مذهبًا متعسفًا في تعليل حسن هذا النظام والدعوة إليه من ثم والتوصية بالتمسك به والمحافظة عليه، ففى رأيهم أن مقصد القصيد إنما ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع والدمن والآثار؛ ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها؛ إذ كانت نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر؛ لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الشوق والصبابة؛ ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، ويستدعي به إصغاء السامح إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، أو ضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه والاستماع عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب، والسهر، وسرى الليل، وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير بدأ في المدح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل1. ومن ثم يلزم هؤلاء النقاد الشعراء بأن يسلكوا تلك الأساليب لا يتعدونها، وأن يعدلوا بين أقسامها، ولكن أنَّى للشاعر المحارب في أي زمان ومكان أن يصنع هذا، وأن

_ 1 الشعر والشعراء ج1، ص21.

يزيف مشاعره بهذه الصورة المعقدة، وهي على طرف لسانه يريد أن يلقي بها تلقائيًّا وبطريق مباشر، دون أن يجعل بينه وبين غرضه الملح هذه الحواجز المتدرجة، وتلك المراحل المتسلسلة. إن الشاعر المجاهد ليريد -قبل أن يشعر أنه يريد- أن ينفض ما بنفسه ابتداء دون تقيد بتقاليد أو تمسك بنظم في التعبير، إلا ما يفرضه طبيعة الإحساس النفسي، والحالة الشعورية التي تتقمصه. ولهذا فلن نجد بين شعر الفتح كله قصيدة واحدة، تزيد أبياتها عن عشرة أبيات، ولن نجد قصيدة تشتمل على أكثر من غرض واحد إلا فيما ندر، فكل مقطوعة تستقل بموضوع واحد يعبر عنه الشاعر هذا التعبير المندفع السريع. وأدى هذا إلى جانب انطلاق الشعر على ألسنة الكثيرين من الفاتحين العاديين إلى أن يكثر الرجز، وأن ينفك عن وظيفته التي كانت له في الجاهلية كأداة للتحميس، وشحذ القوى وإلى أن يشارك القصيد في التعبير عن بعض موضوعاته التي تخرج عما ألفه الرجز في الجاهلية من الحرب والمفاخرة والحداء، فكاد يكون قسيم الشعر القصائدي، وإن ظل في شكله ومضمونه لا ينم عن إعداد أو عناية؛ نتيجة قربه من السليقة الفطرية للعرب، وارتجاله في المواطن المختلفة، وإن ظلت له نفس المهمة في التحميس. وسوف نرى أنه لم يقصر عن خوض الموضوعات التي خاضها الشعر إلا في القليل الذي لا يتفق وإيقاعه العنيف.

موضوعات قديمة متطورة

2- موضوعات قديمة متطورة: تغنَّى الشعر كما تغنَّى الرجز بموضوعات بعضها قديم تداوله الشعر العربي على اختلاف عصوره كالحماسة والرثاء، وبعضها الآخر جديد، لم يعهده الشعر العربي قبل الفتوح. فشعر الجهاد وإن جال في تصوير ظروف الفتح الجديدة فإننا لا نستطيع أن نعده بابًا جديدًا من أبواب الشعر، وكذلك الرثاء؛ إذ إن لهما جذورًا في الشعر العربي ثابتة، وغاية الأمر أن هذه الظروف الجديدة قد كست هذين اللونين من الشعر صبغًا جديدًا فتطورًا قليلًا، وإن دلا على تأثرات جديدة؛ فإن أصلهما واضح جلي في الشعر العربي. ونعني بشعر الجهاد ذلك الشعر الذي يهدف إلى الإشادة بما كان من إقدام الجند أو الكتيبة أو الشاعر، أو صديق له أو زميل، أو قائده أو عدوه. وعن كل هذه الطرق يعبر الشاعر عن قسوة المعارك، وضراوة القتال، وشدة اللقاء، وما كان يحدث في أثناء المعارك من إقدام أو إحجام، وما قد تنتهي إليه من نصر أو هزيمة، وما يكون بعد ذلك من فخر أو تصميم على الثأر والانتقام، بينما قد يكون تصوير المعارك وما تشتمل عليه طريقًا إلى الإشادة بالنفس أو بالغير، وهكذا. وهذا الموضوع هو أكثر موضوعات الشعر التي بين أيدينا ترددًا واتساعًا، ومن أمثلة هذا الشعر الذي يشيد ببلاء الجماعة الإسلامية وبسالتها وإيقاعها بالعدو قول خليد بن المنذر في يوم طاوس: بطاوس ناهبنا الملوك وخيلنا ... عشية شهراك علون الرواسيا أطاحت جموع الفرس من رأس حالق ... تراه كموار السحاب مناغيا فلا يبعدن الله قومًا تتابعوا ... فقد خضبوا يوم اللقاء العواليا1 وقد يجعل الشاعر تصوير المعركة سبيلًا إلى تصوير بلائه والإشادة بنفسه، كقول نعيم بن مقرن قائد المسلمين في وقعة واج روذ بهمذان، التي تصدى فيها "لموتا" قائد الفرس ونكل به تنكيلًا، قال: ولما أتاني أن "موتا" ورهطه ... بني باسل جروا جنود الأعاجم نهضت إليهم بالجنود مساميا ... لأمنع منهم ذمتي بالقواصم فجئنا إليهم بالحديد كأننا ... جبال تراءى من فروع الغلاسم فلما لقيناهم بها مستفيضة ... وقد جعلوا يسمون فعل المساهم صدمناهم في واج روذ بجمعنا ... غداة رميناهم بإحدى العظائم فما صبروا في حومة الموت ساعة ... لحد الرماح والسيوف الصوارم

_ 1 ياقوت ج2، ص494.

كأنهم عند انبثاث جموعهم ... جدار تشظى لبنه للهوادم أصبنا بها "موتا" ومن لف جمعه ... وفيها نهاب قسمة غير عاتم تبعناهم حتى أووا في شعابهم ... نقتلهم قتل الكلاب الجواحم كأنهم في واج روذ وجوه ... ضئين أصابتها فروج المخارم1 وقد يشيد الشاعر بنفسه مباشرة، فيصور شجاعته وبأسه وفعاله بالعدو وتفريجه كرب المسلمين، كما فعل عروة بن زيد الخيل الطائي، فقال في معركة نهاوند: ألا طرقت رحلي وقد نام صحبتي ... بإيوان شيرين المزخرف خلتي ولو شهدت يومي جلولاء حربنا ... ويوم نهاوند المهول استهلت إذن لرأت ضرب امرئ غير خامل ... محيد بطعن الرمح أروع مصلت ولما دعوا يا عروج بن مهلهل ... ضربت جموع الفرس حتى تولت دفعت عليهم رحلتي وفوارسي ... وجردت سيفي فيهم ثم آلتي وكم من عدو أشوس متمرد ... عليه بخيلي في الهياج أظلت وكم كربة فرجتها وكريهة ... شددت لها أزري إلى أن تجلت وقد أضحت الدنيا لدي ذميمة ... وسليت عنها النفس حتى تسلت وأصبح همي في الجهاد ونيتي ... فلله نفسي أدبرت وتولت فلا ثروة الدنيا نريد اكتسابها ... ألا إنها عن وفرها قد تجلت وماذا أرجى من كنوز جمعتها ... وهذي المنايا شرعًا قد أطلت2 وقد يعمد الشاعر إلى وصف بلاء قائده ومقدرته وبراعته في سياسة جنده وفتكه بأعدائه، كقول أحد المسلمين في جيش المثنى؛ إذ يقول في يوم سوق الأنبار:

_ 1 ياقوت ج2، ص872، 873. 2 الأخبار الطوال 138.

وللمثنى بالعال معركة ... شاهدها من قبيلة بشر كتيبة أفزعت بوقعتها ... كسرى وكاد الإيوان ينفطر وشجع المسلمين إذ حذروا ... وفي ضروب التجارب العبر سهل نهج السبيل فافتقروا ... آثاره والأمور تقتفر1 وقد يعمد الشاعر إلى تصوير قوة الأعداء وثباتهم؛ ليتخذ ذلك سبيلًا إلى الفخر بنفسه وبكتيبته، مثل قول عاصم بن عمرو يوم المقر: ألم ترنا غداة المقر فينا ... بأنهار وساكنها جهارا لقينا من بني الأحرار فيها ... فوارس ما يريدون الفرارا قتلناهم بها ثم انكفأنا ... إلى فم الفرات بما استجارا2 هذه نماذج لشعر الجهاد، وهي في مجموعها لا تخرج عن فني الفخر والمدح الجاهليين. فالشاعر إذا أشاد بنفسه أو بقبيلته أو بكتيبته فإنما يفخر بها، شأنه في ذلك شأن أي شاعر جاهلي. وإذا أشاد بقائده أو زميله فإنما هو يمدحه، كأي شاعر جاهلي، ولكن -برغم هذا- هناك فرق كبير. فشعر الجهاد برغم كونه فخرًا إلا أنه يكتسي هذا الصبغ الإسلامي، الذي يتجلى في بروز فكرة الجهاد، التي وهبها الشاعر بلاءه وكفاحه. وهو حينما يعلن أنه قد أصبح همه في الجهاد يفترق عن الشاعر الجاهلي، الذي كان يفخر بالثأر والانتقام للقبيلة. وشاعر الجهاد وإن ظل شعره يتسم بسمات الفخر فهو فخر يختلف عن الفخر الجاهلي؛ إذ يصور فيه الشاعر إيمانه بقضية الجهاد ذاتها، كما رأينا لدى عروة بن زيد الخيل الذي يفخر بتفريج كرب المسلمين وكشف الأهوال عنهم، ويعلن في نفس اللحظة أنه ارتضى الجهاد سبيلًا، دون أن يكون له رغبة في زينة الدنيا وزخرفها، فقد باع كل شيء فيها بثواب الله، برغم ما تدفعه الدنيا إليه وإلى غيره من المجاهدين من

_ 1 البلاذري 250، ياقوت ج3، ص593. 2 ياقوت ج4/ 605.

كنوزها، فلا يغريهم كل هذا؛ لأنهم في سبيل الله وحده. وما قيمة الدنيا والمنايا فاغرة أفواهها محدقة بهم من كل جانب. وشيء آخر يختلف فيه شعر الجهاد عن الفخر الجاهلي، الذي أساسه القبلية والعصبية، فإن شعر الجهاد يقوم أساسًا على الوجدان الجماعي لجماعة المسلمين، في حين يشحب الفخر القبلي في شعر الفتوح شحوبًا واضحًا. وقد شغل الرجز بموضوع القديم؛ إذ كان له دور كبير في القيام مقام الموسيقى العسكرية في الجيوش الحديثة، من التحميس والتعبئة الروحية للجند. فهذا عمرو بن العاص في اليرموك يرى بعض المسلمين من لخم وجذام ينحرفون عندما ضغط جرجه في انضمامه إلى المسلمين مفاجأة فيدعوهم عمرو إلى مواصلة الجلاد، ويهددهم تهديدًا عاطفيًّا رائعًا في هذين البيتين؛ حيث يقول: القوم لخم وجذام في الهرب ... ونحن والروم نموج ونضطرب فإن تعودوا بعدها لا نصطحب ... بل نعصب الفرار بالضرب الكلب1 وقد عبر الرجز في هذا المقام عن الانفعالات السريعة المتدفقة في نفوس الأبطال، وكان حافزًا لهم على الإقدام والاستمرار في النضال والفداء. فهذا أحد عشرة إخوة من بني كاهل من أسد يشيد بضرابه وطعانه يوم القادسية، وقد سبقه إلى الشهادة إخوته فيقول: أنا ابن حرب ومعي مخراقي ... أضربهم بصارم رقراق أذكره الموت "أبو إسحاق" ... وجاشت النفس على التراقي2 وهذا أحد جند المسلمين، يرى القائد الفارسي خرزاد يفر أمام المسلمين فيقول مفتخرًا بهم:

_ 1 ابن عساكر ج1، ص174. 2 الطبري ج5/ 2328.

وآل منا الفارس الحذرة ... حين لقيناه دوين المنظرة بكل قباء لحوق مضمرة ... بمثلها يهزم جمع الكفرة1 وهذا طليحة بن خويلد، يضرب الجالينوس فيقد مغفره، فيقول: أنا ضربت الجالينوس ضربه ... حين جهاد الخيل وسط الكبه2 وهذه امرأة رجل يُدعى حنبص بن الأحوص، ترى فعال زوجها، فتتمنى أن يكون قومها جميعًا مثله فتقول: يا ليت قومي كلهم حنابصة3 وهذا رجل في جيش البراء بن عازب، في غزاة قزوين، يمجد بطولة قائده وكتيبته، وما لاقت من صنوف العنت والمشاق فيقول: قد تعلم الديلم إذ تحارب ... لما أتى في جيشه ابن عازب بأن ظن المشركين كاذب ... فكم قطعنا في دجى الغياهب من جبل وعر ومن سباسب4 هكذا ينطبع رجز الجهاد بنفس الطابع الذي رأيناه لشعر الجهاد، فيختلف عن الرجز الجاهلي، الذي كان يقوم على إثارة النعرات والتحميس للثأر والانتقام، فإذا هو أداة لتعبئة الروح المعنوية للمجاهدين في سبيل الله تعبئة روحية. فهذا الفارس تبلغ روحه الحلقوم في سبيل الله. وهذا يفخر بكتيبته التي يهزم بمثلها جمع الكفرة. وآخر يعلن أن ظن المشركين كاذب؛ إذ جاءهم المسلمون كأقدارهم. والموضوع الثاني من الموضوعات القديمة في شعر الفتح هو الرثاء، وهو غرض مستقل من أغراض شعر الفتح مقصود لذاته، وهو كشعر الجهاد تمجيد لبطولة الذين

_ 1 البلاذري 250. 2 البلاذري 260. 3 الإصابة ج2، ص95. 4 البلاذري 322.

استشهدوا، وإشادة بفعالهم، ومواقفهم، والبكاء عليهم، وافتدائهم، وتعداد مآثرهم, وهو وإن كان يتفق مع الرثاء الجاهلي فيما يشيع فيه من الحزن والأسى، وما يغلب عليه من استشعار الأسف والجزع على الفقيد، فإنه يختلف عنه فيما يمتلئ به من روح التسليم بالقضاء، والامتثال لإرادة الله وحسن تقبلها، وتمثل ما أعده الله للشهداء من جزاء عظيم، كهذا الاستسلام الذي يبدو في رثاء أبي عامر بن غيلان لولده، الذي خرج غازيًا وأدركه طاعون عمواس؛ إذ يترجم الآية الكريمة: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان} [الرحمن: 26] في قوله: عيني تجود بدمعها الهتان ... سحا وتبكي فارس الفرسان لو أستطيع جعلت مني عامرا ... تحت الضلوع وكل حي فان1 وكهذا التسليم الذي يشيع في رثاء أبي الحباب -ذريح بن الحارث- لولده الذي استشهد في قتال الفرس، فيشبهه بالشهاب الذي خمد، ويشيد ببلائه في القتال، وانعدام نظيره في الفرسان إلى يوم الدين، لكنه يعود إلى اليقين بأن لكل أجل كتاب فيقول: أبغي الحباب في الجهاد ولا أرى ... له شبها ما دام لله ساجد وكان الحباب كالشهاب حياته ... وكل شهاب لا محالة خامد2 ويتجلى هذا التسليم بقضاء الله في صورة رائعة في قصيدة أبي ذؤيب الهذلي، الذي فقد بنيه الخمسة في طاعون بمصر؛ إذ يبكيهم بكاء مرًّا، مظهرًا أسفه البالغ على فقدهم، ويذكر حمايته لهم ودفاعه عنهم، ولكنه لم يجد شيئًا أمام مناياهم التي حمت، فيقول: أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعقب من يجزع أودى بنيّ وأعقبوني حسرة ... بعد الرقاد وعبرة لا تقلع فغبرت بعدهم بعيش ناصب ... وإخال أني لاحق مستتبع ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... فإذا المنية أقبلت لا تُدفَع

_ 1 الإصابة ج3/ 14. 2 الإصابة ج2، ص181.

وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع لا بد من تلف مقيم فانتظر ... فبأرض قومك أم بأخرى المصرع ولقد أرى أن البكاء سفاهة ... ولسوف يولع بالبكا من يفجع ولتأتين عليك يوم مرة ... يبكي عليك مقنعًا لا تسمع وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع1 فمدافعة المنون عبث، والجزع أمام صروف الدهر لا قيمة له، وعلامَ يجزع وهو لاحق بهم لا محالة؟! فليس أحد بخالد، وقد حاول الدفاع عنهم وضاعت جهوده سدى، فالمنايا لا تدفع، ولكل إنسان مصرع لا يعلم زمانه ولا مكانه والبكاء سفاهة؛ إذ لا قيمة له، والباكي سوف يُبكى عليه يومًا ما. وفضلًا عن هذه الروح الإسلامية نجد اعتزازًا كبيرًا بما أعده الله للشهداء من ثواب وأجر، كما في قول من رثَى شهداء المسلمين الذين دفنوا في القادسية بمشرق؛ إذ قال: جزى الله أقوامًا بجنب مشرق ... غداة دعا الرحمن من كان داعيا جنابًا من الفردوس والمنزل الذي ... يحل به م الخير من كان باقيا2 ولعلنا لا نجد في الشعر العربي قصائد كثيرة تشبه القصيدة الرائعة التي رثى بها كثير بن الغريزة النهشلي الذي كان بجيش الأقرع بن حابس التميمي شهداء جوزجان والطالقان، ورثى بها نفسه رثاء رائعًا، يذكرنا بقصيدة مالك بن الريب في فتح خراسان، وهي تجري على هذا النمط: سقى مزن السحاب إذ استقلت ... مصارع فتية بالجوزجان إلى القصرين من رستاق خوط ... أقادهم هناك الأقرعان وما بي أن أكون جزعت إلا ... حنين القلب للبرق اليماني

_ 1 ديوان الهذليين ج1، ص1، الاستيعاب ص666، ياقوت ج4، ص538. 2 ياقوت ج4، ص539.

ومحبور برؤيتنا يرجى الـ ... ـلقاء ولن أراه ولن يراني ورب أخ أصاب الموت قلبي ... بكيت ولو نعيت له بكاني دعاني دعوة والخيل تردى ... فما أدري باسمي أم كناني فكان إجابتي إياه أني ... عطفت عليه خوار العنان وأي فتى إذا ما مت تدعو ... يطرف عنك غاشية السنان فإن أهلك فلم أك ذا صدوف ... عن الأقران في الحرب العوان ولم أدرج لأطرق عرس جاري ... ولم أجعل على قومي لساني ولكني إذا ما هايجوني ... منيع الجار مرتفع البنان ويكرهني إذا استبسلت قرني ... وأقضي واحدًا ما قد قضاني فلا تستبعدا يومي فإني ... سأوشك مرة أن تفقداني ويدركني الذي لا بد منه ... وإن أشفقت من خوف الجنان وتبكيني نوائح معولات ... تركن بدار معترك الزمان حبائس بالعراق منهنهات ... سواجي الطرف كالبقر الهجان أعاذلتي من لوم دعاني ... وللرشد المبين فاهدياني وعاذلتي صوتكما قريب ... ونفعكما بعيد الخير وإن فردا الموت عني إن أتاني ... ولا وأبيكما لا تفعلان1 فالشاعر جزع على هؤلاء الشهداء، الذين لاقوا مصارعهم في هذه البلاد النائية، وزاد في جزعه أيضًا أنه يحن وقد رأى ما رأى إلى موطنه وإلى من خلفهن في العراق، وهو يشعر بأنه لن يلقاهن، ويتضاعف حنينه وفزعه عندما يقابل بين ما حدث لهؤلاء الفتيان وما يمكن أن يحدث له هو الآخر، فليس هناك فرق بين أن ينعى إليه أخ أو أن ينعى هو إليه. وماذا يمكن أن يفيده الجزع وقد قام بواجبه على أتم وجه، وأدى ما

_ 1 أغاني دار الكتب ج11، ص278، 279.

استطاع، وقدم كل ما يملك لهذا الأخ الذي استنجد به في المعركة في بسالة لا نظير لها، فلا ضير إذا هلك، فهو شجاع لا يجبن عن ملاقاة الأقران، عفيف لم يمتد طرفه إلى عرس جاره، ولم يؤذِ أحدًا من قومه، وهو منيع الجار، لا يقبل الضيم، وإذا أهيج يكرهه خصمه إذا لاقاه لصلابته وفتكه، وهو الآن يشعر بدنو أجله، ويحس أنه عما قريب مفتقد، فسوق يدركه الموت الذي لا مفر منه، ولن يشفع له حبه الحياة، وآنذاك سوف تعول نائحات ساجيات الطرف عليه في العراق. ألم يأنِ لعاذلتيه أن تكفا عن لومه؟ وأن تهدياه إلى الطريق القويم إن استطاعتا؟ وأن تردا عنه الموت لو تأتى لهما؟ ولكن هذا محال. وبهذا الاستبطان والتأمل الذاتي فلسف الشاعر موقفه من الموت، وجعل من رثاء شهداء الطالقان موضوعًا إنسانيًّا كبيرًا، وإن شاع في نهاية هذه الفلسفة نفس الروح الإسلامية، في التسليم بالقدر والاستسلام للقضاء. وشاعت نفس هذه المعاني في الرجز، فطبعته طوابع إسلامية؛ كالإيمان بأحقية الموت، والثقة بالله، والتسليم بقضائه. فهذا أخو بني كاهل يرثي نفسه وينعيها إلى أخيه، ويدعوه إلى أن يصبر في لقاء عدوه، وكأنه يستخلفه مكانه، فيقول: وجاشت النفس على التراق ... صبرا عفاق إنه الفراق1 وهذا الأعور بن قطبة يستشعر شعورين متضاربين من الغبطة والحزن في لحظة واحدة يوم أغواث، فقد قتل أخوه قائدًا من قواد الفرس، ولكن هذا القائد طعنه قبل أن يسقط، فهو فرح لأن أخاه أبلى هذا البلاء، ولكنه حزين لفقد أخيه البطل فيقول: لم أرَ يومًا كان أحلى وأمر ... من يوم أغواث إذا افتر الثغر من غير ضحك كان أسوى وأبر2 وهكذا نجد هذين الموضوعين القديمين يتطوران في شعر الفتح؛ إذ يتطور الفخر القبلي الذي يقوم على التفاخر بالأحساب والعصبيات والنعرات إلى شعر يفخر فيه

_ 1 الطبري ج5، ص2328. 2 مروج الذهب ج2، ص206.

المجاهد ببلائه وبطولته في سبيل فكرة الجهاد من أجل العقيدة التي يؤمن بها، ويتعدى ذلك إلى استشعار الشاعر وجدانًا جماعيًّا لجماعة المسلمين يصدر عنه في شعره، سواء تغنى به أو تغنى بفرديته كعضو في إطاره، ويشيع في هذا الموضوع كثير من معاني الفداء والإيمان بنصر الله للمؤمنين على أعدائهم الكافرين، كما يشيع فيه إخلاص للفكرة، ورفض لكل شيء من الدنيا يشغل عنها. وقد قاسم الرجز الشعر هذه المعاني أيضًا، وتطور شعر الرثاء الجاهلي هو الآخر، من إشادة بالفقيد وكرمه وشرفه والجزع عليه إلى الإيمان بالموت ووجوبه والتسليم به، والصبر على قضاء الله، واستشعار ما أعد للمجاهدين والشهداء في سبيله من الأجر والثواب، فضلًا عن الإشادة ببطولة الشهيد، وما قدم في سبيل الله من تضحيات، وشارك الرجز في هذه المعاني ذاتها، وإن كان ذلك في صورة ضيقة؛ إذ إن نصوص الرجز في الرثاء قليلة جدًّا. وإلى جانب هذين الموضوعين التقليديين استجدت موضوعات أخرى سجلها شعر الفتوح، وآثرنا أن نفردها وحدها؛ لأنها كانت نتيجة لاحتكاك الفاتحين ببيئات جديدة. وقبل أن نعرض لها نرى أن نعرض للون جديد من ألوان الرثاء استجد في الشعر الذي قيل في الفتوح، وهو لون طريف لم يعرفه الشعر العربي من قبل، ذلك أن بعض المجاهدين راحوا يرثون أعضاءهم وأشلاءهم التي فقدوها في المعارك في صورة رائعة، تمتلئ بالشجاعة والبسالة وإظهار الشدة والاحتمال والبأس، واحتساب هذه الأعضاء والفخر ببذلها في سبيل الله، والاستهانة بفقدها أمام ما أفقدت العدو من أرواح وأعضاء. ومن بين هذه الصور الرائعة التي يصور فيها عبد الله بن سبرة الجرشي احتسابه يده عند الله، مشيدًا بما فعلته هذه اليد في سبيله، فقد قتلت أرطبون الروم، في مبارزة فقدت فيها يوم فلطاس فقال: ويل أم جار غداة الروع فارقني ... أهون على به إذا بان فانقطعا يمنى يدي غدت مني مفارقة ... لم أستطع يوم فلطاس لها تبعا وما ضننت عليها أن أصاحبها ... ولقد حرصت على أن نستريح معا وقائل غاب عن شأني وقائلة ... هلا اجتنبت عدو الله إذ صرعا وكيف أتركه يسعى بمنصله ... نحوي وأعجز عنه بعدما وقعا

ما كان ذلك يوم الروع من خلقي ... ولو تقارب مني الموت فاكتنعا يمشي إلى مستميت مثله بطل ... حتى إذا أمكنا سيفيهما قطعا حاسيته الموت حتى اشتف آخره ... فما استكان لما لاقى ولا جزعا فإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا وإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فإن فيها بحمد الله منتفعا بنانتين وجرموزا أقيم بها ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا1 فهو يرثي يديه، وكأنها إنسان عزيز فقده وفارقه، وقد حَرَصَ على أن يتبعها، ولكنه لم يستطع، لا ضنا بنفسه على الموت ولا جبنا، كهؤلاء الذين يلومونه على تعرضه للبطل الرومي، ويتمنون له أن يتجنبه، وهو يسعى بسيفه نحوه، فهل يعجز بعدما كان من بروزه ويرتد مذعورًا أمامه؟ وهل يليق هذا ببطل مثله؟ وأمكنا سيفيهما، وراح الشاعر يسقيه كأس الموت حتى آخره، وثبت البطل، ولم يجزع حتى صرع قرنه وفقد يده. ولكن هذه اليد التي قُطعت قد قَطعت أوصال خصمه، وإن يكن خصمه قطعها، فإن لم يفسدها كلها، فقد بقيت فيها منافع، فله بنانتان وجرموز تمكنه من الحفاظ على المسلمين، حينما يأنسون جزعًا. وبهذه الصورة الرائعة وأمثالها سجل الشعراء والرجاز رثاءهم لأعضائهم التي فقدوا، فهذا علباء بن جحش العجلي، يطعنه فارسي في بطنه فيبقرها ويخرج أمعاءه، فإذا به ثابت الجنان يدفع بأمعائه إلى بطنه، وهو يرتجز بكلماته الأخيرة: أرجو بها من ربنا ثوابا ... قد كنت ممن أحسن الضرابا2 وهذا أخو بني كاهل، وقد قطع أحد فرسان العدو رجله، فراح يحتسبها عند الله، مستهينًا بها قائلًا:

_ 1 الإصابة ج5، ص60، 92، الطبري ج5، ص2410. 2 الطبري ج5، ص2310.

صبرًا عفاق إنها الأساوره ... صبرًا ولا تغررك رجل نادره1 وهذا حياض بن قيس القشيري، يرثي رجله، حتى ليعرف يناشد رجله، فيفخر به سوار بن أوفى في قوله: ومنا ابن عتاب وناشد رجله ... ومنا الذي أدى إلى الحي حاجبا2 وكان حياض هذا قد ضربه أحد الروم في اليرموك فقطع رجله، فقال متوهمًا الروم أساورة يخاطب فرسه: أقدم حذام إنها الأساورة ... ولا تغرنك رجل نادره أنا القشيري أخو المهاجرة ... أضرب بالسيف رءوس الكافرة3 وذكر بعض الشعراء مثل هذا مما فعلوه بالعدو. فهذا علقمة بن الأرث، يتحدث عن الأكف والأسواق التي أطاحها المسلمون من الروم في يوم فحل فيقول: وكم من قتيل أرهقته سيوفنا ... كفاحًا وكف قد أطيحت وأسوق4 وجلي أن هذا اللون يغلب عليه طابع إسلامي بصورة ظاهرة، في معانيه وألفاظه وما يشيع فيه من روح الفداء والتضحية والاحتساب، في مقابل ما أعده للمجاهدين من حسن الثواب. وخلاصة القول: إن شعر الجهاد فارق الحماسة الجاهلية، في التخفف من كل ما حظره الإسلام من الغزل المحسوس، والتغني باللهو والعبث والشراب، ولم يعد تفاخرًا بالشجاعة في الثأر والانتقام والإغارة، وإنما أصبح تفاخرًا بالبطولة، والتفاني في الجهاد في سبيل الله، الذي يظهر فيه إيمان الشاعر بالعقيدة التي دفع عنها إيمانًا عميقًا، يستشرف فيه الشاعر مغانم أخروية وعده الله بها، ويصدر فيه عن روح الجماعة الإسلامية، التي كادت تذوب داخلها القبليات والنعرات الجاهلية، كما يصدر فيه عن نفسه كعضو في هذه الجماعة واضح الشخصية متميزها، يؤدي واجبًا يشعر بقداسته ويؤمن بدواعيه. وكذلك اختلف شعر الرثاء في الفتوح عن الرثاء التقليدي، فيما شاع فيه من آثار التعاليم الدينية ومظاهر الإيمان بالموت والاستبشار بالجنة، فضلًا عن هذا اللون الجديد من الرثاء الذي بكى فيه المسلمون أشلاءهم بكاء جديدًا، يظهرون فيه الاستهانة بما فقدوا في سبيل الله. ويلف الرثاء بلونيه التقليدي والمستحدث إطار إسلامي جلي، وإشارات واضحة إلى الجنة والثواب والأجر الذي أعده الله للشهداء والمجاهدين.

_ 1 الطبري ج5، ص2329. 2، 3 الإصابة ج2، ص68. 4 الإصابة ج5، ص111.

موضوعات جديدة

3- موضوعات جديدة: هذه الموضوعات الجديدة التي عبر عنها شعر الفتح نتيجة طبيعية لحياة الفاتحين في بيئة جديدة عنهم وبعيدة عن أوطانهم. وأول هذه الموضوعات ما نسميه بشعر الحنين، ونعني به ذلك الشعر الذي يعبر عن أشواق الشاعر التي كانت تملأ جوانبه، وعن المواجع التي كانت تلذع كبده، نتيجة بعده عن وطنه، عندما يتذكر مرابعه الأولى فيحن إليها، ويذكر أهله الذين فارقهم، ويتمنى لقاءهم فيشكو بعده واغترابه عنهم، كهذا المجاهد الذي يشكو غربته إلى قمرية خالها غريبة مثله في مرو الشاهجان فقال: أقمرية الوادي التي خان إلفها ... من الدهر أحداث أتت وخطوب تعالي أطارحك البكاء فإننا ... كلانا بمرو الشاهجان غريب1 وكما يسكب الشاعر الغريب عواطفه على الطيور ويشكو إليها همومه يفزع إلى طبيعة دياره التي خلفها وراءه، عندما يعاني من قسوة أجواء هذه المناطق النائية وبردها وثلجها، فيتحسر على دفء موطنه، كهذا الشاعر الذي راح يذم جو مرو، ويتمنى جو العراق في بره وبحره؛ إذ يقول: وأرى بمرو الشاهجان تنكرت ... أرض تتابع ثلجها المذور أسفي على بر العراق وبحره ... إن الفؤاد بشجوه معذور2 وإن كان هذا الشاعر يذم برد مرو شوقًا إلى دفء العراق، فإن شاعرًا آخر من الفاتحين يضيق بقيظ بعض المناطق البعيدة الأخرى عن وطنه، ويتنسم برد رياح نجد،

_ 1 ياقوت ج2، ص510. 2 نفس المرجع.

وطيب مناخه، ضائقًا بغربته بين أناس ليسوا من قومه ولا من عشيرته ولا من لسانه، فيقول: أتبكي على نجد وريا ولن ترى ... بعينيك ريا ما حييت ولا نجدا ولا مشرفا ما عشت أقفار وجرة ... ولا واطئًا من تربهن ثرى جعدا ولا واجدًا ريح الخزامي تسوقها ... رياح الصبا تعلو دكادك أو وهدا تبدلت من ريا وجارات بيتها ... قرى نبطيات يسمينني مردا ألا أيها البرق الذي بات يرتقي ... ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا ألم ترَ أن الليل يقصر طوله ... بنجد وتزداد الرياح به بردا؟ 1 وأخذ الشعور بالغربة على الفاتحين يتصور صورًا مختلفة، فنجد يقصر الليل فيه وتزداد رياحه بردًا، ولكنه في غربته يزداد طولًا وقيظًا. وهذا ورد بن الورد في رامهرمز يحن إلى حبيبته ودياره في بني كعب، فيصور فؤاده مصعدًا مع المصعدين إلى أرض الوطن، ولا يجد خيرًا في الدنيا إذا لم يزر فيها حبيبه فيقول: أمغتربا أصبحت في رامهرمز ... ألا كل كعبي هناك غريب إذا راح ركب مصعدون فقلبه ... مع المصعدين الرائحين جنيب وإن القليب الفرد من أيمن الحمى ... إلى وإن لم آته لحبيب ولا خير في الدنيا إذا لم تزر بها ... حبيبًا ولم يطرب إليك حبيب2 وراح بعض الشعراء يبكون حظهم الذي ألقى بهم إلى هذه المناطق النائية، حتى ليضيقون بالقتال والحرب فيها، ويصرحون بهذا في شعرهم، كما فعل هذا الجندي الذي يقول:

_ 1 ياقوت ج4، ص906. 2 ياقوت ج2/ 738.

تبدلت من نجد وممن يحله ... محله جند ما الأعاريب والجند؟ وأصبحت في أرض الجنود وقد أرى ... زماني بأرض لا يقال لها بند1 ويستبد الحنين بالشاعر فينظر ناحية نجد، برغم أنه لا يرى شيئًا، ولكنه ينظر حنينًا إليها وإلى خيامها التي يقصر عنها الطرف، وبرغم ألا نفع في نظره فلا يزال ينظر، ثم تجري عبراته تتحدر هكذا كل يوم، وهكذا لا يستريح قلبه، فإما مجاهد في غزاة، أو ناء يتذكر يقول: أكرر طرفي نحو نجد وإنني ... برغمي وإن لم يدرك الطرف أنظر حنينًا إلى أرض كأن ترابها ... إذا أمطرت عود ومسك وعنبر بلاد كأن الأقحوان بروضه ... ونور الأقاحي وشى برد مجير أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطرف يقصر وما نظري في نحو نجد بنافع ... أجل لا، ولكني إلى ذاك أنظر أفي كل يوم نظرة ثم عبرة ... لعينك مجرى مائها يتحدر متى يستريح القلب إما مجاوز ... بحرب وإما نازح يتذكر2 وفي مثل هذه الظروف القاسية الموحشة يجد الشاعر المجاهد الغريب نفسه بحاجة إلى أن يهرب إلى الطبيعة يبثها آلامه وأحزانه، ولا يزال الشعر الذي قيل في نخلة القادسية يصور لنا عاطفة الإنسان المأزوم نحو الطبيعة ولجوئه إليها، وبخاصة لو استشعر إلى جانب مشاعر الاغتراب والوحشة قلقًا يتهدد حياته، أو عندما يهاجمه الإحساس بدنو أجله. كان ذلك يوم عماس، وقد قتل من المسلمين ألفان وخمسمائة، وكان عدد الجرحى كبيرًا، وأخذ المسلمون في دفن القتلى بمشرق، ودفعوا بالجرحى إلى عناية النساء، وكان بين موقع المعركة مما يلي القادسية وبين حصن العذيب نخلة وحيدة، ليس حولها شيء من الزرع، وكان المسلمون إذا حملوا الجريح مروا به عليها، فإذا كان فيه

_ 1 ياقوت ج4، ص729. 2 ياقوت ج4/ 747.

تمييز نظر إليها طويلًا، ثم قال لحامله: أرحني تحت ظل هذه النخلة، فيرتاح تحتها برهة، يترنم فيها ببيت من الشعر يتمنى فيه السلامة لها، وكأنه يخاطب نفسه فيها؛ إذ لم يجد أهله وأحباءه حوله يقولون له هذه الكلمة فيخففون بها بعض ما به من ألم. ويذكر وحدة النخلة، وكأنه يعبر بذلك عن غربته، مثل هذه النخلة التي لا يجاورها نخل فيقول: ألا فاسلمي يا نخلة بين قادس ... وبين العذيب لا يجاورك النخل فإذا بجريح آخر يقول: ألا يا اسلمي يا نخلة بين جرعة ... يجاورك الجمان دونك والرغل فإذا بثالث من تيم الله يدعي ربعيًّا يقول: أيا نخلة الجرعاء يا جرعة العدا ... سقتك الغوادي والغيوث الهواطل وحمل إليها الأعور بن قطبة جريحًا -فيمن حمل- فقال: أيا نخلة الركبان لازلت فانضري ... ولا زال في أكناف جرعائك النخل فيرد عوف بن مالك التميمي: أيا نخلة دون العذيب بتلعة ... سقيت الغوادي المدجنات من النخل1 وموضوع الحنين على هذه الصورة باب رائع من أبواب الشعر الإسلامي، ذلك أنه يلتف في نطاق وجداني رفيق، تنسكب فيه أعمق المشاعر العاطفية في تدفق وحرارة وصدق. ونحن لا نعرف لهذا الشعر شبيهًا يقابله في شعر الجاهلية على كثرة ما كان من ظعنهم ورحيلهم إلا ما كان يعرف من بكاء الأطلال. وفي اعتقادنا أن وجود هذا الضرب من الشعر في الفتوح يعلل اختفاء المقدمات من هذا الشعر، إلى جانب ما أسلفناه من أسباب في تعليل هذه الظاهرة. وربما يعلل وجود هذا اللون أيضًا ما أخذ يشيع بعد استقرار المجتمع الإسلامي وبسط سلطانه على الأمصار المفتوحة من غزل رقيق عذري، متطور عن هذا اللون من شعر الحنين الحزين الشجي.

_ 1 المسعودي، مروج الذهب ج2، ص209، الطبري ج5، 2317، 2318.

وللتدليل على ما نذهب إليه بصدد حلول قصائد الحنين هذه محل المقدمة الطللية، الذي استوعب هذا اللون كل ما كان يسكب فيها من عوطف. نرى أنه لا ضير في أن تكون هذه الأبيات مطلعًا لإحدى القصائد التقليدية، وهي أبيات لأحد الفاتحين النازحين يقول فيها: خليلي هل بالشام عين حزينة ... تبكي على نجد لعلي أعينها وهل بائع نفسًا بنفس أو الأسى ... إليها فأخلاها بذاك حنينها وأسلمنها الباكون إلا حمامة ... مطوقة قد بان عنها قرينها تجاوبها أخرى على خيرزانة ... يكد يدنيها من الأرض لينها نظرت بعيني مؤنسين فلم أكد ... أرى من سهيل نظرة أستبينها فكذبت نفسي ثم راجعت نظرة ... فهيج لي شوقًا لنجد يقينها1 فهل هناك فرق بين هذه الأبيات وأية مقدمة طللية؟ وهل هناك فرق بينها وبين ما نراه بعد عند العذريين من آلام الشوق والتبريح؟ وفي الوقت الذي نجد فيه الرجز يقاسم الشعر في الموضوعات القديمة المتطورة؛ كشعر الجهاد والرثاء نجده لا يستطيع أن يشاركه في شعر الحنين؛ إذ هو اللون الوحيد من ألوان الشعر في الفتوح، الذي لم يكن للرجز فيه نصيب من التعبير. وربما يرجع هذا إلى أن معاني الحنين لا يمكن نظمها إلا في ظروف وجدانية خاصة، ولحظات غنائية حالمة ومتأنية، مما يخالف طبيعة الرجز، الذي غلبت عليه طبيعة الاندفاع، والانفعال العنيف اللاهب؛ نتيجة لقيامه بدور التحميس والحث في ظروف القتال. وحظيت المشاهد الغريبة التي عاينها المسلمون لأول عهدهم بها في مناطق الفتح النائية، وبخاصة في الجناح الشرقي لفارس بغير قليل من عناية الشعراء الذين راحوا يصورون انطباعاتهم بهذه المشاهد وانعكاساتها على أنفسهم. وقد حظيت طبيعة هذه البلدان التي تختلف عن طبيعة بلاد العرب باهتمام الشعراء بها وتصويرها، والتعبير عن

_ 1 ياقوت ج4، ص748.

إعجابهم بها أو الضيق منها، وبخاصة أحوال الجو وبرده، الذي عانَى منه المسلمون في حصارهم بعض المناطق في مكران وما ماثلها، كما يبدو في قول الحكم التغلبي الذي افتتحها؛ إذ يقول: لقد شبع الأرامل غير فخر ... بفيء جاءهم من مكران أتاهم بعد مسغبة وجهد ... وقد صفر الشتاء من الدخان1 وهذا أحد الفاتحين يضيق ببرودة الجو في مرو، ويعجب لتنكر الأرض التي تتابع ثلجها، ويشفق على أهلها الذين يقضون الشتاء مقرورين، دائمًا محتمين بأثواب يدسون أيديهم فيها لشدة البرد كأنهم أسرى فيقول: وأرى بمرو الشاهجان تنكرت ... أرض تتابع ثلجها المذرور إذ لا ترى ذا برة مشهورة ... إلا تخال كأنه مقرور كلتا يديه لا تزايل ثوبه ... كل الشتاء كأنه مأسور2 وفي نفس الوقت عبر بعض الفاتحين عن إعجابهم بطبيعة البلدان التي افتتحوها، وتغنوا بجمالها إلى أهليهم في شبه الجزيرة، كما يبدو في شعر أبي بجيد الأسود بن قطبة التي يتغنى فيها بريف الري، فيقول: رضينا بريف الري والري بلدة ... لها زينة في عيشها المتواتر لها نشز في كل آخر ليلة ... تذكر أعراس الملوك الأكابر3 وهذا سواد بن قحطبة يتغنى بجمال الطبيعة في جرجان، فيقول: ألا أبلغ أسيدًا إن عرضت بأننا ... بجرجان في خضر الرياض النواضر4 ولعل أشد هذه المشاهد لفتًا للعرب في أول نزولهم بلاد الفرس الفيلة، التي لاقوا منها شدة في بعض معاركهم مع الديلم، وبخاصة يوم بابل، ويوم الجسر، وفي

_ 1 ياقوت ج4، ص612. 2 ياقوت ج4، ص510. 3 ياقوت ج4، ص895. 4 ياقوت ج4، ص815.

القادسية، وقد دار ذكرها في شعر عدد كبير من شعراء المسلمين ذكرها ربيعة بن مقروم الضبي، وفخر برؤيتها وشهود معاركها، فقال: ودخلت أبنية الملوك عليهم ... ولشر قول المرء ما لم يفعل وشهدت معركة الفيول وحولها ... أبناء فارس بيضها كالأعبل متسربلي حلق الحديد كأنهم ... جرب مقارفة عنية مهمل1 وأشار عبدة بن الطبيب إليها في لاميته فقال: حلت خويلة في دار مجاورة ... أهل المدينة فيها الديك والفيل2 وصور الشعر ما كان يحدث لخيول المسلمين من الاضطراب بسبب الفيول، حتى كاد المسلمون أن يخسروا المعركة يوم بابل، كما خسروها يوم الجسر. وفي القادسية فعلت الفيلة فعلها في الخيل، حتى ليقول أبو محجن الثقفي: وما رمت حتى خرقوا بسلاحهم ... إهابي وجادت بالدماء الأباجل وحتى رأيت مهرتي مزوئرة ... لدى الفيل يدمي نحرها والشواكل3 وظل هذا حال الفيلة وفعلها بالمسلمين حتى عرفوا مقاتلها. وكان من الذين قطعوا مشافر الفيلة القعقاع بن عمرو، الذي قطع مشفر الفيل الأعظم يوم القادسية، وفقأ عينه برمحه وقال: فإن كنت قاتلت العدو فللته ... وإني لألقى في الحروب الدواهيا فيولا أراها كالبيوت مغيرة ... أسمل أعيانًا لها ومآقيا4 وأشاد سعد بن أبي وقاص ببلاء الذين تعرضوا للفيلة من المسلمين فأراحوا إخوانهم منها بعد أن قتلت في بنى أسد خمسمائة، فقال يشيد ببطولة القعقاع، وحمال الوالبي:

_ 1 الحيوان ج7/ 262، والمفضليات ص268، والأغاني ج19، ص93، الخزانة ج3، ص566. 2 المفضليات 268، والأغاني ج17، ص163، والإصابة ج5، ص101. 3 الأغاني ج21، ص145. 4 الطبري ج5، ص2327.

فقد لقيت خيولهم خيولًا ... وقد وقع الفوارس في الضراب وقد دلفت بعرصتهم فيول ... كأنهم زهاءها إبل جراب فلولا جمع قعقاع بن عمرو ... وحمال للجوا في الكذاب هم منعوا جموعكم بطعن ... وضرب مثل تفتيق الإهاب ولولا ذاك ألفيتم رعاعا ... تشل جموعكم مثل الذباب1 وكما ضاق المسلمون بالفيلة ضاقوا بما لم يألفوه، من الحشرات والأوبئة التي تعرضوا لإيذائها في هذه البيئات، فشكوا منها، كما يبدو في هذا الشعر الذي يشكو فيه صاحبه من الذباب الذي يؤذي ناقته ويردها عن الماء في كربلاء عند التقاء كتيبة خالد بجند عياض حيث يقول: لقد حبست في كربلاء مطيتي ... وفي العين حتى عاد غثا سمينها إذا رحلت من مبرك رجعت له ... لعمرو أبيها إنني لا أهينها ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاق من الذبان زرق عيونها2 ولا ريب في أن الشعر الذي صور طاعون عمواس وأثره قد نجح في رسم صورة مؤثرة للمأساة التي أودت بكثير من المسلمين، الذين اجتمع عليهم الطعن والطاعون في وقت واحد. يقول المهاجر بن خالد بن الوليد وقد فقد أربعين من بني عمومته في هذا الطاعون: أفنى بني ريطة فرسانهم ... عشرون لم يقصص لهم شارب ومن بني أعمامهم مثلهم ... لمثل هذا يعجب العاجب طعن وطاعون مناياهم ... ذلك ما خط لنا الكاتب3

_ 1 الطبري ج5، ص2358، 2362. 2 الطبري ج4، ص2059. 3 الإصابة ج6، ص96.

وفي نفس المعنى يقول عبد الله بن سبرة الجرشي: إن أقلب الطعن فالطاعون يرصدني ... كيف التقاء على طعن وطاعون1 وكان ركوب البحر حدثًا كبيرًا سجله الشعراء وأشادوا به، وأكدوا في شعرهم أن الله قد ذلَّله لهم وبشروا بما أعده الله لمن يعبر في طاعته. يقول عفيف بن المنذر التميمي وقد غزا مع العلاء بن الحضرمي فارس من البحرين في وقعة طاوس: ألم ترَ أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الحلائل دعونا الذي شق البحار فجاءنا ... بأعظم من فلق البحار الأقائل2 وأخذ المسلمون يعرفون بعض ألوان المآكل والمشارب الفارسية ويذكرونها في شعرهم؛ إذ إن أبا عبيد بن مسعود الثقفي -شهيد الجسر- بعد أن هزم الفرس في السقاطية بكسكر نزل بقرى باروسما؛ حيث خف إليه الفرس يصالحونه، وصنع له "فروخ" و"فرنداذ" من رؤساء الدهاقين طعامًا قدموه له، ولكنه رفض أن يطعمه دون جنده، فأخبره أنهم يطعمون في نفس الوقت فأكل، ولما عاد إلى جنده سألهم: ماذا كان طعامهم؟ فأخبروه بما جاءهم، فدعاهم ليعرفوا ألوان الطعام التي قدمت إليه. من قرو ونجم وجوزل وشواء وخردل، فقال عاصم بن عمرو التميمي: إن تك ذا قرو ونجم وجوزل ... فعند أنب فروخ شواء وخردل وقرو رقاق كالصحائف طويت ... على مزرع فيها بقول وقوزل3 وكان المسلمون يرون أموال الفرس تنصب في حجورهم من غنائم وأسلاب وجزية تؤدَّى إليهم، فيذكرون ذلك في عزة وفخر. فبعد المدائن حاز المسلمون خزائن كسرى ودروعه وأسيافه، فقال أبو بجيد نافع بن الأسود: فانتشلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وحاض منا جريضًا4

_ 1 الإصابة ج5، ص60. 2 الإصابة ج5، ص109. 3 الطبري ج4، ص2173. 4 الطبري ج5، ص2424.

وهذا سهيل بن عدي يفخر بصيرورة خرج الجزيرة إلى المسلمين بعد وقعة الرقة، فيقول: وصار الخرج ضاحية إلينا ... بأكناف الجزيرة عن نقالي1 وهذا عمرو بن مالك الزهري ينادي إليه الفرس بقبول الجزية، بعدما ذاقوا مرارة القتال في قرقيسيا: فنادوا إلينا من بعيد بأننا ... ندين بدين الجزية المتواتر2 ودارت مثل هذه المعاني في شعر عرب الحيرة، الذين استكثروا على المسلمين أن يسكنوا منازل المناذرة، وأن يمتلكوا الخورنق والسدير، وأن تؤدى إليهم الجزية، بعدما كانت تؤدى إلى كسرى، حتى قال عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة أحد زعماء الحيرة: أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصًا بين مرة والحفير فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كجرب المعز في اليوم المطير نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير3 وكانت ملابس الجند الفارسيين وشكتهم يثيران في نفوس المسلمين بعض الدهشة، فذكروها في شعرهم، من مثل قول ربيعة بن مقروم: متسربلي حلق الحديد كأنهم ... جرب مقارفة عنية مهمل4 كما أخذت بعض الكلمات الفارسية تسقط إلى المسلمين فيعجبون لها، كما حدث لهذا الذي يقول: تبدلت من ليلى وجارات بيتها ... قرى نبطيات يسمينني مردا5

_ 1 ياقوت ج2، ص802. 2 ياقوت ج4، ص65. 3 ياقوت ج2، ص492. 4 المفضليات 268. 5 ياقوت ج4، ص906.

كذلك كانت كنائس الروم وبيعهم وما فيها من زخرف ونقوش تلفت أنظارهم كما لفتت نظر حارثة بن النمر وقد شهد اليرموك فقال: لله باليرموك قوم طحطوا ... أحساب عاتى الروم بالأقدام فتعطلت منهم كنائس زخرفت ... بالشام ذات فسافس ورخام1 وأثرت هذه الأجواء الجديدة في بعض العرب وفتنت نفرًا منهم، فانحرفوا عن الصواب، وعكفوا على الخمر، وشهود مجالس الطرب والغناء واللهو، يغنيهم الدهاقين والمسمعات الأجنبيات، كما يصور ذلك النعمان بن عدي بن نظلة الذي ولي أعمال دست ميسان لعمر بن الخطاب فجرفته حياة اللهو بقوله: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى من زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... وصناجة تجثو على حرف ميسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم2 وبلغ الأمر عمر فقال: "وايم الله.. قد ساءني ذلك"، وكتب إليه فعزله3. وعندما بلغ عمر أن بعض الجند في الشام قد انصرفوا إلى الخمر كتب بأن يطبخ كل عصير بها حتى يذهب ثلثاه، فأخذ خلان الخمر يرثونها، ضائقين بهذا الأمر الصارم، كقول ذي الكلاع الذي شهد اليرموك، وكان السبب المباشر في هذا الأمر: ألم ترَ أن الدهر يعثر بالفتى ... وليس على صرف المنون بقادر صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ... ولست على الصهباء يومًا بصابر رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر فلا تجلدوهم واجلدوها فإنها ... هي العيش للباقي ومن في المعاصر4

_ 1 الإصابة ج2، ص56. 2 الإصابة ج6، ص243، ياقوت، ج4/ 714. 3 الإصابة ج6، ص243. 4 الإصابة ج2، ص183، ج7، ص79.

وأسهم الرجز بنصيب في تصوير هذه الألوان الجديدة في الشعر، وإن كان ضئيلًا، ولكنه يعبر عن هؤلاء الشعراء الذين اتخذوه سبيلًا إلى التعبير. ورأينا أن نغمات الرجز لا تصلح لحمل مشاعر الحنين، التي تفترق أوتارها في رقتها وحزنها عن أوتاره في عنفوانها ودويها إلا أنه صور انطباع الشعراء وتأثرهم ببعض المشاهد الغريبة في البيئات الجديدة كما صورها الشعر. وكان الفيل أكثر هذه المشاهد لفتًا للرجاز، فذكروه في أرجازهم ووصفوه، وهذا أحدهم يصفه لنا وصفًا دقيقًا، حتى لكأننا نراه أمامنا فيقول: أجرد أعلى الجسم منه أضخم ... يجر أرحاء ثقالًا تحطم ما تحتها من قرضها وتهشم ... وحنك حين يمد أفقم ومشفر حين يمد سرطم ... يرده في الجوف حين يطعم وكان عندي سبب أو سلم ... نجيت نفسي جاهدًا لا أظلم1 وهذا آخر يصفه فيشبه آذانه بالمناديل فيقول: من يركب الفيل فهذا الفيل ... إن الذي يركبه محمول على تهاويل لها تهويل ... كالطود إلا أنه يجول وأذنه كأنها منديل2 وسجل الرجز ما حدث عام الطاعون، والحرج الذي عاناه المسلمون في النزوح إلى الأماكن الموبوءة أو الخروج منها، وما شاع بين الناس آنذاك من استسلام لقضاء الله، فإنما يفر من فر من قضاء الله إلى قضاء الله، وحاول بعض الناس الفرار منه خوفًا وفزعًا، فأهاب بهم البعض أن يذعنوا للقضاء. فيروى أن رجلًا خرج على حمار فارًّا من الطاعون، فإذا بمن يحدو به يقول:

_ 1 الحيوان ج7، ص172. 2 نفس المرجع.

لن يعجزوا الله على حمار ... ولا على ذي غرة مطار قد يصبح الموت أمام الساري1 وأزمع رجل آخر الخروج فرارًا من الطاعون أيضًا فتردد بعد أن هم وحدا به حاد يقول: يأيها المشعر هما لا تهم ... إنك إن تكتب لك الحمى تحمم2 وكذلك عبر الرجز عن ركوب المسلمين الماء. فهذا مالك بن عامر أول كتيبة عاصم بن عمرو التي عبرت دجلة إلى المدائن يستحث الناس على العبور، ويذكرهم بما أعد لهم من أجر وثواب، ونصر وعدهم الله به، وخسران لأعدائهم فيقول: امضوا فإن البحر بحر مأمور ... والأول القاطع منكم مأجور قد خاب كسرى وأبوه سابور ... ما تصنعون والحديث مأثور3 وهكذا استخدم الفاتحون الذين أنطقتهم الفتوح بالشعر والرجز في التعبير عن الأغراض المختلفة التي يستخدم فيها القصيد، فوصفوا فيه البطولات، وأشادوا بجهادهم، واستخدموه في الرثاء، ووصف المشاهد، وما إلى ذلك من الألوان، التي لم يطرقها الرجز من قبل، وكانت وقفًا على القصيد. ويرى الدارس أن هذه لم تكن إلا مقدمة لاستخدامه فيما بعد، كقالب جديد، لا يقتصر على ألوانه الضيقة التي عرفها بها في الجاهلية، في الحرب والحداء، والمفاخرة4. فيصبح عند العجاج والأغلب العجلي وأبي النجم قالبًا موازيًا للشعر، يحتفلون به ويطورونه تطويرًا. فضلًا عن دوره الكبير الذي ظل يؤديه في التعبئة الروحية والمعنوية للجند في أثناء القتال. وهكذا يدهش من يطالع شعر الفتوح في هذه الألوان الجديدة، عندما تطالعه تلك الآثار السريعة للاحتكاك الحضاري في الميادين والأمصار المفتوحة، التي تركت ميسمها على الشعر، بعد أن أثرت في قائليه أثرًا سريعًا وموقوتًا، ولكنه ملحوظ، برغم الفترة القصيرة التي استغرقها هذا الاحتكاك.

_ 1 الطبري ج5، ص2521. 2 الطبري ج5، ص2521. 3 أسد الغابة ج4، ص282. 4 الأغاني "ساسي" ج81، ص164.

الفصل الثاني: الطوابع الإسلامية في شعر الفتوح

الفصل الثاني: الطوابع الإسلامية في شعر الفتوح 1- صدور الشعر عن روح الإسلام: ليس ثمة شك يقتضي التدليل والبرهان على أن الإسلام قد خلق قيمًا جديدة في حياة العرب، وأن هذه القيم قد امتد أثرها إلى كافة مجالات الحياة العربية ومظاهرها، بما في ذلك الشعر الذي طبع بطوابع إسلامية جلة في شكله ومضمونه. فقد أدت ظروف الفتح المادية والنفسية إلى إحداث تغيير في شكل الشعر الذي صدر في الفتوح. فاختفت المقدمات الغزلية والطللية، وانكمشت القصائد فصارت مقطعات قصيرة، فضاقت من ثم عن استيعاب أكثر من غرض واحد من أغراض الشعر؛ لتكون متفقة مع قصر النفس الشعري؛ بسبب اهتمامات القتال، ولتطير على ألسنة الشعراء العاديين الذين راحوا يودعون الأبيات القصيرة من القصيد والرجز مشاعرهم، ويتخذونها أداة سريعة للتعبير عن ذوات أنفسهم، وحمل ما بنفوسهم من أحاسيس. ولعل الطوابع الإسلامية التي طبعت المضمون في هذا الشعر أوضح الطوابع التي تعرض للتأثر بها وأعمقها على الإطلاق. فلو تصفح الدارس شعر الجهاد وهو يمثل كثرة شعر الفتوح لوجده في مجموعه يذهب في الفخر، والإشادة ببلاء المسلمين، وتصوير نكايتهم بالعدو كمجموع متحد الوجدان؛ ولذا يسم الشعر في كثرته استخدام ضمير الجماعة بشكل ملحوظ. وهذه الجماعة بطبيعة الحال ليست القبيلة أو العشيرة، وإنما هي جماعة المسلمين الكبيرة، التي استوعبت كل العلاقات العصبية والقبلية، القائمة على وشائج القربى والدم والنسب، فنسختها في إطار وجداني قومي وفكري، يقوم على أواصر الإنسانية والأخوة والعقيدة والمساواة، وراح الشعراء يصدرون عنه.

ونحن بطبيعة الحال لا نعدم أن نجد شعراء يتغنون بقبائلهم، غير أن ذلك لم يحدث إلا نادرًا، عندما يتصادف أن يجتمع نفر كبير من قبيلة بعينها في ميدان معركة واحدة، كما حدث لجمع بني أسد، الذين استشهد منهم عدد كبير في مقتلة الفيل يوم القادسية، وأخذ بعض شعرائهم يصورون ما قاموا به من الفداء، ويشيدون بما أبدوا من ضروب البسالة والتضحية، ويفخرون بقومهم، ولكنهم يفخرون بإسلامهم، وبطاعتهم لربهم وبذلهم في سبيله، كما في مقطوعة نافع بن الأسود التميمي، التي يقول فيها عن قومه: هم أهل عز ثابت وأرومة ... وهم من معد في الذرا والغلاصم وهم يضمنون المال للجار ما ثوى ... وهم يطعمون الدهر ضربة لازم ثم يقول: ولما أتى الإسلام كانوا أئمة ... وبادوا معدا كلها بالجرائم إلى هجرة كانت سناء ورفعة ... لباقيهم فيهم وخير مراغم فجاءت ببهم في الكتائب نصرة ... فكانوا حماة الناس عند العظائم فصفوا لأهل الشرك ثم تكبكبوا ... وطاروا عليهم بالسيوف الصوارم1 ويظهر ذلك بوضوح في قول الأسود بن سريع التميمي في الفخر بيني أبيه؛ إذ يقول يوم الأهواز: لعمرك ما أضاع بنو أبينا ... ولكن حافظوا فيمن يطيع أطاعوا ربهم وعصاه قوم ... أضاعوا أمره فيمن يضيع2 وليس يعني وجود ضمير الجماعة في قصائد الجهاد اختفاء ملامح الفرد الشخصية في هذا الشعر، وإنما الحقيقة أن الفرد كان يصدر في بعض هذا الشعر عن ذات نفسه مع اعتبار هذا الذات جزءًا من الجماعة التي تمثل ضميرها فصدر عنها في صدوره عن

_ 1 الإصابة ج6، ص262. 2 الطبري ج5، ص2541.

ذاته، واشتق معانيه من وحيها، وهو حينئذ إنما يفخر بنفسه من حيث هو فرد منها؛ ليعود عليها كل ما يذكر عن نفسه. فهو لا يذكر شيئًا ليبين تفرده به دون الجماعة، وإنما يعلن أنه صورة ومثل على جميع أفرادها. فهذا عبد الله بن عتبان الذي افتتح جي من أعمال أصبهان يفتخر بنفسه في بيت واحد، ثم إذا به يرتد إلى الوجدان الجماعي؛ ليفخر بجماعة المسلمين وبلائهم فيقول: من مبلغ الأحياء عني فإنني ... نزلت على جي وفيها تفاقم حجزناهم حتى سروا ثم انتزوا ... فصدهم عنا القنا والصوارم وجاد لها القاذوسقان بنفسه ... وقد دهدهت بين الصفوف الجماجم ثم لا يلبث أن ينزع إلى تصوير ما أذاقه بيده لكبير القوم فيقول: فثاورته حتى إذا ما علوته ... تفادى وقد صارت إليه الخزائم ويعود إلى الوجدان الكبير فيقول: وعادت لقوحا أصبهان بأسرها ... يدر لنا منها القرى والدراهم ثم ينزع إلى الحديث عن نفسه كمسئول عن هذه الجماعة في تقبل جزية المهزومين فيقول: وإني على عمد قبلت جزاءهم ... غداة تفادوا والعجاج فواقم ويرجع إلى الحديث عن جماعة المسلمين التي استحقت النصر كلها وزكا جهادها، فيقول: ليزكو لنا عند الحروب جهادنا ... إذا انتطحت في المازمين الهماهم1 وهذا سراقة بن عمرو الذي أرسله أبو موسى الأشعري لفتح باب الأبواب يفخر بنفسه، ثم لا يلبث أن يطلق الفخر في مجموع المسلمين، فيقول:

_ 1 الإصابة ج6، ص262.

ومن يك سائلًا عني فإني ... بأرض لا يواتيها القرار بباب الترك ذي الأبواب دار ... لها في كل ناحية مغار نذود جموعهم عما حوينا ... ونقتلهم إذا باح السرار سددنا كل فرج كان فيها ... مكاثرة إذا سطع الغبار وألحمنا الجبال جبال قبج ... وجاوز دورهم منا ديار وبادرنا العدو بكل فج ... نناهبهم وقد طار الشرار على خيل تعادى كل يوم ... عتادًا ليس يتبعها المهار1 وليس أدل على ما نحن بصدده من قول المثنى بن حارثة، وهو يرى أفناء العروب وأحياءها جميعًا جنودًا غير متمايزين في جنده، وكأنهم أبناء أم واحدة، هي الوغى: صبحنا بالخنافس جمع بكر ... وحيا من قصاعة غير ميل بفتيان الوغى من كل حي ... تبارى في الحوادث كل جيل2 وهكذا يخفت صوت القبليات، فلا نعود نسمع بتميم أو مذحج إلا لماما. وأخذت تعبيرات جديدة تظهر في الدلالة على الفاتحين، فهم فتيان الوغى، في قول المثنى, وهو جند السلم، في قول القعقاع: فما فتئت جنود السلم حتى ... رأينا القوم كالغنم السوام3 وهم الفتيان الكماة في قول عاصم بن عمرو: صبحناهم بكل فتى كمى ... وأجرد سابح من خيل عاد4 وهم رجال هاجروا نحو ربهم، في قول عاصم أيضًا:

_ 1 ياقوت ج1، ص437. 2 ياقوت ج2، ص473. 3 ياقوت ج3، ص894. 4 الطبري ج4، ص2174.

لعمري وما عمري على بهين ... لقد صبحت بالخزي أهل النمارق بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم ... يجوسونهم ما بين درتا وبارق1 وهم الأنصار فيقول أبي محجن الثقفي يوم الجسر وهم الفتية أيضًا: مررت على الأنصار وسط رحالهم ... فقلت ألا هل منكم اليوم قافل إلى فتية بالطف نيلت سراتهم ... وغودر أفراس لهم ورواحل2 وهم جموع المسلمين في قول عياض بن غنم: من مبلغ الأقوام أن جموعنا ... حوت الجزيرة يوم ذات زحام3 وهم جند الله، كما يقول زياد بن حنظلة: وإذ أرطبون الروم يحمي بلاده ... يحاوره قرم هناك يساجله فلما رأى الفاروق إزمان فتحها ... سما بجنود الله كيما يصاوله4 وصدر الشعر فضلًا عن روح الجماعة بوحي من المثل الإسلامية التي طبقت في الفتوح والأمصار المفتوحة، وترى في هذا الصدد أمثلة كثيرة. فنتيجة لتطبيق المساواة التي دعا إليها الإسلام لم يعد فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. فنجد المسلمين في فتح جند يسابور يهبون أحد العبيد بها -وكان قد أسلم من قبل- شرفًا لم يمنحوه لغيره من عظماء المدينة، فأجار مكنف هذا مواطنيه من سفك دمائهم، وكتب اسمه أمانًا لهم قبله المسلمون. فقال عاصم بن عمرو يذكر هذه الشفاعة وما تدل عليه من معانٍ: لعمري لقد كانت قرابة مكنف ... قرابة صدق ليس فيها تقاطع أجارهم من بعد ذل وقلة ... وخوف شديد والبلاد بلاقع

_ 1 ياقوت ج4، ص532. 2 أغاني الساسي ج21/ 141. 3 البلاذري ص251، ياقوت ج2/ 74. 4 الطبري 1/ 5/ 2411.

فجاز جوار العبد بعد اختلافنا ... ورد أمورا كان فيها تنازع إلى الركن والوالي المصيب حكومة ... فقال بحق ليس فيه تخالع1 وكذلك أخذت آثار الديمقراطية الإسلامية تظهر في الشعر، عندما يناقش عبد الرحمن بن حنبل الخليفة حساب فيء المسلمين، ويتهمه بتبديده، وتوزيعه بين أهله وخاصته، فيقول: وأحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمرا سدى ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلى بك أو نبتلى دعوت الطريد فأدنيته ... خلافًا لما سنه المصطفى ووليت قرباك أمر العباد ... خلافًا لسنة من قد مضى وأعطيت مروان خمس الغنيـ ... ـمة آثرته وحميته الحمى ومالا أتاك به الأشعري ... من الفيء أعطيته من دنا فإن الأمينين قد بينا ... منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة ... ولا قسمًا درهمًا في هوى2 وكذلك أخذت شكوى المسلمين من العمال والأمراء تنظم شعرًا إلى الخليفة، كأبيات يزيد بن الصعق إلى عمر بن الخطاب، يغريه فيها ببعض الولاة، الذين استغلوا مناصبهم ونهبوا أموال المسلمين، ويطلب منه أن يجردهم منها، أو يشاطرهم فيها، فيقول: أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... فأنت أمين الله في النهي والأمر وأنت أمين الله فينا ومن يكن ... أمينًا لرب العرش يسلم له صدري فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى ... يسيغون مال الله في الأدم والوفر

_ 1 ياقوت ج2، ص130. 2 الاستيعاب 410، الأغاني ج6/ 268.

فأرسل إلى الحجاج فاعرف حسابه ... وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشر ولا تنسين النافعين كلاهما ... ولا ابن غلاب من سراة بني نصر وما عاصم منها بصغر عناية ... وذاك الذي في السوق مولى بني بدر وأرسل إلى النعمان فاعرف حسابه ... وصهر بني غزوان إني لذو خبر وشبلا فسله المال وابن محرش ... فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكر فقاسمهم -نفسي فداؤك- إنهم ... سيرضون إن قاسمتهم عنك بالشطر ولا تدعوني للشهادة إنني ... أغيب ولكني أرى عجب الدهر نئوب إذا آبوا ونغزو إذا غزوا ... فأنَّى لهم وفر ولسنا ذوي وفر1 وراح بعض الشعراء يقارنون بين الأمراء فيهم والصحابة الراشدين، ويوازنون بين عدلهم وحسن سياستهم للأمة وما يجدون من أمرائهم في الأمصار من مخالفة عن سننهم كما يظهر في قول النابغة الجعدي لأبي موسى الأشعري والي البصرة: فإن يكن ابن عفان أمينا ... فلم يبعث بك البر الأمينا فيا قبر النبي وصاحبيه ... ألا يا غوثنا لو تسمعونا ألا صلى إلهكم عليكم ... ولا صلى على الأمراء فينا2 وظهر في شعر الفتوح أيضًا بعض الآثار الناتجة عن تطبيق الحدود الإسلامية على المنحرفين في الأمصار، ومن أمثلة ذلك: أن نقب بعض شباب الكوفة جدار ابن الحيثمان الخزاعي وقتلوه، فكتب عثمان بقتلهم، وفي هذا يقول عاصم بن عمرو مشيدًا باتباعه محكم الفرقان في عقابهم: إن ابن عفان الذي جربتم ... فطم اللصوص بمحكم الفرقان ما زال يعمل بالكتاب مهيمنا ... في كل عنق منهم وبنان3 ...

_ 1 البلاذري ص384، الإصابة ج2، ص96، ج6، ص361. 2 الأغاني "ساسي" ج4، ص137. 3 الطبري ج5، ص2841.

ومن هذه الآثار أيضًا: ما قاله ضابئ بن الحارث البرجمي، الذي سجن بالكوفة بأمر من عثمان بن عفان، فقد استعار من قوم من الأنصار كلبًا من كلاب الصيد يُدعى "فرحان" وحبس الكلب عن أصحابه ورفض إعادته إليهم، فكاثروه وانتزعوه منه، فهجاهم بقوله: تجشم دوني وفد فرحان خطة ... تضل لها الوجناء وهي حسير فباتوا سباعًا ناعمين كأنما ... حباهم ببيت المرزبان أمير فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم ... فإن عقوق الأمهات كبير1 وأثر فيهم هذا الهجاء المقذع، فاستعدوا عليه عثمان، الذي كتب إلى الوليد بن عقبة بحبسه واستثقل ضابئ الحبس وتنبأ بموته في السجن وتحقق ظنه؛ حيث قال: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت ووليت البكاء حلائله وقائلة قد مات في السجن ضابئ ... ألا من لخصم لم يجد من يجادله وقائلة لا يبعد الله ضابئا ... فنعم الفتى تخلو به وتحاوله2 وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي في الكوفة يعالج بالسحر والشعوذة وبلغ عثمان ذلك، فأرسل إلى الوليد أن يتبين أمره، فإن كان حقيقة ضربه موجعًا، ثم غربه إلى دنباوند من أعمال الري، ففعل الوليد، فقال في تغريبه: لعمري لئن أطردتني ما إلى الذي ... طمعت به من سقطتي لسبيل روت رجوعي يابن أروى ورجعتي ... إلى الحق دهرًا غال حلمك غول وإن اغترابي في البلاد وجفوتي ... وشتمي في ذات الإله قليل وإن دعائي كل يوم وليلة ... على بدنبا وندكم لطويل3 وكان هذا الشاعر من رءوس الفتنة في قتل عثمان.

_ 1 الطبري ج5، ص3033. 2 الطبري ج5، ص3034. 3 ياقوت ج2/ 609، الطبري ج5/ 3033.

أحاسيس ومشاعر دينية

2- أحاسيس ومشاعر دينية: لعل أقرب تسمية للمسلمين في شعر الفتح كله ما أسماهم به زياد بن حنظلة من أنهم رجال الله، فهذه التسمية أكثر انطباقًا عليهم وعلى الحقيقة؛ إذ إنهم أدركوا هذا تمام الإدراك يوم أن اتخذوا هذه العقيدة دينًا، ويوم توحدت كلمتهم على هذا الدين الذي بث فيهم أحاسيس ومشاعر سامية، وأبدلهم من بعد ضعف قوة، وجعلهم يشعرون بأنهم دائمًا منتصرون ما داموا جندًا في سبيل إعلاء كلمته. وقد تغلل في مكان الاعتقاد منهم صدق الداعي الذي دعاهم إلى سعادة الدنيا والآخرة. فتأكد لهم أن الآخرة خير وأبقى، ما دام الله قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون. وأن الذين في سبيل الله ليسوا أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. واستقر في موضع اليقين منهم: أن الله عز وجل منزل نصره عليهم، إذا صدقت منهم النيات في لقاء عدوهم، فيفوز المقتول منهم بسعادة الآخرة، ويحرز الباقي سعادة الدنيا؛ ولهذا كان شعارهم دائمًا قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] . ولهذا فإن الفاتحين المؤمنين لم يحرصوا على الحياة حرصهم على الفوز بالجنة، ولم يجزعوا من الموت، فإن كل شيء قدر تقديرا {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] . وقد تجلت هذه المعاني في الشعر الذي صدر عن الفاتحين منطلقهم إلى الجهاد، يردون فيه على ذويهم الذين تمسكوا بهم وناشدوهم البقاء، واستعدوا الخليفة أن يردهم؛ إذ لا عائل لهم سواهم، فكانوا يجيبون بأن الله قد دعاهم من قبل، وبأنهم استجابوا لداعيه. وقد ظل هذا الإحساس يلازم المجاهدين في الميدان. فكانت أسمى ملحمة في تاريخ العقيدة عرفها العالم إلى اليوم؛ إذ كان بعض المحاربين يشرون أنفسهم صائمين ويستشهدون، كما فعل المهاجر بن زياد الحارثي وغيره1. فقد كانوا لا يرون أمامهم إلا

_ 1 البلاذري ص377.

ما وعد الله من الجنة والأجر العظيم، لا طلبة لهم إلا الموت أو النصر، ولا غاية بعد هذين من جاه أو ثروة، وما زالت أبيات عروة ترن في أسماعنا إذ يقول: فلا ثروة الدنيا نريد اكتسابها ... ألا إنها عن وفرها قد تجلت وماذا أرجى من كنوز جمعتها ... وهذي المنايا شرعًا قد أطلت وأصبح همي في الجهاد ونيتي ... فلله نفسي أدبرت وتولت1 وهم لا يستشعرون أدنى ضجر أو ضيق بإزاء ما يلقون من مشاق الجهاد، ومن المنايا التي تحدث بهم من كل جانب، وإنما هم يحمدون هذه المشاق التي ساقتهم إليها عقيدتهم، ويشكرون الله عز وجل أن هداهم للإيمان، ويسألونه أن يوفقهم في طاعته. يقول في ذلك عروة بن زيد الخيل: صبرت لأهل القادسية معلما ... ومثلي إذا لم يصبر القرن أصبر فطاعنتهم بالرمح حتى تبددوا ... وضاربتهم بالسيف حتى تكركروا بذلك أوصاني أبي وأبو أبي ... كذلك أوصاه فلست أقصر حمدت إلهي إذ هداني لدينه ... فلله أسعى ما حييت وأشكر2 ورائعة هذه الأهازيج التي كان يلقى بها المجاهدون وهم يلقون أعداء الله، ويعلنون فيها أنهم لا يبغون إلا الشهادة أو النصر، كما جاء على ألسنة أبناء الخنساء يوم القادسية، حينما ألقوا بأنفسهم إلى الموت واحدًا إثر الآخر، وأجمعوا على هذا المعنى في نهاية أراجيزهم، فقال الأول: وأنتم بين حياة صالحة ... أو ميتة تورث غنما رابحة3 وقال الثاني: إما لفوز بارد على الكبد ... أو ميتة تورثكم عز الأبد في جنة الفردوس والعيش الرغد4 ...

_ 1، 2 الأخبار الطوال ص148. 3، 4 الاستيعاب ص745.

وقال الثالث: إما لفوز عاجل ومغنم ... أو لوفاة في سبيل الأكرم1 وبنفس هذه الروح المؤمنة كانوا يواجهون الموت، فإن أدركهم في عزيز لديهم لم يجزعوا. وما يجدي الجزع ولكل أجل كتاب، إن الموت حق، وأمر لا بد من نفاذه ضربة لازب. ولا يملكون أمامه إلا الإيمان والتسليم. وعلامَ البكاء وسوف يُبكى على الباكين في يوم قريب؟! بمثل هذه المشاعر كانوا يواجهون الموت، كما واجهه أبو ذؤيب بهذا الإيمان العميق في قوله: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع لا بد من تلف مقيم فانتظر ... أرض قومك أم بأخرى المصرع ولقد أرى أن البكاء سفاهة ... ولسوف يولع بالبكا من يفجع وليأتين عليك يوم مرة ... يبكي عليك مقنعًا لا تسمع2 ونفس هذه الروح نجدها في مرثية كثير بن الغريزة؛ إذ يقول: ورب أخ أصاب الموتى قبلي ... بكيت ولو نعيت له بكاني فلا تستبعدا يومي فإني ... سأوشك مرة أن تفقداني3 وكانت تشيع في رثائهم -إلى جانب نغمة التسليم والإيمان- نغمة رضاء واستبشار واستحسان؛ لما قدمه الشهيد باستشهاده، وما تحمله من تضحيات، فعليه إذن أن ينام قرير العين، هانئ البال. يقول القعقاع في رثاء خالد بن يعمر: حضض قومي مضر حي بن يعمر ... فلله قومي حين هزوا العواليا وما خام عنها يوم سارت جموعنا ... لأهل قديس يمنعون المواليا4

_ 1 الاستيعاب ص745. 2 ديوان الهذليين ج1، ص3. 3 البلاذري 279، ياقوت ج2/ 149. 4 الطبري ج5، ص2329.

وهذا خليد بن المنذر يدعو لهؤلاء الذين خضبوا بدمائهم الرماح يوم طاوس فيقول: فلا يبعدن الله قومًا تتابعوا ... فقد خضبوا يوم اللقاء العواليا1 وهذا عبد الله بن سبرة الجرشي -الذي قطع الأرطبون يده يوم فلطاس- لا يشعر بالحسرة والندم على يده، إلا أنها تمنعه الجهاد، ولكن ما دام بها بنانتان وجرموز يقيم بها صدر القناة فلا بأس. وعلامَ يتحسر عليها وقد قامت بدورها فقطعت أوصال الأرطبون قبل أن يقطعها؟! وفي هذا يقول: فإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا وإن يكن أرطبون الروم أفسدها ... فإن فيها بحمد الله منتفعا بنانتان وجرموز أقيم بها ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا2 ومن المشاعر الإسلامية الخطيرة التي شاع أثرها في الشعر ما ركزه الإسلام في العرب من إحساس بالقوة، وما أثمره عمق إيمانهم من اعتداد بأنفسهم، وتقدير لذواتهم، واستهانة بقوى الباطل، لإيمانهم بأنهم على حق وفي سبيله. وقد أبدلهم الإسلام عن إحساسهم بالضعف والهيبة أمام الفرس والروم في الجاهلية إحساسًا بالقوة، وشعروا بأنهم ألأعلون، وإن على أكتافهم تقع مسئولية تبليغ الرسالة، التي أضحوا قوامين عليها إلى العالمين، بما في ذلك دولة فارس ودولة الروم. وبغير هذا الإحساس لم يكن يتسنى للعرب -وهم فل حروب داخلية حصدتهم حصدًا، ولم يكن يمكنهم وهم على ما هم عليه من ضعف العدة وضيق ذات اليد وقلة العدد بالقياس إلى هاتين الدولتين- أن يستبيحوا حماها أو أن يدوسوا حصونهما ومعاقلهما. فقد قلب هذا الإحساس -بالثقة والمسئولية- ميزان الموقف رأسًا على عقب، فإذا بالحفاة العراة رعاة الإبل وأكلة الحنظل يطبقون من كل جانب على سادة الأمس القريب، وهم على ما هم عليه من ضخامة الثروة، والمدنية والعمران، وانفساح الرقعة،

_ 1 ياقوت ج2، ص494. 2 الإصابة ج5، ص60، 92.

والبطش والقوة. وإذا بهم يسوقونهم سوقًا إلى حظيرة الإسلام، ويزلزلون عروشهم، ويأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا حكموا فيهم سيوفًا مؤمنة تصرعهم في كل وقعة. أجل كان العرب في جميع أطوار حياتهم -بحيال دولتي الفرس والروم- لا يهجس في نفوسهم هاجس بالاستطالة عليهم أو مساماتهم، وإنما كان قصارى من سمت به همته إلى الملك منهم أن يكون تابعًا لهما خاضعًا لسيطرتهما، كما كان المناذرة عمالًا للفرس، والغساسنة عمالًا للروم. ولكن، أما وقد جاءهم الإسلام بهذه الأحاسيس، فبث فيهم تلك المشاعر، ووحد كلمتهم، وأمد لهم في الأمل، فما النصر إلا من عند الله، وإن ينصرهم فلا غالب لهم. فأولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون. ولو رجعنا إلى أقوال قوادهم ورسلهم إلى كبراء هاتين الدولتين العظيمتين وقوادهما لوجدناها تنطق بهذه الآمال وبتلك الثقة، كما يظهر في قول المغيرة بن شعبة لرستم لما خوفه مغبة الأمر إذ قال: "يدخل من قتل منا الجنة، ومن قتل منكم النار، ويظهر من بقي منا على من بقي منكم"1. وهذا عبادة بن الصامت وقد خوفه المقوقس قوة الروم وكثرة عددهم على حين أن العرب قلة لا يقدرون عليهم يواجهه في ثقة وإيمان وبسالة بقوله: "يا هذا.. لا تغرن نفسك وأصحابك. أما ما تخوفنا به من جموع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم.. فلعمري ما هذا الذي تخوفنا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقًّا فذلك -والله- أرغب ما يكون، في قتالهم، وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته. وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك2. وتدور هذه الروح في كتب خالد بن الوليد وغيره من قواد المسلمين إلى قواد الفرس وعظمائهم. وقد سكب بعض الفاتحين هذه الروح في أشعارهم، فصوروا أعداء المسلمين وسادتهم بالأمس في صور تدل على

_ 1 الطبري 5/ 2279. 2 المقريزي ج2/ 290، ابن عبد الحكم 59، 60.

هوانهم على المسلمين، وخذلانهم أمام الحق الأبلج، فهم أناس لا يدافعون عن فكرة كما يفعلون، ولا يحامون عن الحقيقة كما يحامون. والفرس مجوس لا يعرفون الله الذي هدى العرب إلى الإسلام، وليس لهم كتاب يهديهم إلى الحق، فهم في معصية الله، ولكن المسلمين في طاعته يقول الأسود بن سريع التميمي: أطاعوا ربهم وعصاه قوم ... أضاعوا أمره فيمن أضاعوا مجوس لا ينههما كتاب ... فلاقوا كبة فيها قبوع1 وهذا أوس بن بجير الطائي يقرر هذه الحقيقة؛ إذ يقول: ليت أبا بكري يرى من سيوفنا ... وما نجتلي من أذرع ورقاب ألم ترَ أن الله لا رب غيره ... يصب على الكفار سوط عذاب2 وقد راح الفاتحون يصورون الفرس في صور مختلفة، معبرين بذلك عن استهانتهم واحتقارهم. فهذه قصورهم قد آل ما بقي منها إلى المسلمين، وخرب منها ما خرب، حتى عادت كأضراس الكلاب، كما يقول عاصم بن عمرو في قصور الحيرة: حصرنا في نواحيها قصورا ... مشرفة كأضراس الكلاب3 وقد حطهم المسلمون من هذه القصور فزلزلوا عروشهم، كما يقول القعقاع بن عمرو: حططناهم منها وقد كان عرشهم ... يميل به فعل الجبان المخالف4 وهذه بلادهم المنيعة الحصينة التي كانت حرامًا لا يرام بالحشود، أصبحت حلالًا للمسلمين مباحًا، وأصبح تمر النرسيان الذي لم يكن يأكله إلا الأكاسرة طعامًا حلالًا لهم، كما يقول عامر بن عمرو:

_ 1 الطبري ج5/ 2541. 2 الإصابة ج1/ 117. 3 ياقوت ج2/ 275. 4 الطبري ج4/ 2047.

فظلت بلاد النرسيان وتمره ... مباحًا لمن بين الديار الأضافر أبحنا حمى قوم وكان حماهم ... حرامًا على من رامه بالعساكر1 وها هم المسلمون يغلبون ملوك الجزيرة، فيشلون حركتهم، ولا يستطيعون معاونة حلفائهم من الروم، كما قال عياض بن غنم: غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ... عن غزو من يأوي بلاد الشام2 وهذه كنوز المرء كسرى، تلقى في حجورهم، كما يقول نافع بن الأسود: وانتشلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وحاض منا جريضا3 وها هم المسلمون يذيقونهم ما لم يقدروا وما لم يحتسبوا، فإذا بهم يتنادون بقبول الجزية صاغرين، كما يقول عبد الله بن بشير بن عامر: غداة رأوا الخيل العراب مغيرة ... تقرب منهم أسدهن الكوالحا تنادوا إلينا واستجاروا بعهدها ... وعادوا كلابًا في الديار نوابحا4 ويعبر عمرو بن مالك الزهري عن هذا المعنى فيقول: فنادوا إلينا من بعيد بأننا ... ندين بدين الجزية المتواتر5 وهذا الأسود بن قطبة يفخر بأن الفرس قد دفعوا إليه بفدية الأسرى وأنفهم راغم، فيقول: ألا أبلغا عني الغريب رسالة ... فقد قسمت فينا فيوء الأعاجم وردت علينا جزية القوم بالذي ... فككنا به عنهم ولاة المعاصم6

_ 1 ياقوت ج4/ 774. 2 ياقوت ج2/ ص74. 3 الطبري 5/ 2434. 4 ياقوت ج2، ص412. 5 ياقوت ج2/ 65. 6 الإصابة ج1، ص108.

وبهذا الإحساس وحده نفى المسلمون فارسًا عما أرادت وأبادوها، وكانت ثابتة الأركان ممتدة السلطان، كما يقول عمرو بن شأس الأسدي: نفينا فارسًا عما أرادت ... وكانت لا تحاول أن تريم1 ولم تعد فارس عرين أسود، وإنما سارت بأيدي المسلمين حظيرة كلاب نابحة، لا يقيم لها المسلمون وزنًا، كما يقول الراجز: وإنما تلقون عند الصائحة ... من آل ساسان الكلاب النابحة2 وهي لا تزال تعوي تحت ضربات المسلمين في معارك حامية الأوار، كتلك التي قادها النعمان بن مقرن يوم أربك حيث يقول: عوت فارس واليوم حام أواره ... بمحتفل بين الدكاك أربك3 والفرس ليسوا إلا أنعامًا، لا حول لهم ولا قوة أمام المسلمين الذين يصرعونهم على الآكام، كما يقول زهرة بن حوية: وصرعوا الفرس على الآكام ... كأنهم نعم من الأنعام4 وهم أيضًا أجساد نجسة مجوسية مشركة، كما ينعتهم نافع بن الأسود في قوله: فضضت جموع الفرس ثم أنمتهم ... فتبا لأجساد المجوس النجائس5 وهذا مجد فارس تهدمت أركانه، ولم يعد هنالك إلا الإماء والثواكل النائحات تبكين وتعولن على المجد الضائع تحت سيوف المنتصرين، يقول القعقاع بن عمرو: فنحن الألى فزنا بحلوان بعدما ... أرنت على كسرى الإما والحلائل6

_ 1 الاستيعاب 745. 2 ياقوت ج1/ 185. 3 الطبري 5/ 2449. 4 الطبري 5/ 2472. 5 ياقوت ج2/ 317. 6 الطبري ج5/ 2303.

ويقول عمرو بن شأس الأسدي: وداعية بفارس قد تركنا ... تبكي كلما رأت الهلالا1 وكذلك كان شأن الروم، إذا انهارت دولتهم، وأقبلت الشام العريضة بما عليها ومن عليها تلقي بنفسها وبخيراتها إلى المسلمين، كما يقول زياد بن حنظلة: وأقبلت الشام العريضة بالذي ... أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا فقسط فيما بينهم كل جزية ... وكل رفاد كان أهنا وأحمدا2 وعندما طرد المسلمون أرطبون من أجنادين إلى بيت المقدس شريدًا فطموا الروم عن الشام، كما يقول زياد أيضًا: ونحن تركنا أرطبون مطردا ... إلى المسجد الأقصى وفيه حسور فطمنا به الروم العريضة بعده ... عن الشام أدنى ما هناك شطير3 وها هي دولة الفرس تبيد، ويصبح الفرس رعاة الشياه للمسلمين، وكأن ملكهم كان حلمًا وليس هذا إلا بما نصر الله به المؤمنين، وما كانوا ليهتدوا إلا أن هداهم الله. يقول النابغة الجعدي: يأيها الناس هل ترون إلى ... فارس بادت وجدها زعما أمسوا عبيدا يرعون شاءكم ... كأنما كان ملكهم حلما أو سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما4 وها هي دولة الروم تبيد وتصبح فيئًا للمسلمين، وعيشًا خصيبًا لهم، يقول زياد بن حنظلة: وألقت إلينا الشام أفلاذ بطنها ... وعيشا خصيبا ما تعد مآكله أباح لنا ما بين شرق ومغرب ... مواريث أعقاب بنتها قرامله5

_ 1 الطبري ج5/ 2303. 2 الطبري 5/ 2411. 3 ياقوت ج1/ 136. 4 أسد الغابة ج5/ ص3، "ابن قتيبة" ج1، ص253. 5 الطبري ج5/ 2411.

معانى إسلامية خالصة

3- معاني إسلامية خالصة: ولعل أكثر الطوابع الإسلامية مباشرة وأبرزها ظهورًا في شعر الفتوح محاولة تمثل بعض المعاني الإسلامية الخالصة، تمثلًا قريبًا من صورتها في آي الذكر الحكيم، كما حدث في شعر النابغة الجعدي، الذي اتخذ زوال دولة الفرس موضوعًا له، فصوره معجزة من المعجزات الباهرة، التي وفق الله المسلمين إليها، حتى ليجعلنا نعتقد أنه وضع أمامه آيات بعينها من الكتاب العزيز، وراح ينظمها نظمًا، حافظ خلاله -جاهدًا- على ألفاظها. وهي محاولة طريفة، إذا تتبعنا أبياته لنرى إلى أي مدى تمثل هذه المعاني. يقول النابغة: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما1 وهذا معنى يتردد كثيرًا في القرآن الكريم، من مثل قوله عز وجل على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ثم يأخذ في تعداد الآيات الكونية فيقول: المولج الليل في النهار وفي ... الليل نهارًا يفرج الظلما وكأنه يعني قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [لقمان: 29] . ثم ينتقل إلى آية أخرى من الآيات الكونية فيقول: الخافض الرافع السماء على ... الأرض ولم يبن تحتها دعما وهذا معنى قوله سبحانه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10] وينتقل إلى معنى آخر فيقول: الخالق البارئ المصور في الـ ... أرحام ماء حتى يصير دما من نطفة قدرها مقدرها ... يخلق منها الأبشار والنسما

_ 1 أسد الغابة ج5، ص3.

ثم عظاما أقامها عصب ... ثمت لحمًا كساه فالتأما ثم كسا الريش والعقائق أبشـ ... ـارا وجلدا تخاله أدما وهو يقصد بهذه الأبيات، إلى التدليل على أن البعث حق، وكأنه يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5] . أو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12-16] . ثم يتحدث عن أنعم الله على الإنسان من كساء يواري به سوآته، مصداق قول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . ثم يتحدث من بعد ذلك عن قدرته تعالى، في اختلاف الخلق، وأصواتهم، وألوانهم، فيقول: والصوت واللون والمعايش والـ ... أخلاق شتى وفرق الكلما ذلك المعنى الذي تعبر عنه الآية الكريمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] . وهذا كله من أجل أن يدلل على صحة البعث والنشور ليقول: ثمت لا بد أن سيجمعكم ... والله جهرًا شهادة قسما فائتمروا الآن ما بدا لكم ... واعتصموا إن وجدتم عصما في هذه الأرض والسماء ولا ... عصمة منه إلا لمن رحما

فهو يعني: إحاطته سبحانه وتعالى بالخلق، وكأنه ينظر في قوله عز وجل على لسان نوح عليه السلام لابنه حين قال: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] . وينتهي ليذكر الفاتحين التي أجراها الله على أيديهم، في إزالتهم ملك فارس فيقول: يأيها الناس هل ترون إلى ... فارس بادت وجدها رغما أمسوا عبيدًا يرعون شاءكم ... كأنما كان ملكهم حلما أو سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما1 وآية هذا أن طوابع إسلامية قد طبعت الشعر الإسلامي في الفتوح من جراء صدوره في ظروف أثرت في شكله، ونزعت به إلى التخفف من المقدمات الغزلية والطللية، التي لا تتلاءم مع ما يتحمل الفاتحون من مسئوليات سامية وجادة، وما هم مشتغلون به عما سواه. وقد أتاح هذا للرجز أن يصبح قالبًا من قوالب الشعر، يتحمل موضوعات القصائد. وكان من أبرز الطوابع التي طبعت المضمون الشعري صدور الشعر عن روح الجماعة الإسلامية، وعن وجدانها الجماعي، الذي استنفد القوميات المحلية والعصبيات القبلية وصاغها صياغة جديدة، في إطار جديد. كما صدر الشعر عن المثل الإسلامية الرفيعة، وعُنِيَ بنقلها، وصور تطبيق النظم الإسلامية في الأمصار الجديدة. كذلك طبع الشعر بمثل ما طبعت به النفوس المؤمنة من المشاعر الدينية، والأحاسيس الروحية السامية، التي تجلت في الإيمان العميق بالله، والحرص على الفوز بما وعد، والاستسلام لقضائه، وما بثه الإسلام في العرب من اعتزاز بأنفسهم تضاءلت أمامه هيبة الدول، التي تسلطت عليهم بالأمس فأدالوها وسادوها، بما دفعه الإسلام فيهم من روح جديدة، أكدت لهم ضرورة هدايتهم العالمين إلى ما هداهم به ربهم. وقد اصطبغ الشعر في ألوانه وضروبه جميعًا بصبغ إسلامي، واضح في معانيه وتعبيراته وألفاظه، وكان من أبرز هذه الطوابع الإسلامية ما حاوله بعض الشعراء من محاكاة المعاني الإسلامية، والتعاليم الدينية وآيات القرآن الكريم.

_ 1 أسد الغابة ج5، ص3، ابن قتيبة ج1/ 253.

الفصل الثالث: الطوابع الشعبية

الفصل الثالث: الطوابع الشعبية 1- أحاديث البطولة بين الواقع والأسطورة: لا ريب أن أنباء الفتح وأخبار المسلمين مع الفرس والروم وأقاصيص غزواتهم العديدة وما كان يلقى المسلمون هنا وهناك من تقدم أو تقهقر أو عسر أو يسر كان ينتقل بين الميادين المختلفة، وتنعكس أصداؤه على المسلمين في شبه الجزيرة العربية؛ حيث كانوا هناك يستشرفون هذه الأخبار وينتظرونها بشغف، ويتتبعونها في حرص ولهفة، ذلك أنهم وجهوا كل اهتمامهم آنذاك إلى ما قد تتمخض عنه هذه الحركة الهائلة في تاريخهم وتاريخ عقيدتهم. وكان هذا الاهتمام يظهر في وضوح في أثناء المعارك المهمة والفاصلة؛ إذ يروي الرواة أن العرب كانوا يتوقعون وقعة القادسية فيما بين العذيب إلى عدن، وفيما بين الأبلة وأيلة، ويرون أن ثبات ملكهم وزواله بها. وكانت كل بلد مصيخة إليها، تنظر ما يكون من أمرها، حتى إن الرجل كان يريد الأمر فيقول: لا أنظر فيه حتى أنظر ما يكون من أمر القادسية1. وكان المسلمون يتلهفون على أبناء المعارك والانتصارات. وكان الفاتحون وكثرتهم من المسلمين العاديين الذين انطلق الشعر على ألسنتهم ولم يكونوا يعرفون به من قبل يسجلون انتصاراتهم ويغتبطون بها، وكان كل هذا يتجمع في روايات الرواة، في صورته الأولى التي صدر فيها، والتي لم تصل إلينا على كل حال؛ إذ إن هذه المرويات المأثورة من أخبار الأبطال وبلائهم، وأفانين بسالتهم، وما يروون لهم أو عنهم من الشعر في إطار زمني يحدد سير المعارك قد تعرضت في صورتها البسيطة الواقعية لغير قليل من محاولات النسج، والسبك والتضخيم، والإغراق، ودخلها كثير من الخيال الشعبي.

_ 1 الطبري 1/ 5/ 2364.

فقد ظلت هذه الآثار تتناقل على الألسن زمنًا قبل تدوينها، وأسهم القصاص الذين كانوا يتحدثون إلى الناس في مساجد الأمصار -فيذكرون لهم من أخبار المغازي والفتوح ما يمثل لهم أهواءهم وشهواتهم ومثلهم- إسهامًا خطيرًا في البعد بهذه المرويات المأثورة من الواقع إلى الخيال البعيد. فقد كان هؤلاء القصاص يمضون مع الخيال إلى حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم، لا إلى حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا. وكأن الناس كلفين بهؤلاء القصاص، مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث1. كما كان القصاص كلفين بإرضاء روح الشعب الذين كانوا يتحدثون إليه، والذي يطلب المعجزة في كل شيء، فعنوا عناية كبيرة بالأساطير والمعجزات وغرائب الأمور، وصوروا له تاريخه وفتوحه كما يحب أن يراها وأن يسمعها، ورسموا له صور الأبطال الذين يعجب بهم ويتمثلهم رسمًا خياليًّا أسطوريًّا. وكانت هذه الأحاديث شأنها شأن القصص الشعبي كله في حاجة إلى الشعر، فالبطل لا بد أن يكون شاعرًا إلى جانب فروسيته، وعاشقًا ومستخفًّا بكل المصاعب التي يواجهها. وهذه المواقف في حاجة إلى الشعر؛ لتزيينها، وتشويق الشعب لسماعها. ورصعت هذه الأحاديث بالشعر، وأضيفت هذه الأشعار إلى الشعراء وغير الشعراء، ونتجت أشعار تنسب إلى غير قائل، وأشعار أخرى تنسب إلى الجن، وولدت الروايات، وامتلأت بالأعاجيب والتهاويل، حتى ليذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أن الأخبار التي استخلص منها تاريخ العرب ليست إلا المظهر القصصي للحياة العربية القديمة، ذكرها العرب بعد أن استقروا في الأمصار، فزادوا فيها ونموها وزينوها بالشعر2. وظلت الروايات هذه تتعرض لعمل الرواة والقصاص، وتتأثر بالظروف التي تروى خلالها؛ حيث اشتدت العداوة السياسية، وعادت العصبية جذعة عقب الانتهاء من الفتوح، واشتعلت الفتن، ولعبت هذه الظروف -فضلًا عن تعلق روح الشعب الذي شغف برواية أخبار الفتوح- دورها في تغيير صور هذه الآثار إلى ما يرضي نزعات

_ 1 في الأدب الجاهلي 189. 2 في الأدب الجاهلي 200.

الشعب، من الإغراب والإعجاب وما يساير نزعات السياسة والعصبية، وبعد هذا كله عن الوقائع، إلى أن أصبحت أساطير أو كادت، حتى دونت في القرن الثاني الهجري. ومن بين هذه العوامل جميعًا نجد روح الشعب أكثر فاعلية في البعد بهذه الأحاديث عن الواقع؛ إذ إن المسلمين الذين تحققت على أيديهم المعجزة فدكوا صروح الفرس والروم بهرتهم المعجزة التي صنعوها بأيديهم، فراح وجدانهم يطلب الإعجاز في تبريرها، ويسهم بطريق غير مباشر في رواية تاريخ الفتوح، رواية تشبع مطامحه وترضي اعتزازه، كما يبدو في تصوير بلاء الفرسان الأفذاذ؛ كخالد بن الوليد، والقعقاع، والمثنى، وعمرو بن العاص، وأبي محجن الثقفي، وعمرو بن معديكرب، وغيرهم من الأبطال الذين نسبت إليهم أفعال معجزة لا تكاد تصدق. بل إن هذه الأفعال كثيرًا ما نسبت إلى المحاربين العاديين. فهذا حياص بن قيس بن الأعور القشيري، الذي قطعت رجله يوم اليرموك يقتل ألفًا من الروم وحده في هذا اليوم1. ولو رحنا نعدد القتلى الذين قتلهم المسلمون من الفرس والروم في الوقائع المختلفة جميعًا لربا مجموعهم على كل ما نعرف الآن من ضخامة الجيوش الحديثة. ونحن لا نذهب مذهب الشك الخالص في هذه الروايات، وما احتوت عليه من الأخبار والأشعار والقصص، فإنها على حد زعم المتشككين مظهر للوقائع الحقيقية، تدل عليها وتصورها، وتعطينا صورة لروح الشعب في ذلك الوقت. وسنرى فيما بعد كيف لعبت هذه العوامل دورها في البعد بالروايات وأحاديث البطولة من الواقع التاريخي إلى التاريخ الأسطوري، الذي نسجه الخيال الشعبي.

_ 1 الإصابة ج2/ 68.

قصص الفرسان في الفتوح

2- قصص الفرسان في الفتوح: روى القصاص أحاديث البطولة في الشعب، الذي كان يتطلب أن يرى فيها إعجازًا وإغرابًا يبرران المعجزة التي تحققت له. وكان يحب أن يرى نفسه في فرسانه الذين حققوا هذه المعجزة. وأفلح القصاص في نسج هذه الصورة التي بعدت مع الخيال -في بعض جوانبها- عن الواقع الحقيقي إلى الأسطورة الخيالية، وصورت له الفرسان المسلمين في صورة عجيبة وفذة، وهي صورة ترضي أحاسيسه بالاعتزاز وتتملق إعجابه بتاريخه. ومن هذه القصص ما روي في أخبار القواد والأمراء والفرسان الذين برزوا ببلائهم، واتخذت أفعالهم الفذة نواة صيغت حولها هذه الصور الأسطورية. تتبعت هذه الأخبار اجتياح خالد بن الوليد للعراق في السنة الأولى، وإخضاعه لها، وإجرائه أنهار الدم في أليس وفم فرات بادقلي، وافتضاضه الحيرة والأنبار وعين التمر، وإنقاذه عياض بن غنم، وفتح دومة، واعتسافه الصحراء إلى مكة؛ ليؤدي فريضة الحج وعودته إلى الحيرة قبل أن يعود جيشه إليها، ثم اعتسافه الصحراء إلى الشام في خمسة أيام، سلك فيها طريقًا غامضًا، لا يزال موضوع حدس وتخمين لعلماء الجغرافية العسكرية إلى اليوم. وقد فعلت هذه الروايات فعل السحر في الناس. فتابعوا خالدًا في الشام فإذا هو بطل اليرموك، وهو الذي تسور دمشق، وإذا هو أحد أركان المسلمين فيها بعد فتح دمشق، وفي القضاء على الفتن في شمالي الشام. ولا شك أن هذه الروايات هي التي عزلت خالدًا، كما يبدو في كتاب الخليفة إلى الأمصار، واعترافه بأنه لم يعزله عن خيانة وتقصير، وإنما لأن الناس قد فتنوا به، فخاف أن يوكلوا إليه الأمر، وأحب أن يعلموا أن الله هو الصانع، وأن عمر تمثل بقول الشاعر: صنعت فلم يصنع كصنعك صانع ... وما يصنع الأقوام فالله صانع1 وقد مر بنا كيف كانت حياة عمرو بن معديكرب أقرب ما تكون إلى الأسطورة، من ترداد لقصص بطولته وأفاعيله في القتال، ومنازلة الأقران وشجعان العرب، واستهانته بكل صعب، وما كان من امتداد عمره حتى ينيف على المائة، والرغبة في جعله ممن شهدوا صفين؛ ليكون أطول عمرًا. كل هذا كان بدافع الرغبة الشعبية في النزوع بهذه السير والذكريات إلى الأساطير المعجزة؛ لتكون من دواعي فخر الشعب وزهوه، وإرضاء منازع الفروسية الكامنة فيه، وتأكيد المثل العليا في الشجاعة والنجدة. ويظهر ذلك جليًّا في التضارب الذي تحفل به الروايات التي تعلل قصائده؛ لربطها بأخبار فروسيته وشجاعته. ومن هذا القبيل أيضًا ما يذكر في أخبار أبي محجن الثقفي،

_ 1 الطبري ج5/ 2528.

وما يروى في خروجه للجهاد من روايات متضاربة، فهو حُدَّ في الخمر، ونفاه الخليفة مرة، ثم مرة أخرى يشبب بامرأة من الأنصار. وتلعب الروايات دورًا كبيرًا في تفسير خروج الشاعر إلى القادسية والتحاقه بسعد؛ لتفسير حبسه في القادسية عن القتال، ثم انطلاقته البطولية وتحقيقه النصر للمسلمين، بعد أن يبكي أغلاله ويظهر ما يجيش في صدره من ضيق لقعوده عن القتال. وتذهب الروايات مذاهب بعيدة في تصوير بلائه وقصفه للأعداء؛ حتى ليظنه المسلمون الخضر يمتطي البلقاء، ويظنه الآخرون ملكًا يحارب إلى جانبهم، ويتعجب سعد إذ ترك أبا محجن حبيسًا، ولولا أنه حبسه بيده لظن أنه هو1. وواضح فيما سلف أن أبا محجن خرج للجهاد قبل القادسية، وأنه شهد الجسر، وأنه إنما حبس لشغبه على سعد. ولكن الروايات تمضي تستكمل جوانب شخصية الفارس فتصوره عابثًا لاهيًا، مستهينًا بكل شيء، يجادل الخليفة في الخمر جدالًا فكهًا، ويرثيها بشعر رُوي لأكثر من شاعر2. ومثل أبي محجن وما نسج عنه نسجت قصص كثيرة في مقتل يزدجرد ورستم ومهران، وتنازعت الروايات شرف قتلهم، فتفرق دمهم بين عدد كبير من الفرسان، أمثال: عمرو بن معديكرب، وطليحة بن خويلد، وقرط بن جماح، زاهير بن عبد شمس، وعمرو بن شأس، وهلال بن غلفه. وقال كل من هؤلاء شعرًا يفخر فيه بقتل أحد هؤلاء القادة العظام. ومن مصر أتت روايات تتحدث عن بطولات عمرو بن العاص ودهائه، وقدومه إلى مصر في الجاهلية مرتين، ومشاهده في الإسكندرية، وما كان من التنبؤ له بفتح مصر، في قصة وقوع الكرة بكمه في أحد أعياد القبط3. مما يدل على تدخل روح العامة في الاستشراف والتوقع والتمهيد لفتح مصر على يده. وغير ذلك من القصص التي تكشف عن المثل العربية في النجدة والوفاء، من مثل: قصة اليمامة التي باضت فوق

_ 1 الأغاني 21/ 138، 139، 140. 2 الأغاني 21/ 142. 3 المقريزي ج1/ 158.

فسطاطه، عندما عن له الرحيل إلى الإسكندرية، وأمر جنده بأن ينتظروا حتى تقف اليمامة ويطير فراخها1. كما يُروى في فتوح إفريقية، ما كان من قتل ابن الزبير لجرجير في ثلاثين فارسًا فقط؛ إذ اكتشف منه ثغرة دل عليها عبد الله بن سعد فانتدب معه الفرسان حتى أجهز عليه عبد الله ورفع رأسه برمحه2. وتجري كل هذه الروايات في تفصيل دقيق، وسرد معجب، كأثر من آثار الرواية والقصص، يتخللها بعض الشعر الذي ينسب إلى هؤلاء الفرسان.

_ 1 الولاة والقضاة ص9. 2 أغاني دار الكتب 6/ 266، 267.

أشعار مجهولة القائل

3- أشعار مجهولة القائل: ويذهب بعض الباحثين مذهب الشك في الأشعار التي لا تنسب لقائل معين، فهي في رأيهم، نحلت نحلًا بفعل عوامل مختلفة، منها السياسة، والخصومات العصبية، وما كان من فعل القصاص. وفي رأينا أن هذه الأشعار لا يمكن أن تكون قد تعرضت للنحل، فكثرتها لا تهدف إلى الإشادة بعصبية معينة، كذلك الشعر الذي انطلق على ألسنة الشعراء المغمورين وغيرهم، ممن لم يكن له كلف أو شهرة بالشعر. وبعضها الآخر الذي يشيد بعصبيات معينة لا يمكن أن يكون منحولًا، فإنه يتغنى بعصبيات شهدت الفتوح وأبلت فيها. بل إن هذه القبائل ذاتها كانت أكثر أحياء العرب بلاء في المواقع الفاصلة في الفتوح، ونحن لا نستطيع أن نرفضها لهذا السبب، أو نقف منها موقف التشكك، فهي تعبر عن إحساس شعبي داخل هذه العصبيات بالمعركة وخطورتها، وهناك أشعار أخرى صدرت عن هؤلاء المغمورين، الذين لم يعن الرواة بتدوين أسمائهم؛ لضعف شأنهم في الشعر، ولأنهم كانوا من عامة الجند وإن شكلوا كثرته. ومن اللون الأول ما ترويه بعض الروايات: من أن الجن قد سارت بأنباء القادسية فأتت بها ناسًا من الإنس فسبقت أخبار الإنس إليهم. وبدت امرأة ليلًا على جبل بصنعاء لا يُدرى من هي تقول:

حيتك عنا عكرم ابنة خالد ... وما خير زاد بالقليل المصرد وحيتك عني الشمس عند طلوعها ... وحياك عني كل ناج مفرد وحيتك عني عصبة نخعية ... حسان الوجوه آمنوا بمحمد أقاموا لكسرى يضربون جنوده ... بكل رقيق الشفرتين مهند إذا ثوب الداعي أناخوا بكلكل ... من الموت مسود الغياطل مجرد1 وكذلك سمع من تغنى بمثل هذه الأبيات في اليمامة فقال: وجدنا الأكثرين بني تميم ... غداة الروع أصبرهم رجالا هم ساروا بأرعن مكفهر ... إلى لجب فزرتهم رعالا يجور للأكسار من رجال ... كأسد الغاب تحسبهم جبالا تركن لهم بقادس عز فخر ... وبالخيفين أياما طوالا مقطعة أكفهم وسوق ... بمردى حيث قابلت الرجالا2 وواضح أن الأبيات الأولى تشيد بفعال نخع بالفرس وتصفها بأنها عصبة مؤمنة بمحمد، حسان الوجوه ضربوا كسرى بسيوفهم وأذاقوه نكالًا. بينما تعدت الأبيات الأخرى حد الفخر إلى التفاخر بتميم على سائر الأحياء، فهم الأكثرون، وهم أصبر القوم رجالًا، وإن أشادت بتميم وبفعالها في الفرس نفس الإشادة. وقد يجعلنا هذا نظن أن المقطوعة الثانية كانت ردًّا على المقطوعة الأولى، ولا غرابة أن يكون بعض النخعيين قد أشادوا بنخع فرد عليهم بنو تميم يغلبون صنيعهم، ويتفاخرون على أحياء العرب عامة. ولكن الغرابة في نسبة هذه الأبيات إلى متغنين من الجن. والأغرب من ذلك ما تقرره الرواية من أنه قد سمع بمثل هذا في كافة بلاد العرب3.

_ 1 الطبري 5/ 2364. 2 الطبري 5/ 2366. 3 المرجع نفسه.

ونسبة الشعر إلى الجن في هذه الرواية ليست أول مرة من نوعها؛ إذ إن العرب -وبخاصة الأعراب والرواة- قد لهوا بعد الإسلام بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون الشعراء قبل النبوة وبعدها، وشجعهم على هذا ما في القرآن من آيات تنبئ بأن الجن قد استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فلانت قلوبهم، وآمنوا بالله ورسوله، وعادوا فأنذروا قومهم ودعوهم إلى دينه، وأنهم كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع فرجموا بالشهب، وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض؛ ولهذا راح الرواة والقصاص يستغلون هذه المعاني لخدمة أغراضهم، فزعموا -من قبل- أن الجن قتلت سعد بن عبادة الأنصاري الذي لم يذعن لقريش، ولم يؤمن بأحقيتها في الخلافة دون الأنصار. وزعموا أيضًا أن الجن قالت في قتله غيلة بأحد أسفاره شعرًا. وكذلك نطقت الجن بشعر في رثاء عمر بن الخطاب، ينسبه بعض الرواة إلى الشماخ بن ضرار وأخويه مزرد وجزء1. لا غرابة إذن في نسبة الشعر إلى الجن، وإنما الذي يستحق النظر وهو ما تؤكده الرواية من أنه قد سمع بمثل هذا الغناء في كافة بلاد العرب. وهذا -في حد ذاته- كفيل بأن يلفتنا إلى مدى توقع المسلمين والعرب عامة للنتائج التي يمكن أن تتمخض عنها القادسية؛ إذ كان العرب يتوقعونها من العذيب إلى عدن، وما بين الأبلة وأيلة2، الأمر الذي يؤكد لنا صدور الأبيات في أعقاب المعركة، وأنها لم تنحل على أيدي الرواة، وإنما أطلقتها القبائل بدافع المفاخرة فيما بينها. وتظهر الطوابع الشعبية واضحة في رواية هذه الأبيات على لسان الجن وتغنيها بها وسماع بلاد العرب كلها هذا الغناء، وتصور أن الجن سارت بأنباء القادسية إلى أهل الجزيرة، فسبقت إليهم نفرًا من الإنس، مما يكشف عن تصور شعبي متأثر بقواعد معينة، يخضع لها تفكير العامة عند معظم الشعوب الأولى؛ كحكايات المردة، وأساطير لقمان وصقوره، وغير ذلك من المتوارثات الشعبية، فضلًا عما بالقرآن من أحاديث الجن. وهذه كلها أشياء مهمة لدراسة الأدب الشعبي، عن طريق محاولة التعرف على نفسية الشعب وثقافته في الآونة التي وضع فيها الشعر في هذا الاتجاه.

_ 1 في الأدب الجاهلي 170. 2 الطبري 5/ 2364.

وقريب من أمر هاتين المقطوعتين أبيات من الرجز قيلت في طاعون عمواس، نسبت إلى غلام أعجمي، تغنى بها خلف رجل عزم على الرحيل فرارًا من الطاعون، فقال له: يأيها المشعر هما لا تهم ... إنك إن تكتب لك الحمى تحم1 وتغنى آخر خلف غلام هرب من البصرة من الطاعون على حمار، فإذا بمن يحدو به: لن يعجزوا الله على حمار ... ولا على ذي غرة مطار قد يصبح الموت أمام الساري2 ونعجب كثيرًا أن يكون الحادي أعجميًّا، ونرجح أن ذلك من فعل الرواة والقصاصين، الذين أرادوا الإغراب في كل شيء؛ حتى لينطقوا الأعاجم بهذه الآراء القدرية التي شاعت بين المسلمين. أما اللون الآخر من الشعر الذي لا ينسب إلى قائل معين، فهو شعر المغمورين، الذين لم يعن الرواة بتدوين أسمائهم لضعف شأنهم في الشعر، وكونهم من عامة الجند، وهو شعر كثير، ومعظمه في تصوير بلاء المسلمين، مثل قول الشاعر: صبحنا بالكتائب جمع بكر ... وحيا من قضاعة غير ميل أبحنا دارهم والخيل تردى ... بكل سميدع سامي التليل3 أو تصوير قسوة المعارك، كما يبدو من قول أحد المسلمين: يارب مهر حسن مطهم ... يحمل أثقال الغلام المسلم ينجو إلى الرحمن من جهنم ... يوم جلولاء ويوم رستم ويوم زحف الفارس المقدم ... ويوم لاقى ضيعة مهزم وخردين الكافرين للفم4

_ 1 الطبري ج5/ 2521. 2 نفس المرجع. 3 البلاذري 249. 4 الطبري 5/ 2472.

أو في فخر جندي بقائده، مثل قول أحد جنود المثنى في سوق الأنبار: وللمثنى بالعال معركة ... شاهدها من قبيلة بشر كتيبة أفزعت بوقعتها ... كسرى وكاد الإيوان ينفطر وشجع المسلمين أن حذروا ... وفي ضروب التجارب العبر سهل نهج السبيل فافتقروا ... آثاره والأمور تقتفر1 وكما فخر أحد جنود البراء بن عازب به في قوله: قد تعلم الديلم إذ تحارب ... لما أتى في جيشه ابن عازب بأن ظن المشركين كاذب ... فكم قطعنا في دجى الغياهب ومن جبل وعر ومن سباسب2 وكذلك يذهب بعض الشعر في الرثاء، كرثاء هذا الشاعر لعامة شهداء المسلمين عند نقل رفاتهم إلى مشرق بالقادسية؛ إذ قال: جزى الله أقوامًا بجنب مشرق ... غداة دعا الرحمن من كان داعيا جنانا من الفردوس والمنزل الذي ... يحل به م الخير من كان باقيا3 ونجد كثرة من الشعر تنصرف في باب الحنين وشكوى الاغتراب، وتروي بعض الروايات أنه كان مما يترنم به4، من مثل قول القائل: أقمرية الوادي التي خان إلفها ... من الدهر أحداث أتت وخطوب تعالي أطارحك البكاء فإننا ... كلانا بمرو الشاهجان غريب5

_ 1 البلاذري 250، ياقوت ج3/ 593. 2 ياقوت ج4/ 88. 3 ياقوت ج4/ 529. 4 ياقوت ج2/ 510. 5 المرجع نفسه، وانظر ج2/ 207، 199، ج4/ 747، 748، 749.

كما تروي بعض الأراجيز التي -كانت النساء والولائد والأطفال يتغنون بها إبان فتح بيت المقدس، وما فعله المسلمون بأعدائهم في الفترة ما بين جمادى ورجب- تقول: العجب كل العجب ... بين جمادى ورجب أمر قضاء قد وجب ... يخبره من قد شجب تحت غبار ولجب1 ومثل هذه الأرجوزة التي تغنى بها الأطفال والنساء في الكوفة بعد عزل الوليد بن عقبة، والتي تقول: يا ويلتا قد عزل الوليد ... وجاءنا مجوعًا سعيد ينقص في الصاع ولا يزيد ... فجوع الإماء والعبيد2 وهكذا نجد هذا الشعر المجهول قائله يتناول نفس الموضوعات التي تناولها الشعر المنسوب إلى قائله، وإن كان يتميز بمميزات معينة؛ فهو شعر قليل، ورجز كثير، وتكاد تنعدم فيه روح الفردية؛ إذ يتغنى الشاعر فيه بلسان الجماعة، ويعبر عن فعالها جميعًا، وما تقاسيه في مجموعها من مشاق القتال، ولا ينفك عن هذه الميزة إلا في شعر الحنين والشكوى فحسب. وكذلك يتميز هذا الشعر بروح إسلامية واضحة، تشيع في معانيه والفاظه، وفضلًا عن هذا فهو بسيط في أفكاره القريبة، التي تكاد تقرب من التقريرية المحضة، وتكاد ألفاظه تكون نثرًا، فيما عدا شعر الحنين، فإننا لا نلمس فيه هلهلة النسيج وضعف البناء، اللذين نجدهما في بقية هذا الشعر، مما أدى إلى أن يتسم بالصدق والحرارة الشعورية، برغم بساطته وسهولته. وخلاصة القول: إن طوابع شعبية تسم بعض شعر الفتوح ورواياته وروايات البطولة التي نسبت إلى بعض شعرائها، بفعل اهتمامات أفراد الشعب بهذه الفتوح، وتغنيهم

_ 1 الطبري ج2/ 2419. 2 الطبري ج5/ 2850.

بانتصاراتها، ورغبتهم في تصويرها تصويرًا معجبًا يرضي نوازع الزهر فيهم. وقد تملق القصاص هذا المنازع بما زادوه في قصص الفتوح، وما نسبوه إلى فرسانها المشهورين، من أفعال تحولت بسيرهم من الواقع إلى ما يكاد يشبه الأساطير، مما أدى إلى نحل الشعر عليهم، ونسبته إلى الشعراء وغير الشعراء منهم. وأشعار أخرى نجدها منسوبة إلى غير قائل، تعالج كل موضوعات الشعر التي عالجها الشعراء المعروفون، وهي أشعار تطبعها طوابع شعبية، في تغنيها بروح الجماعة، وتغني الناس بها، وما يبدو من بساطتها وسهولتها، وقربها من الحديث العادي، مما يؤكد أنها لشعراء من عامة الجند، لم يعن الرواة بالتعرض لهم لضعف شأنهم، وعدم نضج أشعارهم نضجًا يؤهلهم للشهرة؛ ذلك لأن الرجز هو أقرب ألوان الفن القولي إلى السليقة العربية لعفويته وسهولته، وأيضًا فإن هؤلاء الشعراء لم يكن يهمهم أن ينسب الشعر الذي ينظمونه إليهم؛ إذ كانوا من عامة الشعب، وعامة الشعب دائمًا لا يهمهم أن ينسب إليهم فضل أو تمجيد. إنما هي مشاعر ينطقون بها في بعض اللحظات، ولا يهم من ينطقون بها أن تنسب إليهم أو أن يشاد بهم من أجلها. ومن أجل ذلك لم تعين نسبتها إلى من نظموها؛ إذ كان ذلك لا يعنيهم في شيء. وذلك شيء عام يلاحظ في الآداب الشعبية أنه لا تتضح فيها النسبة إلى من صنعوها، وكأنها ليست لأفراد معينين، إنما هي للشعب كله، تصور روحه, وتعبر عن شخصيته، وأنها ميراث لجميع أفراده، لا يختص بها فرد دون فرد. ومن خير ما يصور ذلك الأمثال الشعبية، فإنها دائمًا مجهولة القائل؛ لأنها من عمل الشعب، وأعمال الشعب لا تسجل تسجيلًا فرديًّا، وكأنما يتلاشى فيها الفرد في الجماعة تلاشيًا تامًّا.

الفصل الرابع: الطوابع الفنية في شعر الفتوح

الفصل الرابع: الطوابع الفنية في شعر الفتوح 1- الأثر الإسلامي في الصياغة: نستطيع أن نتبين في وضوح بعدما عرضنا من شعر الفتح الإسلامي في الميادين المختلفة عدة طوابع فنية، تطبع هذا الشعر في مجموعه، وتوضح معالمه وقيمته التاريخية، وتضعه -من ثم- في موضعه من تاريخ الأدب العربي، وشعر الفتح يكشف في جلاء عن أثر الإسلام كعقيدة، وكفكرة في نفسية العربي. وفي حمله على أن يبذل وأن يضحي في سبيلها بكل ما يملك، من روحه وجهاده ونضاله، كما يظهر في شعر الجهاد وأرجاز الفرسان. ويصور شعر الفتوح بالتالي مدى التغيير الهائل الذي أحدثته الفكرة الإسلامية في الارتقاء بالنوازع الوجدانية والقبلية والفردية الضيقة الحدود إلى وجدان متوحد من أجل هدف واحد غاية في السمو، للتكتل في مواجهة الخطر الخارجي. وهو يرسم بهذا صورة كاملة للانطلاقة الهائلة الواسعة، التي انتزعت العربي من حيزه الضيق الحدود لتطوف به في أرجاء ممتدة، لم يكن استشرفها في يوم من الأيام. وتأسيسًا على هذا، فإن صورًا رائعة للفروسية العربية يمكن رسمها في ذلك الإطار الجديد الذي وضعه الإسلام لتقاليدها، وصورًا رائعة أخرى يمكن استشفافها للإيمان العميق، والتصديق المؤمن بما وعد به المؤمنون المجاهدون، ولما وضعه هذا الإيمان بتلك النفوس، ومن اكتشافها لذواتها، ومعرفتها بقدرها. ومن ثم راحت تدك بهذا الإيمان معاقل الأكاسرة والأباطرة، سادة الأمس القريب، وتلوي بأعنة ممالكهم إلى الإسلام. وهذه الصورة الرائعة التي يصورها شعر الفتح للنضال الصادق من أجل الفكرة الإسلامية -تستمد ألوانها من المثل الإسلامية السامية، كالثقة المطلقة بما وعد الله، والاطمئنان إلى قضائه والتسليم به، كما يبدو في شعر الرثاء، وعلى الأخص فيما استحدثه المسلمون من رثاء للأشلاء واحتسابها.

وما من شك في أننا نستطيع كذلك أن نعتمد على شعر الفتح، الذي لم يغادر معركة كبيرة ولا صغيرة إلا صورها كوثيقة تاريخية عاطفية لهذه الحركة الخطيرة في حياة الدعوة الإسلامية، والشروع في بناء حياة مستقرة في البلدان المفتوحة والأمصار الإسلامية. وبرغم قصر المدة التي بسط فيها المسلمون أجنحتهم على هذه المناطق الشاسعة، فإن الشعر قد أفلح في إعطائنا بعض الملامح البارزة لهذه المناطق، كما أنه ألقى إلينا ببعض الضوء على التزاوج الذي أخذ يحدث بين النفوس العربية المنطلقة وتلك الأجواء الغريبة عنهم في طبيعتها وسبل الحياة فيها، فإذا بعض النفوس راضية مطمئنة في مناطق معينة، وإذا بعضها الآخر لا يقر له قرار في مناطق أخرى. وفضلًا عن هذا استطاع شعر الفتح أن ينقل إلينا بعض الانعكاسات المتولدة عن الاحتكاك البكر بين هذه النفوس وتلك المناطق، وما سقط إليها من التأثيرات الحضارية، التي اعترضت خبراتهم وثقافاتهم من أثر هذا الاحتكاك. ورائع جدًّا هذا الضرب من الشعر.. الذي تغنى فيه المجاهدون الغرباء همومهم فبكوا واستبكوا أوطانهم التي فارقوها وخلفوا فيها أحباءهم وأهليهم، في رقة وعذوبة وشجن، لم نعهد له مثيلًا في الأدب العربي من قبل. ومن نافلة القول أن نؤكد أن الشعر الذي هاجر في وجدان المحاربين وعلى ألسنتهم إلى هذه البقاع الجديدة التهي رفرفت عليها راية الإسلام، لم يكن إلا البذرة الأولى التي أثمرت بعد عصر استقرار المجتمعات الإسلامية؛ إذ سكن الفاتحون هذه الأمصار، وزحفت في أعقاب الفتوح هجرات غطت الأرض الجديدة، ووسمت إنتاجها في الشعر بنفس السمات التي حددتها الفتوح، من حيث الكم والكيف. وليس ثمة شك في أن هذا الشعر استطاع أن يصور جوانب من حياة هؤلاء المتوطنين في الأمصار، وما اكتنف حياتهم من جراء تطبيق النظم الإدارية الإسلامية، وما كان يعتري علاقاتهم بأمرائهم وقادتهم وخلفائهم، من نقد لسياستهم واتهامهم إذا ما انحرفوا، وعزلهم إذا ما ثبت انحرافهم.

وإن كنا نؤمن بأن حركة الفتح الإسلامي كانت كل شيء في حياة المسلمين في هذا الوقت، وأنها كهدف كبير استوعبت كل اهتمامهم وشواغلهم، فإن الشعر قد صور جوانب هذه الحركة وما رافقها من وقائع وأحداث، وما صاحبها من تغير مادي ومعنوي. وبهذا يكون شعر الفتح صورة صادقة لحياة المسلمين جميعًا، في هذه الفترة الهامة من تاريخهم. ومن ثم فإن هذا الشعر يعتبر بحق جسرًا طبيعيًّا ومنطقيًّا، عبر عليه الشعر العربي من عصر إلى عصر. وهو على هذا التصور حلقة لا يمكن إغفالها أو إغفال أثرها من حلقات الأدب العربي، أو هي عصر من عصوره كما تعودنا أن نقول. بل إنه أدق نموذج للنتاج الشعري الإسلامي، وبناء على ذلك، يعتبر المجال الطبيعي لاستبانة أثر الإسلام في الشعر العربي؛ ولهذا فنحن نزعم أن تطورًا بفعل هذا الأثر، وتجديدًا بدافع منه قد لحقا بالشعر العربي، وظهر ذلك في شعر الفتح. فقد واكب الشعر حياة المسلمين، وتطور مع أهدافها وغاياتها وسبلها، وصور أضخم جوانبها، وجدد أغراضًا وقيمًا وموضوعات مستحدثة، وتطور بموضوعات قديمة، كما اكتسب لنفسه طوابع فنية معينة اتسم بها. وهذه الطوابع ليست إلا ظلالًا للفكرة الإسلامية ومقتضياتها، وصدى للوجدان الجماعي للمسلمين، وانعكاسًا للظروف التي عاشها المسلمون في فترة من أهم فترات حياتهم وتاريخهم. وعلى هدى هذه المقاييس الفاعلة في تشكيل شعر الفتح الإسلامي، يمكننا أن نتبين خصائصه الفنية التي تطبعه في عمومه. وأولى هذه الخصائص أن شعر الفتح شعر ملتزم فلم يكن له إلا أن يكون أثرًا للحركة الإسلامية كما أسلفنا. وعلى ذلك فقد خالف عن أن يكون كما كان الشعر الجاهلي أداة لخدمة القبيلة، أو ألهية يتلهى بها الشاعر في سبيل التسرية والطرب والاستمتاع، وتحول إلى أن يكون أداة اجتماعية، تحفظ تماسك الوَحْدَة الإسلامية، ووسيلة من وسائل صيانة الفكرة الإسلامية وتأييدها. وبهذا صار للشعر في الإسلام مفهوم جديد، يكاد يكون التزامًا بغايات معينة جند الشعر في خدمتها لا يتجاوزها ولا ينحرف عنها؛ بل لا يمكن له أن ينحرف عنها، فمغبة

انحرافه لا تهدد كيان المجتمع الإسلامي فحسب، وإنما تهدد أيضًا فكرته وعقيدته وما تدعو إليه في المحيط العربي، الذي يعطي الشعر قيمة خاصة، ويحتفل به أيما احتفال. وهكذا لم يكن بد لهذه الجماعة الإسلامية من أن تنزع إلى توجيه الشعر هذه الوجهة، واعتباره أداة اجتماعية، ملتزمة بخدمة المبادئ والغايات المحددة لها، على ألا تنحرف عنها. وقد كان مقياس المواطنة الإسلامية في الحياة العربية الجديدة أن ينهج الفرد مناهج السلوك التي رسمها الإسلام، وكان مقياس الصحة والسداد في القول أن يقول الفرد ما يصلح دافعًا للفكرة الإسلامية ومبشرًا بها، ومذيعًا لتعاليمها. وكان مقياس الشاعرية المسلمة أن يستثني صاحبها من الذين يتبعهم الغاوون، والذين يهيمون بكل وادٍ ويقولون ما لا يفعلون. وبناء على هذا الالتزام كانت أهم الموازين النقدية آنذاك هي الاتفاق مع روح العقيدة وغاياتها ومثلها. ولا زالت نقدات النبي صلى الله عليه وسلم لشعر النابغة الجعدي، وما ينطوي فيها من استحسانه ودعائه له تؤكد هذه النظرة1، وما كان من اتجاه النابغة بعد هذا إلا أن يقول شعرًا دينيًّا خالصًا يحاكي به آيات القرآن. وكذلك كان إحسانه إلى حسان وإعجابه به، وبشعر لبيد وطرفة؛ لما فيه من معاني تقرب من معاني الإسلام، وظلت هذه الاتجاهات أهم قيمة نقدية في الميزان النقدي خلال صدر الإسلام وتمسك بها الراشدون، فأعلنوا رضاهم عن كل شعر فيه إشادة بالعقيدة والمثل العليا للأخلاق، التي رسمها الإسلام وأبدوا سخطهم على كل قول يناهض هذه المثل، أو يثير ما نهت عنه، أو يدعو إلى رذيلة، أو يشيع فاحشة، أو حتى يؤثر الدنيا على الآخرة أو لا يجعل الإسلام رادعًا للنفوس عن الانزلاق إلى النزوات كما عاب عمر بن الخطاب على شعر سحيم عبد بني الحسحاس؛ إذ قدم الشيب على الإسلام رادعًا عن العبث، فحرمه الجائزة لهذا السبب2. وكان من أضخم تلك الغايات الإسلامية وأهمها حركة الدعوة الكبيرة التي بدأها المسلمون وانطلقوا بها عبر حدودهم إلى: العراق، وخراسان، والشام، وإفريقية، ومصر.

_ 1 ابن قتيبة ج1، ص248. 2 الكامل للمبرد ج1، ص272.

وكان على الشعراء الذين استجابوا لهذه التعاليم أن يكونوا في مقدمة الجيوش الزاحفة أو من خلفها، يقومون بأداء ما التزموا بأدائه. ووجد الشعراء الذين أحجموا من قبل عن الالتزام بهذه التعاليم، فرصة في انطلاقهم إلى الميادين جنودًا يجاهدون في سبيل الله، ويفخرون بجهادهم وبجهاد قبائلهم في نصرة العقيدة، بينما انطلق شعر كثير على ألسنة جنود لم يعرفوا بالشعر من قبل. واتسم هذا الشعر كله بالاتصال بوجدان جماعة المسلمين والصدور عنه، والعزوف عن تقاليد الشعر الجاهلي، ورفض كل ما لا ترتضيه الفكرة الإسلامية، فسكتت النعرات القومية المحلية، وخفت صوت الفخر القبلي، والإسلام وبالجهاد في سبيله، واندثر الغزل الحسي، وأطيح بالمقدمات الطللية، وما كان يفخر به الفرسان من قبل برواية المغامرات المشتملة على الطرب والشراب والعبث. وإذا بالشعر في كل أغراضه ومعانيه يتلون بما لا يخدش الغايات السامية، وينطبع بطوابع إسلامية واضحة في معانيه وألفاظه كما أسلفنا. ولا ريب أن هذا الالتزام كان يخضع لرقابة المجتمع، وبعبارة أدق: لرقابة وجدانه، وكما كان يحدث للمنحرفين من الشعراء عن هذه الجادة في الجزيرة من سجن كما حدث للحطيئة، ولوم كما حدث لحسان، كان يحدث ذلك لشعراء الفتح، وسكان الأمصار المفتوحة من الفاتحين. فهذا النعمان بن نظلة يعزل عن ولاية دست ميسان؛ لأنه قال شعرًا تغنى فيه بالشراب، وسماع غناء الدهاقين والقيان. وهذا ذو الكلاع يقع في حد الخمر، عندما يتغنى بنبيذ الشام، ويكون ذلك سببًا في طبخ كل نبيذ هناك. وهكذا نستطيع أن نقول: إن طابع الالتزام الذي طبع شعر الفتح غير مفهوم الشعر الإسلامي بعامة، وشعر الفتح بخاصة؛ إذ جعله أداة في خدمة المثل الإسلامية، والغايات والمبادئ التي تدعو إليها. وكان لهذا أكبر الأثر في تلوين أغراض الشعر ومعانيه بلون إسلامي واضح، يتفق وهذا الالتزام.

القصر والإيجاز

2- القصر والإيجاز: وينبع الطابع الثاني الذي يطبع شعر الفتح، من قيم المجتمع الإسلامي أيضًا، ومن ظروف الفتوح المادية والنفسية، ومن التقاليد الأدبية الموروثة كذلك. وهذا الطابع هو الإيجاز والقصر. فشعر الفتح مقطعات قصيرة في مجموعه، ونادرًا ما نصادف قصيدة يزيد عدد أبياتها عن العشرة. فقد تخفف شعر الفتح من بعض التقاليد الفنية للقصيد العربي، وأصبح القصيد مقطعات قصيرة، لا تحتوي على أكثر من غرض واحد. والإيجاز طابع كان يحظى بتقدير الفكر الإسلامي، فهذا القرآن الكريم معجزة الفصاحة والبلاغة في هذا الوقت يبلغ حد الروعة المذهلة في غير كثير من الإسهاب، أو الاستدلال فيما لا يحتاج إليهما. وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يبغض الثرثارين والمتفيهقين، ويعدهم أبعد الناس منه مجالس يوم القيامة1. وهذه ظروف القتال وحياة الجند المليئة بأعباء الفتوح، والحركة الدائبة، وأهوال القتال، وشدائد اللقاء، لا تدعو إلى استقرار، كما لا تساعد على تمهل أو امتداد نفس أو غناء، أو تشقيق للكلام، أو توليد للمعاني، بل إنها لتدعو إلى الإنجاز دعوة ملحة، وتدافع إليه دفعًا، وتضطر إليه اضطرارًا. فليس ثمة شيء يريد المجاهد أن يفضي به غير مشاعر اللحظة الوجيزة الحادة، يلقيها دونما إسهاب أو إطالة، فهي مشاعر واضحة وبسيطة، وليست بحاجة إلى بيان أو إيضاح أو إفاضة، كما أنها ليست بحاجة إلى إلحاح على الفكرة أو تقليب لها على وجوهها، أو تشقيقها أو التوليد منها. وإنما هي بريق خاطف، وانفعال لاهب، وانطلاق راكض، وتعبير مركز مضغوط. وكانت النتيجة تغير صورة القصيدة العربية إلى مقطوعة قصيرة، وأبيات تستوعب الانفعالات الحادة والعواطف الملتهبة، التي تشبه الضربات المتلاحقة في غير امتداد في النفس أو تمهل في الغناء، فانفسح بهذا المجال أمام الرجز بأبياته القليلة لتأدية معاني القصيدة. وقد يجد الشاعر فرصة في أعقاب المعركة يستشعر فيها على مهل عواطفه، ويتأمل ذاته تأملًا مستأنيًا، ولكن ذلك كان نادر الحدوث.

_ 1 الكامل للمبرد ج1، ص4.

العفوية والبساطة

3- العفوية والبساطة: وهذا الطابع من القصر والإيجاز يسلمنا إلى طابع آخر، اتسم به شعر الفتح نتيجة لانطلاق التعبير وحدته، والقصد إلى الفكرة مباشرة، دون إسهاب، فاتسم الشعر لهذا بطابع العفوية. ولسنا نقصد بالعفوية التحلل من كل قيد، أو تقليد فني، أو نظام. كما أننا لا نعني بها خلو هذا الشعر من أية قيمة جمالية فنية، إنما نعني بها انعدام الصقل والتهذيب والمعاودة والمراجعة. وبالتالي انعدام التكلف والتقعر والتعمل. ونتج عن هذا أن شعر الفتح وبلا استثناء يتسم بالصدق والحرارة الانفعالية؛ كاستجابة نفسية حرة وطليقة من إسار العناية والصنعة. وواضح لمن يمعن في قراءة هذا الشعر أنه ثمرة خالصة للانفعالات النفسية، دون شحذ أو صقل، وأنه استجابة نفسية لما يشعر به الفرد في تدفق يناسب كانسياب الماء في المجاري الطبيعية، الخالية من الصنعة المستأنية والتدبير والتصميم السبقي. وكان ذلك أثرًا من آثار القيم الإسلامية الجديدة أيضًا تلك القيم التي تستمد من سماحة الإسلام وبساطته، وكراهة التعمل والتكلف، وهي صفات عُنِيَ الإسلام بغرسها في نفوس المسلمين عامة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد وصف بها في القرآن الكريم بأنه لم يكن من المتكلفين: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وعلى هدى هذه القيم، كانت الكفة الراجحة في الميزان النقدي الإسلامي لما كان جاريًا مع الطبع، بعيدًا عن التكلف، وكانت الكفة المرجوحة لكل كلام غالٍ فيه صاحبه وتكلف. فكان التقعير والتشادق عيبًا وتصنعًا. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه السجع المصنوع الذي يستوي لديه بسجع الكهان، والذي كان الكهنة يتصنعونه في حديثهم عن المغيبات؛ ليكون لكلامهم وقع لدى العامة1. وكذلك كان عمر بن الخطاب ينكر الإغراب والتكلف ومخالفة الطبع2. وهو في الحقيقة إنكار لكل محاولة تهدف إلى التكلف والتشدق، وإعجاب بكل سمح يبتعد عن القسر والاستكراه. وكان لهذه السمة فضل إيثار الشعراء للإفهام في صورة بسيطة صادقة مطبوعة، دون زخرف أو زينة؛ ولهذا جاء شعرهم خاليًا من أية محاولة مصنوعة للتعمل، وتوافرت عناصر الصدق، وحرارة التعبير، والاقتدار على التأثير، بما لها من سماحة الطبع وجيشان العاطفة وعذوبة التعبير، دون إلحاح على تصوير

_ 1 المثل السائر ص116. 2 ذيل الأمالي ص142.

بياني دقيق، أو تصيد لتشبيه، أو تعسف لاستعارة، أو استجداء لصبغ أو زخرف. وإنما بتعبيره البسيط، في صورة بسيطة، تضمن الأداء على أي وجه اتفق. وجملة القول: إن شعر الفتح الإسلامي قد طبع بعدة طوابع فنية ميزته، استمدها من الإطار الفكري الإسلامي العام، ومن ظروف حركة الفتح الإسلامي الخاصة، التي صدر في ظلالها، ومن التقاليد الفنية الموروثة. فهو شعر ملتزم بغايات ومبادئ، يعمل في خدمتها كأداة اجتماعية وفكرية، وهو شعر قصير وموجز، تنعدم فيه الإطالة والتمهل. كما أنه شعر مطبوع، طبعته العفوية السمحة التي تتنكب التعقيد والالتواء والتقعر بطوابع من سماحة الإسلام، وصدق التعبير وحرارته.

خاتمة

خاتمة: 1- خلاصة البحث: حاولت في الصفحات السابقة أن أدرس شعر الفتوح الإسلامية في عصر صدر الإسلام فبدأت بدراسة حركة الفتوح ذاتها، باعتبارها وعاء هذا الشعر، ومهدت لذلك بتجلية الدوافع القوية التي تمثلت في فكرة الجهاد، فدفعت المسلمين إلى الانسياح في الأرض ينشرون دعوة الإسلام، واثقين مما وعدوا به من النصر أو الشهادة. وتعقبت المجاهدين في انطلاقهم إلى العراق، وما كان للتفكير في فتحه من صلة، بردة أهل اليمن ودسائس الفرس فيها، واكتساح المثنى بن حارثة لتخوم شبه الجزيرة مساحلًا الخليج الفارسي، إلى أن بلغ العراق واستمال بعض القبائل العربية إليه، وشجع ذلك أبا بكر على أن يفتح العراق. فمهد بفتحه بإرسال خالد بن الوليد وعياض بن غنم إليه، واستطاع خالد بن الوليد أن يجتاح العراق رافعًا لواء الإسلام في كل المواقع التي خاضها، ولم يقف في سبيل تدفعه فرس أو عرب غير مسلمين، حتى حاز سواد العراق، وضاق بإبطاء عياض الذي كان عليه أن يلقاه بالحيرة فخرج خالد للقائه وكان محاصرًا بدومة الجندل، وفتح في طريقه الأنبار، وعين التمر، واستطاع أن يهزم العرب غير المسلمين في دومة الجندل، وعاد إلى الحيرة ليجد السواد قد انتقض، فأعاده خاضعًا لسيطرة المسلمين. وتمكن من أداء فريضة الحج والعودة إلى الحيرة مع جيشه، دون أن يشعر بذلك أحد. وفي الحيرة جاءه كتاب أبي بكر ينتدبه لحرب الشام، فخلف المثنى، وفصل بنصف الجند إلى المسلمين باليرموك. وما كاد ابن الوليد يرحل عن العراق حتى ثار أهله بالمسلمين، ولكن المثنى انسحب من الحيرة إلى بابل، واستغل أزمة البلاط الفارسي ليقابل أبا بكر في المدينة، ويستأذنه في السماح لمن حسن إسلامه -من أهل الردة- بالجهاد، وتصادف أن الخليفة التحق بالرفيق الأعلى، بعد أن أوصى خلفه يندب الناس مع المثنى.

وكان أول من انتدب أبو عبيد مسعود الثقفي، الذي لحق في جنده بالمثنى، حين كان أهل فارس قد قضوا على خلافاتهم، ووضعوا الأمر في رستم. فدس الدهاقين للثورة بالمسلمين، وجهز جيوشًا هزمها المسلمون في النمارق وباقسياثا، وعاود رستم الكرة فجهز جيوشًا التقت بالمسلمين في قس الناطف؛ حيث حدثت كارثة الجسر وهزم المسلمون لأول مرة في الفتوح، وفر منهم إلى المدينة عدد كبير أحسن عمر استقبالهم، وأمدهم من روحه بما أعاد لهم الثقة بأنفسهم، وراح يندب الناس جاهدًا، أو يستصلح بعض القبائل؛ كبجيلة، والأزد، وبني كنانة. بينما كان المثنى يستميل بعض نصارى بني النمر والتقى بالفرس عند أليس وانتصر عليهم وانتهت الخلافات بين رستم والفيرزان فأرسلا مهران في جند عظيم، ثأر منه المسلمون لشهداء الجسر عند البويب وما لبثت الخلافات بين رستم والفيرزان أن عادت تفرق شمل الفرس، لكن أهل فارس ثاروا عليهما ولم تهدأ الثورة حتى نصب يزدجرد، وتوحدت صفوف الفرس لمواجهة العرب في وقعة فاصلة. وكانت القادسية التي تعد ملحمة المسلمين، لما كان فيها من بلاء عظيم وفداء صادق، وانتصر المسلمون فيها بفضل إيمانهم، وتثبتت أقدامهم في العراق. وهزم المسلمون فل القادسية في بابل، ولم يبقَ أمامهم إلا المدائن فحازوها، كما حازوا قصور كسرى وأمواله وجواهره. وبدأ المسلمون يفكرون في إسقاط فارس، فتم تمصير الكوفة والبصرة بعد أن لم يتلاءم المسلمون مع جو المدائن، فأخذت الفتوحات تترى بعد ذلك؛ حيث فتح أهل الكوفة الري وأذربيجان وأرمينية وطبرستان وجرجان, وفتح أهل البصرة الأهواز وتستر ورامهرمز والسوس وجند يسابور. وبسقوط المدائن انتهت المقاومة الفارسية الرسمية للمسلمين، ولكن بقاء الملك يزدجرد حيًّا كان رمزًا يتجمع حوله الفرس من حين إلى حين، فطارده المسلمون في حلوان، وفي الري، وفي قرميسين، ثم في نهاوند حيث دارت معركة تقرر فيها مصير دولة الفرس نهائيًّا. وبعد فتح الفتوح لم يلقَ المسلمون كيدًا، فقد راحوا ينطلقون في أطراف السواد، فحازوا تكريت، وماسبذان، وقرقسيا. وعقدت ألوية المسلمين لإسقاط فارس. فاستطاع الأحنف بن قيس أن يسيطر على خراسان، وحاز عثمان بن أبي العاص

أصطخر، وسارية بن زنيم فسا ودراخرد، وسهيل بن عدي كرمان، والحكم بن عمرو مكران، حتى وصلوا إلى السند. وتقدم المسلمون يطاردون يزدجرد حتى قتلوه في الري. وأمرهم عمر بألا يعبروا النهر فتوقفوا على مضض. وبهذا يكون فتح العراق وفارس قد تم في عهد أبي بكر وعمر؛ إذ اقتصر عهد عثمان على تأمين هذه الفتوح فحسب، ولم يفتح في عهده غير طبرستان، على يد سعيد بن العاص. ثم رافقت المجاهدين في فتح الشام الذي اتجه إليه أبو بكر، استكمالًا لسياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأمين التخوم العربية الشمالية. وقد اقترنت ظروف فتحه بحرب الردة أيضًا، فقد أرسل أبو بكر بخالد بن سعيد ليكون ردءًا للمسلمين في تيماء؛ حيث اجتمع إليه بعض القبائل العربية. وكان العراق قد وقع في أيدي المسلمين، وفتح الله عليهم دومة الجندل، في الوقت الذي أرسل فيه خالد بن سعيد إلى أبي بكر يستأذنه في لقاء الروم، وبعد أن استشار أبو بكر أولي الرأي من المسلمين عقد العزم على فتح الشام، فكتب إلى أهل اليمن يستنفرهم، وإلى عماله يخيرهم بين العمالة والجهاد، وأرسل إلى خالد بأن يلقى الروم، وانتصر خالد على الروم وحلفائهم من العرب. وتقدم وأبو بكر يرمي إلى الشام بكل من يقدم عليه، فسير إلى خالد عكرمة والوليد بن عقبة؛ حيث التقى المسلمون بباهان، فخدعهم عن أنفسهم في مرج الصفير، ففر خالد، وانحاز عكرمة بالمسلمين؛ حيث لحق به الوليد. ولما بلغت الهزيمة أبا بكر اهتاج للشام، فعقد ألوية أربعة لأبي عبيدة، وليزيد بن أبي سفيان، ولشرحبيل ابن حسنة، ولعمرو بن العاص. وعين لكل منهم وجهته، والتقى الأمراء الأربعة بعد أن وكل الروم بكل منهم جيشًا، وخشوا أن يلقوا الروم على انتشار، وكان رأي الخليفة أن يجتمعوا. وفي اليرموك التحق بهم خالد بن الوليد؛ حيث كان النصر في أول يوم تأمر فيه. وتقدم المسلمون يحاصرون "فحل" فلما استعصت عليهم قصدوا دمشق ففتحها الله عليهم، وعادوا ففتحوا "فحل" وسيروا كتيبة العراق بقيادة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. كما سارت حملات لتطهير الأردن، ففتح شرحبيل وعمرو بيسان، وأبو الأعور السلمي طبرية. وصالحت أذرعات وعمان وجرش ومأرب وبصرى. وحاول الروم استعادة

دمشق فقضى خالد ويزيد على محاولتهم، وانطلق أبو عبيدة يطاردهم، وحاصر بعلبك، وانتهى إلى حمص، وكان هرقل قد فر منها إلى أنطاكية، وبعد حصار طويل سلمت المدينة وسلمت حماة واللاذقية بعد ذلك. وفتح خالد قنسرين، وسلمت حلب لأبي عبيدة، وسلمت أنطاكية بعد أن فر هرقل إلى الرها، وأقام فيها حامية، بعد أن أخمد عياض ثورتها. ولكي يتصل الشام بالعراق بدد أبو عبيدة شمل عرب الجزيرة وفتح قورس، وفتح خالد مرعش، وكان يزيد قد فتح بيروت والثغور المجاورة. ويئس هرقل، فترك الرها إلى القسطنطينية؛ حيث التحق به جبلة بن الأيهم بعد أن ارتد. وبينما كان أبو عبيدة يجتاح الشام، كان عمرو وشرحبيل يواجهان الأرطبون في فلسطين؛ حيث أرسلا معاوية لفتح قيسارية، حتى لا يأتي المدد منها لأرطبون. ووجها علقمة بن حكيم ومسروقًا العكي إلى إيلياء، وأبا أيوب المالكي إلى الرملة؛ لتتبدد قوى الأرطبون بين هذه المناطق. والتقى عمرو بالأرطبون في أجنادين؛ حيث اندحر الروم وفروا إلى بيت المقدس. ورأى عمرو أن يقطع عليهم خط الرجعة من ناحية البحر، فأرسل حملات فتحت رفح، وغزة، وسبسطية، ونابلس، واللد، وعمواس، وبيت جبرين، ويافا. وحاصر عمرو بيت المقدس، وبعد استماتة المدينة في الدفاع طلبت الصلح، واشترطت حضور الخليفة، حتى يمكن للروم الانسحاب إلى مصر. ولم يعترف الروم بضياع سلطانهم على الشام، ولم ييئسوا، فحاولوا استعادتها، فرتبوا مع القبائل العربية في شمال الشام مؤامرة رافقت وصول حملة قسطنطين إلى أنطاكية، ووجد المسلمون سلطانهم على الشام مهددًا بالضياع، واهتم الخليفة عمر بالأمر، فأمد أبا عبيدة، وأفلح المسلمون في عزل العرب عن الروم، وانفردوا بهم؛ حيث لقنوهم درسًا وألجئوهم إلى الانسحاب. ولم يكد المسلمون يفرغون من الروم حتى حدث وباء الطالعون، وصادف ذلك مجاعة بشبه الجزيرة. وأضر الطاعون بالمسلمين، فراح ضحيته خمسة وعشرون ألفًا منهم. وكانت أقدام المسلمين قد ثبتت في الشام، ولكن حملة قسطنطين أكدت لهم أن بقاء مصر في يد الروم أمر لا تحمد عقباه، ومن ثم راح عمرو بن العاص يلح على عمر في الجابية بفتح مصر.

وصادف فتح مصر ترددًا من الخليفة بادئ الأمر، ولكن عمرًا استطاع أن يقنع الخليفة بالمكاسب التي يمكن أن تعود على المسلمين من جراء فتحها، وبسط له أمر الخلاف المذهبي بين الحكام والمحكومين، وما يعانيه المصريون من عسف الروم، وما يرزحون تحته من أعباء الفتن والضرائب والمكوس، والاضطهاد الديني الذي يلقاه المصريون اليعاقبة من محاولة هرقل فرض مذهبه الجديد، الذي ابتكره له سرجيوس؛ للتوفيق بين الملكانية واليعقوبية، فضلًا عن الاضطهاد الاجتماعي والسياسي الذي يتعرض له المصريون؛ نتيجة للسيطرة الرومية على أمور المصريين جميعًا. وسار عمرو إلى مصر؛ حيث أدركه كتاب عمر الشهير بقرية من قرى العريش، فسار على بركة الله، واخترق رمال سيناء إلى العريش ففتحها ثم اتجه إلى الفرما فافتتحها، وكانت بمثابة مفتاح مصر. وبعد حرب دامت شهرًا استولى على بلبيس، وهزم الروم بها هزيمة بالغة. ومضى عمرو حتى أتى أم دنين، وهي قرية على النيل شمالي حصن بابليون، وتعتبر مسلحة للحصن الذي لاذ به الروم، وتجهزوا لحرب فاصلة. وحاصر عمرو أم دنين، وأرسل يتعجل المدد فوصله في الوقت المناسب؛ حيث استطاع المسلمون فتح أم دنين، ومنها استقلوا سفنًا كانت راسية بمرفئها وعبروا النيل إلى الغرب؛ حيث انتظروا في الفيوم على حنا، وعادوا سراعًا ليلتقوا بأمداد جديدة في هليوبوليس حيث عسكروا بعين شمس. وخشي الروم أن يظن بهم المصريون الخور أمام المسلمين إذا ظلوا ملازمين لبابليون فخرجوا إلى المسلمين، وأقام لهم عمرو كمينين في طريقهم عصفًا بهم. واحتل المسلمون حصن أم دنين كرة أخرى، وكان فل الروم قد لجأ إليه، وحاصر عمرو بابليون، وأرسل حامية استولت على إقليم الفيوم، وحامية أخرى استولت على إقليم المنوفية، والروم يفرون هلعًا إلى الإسكندرية. وحال ارتفاع النيل بين المسلمين والحصن، وتراشق الروم والمسلمون بالسهام والمنجنيق، ولم ييئس المسلمون بعد شهر فرأى المقوقس أن يصالحهم، ولم تجدِ المفاوضات، واقتتل الفريقان حتى ألجأ المسلمون الروم إلى الصلح، وعلق نفاذه على موافقة هرقل، ولكن هرقل رفض وعزل المقوقس وعاد القتال بين الفريقين كرة أخرى.

واستمر الحصار سبعة أشهر، حتى خشي عمرو أن يضيق جنده، فوهب الزبير نفسه وتسور الحصن ففتحه الله عليهم، وانفتح الطريق أمام المسلمين إلى مصر السفلى, واستجاب القبط للمسلمين فعاونهم في تمهيد طرقهم إلى الإسكندرية، على الرغم من فيضان المياه. واستغرق مسير المسلمين إلى الإسكندرية اثنين وعشرين يومًا، اصطدم فيها المسلمون بالروم في ترنوط عند فرع رشيد، وعند الكوم وفي سنطيس، وانتصر المسلمون في هذه المصادمات. ثم التقوا مع الروم في وقعة الكريون؛ حيث اقتتلوا عشرة أيام متصلة قتالًا عنيفًا؛ إذ كانت الكريون آخر سلسلة من الحصون قبل الإسكندرية. وكانوا في الحقيقة يدافعون المسلمين عن التقدم إلى الإسكندرية، واستبسلوا في الدفاع حتى صلى عمرو صلاة الخوف ونصر الله المسلمين. وأبلت الإسكندرية في الدفاع أمام المسلمين، الذين لاقوا شدة من منجنيقاتها وحصانتها. وتنبأ عمرو بطول الحصار، فأرسل حملات لتطهير الدلتا. وبرغم توقف الإمدادات وموت هرقل لم تيئس الإسكندرية. وكان عمر في المدينة حنقًا لإبطاء الفتح، فأرسل كتابًا عنيفًا إلى عمرو قرأه في جنده، وعقد لواء الإسكندرية لعبادة ففتحها الله عليه. وأسرع المقوقس ليعقد الصلح مع عمرو. وذهل المسلمون أمام روعة الإسكندرية وراحوا يستقرون بمصر، وابتنوا الفسطاط، ولكن الروم عادوا كرة أخرى كما فعلوا بالشام يحاولون استعادة مصر بحملة قادها مانويل، فاحتل الإسكندرية، وتقدم إلى الدلتا، وانتدب عثمان بن عفان عمرًا رائد فتح مصر فأذاق الروم هزيمة منكرة في الإسكندرية، ثم هدم أسوارها، وارتدت الحملة خاسرة؛ لكن الروم عادوا بعد ذلك يحاولون نفس المحاولة بعد تسع سنوات في مشروع قسطانز؛ لاستعادة مصر والشام، وأوقع العرب بهم، ولقيت فلولهم عاصفة أتت عليهم في البحر. ولم يستطع المسلمون أن يتقدموا في بلاد النوبة بعدما لاقوا في المعركة التي قادها عقبة بن نافع؛ إذ رجع المسلمون وقد أصابت سهام القوم أحداقهم، فاتجهوا إلى

الغرب. وفتح عمرو بعد فتح الإسكندرية برقة وطرابلس، ثم بعث بنافع ففتح زويلة، وأراد الانسياح فأوقفه الخليفة، فاستدار يتوسع في المناطق الداخلية فحاز فزان، وودان، وسبرت. وفي عهد عثمان، استطاع عبد الله بن سعد بن أبي سرح -والي مصر- أن يهزم جرجير ويفتح إفريقية، ولكنه بعد حرب دامت شهورًا يتركها عائدًا إلى مصر، بعد أن بلغته أخبار حملة مانويل -على ما نظن- ولكن ما نلبث حتى يتلألأ اسم عقبة بن نافع في هذه المنطقة فيما بعد عصر الراشدين. وقد تبين لي أن تصنيف الجيوش والإمدادات التي فتحت هذه المناطق الشاسعة كان له أثر بعيد في كثرة الشعر على ألسنة الفاتحين في الميدان الشرقي؛ ذلك أن الجيوش التي وجهت إلى هذا الميدان كانت نزارية. فكتيبة المثنى كانت تضم قبائل بكر وإياد وتغلب والنمر. وكتيبة خالد كانت كثرتها من المهاجرين والأنصار، وفيها قوم من طيئ وجديلة. وانتدب أمراءه الأربعة: حرملة، وسلمى، والمثنى، ومذعورا، وكانوا في ثمانية آلاف من ربيعة ومضر. وكانت كتيبة عياش من ربيعة ومضر أيضًا. وكان لواء أبي عبيد من الأنصار، ولحق به بعض المتطهرين، واستطاع المثنى أن يستميل نصارى بني النمر، ثم كان جيش الثأر مكونًا من بجيلة، والأزد، وكنانة، في سبعمائة، ولحق بهم نفر من الرباب، ونفر من بني سعد، ومن خثعم، ومن بني حنظلة، ومن بني ضبة، وناس في عبد قيس، والنمر، وتغلب. وكان جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية مكونًا من ألف، من قيس عيلان، وألف وخمسمائة من بارق، وألمع، وغامد، وألف من نخع. وأمده عمر في الطريق بألفي يمني، وألفي نجدي من غطفان وسائر قيس، ولحق به ألف وسبعمائة من أهل اليمن. وتتام جيش القادسية بعد انضمام جند المثنى، وعدته عشرون ألفًا، منهم ثمانية آلاف من ربيعة، وأربعة آلاف من حلفاء المثنى، وأربعة آلاف من جند أبي عبيد، وألفان من بجيلة، وألفان من طيئ، وستة آلاف من جند خالد الذين قدموا من اليرموك. فتتام جنده في القادسية ستة وثلاثين ألفًا، كثرتهم من عرب الشمال النزاريين.

ولما استوطن العرب الكوفة والبصرة ظهر في تخطيطها غلبة عرب الشمال على عرب الجنوب، مما كان له أكبر الأثر في كثرة الشعر على ألسنة الفاتحين، حتى ليخيل إلى الدارس أن الفاتحين جميعًا كانوا شعراء دون استثناء؛ إذ أصبح الشعر أو كاد يكون حظًّا مشتركًا بين جميع الفاتحين. فشكل شعر الفتح في الميدان الشرقي كثرة شعر الفتوح، ثم راح يسجل أحداث الفتوح وسيره خطوة خطوة، فلم يغادر معركة، ولم يترك صدامًا، ولم يقصر عن تسجيل حوادث الفتح جميعها، تصويرًا شاملًا ودقيقًا، حتى ليمثل وثيقة تاريخية واجتماعية خطيرة في هذا الميدان. والأمر يختلف في الشام، فلواء خالد بن سعيد كانت كثرته من قبائل العرب الضاربة في تخوم الشام؛ كقضاعة، وكلب، وجهينة، وعذرة. وعندما استأذن في لقاء الروم راح أبو بكر يستنفر أهل اليمن فأجاب دعوته وجوه اليمن؛ كذي الكلاع في حمير، وقيس بن هبيرة في مذحج، وجندب بن عمرو في الأزد، وحابس بن سعد في طيئ، ورافق قدوم كتاب خالد قدوم عكرمة فيمن معه من تهامة وعمان والشحر والبحرين، فبعث بهم أبو بكر إلى خالد، واستنفر الخليفة عماله ليستنفروا من حولهم، فاستجاب لعمرو خلق كثير من عمان، واستجاب للوليد جموع من قضاعة. وأمر أبو بكر يزيد بن أبي سفيان على ألف من أهل مكة، كما أمر أبا عبيدة على جند عظيم من المهاجرين والأنصار. وكان جيش عمرو الذي فتح مصر من جند الشام. ويجمع المؤرخون على أنه كان يمنيًّا من عك أو من عك وغافق، وانضم إليه بعض الأبناء وعرب سيناء القضاعيين، وقوم من بني راشدة، وأناس من لخم. ولو رجعنا إلى تسمية القبائل في الخطط التي نزلوها في مصر لاتضح لنا أن كثرة هذه القبائل من عرب اليمن، الذين ظلوا غالبين على من سواهم من العرب، حتى ولاية عبد العزيز بن مروان، الذي ضاق ببلد ليس فيه أحد من بني أمه. وكانت نتيجة غلبة اليمن على جند مصر والشام، أننا لا نكاد نجد في الشعر صورة كاملة للفتوح في الشام كهذه التي رأيناها في العراق، فالشعر في الشام لم يستطع أن يصور جوانب الفتوح تصويرًا شاملًا ولا دقيقًا، بينما لا نكاد نجد في مصر شعرًا على

الإطلاق، سوى ما كان من آثار الهذليين، وهي أبيات قليلة لأبي ذؤيب في إفريقية، وقصيدة وحيدة لأبي العيال الهذلي، قالها في حملة "قسطانز"، وقد لاحظت أن لكون المؤرخين ورواة الشعر عراقيين دخلا في عدم الاهتمام بتدوين شعر مصر والشام والعناية به. وبعد أن درست الشعر في الفتوح على هذا النمط حاولت أن أتعرف على شعراء الفتوح الذين خلفوا لنا هذا الشعر. وإذا بالإسلام يغير مظاهر الحياة العربية جميعها، ومنها الشعر، فيحدد له قيمًا تتفق وتعاليمه، فإذا بنفر من الشعراء يقوم بها خير قيام، وإذا بنفر آخر لا يستطيع أن يواكب هذه القيم وتلك المهام، فيخفت صوتهم إلى حين، ويعلو صوت القرآن؛ إذ يجد فيه المسلمون بغيتهم. وعندما يتدفق المجاهدون إلى الفتوح تذكو جذوة الشعر العربية وتنطلق ألسنة الشعراء بما حبس في نفوسهم زمنًا، عندما يقفون مواقف قريبة من مواقفهم القديمة مع فارق الهدف. وتفتح الفتوح أمامهم آفاقًا واسعة، وتمدهم بتجارب كثيرة وحافلة بألوان من العواطف والمشاعر، كأنما أطلقت عقدة ألسنتهم، وأسعفتهم التجربة الشعورية الضخمة، فشارك في الفتوح شعراء ناضجون؛ كأبي محجن الثقفي، وعبدة بن الطبيب، وربيعة بن مقروم الضبي، وعمرو بن معديكرب الزبيدي. وشعر هؤلاء يتميز عن شعر غيرهم بأصالته ونضجه، وغلبة الفخر الفردي على الفخر بجماعة المسلمين، كصدى لإحساسهم القوي بأنفسهم. وللأسف لا يمثل شعر هؤلاء الشعراء إلا قدرًا قليلًا جدًّا من شعر الفتوح، برغم طول القصائد التي تُروى لهم في الفتوح؛ كاللامية المنسوبة لعبدة، واللامية الأخرى المنسوبة لربيعة بن مقروم الضبي. وقد تبين لي أن هاتين القصيدتين وغيرهما من شعر القدماء قد استغرق نظمهما عصرين مختلفين، بمعنى أن أبياتًا قليلة تتحدث عن الفتوح في القصيدة لا تبرر القصيدة كلها، التي يتحدث الشاعر فيها عن أشياء حظرها الإسلام؛ كالخمر واللهو والعبث بالنساء والطرب والغزل الحسي. واستنتجت من ثم أن تكون أبيات الفتح قد ضمت إلى القصيدة الجاهلية فيما بعد الفتوح. وأكد هذا اختلاف شعر الفتح في شكله وفي مضمونه عن شكل أمثال هاتين القصيدتين، وما هو بين من اختلاف في الصياغة بين

الأبيات الإسلامية والقصيدة برمتها، حتى لتبدو هذه الأبيات غريبة في مكانها من القصيدة، كما أكد ذلك ما هو جلي من خلاف بين القصيدة، وما هو ثابت من شعر إسلامي، منسوب للشاعر في المضمون والصياغة. والمزج الذي حدث في شعر هذين الشاعرين بين الإسلامي منه والجاهلي حدث في أخبار ابن محجن الثقفي؛ إذ حاولت الروايات -بتأثير النزعات الشعبية- رسم صورة مغرية للشاعر الفارسي، مزجت فيها أخبارًا بأخبار، وأولت أحداث حياته في الفتوح تأويلات تخدم هذه الصورة المغرية. وقد يبدو جليًّا أن هؤلاء الشعراء القدامى لا يتسع تأثير الإسلام عندهم، على حين لا نجد لغيرهم شعرًا على الإطلاق. وإلى جانب هذا الجيل القديم من الشعراء نبت جيل آخر في حقل الفتوح، وهو جيل يختلف عمن سبقه من الشعراء في حظه من النضج، ومدى إسهامه في التعبير عن أحداث الفتح ومشاعره، وكثرة الشعر الذي انطلق على ألسنتهم، حتى ليخيل إلى الدارس أن الفاتحين جميعًا استحالوا شعراء في الفتوح. وهؤلاء الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح ينقسمون في تصورنا إلى قسمين: قسم مغمور كان له كلف بالشعر القديم وإن لم يعرف به، أو يذع له ذكر، بدليل هذا النضج الذي نجده في شعرهم، وهذا الإنكار الذي نجده لأسمائهم وحياتهم في تاريخ الأدب؛ لانعدام رصيدهم الفني قبل الفتح. ورغم هذا فإن دورهم هو الدور الرئيسي في التعبير عن أحداث هذه التجربة. والقسم الثاني -من هؤلاء الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح- يشكل ظاهرة جديرة بالنظر؛ إذ لم يكن منهم أحد يرتبط ارتباطًا ما بالشعر، وكانت أول علاقتهم به يوم أن حملوا السلاح وخاضوا المعارك، فإذا بأنفسهم تجيش بالشعر فينطلق البيت أو البيتان تنفيسًا خالصًا. وهؤلاء يمثلون السواد الأعظم من الفاتحين، وشعرهم ليس إلا استجابة حرة لتجاربهم ومشاعرهم، ولكثرتهم وتشابه ظروفهم اختلط شعرهم فيما عدا من كان منهم قائدًا أو أميرًا، فحافظت شهرته الحربية على شعره.

ومن الشعراء القدامى أخذت أنموذجًا، عمرو بن معديكرب الزبيدي الشاعر الفارسي الشهير، فإذا حياته الجاهلية تمثل شعره الجاهلي تمثيلًا صحيحًا، وشعره يدل على حياته دلالة واضحة، أما حياته في الإسلام فلا يكاد شعره في الفتوح يحدد جوانبها أيما تحديد. ويلاحظ الدارس نفس الملاحظة، التي يمكن ملاحظتها في شعر عبدة وربيعة. كما يلاحظ أن شعره لم يتأثر تأثرًا ما بالإسلام، ولم يكتسب خصائص إسلامية من واقع الحياة التي عاشها في الفتوح. فإن شعره القليل الذي خلفته الفتوح لا يكاد يفترق في شيء عن شعره الجاهلي، وإن مال إلى التقريرية، ولكنه احتفظ بخصائص قديمة له كحرارة التعبير، ولا يخرج الأمر عنده عن استبداله أيامًا إسلامية بأيام جاهلية. ويتضح ما بين هذا الجيل القديم والجيل الجديد من الشعراء الذين أسهموا في التعبير عن حركة الفتح حينما يستعرض الدارس أنموذجًا للشعراء الذين نضجوا في أثناء الفتوح؛ كالقعقاع بن عمرو التميمي، فحياته في الفتوح واضحة في شعره وضوحًا كبيرًا ومفصلة فيه تفصيلًا دقيقًا؛ إذ هو فتى أشربت روحه الإسلام، وباع حياته خالصة في سبيل الجهاد، واستمات في نصرة الدين يرجو به وجه الله فحسب، في حين رأينا عمرًا يبغي أن يحافظ على مجد قديم، وشجاعة سارت بذكرها الركبان في الجاهلية؛ ولهذا فإن شعر القعقاع مرآة لحياته الباسلة في سبيل الله، كما أنه مرآة للفتوح بأسرها. ومن ثم يمكن أن يكون شاعر الفتوح بلا منازع؛ إذ تتمثل فيه كل خصائص شعراء الفتح. ويجمع شعره كل طوابع شعر الفتوح. فإذا ما أراد الباحث بعد هذا أن يتبين ماهية هذا الشعر ومقوماته وطوابعه، فإنه يتبين قبل كل هذا خطر شعر الفتح، ودوره في نجاح هذه الفتوح، مما يكشف عن القيمة الفاعلة للأدب في صنع الحياة، وما كان من استيعابه للطاقات النفسية التي أضرمت من نفوس المجاهدين. وهذا الشعر ينقسم إلى لونين من حيث شكله هما: القصيد والرجز الذي انفك عن دوره القديم كوزن من أوزان الشعر، له مهمة خاصة في الحداء والحروب والمفاخرة، إلى أن صار قالبًا من قوالب التعبير الفني كالقصيد سواء بسواء، فقد كان أداة كثرة الشعراء المغمورين، الذين عبروا فيه عن أنفسهم تعبيرًا بسيطًا، يتناسب ومدى النضج الذي يتمتع

به شعرهم. وكان أيضًا قالبًا اتسع لموضوعات القصيد؛ نتيجة لاستخدامه على هذه الصورة، فقاسم القصيد ألوانه وموضوعاته، إلى جانب قيامه بدور الطبول التي تقرع لتحميس الجند، وإشعال أوار الحروب. وقد فسح للرجز أن يشارك القصيد في موضوعاته؛ نتيجة لما أصاب القصيد من انكماش في شكله؛ لظروف القتال واضطرابها وقلقها، ولما حظره الإسلام من الغزل، وغير ذلك مما يجافي طبيعة الظروف الجادة في المعارك. فاستحال القصيد إلى مقطعات قريبة في شكلها من الرجز، وتخفف القصيد من المقدمات والغزل وما إلى ذلك من التقاليد الفنية القديمة، وأصبحت مقطوعات القصيد تشتمل على غرض واحد، ومستقل كالرجز سواء بسواء. ومن بين الموضوعات التي جال فيها شعر الفتح موضوعات قديمة في الشعر العربي؛ كالفخر والرثاء، ولكننا نجدهما يتطوران في شعر الفتح؛ إذ يتطور الفخر القبلي الذي يقوم على المفاخرة بالأحساب والعصبيات والنعرات إلى شعر يفخر فيه المجاهد ببلائه وبطولته في سبيل فكرة الجهاد من أجل العقيدة التي يؤمن بها، ويتعدى ذلك إلى استشعار الشاعر وجدانًا جماعيًّا للمسلمين يصدر عنه، سواء أتغنى به أم تغنى بفرديته كعضو في إطاره. وتشيع في هذا الشعر معاني الفداء والتضحية والإيمان بنصر الله، كما يشيع فيه إخلاص للفكرة الإسلامية، ورفض لما عداها من زخرف الدنيا. وقد قاسم الرجز القصيد في هذه المعاني في حين تطور الرثاء من الإشادة بالفقيد -وما كان يتمتع به من صفات المروءة الجاهلية- إلى أن يصبح تعبيرًا عن الإيمان المؤكد بالموت ووجوبه، والتسليم به، والصبر عليه، واستشعار ما أعده الله للشهداء، فضلًا عن الإشادة ببطولة الشهيد، وما قدم في سبيل الله من تضحيات، إشادة تتصل بالفخر والجهاد اتصالًا وثيقًا. وبرغم قلة الرجز الذي ذهب هذا المذهب فإنه يعبر عن مدى التطور الذي أصاب الرجز الجاهلي في رثاء المحاربين، وقد استجد في الرثاء لون طريف صوره الشعر والرجز، ذلك أن بعض المجاهدين راحوا يرثون ما كانوا يفقدون من أعضاء أجسادهم وأشلائهم، رثاء يمتلئ بصور من البسالة والاستهانة بما فقدوا في سبيل الفكرة، أمام ما أفقدت العدو من أرواح وأعضاء، ولا يستشعر الرائي أي شعور بالحسرة، إلا بسبب حرمانه من الجهاد؛ بسبب ما فقد من أعضاء جسده.

ويرى الدارس لشعر الفتوح موضوعات جديدة لم يعرفها الشعر العربي من قبل؛ نتيجة لنزوح المجاهدين إلى بيئات بعيدة ومختلفة عن مواطنهم، فكان أن أحسوا بالغربة، وامتلأت صدورهم بشجى الابتعاد عن مواطنهم وأحبائهم، وراحوا يبكون غربتهم وحرمانهم في حنين شجى حزين، يذكرنا ببكاء الأطلال في الشعر الجاهلي. كما راحوا يعبرون عن مشاعرهم بإزاء البيئات الجديدة، ويصورون مدى التزاوج بين نفوسهم وبينها. وكثر الشعر الذي يتشوق فيه المحاربون إلى نجد، ويذمون فيه مواطنهم الجديدة. وهرب بعضهم إلى الطبيعة فبثها شجوه في شعر رائق، ولم يستطع الرجز بما أوتي من نغم جهوري أن يعبر عن مثل هذه المشاعر المهموسة. وحظيت المشاهد الغريبة التي عاينها الفاتحون بالتفاتهم فصوروها، وصوروا انطباعاتهم بإزائها، فوصفوا الطبيعة في بيئاتهم الجديدة، وبردها وثلجها. ووصفوا الفيلة وغرابتها وشدة قتلاها. ووصفوا ما عانوا من الأوبئة والحشرات، وما تعرضوا له من عبور الماء وركوب البحر، وما ذاقوا من الأطعمة والأشربة الفارسية، وما آل إليهم من الفيء والمغانم، وما رأوا من ألوان الحضارة الفارسية المختلفة في الملبس والحديث، وما انزلق إليه بعضهم من العبث والسماع والطرب والخمر. وراكب الرجز شعر القصيد في هذه الموضوعات جميعها. وانطبع شعر الفتوح في مجموعه بطوابع إسلامية واضحة في شكله ومضمونه، ومن أبرز هذه الطوابع، صدور الشعر عن روح الجماعة الإسلامية ووجدانها الجماعي، الذي استوعب النزعات القومية المحلية، والعصبيات القبلية، فطواها وصاغها صياغة جديدة في إطار جديد، كما صدر عن تلك المثل الإسلامية الرفيعة وعُنِي بتمثلها، وصور تطبيق النظم الإسلامية في الأمصار الجديدة. وانطبع هذا الشعر أيضًا بما انطبعت به النفوس المؤمنة من المشاعر والحرص على الفوز بما وعد، والاستسلام لقضائه, وما بثه الإسلام في العرب من ثقة بأنفسهم واعتزاز تضاءلت أمامه هيبة الدول التي تسلطت عليهم بالأمس فأدالوها وسادوها، بما دفعه الإسلام فيهم من روح جديدة، أكدت لهم أن الله اصطفاهم لهداية العالمين إلى ما هداهم به.

واصطبغ الشعر كذلك في ألوانه جميعًا بصبغ إسلامي خالص، في معانيه وتعبيراته وألفاظه، تجلت بصورة أوضح فيما حاوله بعض الشعراء الذين تعمقوا روح الإسلام من محاكاة المعاني الإسلامية، والتعاليم الدينية، وآيات الكتاب الحكيم. واتسم الشعر أيضًا بعدة طوابع شعبية في نصوصه ورواياته، وما دار حول شعرائه من أقاصيص، بفعل اهتمامات أفراد الشعب في المعارك وعلى أطرافها، وتغنيهم بانتصارات المسلمين، ورغبتهم في تصويرها تصويرًا معجبًا، يرضي نوازع الزهو فيهم، وتملق القصاص فيهم هذه المنازع وأرضوها بما زادوه في قصص الفتوح، وما نسبوه إلى فرسانها المشهورين من أفعال، تحولت بسيرهم من الواقع إلى ما يكاد يشبه الأساطير، ونسبته إلى من لم تكن له شهرة بالشعر منهم. وللأسف ضاع جل هذا الشعر ولم يبقَ منه شيء وإن وجدنا أثر هذه التزيدات واضحًا في سير الفرسان ذاتها. وتخلف عن هذه المعارك بعض أبيات من الشعر، قالتها العصبيات إبان المواقع الفاصلة، من أجل المفاخرة بين أحياء العرب، كالذي حدث في القادسية، من نسبة الشعر إلى الجن، وهذا في حد ذاته يفسر اتجاهًا شعبيًّا إلى إظهار الاهتمام البالغ بهذه الواقعة، ويكشف في نفس الوقت عن ثقافة العامة، وإيمانها بالمتوارثات الشعبية. ويمثل الشعر الذي لا نعرف له قائلًا قدرًا كبيرًا من شعر الفتح، يعالج كل موضوعات هذا الشعر، وينطبع هذا القدر بطوابع شعبية تتجلى في تغنيه بروح الجماعة، وفي تغني الناس به ترنمًا، وما يبدو فيه من بساطة وسهولة وقرب من الحديث العادي، الذي يدل على أنه شعر عامة الجند، كما يبدو من كثرة الرجز فيه وفي هلهلته وضعفه. ولا ريب أن قيمة شعر الفتوح تنبع من كونه المتنفس الشعري الوحيد في عصر صدر الإسلام، والتعبير الأدبي الوحيد أيضًا عن الحياة الإسلامية في هذا العصر، بتصويره لتلك الآثار التي تركها الإسلام في نفسية العربي، والتغيير الهائل الذي أحدثته في نفسه وفي أعماله، كما أنه يرسم صورة رائعة لفعل هذه الآثار في الانطلاقة المذهلة، التي تمثلت في الفتوحات الإسلامية. ويرسم صورًا رائعة للفروسية العربية في ملحمتها الخالدة.

وهو فضلًا عن ذلك يمثل سجلًّا واقيًا، ووثيقة تاريخية أو اجتماعية، وشعورية لهذه الملحمة، تصحح الحوادث التاريخية، وتعطينا صورة لحياة الفاتحين ومشاعرهم. وبرغم قصر المدة التي تمت فيها هذه الوثبة أفلح الشعر في إعطائنا ملامح بارزة للمناطق التي افتتحها المسلمون، كما ألقى إلينا بعض الضوء على مدى التزاوج الذي بدأ يحدث بين النفوس العربية وبيئاتها الجديدة، والانعكاسات الشعورية المتولدة عن هذا الاحتكاك البكر بين العرب ومواليهم، وسجل عواطف المحاربين بعيدًا عن مواطنهم وحنينهم إليها. ويعتبر هذا الشعر -الذي هاجر في صدور المحاربين وعلى ألسنتهم إلى هذه المناطق على تفاوت في غنائه وكثرته- البذرة الأولى للشعر العربي في هذه الأمصار الجديدة، التي وسمتها بسمات أدبية معينة، فضلًا عن تصوير هذا الشعر لحياة المسلمين في الأمصار الجديدة، وما اكتنف حياتهم من جراء معيشتهم في مجتمعات إسلامية جديدة. وإذا كانت الفتوح قد مثلت أكبر هدف شغل المسلمين في فترة بعينها صورها هذا الشعر الإسلامي، فإن قيمة شعر الفتوح لا تكمن في مجرد مواكبته لحوادث الفتح فحسب، بل تمكن في تصوير حياة المسلمين جميعًا في هذه الفترة. ومن ثم يكون شعر الفتح ممثلًا لعصر صدر الإسلام تمثيلًا كاملًا. ويكتسب من هذه القيمة قيمة تاريخية واجتماعية، لعصر من العصور الأدبية، طالما مر الباحثون به مرور الكرام، ونسبوا إليه همود حركة الشعر وجمودها. ويصبح من ثَم أدق نموذج للشعر الإسلامي، والمجال الطبيعي لاستجلاء آثار الإسلام في الشعر العربي؛ لمواكبته قيمه ومثله وحياته، وتطوره مع أهدافه وغاياته بتصويره لأضخم جوانبه، وكانت النتيجة اكتسابه طوابع فنية خاصة به. وهذه الطوابع الفنية التي طبعت شعر الفتح استمدها من الإطار الفكري الإسلامي، من ظروف حركة الفتح التي صدر في خلالها، ومن التقاليد الفنية الموروثة للشعر العربي، على اختلاف في مدى هذه المصادر وفاعليتها.

فطابع الالتزام الذي طبع الشعر نتيجة لالتزامه بغايات ومبادئ يعمل في خدمتها أداة اجتماعية وفكرية طابع مستمد من الفكر الإسلامي، ومن جدية الظروف التي صدر فيها وسموها. وطابع القصر والإيجاز الذي اتسمت به قصائد شعر الفتح مستمد من ظروف القلق والاضطراب والحركة في الميادين، ومن روح الإسلام التي تكره الثرثرة والتفيقه، ومن الموروثات القديمة التي قررها الذوق العربي من قديم، في كراهة الإسهاب والإطالة، وإعجابه بالإيجاز البليغ. أما العفوية التي وسمت شعر الفتح نتيجة لظروف القتال، وتعبير المجاهدين عن أنفسهم تعبيرًا قريبًا من التنفيس الشافي لأرواحهم من مخزون الطاقات النفسية، وتطهيرها في سرعة وحرارة، ودون تعمل أو تمهل تستمد أيضًا من روح الإسلام، التي تكره التقعر والالتواء، وتتنكب التعمل وتقصد إلى السماحة والطبع والصدق.

ثمار البحث

2- ثمار البحث: ولست أزعم أني قد أتيت بجديد خارق في هذا البحث. وكل ما في الأمر أنه تأتَّى لي أن أنعم النظر في هذا الشعر فوجدته يستطيع النهوض أمام الشعر العربي الذي نعرف في كل العصور الأدبية، وأنه يمكنه أن يكون مرآة لهذه الفترة الجليلة من تاريخ الإسلام والمسلمين. إذ يستطيع أن يعين الباحثين في تاريخ الفتوح الإسلامية إعانة ملحوظة، في تصحيحه لحوادث التاريخ التي سجلها. كما يعين الباحثين في المجتمع الإسلامي في هذه الحقبة على الكشف عن النظم الاجتماعية والإدارية، والعلاقات الاجتماعية بين المسلمين، وبينهم وبين حكامهم وأمرائهم، كما يصور الانطباعات النفسية للفاتحين، وصدى هذه الأحداث على نفوسهم. ويستطيع شعر الفتح فضلًا عن ذلك أن يكشف بطريق إيجابي أو سلبي عن غزارة الإنتاج الشعري في بيئات إسلامية بعينها، وقلته في بيئات أخرى، تدفع الباحث إلى تعقب مواكب الفاتحين إلى هذه البيئات؛ ليحقق هذه الحقائق التي صار لها في دراستنا الأدبية وزن ملحوظ؛ ليصدر مثل هذه الأحكام مطمئنًا إلى صحتها، بعد التحقق من تصنيف الفاتحين في هجرتهم إلى هذه البيئات.

ويغري شعر الفتح بدراسة الشعراء الذين أسهموا في تصوير الفتوح دراسة تبين مدى تأثرهم بالمثل الإسلامية، والأحداث الخطيرة التي تعرضوا لها في ظلال الإسلام. ويستطيع الباحث بهذا وبمقارنتهم بشعراء آخرين ألهبتهم هذه الأحداث أن يتبين عمق هذه الآثار في نفوس جيل من المسلمين تعمق الإسلام، وجيل آخر من المخضرمين لم يمسه من آثار الفكرة الجديدة شيء على الإطلاق. وعلى حين انطلقت ألسنة الفاتحين المسلمين بالشعر فذكت جذوته بعد خمود، نرى الشعراء القدامى لا يستطيعون الخروج من إجفالهم، رغم ما حاولته الروايات من تشويه هذه الحقيقة، وتقوية دورهم في الفتوح، بإضافة شعرهم الجاهلي إلى شعرهم الإسلامي القليل. وبرغم هذا يستطيع الشعراء المغمورون أن يرسموا جوانب هذه الحركة بصورة لافتة، ويمثل شعرهم جميعًا تعبيرًا دقيقًا عن الحياة الإسلامية في هذه الفترة التي اتسمت بالفتوح والانتشار والحركة. وهو لا يقصر عن تصويرها أدنى تقصير، وكأنه يثبت بهذا خطأ الفكرة التي تذهب إلى أن العرب لهوا بالفتوح عن الشعر. وهو -لتصوير جوانب الحياة ومثلها وقيمها- يعتبر مرآة للعصر الإسلامي، يبتغي فيه تبين صورة الحياة الإسلامية وآثار الإسلام في النفسية العربية ويأخذ بهذه القيمة مكانه بين عصور الأدب المختلفة، كمجاز للشعر العربي من العصر الجاهلي إلى العصر الأموي، بما اكتسب من طوابع إسلامية، تطورت فيه تطورًا محدودًا، وامتد تطورها من بعد، كما هو واضح في شعر الجهاد والرثاء، وما يسمهما من طوابع إسلامية. فكأنه خلص الشعر من قيود الجاهلية، وأسلمه إلى العصر الأموي؛ ليتطور فيه تطورًا ملحوظًا، ورغم هذا فقد حقق تطورات جديرة بالتدبر، كما هو واضح في شعر رثاء الأشلاء. واكتسب موضوعات جديدة لم تعرف في الأدب العربي القديم، كشعر الحنين الذي ورث بكاء الأطلال إلى حين، وأورثه لشعر الغزل العذري فيما بعد، وكشعر المشاهد الغريبة التي سجلت في الأدب لأول مرة. كما يعتبر التطور بوزن الرجز إلى أن يكون قالبًا شعريًّا ممهدًا لما كان بعد من تحديد لهذا القالب عند الرجاز الأمويين والعناية به. وفضلًا عن تصوير هذا الشعر للطوابع الإسلامية التي انطبعت بها حياة الناس ومشاعرهم فإنه تظهر فيه آثار الاهتمامات الشعبية، وما شاع حوله من أقاصيص الفرسان الشعراء.

وفضلًا عن هذا اكتسب الشعر لنفسه طوابع فنية اتسم بها، تقربه إلى الناس، وتجعل في قراءته لذة فنية طبيعية، لا تتيسر لشعر كثير مثله. وفي هذه الخاتمة -التي أسأل الله حسنها- أرى أن هذا الموضوع يستحق أن يستكمل بحثًا في العصور الإسلامية التالية؛ ليتم تصوير الملحمة الإسلامية الكبيرة، وبالله التوفيق.

ثبت المصادر

ثبت المصادر: 1- ابن الأثير "عز الدين"، الكامل في التاريخ ليدن، 1867هـ. 2- أسد الغابة في معرفة الصحابة "جمعية المعارف بالقاهرة سنة 1286هـ". 3- ابن الأثير "ضياء الدين"، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، نهضة مصر 1959. 4- إبراهيم العدوي، الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم، مطبعة الرسالة بالقاهرة 1951. 5- أحمد أمين، ضحى الإسلام، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1959. 6- أحمد أمين، فجر الإسلام، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1959. 7- الأصفهاني "أبو الفرج"، الأغاني، ط الساسي دار الكتب، التقدم 1322هـ. 8- ابن أبي أصيبعة، طبقات الأطباء، الطبعة الذهبية 1882. 9- أوليرى، بلاد العرب قبل الإسلام، لندن 1927. 10- بتلر، فتح العرب لمصر، ترجمة: أبو حديد، لجنة التأليف والترجمة دار الكتب 1933. 11- بروكلمان تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه فارس البعليكي، دار العلم للملايين 1949. 12- البستاني، ترجمة: إلياذة هوميرزس، طبعة الهلال مصر سنة 1904. 13- البلاذري، فتوح البلدان، ليدن 1866م. 14- البغدادي "عبد القادر"، خزانة الأدب، ط بولاق 1299هـ. 15- التغربردي "أبو المحاسن"، النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة، دار الكتب 1938م. 16- الجاحظ، الحيوان، ط الحلبي.

17- ابن حجر العسقلاني 852هـ، الإصابة في تمييز الصحابة، مطبعة السعادة بمصر 1323هـ. 18- ابن حوقل، المسالك والممالك، ليدن 1873م. 19- حسن إبراهيم حسن، عمرو بن العاص، مطبعة المعارف بالقاهرة 1926. 20- حسين نصار، مصر العربية، الجمعية الأدبية 1961. 21- ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر، بولاق 1284هـ. 22- ابن خلدون، المقدمة، الطبعة الأدبية بيروت سنة 1886. 23- ابن دقماق المصري، الانتصار بواسطة عقد الأمصار، بولاق 1314هـ. 24- الدينوري "أبو حنيفة"، الأخبار الطوال، وزارة الثقافة 1960. 25- ابن رشيق القيرواني، العمدة، مطبعة السعادة 1907. 26- ابن زيني دحلان، الفتوحات الإسلامية، المطبعة الشرقية بالخرنفش 1323هـ. 27- زكي المحاسني، شعر الحرب في أدب العرب، دار الفكر العربي القاهرة 1947. 28- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ليدن 1322هـ. 29- ابن سلام، طبقات الشعراء "الفحول"، المعارف 1952م. 30- سيدة إسماعيل الكاشف، مصر في فجر الإسلام، دار الفكر العربي 1947م. 31- السيوطي "جلال الدين"، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، المطبعة الشرقية. 32- شكري فيصل، حركة الفتح الإسلامي، دار الكتاب العربي بمصر سنة 1952م. 33- شكري فيصل، المجتمعات الإسلامية، دار الكتاب العربي بمصر سنة 1952م. 34- شوقي ضيف، التطور والتجديد في الشعر الأموي، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1952م. 35- شهاب الدين الأبشيهي، المستطرف في كل فن مستظرف، طبع حسين حسني سنة 1292هـ.

36- الشهرستاني، الملل والنحل بهامش الفصل في الملل والأهواء لابن حزم، الطبعة الأدبية بمصر 1320هـ. 37- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ليدن 1893م. 38- طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف 1954. 39- طه حسين، حديث الأربعاء، دار المعارف 1954. 40- ابن عبد البر النمري القرطبي، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، حيدر آباد 1318هـ. 41- ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، توري ليدن 1920، والجزء الخاص بمصر "ماسيه" 1914. 42- عبد الرزاق حميدة، الأدب العربي في مصر، لجنة البيان العربي سنة 1951. 43- ابن عبد ربه، العقد الفريد، لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1942م. 44- ابن عساكر، التاريخ الكبير، ط روضة الشام 1329هـ. 45- العقاد، "عباس العقاد" أعلام الإسلام. 46- عمر الدسوقي، الفتوة عند العرب، مكتبة نهضة مصر سنة 1959. 47- فكا، دائرة المعارف الإسلامية، فصل "أسامة". 48- فيليب حتى، تاريخ العرب، بيروت دار الكشاف 1951م. 49- القالي "أبو علي"، ذيل الأمالي، دار الكتب 1926. 50- ابن قتيبة الشعر والشعراء، إحياء الكتب العربية سنة 1364هـ. 51- القفطي، أخبار الحكماء، طبع السعادة بمصر، تاريخ الحكماء، طبع أوربا. 52- القلقشندي، صبح الأعشى، المطبعة الأميرية 1919م. 53- الكندي، الولاة والقضاء، الكاثوليكية بيروت سنة 1908. 54- ماسينيون، خطط الكوفة، ترجمة المصعبي.

55- المبرد، الكامل، التقدم 1323هـ. 56- محمد أحمد حسونة، الجغرافيا التاريخية الإسلامية، مصر 1950م. 57- محمد حسين هيكل، حياة محمد، دار القلم 1960. 58- محمد حسين هيكل، الصديق أبو بكر، مطبعة مصر 1942م. 59- محمد حسين هيكل، الفاروق عمر، مطبعة مصر 1945م. 60- محمد كرد علي، الإسلام والحضارة العربية، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1959. 61- المسعودي 346هـ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، مطبعة الشرق الإسلامية بالقاهرة. 62- المفضل الضبي، المفضليات، الآباء اليسوعيين 1920، ودار المعارف. 63- المقريزي، المواعظ والاعتبار، بولاق 1270هـ. 64- ملن، تاريخ مصر تحت حكم الرومان، ط سنة 1913. 65- نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، إحياء الكتب العربية. 66- نولدكه أمراء غسان، ترجمة بندلي جوزي وقسطنطين زريق، بيروت 1933. 67- ابن هشام، التيجاني في ملوك حمير السيرة، ط حيدر آباد. 68- ابن هشام، السيرة، ط مصطفى الحلبي 1329هـ. 69- الواقدي، فتوح الشام، مصر 1302هـ. 70- ياقوت الحموي "شهاب الدين"، معجم البلدان، ليبزج 1866م. 71- ديوان الهذليين، دار الكتب المصرية. 72- يوليوس قلهوزن، الدولة العربية وسقوطها، ترجمة: دكتور يوسف العشي، مطبعة الجامعة السورية، دمشق سنة 1956.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: الصفحة الموضوع 5 تقديم الدكتور شوقي ضيف 19مقدمة 19 تمهيد 25 الباب الأول: الشعر الإسلامي في الفتوح 27 الفصل الأول: الفتوح في صدر الإسلام 27 1- دواعي الفتوح "الجهاد" 38 2- فتوح الشرق 68 3- فتوح الشام 87 4- فتوح مصر وإفريقية 105 الفصل الثاني: الشعر في الفتوح الشرقية 105 1- كثرة الشعر على ألسنة الفاتحين 112 2- الشعر في العراق 125 3- الشعر على طول الدروب إلى خراسان 131 الفصل الثالث: في فتوح الشام ومصر وإفريقية 131 1- قلة الشعر على ألسنة الفاتحين 136 2- الشعر في الشام 145 3- الشعر في مصر وإفريقية 153 الباب الثاني: شعراء الفتوح 155 الفصل الأول: شعراء متنوعون 155 1- الفتوح تذكى جذوة الشعر العربي 162 2- شعراء قدماء 174 3- شعراء أنطقتهم الفتوح 179 الفصل الثاني: عمرو بن معديكرب الزبيدي 179 1- حياته وإسلامه وخروجه للجهاد

الصفحة الموضوع 190 2- شعره في الجاهلية 198 3- شعره في الفتوح 201 الفصل الثالث: القعقاع بن عمرو التميمي 201 1- حياته وخروجه للجهاد 203 2- القعقاع فارس الفتوح 209 3- القعقاع شاعر الفتوح 217 الباب الثالث: مقومات شعر الفتوح وطوابعه 219 الفصل الأول: شعر الفتوح.. أنواعه وموضوعاته 219 1- قصيد ورجز 222 2- موضوعات قديمة متطورة 235 3- موضوعات جديدة 249 الفصل الثاني: الطوابع الإسلامية في شعر الفتوح 249 1- صدور الشعر عن روح الإسلام 257 2- أحاسيس ومشاعر دينية 266 3- معاني إسلامية خالصة 269 الفصل الثالث: الطوابع الشعبية 269 1- أحاديث البطولة بين الواقع والأسطورة 271 2- قصص الفرسان في الفتوح 274 3- أشعار كثيرة مجهولة القائل 281 الفصل الرابع: الطوابع الفنية في شعر الفتوح 281 1- الأثر الإسلامي في الصياغة 285 2- القصر والإيجاز 286 3- العفوية والبساطة 289 خاتمة 289 1- خلاصة البحث 304 2- ثمار البحث 311 محتويات الكتاب

§1/1